فاطمة المعصومة (سلام الله علیها) قبس من اشعة الزهراء (سلام الله علیها) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فاطمة المعصومة (سلام الله علیها) قبس من اشعة الزهراء (سلام الله علیها) - نسخه متنی

محمد علی المعلم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فهرس المطالب

المقدمة

الشجرة الطيبة

السلالة الموسوية

أسباب انتشار السادة الموسويين

السيدة تكتم

أمهات أكثر الأئمة من الجواري.. لماذا؟

تنبيه

تعدد الأسماء

ولادة السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام

أسماء وألقاب

العلويون في قم

في رحاب العلم والمعرفة

المكانة الاجتماعية والشأن الرفيع

لماذا لم تتزوج السيدة المعصومة عليها السلام

المآسي والآلام

لوعة الوداع

إلى الرضا (عليه السلام)

في قم

أفول الشمس وبزوغها

تاريخ الوفاة

الحرم الشريف

مفاخر القميين

الزيارة

نصّ الزيارة

خصائص الزّيارة وبعض مميّزاتها

إيقاظ

كرامات السيدة المعصومة عليها السلام

السيدة المعصومة عليها السلام في ضمائر الشعراء

عشّ آل محمد

النماذج الخيّرة في العلم والعمل

قم وأهلها في روايات أهل البيت

مسجد جمكران

نهاية المطاف































بسم الله الرحمن الرحيم







(يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإن لك عند الله شأناً من الشأن)















الإمام الصادق (عليه السلام):







(.. ألا إن حرمي وحرم ولدي بعدي قم، إلا إن قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنّة ثمانية بواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي، واسمها فاطمة بنت موسى، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنّة بأجمعهم). بحار الأنوار: ج60، ص228







الإمام الرضا (عليه السلام): (.. من زارها فله الجنّة). عيون أخبار الرضا: ج2، ص267







الإمام الجواد (عليه السلام): (من زار قبر عمّتي بقم فله الجنّة). كامل الزيارات، ص536















بسم الله الرحمن الرحيم







المقدمة







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين.







وبعد: فهذه صفحات تشرّفت بكتابتها حول ثمرة من ثمرات دوحة النبوة، وغصن من أغصان شجرة الإمامة، وتناولت فهيا بعض الجوانب المشرقة من حياة سيدة جليلة من سيدات البيت العلوي الطاهر، وهي كريمة أهل البيت فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، والتي تعدّ ـ بحق باباً من أبواب الرحمة، ولا يزال حرمها الشريف مؤئلاً وملاذاً.







وكان الباعث على هذا الأمر هو ما حدّثني به الصّديق الوفي والرجل الصالح الحاج عبد الله صالح المدن حفظه الله ـ من أهل قريتنا المعروفة باسم (الجورديّة) إحدى قرى القطيف ـ أنّه رآني ـ في عالم الرّؤيا ـ أكتب كتاباً يتناول حياة هذه السيدة الجليلة، فأحدث حديثه في نفسي الرّغبة لتحقيق هذه الرؤيا العزيزة.







والذي أكّد هذه الرّغبة أنني لا زلت أتفيّأ ظلال حرمها الشريف، وأعيش وأتلقى العلم في حماها وحوزتها، ولا زالت ألطافها الجليّة والخفيّة تحوطني وترعاني.







وقد أقدمت على الكتابة أداءً لبعض حقّها عليّ، وتصديقاً لرؤيا صاحبي العزيز الذي إليه يعود الفضل في تنبيهي لذلك.







وأرجو أن يحالفني التوفيق في التعريف بسيّدة عش آل محمد (عليهم السلام) ومنه تعالى ببركاتها استمد العون والتسديد.







والحمد لله رب العالمين







محمد علي المعلم







قم المقدسة







الثلاثاء 4 محرم الحرام 1420هـ















بسم الله الرحمن الرحيم







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الغرّ الميامين.















الشجرة الطيبة:







يقول الحق تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)(1).







تلك هي شجرة النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة ومهبط الوحي، إنّها شجرة أصلها المصطفى، وفرعها المرتضى، وغصنها الزهراء، وثمرها الأئمة النجباء.







روى علي بن إبراهيم القمي بسنده عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: (مثل كلمة طيّبة الآية) قال: الشجرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ونسبه ثابت في بني هاشم، وفرع الشجرة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وغصن الشجرة فاطمة (عليها وعلى الأئمة من أولادها السلام)، وثمرتها الأئمة من ولد علي وفاطمة (عليهم السلام)، وشيعتهم ورقها..(2)







وروى الصدوق بسنده عن جابر الجعفي، قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) قال: أما الشجرة فرسول الله، وفرعها علي، وغصن الشجرة فاطمة بنت رسول الله، وثمرها أولادها، وورقها شيعتنا..(3)







وروى الكليني بسنده عن عمرو بن حريث، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) قال: فقال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أصلها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) فرعها، والأئمة من ذريتهما أغصانها، وعلم الأئمة ثمرتها، وشيعتنهم المؤمنون ورقها..(4)







إلى غير ذلك من النصوص(5) الدالة على أن هذه الشجرة مباركة، قد ثبت أصلها، وامتدّ فرعها، وأينع ثمرها، وآتت أكلها كلّ حين بإذن ربها. لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يقترن النبي (صلّى الله عليه وآله) بكثير من النساء، وكان بعض دواعي وأسباب هذا الاقتران خفيّاً، وبعضها جلياً ولكن أراد الله لحبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) أن ينحدر نسله الطيّب، وتنحصر سلالته الطاهرة في بضعته الزهراء (عليها السلام)، حيث اقترن نورها بنور ابن عمّه علي (عليه السلام)، فكانت الذرّية الطيّبة والنّسل الطاهر، وأئمة الدين، وحملة الشرع، وحفظة الكتاب، وسادات الأنام، وهو النسل الذي لا ينقطع كما أخبر النبي (صلّى الله عليه وآله) عن ذلك، فقد روى الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: كلّ نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي.(6)















السلالة الموسوية







لما كانت سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) واسطة العقد بين شمس النبوة وقمر الإمامة انحدر من نسلها الطاهر أحد عشر كوكباً، يمثّلون ولاية الله في أرضه، وخلافة رسول الله على العباد، وأئمة الهدى في الدين (الذين انتجبهم الله لنوره (بنوره)، وأيّدهم بروحه، ورضيهم خلفاء في أرضه، حججاً على بريّته، وأنصاراً لدينه، وحفظة لسرّه، وخزنة لعلمه، ومستودعاً لحكمته، وتراجمة لوحيه، وأركاناً لتوحيده، وشهداء على خلقه، وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلاّء على صراطه، (إذ) عصمهم الله من الزّلل، وآمنهم من الفتن، وطهّرهم من الدّنس، وأذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيراً(7).







وإلى هؤلاء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ينتمي الشيعة الإمامية في العقدية والفقه والأخلاق، واليهم ينتسبون، وبهم يعرفون، وأصبح اسم الاثني عشرية علماً عليهم.







وإنما اعتقد الشيعة الإمامية بإمامة هؤلاء لأنهم أحد الثقلين، وأعدال الكتاب، بل هم حقيقة الكتاب ووجوده العيني(8)، وورّاث علم الرسول (صلّى الله عليه وآله).







وقد قامت الأدلّة العامة والخاصّة على وجوب الاعتقاد بإمامتهم، وضرورة الالتزام بأوامرهم ونواهيهم، والسير على خطاهم، وتفصيل ذلك في الكتب الكلامية التي وضعها علماء الشيعة الإمامية، وتناولوا فيها مسألة الإمامة بأدق تفاصيلها، ومختلف أبعادها وما يترتب عليها من اللوازم.







ويأتي ـ بحسب تسلسل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ليكون سابع أئمة الهدى (عليهم السلام) من حيث الترتيب في تولّي منصب الإمامة الخطير.







وقد حفلت حياة هذا الإمام العظيم بما يقصر البيان عن وصفه، فإنّه أحد أئمة الحق والهدى، وهو خير أهل الأرض، وأجلّهم قدراً، وأرفعهم مقاماً، وهو المنصوص عليه بالإمامة من بعد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يعتبر ـ تأريخياً ـ واضع حجر الأساس لمعالم الفكر الإمامي على الصعيدين الاعتقادي والفقهي.







وإنما قلنا إن الإمام الصادق (عليه السلام) هو واضع حجر الأساس لمعالم الفكر الإمامي وقيّدناه بالناحية التاريخية لأنّ عهده (عليه السلام) هو العهد الذي نشأت فيه فكرة المذاهب الفقهيّة المختلفة، وإلا فإن الفكر الإمامي ـ بعقيدته وفقهه وأخلاقه ـ يقترن باسم أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم نصّ عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) بالإمامة، وبايعه المسلمون قاطبة في غدير خم، في الحادثة المشهورة التي خلّدها القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ..)(9).







ولم تكن مسألة الإمامة شيئاً آخر منفصلاً عن تعاليم النبي (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به، ولكنّ الأحداث التي أعقبت وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) ألقت الستار على هذه القضية ولم تكن الظروف آنئذ لتساعد على إظهارها، وكانت نظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) تقتضي بالتزام الصمت برهة من الزمن ليتأكد للناس أنهم أخطأوا الطريق حيث عدلوا عنه إلى غيره، ولذا لم يكن صمت أبي الحسن (عليه السلام) إعراضاً وانصرافاً، بل كان صمت الحكيم البصير العالم بحقائق الأمور وقد كان (عليه السلام) على يقين مما ستؤول إليه الأمور.







حتى إذا ألقى الزمام بيده سعى في أن يعيد الأمة إلى رشدها وينبههم على فداحة الخطأ الذي ارتكبوه، والآثار السيئة التي نجمت عن ذلك، لم يفته أن يبيّن لهم أن قيامه بالمهمة لم يكن طمعاً في حطام، أو رغبة في سلطان، وإنّما من أجل تحقيق أراد الله والرسول، وإحقاق الحق وإزهاق الباطل.







وقد كانت المهمة صعبة جداً، إلى حد اضطرّته للدخول مع مناوئيه في صراعات دمويّة في حروب ثلاث طاحنة، أعاقته كثيراً عن أداء مهمته كما يريد هو ويريد الله ورسوله، ذلك لأنّ الذين ترعرعوا في العهود السابقة ورسخت جذورهم فيها واستطالت فروعهم واستمروا الحياة الناعمة المترفة، لم يرق لهم المنهج الجديد الذي وضعه أبو الحسن (عليه السلام) حيث يجعلهم فيه متساوين مع سائر الناس، ويحملهم فيه على المحجّة البيضاء، وأن قيمهم ـ في نظر الحق ـ هي مقدار ما يحسنون، ولم يكن منهج علي (عليه السلام) جديداً بقدر ما هو إعادة إلى عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) وسيرته مع الناس، ولكن حبّ الدنيا والطمع في حطامها أدّى بأولئك الذين كانوا ينادون بعلي ويهتفون باسمه، إلى التنكّر له ومحاربته، وقد أخطأوا التقدير لأنّهم ظنّوا أن علياً (عليه السلام) سيبقي لهم امتيازاتهم التي ظفروا بها في العهود السابقة، ولكنّهم فوجئوا بأنه لا يداهن على حساب الدين وحقوق الناس، ولن يتنازل عن مبادئه مهما آلت إليه الأمور (ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق)(10) وهو على منهاج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كل أحواله.







وقد كان (عليه السلام) على التفات إلى هذا الأمر، فإنّهم لما طلبوا أن يبايعوه بالخلافة أجابهم بقوله: دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم منّي أميراً(11).







وما ذلك إلا لعلمه بواقع الحال ومآله.







هذا عدا الفئات الأخرى التي كانت تعيش الانحراف الذاتي وتشكّل خطاً موازياً لخط علي (عليه السلام) وأهل بيته في خلاف تاريخي عميق الجذور.







وهكذا توالت الأحداث مريرة مؤلمة، ومن خلالها كان تحديد معالم الخط الذي سار عليه أهل البيت (عليهم السلام)، يتوارثه الأبناء عن الآباء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا يمثّلون الحق والهدى والصلاح.







حتى إذا كان زمان الإمام الصادق (عليه السلام) برزت الفوارق واضحة، وساعد على ذلك الهدوء النسبي في سلسلة المعاناة، واستطاع الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الظروف أن يرفد الفكر الإمامي بشيء من علمه، ويغدق عليه من عطائه، ولا سيّما أنه برزت على الساحة الإسلامية الأفكار والآراء المختلفة، فتصدّى الإمام الصادق (عليه السلام) إليها ردّاً أو تصحيحاً فتحدّدت معالم المنهج الذي أتّبعه أهل البيت (عليهم السلام) بشكل واضح، الأمر الذي أدى إلى نسبة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إليه.







ولكن ما إن استقرّت الأوضاع السياسية إثر التحوّل الإداري الأموي إلى العباسي حتى عادت المعاناة بأبشع صورها وشتّى أشكالها، وجاء بنو العباس ليكملوا ما بدأه الأمويون من مسلسل الإبادة لأهل البيت (عليهم السلام) بالأساليب المختلفة.







ويحدثنا التاريخ بفواجع الخطوب وفوادح المآسي التي لقيها أهل البيت (عليهم السلام) ـ على أيدي بني عمّهم من حملات الإبادة المسعورة ـ وكلّ من ينتمي إليهم بسبب.







وفي هذه الظروف العصيبة عاش الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، وشاهد ما كان يعانيه أبوه وشيعته من المآسي والآلام، ولسنا في مقام التاريخ لهذه الفترة، وإلا لأسمعناك ما ينصدع به الصّخر وتنشقّ الأرض وتخرّ له الجبال، وحسبنا هذا الإجمال، وإن شئت التفصيل فعليك بالدراسات التي تناولت حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وسنشير إلى بعض الروايات التي أرّخت تلك الفترة الحرجة.







أقول: ينتمي السادة الموسويون إلى جدهم الأكبر موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وهم أكثر السادة انتشاراً في الأرض، وإنما عبّر عنهم بالسيادة لانتهاء سلسلة أنسابهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سيد ولد آدم، والى الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ينتهي نسب السادة النقويين، وهم العلويون الذين ينحدرون من سلالة الإمام علي الهادي (عليه السلام)، وهكذا الرضويون، وهم الذين ينحدرون من سلالة الإمام الرضا (عليه السلام)، كما ينتهي نسب السادة الحسينيون إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، وأما السادة الحسنيّون فهم الذين ينتهي نسبهم إلى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ولكن اصطلح علماء النسب على النسبة إلى الإمام المعصوم الذي هو الأصل بالنسبة لأبنائه وأحفاده ومن ينحدر عنهم، فيقال السادة النقويّون لانتهاء نسبهم إلى الإمام علي النقي (عليه السلام) والموسويون لانتهائه إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، والحسينيّون لانتهائه إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، والحسنيّون لانتهائه إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، وإلا فالنسب كلّه بفروعه وبطونه ينتهي إلى الإمام علي (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) حيث أنّهما مبدأ الذريّة الطيبة.















أسباب انتشار السادة الموسويين







ويمكن إرجاع الأسباب التي أدّت إلى انتشار السادة الموسويين في أطراف الأرض إلى عاملين رئيسين:







الأول: إن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) كان أكثر الأئمة أولاداً، فقد ذكر بعض علماء الأنساب أنه (عليه السلام) قد أنجب ستين ولداً بين ذكر وأنثى(12)، واتفقوا على أن عشرة من أولاده الذكور قد أعقبوا، وقيل إن الإمام موسى (عليه السلام) أعقب من ثلاثة عشر رجلاً، أربعة منهم مكثرون، وهم: علي الرضا (عليه السلام)، وإبراهيم المرتضى، ومحمد العابد، وجعفر وأربعة منهم متوسطون، وهم: زيد النار، وعبد الله، وعبيد الله، وحمزة، وخمسة مقلّون، وهم: العباس، وهارون، وإسحاق، والحسين، والحسن(13). وذكر آخرون غير هؤلاء ممن أعقب من أولاده (عليهم السلام).







ولعلّ الغاية من وراء الإكثار من النسل عند أهل البيت (عليهم السلام) ـ عدا رجحانه في نفسه ـ هي الحفاظ على استمرار بقاء هذا الوجود الطيّب لذريّة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وخصوصاً مع العلم بما انطوت عليه نوايا خصومهم من السعي في القضاء عليهم والتخلّص منهم على ما سيقف عليه القارئ العزيز.







هذا، وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد أن لكل واحد من ولد أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضلاً ومنقبة مشهورة(14)، ومثله ذكر الطبرسي في إعلام الورى.(15)







وقد ذكروا في بعض أحوال أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنّهم كانوا من أهل العلم والحديث والفضل والصلاح، فإنّ إسماعيل بن موسى هو الذي ولاّه أبوه على الوقف، وروي أن الإمام الجواد (عليه السلام) أمره بالصّلاة على جنازة صفوان، وله كتب كثيرة يرويها عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)(16)، وأن محمد بن موسى كان صاحب وضوء وصلاة، وكان ليلة كلّه يتوضأ ويصلّي، فيسمع سكب الماء، ثم يصلّي ليلاً ثم يهدي ساعة، فيرقد ويقوم فيسمع سكب الماء والوضوء، ثم يصلّي ليلاً، فلا يزال كذلك حتى يصبح. وقال بعضهم: وما رأيته قطّ إلا وذكرت قول الله تعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)(17).







وغيرهما ممن وصف بالفضل والصلاح والشجاعة.







وقد تنقّل أبناء الإمام (عليه السلام) في مختلف البقاع، فقطن بعضهم في مصر، وبعضهم في العراق، وآخرون في إيران، ومنهم انتشرت ذريّة موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ولا زالت هذه الشجرة الطيبة تؤتي أكلها بإذن ربّها، فقد ضمّت هذه السلالة الشريفة على مر تاريخها المعطاء الأفذاذ من الرجال الذين صنعوا التاريخ، وكانوا غرراً في جبين الدهر يفتخر بهم الزمان، ونبغ منها رجال حملوا العلم والمعرفة والأخلاق والسيادة، وقد حفلت بذكرهم كتب الرجال والتراجم.







الثاني: ـ وهو الأهم ـ الظروف العصيبة التي أحاطت بالإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فإنه بعد أن استقرّ الحكم العباسي وتربّع المنصور الدوانيقي على دست الحكم بدأ المسلسل الدرامي في ضراوة بلغت حدّاً عاش فيه أهل البيت (عليهم السلام) الرّعب بأبشع صوره، وشمّر المنصور عن ساعديه لإبادة بني عمّه بشتى الأشكال، ووصفه الباحثون بأنه تتبعهم وراء كل حجر ومدر، حتى إذا استشهد الإمام الصادق (عليه السلام) مسموماً بإيعاز من المنصور اضطرب أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم اضطراباً شديداً، كما يحدّثنا بذلك من أرّخ تلك الفترة، حتى كادت معالم التشييع أن تنطمس لولا ظهور الإمام موسى (عليه السلام) في الوقت المناسب مع حراجة الظروف وخطورتها.







ويصوّر لنا الشيخ القرشي تلك الظروف في عرضه الرواية التي تضمّنت كيفية رجوع الشيعة إلى الإمام (عليه السلام)، فيقول: وحدّث هشام بن سالم أحد عيون الشيعة ووجوهها عن كيفية رجوعه ورجوع إخوانه إلى الإمام بعد وفاة أبيه، يقولك كنت بالمدينة مع محمد بن النعمان صاحب الطاق حين وفاة الإمام أبي عبد الله، وقد اجتمع الناس على عبد الله بن جعفر ظانّين أنّه صاحب الأمر والقائم بعد أبيه، فدخلت عليه مع أصحابي، ولمّا استقرّ بنا المجلس، وجّهنا له السؤال الآتي: كم تجب الزّكاة في المائتين من الدّراهم؟







ـ خمسة دراهم.







ـ ففي المائة؟







ـ درهمان ونصف.







وتعجّبوا من هذه الفتوى التي لا تمتّ إلى الشريعة الإسلامية بصلة، فإن النصاب الأول في نصاب الدراهم مائتان، وما نقص عنها فليس عليه شيء، وطفق هشام يقول مستهزئً بهذه الفتوى التي لا مدرك لها:







والله ما تقول المرجئة هذا







والله ما أدري ما تقول المرجئة؟







وخرج هشام ومحمد من عنده وهما لا يبصران الطريق من الألم والحزن لعدم ظفرهما بالإمام القائم بعد أبي عبد الله، وجعل هشام يقول:







إلى المرجئة، إلى القدريّة، إلى المعتزلة، إلى الزيديّة، إلى الخوارج؟







وبينما كان هشام ومحمد هائمين في تيّار من الهواجس والأفكار لا يعلمان أي مبدأ يعتنقانه إذ أطلّ عليهما شيخ، فأومأ إلى هشام يشير إليه باتّباعه، فتوهّم هشام أنّه من عيون المنصور وجواسيسه قد فهم حديثهما، فالتفت إلى صاحبه وقد استولى عليه الذعر والارتباك وأمره بالبعد عنه ليكون وحده الذي ينال العقوبة والجزاء، فتبع الشيخ حتى أورده على الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فلمّا دخل سكن روعه، فلمّا استقرّ به المجلس التفت إليه الإمام قائلاً بنبرات تفيض لطفاً وحناناً: إليّ لا إلى المرجئة، ولا إلى القدريّة، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الزيديّة.. ففرح هشام لأنّه ظفر ببغيته حيث أخبره الإمام بما انطوت عليه نفسه، وتلك من أمارة الإمامة وعلائمها، ووجه له هشام السؤال الآتي:







ـ جعلت فداك مضى أبوك؟







ـ نعم.







ـ مضى موتاً؟







ـ نعم.







ـ من لنا بعده؟







ـ إن شاء الله أن يهديك هداك.







ـ جعلت فداك إن عبد الله أخاك يزعم أنّه الإمام بعد أبيه.







ـ عبد الله يريد أن لا يعبد الله.







ـ من لنا بعده؟







فأجابه مثل جوابه الأول وطفق هشام يقول:







ـ أفأنت هو؟







ـ لا أقول ذلك.







وأخطأ هشام في حديثه، والتفت إلى خطله فقال:







ـ عليك إمام؟







ـ لا.







فداخله من الإكبار والإجلال ما لا يعلم به إلا الله، ثم قال له:







ـ جعلت فداك، أسألك عمّا كنت أسأل به أباك؟







ـ سل ولا تذع، فإن أذعت فهو الذّبح.







ثم وجّه إليه أسئلة كثيرة، فإذا به بحر لا ينزف لكثرة علمه وفضله، وانبرى بعد معرفته ووثوقه بإمامته قائلاً:







ـ جعلت فداك شيعة أبيك في ضلال، فألقي إليهم هذا الأمر وأدعوهم إليك فقد أخذت علي الكتمان؟







ـ من أنست به رشداً فألق إليه وخذ عليه الكتمان، فإن أذاع فهو الذبح ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ.







ثم خرج وهو ناعم الفكر مسرور القلب بما ظفر به، فبادر إليه صاحبه قائلاً:







ـ ما وراءك؟







ـ الهدى.







ثم حدثه بالأمر.. وأقبلت جماهير الشيعة تترى أفواجاً نحو الإمام وهي تعقد له الولاء والطاعة وتعترف بإمامته.







وتلا المنصور ابنه المهدي على دست الحكم، وقد ذكر الباحثون أنه ورث من أبيه المنصور العداء للعلويين وشيعتهم، فقد أترعت نفسه بالبغضاء والكراهية لهم، وكان يغري الشعراء ويغدق عليهم من أجل هجاء أهل البيت (عليهم السلام)، والحط من شأنهم، والتقليل من أهميتهم، وذكروا عنه أنه أرعب الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) حيث أمر باعتقاله وإرساله من المدينة إلى بغداد، وكاد أن يقتله لولا أن العناية الإلهية حفظت الإمام (عليه السلام) من بطشه.







حتى إذا جاء عهد موسى الهادي ابتدأت سلسلة أخرى من المآسي، لقي منها أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم الأمرّين، وعلى الرغم من أن عهده كان قصيراً كعمره، إلا أنه كان ثقيلاً مجهداً واجه فيه أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم أعنف الرزايا وأكثرها محنة وصعوبة، فسفكت دماؤهم وانتهكت حرماتهم وهدرت كرامتهم، بما لا مجال لوصفه وبيانه.







وقد ذكر المؤرخون أن في يعهد موسى الهادي حدثت واقعة فخ التي ضارعت حادثة الطف في كيفيتها وأسماء أشخاصها، وبعض آثارها، وما جرى فيها.







وأمّا عهد الرشيد فكان أسوأ عهد مرّ على العلويين والشيعة، فقد قابلهم منذ بداية حكمه بكل قسوة وجفاء، وصبّ عليهم جام غضبه، وأقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنّهم ـ أي العلويين ـ ولأقتلنّ شيعتهم(18).







وأمعن الرشيد في التنكيل بالعلويين وشيعتهم، وذكرت المصادر أنه كان يتتبعهم بشتّى الوسائل، ويحتال لقتلهم بمختلف الطرق، وكان يرى أن بقاء ملكه وسلطانه لا يستقرّ إلا بإبادتهم.







لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم في القرى والأرياف متنكّرين لئلا يعرفهم أحد، قد أحاط بهم الرعب والفزع، واستولى عليهم الخوف والإرهاب، وكان في طليعة من لقي العناء من أهل البيت (عليهم السلام) الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فرض الرشيد عليه رقابة صارمة، ترصد عليه تحرّكاته وسكناته، حتى ثقل عليه وضاق به ذرعاً، فغيّبه في سجون البصرة وبغداد، ينقل من سجن إلى آخر، وكان آخرها سجن السندي بن شاهك حيث قضى الإمام (عليه السلام) مسموماً(19).







وقد تمخّض عن ذلك تفرّق سلالة الإمام الكاظم (عليه السلام) وانتشارهم في مختلف البقاع، ولم يكن هذا الأمر خاصًّ بأولاد الإمام (عليه السلام)، بل كان عاماً لجميع العلويين وشيعتهم، نعم كان أبناؤه (عليه السلام) من أكثرهم محنة وأشدّهم ابتلاءً.







وكان من آثار ذلك أن ذهب بعضهم في طيّ النسيان، فلم يعرف له عقب أو مكان، إذ كان بعضهم يخفي نسبه خشية أن يفاجأ بما يودي بحياته، كما كان من نتائج ذلك أيضاً بروز ظاهرة التقيّة التي فرضت على أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم فرضاً لم يجدوا مناصاً عنها، طلباً للنجاة، وبحثاً عن الأمن والأمان.







وقد انعكست مسألة التقية على جميع مظاهر سلوكه في عباداتهم ومعاملاتهم، ونشأ من ذلك ما يمكن أن يعبّر عنه بالفقه الوقائي الذي يعني بهذه الحالة عند تحقق موضوعها كما بيّنها الفقهاء، واستندوا في ذلك إلى ما رسمته الأئمة (عليهم السلام) الذي عانوا من تلك الظروف القاسية التي مرّت بهم مستثنين منها بعض الموارد حيث تكون المواجهة هي الحلّ، وقد حدّدها الفقهاء وضبطوها في دراساتهم الفقهية.







على أن موضوع التقية لا ينحصر بالشيعة الإمامية وحدهم، بل هو أمر يعود إلى تأمين الحماية والوقاية من الوقوع في الخطر الذي يتهدّد الحياة. وبعبارة أخرى: إن مسألة التقية قضيّة فطرية تستوجب درء المخاوف عن النفس، وفق ضوابط محدّدة مدروسة، مع الاحتفاظ بالثوابت وصيانتها، وليست هي انسلاخاً عن المبدأ وإلغاءً للمعتقد، وهي عمليّة مؤقتة تعالج ظرفاً طارئاً ليعود الإنسان بعدها إلى طبيعته الأولى التي كان عليها في سلوكه.







ومن خلال ذلك يمكننا أن ندرك أنّ ما يقوم به خصوم الشيعة من الحملات والتشنيق عليهم في أمر التقيّة ما هو إلا استغلال لظروف الشيعة الصعبة والتشهير بمحنتهم، وإلا فلو أن هؤلاء عانوا بعض ما عاناه الشيعة لحملوا لواء التقية عالياً، وما يدرينا لعلّهم يتّقون في بعض أعمالهم من حيث لا نشعر بأنهم يتّقون.















السيدة تُكْتَم







عرفنا مما مرّ أن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ـ والد السيدة المعصومة ـ هو أحد الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) وإليه تنتمي السلالة الموسوية، ولابدّ لنا من التعرف على أم السيدة المعصومة لنتمكّن من الخروج بصورة واضحة عن الجو الذي عاشت فيه هذه السيدة الجليلة، والبيت الذي تلقّى فيه تربيتها فإن للأب والأم دورهما الكبير الفعّال في سلوك الوليد ونشأته وانعكاس أخلاق الأبوين عليه.







وقد ذكر المؤرخون وعلماء الأنساب أن أم السيدة المعصومة هي تكتم، وتسمّى نجمة، وأروى، وسمانة، وأم البنين، وخيزران، وصقر، وشقراء، والطاهرة، ولنا حديث حول تعدّد الأسماء سيأتي.







وهي وإن كانت جارية أم ولد إلا أن لها من الفضل والجلال والعفّة والعبادة ما فاقت به نساء زمانها فكانت بذلك قرينة لإمام معصوم، وأمّاً لإمام معصوم، وسنشير إلى بعض خصائصها ومميّزاتها فيما سيأتي.















أمهات أكثر الأئمة (عليهم السلام) من الجواري.. لماذا؟







والذي نريد أن نتناوله بالبحث هنا ظاهرة الجواري وأمّهات الأولاد، فإن مما يدعو إلى الالتفات ويثير التساؤل هو أن أكثر أمهات الأئمة جوارٍ من غير العرب، فأمّ كلّ من السجّاد والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والحجة (عليهم السلام) أمهات أولاد، وقعن في الأسر، واقترن بهنّ الأئمة (عليهم السلام)، مع أنّه لا يغيب عن بالنا ما يجري في سوق العبيد والجواري، مضافاً إلى أن مسألة الإمامة ليست من المسائل العادية، فإنّها تستوجب الحيطة والحذر في كل ما يرتبط بولادة الإمام المعصوم وتربيته ونشأته، وكما أن الأب ينبغي أن يكون في أعلى درجات الكمال الممكن، فكذلك الأم وعلى ذلك قامت الأدلّة.







وهذا البحث جدير بالعناية والدراسة، وإنّما نذكره هنا لصلته القوية بما نحن فيه، وذلك لما أشرنا إليه من أن السيدة المعصومة شقيقة الإمام الرضا (عليه السلام) فأمّهما واحدة وهي السيدة تكتم.







والسؤال الذي يواجهنا هو ما هو السر في اختيار الأئمة (عليهم السلام) للجواري من دون الحرائر العربيّات من البيوتات الرفيعة ذات المنزلة الاجتماعية؟ ولماذا يقترن الأئمة (عليهم السلام) بالجواري ليلدن لهم أفضل الأولاد والبنات؟







وللإجابة عن ذلك لابد أن نسلّط الأضواء على بعض المفاهيم العامّة والركائز الأساسية ذات الصلة بما نحن فيه لنخرج من خلالها بما يرفع الغموض والإبهام عن هذه المسألة.







والذي يظهر من خلال دراسة بعض المفاهيم العامّة والقواعد الأساسية أن وراء اختيار الأئمة (عليهم السلام) الجواري أسباباً أهمّها ثلاثة.







الأوّل: إن ممّا لا شك فيه أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ كما نعتقد وعليه قامت الأدلة ـ قد أوتوا العلم بحقائق الأمور والأشياء ومعرفة مداخلها ومخارجها، ومنها العلم بأحوال الناس وخصوصياتهم، وقد ورثوا ذلك عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو أطلعهم الله تعالى عليه لنفوذ بصائرهم، وصفاء نفوسهم وطهارة ذواتهم، ولمّا كان الأمر يتعلق بالإمامة ومنصب الولاية فلابد من اختيار الوعاء الطاهر، والأصل الزاكي، والحجر العفيف الذي سيكون حاملاً وحاضناً لوليّ الله، وخليفته على العباد، والحجة على الخلق، ويعدّ ذلك من المسلمات البديهية في عقيدة الشيعة الإمامية، وإنّما وقع اختيار الأئمة (عليهم السلام) على هؤلاء الجواري من دون سائر النساء لعلمهم (عليهم السلام) بأنهنّ قد جمعن شرائط الاقتران بالمعصوم (عليه السلام) وصلاحيتهنّ للأمومة التي ستنجب الإمام المعصوم إذ كما يشترط أن يكون الآباء طاهرين مطهّرين فكذلك الحال بالنسبة للأمهات.







وغنيّ عن البيان مدى تأثير الأم على ولدها، فإن لعامل الوراثة مدخلاً كبيراً في التكوين الخلقي المنعكس على الولد من قبل أبويه، كما نصت عليه روايات أهل البيت (عليهم السلام) وأيّدته البحوث العلميّة التي عنيت بهذا الجانب في حياة الإنسان.







ومما يؤيد هذا الوجه أن الإمام (عليه السلام) قد يختار واحدة بعينها من دون سار الجواري اللاتي عرضن للبيع، وقد تكون غير صالحة ـ بحسب المعايير الماديّة ـ للبيع والشراء إلا أن الإمام (عليه السلام) لا يختار غيرها، بل تذكر المصادر أن هذه الجارية ـ مثلاً ـ قد تمتنع عن الاستسلام لأي مشتر يتقدم لشرائها حتى يكون الذي يشتريها هو الإمام (عليه السلام)، مع أنها في ظروف لا تملك من أمرها شيئاً، الأمر الذي يؤكّد على أن هناك تخطيطاً إلهياً متقناً لأن تكون هذه المرأة قرينة للإمام (عليه السلام) وقد أعدّها الله تعالى لتصبح أمّاً للمعصوم (عليه السلام).







روى الصدوق بسنده عن هشام بن أحمد، قال: قال أبو الحسن الأول (عليه السلام): هل علمت أحداً من أهل المغرب قدم؟ قلت: لا.







فقال (عليه السلام):







بلى، قد قدم رجل أحمر، فانطلق بنا، فركب وركبنا معه حتى انتهينا إلى الرجل، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق، فقال له: أعرض علينا، فعرض علينا تسع جوار كلّ ذلك يقول أبو الحسن (عليه السلام): لا حاجة لي فيها، ثم قال له: اعرض علينا، قال: ما عندي شيء. فقال له: بلى اعرض علينا. قال: لا والله، ما عندي إلا جارية مريضة. فقال له: ما عليك أن تعرضها. فأبى عليه. ثم انصرف (عليه السلام). ثم أرسلني من الغد إليه. فقال لي: قل له كم غايتك فيها؟ فإذا قال: كذا وكذا فقل: قد أخذتها، فأتيته. فقال: ما أريد أن أنقصها من كذا. فقلت: قد أخذتها وهو لك. فقال: هي لك. ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس؟ فقلت: رجل من بني هاشم. فقال: من أي بني هاشم؟ فقتل: من نقبائهم. فقال: أريد أكثر منه. فقلت: ما عندي أكثر من هذا. فقال: أخبرك عن هذه الوصيفة، إني اشتريتها من أقصى بلاد المغرب، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت: ما هذه الوصيفة معك؟ فقتل: اشتريتها لنفسي. فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك. إنّ هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض. فلا تلبث عنده إلا قليلاً حتى تلد منه غلاماً يدين له شرق الأرض وغربها. قال: فأتيته بها، فلم تلبث عنده إلا قليلاً حتى ولدت له عليّاً (عليه السلام).(20)







ونقل المحدّث القمي أنه (عليه السلام) لمّا ابتاعها (أي تكتم) جمع قوماً من أصحابه ثم قال: والله ما اشتريت هذه الأمة إلا بأمر الله..(21)







على أن المرأة التي يقع اختيار الإمام (عليه السلام) عليها لم تكن من عامّة الناس، بل من أشرف النساء، وذات مكانة في قومها، غير أنها وقعت في الأسر وجرّها ذلك إلى سوق النخّاسين.







روى الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن بحير بن سهل الشيباني أنه قال: قال بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسرّ من رأى: أتاني كافور الخادم. فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري يدعوك إليه. فأتيته. فلمّا جلست بين يديه قال لي: يا بشر، إنّك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسرّ أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمة. فكتب كتاباً لطيفاً بخطّ رومي وبغلة رومية، وطبع عليه خاتمه، وأخرج شقيقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً.







فقال: خذها، وتوجّه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها، ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العباس، وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين، تمتنع من العرض ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها، وتسمع صرخة روميّة من وراء ستر رقيق.







فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه.







فيقول بعض المبتاعين: عليّ ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زيّ سليمان بن داود، وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفق على مالك، فيقول النخّاس: فما الحلية؟ ولابد من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولابد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه والى وفائه وأمانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس، وقل له: إن معك كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة روميّة وخط رومي، ووصف فيه كرمه، ووقاره، ونبله، وسخاءه، فناولها لتتأمّل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.







قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حدّه لي مولاي أبو الحسن (عليه السلام) في أمر الجارية، هنا سقط فلمّا نظرت في الكتاب بكت بكاء شديداً وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرّجة والمغلّظة أنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحّه في ثمنها حتى استقرّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عليه السلام) من الدنانير فاستوفاه، وتسلّمت الجارية ضاحكة مستبشرة.







وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا (عليه السلام) من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدّها وتمسحه على بدنها.







فقلت تعجباً منها: تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟ فقالت: أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين، تنسب إلى وصي المسيح شمعون أنبئك العجب..(22)







إلى غير ذلك من القضايا التي دلّت على أن الأمر لم يكن بصورة عفويّة، أو من القضايا الاتفاقيةّ، بل كانت على وفق تخطيط إلهي محكم، وإن كانت لا تخرج عن ظاهرة الخضوع للأسباب المتعارفة، والتي كانت يبدو فيها أن الأمر طبيعي جداً.







أقول: لا يبعد أن يكون هذا أحد الأسباب التي دعت إلى أن تكون أمهات بعض الأئمة (عليهم السلام) من الجواري.







وحيث أن أم الإمام الرضا (عليه السلام) كانت إحدى الجواري، وإنما وقع اختيار الإمام الكاظم (عليه السلام) عليها لأنّها كانت ذات شرف ومكانة وطهر وعفاف، ولمّا كانت السيدة فاطمة شقيقة الإمام الرضا (عليه السلام) حيث يتحدان في الأب والأم يتبيّن أن أمّها لم تكن امرأة عادية من سائر النساء، بل كانت جليلة القدر عظيمة الشأن ذات منزلة رفيعة كما سيأتي بيان ذلك في محلّه من هذه الصفحات.







الثاني: إن من أعظم الرّكائز التي قام عليه الدين هو إلغاء الفوارق الطبقيّة بين أبنائه والمنتسبين إليه، وقد أكّد القرآن الكريم في آياته، والرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) في سيرته على ذلك، وكانت النظرة إلى جميع الناس على أساس من التساوي ونبذ الفوارق العرقيّة والنسبية، وأنّ المعيار في التفاضل بين الناس هو مقدار ما يتحلّى به الإنسان من الإيمان والتقوى ومكتسباته الشخصية: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(23)، (ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى)(24) وليس للعنصر العربي فضل على سواه، وليس لسواه فضل عليه، وليس ثمّة ما يميّز أحدهما على الآخر إلا مقدار قربه من الله تعالى، أو بعده عنه، ولذا رفع الإسلام من شأن سلمان الفارسي الأصل حتى غدا ينسب إلى أهل بيت العصمة فقال (صلّى الله عليه وآله): (سلمان منّا أهل البيت)(25)، ووضع الإسلام أبا لهب العربي الأصل والقرشي النسب، وهو عم النبي (صلّى الله عليه وآله) حتى غدا من أشد الناس عداوة لله ولرسوله، ونزل فيه قرآن يتلى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ)(26).







وقد اتّخذه هذا المنهج القويم صوراً وأشكالاً مختلفة، لتثبيت هذه القاعدة، حتى تكون هي المنطلق والأساس في تقييم الأشخاص، وسعى سعياً حثيثاً بالقول تارة، وبالفعل أخرى، لبيان أن الإنسان لا يقعد به نسبه، ولا يعيقه عنصره، أو صنفه، عن تسنّم أرفع الدرجات، إذا كانت على وفق ما يريد الله ورسوله: (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(27).







ولم يكن الأمر يقتصر على القضايا الرئيسية ذات الأهمية القصوى، بل كانت تشمل الشؤون الجانبية الأخرى، فما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يفاضل بين أحد من المسلمين في العطاء ـ مثلاً ـ وكان يرى أن المال مال الله والناس عباد الله، وهكذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي اتخذ هذه السيرة النبوية منهاجاً له، يقتفي خطى النبي (صلّى الله عليه وآله) في تطبيقها على المسلمين معتبراً نفسه واحداً منهم، وأنّهم جميعاً أخوة في الدين، حتى أصبح هذا المبدأ أحد الأسس التي مهدت السبيل أمام كثير من الناس للالتحاق بهذا الدين والسير في ركابه.







ولو أن هذا المبدأ أخذ مجراه كما أراد الله تعالى ورسوله، وسعى أمير المؤمنين (عليه السلام) لتطبيقه، لما احتجنا إلى حروب الفتوحات التي يعتبره البعض إحدى إنجازات الإسلام الكبرى.







وما يدرينا فلعلّ ما يحيق بالمسلمين من خصومهم من الكيد والعدوان إنما هو عمل انتقامي واقتصاص ممّا جرى في سالف الزمان من حروب الفتوحات إذ تركت حقداً دفيناً تتوارثه الأجيال، حتى إذا أمكنتهم الفرصة لانتقام شنّوا حروباً لا هوادة فيها على الدين والأخلاق وبأساليب مختلفة.







على أن هؤلاء القائمين على هذه الفتوحات لم يكونوا إلا ذوي أطماع في الدنيا وتهالك عليها، ولم يكن لهم نصيب من الإسلام.







والذي يؤيد ذلك: ما رواه ابن كثير في تفسيره ـ عند قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)(28) ـ بسنده عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس، قالت: بينما نحن بمكة قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الليل فنادى: هل بلّغت، اللهم هل بلّغت، ثلاثاً، فقام عمر بن الخطاب فقال: نعم. ثم أصبح، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ليظهرنّ الإسلام حتى يردّ الكفر إلى مواطنه، وليخوضنّ رجال البحار بالإسلام وليأتينّ على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه، ثم يقولون قرأنا وعلمنا، فمن هذا الذي هو خير منّا، فهل في أولئك من خير؟ (وفي رواية أخرى) فما في أولئك من خير، قالوا: يا رسول الله فمن أولئك؟ قال: أولئك منكم، وهم وقود النار(29).







أقول: كان هذا المبدأ أحد الركائز التي فتحت الباب على مصراعيه للدخول في دين الله، ولكن سياسة القائمين على الأمر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هي التي أوصدت الباب، وأحكمت إغلاقه، حيث رأت غير هذا.







وأول من أحدث الطبقيّة بين المسلمين وأوجد الفوارق وأحيى النعرات الجاهلية بينهم فميّز العرب على غيرهم، والقرشيين على سائر القبائل، والمهاجرين على الأنصار، والأحرار على الموالي، وفرّق بين المسلمين هو عمر بن الخطاب.(30)







وقد كانت هذه النزعة إحدى الفلتات التي كانت تظهر عليه في حياة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولمّا آل الأمر إليه اتّخذها سياسة أجراها على الناس.







روى الكليني بسنده عن حنان، قال: سمعت أبي يروي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: كان سلمان جالساً مع نفر من قرش في المسجد، فأقبلوا ينتسبون، ويرفعون في أنسابهم حتى بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت؟ ومن أبوك؟ وما أصلك؟ فقال: أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالاً فهداني الله عزّ وجلّ بمحمد (صلّى الله عليه وآله)، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمد (صلّى الله عليه وآله)، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد (صلّى الله عليه وآله)، هذا نسبي، وهذا حسبي، قال: فخرج النبي (صلّى الله عليه وآله) وسلمان (رضي الله عنه) يكلّمهم، فقال له سلمان: يا رسول الله ما لقيت من هؤلاء، جلست معهم فأخذوا ينتسبون، ويرفعون في أنسابهم حتى إذا بلغوا إليّ قال عمر بن الخطاب: من أنت؟ وما أصلك؟ وما حسبك؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): فما قلت له يا سلمان؟ قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالاً فهداني الله عزّ ذكره بمحمد (صلّى الله عليه وآله)، وكنت عائلاً فأغناني الله عزّ ذكره بمحمد (صلّى الله عليه وآله)، وكنت مملوكاً فأعتقني الله عزّ ذكره بمحمد (صلّى الله عليه وآله)، هذا نسبي، وهذا حسبي، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا معشر قريش إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال الله عزّ وجلّ: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(31)، ثم قال النبي (صلّى الله عليه وآله) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عزّ وجلّ، وإن كانت التقوى لك عليهم فأنت أفضل. (الروضة من الكافي، الحديث 203، ص181-182).







وكانت هذه السياسة منه طامّة كبرى حرفت مسار الإسلام عن طريقه المستقيم، ولو أعطينا التأمل حقّه في هذا الأمر لرأينا أن ما أحدثه عمر من التمايز والتفاضل بين المسلمين على أساس من اعتبارات محضة، لا واقع لها أو بإزائها، قد أوجد ثغرة كبيرة، وأحدثت ردّة فعل عنيفة راح ضحيّتها كثير من المبادئ المشرقة، بل إن ذلك أوجد الخلاف والشقاق بين المسلمين أنفسهم، وما تمرّد المتمرّدين على أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا نتيجة طبيعة لهذه السياسة التي أسّسها عمر بن الخطاب، وذلك لأنّ عليّا (عليه السلام) أراد أن يرجع بالناس إلى سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) فأباها أكثرهم، وكان الخلاف والشقاق إذا اعترضوا عل أمير المؤمنين (عليه السلام) لمساواته بينهم وبين عبيدهم، ومن يرون أن لهم شأناً، ذلك الشأن الذي غرسه عمر في أنفسهم، ووافق هوى في قلوبهم، فصدّقوا، وقد حليت الدنيا في أعينهم فأبوا الحقّ بل حاربوه.







ولذا فليس من البعيد القول بأنّ قتل عمر إنما هو نتيجة لسياسته التي انتهجها وطبّقها على الناس من تفضيل العرب على غيرهم، فكان الساعي لحتفه بظلفه، وإن كانت المسألة في واقعها أبعد من ذلك.







ولقد استشرت هذه السياسة العمريّة، ولا سيّما في العصر الأموي وما تلاه من العصور، لأنّها وافقت هوى بني أميّة الذين تباهوا بأصولهم العربية حتى بلغ الأمر أن ألغي الإسلام، وكانت الجزية تؤخذ ممن أسلم بحجّة أنّه إنّما أسلم هرباً من دفع الجزية، فانطمست قيم الدين من نفوس الناس، ولم يبق من الإسلام إلا شكل لا يحمل محتوى، وأصبح هم القائمين على الأمر فرض سيطرتهم وسياستهم على الناس في معزل عن الدين، وأصبح الكتّاب والشعراء بعد ذلك يتغنّون بهذه الأمجاد الزائفة حيث يتشدّقون بأنّ الإسلام قد ضرب بأطنابه في أقصى الشرق وأقصى الغرب وما علموا أنّ هذا الإسلام الذي يتحدّثون عنه إنما هو قشور خالية من اللّباب(32)، ولذا تلاشى ذلك الإسلام عند أول وثبة من بعض أهل تلك المناطق، فعادت البلدان إلى كفرها بعد أن كانت بحسب الظاهر في عداد البلاد الإسلامية وأهلها في عداد المسلمين.







إذن كانت هذه السياسة خطيرة إلى حد كبير، وقد تربّت عليها النفوس، وأصبح الذين يرون أنفسهم من سادة القوم أن الاقتران بالجواري عار لا يليق بالأشراف.







ويدل على ذلك ما ورد من معاتبة عبد الملك بن مروان للإمام زين العابدين (عليه السلام)، واعتراضه عليه حين تزوّج بإحدى الجواري، فقد روى الكليني بسنده عن يزيد بن حاتم، قال: كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وإنّ علي بن الحسين (عليهما السلام) أعتق جارية ثم تزوّجها، فكتب العين إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليهما السلام): أما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنّه كان في أكفائك من قريش من تمجّد به في الصّهر، وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت، ولا على ولدك أبقيت، والسلام.







فكتب إليه علي بن الحسين (عليهما السلام) أما بعد، فقد بلغني كتاب تعنّفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنه كان في نساء قرش من أتمجّد به في الصّهر، واستنجبه في الولد، وأنه ليس فوق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مرتقىً في مجد ولا مستزاد في كرم، وإنّما كان ملك يمين خرجت متى أراد الله عزّ وجلّ مني بأمر التمس به ثوابه، ثم ارتجعتها على سنّة، ومن كان زكيّاً في دين الله فليس يخيلّ به شيء من أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمّم به النقيصة، وأذهب به اللّؤم فلا لؤم على امرئ مسلم، وإنّما اللؤم لؤم الجاهليّة، والسلام.







فلمّا قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان، فقرأه فقال: يا أمير المؤمنين لشدّ ما فخر عليك علي بن الحسين (عليهما السلام)، فقال: يا بني لا تقل ذلك، فإنّه ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف من بحر، إنّ علي بن الحسين (عليهما السلام) يا بنيّ يرتفع من حيث يتّضع الناس.(33)







وعرض بعض المحقّقين صوراً من هذه السياسة الهوجاء التي اتبعها الحكّام في احتقار كل من هو غير عربي فقال: لقد أمر الحجّاج أن لا يؤم في الكوفة إلا عربي..، وقال لرجل من أهل الكوفة: لا يصلح للقضاء إلا عربي. كما طرد غير العرب من البصرة والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا يندبون: وا محمدا وا محمدا، ولا يعرفون أين يذهبون، ولا عجب أن ترى أهل البصرة يلحقون بهم ويشتركون معهم في نعي ما نزل بهم من حيف وظلم.







بل لقد قالوا: لا يقطع الصلاة إلا حمار، أو كلب، أو مولى.







وقد أراد معاوية أن يقتل شطراً من الموالي عندما رآهم كثروا، فنهاه الأحنف عن ذلك.







وتزوّج رجل من الموالي بنتاً من أعراب بني سليم، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فشكا إليه ذلك، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرّق بينه وبين زوجته، وضربه مائتي سوط، وحلق رأسه وحاجبه ولحيته، فقال محمد بن بشير في جملة أبيات له:







قضيت بسنّة وحكمت عدلاً *** ولم ترث الخلافة من بعيد







ولم تفشل ثورة المختار إلا لأنّه استعان فيها بغير العرب، فتفرّق العرب عنه لذلك.







ويقول أبو الفرج الأصفهاني:.. كان العرب.. إلى أن جاءت الدولة العباسية إذا جاء العربي من السوق ومعه شيء ورأى مولى دفعه إليه فلا يمتنع.







بل كان لا يلي الخلافة أحد من أبناء المولّدين الذين ولدوا من أمّهات أعجميّات.







وأخيراً فإن البعض يقول: إن قتل الحسين كان الكبيرة التي هوّنت على الأمويين أن يقاوموا اندفاع الإيرانيين إلى الدخول في الإسلام.(34)







ونقل المرحوم السدي عبد الرزاق المقرّم في كتابه مقتل الحسين (عليه السلام) عن أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) قوله: الحق أنّ الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً يسوّي فيه بين الناس، ويكافئ المحسن عربيّاً كان أو مولى ويعاقب المجرم عربيّاً كان أو مولى، وإنّما الحكم فيه عربي، والحكام خدمة للعرب، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية.(35)







ولما كان أهل البيت (عليهم السلام) هم أئمة الدين، أردوا إظهار فساد هذه السياسة بإجراء عمليّ، وبدأوا بأنفسهم، وهم إن لم يعطوا الفرصة ليمارسوا دورهم في تطبيق تعاليم الدين إلا أنّهم لا يتخلّون عن أداء وظيفتهم مهما أمكن، لذلك اختاروا أمّهات الأولاد الجواري ـ مع ملاحظة سائر الشرائط ـ ليثبتوا أن لا فرق بين أحد من الناس، وأنّ ما وضع من الامتيازات لبعض دون بعض لم تكن بحسب المقاييس الإلهية، وإذا كانت الظروف قد قهرت بعض أولئك النسوة فأصبحن يبعن في أسواق الرقيق فلا يعني ذلك أنّهن خاليات من الشرف والفضيلة، بل قد يكون العكس صحيحاً، فربّ جالية أحاطتها العناية الإلهية لتكون قرينة للعصمة وأمّاً للمعصوم، وهذا ما حدث بالنسبة إلى أمّهات بعض الأئمة (عليهم السلام).







ولا يقاس بعد ذلك فضل هذه الجواري والإماء اللاتي أصبحهن أوعية لحمل الإمامة بأيّ امرأة أخرى مّن لم تحظ بهذا الشرف العظيم وإن كانت من أرقى البيوتات العربيّة بحسب الظاهر.







الثالث: إن ممّا لا شك فيه أن رسالة النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) هي الخاتمة الناسخة لجميع الرسالات السابقة وهي الشاملة لكافّة البشر، فلا دين بعد دين الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ)(36) ولا نبيّ بعد النبي محمد (صلّى الله عليه وآله)، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.







وذلك من البديهيات المسلمة التي لا مجال للنزاع فيها، وأيّدت ذلك الأدلّة والبراهين.







وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى هذا الدين محفوظاً وإن رحل النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الرّفيق الأعلى، وقد أوكلت مهمّة حفظ الدين إلى ذريّة النبي (صلّى الله عليه وآله) وعترته، وهم ورّاث علمه ومقامه الأئمة الاثنا عشر أوّلهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وآخرهم الحجة بن الحسن العسكري (عليه السلام)، وعلى ذلك قامت الأدلة والبراهين أيضاً.







ونتيجة ذلك أنّه كما أنّ نبوة النبي (صلّى الله عليه وآله) عامّة شاملة، فكذلك إمامة الأئمة (عليهم السلام) عامة وشاملة، ومعنى ذلك أن إمامة الأئمة (عليهم السلام) ليست مقتصرة على مجتمع معيّن أو عنصر معيّن، أو فئة من الناس معينة، فكما أن النبي (صلّى الله عليه وآله) بعث للأبيض والأسود على السواء، فكذلك إمامة الأئمة (عليهم السلام) لكافة الناس.







ومن هنا يتّضح لنا وجه آخر في اقتران بعض الأئمة (عليهم السلام) بنساء غير عربيّات بل من قوميّات أخرى كالفارسية أو الرّومية أو غيرهما، وقد وردت الرّوايات الدالّة على ذلك. فإنّ أم الإمام السجاد (عليه السلام) كانت من أصل فارسي(37)، وكانت أم الإمام الكاظم (عليه السلام) من أشراف الأعاجم(38).







وكانت أم الإمام الرضا (عليه السلام) من أهل المغرب(39)، وكانت أم الإمام الجواد (عليه السلام) من أهل النوبة من قبيلة مارية القبطيّة أما إبراهيم ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانت أفضل نساء زمانها، وأشار إليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله: بأبي ابن خير الإماء النوبيّة الطيّبة(40)، وكانت أم الإمام الهادي (عليه السلام) مغربيّة، ولم يكن لها مثيل في الزهد والتقوى(41)، وكانت أمّ الإمام الحسن العسكري في بلدها من الأشراف في مصاف الملوك(42)، وكانت أم الإمام الحجة بنت قيصر ملك الروم، وأمّها من ولد الحواريين، وتنسب إلى وصيّ المسيح شمعون.(43)







والذي نود أن نشير إليه في هذا الوجه أن الإمامة لمّا كانت عامّة وأن الإمام إمام لكل الناس على شتى اختلاف أعراقهم وأصولهم انحدر بعض الأئمة من جهة أمّهاتهم من أصول غير عربيّة ليكون ذلك علامة بارزة على عالميّة إمامتهم، وشمولها لجميع أهل الأرض، وأنّ لكل من السلالات البشرية طرفاً يوصلها بهذا الدين الإلهي العظيم، وتلك حكمة بالغة ولطف عام لكل البشر، وأما العروبة فليس لها خصوصيّة في حدّ ذاتها من حيث هي (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ).







ولعلّ هناك سرّاً آخر ينطوي تحت هذا الوجه قد تكشف عنه الأيام نورده كاحتمال ليس إلا، إذ لا نملك دليلاً قاطعاً عليه، وإن كان في نفسه غير بعيد، وحاصله: أن الإمام المهدي الموعود به على لسان النبي (صلّى الله عليه وآله)، ونطق بذلك القرآن الكريم، وأكّدت عليه الروايات المتواترة عن أهل البيت (عليهما السلام) سيكون له الشأن العظيم في إعلاء كلمة الله تعالى، وسيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وسيقوم بأداء مهمّته في أغلب أحواله بشكل طبيعي، وإن كان يأتي بالمعجزة والكرامة تأييداً من الله تعالى، ولا شكّ أن تلك مهمّة شاقّة كما شرحتها الرّوايات والآيات.







وإذا كانت أم الإمام المهدي (عليه السلام) تنحدر من سلالة أحد أوصياء عيسى ابن مريم (عليهما السلام) فما يدرينا.. لعلّ في ذلك تمهيداً وتسهيلاً لإنجاز مهمّة الإمام (عليه السلام) في خضوع النصارى والكفّار وتسليمهم له نظراً إلى أن أجداده لأمّه منهم، فيحرّك في نفوسهم الجانب العاطفي للرّحم القائمة بينه وبينهم، الأمر الذي يختصر عليه كثيراً من الأمور وينجزها في سهولة ويسر.







على أن ذلك أحد أسباب اللطف العام بأولئك النصارى حيث يكونون على مقربة من الهداية والنجاة.







وبعد هذا نقول: عن أم السيدة فاطمة المعصومة هي أم الإمام الرضا (عليه السلام)، وقد اجتمعت فيها الكمالات والفضائل التي أهّلتها لأن تكون أمّاً لولي الله (عليه السلام) وحاضنة لكرمية أهل البيت (عليهم السلام)، ولم تسعفنا الروايات الواردة في تاريخ مراحل حياتها إلا بالنّزر القليل، وإن كان يكشف عن جلالة قدرها ورفعة مقامها، فقد ورد في بعض الرّوايات أنّها كانت تعيش في بيت الإمام الصادق (عليه السلام) قبل اقترانها بالإمام الكاظم (عليه السلام)، وكانت جليلة ذات عقل ودين(44).







روى الصدوق بسنده عن علي بن ميثم أنه قال: اشترت حميدة المصفّاة ـ وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) ـ وكانت من أشراف العجم ـ جارية مولّدة واسمها تكتم، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفّاة، حتى أنّها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالاً لها.







وكانت علائم الجلالة والنجابة تلوح منها حتى شهدت بذلك مولاتها حميدة المصفّاة على ما يروي الصدوق، فقد روى أن حميدة قالت لابنها موسى (عليه السلام): يا بني إن تكتم جارية ما رأيت جارية قطّ أفضل منها، ولست أشكّ أن الله تعالى سيطهّر نسلها، إن كان لها نسل، وقد هبتها لك فاستوص بها خيراً.(45)







ولا شك أن الحياة في بيت الإمام الصادق (عليه السلام)، في حد ذاتها كافية في تأسيس حياة هي أفضل ما تكون، حيث منبع الطهر والعفاف والقداسة والكمال، فإذا انضمّ إلى ذلك الاستعداد التام كانت النتيجة هي بلوغ الغاية الممكنة، في الكمال والاستقامة.







وقد انعكس ذلك على حياة السيدة تكتم، فكانت من أهل العبادة والتهجّد، فإنّها لما أنجبت الرضا (عليه السلام) وكان كلما تصفه الروايات يرتضع كثيراً، وكان تامّ الخلقة، قالت: أعينوني بمرضعة، فقيل لها: أنقص الدرّ؟ فقالت: لا أكذب، والله ما نقص، ولكن عليّ ورد من صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ ولدت.(46)







وفي ذلك دلالة على عظمة هذه المرأة، ومدى تعلّقها بالله تعالى وارتباطها به، ولا شك أن لذلك تأثيراً على ما ينحدر منها من نسل.















تنبيه







قد تقدّم أن الإمام الكاظم (عليه السلام) هو الذي اشترى السيدة تكتم حيث بعث هشاماً لابتياعها له، ومرّ آنفاً أن حميدة المصفّاة أم الإمام الكاظم (عليه السلام) هي التي اشترتها وظاهر ذلك هو التنافي.







ولكن يمكن الجمع بين الروايتين بأن يقال: إن الإمام الكاظم (عليه السلام) اشتراها جارية لأمّه فمكثت عند أمّه مدّة، ثم وهبتها أمّه إليه، وبذلك يرتفع التنافي بين الروايتين.







وعلى أي تقدير فقد ذكرت الروايات أن السيدة تكتم كانت ذات حظوة عند الإمام (عليه السلام)، وموضع عنايته، فإنّها لما ولدت له الرضا (عليه السلام) سمّاها الطاهرة.(47)







وكان لها عدّة أسماء منها: تكتم، ونجمة، وأروى، وسكن، وسمانة، وأمّ البنين، وقيل: خيزران، وصقر، وشقراء.(48)















تعدد الأسماء







ومما يناسب المقام الإشارة إلى ظاهرة تعدد أسماء الجواري والعبيد، والملاحظ أن لأمهات الأولاد عدّة أسماء، فإن لأم الإمام الرضا (عليه السلام) كما مرّ عشرة أسماء، ولغيرها من أمهات الأئمة (عليهم السلام) عدّة أسماء، وهي ظاهرة تثير الالتفات، ووراءها حكمة لعلّنا نستطيع استجلاءها من خلال ما تسعفنا به المصادر التي تناولت هذه الظاهرة أو أشارت إليها.







ونقول: إن لهذه الظاهرة أصلاً شرعياً، فقد ورد النص بذلك، واستفاد الفقهاء منه استحباب تغيير اسم العبد أو الجارية، أما النص فهو ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن ابن أبي عمير (عن رجل) عن زرارة، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه رجل، ومعه ابن له، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما تجارة ابنك؟ فقال: التنخّس، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): لا تشتر شيناً ولا عيباً، وإذا اشتريت رأساً فلا ترينّ ثمنه في كفة الميزان، فما من رأس يرى ثمنه في كفة الميزان فأفلح، وإذا اشتريت رأساً فغيّر اسمه وأطعمه شيئاً حلواً إذا ملكته، وتصدق عنه بأربعة دراهم.(49)







قال المحقق في الشرائع: ويستحبّ لمن اشترى مملوكاً أن يغيّر اسمه.(50)







وقال العلامة في القواعد: ويستحبّ لمن اشترى مملوكاً تغيير اسمه وإطعامه حلواً والصّدقة عنه بشيء.(51)







وقال في التذكرة: يكره للرجل إذا اشترى مملوكاً أن يريه ثمنه في الميزان، ويستحبّ له تغيير اسمه، وأن يطعمه شيئاً من الحلاوة، وأن يتصدّق عنه بأربعة دراهم.(52)







وقال صاحب الحدائق: ومنها أنّه يستحبّ لمن يشتري مملوكاً أن يغيّر اسمه، وأن يطعمه شيئاً من الحلو، وأن يتصدّق عنه بشيء.(53)







وغيرها من الأقوال الكثيرة الدالّة على ذلك، والتي يظهر منها الاتفاق على هذا الحكم، وإن كان أمراً استحبابيّاً.







ويبدو الجانب الأخلاقي واضحاً في هذا الحكم، فإن للرقيّة واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان - وصيرورته آلة لا يملك من أمره شيئاً - آثاراً سيئة خطيرة.







ولم تكن الرّقية تشريعاً إلهيّاً، وليس في الإسلام حكم بمشروعية الاسترقاق الابتدائي، وإنّما كان الرّق نظاماً سائداً بين الناس قبل الإسلام في الأمم السابقة.







ولمّا جاء الإسلام كان هذا النظام قائماً بين الناس فأقرّه ووضع له أحكاماً خاصّة من شأنها القضاء عليه قضاءً تامّاً في معالجة حكيمة لهذه المسألة المهمّة.







وفي الأحكام الجزائية التي وضعها الإسلام عند المخالفات الشرعية أكبر شاهد على ذلك، إضافة إلى ما ندب إليه الدين، ورغّب فيه، ووعد عليه الثواب ونيل الدرجات، وإثارة الشعور الإنساني وتحريك الجانب العاطفي عند الأحرار نحو العبيد الذين قهرتهم ظروف معينة أصبحت فيها أمورهم وشؤونهم بأيدي غيرهم.







هذا غير ما فتحه الإسلام من أبواب تمكّن العبد من الدخول فيها للانطلاق من قيد الرقيّة، فإن لذلك دوراً آخر ساهم في القضاء على هذه المشكلة.







نعم سوّغ الإسلام الاسترقاق في حالة واحدة، وليست هي أمراً ابتدائياً كما ذكرنا، وهي ما ذكرته المصادر الفقهيّة من جواز الاسترقاق في حالة الحروب بين المسلمين وبين غيرهم من الملل الكافرة، ولكن على ضوء شرائط معينة، في حالات خاصّة، وقد تكفّلت الكتب الفقهيّة ببيان ذلك ضاربة بذلك أروع المثل الأخلاقية.







وإنّما ساغ ذلك لأنه عمل جزائي لوقوفه في مواجهة الإسلام ومحاربته، وقد كان في معرض القتل، ألا أنّه لمّا وقع أسيراً كان جزاؤه أن يسترقّ، وفي ذلك تخفيف وامتنان عليه، على أن هناك حلولاً ذكرت في الفقه تعالج حالة الاسترقاق يتمكّن من خلالها الخروج من هذه الحالة.







ومن ذلك يظهر أنّ الاسترقاق ليس مقصوداً في الشرع لذاته، ولا غرضاً من أغراضه، وإنّما هو أمر استثنائي وظرف طارئ اقتضى ذلك، ولسنا في مقام دراسة هذه الناحية، وتكفينا هذه الإشارة الإجمالية التي يتضح من خلالها عظمة الإسلام وسموّ أحكامه وشرف مقاصده ونبل أهدافه.







ثم نقول: إن هذا الإنسان الذي قهرته الظروف فجعلت منه آلة لا يملك من أمره شيئاً، يمرّ بمعاناة وآلام نفسانية خطيرة، وتعتصره المرارة حيث يرى نفسه عبداً حقيراً يستعبده غيره، ممّن قد يكون دونه شرفاً ومكانة فتنهدم معنويّاته وتنسدّ في وجهه الآمال والأحلام، وربّما ينتقل من يد تصفع إلى أخرى تلطم، وهكذا يعيش محطّماً قد ارتبط مصيره بأيدي الباعة والنخّاسين.







ومن هنا تتجلّى الحكمة في استحباب تغيير اسمه عند الشّراء لأنّه بذلك يبدأ حياة جديدة ينسى فيها ماضية البائس، وأيّامه السوداء، وفي ذلك إعانة له على نسيان أو تناسي عهده السابق وتخفيف لآلامه ومعاناته.







وفي إطعامه الحلو دلالة أخرى: فإنّ فيها إشعاراً ببداية عهد جديد لا مرارة فيه، وهكذا في التصدّق عنه بشيء.







وأمّا كراهة أن يرى ثمنه فهي أوضح دلالة وأجلى بياناً في مراعاة الشعور وحفظ الكرامة الإنسانية التي دأب الإسلام على مراعاتها والحفاظ عليها في جميع الأحوال والظروف.







ولسنا نقول: إنّ ما يعانيه هذا الإنسان من الهوان دائمي التحقق والوقع، وإنّما هو مقتضى طبيعة الاسترقاق وشأنه، وإلا فقد ينتقل المملوك من يد رحيمة إلى يد أرحم، ومن عطف إلى ما هو أشد عطفاً وشفقة وحنواً، وربما كانت سعادة امرئ أن يعيش مملوكاً لا أن يعيش طليقاً، وفي ما يذكره التاريخ من قصة زيد بن حارثة حيث فضّل الحياة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على الحياة مع أبيه حتى بلغ الأمر أن تبنّاه النبي (صلّى الله عليه وآله) فكان يدعى زيد بن محمد بعد أن تبرّأ منه أبوه إلى أن نزل قوله تعال: (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ)(54).







وفي ما حدّث به التاريخ من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده مع مماليكهم شواهد تدلّ على أنّ ما ذكرناه ليس مطّرداً وفي جميع الأحوال، فإن كثيراً من أولئك العبيد والجواري قد بلغوا مبلغاً من العلم والفضيلة والشّرف انحنى لهم التاريخ إجلالاً لمقامهم واعترافاً بسموّ ذواتهم، وإكباراً لعظمتهم، لأنّهم حلّوا بقلوب عطوفة، ونفوس رحيمة، وعقول ناضجة مدبّرة، مكّنتهم من تسنّم أرقى الدرجات.







إذن فتغيير الاسم يكشف عن حكمة بالغة أراد منها الشّرع أن يخفّف من شيء من المعاناة التي قد ينالها من قهرته الظروف فساقته إلى سوق الرقيق.







ومن المحتمل أن يكون تعدّد الأسماء للشخص الواحد لكونها تتضمن معاني وإشارات إلى خصائص المسمّى، وهذا الأمر نقف عليه في كثير من الناس أحراراً كانوا أو عبيداً، فإن لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) أكثر من اسم يحمل أكثر من معنى وأكثر من لقب كذلك، كما للأئمة (عليهم السلام) وللصدّيقة الزهراء (عليها السلام)، وكان ذلك محل عناية من الآداب الشرعية التي لم تغفل هذا الجانب فرغّبت في اختيار الاسم الحسن واللقب الحسن والكنية الحسنة.







ومن المحتمل أيضاً أن تعدد الأسماء لم يكن عن شيء من ذلك ولا سيّما في العبيد والجواري، إذ لا يعيشون حياة مستقرّة، ولا يهمّ البائع أو المشتري اسم سلعته، فيضع بإزائها اسماً ما لمجرّد التمييز، فتجتمع عدة أسماء للشخص الواحد نتيجة ذلك.







ولعلّ هناك وجوهاً أخرى لم ندركها بعد وراء تعدّد الأسماء، إلا أن في ما ذكرناه قد يكشف بعض الوجه في تعدّد أسماء أمّهات الأئمة (عليهم السلام).







وبذلك لا نحتاج إلى تكلّف البحث عن المعنى الاشتقاقي لمعنى الاسم وتطبيق المعنى المناسب على المسمّى كما حاول بعضهم(55) أن يوجد المناسبة ولو كانت بعيدة ليستنتج الوجه في التسمية.







وإنّما لا نحتاج إلى ذلك لأنّنا لا نعلم الواضع لهذه الأسماء، لنلتمس الوجه اللائق في التسمية بالاسم المعين، نعم إذا كان الواضع معروفاً وهو عالم بمداليل الألفاظ قاصداً لمعانيها فلابد من حمل كلام الحكيم على ما يناسبه من المعاني، صيانة لكلامه عن اللّغو، قد مرّ أن الإمام الكاظم (عليه السلام) أطلق اسم الطاهرة على السيدة تكتم بعد أن أنجبت الإمام الرضا (عليه السلام).







فهذه التسمية منه (عليه السلام) تكشف عن معنى عظيم في المسّمى صدر من المعصوم في شأن أمّ المعصوم، وهو العالم بحقائق الأمور الذي يضع الأشياء في مواضعها، وهو نظير ما ورد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام)، فقد جاء في كتاب الكافي أنّه (عليه السلام) لما بعث من يشتري حميدة أمّ الإمام الكاظم (عليه السلام) وجيء بها إليه، قال لها: ما اسمك؟ قالت: حميدة، فقال (عليه السلام): حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة.(56)







فإنّه وإن لم تكن التسمية منه (عليه السلام) إلا أنّه إقرار لها وإمضاء منه، بل فسّره (عليه السلام) بتفسير يكشف عن معنى عظيم في هذه المرة الطاهرة، وقد وصفها الإمام الصادق (عليه السلام) كما في الكافي بقوله: حميدة مصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أدّيت إليّ كرامة من الله لي، والحجّة من بعدي.(57)







وبناء على هذا لبقية الأسماء إن كانت على الوجه الذي ذكرناه فهو، وإلا فلا داعي للتكلّف في التماس معنى مناسب فإنّ بعض ما ذكر من المعاني وتطبيقه عليها بعيد جداً.







هذا، وقد ذكرت ستة أسماء أخرى لأم الإمام الرضا (عليه السلام) غير ما ذكرناه، وهي: سكينة وسلامة، وتحيّة، ونجية، وسها، وشهد.(58)







والى هنا تبيّن أن أمّ الإمام الرضا (عليه السلام) والسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) من سيدات النساء، وقد بلغت من الشّرف والفضل والطّهر والعفاف والكمال أعلى المراتب وأرفع الدّرجات، حتى أصبحت قرينة المعصوم وأمّاً للمعصوم. فسلام الله عليها وتحيّاته وبركاته.















ولادة السيدة فاطمة المعصومة







في ذلك البيت الطاهر ولدت سليلة الطهر والعفاف فاطمة المعصومة، وكانت الظروف التي ألمّت بأهل البيت (عليهم السلام) آنذاك عصيبة جداً إلى حدّ غاب فيها عن المؤرخين والرواة تسجيل أحداث الولادة وتأريخها، أو ذكر شيء ممّا يتعلّق بها، إذ كانت السلطة العباسية قد أحكمت قبضتها وأخذت تتّبع مناوئيها ممن تتوجس منهم وترى أنّهم سبب إزعاج لهم ومصدر قلق لسياستهم، وهم العلويّون وفي طليعتهم الإمام الكاظم (عليه السلام) صاحب الحق الشّرعي الذي ما فتئ يلمّح بل ويصرّح بأنّه صاحب الحق، وأن العباسيين خدعوا الأمّة بسياستهم الملتوية حيث أعلنوا للناس أن حركتهم ضد بني أمية إنما كانت غضباً لبني هاشم ممّا حل بهم من خصومهم الأمويين، وطلباً لثأرهم منهم، وأنّ دعوتهم كانت للرضا من آل محمد (عليهم السلام)، وبذلك استطاعوا أن يسيّروا عواطف الناس ومشاعرهم نحو تأييدهم، وانطلقت اللعبة على أكثر الناس فاستجابوا لهم في سذاجة وحسن نيّة، وفي غفلة عما بيّته العباسيون، حتى انخدع بذلك القوّاد الذين كان لهم الدور في توطيد الملك والقضاء على بني أمية وإخضاع البلاد، في ظنّ منهم أن الدعوة للرّضا من آل محمد (عليهم السلام) دعوة صادقة وما علموا أن بني العباس إنما استخدموهم آلات لتحقيق أغراضهم، ولذا ما إن استلم العباسيون زمام الأمر واكتشف هؤلاء القوّاد أنّهم خدعوا فأعلنوا سخطهم حتى فتكوا بهم واستأصلوهم كأبي سلمة الخلاّل، وأبي مسلم الخراساني وغيرهما من القادة العسكريين.(59)







ولم تكن هذه اللعبة لتخفى على آل محمد (عليهم السلام) الذين اتخذهم العباسيون درعاً تترّسوا به من أجل الوصول إلى أغراضهم، وقد كشف الإمام الصادق (عليه السلام) هذه المهزلة العباسية وأخذ حذره ولم يتورّط في أحداث هذه الحركة المبيّتة في حين قد تورّط غيره من بني عمّه فانساق معهم، وكان مآله أن فتك به كما فتك بغيره.







وفي هذه الحقبة الزمنيّة من التاريخ أحداث كبيرة، وهي جديرة بالبحث، ولسنا في صدد الحديث عنها، ولعلّنا نشير إلى بعضها في موضع آخر.







أقول: من أجل هذا تحاشى الرواة والمؤرخون من الدنوّ من أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الفترة لتسجيل ونقل بعض الأحداث التي ترتبط بتاريخهم خوفاً على أنفسهم من بطش الحكّام وغضبهم بل انضمّ بعضهم إلى صفوف الحكّام تزلفاً وطمعاً.







وقد غاب عنا كثير من الحقائق وخفيت علينا وقائع كثيرة، وذهبت في طي النسيان، ومنها تاريخ ولادة السيدة المعصومة (عليها السلام)، فلم يرد في شيء من الروايات ذكر السنة التي ولدت فيها فضلاً عن اليوم أو الشهر.







وما بأيدينا من المصادر التي ذكرت تاريخ ولادتها (عليها السلام) هي في الحساب متأخرة جدّاً، ولم تذكر مستنداً لذلك، بل ذكر بعض الكتاب أن ذلك أمر مجهول.(60)







ونحن وإن ننقل ما ذكره المؤلفون إلا أننا لسنا على يقين، وتبقى حلقة مفقودة تضاف إلى كثير من الحلقات الضّائعة من تاريخ أهل البيت (عليهم السلام).







ذكر بعض المؤلفين ـ ونسبه إلى المؤرخين ـ أنّ ولادتها (عليها السلام) كانت سنة 183هـ، هي السّنة التي استشهد فيها والدها الإمام الكاظم (عليه السلام)، في قول أكثر المؤرخين.((61)







وعلى هذا فلم تحظ السيدة المعصومة بلقاء أبيها (عليه السلام) ورعايته، وعاشت في كنف أخيها وشقيقها الإمام الرضا (عليه السلام) وصيّ أبيه والقائم مقامه.







واستبعد بعضهم(62) أن تكون ولادتها (عليها السلام) في تلك السنة، لأنّ السنوات الأربع الأخيرة من عمره (عليه السلام) ـ على أقل التقادير ـ كان فيها رهين السجون العباسية، مضافاً إلى أنّه قد ذكر أن للإمام الكاظم (عليه السلام) أربعاً من البنات(63)، اسم كل منها فاطمة، وأنّ الكبرى من بينهن هي فاطمة المعصومة (عليها السلام)، ولذا فلابدّ أن تكون ولادتها قبل سنة 179هـ وهي السنة التي قبض فيها على الإمام (عليه السلام) وأودع السجن.







ولكن بالالتفات إلى احتمال أن هؤلاء الفاطميات الثلاث ـ غير الكبرى ـ لسن من أمّ واحدة، بل من أمّهات شتى، فلا استبعاد في أن تكون ولادتهنّ في سنة واحدة.







على أنّه يمكن القول بأنه قد قبض على الإمام (عليه السلام) وأمّهاتهن حوامل بهن، وكانت ولادتهنّ بعد سنة 179هـ، وأن فاطمة المعصومة كانت ولادتها في سنة 179هـ.







ولكن مع ذلك لا يمكن الجزم بشيء، نعم بناءً على أن شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت سنة 183هـ فمن البعيد أن تكون ولادة السيدة المعصومة في تلك السنة، ولا سيّما أنها الكبرى من بين أخواتها الثلاث.







ثم إنّه قد ذهب آخرون(64) إلى أن ولادتها (عليها السلام) كانت في غرّة شهر ذي القعدة سنة 173هـ والقائل بذلك وإن كان من الباحثين الأجلاّء وله باع طويل في التحقيق والتتبع، وأرسل ذلك إرسال المسلّمات إلا أنه لم يشر إلى مستنده في تحديد هذا التاريخ.







وبناء على هذا التاريخ تكون السيدة فاطمة قد عاصرت من حياة أبيها عشر سنوات، غير أنّ السنين الأربع الأخيرة من عمه (عليه السلام) كان فيها رهين السجون العباسية كما ذكرنا، فلم تحظ منه إلا بست سنوات.







ولم نقف في شيء من المصادر على غير هذين القولين في تحديد سنة ولادتها (عليها السلام).







وعلى أي تقدير فقد فتحت هذه السيدة عينيها على الدنيا في أيام محنة أبيها، وقد أحاطت به الخطوب، فارتسمت حياتها بالحزن والأسى، وإذا كان عمرها (عليها السلام) ست سنوات يوم قبض على أبيها فهي في سنّ تدرك فيه غياب الأب عن البنت، وتعي ما يجري في هذا البيت، وما يسوده من الحزن والألم، وما يعانيه أهله من لوعة وعناء، ثم ما يتناهى إلى سمعها من شهادة أبيها (عليه السلام)، وما تلاها من أحداث مروّعة فيعتصر الألم قلبها الصغير، وهي لا ترجو لأبيها عودة إلى البيت، وترى أن هناك أخطاراً تحدق بأهل هذا البيت، وربّما أثار ذلك في نفسها كثيراً من التساؤلات حول ما يجري، ولماذا قصد أبوها بالذات، وأهل بيتها بالخصوص، بأنواع الإيذاء من دون سائر الناس، ولكنّها ما تلبث أن تدرك أن لهذه القضايا جذوراً تمتدّ إلى زمان جدّتها الزهراء (عليها السلام).







فمن ذلك اليوم الذي عانت فهي أمّها فاطمة (عليها السلام) آلام الظلم والعدوان، ومن ذلك اليوم الذي نحّي فيه جدّها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن منصب الإمامة أصبح أهل هذا البيت عرضة لظلم الظالمين وتعدّي الغاشمين.







وما كانت السيدة فاطمة المعصومة لتبقى مهملة بلا كفيل، فإنّها وإن فقدت أباها وهي في مقتبل العمر إلا أنّها عاشت في كنف شقيقها الرضا (عليه السلام)، وأولاها العناية الخاصّة في تربيتها ورعايتها، حتى غدت أفضل بنات الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).







ونشأت هذه السيدة تتلقى من أخيها العلم والحكمة في بيت العصمة والطهارة، فأصبحت ذات علم ورواية ومقام وسيوافيك عنه حديث.















أسماء وألقاب







لا يخفى أن للتسمية أهمية كبيرة، ولها في نظر أهل البيت (عليهم السلام) عناية خاصّة، وهي وإن وجدت مع وجود الإنسان باعتبار المدنية الطبيعية المقتضية للتعامل مع الأشخاص والأشياء المختلفة الموجبة للتميز فيما بينها إلا أنّ تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) أدخلت تعديلات مهمّة في وضعها وإطلاقها على الأشخاص والأشياء راعت فيها الجوانب النفسانية والأخلاقية، فحثّت على تخيّر الاسم الحسن، واعتبرت ذلك من حقوق الأبناء على آبائهم.







ففي رواية عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله ما حقّ ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه، وأدبه، وتضعه موضعاً حسناً(65)بل إضافة على ذلك كان أهل البيت (عليهم السلام) يغيّرون بعض الأسماء إذ ربّما تترك أثراً سلبياً على نفس المسمّى.







فقد روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان(66).







وروي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) في حديث إسلام سلمان وأنّ اسمه كان روزبه، وأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) اشتراه من امرأة يهودية بأربعمائة نخلة ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ: قال سلمان: فأعتقني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسمّاني سلمان(67).







وروى الكليني بسنده عن يعقوب السرّاج أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى (عليه السلام)، وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً فجلست حتى فرغ، فقمت إليه، فقال: ادن إلى مولاك فسلّم عليه، فدنوت فسلّمت عليه، فردّ عليّ بلسان فصيح ثم قال لي: اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سمّيتها أمس، فإنّه اسم يبغضه الله، وكانت ولدت لي بنت فسمّيتها بالحميراء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): انته إلى أمره ترشد فغيّرت اسمها(68).







ومن هنا ندرك مدى اهتمام أهل أبيت (عليهم السلام) بهذا الأمر، ومدى ارتباطه الوثيق بالجانبين الفردي والاجتماعي وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم.







كما ندرك أنّهم (عليهم السلام) كانوا يتخيّرون لأولادهم أسماءً حسنة مراعاة لهذه الجوانب، وهي تحمل دلالات مهمّة، ومعان سامية، وقد روى عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: ـ في حديث ـ إنّنا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم(69).







وقد ذكرت الروايات الترغيب في أسماء معيّنة كمحمد وعلي، وحسن وحسين، وجعفر، وطالب، وعبد الله، وحمزة، وغيرها من الأسماء كأسماء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، بل ورد استحباب تسمية الأولاد قبل أن يولدوا، بل وإن كانوا أسقاطاً فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قد سمّى محسناً قبل أن يولد(70). وأما أسماؤهم (عليهم السلام) فقد اختارها الله تعالى لهم وجاء في الزيارة الجامعة: (فما أحلى أسماءكم) وقد دلّت عدّة روايات على ذلك.







ولما كانت السيدة المعصومة ربيبة الإمامة فقد حظيت بأحسن الأسماء، وأجمل الألقاب، وإن لأسمائها وألقابها من الدلالات والمعاني ما يشير إلى عظمتها، ذلك لأنّ الاسم أو اللقب لم يطلق عليها جزافاً، وإنّما صدر عن المعصوم الذي يضع الأشياء في مواضعها، الأمر الذي يدلّ على جلالة هذه الشخصية وعظمتها في كل شأن من شؤونها.















وأما أسماؤها وألقابها فهي:















1ـ فاطمة







وكم لهذا الاسم من شأن وخصوصية عند الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم، وكم كان الأئمة (عليهم السلام) يولون هذا الاسم أهمية فائقة، لا نجدها في سائر الأسماء عندهم.







روى الكليني بسنده عن السكوني، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا مغموم مكروب، فقال لي: يا سكوني ما غمّك؟ فقلت: ولدت لي ابنة، فقال: يا سكوني على الأرض ثقلها، وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك، وتأكل من غير رزقك، فسرّى والله عني، فقال: ما سمّيتها؟ قلت: فاطمة، قال: آه، آه، آه، ثم وضع يده على جبهته، ثم قال: أما إذا سمّيتها فاطمة فلا تسبّها، ولا تلعنها، ولا تضربها(71).







إن لهذا الاسم قدسية في نفوس أهل البيت (عليهم السلام)، ولذا ذكر بعض الباحثين أن جميع الأئمة (عليهم السلام) كانت لهم بنات بهذا الاسم، حتى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان اسم أمّه فاطمة واسم زوجته فاطمة، كان له بنت اسمها فاطمة، وأنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت له أربع بنات بهذا الاسم، الأمر الذي يؤكد على أن هذا الاسم ليس أمراً عادياً، فيا ترى ما هو الوجه في ذلك.







إن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يدركون تماماً خصوصية هذا الاهتمام وأبعاده ومغزاه، فإن المتسمّيات بفاطمة من النساء كثير، إلا أنّه ما إن يطلق هذا الاسم ويتناهى إلى الأسماع حتى تتبادر الأذهان إلى فاطمة بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) التي كانت واسطة العقد وملتقى النورين ومنشأ السّلالة النبويّة الشريفة والذريّة الطاهرة.







وإلى ما جرى على فاطمة (عليها السلام) ـ من الخطوب والمآسي، وما نالته فاطمة من إجماع أصحاب أبيها على هضمها، والتنكّر لمقامها، وحرمانها من حقّها ـ يمثل كل ما مرّ من أحداث مؤلمة وفجائع أصابت أبناءها وشيعتها عبر التاريخ.







وإن في تأوه الإمام الصادق (عليه السلام) ثلاث مرات ووصيته للسكوني أن لا يسبّ ابنته ولا يلعنها ولا يضربها حيث سمّاها فاطمة دلالات تقصر عنها العبارات وتتعثّر الأفكار.







إن الأمة قد انحرفت عن طريق الهداية والرشاد منذ اللحظة التي عزم فيها القوم على هضم فاطمة وظلمها وهتك حرمتها حيث داسوا على وصايا النبي (صلّى الله عليه وآله) بأقدامهم وتجاسروا على بيت النبي في هجوم شرس زعزع القواعد التي أرساها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لضمان سلامة الأمة من الضيعة والضلال.







ولو أن الأمة أنصفت وأعطت فاطمة حقها لكانت قيادة الأمة بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) ولابيضّ وجه التاريخ.







ولسنا في مقام الحديث عن تاريخ حياة فاطمة (عليها السلام)، وإنّما أردنا الإشارة إلى أن تسمية إحدى بناتها باسمها يحمل من الدلالات ما هو أكبر من مجرد إطلاق اسم على مسمّى، فإنّ في التسمية بهذا الاسم تذكيراً وإيحاء بما جرى في تلك الأيام التي أعقبت وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).







ومن هنا ندرك اهتمام الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم بهذا الاسم العظيم.







وقد ذكرت الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) عدة تفاسير لمعنى فاطمة وكلّها تدلّ على عظمة الصديقة الزهراء (عليها السلام) ومقامها(72)















2ـ المعصومة







ويقترن هذا الاسم باسم فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فيقال في الأعم الأغلب: فاطمة المعصومة، كما يقال عند ذكر أمّها الكبرى: فاطمة الزهراء (عليها السلام).







وقد ورد هذا الاسم في رواية عن الرضا (عليه السلام) حيث قال: من زار المعصومة بقم كمن زارني(73).







ولهذه التسمية من الدلالة ما لا يخفى، فإنها تدلّ على أنّ السيدة فاطمة (عليها السلام) قد بلغت من الكمال والنزاهة والفضل مرتبة شامخة حيث سمّاها الإمام (عليه السلام) بالمعصومة، والعصمة تعني الحفظ والوقاية، والمعصوم هو الممتنع عن جميع محارم الله تعالى، وهي لا تنافي الاختيار، فتكون مرتبة من الكمال لا تهمّ النفس معها بارتكاب المعصية فضلاً عن الإتيان بها مع القدرة عليها عمداً أو سهواً أو نسياناً، ولا يكون معها إخلال بواجب من الواجبات، بل ولا مخالفة الأولى كما في بعض المعصومين (عليهم السلام)، وليست هي أمراً ظاهراً وإنّما هي حالة خفيّة من حالات النفس، ويستدلّ عليها بالنص أو القرائن القطعية الدالّة على ثبوتها، كما أنّها أمر مشكك، أي ذات مراتب تتفاوت فيها القابليات والاستعدادات من شخص إلى آخر.







وقد اتفقت كلمة الشيعة الإمامية على عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والملائكة وبعض الأولياء، وأن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة الاثني عشر والصدّيقة الزهراء (عليها السلام) في أرقى درجات العصمة، فإنّهم بلغوا من العصمة مقاماً لا تصدر منهم معصية، ولا يتركون واجباً، ولا يبدر منهم ما كان على خلاف الأولى، وبذلك نطقت الأدلّة وقامت البراهين العقلية والنقلية كما هي مبثوثة في كتب الشيعة الإمامية الكلامية(74). ويتلوهم الأمثل فالأمثل بمقتضى تفاوت المراتب والمقامات.







وعلى هذا فلا يبعد القول بأن السيدة فاطمة هي إحدى المعصومات وإن لم تبلغ درجة الصديقة الزهراء (عليها السلام)، أو أحد الأئمة (عليهم السلام).







وقد ذكر بعض الباحثين(75) عدّة قرائن تدلّ على ذلك ومنها:







أولاً: ما ورد في الرواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) من أنّه قال: من زار المعصومة بقم كان كمن زارني.







ومن المعلوم أن الإمام (عليه السلام) لا يلقي الكلام جزافاً، ولا يمكن أن تصدر منه مبالغة في القول في حق شخص من الأشخاص على خلاف الحقّ.







ولم يكن اسم المعصومة يطلق على السيدة فاطمة في حياتها ليكون التعبير بالمعصومة عنواناً مشيراً، بل إن هذا التعبير منه (عليه السلام) صدر عنه بعد وفاتها (عليها السلام) وهو يدلّ على إثبات العصمة لهذه السيدة الجليلة لأنه بناء على أساس القاعدة المعروفة من أن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعليّة، يصبح معنى الحديث هكذا: من زار المعصومة بقم كان كمن زارني لأنها معصومة.







فإذا ثبت أن هذا الحديث صادر عنه (عليه السلام) فلا إشكال في دلالته على عصمتها (عليها السلام).







وثانياً: بما ورد من الأحاديث الصحيحة المستفيضة الواردة في وجوب الجنّة لمن زار قبر هذه السيدة الجليلة.







وإن كان لا ملازمة بين العصمة ووجوب الجنّة، ولكن لم يعهد في شأن غير المعصوم ذلك، حتى أن ثلاثة من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يؤكدون على زيارتها. وسيأتي الحديث عن ذلك.







وثالثاً: بشفاعتها الشاملة لجميع شيعة أهل البيت (عليهم السلام).







نعم ذكرت الشفاعة في شأن العالم والشهيد ونحوهما، ولكن لم يرد شمول الشفاعة وسعتها بحيث تشمل الجميع إلا في حقها وحق آبائها المعصومين، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنة بأجمعهم.







رابعاً: الروايات المتواترة الواردة في فضل قم وقداسة أرضها ببركة قدوم هذه السيدة الجليلة، ولم يرد في شأن مدينة أخرى كما ورد في شأن مدينة قم، ومن الطبيعي أن قداسة هذه المدينة إنّما هي من أجل هذه السيدة الجليلة.







خامساً: التعبير عن قم بأنّها حرم أهل البيت، وعش آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، وغيرها من التعابير العالية التي لم يرد لها مثيل إلا في مواطن ومشاهد الأئمة.







سادساً: الكرامات الباهرة لهذه السيدة الجليلة التي كانت ترى على مرّ القرون والأزمان، ولم يكن لأحد من أولاد الأئمة ذلك، إلا ما كان من أبي الفضل العباس (عليه السلام) الذي يقال بعصمته أيضاً.







سابعاً: التعبيرات العالية الواردة، في زيارتها مثل: (فإن لك عند الله شأناً من الشأن) وحيث أن هذه الزيارة مرويّة عن الإمام الرضا (عليه السلام)، فإنّ هذه التعبيرات العالية الشأن لا تتناسب مع غير المعصوم.







ثامناً: إخبار الإمام الصادق (عليه السلام) عن تشرّف هذه البقعة ـ مدينة قم ـ ببضعة من ولده موسى (عليه السلام)، وكان إخباره بذلك قبل ولادة موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وهو يدلّ على مقامها العظيم، ومع هذا يؤكّد (عليه السلام) على أن جميع الشيعة يدخلون الجنة بشفاعتها، وذلك علامة على جلالة قدرها، الأمر الذي لم نقف عليه في شأن غير المعصوم.







وعاشراً: مجيء الإمامين الرضا والجواد (عليهما السلام) لتجهيز ودفن هذه السيدة الجليلة دليل واضح على عصمتها، وذلك لأنّ من معتقدات الشيعة أن جنازة المعصوم لا يتولّى دفنها إلا المعصوم، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي تولّى تجهيز فاطمة (عليها السلام) مع حضور أسماء، حتى أن الإمام الصادق (عليه السلام) رأى أن ذلك ثقل على المفضّل ـ الذي كان يحدّثه ـ فقال له (عليه السلام): لا تضيقنّ فإنّها صدّيقة، ولم يكن يغسلها إلا صدّيق، أما علمت أن مريم لم يغسّلها إلا عيسى(76).







فقد ورد في أحكام غسل الميت أن الزوج أحق بتغسيل زوجته، وإن وجد المماثل، وأمّا الولد فلا يمكنه أن يغسل أمّه في حال الاختيار مع وجود المماثل، ولكن لما كانت مريم (عليها السلام) معصومة فلم يكن مناص إلا أن يتولى ولدها عيسى (عليه السلام) تغسيلها.







ومن قوله (عليه السلام): (صديقة) يستفاد عصمة مريم (عليها السلام)، وقد ورد في القرى، الكريم التعبير عنه بذلك، وهكذا تولّى الإمام الرضا (عليه السلام) تغسيل أبيه، كما أن الإمام الجواد (عليه السلام) جاء من المدينة إلى خراسان، والإمام الهادي جاء من المدينة إلى بغداد، ومن قبلهما جاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) من السجن لتجهيز والده في كربلاء.







والملفت للنظر أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) لما أراد أن يدفن أباه الحسين (عليه السلام)، وعلي الأكبر (عليه السلام)، وأبا الفضل العباس (عليه السلام)، لم يطلب العون من بني أسد، بل قام بذلك بنفسه، ولكن لمّا أراد أن يدفن الشهداء طلب منهم أن يحفروا حفرتين وأمرهم بدفن شهداء بني هاشم في واحدة، ودفن سائر الشهداء في الأخرى.







وهذا بنفسه علامة على عصمة علي الأكبر وأبي الفضل العباس.







وهكذا في تجهيز السيدة فاطمة، فإنّ حضور الإمامين الرضا والجواد (عليهما السلام) له معنى كبير، وهو شاهد حيّ على عصمة هذه السيدة الجليلة.







فمع الالتفات إلى هذه الأمور فإذا ادّعى شخص أن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) نالت مرتبة من العصمة فليس فيه انحراف في القول أو مجازفة في المقال، نعم هذه المرتبة من العصمة دون مرتبة المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام)، فإن أولي العزم من الأنبياء لم يبلغوا تلك المرتبة.







وهناك تفاوت آخر، وهو أن العصمة في الأنبياء والأئمة أمر لازم لابدّ منه، وأمّا العصمة في هذه الشخصيات العالية فليست بلازمة(77). ولئن لم تكن معصومة بالمعنى الخاص للعصمة الخاصّة بالأئمة (عليهم السلام) والصديقة الزهراء (عليها السلام) إلا أن في التعبير عنها بالمعصومة إشعاراً ببلوغها مرتبة عالية من الطهارة والعفة والنزاهة والقداسة، ولا غرو فإنها تنحدر من بيت العصمة وتربّت على يد المعصوم، وكانت ابنة معصوم وأخت معصوم وعمّة معصوم.















3ـ كريمة أهل البيت







وهو من ألقاب هذه السيدة الجليلة، وعرفت به من دون سائر نساء أهل البيت.







وقد اشتهر الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بهذا اللقب من دون سائر الرجال، فكان يقال له كريم أهل البيت.







وقد أطلقه عليها الإمام المعصوم (عليه السلام) في قصّة وقعت لأحد السادة الأجلاّء وقال له: (عليك بكريمة أهل البيت) مشيراً إلى هذه السيدة الجليلة، وسنذكر تفاصيلها في موضع آخر.







ولهذا اللقب دلالة بعيدة الغور على شأن فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فإنّ أهل البيت (عليهم السلام) قد جمعوا غرّ الفضائل والمناقب وجميل الصفات، ومن أبرز تلك الخصال الكرم، وقد عرّفوه بأنّه إيثار الغير بالخير ولا تستعمله العرب إلا في المحاسن الكثيرة، ولا يقال كريم حتى يظهر منه ذل(78). والكريم هو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل.







ومن ذلك يعلم أن للكرم معنى واسعاً لا ينحصر في بذل المال أو إقراء الضيف أو حسن الضيافة، فإنّها من مصاديق الكرم لإتمام معناه.







وعلى ضوء هذا المعنى الشامل للكرم يتجلّى لنا المراد من وصف أهل البيت (عليهم السلام) بأنّهم أكرم الناس على الإطلاق لما اشتملوا عليه من أنواع الخير والشرف والفضائل، وقد حفظ لنا التاريخ شيئاً من ذلك وحدّث به الرّواة.







كما يتجلّى لنا أيضاً اتصاف هذه السيدة الجليلة بأنّها كريمة أهل البيت (عليهم السلام).







وإنّ من أبرز مظاهر كرمها أن مثواها المقدس كان ولا يزال منبعاً للفيض، وملاذاً للناس، ومأمناً للعباد، ومستجاراً للخلق، وباباً من أبواب الرحمة الإلهية للقاصدين، وأنّ مدينة قم حيث تضمّ مرقدها الطاهر كانت ولا تزال حاضرة العلم، وحرم الأئمة وعش آل محمد (عليهم السلام) ومنفراً لأهل العلم من شتى بقاع الأرض، يتلقّون علوم أهل البيت (عليهم السلام) محتضنة كوكبة من العلماء والطلاب، ولا زالت هي والنجف الأشرف فرسي رهان تتسابقان في تخريج حملة العلوم على شتى مراتبهم، وسيوافيك عن ذلك حديث.







ففي وصف هذه السيدة الجليلة بأنّها كريمة أهل البيت دلالة على أنها ذات خير وبركة على الخلق، ولا سيما شيعة آل محمد واختصّ أهل قم منذ اللحظة التي تشرفت أرضهم بها أنهم لا يزالون ينعمون ببركاتها وخيراتها آناء الليل وأطراف النهار، ويعيشون في حماها ويتفيأون ظلالها في امتياز خاص بهم من دون أهل سائر المناطق الأخرى.















أسماء وألقاب أخرى







ذكر العلامة المتتبع الشيخ علي أكبر مهدي ‏پور في كتابه القيّم (كريمة أهل البيت عليهم السلام)(79)، أن لفاطمة المعصومة عدّة أسماء وألقاب غير ما ذكرنا، وردت في عدّة من المصادر، وهي:







1ـ الطاهرة 2ـ الحميدة 3ـ البرّة 4ـ الرشيدة 5ـ التقي 6ـ النقيّة 7ـ الرضية 8ـ المرضيّة 9ـ السيدة 10ـ أخت الرضا 11ـ الصدّيقة 12ـ سيدة نساء العالمين.







وسواء ثبتت هذه الألقاب والأسماء أو لم تثبت إلا أن من الواضح انطباق ما تضمنته من معان ودلالات على هذه السيدة الجليلة.







وقد أطلق أكثر هذه الأوصاف على أمّها فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولا سيما الأخير منها، فإنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، كما أطلق على السيدة مريم بنت عمران (عليها السلام)، وقيّد ـ كما في الروايات ـ بأن سيادتها على نساء العالمين إنّما هو خاصّ بنساء زمانها، ولذا ينبغي التخصيص في إطلاقه على فاطمة المعصومة (عليها السلام) أو يقال بالتخصص إذ من المعلوم أن مقام فاطمة الزهراء (عليها السلام) لا يرقى إليه أحد من النساء، فإنّها بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) وروحه التي بين جنبيه.







وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الألقاب الأخرى.







وعلى أي حال فإنّ في تسميتها بفاطمة ووصفها بالمعصومة وكريمة أهل البيت (عليهم السلام) وأنها صادرة من المعصومين دلالة على المقام الرفيع الذي بلغته سيدة عشّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله).















في رحاب العلم والمعرفة







عاشت السيدة فاطمة المعصومة مع أخيها الإمام الرضا (عليه السلام) أكثر من عشرين عاماً على أقل التقادير، إذا ما استبعدنا أن تكون ولادتها في سنة 183هـ، لأنها السنة التي استشهد فيها أبوها الإمام الكاظم (عليه السلام) في قول أكثر المؤرخين، وإلا فتكون المدة التي عاشتها السيدة فاطمة مع أخيها سبعة عشر عاماً، وذلك لأنّ انتقال الإمام الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو في خراسان كان سنة 200 هـ وكانت ولادته (عليه السلام) سنة 148هـ كما هو المشهور، وقيل في سنة 153هـ(80).







فعلى القول بأنّ ولادتها (عليها السلام) كانت سنة 179هـ يكون عمرها الشريف يوم رحلة أخيها من المدينة واحداً وعشرين عاماً، وعلى القول بأن ولادتها كانت سنة 173هـ كما رجّحه بعضهم يكون عمرها آنذاك سبعة وعشرين عاماً.







وعلى أي تقدير فقد عاشت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في كنف أخيها الرضا (عليه السلام) ورعايته مدّة من الزمن تمكّنها من تلقّي التربية والتعليم اللائقين بمقامها على يد أخ شقيق لم يكن في علمه ومقامه كسائر الناس، فهو الإمام المعصوم وهو المربّي والمعلم والكفيل.







وهذه المدة وإن لم تخل من مضايقات عانى منها الإمام الرضا (عليه السلام) الشدائد والمحن بعضها كان محصوراً في نطاق أسرته وأهل بيته، وهو ما لاقاه الإمام (عليه السلام) من بعض أخوته وعمومته حيث اعترض بعضهم على تفضيله وتمييزه عليهم، ولا نريد الولوج في تفاصيل هذا الموضوع الخاص خشية التعثّر في طريقه، على أنّه لا أثر يترتّب على الخوض في الحديث عنه.







وبعضها كان من بعض من كانوا في عداد شيعة أبيه حيث نجم قرن فتنة الواقفية الذين حليت الدنيا في أعينهم، فحاولوا قطع الطريق على الإمام الرضا (عليه السلام) وابتدعوا القول بأن الإمام الكاظم (عليه السلام) لم يمت، وأنّه غاب وسيعود، وفي طليعة هؤلاء علي بن أبي حمزة البطائني، زياد بن مروان القندي، وعثمان الرواس(81)، وأضرابهم من الذين أحدثوا هذه الفتنة وكانوا سبباً مباشراً وغير مباشر في تألم الإمام (عليه السلام) وإيذائه.







وبعضها كان من السلطة الحاكمة حيث كانت تتحرّش ـ بين حين وآخر ـ بالإمام وتوعز إلى جلاّديها بالهجوم على بيت الإمام كما سيأتي تفصيله.







أقول: إن هذه الفترة وإن لم تصفُ للإمام (عليه السلام) ولم تخلُ من المضايقات إلا أن من اليقين أن الإمام قام بدوره مربّياً ومعلّماً وراعياً وكفيلاً، وفي طليعة من ربّاهم الإمام (عليه السلام) وعلّمهم شقيقته السيدة فاطمة المعصومة، فأخذت عنه العلم والمعرفة والفضائل والمناقب، حتى غدت ذات شأن عند الله تعالى كما جاء في زيارتها (عليها السلام)، وأنّ شفاعتها كفيلة بإدخال الشيعة بأجمعهم إلى الجنة، كما تحدّث بذلك جدّها الإمام الصادق (عليه السلام).







والمصادر وإن لم تسعفنا بذكر شيء ممّا تلقّته الأخت من أخيها، وبماذا حدّثها، وكيفية حديثه إليها، إلا أن لدينا ما يكفي للكشف عن بلوغها مرتبة عالية من العلم والمعرفة والمقام، ومنه قول معلّمها ومربّيها الإمام الرضا (عليه السلام) إذ روي عنه أنه قال: من زار المعصومة بقم كان كمن زارني(82).







ولا يغيب عن بالنا أن القائل معصوم لا ينطق عن الهوى، وأنّ وراء هذه الجملة على قصرها ما يدلّ على المقام الرفيع في العلم وغيره، ولولا أن السيدة فاطمة المعصومة بلغت من المنزلة مكانة عظيمة لما كان الإمام (عليه السلام) يقول ذلك.







على أنّه هل من المعقول أن يقال في حقّها بأنّها معصومة ولا تكون قد بلغت من العلم مكانة يكشف لها الواقع على ما هو عليه، أليست العصمة تستلزم العلم والمعرفة؟







ومما يؤيّد ذلك ما نقله العلامة الشيخ علي أكبر مهدي ‏پور حكاية عن أحد الفضلاء عن المرحوم السيد أحمد المستنبط عن كتاب كشف اللئالي لابن العرندس الحلي، وحاصلها: أن جمعاً من الشيعة قصدوا بيت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) للتشرّف بلقائه والسلام عليه، فأخبروا أن الإمام (عليه السلام) خرج في سفر وكانت لديهم عدّة مسائل فكتبوها، وأعطوها للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ثم انصرفوا.







وفي اليوم التالي ـ وكانوا قد عزموا على الرحيل إلى وطنهم ـ مرّوا ببيت الإمام (عليه السلام)، ورأوا أن الإمام (عليه السلام) لم يعد من سفره بعد، ونظراً إلى أنّه لابدّ لهم أن يسافروا طلبوا مسائلهم على أن يقدموها للإمام (عليه السلام) في سفر آخر لهم للمدينة، فسلّمت السيدة فاطمة (عليها السلام) المسائل إليهم بعد أن كتبت أجوبتها، ولمّا رأوا ذلك فرحوا وخرجوا من المدينة قاصدين ديارهم.







وفي أثناء الطريق التقوا بالإمام الكاظم (عليه السلام) وهو في طريقه إلى المدينة، فحكوا له ما جرى لهم فطلب إليهم أن يروه تلك المسائل، فلمّا نظر في المسائل وأجوبتها، قال ثلاثاً: فداها أبوها.







فإن صحّت هذه الحكاية فهي تدلّ أولاً: على أن السيدة فاطمة المعصومة عاصرت أباها مدّة طويلة من الزّمن فيكون القول بأنّ ولادتها سنة 183هـ أو 179هـ غير صحيح قطعاً.







وثانياً: تدلّ على المقام العلمي الرفيع الذي بلغته السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، بل كما قال الشيخ مهدي ‏پور إنّه دليل على أنّها عالمة غير معلّمة، هذا مع التوجه إلى أنّها كانت صغيرة السن آنذاك(83).







ولئن لم يحفظ لنا التاريخ خصوصيّات ما تلقّته من العلم على أيدي أبيها وأخيها إلا أنه أبقى بين طياته نزراً من الروايات التي حدّثت بها هذه السيدة الجليلة.







ومما لا شك فيه أن علم الحديث من أجلّ العلوم وأشرفها، فهو العلم الجامع للتفسير والفقه والأخلاق والكلام وغيرها من سائر المعارف الدينية.







ويعود انتشار معارف الدين وبقاؤها إلى هذا العلم الجليل، وقد قام علماء الشيعة بمساندة أئمتهم (عليهم السلام) بتعاهد هذا العلم حفظاً وتنقية وتبويباً حتى وضعوا الموسوعات الروائية، واشتهرت بينهم جملة من الكتب أصبحت فيما بعد مرجعاً للشيعة يستقون منها معارفهم الدينية المختلفة، وعليها تدور رحى مباحثهم العلميّة، كالكتب الأربعة وغيرها من الكتب الكثيرة.







كما تعاهد علماء الشيعة بالبحث والتحقيق أسانيد تلك الأحاديث، ووضعهم الضوابط العلمية الرّصينة والمقاييس الدقيقة لمعرفة أحوال الرواة وطبقاتهم ومدى إمكان الاعتماد على رواياتهم وعدمه وانبثق عن ذلك علم آخر اقترن بعلم الحديث وهو علم الرجال، فوضع علماء الشيعة معاجم الرجال لدراسة أحوالهم من حيث الوثاقة وعدمها، واشتهار هذا العلم باسم الرجال لا يعني اختصاصه بهم ولا نصيب فيه للنساء، وإنما كانت التسمية مراعاة للغالب على من تمرّس في هذا العلم، وإلا فهناك من النساء اللائي بلغن مرتبة عالية في هذا العلم، ولم تغفل المعاجم التي تناولت أحوال الرواة عن ذكرهن والإشادة ببعضهن وبيان طبقاتهنّ من حيث سلسلة السند، حتى أنّ الأجلاء من رواة الحديث قد رووا عن بعضهنّ، وفي طليعة أولئك النسوة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).







ولكن ممّا يثير الغرابة أن لا نجد ترجمة لهذه السيدة الجليلة والمحدثة العظيمة في المعاجم التي عنيت بضبط أسماء الرواة، ولذا ذكرها الشيخ النمازي في مستدركاته مشيراً إلى المواضع التي ذكرت فيه من كتب البحار(84) فقط، مع أنّ أصحاب هذه المعاجم قد ذكروا نساءً أقل شهرة منها، وربّما أقل حديثاً، ولم ندر ما هو الوجه في ذلك؟







وعلى أي حال فقد كانت هذه السيدة الجليلة من المحدّثات، وورد ذكرها في أسانيد رواها العامّة فضلاً عن الخاصّة، منها ما ورد في كتاب المسلسلات لأبي محمد جعفر بن أحمد بن علي القمي، قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسين، قال: حدّثني أحمد بن زياد، قال: حدّثني أبو القاسم جعفر بن محمد العلوي العريضي، قال: قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن خليل، قال: أخبرني علي بن محمد بن جعفر الأهوازي، قال: حدّثني بكير بن أحنف، قال: حدّثتنا فاطمة بنت علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قالت: حدّثتني فاطمة، وزينب، وأم كلثوم بنات موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قلن: حدّثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمد (عليه السلام)، قالت: حدّثتني فاطمة بنت محمد بن علي (عليه السلام)، قالت: حدّثتني فاطمة بنت علي بن الحسين، قالت: حدّثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي (عليه السلام)، عن أم كلثوم بنت عليه (عليه السلام)، عن فاطمة بنت رسول الله، قالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من درّة بيضاء مجوّفة، وعليها باب مكلّل بالدرّ والياقوت، وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي وليّ القوم، وإذا مكتوب على الستر بخ بخ من مثل شيعة علي (عليه السلام)، فدخلته، فإذا أنا بقصر من عقيق أحمر مجوّف، وعليه باب من فضّة مكلّل بالزبرجد الأخضر، وإذا على الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: محمد رسول الله، علي وصي المصطفى، وإذا على الستر مكتوب: بشّر شيعة علي بطيب المولد، فدخلته، فإذا أنا بقصر من زمرّد أخضر مجوّف لم أر أحسن منه، وعليه باب من ياقوتة حمراء مكلّلة باللّؤلؤ، وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر: شيعة علي هم الفائزون، فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذا؟ فقال: يا محمد لابن عمّك ووصيّك علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحشر الناس كلّهم يوم القيامة حفاة عراة إلا شيعة علي (عليه السلام)، ويدعى الناس بأسماء أمّهاتهم إلا شيعة علي (عليه السلام)، فإنّهم يدعون بأسماء آبائهم، فقلت: حبيبي جبرئيل وكيف ذاك؟ قال: لأنّهم أحبّوا عليّاً فطاب مولدهم(85).







ومنها: ما رواه محمد الجزري في أسنى المطالب بإسناده عن علي بن محمد بن جعفر الأهوازي، مولى الرشيد، عن بكر بن أحمد القصري، عن الفواطم، عن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قالت: أنسيتم قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعليّ مولاه؟ وقوله (صلّى الله عليه وآله): أنت منّي بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام)(86).







وقد عرف هذا النحو من الإسناد بالمسلسل، وهو فن من فنون الضبط وضرب من ضروب المحافظة، وفيه فضل للحديث من حيث الاشتمال على مزيد ضبط الرواة(87) وعرّفه المحق الدّاماد بأنّه هو ما تتابع فيه رجال الإسناد عند روايته على قول كسمعت فلاناً يقول: سمعت فلاناً.. أو أخبرنا فلان والله، قال: أخبرنا فلان والله، إلى آخر الإسناد(88). وذكر أكثر من خمسة عشر نحواً من أنحاء تتابع الرواة عند رواية الحديث.







على أن هذين السندين عن فاطمة (عليها السلام) مسلسلان من وجه آخر وهو أن كل واحدة من الفواطم تروي عن عمّة لها، فهو رواية خمس بنات أخ، كل واحدة منهنّ عن عمّتها.







هذا وهناك روايات أخرى كانت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في أسنادها وبعضها مسلسلة على النحو المتقدم.







وخلاصة القول أن هذه السيدة الجليلة نالت قسطاً وافراً من العلم والمعرفة، قد تلقته من معدنه الصافي، وأخذته من منبعه العذب، حتى غدت ذات شأن ومقام وإن لم يصلنا منه إلا النّزر اليسير.















المكانة الاجتماعية والشأن الرّفيع







لما كان أهل البيت (عليهم السلام) يمثّلون الفطرة السليمة في أنقى حالاتها، والفضيلة في أجلى معانيه وقد اجتمعت فيهم الكمالات البشرية المختلفة، وأحاطتهم العناية الإلهية في جميع أحوالهم وشؤونهم، وتقرّر أن الإنسان بطبعه عاشق للكمال والفضيلة، فمن الطبيعي جدّاً أن تهفو القلوب نحوهم، وتميل النفوس إليهم، من دون سائر البشر.







وقد ورد في الروايات أن ذلك دعوة إبراهيم (عليه السلام)، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم)(89)، أنّ المراد هم أهل البيت (عليهم السلام) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): والأفئدة من الناس تهوي إلينا، وذلك دعوة إبراهيم (عليه السلام)(90). وقال الإمام الباقر (عليه السلام): فنحن والله دعوة إبراهيم (عليه السلام) التي من هوانا قلبه قبلت حجّته، وإلا فلا(91).







نعم قد تتلوّث بعض النفوس ويتكدّر صفاؤها نتيجة لعوامل متعدّدة فتضلّ الطريق، ولكن تبقى في أعماقها ميّالة إليهم راغبة فيهم، وإن كانت في ظاهر الأمر ضدّهم، وهذا ما قد كشف عنه الفرزدق الشاعر المشهور، حين لقيه الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه إلى كربلاء، وسأله عن الناس خلفه، فقال له: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك(92).







وأما أولئك الذين انحرفت ذواتهم وخبثت أصولهم فهم في طريق آخر، ولذلك وردت عدة روايات تؤكد هذه الحقيقة، منها: ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: من فارق عليّاً فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عزّ وجلّ(93). وقال (صلّى الله عليه وآله): يا علي لو لولاك لما عرف المؤمنون بعدي(94). وقال (صلّى الله عليه وآله) يخاطب علياً: ما سلكت طريقاً ولا فجاً إلا سلك الشيطان غير طريقك وفجّك(95).







وجاء في التفسير عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: إنّ أبانا إبراهيم (صلوات الله عليه) كان فيما اشترط على ربّه أن قال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(96). أما إنه لم يعن الناس كلّهم، أنتم أولئك ونظراؤكم، وإنّما مثلكم في الناس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو مثل الشعرة السوداء في الثور الأبيض(97).







وغيرها من الشواهد الكثيرة. وقد تقدّم في الحديث المروي عن السيدة فاطمة (عليها السلام) أن حبّ علي (عليه السلام) عنوان طيب الولادة.







والحقيقة الثابتة أن أهل البيت (عليهم السلام) حيث جمعوا الفضائل والمناقب والكمالات كانت لهم السيادة على النفوس. والمحبة في القلوب، واحتلّوا موقع الصدارة بين الناس من دون فرق بين رجالهم ونسائهم، فكان رجالهم خير الرجال، ونساؤهم خير النساء، وعلى هذا فلا شك أن تكون للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) منزلتها الخاصّة، ومكانتها العالية، ولذا كان لها عند الله شأن من الشأن فضلاً عن شانها عن الناس.







وقد كان لها (عليها السلام) بأخيها الإمام الرضا (عليه السلام) صلة خاصّة قلّ نظيرها كما كشفت عنها الروايات والأحداث وسيأتي منها ما يدلّ على ذلك.







وإنّ من أهمّ أسباب بلوغها هذا المقام الشامخ علمها ومعرفتها بمقام الإمامة والإمام، وقد كان إمام زمانها شقيقها الإمام الرضا (عليه السلام) الذي تولّى تربيتها فعلى يديه نشأت، وعنه أخذت، وتحت إشرافه ونظره ترعرعت، وبأخلاقه وآدابه سمعت وتكاملت.







ولذا تميّزت الصّلة بينهما بحيث أصبحت تعرّف نفسها بأنّها أخت الرضا (عليه السلام) كما سيأتي.







وهما وإن كانا ينحدران من أب واحد وأمّ واحدة وذلك أحد أسباب شدّة الصّلة بينهما إلا أن السّبب الأقوى والأتم هو علمها بمقام أخيها وإمامته، إذ أن الرّابطة النسبية تصبح ـ حينئذ ـ عاملاً ثانويّاً بالقياس إلى العلم والمعرفة.







هذا، وقد نوّه الأئمة (عليهم السلام) بمكانتها ومنزلتها قبل ولادتها، وبعد أن ولدت وتوفيت.







روي عن عدّة من أهل الرّي أنّهم دخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام)، وقالوا: نحن من أهل الرّي، فقال (عليه السلام): مرحباً بإخواننا من أهل قم، فقالوا: نحن من أهل الري، فأعاد الكلام، قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجاب به أولاً، فقال (عليه السلام): إن لله حرماً وهو مكّة، وإن لرسول الله حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنّة.







قال الراوي: وكان هذا الكلام منه (عليه السلام) قبل أن يولد الكاظم.(98)







وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ألا إن لله حرماً وهو مكّة ألا أن لرسول الله حرماً وهو المدينة، ألا إنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا إنّ حرمي وحرم ولدي بعدي قم، إلا إنّ قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي، واسمها فاطمة بنت موسى، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنّة بأجمعهم.(99)







وفي رواية أن الإمام الرضا (عليه السلام) قال لسعد الأشعري القمي: يا سعد عندكم لنا قبر، قلت له: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى (عليه السلام)، قال: نعم، من زاره عارفاً بحقّها فله الجنّة.(100)







وروى الصدوق في العيون بسنده عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فقال: من زاره فله الجنّة.(101)







وغيرها من الروايات حتى قال المحدث القمي: والروايات بهذا المضمون كثيرة.(102)







وسيأتي الحديث عن زيارتها، وإنّما ذكرنا هذه الروايات في المقام لبيان ما لها من منزلة عند الأئمة (عليهم السلام) حيث أشاد ثلاثة من المعصومين (عليهم السلام) بذلك.















لماذا لم تتزوج السيدة المعصومة؟







ثم إنّ هناك أمراً لابدّ من البحث حوله وله صلة وثيقة بما نحن فيه، إذ له مدخلية في مكانتها الاجتماعية، ومنزلتها بين الناس، ذلكم هو عدم زواج السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).







والمستفاد من جملة الروايات أن بنات الإمام الكاظم (عليه السلام) وعددهن إحدى وعشرون بنتاً لم تتزوج منهنّ واحدة.







ونقل المحدث القمي عن تاريخ قم ما حاصله: أنّ هذا كان سائراً في بنات الرضائيّة.(103)







وهذا أمر مثير للتساؤل، ولا سيّما مع ملاحظة أن ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) من الحثّ على التناكح والترغيب فيه، وأنّ به إكمال ثلث الدين أو نصفه أو ثلثيه، فيا ترى ما هي الأسباب المانعة عن هذا الأمر في حق بنات الإمام الكاظم (عليه السلام)؟







وينبغي أن نؤكّد قبل كل شيء على أنّ عدم اقتران واحدة من بنات الإمام الكاظم (عليه السلام) بزوج ـ ولا سيّما السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ـ لم يكن عن عيب مانع في الخلق أو الخُلق، وقد مرّ علينا أنها كانت جليلة القدر ذات شأن عظيم، ومنزلة كبيرة، على أن هذا الأمر لم تنفرد به وحدها من دون سائر أخواتها، فلابدّ أن يكون المانع أمراً آخر، وهذا ما نسعى للبحث حوله بمقدار ما يسعفنا به ما ورد حول هذه القضية من الروايات.







ومن الضروري أن نلتفت قبل ذلك إلى أنّ هذا الأمر يعدّ من الشؤون الخاصّة التي هي أشبه شيء بالأسرار العائلية والأسريّة كغيرها من الخصوصيّات التي لا تكون معرضاً عامّاً لعامة الناس لإبداء أنظارهم فيها، وإنّما ساغ للباحث أن يتناول بعض الشؤون بالدراسة والتحليل لأنّ أهل البيت (عليهم السلام) يمثّلون القدوة الصّالحة التي ترشد الإنسان إلى طريق الحق والهداية، وقد صدرت الأوامر الإلهية والنبويّة بالإقتداء بهم، والسير على خطاهم، واقتفاء آثارهم، فإنّهم لا يخرجون الناس من باب هدى ولا يدلونهم في باب ضلالة.







ولعلّ السبب في قلّة الروايات الواردة في هذا الشأن خصوصيّة هذه القضيّة، وأنّها لا تعني سائر الناس وكونها من شؤونهم (عليهم السلام) الخاصّة بهم دون سواهم، كما لعلّه أيضاً لعدم اهتمام المؤرخين بهذه الناحية كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم.







ولكن لمّا كان في هذه القضية معصوم فلابدّ أن يكون الفعل معصوماً موافقاً لمقتضى الحكمة، وعلى طبق الموازين الإلهية سواء حالفنا التوفيق فأدركنا السبب أو أخفقنا فلم ندركه.







ثم إنّه بدراسة الواقع الاجتماعي والسياسي والظروف المحيطة بأهل البيت (عليهم السلام) آنذاك قد نتمكّن من إعطاء صورة تقريبيّة عن الأسباب الكامنة وراء هذه القضيّة فنقول:







أولاً: إنّ نظرة سريعة إلى تاريخ حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) تدلّ على أنّ تلك الفترة كانت تتسم بالتوتر والتوجس والرهبة والخوف، فبرغم ما عاناه الإمام الصادق (عليه السلام) من حكّام بني العباس وقد فرضوا عليه الحصار وتشدّدوا في عزله عن شيعته، وحاولوا بشتّى الوسائل اصطناع شخصيات مناوئة، للحيلولة دون انتشار فكر أهل البيت (عليهم السلام)، وبرغم حملات الإبادة التي تعرّض لها العلويون من قتل وسجن وتشريد. وهم ـ العباسيون ـ وإن نجحوا إلى حدّ ما في تفتيت البنية الظاهرية لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وألجئ الأئمة (عليهم السلام) إلى التقية في كثير من أحوالهم وشؤونهم على ما هو مذكور في كتب الفقه إلا أن فكر أهل البيت (عليهم السلام) بقي حيّاً زاخراً بالعطاء، الأمر الذي يدلّ دلالة قاطعة على أن العناية الإلهية تحوطه وترعاه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) على تمام الحيطة والحذر، يحبط كثيراً من مخططاتهم بأساليبه الحكيمة، حتى إذا استشهد الإمام الصادق (عليه السلام) وقع الاضطراب الشديد في صفوف الشيعة، وقد ذكرنا في مطلع هذا البحث شيئاً من ذلك، وممّا زاد الأوضاع وخامةً ظهور الدعاوى الكاذبة التي ساعدت على زيادة ضغط السلطة على كل من ينتمي لأهل البيت (عليهم السلام) في الفكر والعقيدة. وكادت معالم التشيع أن تنطمس لولا ظهور الإمام الكاظم (عليه السلام) في الوقت المناسب مع حراجة الظروف وخطورتها.







فكانت الفترة التي عاشها الإمام الكاظم (عليه السلام) من أشدّ الفترات صعوبة، ولا سيّما في عهد الرّشيد العباسي الذي كان على معرفة بأنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) هو صاحب الحقّ الشّرعي، وأنّ الشيعة لا ترضى بغيره بدلاً.







وإنّ أشدّ ما يقضّ مضجع الحاكم ويؤرّق حياته أن يرى أحداً ينافسه على السطلان، فهو إذ ذاك لا يقرّ له قرار، ولا يهنأ له عيش، ولا يشعر بالأمان حتى يفتك بخصمه أيّاً كان.







ولم يدر هؤلاء الحكّام أن سلطان أهل البيت (عليهم السلام) إنّما هو على القلوب والأرواح، فما عهد عن أحد من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه سعى للسلطة وتولّى الحكم أو حمل سلاحاً أو نظم جيشاً ليقلب نظاماً على صاحبه أيّاً كان، حتى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أنّه كان الإمام والحاكم وقد نصبه النبي خليفة على الأمة لم يطمع في الولاية يوم استأثر بها القوم، وحملوه على قبول ولايتهم قسراً، واعتزلهم وما يفعلون، ولمّا قتل عثمان جاءوا يسعون إليه وبايعوه عن طواعية واختيار، وسعى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسوسهم بالعدل والحكمة، ويسير فهيم بسيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) ويحملهم على المحجّة البيضاء، فلم يرق لهم ذلك، فنقضوا بيعته، وحاربوه، وكان أول من نقض البيعة وأول من حاربه هو أول من بايعه ونادى بخلافته.







إنّ أولئك الحكّام يحسبون أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كأنفسهم، حيث يجد الحكام أنفسهم ذوي أطماع في الحكم والسلطان، وإن أشادوا حكمهم على أشلاء الضحايا وبنوا قصورهم على أجساد الأبرياء، وسقوا أساس ملكهم بدماء المظلومين.







وعلى أي حال فقد كان عصر الإمام الكاظم (عليه السلام) عصر خوف واضطراب، وقد أحكمت السلطة قبضتها على زمام الأمر فأخمدت الأنفاس، وكتمت الأصوات، وسفكت الدماء، وضاقت السجون وتفرّق الرّجال.







ولم يكن الذي يجري إلا على أهل البيت وشيعتهم وفي طليعة أهل البيت (عليهم السلام) الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).







ولك أن تتصور حالات الذعر والفزع والاضطراب التي مني بها أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، رجالاً ونساءً وعلى مختلف الأصعدة.







ونحن إذ نستفظع ما نقرأ، ونرتاع لما نتلوا من صحف صبغها المجرمون بدماء المظلومين، فما ظنّك بمن قاسى أهوال المآسي وفوادح الخطوب.







والناس آنذاك إزاء ما يجري على أهل البيت (عليهم السلام) بين من أصبح آلة في أيدي الظالمين يحقّقون به أغراضهم، ويتوصلون به إلى أهدافهم، ويحقّق بهم مطامعه، وبين من أرعبه الخوف والهلع فانطوى على نفسه، وتوارى وراء التقية خوفاً على نفسه وعرضه وماله، وبين من لا يعنيه من الأمر شيء فلم يبال بما يجري من أحداث.







ثانياً: إن ممّا تقرر في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أن العصمة الخاصّة ـ في هذه الأمة ـ منحصرة في النبي (صلّى الله عليه وآله) والصديقة الزهراء (عليها السلام) والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) دون سواهم، وقد قامت الأدلّة العقلية والنقلية على ذلك، ممّا هو مبثوث في الكتب الكلامية، وقد أحلنا القارئ العزيز على بعض المصادر فيما تقدّم.







ولئن استفيد من بعض الأدلة أو القرائن عصمة بعض الأفراد من أهل البيت (عليهم السلام) كأبي الفضل العباس، وعلي الأكبر، والسيدة زينب بنت أمير المؤمنين، والسيدة فاطمة المعصومة (عليهم السلام)، فليس المراد بعصمة هؤلاء هي تلك العصمة الخاصّة اللاّزمة، وإنّما المراد أنّهم بلغوا مرتبة عالية من الكمال لم ينلها سائر الناس. على ما بيّناه فيما سبق.







وعلى هذا فما عدا هؤلاء من سائر أفراد أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا بمعصومين بمعنى أنه لا يصدر عنهم خطأ أو اشتباه عن تعمّد كان أو عن سهو، وإن نالوا شرف الأصل والنسبة، إذ ليس من البعيد أن يصدر من بعضهم ما لا يليق صدوره من مثلهم من الهفوات والأخطاء الكبيرة أو الصغيرة التي عانى منها الأئمة (عليهم السلام) في كثير من القضايا والأمور.







وقد عانى الإمام الكاظم (عليه السلام) من بعض إخوانه كما عانى آباؤه عن بعض بني عمومته من قبل، وهكذا بقية الأئمة (عليهم السلام) على ما تكفّلت ببيانه الروايات وكتب التراجم.







ولولا أن الأئمة (عليهما السلام) كانوا يعالجون هذه القضايا بالحكمة، ورحابة الصدر، وبعد النظر، والصّبر والتحمّل لكان للصورة وجه آخر، وقد وعدنا بعدم الخوض في تفاصيل ذلك، ونكتفي بهذه الإشارة.







وهذا هو أحد الامتيازات والفوارق بين المعصوم وغيره، وإن كان هذا الغير ـ ينحدر في نسبه ـ من أهل البيت (عليهم السلام).







وثالثاً: إن حكومة بني العباس في نظر الأئمة (عليهم السلام) لم تكن حكومة شرعيّة، ولم تحظ بالتأييد والمساندة منهم (عليهم السلام)، بل كانوا يظهرون لبعض خواصّهم من له علاقة بالسلطة الحاكمة عدم مشروعيّة العمل للحكام والتحذير من الدخول في ولاياتهم، أو السعي في قضاء حوائجهم، وإن كان العمل بحسب الظاهر في نفسه بعيداً عن جرائمهم ومخازيهم، ويرى الإمام (عليه السلام) أن إسداء أي خدمة لهم مهما كانت، مشاركة لهم في الجريمة، كما يكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين الإمام الكاظم (عليه السلام) وبين صفوان بن مهران الجمال، الذي روى ما جرى فقال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام)، فقال لي: يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً، وقلت: جعلت فداك أي شيء؟







قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ قلت: والله ما أكريته أشراً، ولا بطراً، ولا للصّيد، ولا للّهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاّه، ولكن أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النار، فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني، وقال: يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك، قلت: نعم. فقال: لم؟ قلت: أنا شيخ كبير، وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال: هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر. قلت: ما لي ولموسى بن جعفر. فقال: دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك.(104)







إن هذا الموقف الصارم وأمثاله من الإمام (عليه السلام) لم يدع مجالاً للحاكم أن يشعر بالاستقرار، إذ يرى أن الخطر يتهدّد سلطانه، ويزعزع أركان وجوده، وينذره بالزوال.







وهذه السلبية التي انتهجها الإمام (عليه السلام) إزاء حكومة هارون الرشيد أظهرت كثيراً من الحقائق الخفيّة على الناس، وجعلت الحاكم يزداد في تماديه وضلاله، فيرتكب من الجرائم ما هو أبشع، ومن المنكرات ما هو أفظع، ويظهر حقيقته التي كان يسترها وراء بعض المظاهر الدينية التي قد ينخدع بها بعض من قصرت بصيرته عن إدراك الحقيقة، فقد ظن صفوان أن عمله مشروع، لأنّه يكري جماله في طريق الحجر، وهو أمر منفصل لا علاقة له بما يمارسه هارون الرشيد من اللّهو واللّعب والمحرّمات، ولكنّ الإمام (عليه السلام) أوقفه على الحقيقة، وبيّن له أنّ البصير ينبغي أن لا ينخدع بمظهر زائف، وأن لا يكون مطيّة يحقّق بها الظالم أغراضه.







وقد تنبّه لذلك فاتّخذ إجراءً حاسماً، فباع جماله وتخلّى عن مهنته، وأدرك هارون الرشيد السّر وراء ذلك، ولولا شفاعة حسن صحبة صفوان لكان في عداد الضحايا.







ولا شك أن هذه الحادثة وأمثالها تركت هارون الرشيد يتميّز من الغيظ، ويبحث عن أساليب أخرى يكيد بها الإمام (عليه السلام).







وأما إذنه (عليه السلام) لعلي بن يقطين في تولّي منصب الوزارة لهارون الرشيد ورغبته (عليه السلام) في بقائه في الوزارة فليس ذلك نقضاً لهذا الموقف، وذلك لأنّ الوزارة منصب عام يرتبط بعامّة الناس، وله صلاحيّات واسعة يستطيع علي بن يقطين من خلالها أن يؤدي خدمات كبيرة للشّيعة على مختلف طبقاتهم ودفع الأخطار عنهم، ومع أنّ هذا المنصب حسّاس جدّاً وقد استأذن ابن يقطين الإمام (عليه السلام) في الاستعفاء من هذا المنصب، إلا أن الإمام (عليه السلام) رغب في بقائه لحماية الشيعة(105)، وتكفّل له بالرعاية والتسديد في مواطن الخطر. وقد أنقذه الإمام (عليه السلام) في مواضع كثيرة كاد أن يتورّط فيها علي بن يقطين، على أنّه كان من الجلالة والاستقامة والمعرفة بالحق ما يؤمن منه الانحراف أو تلتبس عليه الأمور.







وأما صفوان بن مهران فلم يكن عمله بهذه المثابة، بل كان خدمة خالصة لهارون الرشيد والجهاز الحاكم، وليس فيها إلا التأييد والمساندة لحكومة بني العباس، من دون أن يكون فيها نفع يذكر لغيرهم، ولذلك لم يمنعه الإمام (عليه السلام) من التخلّي عن هذا العمل في حين أمر ابن يقطين بالبقاء، فلا تنافي بين الأمرين.







رابعاً: إن من أهم الركائز التي اعتمدت عليها سياسة الحكّام منذ اليوم الذي استولوا فيه على مقام الزّعامة واغتصبوا فيه منصب الخلافة، هو السعي لإبقاء أصحاب الحقّ الشرعي في عوز وفاقة، كسراً لشوكتهم وتقليصاً لشأنهم، وحدّاً من قدراتهم وإمكانياتهم، وإظهارهم للناس بأنّهم ليسوا ممّن يطمع فيهم، أو يرغب في صحبتهم أو حملهم على الاستجداء والخنوع.







ومن المعلوم أن الناس أبناء الدنيا وعبيد الدرهم والدينار، إلا ما قلّ وندر، وكان ذلك أحد العوامل التي ساهمت في انحسار أغلب الناس وتخلّيهم عنهم بل والتنكّر لهم (عليهم السلام).







وقد اتخذ الحكّام عدّة إجراءات للحيلولة دون تمكّن أهل البيت (عليهم السلام) من الإنفاق بما يتناسب مع شأنهم فصادروا فدكاً(106) من أصحابها ومنعوهم الحقّ الشرعي الذي افترضه الله على عباده بنص القرآن وهو الخمس، ومنعوهم عطاءاتهم، واستولوا على بعض ممتلكاتهم، واستمرّت هذه السياسة جارية في بني أمية وبني العباس، حتى بلغ الأمر أنه إذا ما تناهى إلى أسماعهم أنّ أحداً أعطى خمسه للإمام (عليه السلام) فإنّهم ينكّلون به أشد التنكيل، وكانت الرّصد والعيون التي جنّدها الحكّام على الأئمة (عليهم السلام) ترقب عليهم كلّ تصرف.







وكان قسم كبير من تلك الأموال التي استولى عليها الظالمون غصباً وعدواناً يبذل لأولئك الذين يتزلّفون للحكّام من الشعراء الذين اتخذوا من هجاء النبي (صلّى الله عليه وآله) وعترته ذريعة لنيل الأموال والحصول عليها، كأبان بن عبد الحميد، ومروان بن أبي حفصة، وأضرابهما ممن طبع على قلوبهم وباع دينه بدنياه.(107)







وأما القسم الآخر ـ من الأموال ـ فكان يبذل على الفسوق والفجور، والفساد، ممّا حفلت بذكره كتب التاريخ(108).







وبقيت الأمة ولا سيّما أهل البيت (عليهم السلام) يرزحون تحت وطأة القهر والحرمان.







وقد اعترف هارون الرشيد بذلك، كما جاء في حواره مع ولده المأمون لمّا اعترض على أبيه لقلّة ما أعطى الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) في حين أنّه ضمن له أن يعطيه الكثير.







قال المأمون: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطيّة أعطيتها أحداً من النسا، فثار هارون وصاح في وجهه قائلاً: اسكت لا أمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم.(109)







وخامساً: إنّه برغم ما كان يمارسه حكّام بني العاس من سياسة البطش والقهر، والحرمان والإبادة والتشريد، إلا أن الأئمة (عليهم السلام) ما كانوا ليتنازلون عن منصب الإمامة والولاية فإنّه حق إلهي لهم من دون سائر الناس بل كانوا يقفون مواقف التحدّي للحكّام ويمارسون دورهم في حدود ما تسمح به الظروف المحيطة بهم وبشيعتهم، وكان الإمام السابق ينصّ على إمامة اللاحق في جمع من خواصّ الشيعة، ويؤكدون على ذلك بين حين وآخر، ويبيّنون لشيعتهم الأحكام والمعارف وإن كانت على خلاف ما عليه الحكّام وأذنابهم.







وبعبارة أخرى: كان الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم في معزل عن السلطة في الفكر والعقيدة والسلوك على نحو الاستقلال التام، مع علمهم بأنّ الحكام لهم ولشيعتهم بالمرصاد.







ونستفيد ذلك من المواقف الصّريحة التي يواجه الإمام (عليه السلام) بها رأس السلطة الحاكمة.







فقد ذكر الرواة أن هارون سأل الإمام (عليه السلام) عن فدك ليرجعها إليه، فأبى الإمام (عليه السلام) أن يأخذها إلا بحدودها، فقال الرشيد: ما حدودها؟ فقال (عليه السلام): إن حددتها لم تردّها. فأصرّ هارون عليه أن يبيّنها له قائلاً: بحقّ جدّك إلا فعلت. ولم يجد الإمام بدّاً من إجابته فقال له: أمّا الحدّ الأول فعدن، فلمّا سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهه، واستمر الإمام (عليه السلام) في بيانه قائلاً: والحدّ الثاني سمرقند، والحدّ الثالث أفريقيا، والحدّ الرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية، فثار الرشيد وقال: لم يبق لنا شيء. فقال (عليه السلام): قد علمت أنك لا تردّها.(110)







وفي هذا الحوار موقف الإمام الصّريح وبيان أحقيّته بالخلافة، ومن الطبيعي أن يترك ذلك الحوار أثراً في نفس هارون حيث يرى نفسه غاصباً ليس له من الأمر شيء.







ونظير هذا الموقف موقف آخر للإمام (عليه السلام) مع هارون لمّا أراد (عليه السلام) أن يبيّن شدّة صلته وقربه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد سأله هارون: لم قلت: إنّك أقرب إلى رسول الله منّا؟ فقال (عليه السلام): لو بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّاً، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ فقال هارون: سبحان الله وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.







فقال (عليه السلام): لكنّه لا يخطب منّي ولا أزوّجه لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم، ثم قال (عليه السلام): هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهنّ مكشّفات؟ فقال هارون: لا، فقال الإمام: لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب إليه منكم.(111)







وقد اعترف هارون بأحقيّة الإمام (عليه السلام) حين أخذته هيبة الإمام (عليه السلام) ولم ير بدّاً من إظهار احترامه وإجلاله، الأمر الذي أثار ابنه المأمون فدفعه للسؤال قائلاً: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الرّكاب له؟ فقال هارون: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده، قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بني إنّه لأحقّ بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منّي ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم.(112).







وهكذا كان الأئمة (عليهم السلام) مع الحكّام في كل عصر من عصورهم، فلم يكن أحد من الأئمة (عليهم السلام) ليتخلّى عن منصب الإمامة مهما كانت الظروف، ولئن لم يتمكّن الأئمة (عليهم السلام) من ممارسة أدوارهم في الظاهر إلا أنّهم قاموا بوظيفتهم في الواقع، وإذا كان ثمّة تقصير فهو من الناس حيث ضلّوا الطرق فتاهوا، لا من الأئمة (عليهم السلام)، وقد فاز بذلك شيعة أهل البيت (عليهم السلام) فساروا في ركاب أئمّتهم، وركبوا في سفينتهم والعاقبة للمتقين.







ولا شك أن هذا الموقف الصارم من الأئمة (عليهم السلام) في مسألة الإمامة يجعل ردّة الفعل من قبل الحكّام عنيفة جدّاً، بحيث تصبح حياة الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم مهدّدة بالأخطار ولا ينافي ذلك أمر التقيّة، لأنّها إنما تسوغ في بعض المواطن وليس هذا منها.







وبعد هذا كله نقول: جاء في وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لابنه الإمام الرضا (عليه السلام) بما يتعلّق بهذا الموضوع أنّه (عليه السلام) قال: وإنّي قد أوصيت إلى عليّ وبنيّ بعدُ معه، إن شاء وآنس منهم رشداً، وأحبّ أن يقرّبهم فذاك له، ولا أمر لهم معه.. وإلى علي أمر نسائي دونهم.. وإن أراد رجل منهم أن يزوّج أخته فليس له أن يزوّجها إلا بإذنه وأمره، فإنّه أعرف بمناكح قومه.. وأمهات أولادي من أقامت منهنّ في منزلها وحجابها فلها ما كان يجري عليها في حياتي، إن رأى ذلك، ومن خرجت منهنّ إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي، إلا أن يرى علي غير ذلك، وبناتي بمثل ذلك، ولا يزوّج بناتي أحد من أخوتهنّ من أمهاتهن، ولا سلطان ولا عمّ إلا برأيه ومشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوّج زوّج، وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهنّ بمثل ما ذكرت في كتابي هذا، وجعلت الله عزّ وجلّ عليهنّ شهيداً.(113)







ويستفاد منها أن الأمر حساس وخطير، وهو يتطلّب بصيرة نافذة، ومعرفة تامّة بمداخل القضايا ومخارجها، ولذلك أوكل أمر زواج بناته (عليه السلام) إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وهو المعصوم العالم بحقائق الأمور، وكان الظروف ظرف محنة وابتلاء كما يدل عليه حديث الإمام الكاظم (عليه السلام) ليزيد بن سليط الزيدي حيث قال: ثم قال لي أبو إبراهيم (عليه السلام): إني راحل في هذه السنة، والأمر هو إلى ابني علي، سميّ علي وعلي، فأمّا علي الأول فعلي بن أبي طالب، وأمّا الآخر فعلي بن الحسين (عليه السلام)، أُعطي فَهْمَ الأول وحلمه ونصره وودّه ودينه ومحنة الآخر وصبره على ما يكره..(114)







وليس في هذه الوصية ما يدلّ على المنع من التزويج، وإنّما تدل على أن الأمر إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، فهو الأعرف بمناكح قومه، وهو الأعلم بأحوال زمانه.







فما ذكره اليعقوبي في تاريخه(155) من أن الإمام (عليه السلام) أوصى بعدم تزويج بناته فإن كان مستنده هو وصيّة الإمام (عليه السلام) التي ذكرناها فقد أخطأ في الاستنتاج، وإن كان غيرها فلم نقف عليه، ولا نستبعد أنّه قد التبس عليه الأمر وفهم من الوصيّة أنّ الإمام قد منع من تزويج بناته، وليس الأمر كذلك.







ثم إنه من خلال ما تقدّم ذكره من الأمور الخمسة يمكننا استفادة السبب وراء عدم زواج بنات الإمام الكاظم (عليه السلام).







والذي يترجح من جميع ذلك أن السبب أمران أحدهما يكمل الآخر، وهما:







الأول: عدم وجود الكفء.







والثاني: الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمام (عليه السلام).







أما الأول فإن الفقهاء وإن اختلفوا في تحديد معنى الكفاءة، ولهم في ذلك أقوال وآراء ذكرها صاحب الجواهر(116) وغيره إلا أنّهم اتفقوا على أن المؤمن كفء المؤمنة.







وقد روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض.(117)







وخلافهم إنّما هو في زواج المرأة الشريفة ممن هو أدنى منها، وأمّا العكس فلا خوف بينهم في جوازه، على أنّ الخلاف في ذلك ممّا لا يعتدّ به، كما صرّ به صاحب الجواهر حيث قال: وكيف كان فلا إشكال ولا خلاف معتدّ به في أنّه (يجوز) عندنا (إنكاح الحرّة العبد، والعربيّة العجميّ، والهاشمية غير الهاشمي، وبالعكس، وكذا أرباب الصّنائع الدنيّة) كالكنّاس والحجّام وغيرهما (بذات الدين) من العلم والصلاح (والبيوتات) وغيرهم، لعموم الأدلة، وخصوص ما جاء في تزويج جويبر الدلفاء، ومنجح بن رباح مولى علي بن الحسين (عليهما السلام) بنت ابن أبي رافع.(118)







والحاصل إجمالاً: أنّ سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) كانت على ذلك، مضافاً إلى الروايات الكثيرة الواردة عنهم (عليهم السلام) الدالة على الجواز. نعم اختصّت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بهذا الشأن من دون سائر النساء، فقد روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: إنّما أنا بشر مثلكم أتزوّج فيكم وأزواجكم إلا فاطمة، فإنّ تزويجها نزل من السماء.(119)







وقال (صلّى الله عليه وآله): لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفء على وجه الأرض، آدم فمن دونه.(120)







وأمّا ما عدا فاطمة الزهراء (عليها السلام) من النساء فليست لها هذه الخصوصيّة، وإنّما يتبع فيها الشرائط العامة في الزّواج من الدين والخلق وغيرهما ممّا ذكره الفقهاء ورووه عن الأئمة (عليهم السلام) وتفصيل هذه المسالة بجميع أبعادها مبسوطة في كتب الفقه الاستدلالية.







وغرضنا من ذلك الإشارة إلى أنّه لا شكّ في توفّر الشرائط في بعض الأشخاص في زمان الإمام الكاظم (عليه السلام).







ولكن ما جرى على العلويين من الأحداث حال دون ذلك، فإنّ حملات الإبادة من القتل والتشريد لبني هاشم ما أبقت منهم إلا القليل، فإنّ المسلسل الدّامي بدأ مع بداية عهد المنصور، وقد تتبّع العلويين، فمنهم من قتل في ميادين الحروب، ومنهم من قتل تحت الأنقاض حيث أمر المنصور بهدم السجن عليهما ووضعوا في أساس الناس أحياء فماتوا اختناقاً، ومنهم من اغتيل بالسم، ومنهم من قتل صبراً واحتفظ برؤوسهم في خزانة ولم يطّلع عليها إلا بعض أهل بيته.







يقول الطبري في تاريخه لمّا عزم المنصور على الحجّ دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي، وكان المهدي بالريّ قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم إليها وأحلفها، ووكّد الأيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليا أحداً إلا المهدي، ولا هي إلا أن يصحّ عندها موته، فإذا صحّ ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الريّ إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته أنّه تقدّم إليها ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحد حتى يصحّ عندها موته، فلمّا انتهى إلى المهدي موت المنصور، وولي الخلافة فتح الباب ومعهم ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال شيب، ومشايخ عدّة كثيرة، فلمّا رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل فوقها دكان.(121)







ومنهم من سلم من القتل ولكنّه لم يسلم من التشرّد فهام في البلدان متنكّراً، وقد أخفى اسمه ونسبه، ومن ذلك ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين من أحوال عيسى بن زيد الذي توارى عن المنصور العباسي زماناً طويلاً حتى مات متوارياً، ولم يطلع زوجته وابنته على اسمه ونسبه.







روى أبو الفرج بسنده عن محمد بن المنصور المرادي قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد: قلت لأبي: يا أبه، إنّي أشتهي أن أرى عمّي عيسى بن زيد، فإنّه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدة، وقال: إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إيّاه فتزعجه، فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهّزني إلى الكوفة، وقال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإن دللت عليها فاقصدها في السكّة الفلانية، وسترى في وسط السكّة داراً لها باب، صفته كذا وكذا، فاعرفه واجلس بعيداً منها في أول السكّة فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون (مستور) الوجه، قد أثّر السجود في جبهته، عليه جبّة صوف، يستقى الماء على جمل وقد انصرف يسوق الجمل، لا يضع قدماً ولا يرفعها إلا ذكر الله عزّ وجلّ، ودموعه تنحدر، فقم وسلّم عليه وعانقه، فإنّه سيذعر منك كما يذعر الوحش، فعرّفه نفسك، وانتسب له، فإنّه يسكن إليك، ويحدّثك طويلاً، ويسألك عنّا جميعاً، ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تطل عليه، وودّعه، فإّنه يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنّك إن عدت إليه توارى عنك واستوحش منك، وانتقل عن موضعه، وعليه في ذلك مشقّة، فقلت: أفعل ما أمرتني، ثم جهّزني إلى الكوفة وودّعته وخرجت، فلمّا وردت الكوفة قصدت سكّة بني حي بعد العصر، فجلست خارجها بعد أن تعرّفت الباب الذي نعته لي، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي لا يرفع قدماً ولا يضعها إلا حرّك شفتيه بذكر الله، ودموعه ترقرق في عينيه، وتذرف أحياناً، فقمت فعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس، فقلت: يا عم أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك، فضمّني إليه، وبكى حتى قال: قد جاءت نفسه، ثم أناخ جمله وجلس معي، فجعل يسألني عن أهله رجلاً رجلاً، وامرأة امرأة، وصبيّاً صبيّاً، وأنا أشرح له أخبارهم، وهو يبكي، ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا الجمل الماء، فأصرف ما اكتسب يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه واتقوّت باقيه، وربّما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البريّة، يعني بظهر الكوفة فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فاتقوّته. وقد تزوّجت إلى هذا الرجل ابنته، وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا، فولدت مني بنتاً، فنشأت، وبلغت وهي أيضاً لا تعرفني ولا تدري من أنا. قالت: لي أمّها: زوّج ابنتك بابن فلان السقاء ـ لرجل من جيراننا يسقي الماء ـ فإنّه أيسر منّا، وقد خطبها، وألحّت عليّ فلم أقدر على إخبارها بأنّ ذلك غير جائز، ولا هو بكفء لها، فيشيع خبري، فجعلت تلحّ عليّ فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام، فما أجدني آسى على شيء من الدنيا أساي على أنّها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).







وذكر أبو الفرج أن عيسى بن زيد بقي متوارياً إلى أن مات في زمان المهدي العباسي، روى بسنده عن يعقوب بن داود، قال: دخلت معه المهدي في قبّة في بعض الخانات في طريق خراسان، فإذا حائطها عليه أسطر مكتوبة، فدنا ودنوت معه، فإذا هي هذه الأبيات:







والله ما أطعم طعم الرقاد *** خوفاً إذا نامت عيون العباد







شرّدني أهل اعتداء وما *** أذنبت ذنباً غير ذكر المعاد







آمنت بالله ولم يؤمـنوا *** فكان زادي عندهم شرّ زاد







أقول قولاً قاله خائف *** مطرد قلبي كثير السّهاد







منخرق الخفّين يشكو الوجى *** تنكبه أطراف مرو حداد







شرّده الخوف فأزرى به *** كذلك من يكره حرّ الجلاد







قد كان في الموت له راحة *** والموت حتم في رقاب العباد







قال: فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت: لك الأمان من الله ومنّي، فاظهر متى شئت، حتى كتب ذلك تحتها أجمع، فالتفت فإذا دموعه تجري على خدّه فقلت له: من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين؟ قال: أتتجاهل علي؟ من عسى أن يقول هذا الشعر إلا عيسى بن زيد.(122)







ولكن لمّا بلغه موت عيسى بن زيد اعتبر ذلك بشرى وحوّل وجهه إلى المحراب وسجد وحمد الله. وكان يجدّ في طلبه حتى أنّه حبس بعض أصحابه ثم قتلهم لأنّهم لم يخبروه بموضع اختفائه.(123)







وعهده وإن لم يكن كعهد أبيه شدة وبطشاً إلا أنّه ورث منه العداء لأهل البيت (عليهم السلام)، الذي كان يعتقد أن لا بقاء له في الحكم والسلطان إلا بالقضاء على العلويين وشيعتهم.







حتى إذا جاء عهد ابنه موسى الهادي الذي اتصف بنزعات الشّر والطيش والتمادي في سفك الدماء، فنقم عليه القريب والبعيد وبغضه الناس جميعاً، وقد حقدت عليه أمّه الخيزران، وبلغ بها الغيظ والكراهية له أنها هي التي قتلته.(124)







وفي زمانه حدثت واقعة فخ التي ضارعت ماسة كربلاء في آلامها وشجونها، وقد تحدّث الإمام الجواد (عليه السلام) عن مدى أثرها البالغ على أهل البيت (عليهم السلام) بقوله: لم يكن لنا بعد الطف ـ يعني كربلاء ـ مصرع أعظم من فخ.(125)







فقد حملت فيها رؤوس العلويين وتركت جثثهم في العراء، وسيقت الأسرى من بلد إلى بلد، وقد قيّدوا بالحبال والسلاسل، ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأدخلا على الهادي العباسي فأمر بقتل بعضهم فقتلوا صبراً وصلبوا على باب الجسر ببغداد.(126)







ولم يكن عهد الرشيد بأحسن حالاً، يقول الشيخ القرشي: وورث هارون من جدّه المنصور البغض العارم والعداء الشديد للعلويين، فقابلهم منذ بداية حكمه بكلّ قسوة وجفاء، وصبّ عليهم جام غضبه، وقد أقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنّهم ـ أي العلويين ـ ولا قتلنّ شيعتهم.







وأرسل طائفة كبيرة منهم إلى ساحات الإعدام، ودفن قسماً منهم وهم أحياء، وأودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون، إلى غير ذلك من المآسي الموجعة التي صبّها عليهم..







لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم في القرى والأرياف، متنكرين لئلا يعرفهم أحد.(127)







وقد أمر الرشيد حميد بن قحطبة أن يقتل ستّين علويّاً في ليلة واحدة، روى الصدوق بسنده عن أبي الحسين أحمد بن سهل بن ماهان، قال: حدّثني عبيد الله البزّاز النيسابوري، وكان مسنّاً قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السفر لم أغيّرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلمّا دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلّمت عليه وجلست فأتي بطشت وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي، وأحضرت المائدة، وذهب عنّي أنّي صائم، وأنّي في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟ فقلت: أيّها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علّة توجب الإفطار، ولعلّ الأمير له عذر في ذلك، أو علّة توجب الإفطار، فقال: ما بي علّة توجب الإفطار وإنّي لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتّقد وسيفاً أخضر مسلولاً، وبين يديه خادم واقف، فلمّا قمت بين يديه رفع رأسه إليّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق، ثم أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إليّ وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنّا لله، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي، فلما حضرت بين يديه رفع رأسه إليّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسّم ضاحكاً، ثم أذن لي في الانصراف، فلمّا دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إليّ الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إليّ وقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين، فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم، قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء إلى بيت بابه مغلق، ففتحه، وإذا فيه بئر في وسطه ثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منه فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيّدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلّهم علويّة من ولد عليّ وفاطمة (عليهما السلام)، فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، حتى أتيت على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلويّة، من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) مقيّدون فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) مقيّدون عليهم الشعور والذوائب، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً، فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمى به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبّاً لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً قد ولدهم علي وفاطمة (عليهما السلام)؟ فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إليّ الخادم مغضباً وزبرني فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته، ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أنّي مخلّد في النار.(128)







وقيل: إن هذا الواقعة حدثت في زمان المنصور، ولعلّها تكرّرت، ولذا قال الصدوق: للمنصور مثل هذه الفعلة في ذريّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(129).







وعلى أي تقدير فإنّها إحدى الشواهد على ما نقول:







وبعد: فإذا كان هكذا حال العلويين، فهل يبقى لأحدهم مجال للاقتران بواحدة من بنات الإمام (عليه السلام) ويستقر في حياة زوجيّة هانئة، وهو يعلم أن حياته في خطر؟







إن ما ذكرته بعض المصادر(130) من أنّ عدم تزويج الإمام (عليه السلام) بناته إنّما هو لعدم وجود الكفء لم يكن على خلاف الواقع، فإنّ ما حلّ بأهل البيت (عليهم السلام) من الكوارث وحملات الإبادة قد أفنتهم ولم تدع منهم إلا القليل.







وربّما يقال: إذا كان هذا حال العلويين ففي رجالات الشيعة من توفّرت فيه سائر الشرائط، فلم لم يزوج الإمام الكاظم (عليه السلام) بناته من الشيعة، إذ ليس من الضروري أن يكون الزوج علويّاً ما دامت الكفاءة من الإيمان والخلق في غير العلوي متحقّقة؟







ونقول: إنّنا قد ذكرنا أنّ هناك أمراً آخر نعتبره مكمّلاً للأمر الأول وهو الخوف من الإقدام عل مصاهرة الإمام (عليه السلام) فلم يكن الشيعة آمنين على أرواحهم، وقد بلغهم أن هارون الرشيد قد أقسم على أن يقتل الشيعة كما أقسم على إبادة العلويين.







وقد عانى الشيعة من الشدائد ما لا يخفى، وكانوا يعيشون التقية في أمورهم كما أمرهم أئمتهم (عليهم السلام) بذلك، وأصبحت حياتهم آنذاك مهدّدة بالأخطار، وكان الحكّام لهم بالمرصاد.







ومما يدل على ذلك ما ورد في أحوال محمد بن أبي عمير، حيث روي عن الفضل بن شاذان أنّه قال: سُعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان أنّه يعرف أسامي عامّة الشيعة بالعراق، فأمره السلطان أن يسمّيهم فامتنع، فجرّد وعلّق بين القفّازين (العقارين) وضرب مائة سوط، قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضربت فبلغ الضّرب مائة سوط، أبلغ الضّرب الألم إليّ فكدت أن أسمّي، فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول: يا محمد ابن أبي عمير اذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقوّيت بقوله فصبرت ولم أخبر، والحمد لله.







وقال: ضرب ابن أبي عمير مائة خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه الله، تولّى ضربه السندي بن شاهك على التشيع..(131)







ويدلّ على ذلك أيضاً ما جاء في أحوال هشام بن الحكم، فإنّه عاش في آخر أيّامه مشرّداً حتى مات من الخوف في قصّة طويلة ذكرها علماء الرجال.(132)







وغيرها من القضايا التي كان الشيعة فيها كأئمتهم (عليهم السلام) في المعاناة والخوف.







وإذا كان هذا حال الشيعة فمن منهم يقدم على مصاهرة الإمام (عليه السلام) وقد تربّصت العيون بهم الدوائر، والحكام في طلبهم وراء كل حجر ومدر؟







على أنّه لم يثبت أن أحداً من العلويين أو من الشيعة تقدّم لخطبة إحدى بنات الإمام (عليه السلام) فقوبل بالرّفض.







هذا ما نرجّحه من الأسباب وراء عدم تزويج بنات الإمام (عليه السلام)، ومنهم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).







وهناك احتمالان آخران يختصّان بها، وقد يشاركها بعض أخواتها فيهما.







أحدهما: أنّها وأباها وأخاها يعلمون أن عمرها قصير، فإنّ وفاتها (عليها السلام) كانت سنة 201هـ فيكون عمرها على أكثر الاحتمالات أقل من ثلاثين عاماً، وهو عمر قصير بالقياس إلى الأعمار المتعارفة.







وحيث كانت تعلم بذلك فلم يكن لديها ما يرغّبها في الزواج.







وثانيهما: أنّها لمّا كانت تشاهد ما يجري على أهل بيتها وبني عمومتها من حكّام بني العباس من القتل والسّجن والتشريد، وما يلاقيه أبوها وأخوها من الإيذاء عزفت نفسها عن الزواج، ومن الطبيعي أن في عدم الاطمئنان في الحياة صارفاً قويّاً عن الزواج.







هذا ولعل هناك سبباً أو أسباباً أخرى وراء ذلك لم ندركها، وكم ذكرنا أن الأمر شأن خاص قد أريد إخفاء سرّه عن الناس.















المآسي والآلام







إن من أقصى ما مرّ على أهل البيت (عليهم السلام) في تاريخهم الحافل بالمآسي والآلام أن الأيدي الآثمة قد تجاوزت الحدّ في خصومتها وعدوانها عليهم، فامتدّت لتهتك حرماتهم، وتكشف أستارهم، وتعتدي على نسائهم بالضرب والسلب والنهب والأسر والتشهير.







وليس بعد قتل المعصوم ما هو أفظع وأفجع ممّا جرى على بنات الرسالة وعقائل الوحي، وإذا كان المتآمرون في السقيفة قد وضعوا الأساس حيث استطالت أيديهم فضربوا الزهراء (عليها السلام)، وهي بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله) ووكزوها بالسيف وأسقطوا حملها في وحشيّة عدم فيها الضمير، وإذا كان الأمويون قد ساقوا بنات الزهراء أسارى بعد السلب والنّهب، فإن بني العباس جاءوا ليكملوا ما تبقّى من حلقات هذا المسلسل، بل زادوا على أولئك في التعدّي والعدوان، فقد مرّ علينا أنّ أسرى واقعة فخ لما جيء بهم إلى الهادي العباسي وأدخلوا عليه وهم مقيّدون بالحبال والسلاسل ووضعوا أيديهم وأرجلهم في الحديد أمر بقتل بعضهم فقتلوا صبراً وصلبوا بباب الجسر ببغداد.(133)







وقد اعترف المأمون بأنّ بني العباس فاقوا بني أمية في عدوانهم وظلمهم للعلويين، فقال: فأخفناهم، وضيّقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إيّاهم.







ويحكم إنّ بني أمية إنّما قتلوا منهم من سلّ سيفاً، وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملاً، فلتسألنّ أعظم الهاشميّة بأي ذنب قتلت؟ ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء..(134)







وقد ذكرنا فيما تقدّم شيئاً ممّا لاقاه العلويّون من بني العباس، والغرض في المقام أن نذكر شيئاً ممّا لاقته العلويات، ونكتفي بما يرتبط بالسيدة المعصومة (عليها السلام) وما نالها من عدوان بني العباس.







اتّفق الرواة على أن محمد بن جعفر خرج في زمان الرشيد أو المأمون، وأعلن الدعوة إلى نفسه، وقد حذّر الإمام الرضا (عليه السلام) من مغبة ذلك وأخبره بأنّه أمر لا يتم وأن حركته فاشلة، فأرسل العباسيون جيشاً بقيادة عيسى بن يزيد الجلودي وأمروه إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وهجم على داره مع خيله، فلمّا نظر إليه الرضا جعل النساء كلّهن في بيت ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسن (عليه السلام): لابدّ من أن أدخل البيت فاسلبهنّ كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضا (عليه السلام) هنا سقط فلم يدع عليهنّ شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهنّ وأزرهنّ إلا أخذه منهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير.(135)







ترى ما حال تلك النسوة آنذاك؟‍ وما حال الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) وهو يرى بنات الرسالة وقد سلبن كلّ شيء؟







وهل تظنّ أن الجلودي اكتفى بالهجوم على بيت الإمام الرضا (عليه السلام) دون بقية دور آل أبي طالب؟







والذي ذكرته الروايات أن الجلودي أمر بالغارة على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، والجلودي كان خادماً مخلصاً لبني العباس، ولا أظنّ أنّه اكتفى بذلك، بل هجم على بقيّة الدور، وربما سلّب النساء بنفسه، وإن لم تفصح الروايات عن ذلك.







والذي يؤيد ما ذكرنا ما جاء في نفس هذه الرواية، من أنّه لمّا أدخل الجلودي على المأمون، وكان الإمام الرضا (عليه السلام) حاضراً وأراد الإمام أن يشفع فيه، فقال (عليه السلام): يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ، فقال المأمون: يا سيّدي هذا الذي فعل ببنات محمد (صلّى الله عليه وآله) ما فعل من سلبهن.(136) فإنّ فيه إشعاراً بذلك.







وإذا كانت الخصومة بين الرجال فما بال النسوة؟ وما هي جنايتهن ليفعل بهنّ ذلك؟ وهن بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وودائع النبوة







وإذا لم يكن الدين رادعاً ولا الضمير وازعاً فلا أقل أن النسب يكون صارفاً فإن لهن رحماً قريبة بأولئك المتسلطين ولكن..







وعلى أي حال فقد نال السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) من الخوف والترويع والظلم ما جعل أيّام حياتها القصيرة تمتزج بالآلام والأحزان والمآسي.















لوعة الوداع







قد يتوهّم البعض بأنّ الإمام الرضا (عليه السلام) عاش حياة مستقرّة آمنة، ولا سيّما أنّه أمضى السنوات الأخيرة من عمره في البلاط العباسي، فكان في مأمن من ملاحقة السلطة، بل في موقع الزّعامة حيث بويع بولاية العهد، فكان الرجل الثاني في دولة واسعة مترامية الأطراف، ولم يكن هناك ما يخشاه.







ولكن الحقيقة أمر آخر غير هذا الظاهر، فإن أقسى السنوات التي مرّت عليه هي السنوات الأخيرة من عمره، وعاش في حصار قد فرض عليه لم يستطع الخلاص منه، حتى قيل إنّ الإمام الرضا (عليه السلام) كان أكثر الأئمة (عليهم السلام) عملاً بالتقيّة، لشدّة ما عاناه من سلطة بني العباس.







وتؤكّد الدلائل والشواهد التاريخية على أن السياسة العباسية جعلت من الإمام وسيلة لتحقيق أهدافها، حتى إذا بلغت ما أرادته نكبت به، كما نكبت بآبائه من قبله، وبأبنائه من بعده.







إن ما فعله هارون الرشيد وأسلافه من قبله بالعلويين من القهر والبطش والإبادة والتشريد، وما تمخّض عن ذلك من الثورات العلوية في أطراف البلاد، ومن النقمة العامّة على الحكم العباسي حتى قال أحد الشعراء:







يا ليت ظلم بني مروان دام لنا *** وكان عدل بني العباس في النار







كما أن الصراع الدامي بين المأمون وأخيه الأمين الذي أسفر عن مقتل الأخير، وانتقال إدارة الحكم من بغداد العاصمة العباسية إلى منطقة أخرى، واعتماد المأمون على الفرس دون العرب في إدارة شؤون الحكم، الذي أثار نقمة العباسيين وغضبهم عليه، مضافاً إلى شعوره بالنقص لكونه ابن أمّة فارسيّة وغير ذلك من الأمور.(137)







جعلت من المأمون ابن الرشيد ـ وكان ذا نباهة وفطنة وحنكة ودهاء ـ أن يتنبّه ويتخذ سياسة جديدة تخالف في ظاهرها سياسة سلفه، يخمد بها غضب الناقمين، ويحتوي تلك الحركات المناوئة، ويحقّق لحكومته استقراراً سياسياً، ويضمن لسلطته قوة تحميه من العباسيين، فيما لو فكّروا في مناهضته كما يحقّق أغراضاً أخرى، ليتمتّع بسلطة لا يشعر معها باضطراب، كما كان آباؤه يشعرون بذلك.







وكان الموقف يتطلب منه جرأة في اتخاذ القرار، وحزماً في تنفيذه، ومضيّاً في عزمه.







وأول إجراء اتخذه بعد أن قضى على أخيه الأمين أنّه أظهر ميله للعلويين، وكانت هذه البادرة غريبة لم تعهد من حاكم عباسي، الأمر الذي أثار التوجّس عند سائر بني العباس، ودفعهم إلى الاعتراض بل إعلانه، ولم يدركوا أن المأمون يسعى بذلك لتوطيد الحكم وتثبيته عن طريق هذا الإجراء، كما أن فيه توجيه تحذير خفي إلى العباسيين، ومضمونها أن هناك من يعتمد عليهم ويستند إليهم، فيما إذا تخلّوا عنه، أو فكّروا في القيام بعمل مضاد.







ثم أعقب المأمون ذلك برغبته في استقدام الإمام (عليه السلام) من المدينة إلى عاصمة الدولة، وقد بعث إليه رجاء بن أبي الضحّاك لحمل الإمام (عليه السلام) وحدّد له طريق المسير بأن يكون على طريق البصرة والأهواز ولا يمرّ به الكوفة، وفي ذلك غرض أخفاه المأمون ولم يفصح عنه ما كشفت عنه الأبحاث التاريخية التحليلية وأشارت إلى الأسباب والأهداف من وراء استقدام الإمام (عليه السلام) من المدينة إلى مرو، ومنها الخوف من الرضا (عليه السلام) لشياع أمره في الحرمين، وانتشار ذكره وإقبال الناس عليه، وغيرها من الأمور التي جعلت المأمون يتخذ قراراً حاسماً في الحدّ من هذا الانتشار، وليكون الإمام (عليه السلام) تحت رقابة مفروضة صارمة لا يمكنه الإفلات منها وليتسنّى للمأمون أن ينفذ خططه السياسية المبيّتة.(138)







حتى إذا وصل الإمام (عليه السلام) إلى مرو عاصمة المأمون وأظهر العناية والاحتفاء به واستقرّ به المقام عرض المأمون على الإمام أمر الخلافة، فأباها الإمام (عليه السلام) أشدّ الإباء، وكان الإمام (عليه السلام) على بصيرة بما يخطّط له المأمون، وإذا كان الإمام (عليه السلام) قد أبى الخلافة فإنّه لم يكن له بدّ من قبول ولاية العهد، وقد كشف الإمام (عليه السلام) سر قبوله لها في حديثه مع الرّيان ابن الصّلت الذي قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، فقلت له: يا بن رسول الله يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقال (عليه السلام): قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل.(139)







ومما يدل على علم الإمام (عليه السلام) بألاعيب المأمون ومخطّطاته أنه (عليه السلام) واجه المأمون ببعض الحقيقة حين قال له: وإنّي لأعلم ما تريد فقال المأمون: وما أريد؟ قال: الأمان على الصّدق، قال: لك الأمان، قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة، فغضب المأمون ثم قال: إنّك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك، فقال الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً. فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهية منه (عليه السلام) بذلك.(140)







إنّ هذا الموقف من الإمام (عليه السلام) يدلّنا على أنّه عالم بأنّ المأمون يريد أن يحقّق أغراضه السياسية، وأهمها إثباته للعباسيين أنّ بإمكانه أن يعتمد على خصومهم فضلاً عن غيرهم.







ومما يدلّنا على سوء نوايا المأمون وعدم إخلاصه في هذه القضية إكراه الإمام (عليه السلام) على القبول وتهديده بالقتل، واكتفائه منه بالقبول الصوري، والتشديد على الإمام (عليه السلام)، ورصد جميع تحرّكاته (عليه السلام) ومحاسبته عليها، مضافاً إلى ما سبق هذه القضية وما لحقها من أحداث ممّا يدل دلالة قاطعة على أنّ المأمون إنّما أراد من هذا الإجراء تحقيق طموحاته السياسية التي لا تتحقق إلا بهذا النحو من التدبير، ولسنا في مقام دراسة هذا الموضوع، ونكتفي بهذه الإشارة التي تدل على أن الإمام (عليه السلام) عاش ظروفاً قاسية وأيّاماً صعبة عانى منها الآلام.







ولما كان الإمام (عليه السلام) يعلم بقساوة الأيام التي سيعيشها تحت رقابة المأمون في عاصمة ملكه وبما بيّته له من مكائد، كان خروجه من مدينة جده (صلّى الله عليه وآله) في حالة من اللوعة والأسى، وقد نعى فيها نفسه.







روى الصدوق بسنده عن مخوّل السجستاني، قال: لما ورد البريد بإشخاص الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودّع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فودّعه مراراً كل ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدمت إليه وسلمت عليه فرد السلام وهنّأته، فقال: زرني، فإنّي أخرج من جوار جدّي (صلّى الله عليه وآله) فأموت في غربة وأدفن في جنب هارون.(141)







وما أقسى أن يُخرج الإنسان عن موطنه ويبعد عن أهله وذويه من دون أن يكون له خيار في ذلك، وما أشبه ذلك بالإلقاء في السجن حيث يفرض عليه نمط معيّن من الحياة، ويرى نفسه مقيّداً بالالتزام به، وهو يخالف طبعه وما نشأ عليه.







وإذا كانت السنوات الأخيرة من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) قد مضت وهو ينقل من سجن إلى سجن، ويعاني من ثقل الحديد، فإنّ السنوات الأخيرة من حياة ابنه الرضا (عليه السلام) وإن لم تكبّل فيها يداه ورجلاه بالأغلال إلا أنّه كبّل بقيود من نوع آخر، كان يعاني من ثقلها، ليس السجن الذي أودع فيه الرضا (عليه السلام) بأحسن حالاً من السجن الذي أودع فيه الإمام الكاظم (عليه السلام).







ثم إنّ الإمام الرضا (عليه السلام) لما أراد الخروج من المدينة نظر إلى ولده الإمام الجواد (عليه السلام) وأقبل به إلى قبر جدّهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما يحدث بذلك (عليه السلام) فيقول: ثم أخذت أبا جعفر ـ ولم يكن له ولد غيره في أشهر الأقوال وله من العمر سبع سنوات(142) ـ فأدخلته المسجد ووضعت يده على حافّة القبر وألصقته به، واستحفظته رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فالتفت إليّ أبو جعفر (عليه السلام) فقال لي: بأبي أنت، والله تذهب إلى الله، وأمرت جميع وكلائي وحشمي له بالسمع والطاعة، وترك مخالفته، وعرّفتهم أنّه القيّم مقامي.(143)







ومما يثير الاستغراب أن الإمام الرضا (عليه السلام) قد أقام العزاء على نفسه قبل مغادرته المدينة، فقد روى الصدوق بسنده عن الحسن بن علي الوشاء، قال: قال لي الرضا (عليه السلام): إنّي حيث أرادوا الخروج بي من المدينة، جمعت عيالي، فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتى أسمع، ثم فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثم قلت: أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً.(144)







ووجه الغرابة أن العادة جرت على أن إقامة العزاء والبكاء إنّما هي بعد الموت، فما معنى أن يأمر الإمام الرضا (عليه السلام) عياله بالبكاء عليه ليسمع بكائهم؟ مع أنّهم علموا بشهادته في يوم وقوعها، فقد روى محمد بن أحمد بن يحيى بسنده عن أمية بن علي قال: كنت بالمدينة وكنت أختلف إلى أبي جعفر (عليه السلام)، وأبو الحسن (عليه السلام) بخراسان، وكان أهل بيته وعمومة أبيه يأتونه ويسلّمون عله، فدعا يوماً الجارية فقال: قولي لهم يتهيأون للمأتم، فلمّا تفرّقوا قالوا: ألا سألناه مأتم من؟ قال: مأتم خير من على ظهرها، فأتانا خبر أبي الحسن بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم.(145)







فهل كان أمر الإمام الرضا (عليه السلام) عياله بالبكاء عليه لأنه يموت في الغربة بعيداً عن الأهل والوطن؟ أو لأنّه كان يريد إشعارهم بأنّه لن يعود فلا يأملون في لقائه؟







أو لأنّه اعتبر نفسه ميّتاً فأمرهم بالبكاء لشدّة ما سيلاقي من المحن والمآسي؟







وعلى أي حال فقد كان أمراً غريباً لم يعهد من أحد من الأئمة (عليهم السلام).(146)







وبعد، فأين كانت السيدة فاطمة المعصومة من هذا كله؟ وما هي حالها وهي ترى شقيقها يتركها في المدينة وينتقل إلى خراسان حيث الغربة والعناء وفراق الأهل وجوار الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ ولو كان الأمر بيده أو بيدها لخرجت معه ولسارت حيث يسير، وعاشت حيث يعيش، ولكنّه خرج مقهوراً تاركاً عياله وأخواته حتى ابنه الإمام الجواد (عليه السلام)، الذي كان له من العمر سبع سنوات(147)، بل أقلّ من ذلك كما يستفاد ممّا ذكره الشيخ المفيد رحمه الله حيث قال: ومضى الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) ولم يترك ولداً نعلمه إلا ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) وكانت سنّه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهراً.(148)







وكان خروج الإمام الرضا (عليه السلام) من المدينة سنة 200هـ وشهادته سنة 203هـ(149).







وقد اعتصر قلب السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) من الألم ولوعة الفراق، وعلمت من خلال ما جرى أنّ أخاها لن يعود، وكانت في جملة الباكين عليه، وقد سمع بكاءها وحسرتها على فراقه، ولعلّه أسرّ إليها أو علمت من خلال مجرى الأحداث بما سيقدم عليه من آلام ومآسي، ولذا لم تكتف بوداعه بل كما حدّثني أحد أساتذتي الأجلاّء بأنّه سمع أو قرأ في كتاب أنّه لما سار ركب الإمام من المدينة صعدت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) على السطح وبقيت تنظر إلى أخيها وهو يمشي حتى غاب عن عينيها.







إنّ هذا الموقف يحمل من الدلالات شيئاً كثيراً، ويبيّن مدى الصّلة بين الأخ وشقيقته، كما يدل على مدى أثر لوعتها بفراقه وحزنها عليه.







وليست هذه الصّلة الوثيقة بين الشقيقين لمجرّد الرابطة النسبيّة وأنّهما يلتقيان في أب واحد وأمّ واحدة، وإنّما هي لما ذكرناه فيما سبق من علمها ومعرفتها (عليها السلام) بمقام الإمامة المتمثلة في أخيها الإمام الرضا (عليه السلام).















إلى الرضا (عليه السلام)







وسار الموكب الرضوي يقطع البيد والمفاوز والقفار ميمّماً نحو خراسان حيث مركز حكم المأمون وسلطانه، ولم يكن للإمام (عليه السلام) مناص من الرّحيل عن المدينة، موطن الأهل وحرم الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فرحل الإمام (عليه السلام) عنها تاركاً أهله وعياله وديعة عند جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله).







حتى إذا وصل الموكب إلى مرو ونفذت أولى خطط المأمون من ولاية العهد، وأخذ البيعة وضرب الدراهم والدنانير، ولم يكن الإمام (عليه السلام) بذلك مسروراً، فقد أسرّ إلى بعض أصحابه أنّ ذلك أمر لا يتم(150)، وأنّه حلقة من سلسلة المخطّط الذي يهدف المأمون إلى تنفيذه، وكان ذلك في سنة 200هـ، ومرت الأيام بطيئة ثقيلة لم يلق فيها الإمام (عليه السلام) يوم راحة واطمئنان، فقد حقّق المأمون من الإمام أغلى أمانيه.







وكان الإمام (عليه السلام) وهو في غربته يعاني من فراق أهله وعياله، فقد انقطعت الأخبار فما حال أولئك الثكالى؟ وما حال شقيقته الوحيدة؟ فهي بالأمس تفقد أباها، وهي في زهرة العمر، واليوم ينتزع منها شقيقها ولا ترجو له عودة.







ومضى عام على رحيل أخيها عنها فهاجت بها لواعج الحنين والشوق إلى أخيها الغريب، وقد علم الإمام (عليه السلام) بحال أخته، فإنّها لم تغب عن قلبه، وهو يعلم شدّة تعلّقها به، فكتب إليها كتاباً يطلب منها القدوم عليه، وأعطاه أحد غلمانه، وأمره بالمسير إلى المدينة ولا يلوي علي شيء، ولا يقف في طريقه إلا بمقدار الضرورة ليوصل الكتاب في أسرع وقت ممكن، وقد أعلمه الإمام (عليه السلام) بالمكان والبيت لئلا يسأل أحداً من الناس.







وأغذّ الغلام المسير يواصل ليله ونهاره، حتى شارف المدينة، وجاء إلى بيت الإمام (عليه السلام) وسلّم الكتاب إلى فاطمة المعصومة (عليها السلام).(151)







وما إن وقع بصرها على خطّ الإمام حتى تذكرت أخاها، وما كان له معها من شأن، وكأنّه لم يمض عام واحد فحسب، وإنّما عشرات الأعوام.







ثم إنّها تهيأت للمسير.







وهذا الأمر هو ما نرجّحه على القول بأنّ فاطمة المعصومة (عليها السلام) غادرت المدينة من تلقاء نفهسا، فإن ذلك ينافي جلالة قدرها، وعظمة شأنها، وسموّ نفسها، وإن كان الخطب جليلاً، على أنّها كانت في حمى ابن أخيها الجواد (عليه السلام)، فعلى فرض أنّ موضوع الكتاب لم يثبت من ناحية تاريخيّة إلا أنّها وهي العالمة بأنّ ابن أخيها إمام معصوم مفترض الطاعة فلابد من استئذانه.







على أن التهيّؤبموكب قوامه اثنان وعشرون شخصاً من الأخوة وأبنائهم والغلمان(152) في مسيرها (عليها السلام) لم يكن ليتمّ إلا عن رضا وموافقة وإذن.







ولذا فإنّا وإن لم يثبت لنا الأمر من ناحية تاريخية ـ وما أكثر ما ضاع من الأحداث والوقائع وحلّ محلها الزّيف والبهتان ـ إلا أنّنا بملاحظة حال السيدة فاطمة وشأنها ومكانتها في العلم والمعرفة لا نقبل بل لا نتوهم أنها خرجت من تلقاء نفسها لمجرّد أنّها رغبت في لقاء أخيها، فإذن ذلك يتنافى مع ما علمناه من مقامها.







وهي وإن كانت على موعد مع مدينة قم وأهلها الذي سيسعدون بها، وسينفتح لهم باب من أبواب الجنّة، وستكون فاطمة المعصومة (عليها السلام) سيدة هذه البلدة الطيبة، وهو السر الخفيّ الذي يحدو بها للمسير ـ وسيوافيك الحديث عن ذلك ـ إلا أن جلالة قدرها وعظمة شأنها تقتضيان أن يكون خروجها مرعياً بنظر المعصوم (عليه السلام).







هذا، وقد ذكرت المصادر أنّها لما أزمعت الرّحيل إلى لقاء أخيها في طوس، أعدّت للسفر عدّته، وتهيأ ركب قوامه اثنان وعشرون شخصاً ضمّ بعض أخوتها، وبعض أبنائها وغلمانهم، وساروا يقطعون البيد والقفار واتخذوا من الطريق المؤدي إلى قم مساراً لهم إلى طوس.







وفي الوقت نفسه تهيأ ركب آخر من بقيّة أخوتها ومن انضمّ إليهم، وخرجوا قاصدين إلى طوس حيث الإمام الرضا (عليه السلام)، فقد ذكروا أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد استأذن المأمون في قدومهم، وكان قوام هذا الركب ثلاثة آلاف شخص، فقد التحق بهم عدد كبير من بني أعمامهم وأولادهم وأقاربهم ومواليهم، كما التحق بهم في مسيرهم أعداد كبيرة من الشيعة رجالاً ونساءً حتى بلغوا قريباً من خمسة عشر ألف شخص.(153)







وقد اختاروا المسير عن طريق شيراز وكان في طليعة هذا الركب أحمد ومحمد والحسين أبناء الإمام الكاظم (عليه السلام).(154)







وقد بلغت أنباء هذا التحرّك إلى المأمون فأثار في نفسه التوجّس فإن عدداّ ضخماً كهذا العدد لابد وأن يثير في نفسه تخوّفاً وتهيّباً، ولا سيّما أنه يعلم أن الإمام الكاظم (عليه السلام) ذهب ضحيّة غدر أبيه هارون الرشيد، ولم تمض مدة كافية ينسى هؤلاء المثكولون فقد أبيهم، وما خلفه موته من أحزان وآلام، ولا شك أن هؤلاء يعلمون أن ما اتخذه المأمون من تدابير سياسية ـ على خلاف ما هو المعهود والمألوف من بني العباس من الفتك والبطش بالعلويين ـ ما هي إلا مجرّد تغطية واحتواء للأزمة الخانقة آنذاك.







على أن وصول الرّكب العلوي بهذا العدد إلى عاصمة الحكم قد يشكّل خطراً على سياسة الحكم، ويفشل الخطط المرسومة، ولذا ما إن وصل الركب إلى أطراف شيراز حتى أوعز المأمون إلى ولاته بصدّهم ومنعهم عن المسير وإرجاعهم إلى المدينة.(155)







وما راعهم إلا أربعون ألف شخص من جنود بني العباس تحت إمرة والي شيراز يقطعون الطريق عليهم، وهم على مقربة من شيراز، ودخل الطوفان في معركة دامية أسفرت عن انكسار الوالي وجنوده، فلجأوا إلى الحيلة فأشاعوا فيهم أنّه إذا كان الغرض الوصول إلى لقاء الرضا فإنّ الرضا قد مات، الأمر الذي قد أدّى إلى زعزعة أفراد هذا الركب وتشتت شملهم وتفرّقهم في أطراف البلاد.(156)







وهذه القضية تكشف لنا سرّاً من أسرار التاريخ، فإن من المعروف انتشار قبور العلويين في بلدان إيران المختلفة، وقد أشرنا إلى ذلك في مطلع هذا البحث.







وإنّ انتشار هذه المراقد الطاهرة في مختلف القرى والمدن ممّا يثير الالتفات، إذ لا تكاد تخلو مدينة أو قرية من قبر أو أكثر للعلويين حتى أن بعضهم شكّك في مصداقيّة ذلك، وادّعى أن ذلك من فعل الناس وبمرور الزّمن وتوارث الأجيال تقديس هذه المواضع وقصدها واللجوء إليها واقتران ذلك بأهل البيت (عليهم السلام) أصبح عند المتأخرين أنّ هذه القبور لأبناء الأئمة (عليهم السلام)، وإلا فقد تكون هذه القبور لأناس عاديين، ماتوا ودفنوا في هذه الأماكن من دون أن يكونوا من أهل البيت (عليهم السلام) فضلاً عن أن يكون لهم شأن.







ولكن بالوقوف على قضايا التاريخ، وما جرى في تلك الحقبة من الزمن في عهد حكّام بني العباس، وتتّبعهم لبني هاشم، ومحاولة استئصالهم والحوادث الدامية التي جرت عليهم والرّعب والتشريد والملاحقة تكفي للاطمئنان بأنّ انتشار هذه القبور في أطراف القرى والمدن أمر لا يبعد تصديقه، والأحداث ومجرياتها تؤيّده.







على أنّنا نقول إنّه ليس كلّ هؤلاء أولاد الأئمة (عليهم السلام) لأصلابهم، بل قد يكون بعضهم أحفاداً وأبناء أحفاد، أو أسباطاً وأبناء أسباط.







ثم إنّنا لا نستبعد أن تكون هناك عنايات إلهية خفية كانت وراء إظهار هذه القبور، ولو بعد عشرات السنين، فإنّ أهلها فروع من الشجرة الطيبة.







ومما يؤيّد ذلك ما ورد في كتب الرجال في ترجمة السيد عبد العظيم الحسني ـ وهو من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام) ـ بيان بعض أحواله، فقد روى النجاشي في كتابه بسنده عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي قال: كان عبد العظيم ورد الرّي هارباً من السلطان، وسكن سرباً في دار رجل من الشيعة في سكّة الموالي، فكان يعبد الله في ذلك السرب، ويصوم نهاره ويقوم ليله، فكان يخرج مستتراً فيزور القبر المقابل قبره، وبينهما الطريق، ويقول: هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فلم يزل يأوي إلى ذلك السرب ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمد (صلّى الله عليه وآله) حتى عرفه أكثرهم، فرأى رجل من الشيعة في المنام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال له: إنّ رجلاً من ولدي يحمل من سكّة الموالي ويدفن عند شجرة التفاح في باغ عبد الجبار بن عبد الوهاب، وأشار إلى المكان الذي دفن فيه، فذهب الرجل ليشتري الشجرة ومكانها من صاحبها، فقال له: لأي شيء تطلب الشجرة ومكانها؟ فأخبره بالرؤيا، فذكر صاحب الشجرة أنّه كان رأى مثل هذه الرؤيا، وأنّه قد جعل موضع الشجرة مع جميع (الباغ) وقفاً على الشريف، والشيعة يدفنون فيه، فمرض عبد العظيم ومات رحمة الله عليه، فلمّا جرّد ليغسل وجد في جيبه رقعة فيها ذكر نسبه فإذا فيها: أنا أبو القاسم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب.(157)







وأضف إلى ذلك ما شاهده الناس من آثار البركات واستجابة الدعوات وقضاء الحوائج عند هذه المراقد الشريفة، وذلك ممّا يؤكّد هذه الحقيقة.







وهذا الموضوع حريّ بدراسة مستوعبة يكشف فيها النقاب عن جانب من جوانب تاريخ سلالات الأئمة (عليهم السلام)، ومواطن قبورهم في مكة والمدينة وأطرافهما والعراق والشام واليمن ومصر وبلاد المغرب العربي وإيران وغيرها من الأماكن، وأسال الله أن يقيّض لهذه المهمّة الكبيرة من يتصدّى للقيام بها.







هذا، ولكن ذكر بعض المحققين في قضايا التاريخ أن الركب العلوي إنّما خرج بعد ما بلغه أن المأمون العباسي قد غدر بالإمام الرضا (عليه السلام)، وكان خروجه من أجل الطلب بالثأر.







يقول السيد العاملي: كما أنّ بعض المصادر التاريخية تذكر أنّ أحمد بن موسى أخا الإمام الرضا لما بلغه غدر المأمون بأخيه الرضا، وكان آنذاك في بغداد خرج من بغداد للطلب بثأر أخيه، وكان معه ثلاثة آلاف من العلويّة، وقيل: اثنا عشر ألفاً.. وبعد وقائع جرت بينه وبين (قتلغ خان) الذي أمره المأمون فيهم بأمره، والذي كان عاملاً للمأمون على شيراز. استشهد أصحابه واستشهد هو وأخوه محمد العابد أيضاً.. ثم نقل السيد العاملي عن أحد الكتّاب قوله: إنّ كثيراً من العلويين قد قصدوا خراسان أيام تولّي الإمام العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الإمام (عليه السلام) وأمر المأمون الحكام وأمراء البلاد بقتل أو القبض على كل علوي.(158)







وهذا ينافي ما نقلناه من أن الركب إنّما خرج من أجل لقاء الإمام (عليه السلام) وليس طالباً للثأر.







وعلى أي حال فإنّ ذلك يؤكّد ما ذكرناه من انتشار قبور السادة العلويين في مدن وقرى إيران المتنائية الأطراف وسيأتي ما يعزّز ذلك أيضاً.







وأمّا ركب السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) فقد اتخذ طريق قم كما أسلفنا، ولكن ما إن وصل إلى ساوة ـ وهي بلدة لا تبعد كثيراً عن قم ـ حتى حوصر الرّكب فقتل وشرّد كل من فيه، وجرحوا هارون أخا الإمام الرضا (عليه السلام)، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه.)159)







وكان ذلك كلّه بمرأى من السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) فقد شاهدت مقتل أخوتها وأبنائهم، ورأت تشرّد من بقي منهم، فماذا سيكون حالها آنذاك؟ واكتفى بعض المؤرخين بالقول إنّها مرضت، فسألت عن المسافة بينها وبين قم فقيل لها عشرة فراسخ، فأمرت خادماً لها أن يحملها إلى قم، ومكثت في قم في منزل موسى بن خزرج الأشعري سبعة عشر يوماً ثم ماتت.(160)







وذكر آخرون إنّها قد دسّ إليها السمّ في ساوة، ولم تلبث إلا أيّاماً قليلة واستشهدت(161).







واختلفوا أيضاً في أنّ ما جرى على هذا الركب من المآسي والقتل والتشريد هل كان بإيعاز من المأمون إلى شرطته وأمره بمحاصرة الركب وقتل رجاله وتشريدهم؟ أو أنّ أهل ساوة الذين كانوا آنذاك من أشدّ الناس عداوة لأهل البيت (عليهم السلام)، فلمّا وصل الركب إلى ساوة حاصره أهلها، ثم حملوا عليه ووقعت معركة دامية قتل فيها أخوة السيدة فاطمة وأبناؤهم وتشرّد من بقي منهم، ولما شاهدت السيدة فاطمة أخوتها وأبناءهم صرعى وقد قطّعت أجسادهم أصابها الحزن الشديد وضعفت قواها وعلى أثر ذلك اشتدّ بها المرض؟(162)







ولا نملك السند التاريخي لترجيح أحد القولين، وبناء على أن الجمع أولى من الطرح وصحة تطبيقه في المقام فيمكن أن يقال بأنّه لا تنافي بين الأمرين، وكلا الطرفين قد اشترك في إحداث هذه الفاجعة، وساهم في القضاء على هذا الموكب بمن فيه.







ولعلّ ما يؤيد ذلك انحراف أهل ساوة عن أهل البيت (عليهم السلام)، على ما ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان حيث قال: ساوة مدينة حسنة بين الرّي وهمذان في وسط بينهما، وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخاً، وبقربها مدينة يقال لها آوه، فساوة سنيّة شافعية، وآوه أهلها شيعة إمامية وبينهما نحو فرسخين ولا يزال يقع بينهما عصبيّة وما زالتا معمرتين إلى سنة 617هـ..(163)







ومن الطبيعي أن العصيبة ـ ولا سيما العصبيّة المذهبيّة ـ تدعو إلى العداء، وهو قد يجرّ إلى سفك الدماء، وقد كانت الظروف آنذاك وسياسة الحكّام يوم ذاك إنّما تقوم على تأجج نار العصبية وإلقاء الفتن بين الناس تفريقاً لكلمتهم وعملاً بالمقولة المشهورة (فرّق تسد).







وأمّا ما ذكره بعض الباحثين من قضيّة دسّ السمّ للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) فهي وإن كنّا لا نملك دليلاً قاطعاً على وقوعها أو عدمه إلا أنّنا لا ننفي ذلك، نظراً إلى أن السمّ كان أحد أمضى الأسلحة الفتّاكة التي كان العباسيون يستخدمونها ضدّ مناوئيهم، وكم لهم من قتيل ذهب ضحيّة شربة من سمّ دسّها بنو العباس، وكان أكثر ضحاياهم من آل أبي طالب (عليهم السلام)، حتى أنّ ستة من أئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) قد استشهدوا عن هذا الطريق.







ولذا فإنّا لا نستبعد وقوع هذه الحادثة ـ وإن كانت تفتقر إلى السند التاريخي كما هو مقتضى الصناعة ـ إذ لم يكن ثمّة ما يحول بينهم وبين الفتك بمن يتوهمون فيه أن وجوده يشكّل خطراً يتهدّد دوام حكمهم وسلطتهم ومصالحهم، وأيّ حاجز كان يمنعهم وهم الذين قتلوا الأطفال والشيوخ ووضعوا أجسادهم في أساس البنيان، ودفنوا بعضهم أحياء، وسلبوا النساء، وفعلوا ببني عمّهم ما لا يخطر على بال، حتى أنّه لو أوصى النبي (صلّى الله عليه وآله) بقتل ذريّته وتشريد عترته لما زادوا على ما صنعوا بهم.







وقد اعترف المأمون نفسه بفظاعة ما ارتكب العباسيون من جرائم الإبادة في حقّ بني علي وفاطمة (عليهم السلام)، وإن بني أمية برغم بشاعة ما اقترفوا كانوا أخف وطأة على العلويين منهم، فقال يخاطب بني العباس: ويحكم إنّ بني أمية إنّما قتلوا منهم من سلّ سيفاً، وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملاً، فلتسألنّ أعظم الهاشميّة بأيّ ذنب قتلت؟ ولتسألنّ نفوس ألقيت في دجلة والفرات؟ ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء؟..(164)







وعلى أي حال فقد كانت الأيام الأخيرة من حياة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) مريرة مؤلمة عانت فيها آلاماً في الروح وآلاماً في الجسد حتى آذنت شمسها بالمغيب.















في قم







ورحلت السيدة المعصومة (عليها السلام) من ساوة وهي مثقلة بالهموم والآلام والأحزان ميمّمة نحو قم، وكانت على موعد مع هذه البلدة الطيبة، والتي ستزداد مكانتها رفعة وشأناً وشرفاً يوم تطأ أرضها قدما السيدة فاطمة (عليها السلام)، ولنا حديث حول قم وتاريخها سيأتي في موضعه.







لقد علمت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بأنّها المعنية في ما ورد عن جدّها الإمام الصادق (عليه السلام) يوم قال.. وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنة.







وذكر الرواة أن الإمام (عليه السلام) قد حدّث بذلك قبل ولادة الإمام الكاظم (عليه السلام).(165)







وعلمت السيدة فاطمة (عليها السلام) بقرب رحيلها عن الدنيا، وأنّها لن تلبث إلا أيّاماً قليلة، كما علمت أن مواصلة المسير إلى طوس أصبح عسيراً بعد أن فقدت أخوتها وأبناءهم قتلاً وتشريداً، ولم تكن أرض ساوة ولا أهلها آنذاك أهلاً لاستضافتها، ومن أجل ذلك كان لابدّ أن رحلت عن ساوة إلى قم، فأمرت خادمها أن يحملها إليها.







ولما بلغ أهل قم نبأ قرب وصولها خرج الأشراف لاستقبالها، ولعلّهم كانوا يعلمون بما حدّث به الإمام الصادق (عليه السلام)، وأنّ هذه المرأة الجليلة هي التي وعدوا بها، وكان في طليعة مستقبليها موسى بن خزرج بن سعد الأشعري، فلمّا وصل إليها أخذ بزمام ناقتها، وجرّها إلى منزله وكانت في داره سبعة عشر يوماً.(166)







ولا زال موضع المنزل مائلاً إلى اليوم، حيث أصبح مدرسة علميّة ومسكناً لطلاب العلوم الدينية في قم، وقد اتخذت من بيته موضعاً جعلته محراباً لها تصلّي فيه.







يقول الشيخ المحدّث القمّي: والمحراب الذي كانت فاطمة رضي الله عنها تصلّي فيه موجود إلى الآن في دار موسى ويزوره الناس.







وما يزال هذا المحراب المبارك موجوداً إلى يومنا هذا ويقع في محلّة (ميدان مير) ومعروف بـ(ستية) والتي بمعنى السيّدة.(167)







لقد كانت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) تأمل في أن تحظى بلقاء شقيقها الرضا (عليه السلام)، لتطفئ لواعج الشوق والحنين، وتروي ظمأ الفؤاد، وكانت تغذّ السير نحو طوس لا تلوي على شيء.. ولكنّها الأقدار الإلهية ومشيئة الخالق الحكيم، وليس إلا التسليم والرضا بما شاء وأراد.















أفول الشمس وبزوغها







ومرت أيام بطيئة ثقيلة وما أصعب الانتظار.







لقد كانت تشعر بدنوّ رحيلها عن هذه الدنيا الزائفة، وكانت تستعجل الأيام، فليس وراء لقاء الله ولقاء الآباء والأجداد مطمع، وليس بين عالم نوري علوي وآخر مظلم سفلي قياس.. هكذا كانت السيدة فاطمة في أيّامها الأخيرة.







ولئن لم تحظ بلقاء أخيها منذ غاب عنها، وكان لقاؤه من أغلى الأماني، ولكن لن يطول غيابه، عمّا قريب سيرحل هو الآخر إليها في عالم غير هذا العالم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.







فما خلق أهل البيت للدنيا ولم تخلق الدنيا لهم، وإنّما جاءوا إلى الدنيا ليكونوا منائر هداية، وعلائم حق، ومنابع فيض، وسحائب غيث، ومهابط رحمة، ومصادر علم ومعرفة.







ولئن أعرض أبناء الدنيا عنهم وما عرفوا لهم قدراً فلحظهم ضيّعوا ولبنيانهم خرّبوا، ولآخرتهم أفسدوا، وما كان ذلك يضير بشأن أهل البيت (عليهم السلام) ومكانتهم، فإنهم آل الله وأهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) وعند الساعة يخسر المبطلون.







ولئن جرّت الدواهي عليهم تشتت شملهم وتفرّقهم في أطراف البلدان، وكان ذلك عند الله عظيماً، ولكن لعلّ في ذلك سرّاً خفيّاً حيث تكون مراقدهم الشريفة مواطن الرحمة، والخير والبركة، يلجأ إليها العاني، ويقصدها المحتاج، ويلوذ بها المضطرّ.







وهكذا كانت كريمة أهل البيت (عليهم السلام) السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) فقد شاءت المقادير الإلهية أن ترحل عن هذه الدنيا في بلدة نائية عن موطن الآباء والأجداد لتكون باباً من أبواب الرحمة إلى العباد، وملاذاً يؤمّها ذوي الحاجة والاضطرار، وسبباً من أسباب اللطف الإلهي للمؤمنين والأخيار.







وأسلمت روحها إلى بارئها راضية مرضيّة، ولم يتجاوز عمرها الشريف ـ على أقصى التقادير ـ الثلاثين ربيعاً، وكان ليوم موتها شأن عظيم.







وما أفلت تلك الشمس التي أطلت على مدينة قم بعد سبعة عشر يوماً من دخولها إليها إلا لتشرق من جديد، وليكون مثواها موئلاً وملاذاً ومطافاً، وتصبح السيدة فاطمة علامة تحول في تاريخ هذه البلدة وأهلها، ويكون حرمها مصدر خير وبركة لهم ولمن يقصدها من سائر البلدان من شتّى بقاع الأرض، منذ يوم وفاتها وإلى يوم الناس هذا.







وذكر بعض الرواة أنّها لما توفيت أمر موسى بتغسيلها وتكفينها وصلّى عليها ودفنها في أرض كانت له، وهي الآن روضتها.(168)







وذكر آخرون أنّه لما توفيت فاطمة رضي الله عنها وغسلت وكفنت حملوها إلى مقبرة (بابلان) ووضعوها على سرداب حفر لها، فاختلف آل سعد في من ينزلها إلى السرداب، ثم اتفقوا على خادم لهم صالح كبير السّن، يقال له (قادر).







فلمّا بعثوا إليه رأوا راكبين مقبلين من جانب الرّملة وعليهما لثام، فلمّا قربا من الجنازة نزلا وصلّيا عليها ثم نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها فيه ثم خرجا، ولم يكلّما أحداً وركبا ولم يدر أحد من هما..(169)







واعتقد بعض الباحثين أن هذين الراكبين هما الإمامان المعصومان الرضا والجواد (عليهما السلام)، وجاءا ليتوليا أمر الصّلاة عليها وإنزالها في قبرها ودفنها، وكان حضورهما عن طريق الإعجاز، وقد طويت لهما الأرض من خراسان حيث كان الإمام الرضا (عليه السلام)، ومن المدينة حيث كان الإمام الجواد (عليه السلام).(170)







واستشهد الباحث بحضور الإمام الكاظم (عليه السلام) من المدينة إلى نيشابور ليصلّي على جنازة امرأة من شيعته تدعى شطيطة في قصّة طويلة ذكرها الرواة، وفي آخرها قال الإمام (عليه السلام): إنني ومن جرى مجراي من أهل البيت لابدّ لنا من حضور جنائزكم في أيّ بلد كنتم، فاتقوا الله في أنفسكم وأحسنوا الأعمال لتعينونا على خلاصكم وفكّ رقابكم من النار.(171)







أقول: ومما يؤيّد ما ذكره الباحث أن للأئمة (عليهم السلام) مقامات شامخة، قصرت عقول الناس عن أن تحوم حولها فضلاً عن أن تدرك كنهها، فهم المجالي التامة لعظمة الله وقدرته وسلطانه، ومنحهم الولاية التكوينية المطلقة يتصرّفون بها في هذا الكون بما تقتضيه الحكمة والمصلحة وهم الترجمة العمليّة للقرآن الكريم.







يقول سيدنا الأستاذ آية الله الحجة السيد محمد الرجائي دام ظله في كتابه المنهج القويم: الرابع: قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)(172).







قيل: جواب (لو) محذوف، أي: كان هذا القرآن. فإذا كان صدر النبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام) قرآناً، فهم قادرون على تسيير الجبال، وتكليم الموتى، وتقطيع الأرض، ويحتمل أن تكون القدرة على المذكورات بعض ما يكون من الآثار للقرآن، ويكون المراد القدرة على كلّ تصرّف في الكون، فإذا كان صدر النبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام) قرآناً كذلك، فلهم التصرّف كذلك، ويسمّى ذلك بالولاية التكوينية.







والنبي (صلّى الله عليه وآله) يقدر على الإتيان بالمعجزات من رد الشمس وشقّ القمر على ما روي وغيرهما، وفي القرآن ذكر بعض من له بعض الولاية التكوينية، فقال عزّ من قائل: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ)(173). فأحضر عرش المرأة التي حكى الله تعالى عنها في كتابه، وكان عنده علم بعض الكتاب على ما يقتضيه كلمة من، فكيف بمن كان عنده علم الكتاب كلّه..(174)







واستشهد سيدنا الأستاذ ـ على هامش ما ذكره ـ بما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ورث النبيّين كلهم؟ قال: نعم، قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟ قال: ما بعث الله نبيّاً إلا ومحمد (صلّى الله عليه وآله) أعلم منه، قال: قلت: إنّ عيسى ابن مريم كان يحيي الموتى بإذن الله. قال: صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير، وكان رسول الله يقدر على هذه المنازل، قال: فقال: إنّ سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشكّ في أمره: (فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)(175) حين فقده فغضب عليه، فقال: (لأَعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)(176). وإنّما غضب لأنّه كان يدلّه على الماء. فهذا وهو طائر قد أعطي ما لم يعط سليمان، وقد كانت الريح والنّمل والإنس والجنّ والشياطين والمردة له لطائعين، ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء، وكان الطير يعرفه. وإنّ الله يقول في كتابه (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)(177).







وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسيّر به الجبال، وتقطّع به البلدان، وتحيى به الموتى، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإنّ في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن الله به، مع ما قد يأذن الله ممّا كتبه الماضون جعله الله لنا في أم الكتاب إن الله يقول: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلاَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(178). ثم قال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)(179). فنحن الذين اصطفانا الله عزّ وجلّ وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء.(180)







وبعد، فليس من البعيد حضور الإمامين المعصومين (عليهما السلام) إلى قم للصلاة على جنازة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فإنّها أهل لذلك، وقد حفظ الرّواة لنا نظير ذلك، كما في حضور أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى المدائن يوم وفاة سلمان، وكذا حضور الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى نيشابور كما ذكرنا، وغيرهما من الحوادث المشابهة.







وبملاحظة ما تقدّم من الإشارة إلى مقام السيدة فاطمة (عليها السلام) الشامخ ومنزلتها العالية عند الأئمة (عليهم السلام) حتى أشاد ثلاثة من المعصومين (عليهم السلام) بمكانتها، وبما ذكرناه من القول بعصمتها لا يبقى بعد ذلك مجال للتشكيك، ولا غرو في ذلك فإنّ لها عند الله شأناً من الشأن.















تاريخ الوفاة







لم يرد في شيء من الروايات تاريخ اليوم أو الشهر الذي رحلت فيه السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) عن الدنيا، وإنّما ورد ذكر السّنة فقط، فقد جاء في تاريخ قم أنّه لمّا أخرج المأمون الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو لولاية العهد في سنة مائتين من الهجرة خرجت فاطمة أخته تقصده في سنة إحدى ومائتين، فلمّا وصلت إلى ساوة مرضت..(181)







وتقدّم أنّها مكثت في قم سبعة عشر يوماً في منزل موسى بن خزرج بن سعد الأشعري. وأما تاريخ اليوم أو الشهر فلم يذكرا.







وقد اختلفت الأقوال في تحديدهما، وذكر أحد الباحثين(182)، أنّها ثلاثة:







القول الأول: العاشر من ربيع الثاني، وهو المنقول عن كتابي (نزهة الأبرار في نسب أولاد الأئمة الأطهار) للسيد موسى البرزنجي الشافعي المدني، و(لواقح الأنوار في طبقات الأخيار) لعبد الوهاب الشعراني الشافعي.







القول الثاني: الثاني عشر من ربيع الثاني، وهو المذكور في كتاب (مستدرك سفينة البحار) للشيخ النمازي.







القول الثالث: الثامن من شهر شعبان، وهو المنقول عن كتاب (العربيّة العلويّة واللّغة المرويّة) وللمحدّث الحرّ العاملي.







وقد رجّح بعض الباحثين القول الأول لا اعتماداً على المصدرين المذكورين، وإنّما لبعض القرائن والشواهد، وذكر واحدة منها، قد لا تكون موجبة للترجيح عند غيره.(183)







وعلى أي تقدير فقد اختلف في سنة ولادتها كما تقدم فضلاً عن اليوم والشهر وما أكثر الاختلافات في التاريخ، وحسبك أن تعلم أن المسلمين اختلفوا في يوم ميلاد النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، ويوم وفاته، فكيف بأهل بيته (عليهم السلام)؟







على أن أسباب الاختلاف كثيرة يوم ذاك، فليس من العجب أن يهمل ذكر اليوم أو الشهر أو السّنة التي ولدت فيه السيدة فاطمة (عليها السلام) وكذا اليوم أو الشهر الذي رحلت فيه، ولولا أن ذكر السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) قد اقترن بقضيّة إخراج الإمام الرضا (عليه السلام) من المدينة لأهمل ذكر السّنة التي توفيت فيها أيضاً، كما أهمل ذكر السّنة التي ولدت فيها، إذ لم يكن ثمّة مؤرخ يعني بتسجيل الأحداث وضبطها، وإذا كان هناك من يؤرّخ فإنّما هو لتسجيل أمور تافهة وحقيرة ـ كما يقول السيد العاملي ـ فيسهب في وصف مجلس شراب أو منادمة حتى لا يفوته شيء منه أو يختلق ويفتعل أحداثاً لم يكن لها وجود إلا في عالم الخيالات والأوهام، أو يتكلّم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر بل قد لا يكون لهم وجود أصلاً.. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلّية شخصيات لها مكانتها وخطرها في التاريخ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه، ويهمل ويشوّه أحداثاً ذات أهميّة كبرى صدرت من الحاكم نفسه أو من غيره، ومن بينها ما كان له دور هام في حياة الأمة ومستقبلها، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بستار من الكتمان والإبهام.(184)















الحرم الشريف







يقع حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في قلب المدينة المقدسة قم، على مساحة واسعة من الأرض تقدر بثلاثة عشر ألفاً وخمسمائة وسبعة وعشرين متراً مربّعاً كما جاء في بعض التحقيقات(185)، وتحيط به معاهد العلم وأماكن العبادة، فيتصل به من جهة الشمال مسجدان، أحدهما يعرف بمسجد (بالا سر) أي فوق الرأس، والآخر هو مسجد الكبير المعروف بالمسجد الأعظم، الذي تميّز منذ تأسيسه عام 1373هـ بأمر المرجع الديني الكبير زعيم الشيعة الإمامية آية الله العظمى السيد البروجردي (قدس سره) وتحت إشرافه، إلى يومنا هذا ـ إضافة إلى إقامة الجماعات فيه ـ بأنّه معهد للدراسات الدينيّة العليا، وملتقى الآلاف من الطلاب في موسم الدراسة من مختلف أنحاء العالم، حيث يتلقون العلم في الأصول والفقه والتفسير والحديث والرّجال.







ويعدّ اليوم أكبر مجمع علمي يضمّ أكبر عدد من الطلاب يقصدونه صباحاً ومساءً، حيث تلقى فيه الدروس بانتظام على مدى تسعة أشهر من السنة تقريباً هي موسم الدراسة من كل عام.







وقد شيّد المسجد الأعظم على مساحة من الأرض تقدر بأحد عشر ألف متر مربع، تقوم فوقه قبّة عظيمة مزيّنة بالكاشي من الداخل والخارج، ولعلّها أعظم قبّة في إيران، وله مئذنتان عظيمتان هما أعلى مئذنتين في قم، ومئذنتان صغيرتان وبناء لساعة كبيرة، وقد أنفق على بنائه وبناء سائر مرافقه أكثر من سبعة ملايين توماناً.(186)







وينفتح الحرم الشريف من جهته الجنوبيّة على فناء واسع يعرف بالصحن الكبير يحوطه سور له أربعة أبواب، ويحوي في أطرافه الثلاث عدداً كبيراً من الحجرات هي أشبه شيء بالفصول الدراسية، حيث تلقى فيها الدروس المختلفة، كما أنّها تضمّ عدداً كبيراً من قبور العلماء والمؤمنين.







وأمّا من جهة الغرب فيتصل به مسجدان أو ثلاثة تمتلئ بحلقات الدروس أيضاً، والتي لا تنقطع صباحاً ومساء إلا في أوقات الصلاة، حيث تقام فيها الجماعات.







وأمّا من جهة الشرق فتتصل به مدرستان كبيرتان ـ الفيضية ودار الشفاء ـ تشتملان على عدد كبير من الغرف يسكن الطلاب ببعضها، ويدرسون في بعضها الآخر.







ويتوسط بين الحرم وبينهما فناء يعرف بالصحن الصغير، له ـ من جهة الجنوب ـ مدخلان ينفتحان على الصحن الكبير، ومدخلان ـ من جهة الشمالية ـ ينفتحان على ساحة المسجد الأعظم، وفي زواياه وجهته الشرقيّة عدد من الغرف.







وأما جهته الغربية ففيها الإيوان الذهبي الذي يتصل بالرّواق المتصل بالضريح المقدس.







وإنّك لتجد هذا الحرم المقدس كلّ يوم من قبل طلوع الفجر وإلى ما بعد منتصف الليل في حركة دائبة مستمرة، والناس يغدون ويروحون بين متعبّد، وزائر، ومصلٍّ، وقارئ للقرآن، وطالب علم.







لذلك كان هذا الحرم الشريف قلب هذه المدينة النابض، ومعلمها البارز، ومهوى الأفئدة.







ويضمّ الحرم الشريف عدداً كبيراً من قبور العلماء والأولياء والصالحين، دفن أصحابها بجوار السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، كما دفن في داخل الحرم عدد من العلويات وغيرهن، وكانت قبورهنّ متميّزة تحت قبّتين، وأمّا اليوم فيضمهنّ ضريح واحد تحت قبّة واحدة، ولا يتميز من تلك القبور إلا مرقد السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وقد وضع عليه صندوق خشبي.







وذكر صاحب تاريخ قم أنّ القبّة الأولى تضمّ قبر السيدة المعصومة (عليها السلام)، وقبر أم محمد بنت موسى أخت محمد بن موسى (عليه السلام)، وقبر أم إسحاق جارية محمد بن موسى، وتضمّ القبّة الثانية قبر أم حبيب جارية أبي علي محمد بن أحمد بن الرضا (عليه السلام)، وكانت هذه الجارية هي والدة أم كلثوم بنت محمد، وقبر أم موسى بنت علي الكوكبين وقبر ميمونة بنت موسى أخت محمد بن موسى (عليه السلام).(187)







وقال المحدّث القمي في منتهى الآمال: واعلم أنّ دفن جمع من البنات الفاطميّات والسادات الرضويّة في بقعة فاطمة (عليها السلام)، كزينب، وأم محمد، وميمونة بنات الإمام الجواد (عليه السلام)، ورأيت في نسخة من أنساب المجدي أنّ ميمونة بنت موسى بن جعفر (عليه السلام) دفنت مع فاطمة المعصومة (عليها السلام)، ومن المدفونين أيضاً بريهة بنت موسى المبرقع، وأم إسحاق جارية محمد بن موسى، وأم حبيب جارية محمد بن أحمد بن موسى رضوان الله تعالى عليهنّ، وكانت هذه الجارية والدة أمّ كلثوم بنت محمد.(188)







هذا، وقد دفن أربعة من سلاطين إيران من السادة الصفوية الموسويّة في حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فإنّ المحدث القمّي ـ في منتهى الآمال ـ بعد أن ذكر الشاه عباس الأول وأنّ وفاته في ليلة 24 من شهر جمادي الأولى سنة 1038هـ، قال: وجاء بعده حفيده الشاه صفي الأول ابن ابنه صفي ميرزا الشهيد، وحكم أربع عشرة سنة، وتوفي في الثاني عشر من شهر صفر سنة 1053هـ، ودفن بقم، وقبره في جهة القبلة من الروضة المشرّفة لفاطمة بنت الإمام موسى الكاظم (عليهما السلام) وأصبح اليوم داخل الروضة في المكان المخصّص لدخول النساء لزيارة السيدة المعصومة (عليها السلام)..، وجاء بعده ابنه الشاه عباس الثاني وهو في التاسعة من عمره وحكم 26 سنة، وتوفي بدامغان عند رجوعه من مازندران إلى أصفهان في سنة 1078هـ، ونقل جثمانه إلى قم، ودفن إلى جوار الروضة المقدسة لفاطمة بنت الإمام الكاظم (عليهما السلام) في مساحة واسعة قرب أبيه.







وجاء بعد الشاه صفي الثاني في السادس من شهر شعبان سنة 1078هـ وألقى المحقّق الخونساري في مسجد جامع شاهي خطبة في تأييده، ولقب بشاه سليمان، وكان عادلاً، وهو الذي عمّر قبة الإمام الرضا (عليه السلام) في سنة 1086هـ وزاد في تذهيبها، وتوفي سنة 1105هـ، ودفن في مكان يقرب من قبر الشاه عباس، وانتقال الملك إلى ابنه الشاه سلطان حسين وهو آخر سلاطين الصفوية.. وذكر قصة مقتله في أصفهان ثم قال: ولكن الناس حملوا جثمان السطلان حسين بعد مدّة من الزمان وجاءوا به إلى قم، ودفن في جوار عمّته فاطمة المعصومة (عليها السلام) جنب قبر أبيه.(189)







وقد ذكر أن السطلان فتح علي شاه القاجاري الذي هيأ تراب قبره من تراب أرض كربلاء، مدفون في إحدى غرف الصحن الصغير، ومن آثاره تذهيب قبّة حرم السيدة المعصومة.(190)







ودفن أيضاً محمد شاه قاجار، وهو أحد سلاطين إيران.







وممّن دفن من الوزراء والأعيان: علي أصغر أتابك، الذي كان الصّدر الأعظم لإيران في زمان ناصر الدين شاه، ومظفر الدين شاه، وهو الذي بنى الصحن المعروف بالصحن الأتابكي.







ومنهم: كامران ميرزا بن ناصر الدين شاه، الذي كان نائب السّلطنة وحاكم طهران.







ومنهم: عين الملك، صهر محمد شاه قاجار الذي يقال أنّه تقلّد الوزارة.







ومنهم: فرخ أمين الدولة، وزير ناصر الدين شاه.







ومنهم: عبد الصّمد عزّ الدولة ابن محمد شاه الثاني.







ومنهم: الملك المنصور شعاع السلطنة ابن مظفر الدين شاه قاجار حاكم شيراز.







وغيرهم ممن حظي بالدفن في جوار الحرم المقدس وهم كثير.(191)







وذلك يكشف عن أن سلاطين الدنيا وملوكها وأمراءها وإن خضعت لهم البلاد أو أخضعوها ـ بحقّ أو بغيره ـ إلا أن سلطان الآخرة وملكها بيد غيرهم، ومثلهم في ذلك مثل سائر الناس، ولذا فإنّ بعضهم يتوسل إلى لطف الله ورحمته بجعل مدفنه في جوار الأبرار والصالحين.







ولا زال الدفن في هذه البقعة الطاهرة أمنية تراود كثيراً من العلماء والمؤمنين للحظوة بهذا الجوار المقدس، ولا شكّ أن لذلك آثاراً عظيمة كما أشارت إليه النصوص الواردة في شأن القبور والدفن في جوار الأولياء.







هذا، وقد مرّ حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في عمارته بمراحل عديدة حتى بلغ ما هو عليه اليوم من الجلالة والقدسية والعظمة.







وقد رد في بعض الروايات أنّه لما توفيت السيدة فاطمة (عليها السلام) ودفنت في روضتها، قام موسى بن خزرج ببناء سقيفة من البواري على قبرها، إلى أن بنت زينب بنت محمد بن علي الجواد (عليه السلام) قبّة عليها.(192)







وذكر الباحث الشيخ علي أكبر مهدي ‏پور مختصراً عن مراحل تطوّر عمران هذا الحرم الشريف فقال ما ترجمته:







بعد دفن كريمة أهل البيت بنى موسى بن الخزرج المظلّة ـ سقيفة ـ من القصب فوق القبر الشريف.







بعد ذلك بنت زينب بنت الإمام الجواد (عليه السلام) قبّة من الآجر فوق القبر.







في سنة 413هـ زين الحرم المطهّر بالآجر الملوّن النفيس.







في سنة 529هـ أسّست قبّة جديدة.







في سنة 592هـ جدّد بناء القبّة المطهّرة.







في سنة 1218هـ تمّ تذهيب القبّة المطهّرة.







في ذلك التاريخ زين سطح القبّة بـ12000 قطعة من الآجر المذهب.







في سنة 1275هـ صنع الضريح الفضّي.







في سنة 1285هـ أسّست مآذن الإيوان (الشرفة) الذهبي.







في سنة 1301هـ ذهّبت هذه المآذن.







في سنة 1292 هـ صنع الباب المنقوش للرّوضة المطهّرة.







في سنة 1303هـ أسّس الصّحن الجديد.







في سنة 1306هـ صنع الباب الفضّي للحرم المطهّر.(193)







وجاء في بعض التحقيقات: وأقام أبناء سعد الأشعري على قبرها خيمة من الحصير المصنوعة من القصب، إلى أن جاءت زينب الإمام الجواد (عليه السلام) وبنت على القبر قبّة هي أول قبّة تقام على ذلك القبر، وكان للبناء باب صغير إلى جهة النّهر الذي يفصل بين شطري قم الآن.







واستمرّ الحال على هذا إلى سنة 350هـ حيث جاء زيد بن أحمد بن بحر الأصفهاني وبدّل ذلك الباب الصغير بباب أكبر منه.







وفي عهد طغرل السلجوقي (429-465هـ) هدمت القبّة الصغيرة، وبني بدلاً عنها قبّة أخرى منها وأعلى وأفخم، وكان الذي قام بهذا العمل الأمير أبو الفضل العراقي من أمراء طغرل، واستمرّ الحال على هذا فكان يتجدّد بناء المرافق والملاحق للمزار من دون أن يتجدّد بناء القبّة إلى زمان الصفويّة حيث بدأت التغييرات والتجديدات في عهدهم بصورة أوسع، فهدمت القبّة السلجوقيّة في سنة 925هـ وبني مكانها قبّة أعلى وأفخم وأحسن منها، تقوم على ثمانية أضلاع، وكانت مزيّنة من الخارج بالكاشي، وأمّا من الداخل فقد كانت منقوشة بالذهب واللاّزورد، وكان الذي قام بهذا العمل امرأة اسمها (شاه بيگم بنت عماد بيك) وكانت هي امرأة الشاه إسماعيل الصفويّ أول الملوك الصفويّة، وهذه القبّة باقية حتى الآن على المرقد الشريف بتغييرات في داخل القبة وخارجها، ولم يكن هناك إيوان ولا صحن ولا وضع ضريح من الداخل.







واستمرّ الحال على هذا إلى زمان الصفويّة حيث بدأت التغييرات والتجديدات من عهدهم وبالتحديد من سنة 906هـ.







وفي سنة 925هـ بنى شاه إسماعيل أو امرأته الإيوان الشمالي المتصل بالصّحن القديم، وزيّنه بالكاشي (المعرّق) وجعله المدخل الوحيد للحرم، كما أنّه ـ أي شاه إسماعيل ـ قد وضع الأساس للصحن القديم، وفي سنة 950هـ بنى الشاه طهماسب ضريحاً على المرقد المطهّر وكان من الكاشي، وفي سنة 1077هـ بنى شاه سليمان الصفوي صحن النساء في الجهة الجنوبية من الحرم، وأصبح هذا الصحّن طريقاً خاصّاً لمقبرة الشاه سليمان، والشاه عباس، والشاه سلطان حسين، إذ من المعلوم أنّ مدخل هذه المقبرة كان من هذا الصّحن فقط.







هذا، وقد وضع الشاه عباس على ذلك المرقد المطهّر الذي كان قد زيّن بالكاشي قفصاً من الفولاذ الأبيض، وكان لإتقان صنعه بحيث أوجب أن يظن الرّحالة المشهورة (تاورينه) أنّه من الفضّة.







كما أنّ مرتضى قليخان أحد رجال الدولة الصفويّة قد جدّد بناء إيوان الحرم، وبعد عهد الصفويّة وبالتحديد في سنة 1218هـ رفع الكاشي عن القبّة ووضع بدلاً عنه لبنات من الذهب، وفي سنة 1236هـ بنى مسجد فوق الرأس، وفي سنة 2166هـ جدّد بناء إيوان الشاه إسماعيل، وفي ذلك الوقت أيضاً وسّع الصحن العتيق، وبنى من الجهة الشمالية منه مئذنة.







وفي سنة 1221هـ فرشت أرض الحرم وجدرانه بالرّخام كما زيّن الضّريح بالذّهب، ووضع أول باب ذهبي في الضلع الشمالي للرواق المتصل بإيوان الذهب الشمالي.







وفي سنة 1215هـ زين داخل القبّة بالنقوش البارزة والمرايا والكتابات الجميلة، وفي سنة 1276هـ زيّن إيوان الشاه إسماعيل بلبنات الذّهب، وفي سنة 1275هـ ألبس الضريح الفولاذي بالفضّة وزيّن بالنقوش والكتابة.







وبنى شهاب الملك مآذن الإيوان الشمالي وزيّنها بالكاشي، ووضع (كامران ميرزا) قضبان الذّهب في أعلاهما، وشرع أمين السلطان ببناء الصّحن الجديد المعروف بالصحن الأتابكي ووضع أسسه، لكن الأجل عاجله فأكمل العمل بعده ولده أمين السلطان والوزير الأعظم أتابك، وجعل في الجهة الغربية من الصحن إيواناً زيّنه بالمرايا من الداخل والكاشي من الخارج، وبنى حول الصّحن غرفاً متعدّدة أصبحت فيما بعد مقابر للأعيان والأشراف، كلّ ذلك مزيّن بالكتابة والنقوش الجميلة وقد انتهي من ذلك كلّه سنة 1303هـ.







وفي سنة 1346هـ جرت بعض التعميرات في صحن النساء وبني إيوان فيه، وفي سنة 12101214هـ وضع (نظام السلطنة) بابين من الفضّة في الضلع الغربي من الحرم..(194)







هذا، وقد تعاقبت الأيدي ـ ولا زالت ـ على عمارة الحرم الشريف وصيانته ونظافته وتجديد بنائه.







وتشرف على الحرم منذ عهد قديم هيئة خاصّة تعنى به وبمرافقه وتدير شؤون الأوقاف التابعة له، وترعى أمور الزائرين والوافدين.







وكانت الخدمة في الحرم الشريف ـ ولا زالت ـ تعتبر شرفاً لا يحظى به إلا القليل، حتى أن بعض المؤمنين يتبرّع بالخدمة تقرّباً إلى الله تعالى، وتشرفاً بخدمة حرم وليّ من أوليائه، وإظهاراً لمودّة أهل بيت نبيه (عليهم السلام).







وأصبح هذا الحرم الشريف مصدر خير وبركة، وموطن عبادة ودعاء وأماناً للمؤمنين عامة، ولأهل قم خاصّة، فقد كان هذا الحرم ملجأً وملاذاً للناس عند الشدائد والأزمات، حيث يلوذون بقربها ويتوسّلون بها إلى الله، وهي كريمة أهل البيت، ولها عند الله شأن من الشأن، فلا يصدرون إلا بالفرج والخير والإجابة.















الزيارة







(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(195).







إن أهم ما يميّز الشيعة الإماميّة عن سواهم ولاؤهم لأهل البيت (عليهم السلام) وصدقهم في الولاء، وحفظهم المودّة ورعايتهم للودّ، ذلك لأنهم علموا وتيقنوا أن طريق النجاة والخلاص منحصر في اتباعهم واقتفاء خطاهم، والسير على هديهم وهداهم، وربطوا مصيرهم بأئمتهم (عليهم السلام)، لا يحيدون عن ذلك ولا يبغون عنه بدلاً.







وقد قامت الأدلّة عندهم من العقل والنقل على انحصار الهداية فيهم وبهم دون سواهم، في العقيدة والفقه والأخلاق، وقد تكفّلت كتبهم الكلامية(196) ببيان ذلك ودلالة عليه، فأهل البيت (عليهم السلام) وهم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) هم ذوو القربى الذين أمر الله بمودتهم وطاعتهم، وهم الأمناء على دين الله وشريعة نبيه (صلّى الله عليه وآله)، وهم حملة القرآن، ووارثو علم الرسول (صلّى الله عليه وآله).







أضف إلى ذلك ما تجلّى من سيرتهم (عليهم السلام) التي كانت مثالاً لسيرة جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فكانوا بذلك مهوى الأفئدة وملتقى القلوب، فإنّهم القادة إلى الصراط المستقيم.







غير أنّ الأمة ـ ويا للأسف ـ تنكّرت لهم وتنكّبت طريقهم، فما عرفت لهم فضلاً، ولا رعت لهم حقّاً، وعاشوا غرباء، ورحلوا غرباء، وهكذا شأن الأولياء والصديقين يعيشون في غربة، ويرحلون في غربة لا يعرف لهم قدراً ولا مقاماً.







ولم يكن هناك إلا ثلة قليلة حظيت بشرف الاعتقاد بإمامتهم، والاقتداء بهم والسير على خطاهم، وهم شيعتهم الذين استنارت بصائرهم بولايتهم ومحبّتهم، فكانوا هم الفائزين.







ثم إنّ من أجلى مظاهر الودّ ومراعاة المودّة لدى الشيعة الإمامية تجاه أئمتهم (عليهم السلام) تعاهد مواطنهم ومواضع مراقدهم بالزيارة، وتجديد العهد بالولاء والمحبة يستسهلون في الوصول إليهم كل عسير، ويستمرئون كل خطير، فقد جعل الله تعالى تلك المواطن المطهّرة بيوتاً أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.







ومع أن الزيارة تتحقق من البعد، فقد ورد أنّهم يبلغهم السلام(197)، إلا أن الأئمة (عليهم السلام) قد أكدوا على شيعتهم في السعي إلى مقاماتهم المشرّفة لما يترتّب على ذلك من الفوائد العظيمة.







فقد حرص الأئمة (عليهم السلام) ـ شفقة ورأفة منهم بشيعتهم ـ أن لا تفوتهم تلك المغانم الجليلة حيث جعل الله تعالى مواضع قبورهم مواطن الرحمة، ومهابط الملائكة، مظانّ إجابة الدّعاء وغفران الذنوب، والقربة لله والوفاء لرسوله، وإظهار المودّة لذوي القربى.







روى الكليني بسنده عن زيد الشحام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما لمن زار واحداً منكم؟ قال: كمن زار رسول الله (صلّى الله عليه وآله).(198)







وقال الشيخ المفيد وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: من زارنا بعد مماتنا فكأنما زارنا في حياتنا..(199)







وروى الشيخ في التهذيب بسنده عن أبي عامر السّاجي واعظ أهل الحجاز، قال: أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام)، وقلت له: يا بن رسول الله ما لمن زار قبره ـ يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وعمّر تربته؟ قال: يا أبا عامر حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه الحسين بن علي (عليهم السلام)، عن علي (عليه السلام)، أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال له: والله لتقتلنّ بأرض العراق، وتدفن بها، قلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن إنّ الله تعالى جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عبادة تحنّ عليكم، وتحتمل المذلّة والأذى، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها، تقرباً منهم إلى الله، ومودّة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي الواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنّة.







يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمّه، فأبشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم، وقرّة العين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.







ولكن حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم كما تعيّر الزّانية بزناها، أولئك شرار أمتي، لا أنالهم الله شفاعتي، ولا يردون حوضي.(200)







إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.







وإضافة إلى كون الزيارة إحدى القربات والعبادات، فيها من المنافع الدينية والدنيويّة ما لا يخفى، بحيث لو لم يرد أي نصّ في الترغيب فيها والحثّ عليها لكانت في نفسها جديرة بالاغتنام.







ولما كانت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) غصناً من تلك الشجرة الطيبة، وفرعاً من ذلك الأصل الزّاكي، ولها من الشأن والمقام ما قد عرفت، ورد الترغيب في زيارتها، والحثّ على قصد بقعتها، قربة لله تعالى ووفاء لرسوله (صلّى الله عليه وآله).







ولم يتوان الشيعة الإمامية عن ذلك، بل صاروا يسعون أفواجاً ووحداناً، من شتى بقاع الأرض، متحمّلين مشاقّ السفر وأخطاره في محبّة صادقة وولاء عميق، معظّمين بذلك إحدى شعائر الله تعالى.







وقد ورد في العديد من الروايات التأكيد على زيارتها، وأنّ الله تعالى قد جعل الجنّة ثواباً لمن زارها، ومن تلك الروايات ما تقدم ذكره عن عدّة من أهل الرّي أنّهم دخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام) وقالوا: نحن من أهل الرّي، فقال (عليه السلام): مرحباً بإخواننا من أهل قم، فقالوا: نحن من أهل الري، فأعاد الكلام، قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجابهم به أولاً، فقال (عليه السلام): إن لله حرماً وهو مكة، وإن للرسول حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنّة، قال الراوي: وكان هذا الكلام منه (عليه السلام) قبل أن يولد الكاظم.(201)







ومنها: ما روي عنه (عليه السلام) أيضاً أنه قال: إنّ زيارتها تعدل الجنّة.(202)







ومنها: ما رواه الصدوق بسنده عن سعد بن سعد، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليهم السلام)، فقال (عليه السلام): من زارها فله الجنّة.(203)







ومنها: ما روي عن سعد عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: قال: يا سعد عندكم لنا قبر، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى (عليهما السلام)، قال: نعم، من زارها عارفاً بحقّها فله الجنّة.(204)







ومنها: ما روي عنه (عليه السلام) أيضاً أنه قال: من زار المعصومة بقم كمن زارني.(205)







ومنها: ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الجواد (عليهما السلام) أنه قال: من زار قبر عمّتي بقم فله الجنّة.(206)







وغيرها من الروايات الدالة على فضل زيارتها، وما أعدّه الله تعالى ثواباً لزائرها وهو الجنّة، وقد ورد أن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها لأهل قم.















نص الزيارة







ومع كفاية حضور الزائر عند المزور والسلام عليه في تحقّق الزيارة، إلا أنّه قد ورد نصّ خاص عن الإمام الرضا (عليه السلام) في كيفية زيارة السيدة المعصومة، كما ذكر ذلك العلامة المجلسي (قدس سره) في البحار، قال: رأيت في بعض كتب الزيارات: حدّث علي بن إبراهيم عن أبيه، عن سعد عن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، قال: قال: يا سعد عندكم لنا قبر، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى (عليهما السلام)، قال: نعم، من زارها عارفاً بحقّها فله الجنّة، فإذا أتيت القبر فقم عند رأسها مستقبل القبلة، وكبّر أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمد الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، ثم قل:







السلام على آدم صفوة الله، السلام على نوح نبي الله، السلام على إبراهيم خليل الله، السلام على موسى كليم الله، السلام على عيسى روح الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا صفي الله، السلام عليك يا محمد بن عبد الله خاتم النبيين، السلام عليك يا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله، السلام عليك يا فاطمة سيدة نساء العالمين، السلام عليكما يا سبطي نبي الرحمة وسيّدي شباب أهل الجنّة، السلام عليك يا علي بن الحسين سيد العابدين وقرّة عين الناظرين، السلام عليك يا محمد بن علي باقر العلم بعد النبي، السلام عليك يا جعفر بن محمد الصادق البارّ الأمين، السلام عليك يا موسى بن جعفر الطّاهر الطّهر، السلام عليك يا علي بن موسى الرضا المرتضى، السلام عليك يا محمد بن علي التقي، السلام عليك يا علي بن محمد النقي الناصح الأمين، السلام عليك يا حسن بن علي، السلام على الوصي من بعده، اللهم صلّ على نورك وسراجك، ووليّ وليّك، ووصيّ وصيّك، وحجّتك على خلقك.







السلام عليك يا بنت رسول الله، السلام عليك يا بنت فاطمة وخديجة، السلام عليك يا بنت أمير المؤمنين، السلام عليك يا بنت الحسن والحسين، السلام عليك يا بنت ولي الله، السلام عليك يا أخت ولي الله، السلام عليك يا عمّة ولي الله، السلام عليك يا بنت موسى بن جعفر، ورحمة الله وبركاته.







السلام عليك، عرّف الله بيننا وبينكم في الجنّة، وحشرنا في زمرتكم، وأوردنا حوض نبيّكم، وسقانا بكأس جدّكم، من يد علي بن أبي طالب، صلوات الله عليكم، أسأل الله أن يرينا فيكم السرور والفرج، وأن يجمعنا وإيّاكم في زمرة جدّكم محمد (صلّى الله عليه وآله)، وأن لا يسلبنا معرفتكم إنّه وليّ قدير.







أتقرّب إلى الله بحبّكم، والبراءة من أعدائكم، والتسليم إلى الله راضياً به، غير منكر ولا مستكبر، وعلى يقين ما أتى به محمد وبه راضٍ، نطلب بذلك وجهك يا سيدي، اللهم ورضاك والدار الآخرة، يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإنّ لك عند الله شأناً من الشأن.







اللهم إنّي أسألك أن تختم لي بالسعادة، فلا تسلب منّي ما أنا فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم استجب لنا وتقبّله بكرمك وعزتك، وبرحمتك وعافيتك، وصلى الله على محمد وآله أجمعين، وسلّم تسليماً يا أرحم الراحمين.(207)















خصائص الزيارة وبعض مميّزاتها







وتعد هذه الزيارة من الزيارات الجامعة حيث اشتملت على السلام على أبي البشر آدم (عليه السلام)، وأولي العزم من الرسل (عليهم السلام)، ثم السلام على المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) وهم الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام)، وذكرهم واحداً واحداً، ثم السلام على فاطمة المعصومة، ثم الإشارة إلى بعض مقامات أهل البيت (عليهم السلام)، ومنزلتهم عند الله تعالى، وما أعده لهم من المنزلة في الدار الآخرة، والشأن العظيم، ثم الإقرار لهم بالمحبة والولاية والبراءة من أعدائهم، والتسليم إلى الله تعالى، وإعلان الرضا بكل ما جاء به النبي (صلّى الله عليه وآله) والاعتقاد اليقين به، ثم الابتهال إلى الله تعالى وطلب الثبات على ذلك.







وجميع هذه المضامين العالية واردة في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فهي في حدّ ذاتها ـ بغضّ النظر عن سندها ـ موافقة لما ورد من أصول المعارف الحقّة عن أئمة الهدى (عليهم السلام).







ثم إنّ في هذه الزيارة أموراً تلفت النظر وتسترعي الانتباه، نشير إجمالاً إلى ثلاثة منها:







الأول: الالتفات في السلام من الغيبة إلى الخطاب، فإنّ الزيارة تبدأ بالسلام على آدم في صورة الغيبة، حتى إذا بلغ السلام إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) تحوّل إلى صورة المخاطبة.







الثاني: ذكر في الزيارة أن السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بنت الحسن (عليه السلام)، حيث ورد فيها: السلام عليك يا بنت الحسن والحسين.







ومن المعلوم أن فاطمة المعصومة (عليها السلام) تنحدر من سلالة الحسين (عليه السلام)، فهي فاطمة بنت موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).







الثالث: اشتمال الزيارة على أن للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) شأناً من الشأن، وبه تشفع في الجنة.







أما الأمر الأول: فلأن من الثابت بالكتاب والسنّة أن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) شهداء على الخلق، وأنّهم في جميع الحالات يسمعون الكلام ويردّون السلام، من دون اختصاص بمكان دون مكان أو زمان دون آخر، ولذا فإنّ جميع ما ورد من الزيارات ـ إلا القليل ـ كان في صورة الخطاب والحضور، حتى أنّ التسليم المستحبّ في آخر كلّ صلاة كذلك، وهو قول المصلّي (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).







وأمّا في خصوص المقام فقد ذكر بعض العلماء أن في ذلك إلماحاً بل إشارة إلى منزلة قم ومكانتها عند أهل البيت (عليهم السلام)، وقد أثنى الأئمة (عليهم السلام) على أرض قم وأهلها، ووردت عنهم (عليهم السلام) أحاديث كثيرة في ذلك، وسيأتي ذكر بعضها في محلّه.







ويؤيد ذلك ما ورد في الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: إنّ لله حرماً وهو مكة، وإنّ للرسول حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم..(208)







وفي رواية أخرى: ألا إن قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنّة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم..(209)







ففي العدول من الغيبة إلى الخطاب إشعار بحضورهم (عليهم السلام) في هذا المكان المقدّس فإنّه حرمهم، وموطن شيعتهم، وورد في الروايات أنّهم (عليهم السلام) لا يغيبون عن شيعتهم.







وقد أصبح لبلدة قم ميزة أخرى تضاف إلى مميّزاتها وهي أنّها مثوى السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، الأمر الذي زاد في ارتباط الأئمة (عليهم السلام)، بقم، وقد أخبر عنه الإمام الصادق (عليه السلام) قبل ولادتها، بل قبل ولادة أبيها (عليه السلام) حيث قال: وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنّة.(210)







وفي رواية أخرى: تقبض فيها امرأة هي من ولدي، واسمها فاطمة بنت موسى، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنّة بأجمعهم(211) وبه ينسجم العدول في السلام من الغيبة للخطاب فإنّ الزّائر يخاطب النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وهم حاضرون.







وأما الأمر الثاني: فيظهر معناه بالرجوع إلى نسب الإمام الباقر (عليه السلام) من جهة أمّه (عليها السلام)، وهي فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، فتكون جدّة للإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، وبذلك تكون السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بنتاً للإمام الحسن (عليه السلام) من طرف الأم.







وقد ذكر الرواة أن أم الإمام الباقر (عليه السلام) كانت على مرتبة عالية من الجلال والكمال.







يقول المحدّث القمّي في منتهى الآمال: أمّه ـ أي الإمام الباقر (عليه السلام) ـ الماجدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى، وقيل لها: أم عبد الله.







فاصبح (عليه السلام) ابن الخيرتين، وعلويّاً بين العلويين.







روي في دعوات الراوندي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: كانت أمّي قاعدة عند جدار، فتصدّع الجدار وسمعنا هدّة شديدة، فقالت بيدها: لا وحقّ المصطفى، ما أذن الله لك في السّقوط، فبقي معلّقاً حتى جازته، فتصدّق عنها أبي (عليه السلام) بمائة دينار.







وذكرها الصادق (عليه السلام) يوماً فقال: كانت صدّيقة لم يدرك في آل الحسن امرأة مثلها.(212)







وعلى هذا فيكون الإمام الحسن أباً للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) لأنه جدّ الإمام الباقر (عليه السلام) لأمّه، بل هو أب لسائر الأئمة (عليهم السلام).







وأمّا الأمر الثالث: فيعلم ممّا تقدم من الأبحاث السابقة، فإنّ شأن السيدة فاطمة المعصومة هو الشأن الشامخ، والمنزلة العالية، عند الله تعالى على ما نطقت به الروايات، ومن ذلك أن لها شأنية الشفاعة لجميع الشيعة، كما قال عنها جدّها الإمام الصادق (عليه السلام): (تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنة بأجمعهم).







والشفاعة من المسائل التي أكّدت عليها النصوص القرآنية وروايات أهل البيت (عليهم السلام)، وتكفّلت الكتب الكلامية ببيان تفاصيلها حكماً وموضوعاً.







والذي نودّ الإشارة إليه أن المستفاد من جملة (يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإنّ لك عند الله شأناً من الشأن) أنّ هذا الشأن ليس هو شأن الشفاعة فقط، وإنّما الشفاعة هي أحد مصاديق ذلك الشأن.







ويؤيد هذا المعنى ما ورد من الروايات الدالّة على أن الشفاعة ثابتة لجملة من الأفراد على اختلاف مراتبهم منهم النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) فإنّ له المقام المحمود، وهو أعلى مراتب الشفاعة على ما ورد في كثير من الروايات.(213) ومنهم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) والصدّيقة الزّهراء (عليها السلام)، ومنهم الشهداء، ومنهم القرآن الكريم، فإنّه يشفع لقرائه، ومنهم السقط فإنّه يشفع لأبويه، ومنهم المؤمن الشيعي، فإنّ الله تعالى قد جعل له الشفاعة يوم القيامة كما ورد في صحيحة ابن أبي نجران، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: من عادى شيعتنا فقد عادانا، ومن والاهم فقد والانا، لأنّهم منّا خلقوا من طينتنا، من أحبّهم فهو منّا، ومن أبغضهم فليس منا..، والله إنّ أحدهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر، فيشفّعه الله تعالى فيهم، لكرامته على الله عزّ وجلّ.(214)







وغيرها من الروايات.







أقول: إن مقام الشفاعة وإن كان شامخاً إلا أن للسيدة فاطمة المعصومة مقاماً آخر عبر عنه بالشأن.







وممّا يدل على ذلك ما نقله لي صديقي العزيز المحقّق الشهير الفاضل السيد مهدي الرجائي ـ ورأيته في أكثر من كتاب(215) ـ عن السيد محمود المرعشي، عن أبيه السيد شهاب الدين، عن جدّه السيد محمود المرعشي، أنّه كان يريد معرفة قبر الصّدّيقة الزهراء (عليها السلام)، وقد توسّل إلى الله تعالى من أجل ذلك كثيراً، حتى أنّه دأب على ذلك أربعين ليلة من ليالي الأربعاء من كل أسبوع في مسجد السهلة بالكوفة، وفي الليلة الأخيرة حظي بشرف لقاء الإمام المعصوم (عليه السلام)، فقال له الإمام (عليه السلام): (عليك بكريمة أهل البيت)، فظنّ السيد محمود المرعشي أن المراد بكريمة أهل البيت (عليها السلام) هي الصديقة الزهراء (عليها السلام) فقال للإمام (عليه السلام): جعلت فداك إنّما توسّلت لهذا الغرض، لأعلم بموضع قبرها، وأتشرّف بزيارتها، فقال (عليه السلام): مرادي من كريمة أهل البيت قبر السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في قم.







ثم قال: إن الله تعالى قد جعل قبر الصديقة الزهراء من الأسرار، وقد اقتضت الإرادة الإلهية تبعاً لبعض المصالح أن يكون قبرها مخفيّاً لا يطّلع على موضعه أحد من الناس، فلا يمكن الإخبار عنه، ولكن جعل الله قبر السيدة فاطمة المعصومة موضعاً يتجلّى فيه قبر الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وإن ما قدّر لقبر الصديقة الزهراء (عليها السلام) من الجلال والعظمة والشأن ـ لو كان معلوماً ظاهراً ـ قد جعله الله تعالى لقبر السيدة المعصومة.







وعلى إثر ذلك عزم السيد محمود المرعشي على السفر من النجف الأشرف إلى قم لزيارة كريمة أهل البيت (عليها السلام).







ونقل عن المحدّث الشيخ عباس القمّي أنّه رأى الميرزا القمّي ـ صاحب القوانين ـ في عالم الرؤيا ـ وسأله: هل أنّ شفاعة أهل قم بيد السيدة فاطمة المعصومة؟ فنظر إليّ متعجباً وقال: شفاعة أهل قم بيدي، وأما فاطمة المعصومة فشفاعتها لأهل العالم.(216)







فما يردّده بعض الحمقى والمغفّلين من أن فاطمة المعصومة لا تعدو أن تكون امرأة، مثلها مثل سائر النساء، ولا شأن لها؛ إن هو إلا دليل على الجهل واللامبالاة والتطاول على المقدّسات، ويكشف عن الحرمان وسلب التوفيق والتقصير في معرفة مقامات الأولياء والصالحين والصالحات من أهل البيت (عليهم السلام)، فإن كونها امرأة لا يقعد بها عن تسنّم أرفع الدرجات، وأنّها من فضليات البشر، ولا يدانيها في الفضل والمنزلة أكثر الرجال وهي من التاليات للمعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) في الفضل والشأن والمنزلة عند الله تعالى وعند الأئمة (عليهم السلام)، وحسبك ما تقدّم في الرواية الصحيحة السند عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّه قال: من زارها فله الجنّة.







هذا، وقد ذكر أن للزيارة آداباً وسنناً تكفّلت كتب الفقه والزيارات ببيان تفاصيلها.















إيقاظ







وقبل أن نتجاوز هذا الموضع أودّ أن أشير إلى ضرورة الالتفات إلى أمر له مساس بما ذكرناه، وهو أنّه ظهرت في الآونة الأخيرة فئة من الناس قد اكتفت من العلم بالقشور دون اللباب، وبالاسم دون المسمّى، وبالشّكل دون المحتوى ـ وهنا تكمن الخطورة ـ وسوّغت لنفسها القفز على ثوابت العقيدة، أو التشكيك في مسلّماتها، والجدال في بديهياتها ـ تحت شعارات التجديد والانفتاح ومقتضيات العصر ـ بل تعدّت الحدود لتقدح في أصول المذهب وركائزه بإلقاء الشّبه، أو إنكار الحقائق، فأحدثت بذلك الفوضى، والاضطراب في نفوس البسطاء من الناس، الذين بهرتهم تلك الشعارات الجوفاء، وانساقوا وراءها يردّدونها في سذاجة وغفلة أو تغافل عمّا تنطوي عليه، وسيصحون يوماً ليجدوا أنفسهم مفلسين، إلا أن يتداركوا أمرهم قبل فوات الأوان.







وبلغ الأمر إلى أنّه بدلاً عن تصدي المعنيين بشؤون العقيدة والدفاع عنها، لخصومها الخارجين عنها، اضطروا للتصدّي لخصومها الداخلين فيها الذين هم أشدّ خطراً وأسوأ أثراً، لأنهم يشكّلون حجر العثرة في المسار (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).







وليعلم هؤلاء أن للبيت ربّاً يحميه، وأنّ للسفينة ربّاناً يجنّبها الأخطار.







ومهما حاولوا في زعزعة العقيدة فلن تزداد عقيدة الناس إلا رسوخاً وصلابة، وأن محاولاتهم يائسة فاشلة (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَ بِأَهْلِهِ).







وستبقى العقيدة المقدّسة التي غرس بذرتها النبي محمد (صلّى الله عليه وآله)، وتعاهد شجرتها أئمة الهدى (عليهم السلام)، وصان ثمرتها علماء الشيعة، سليمة ونقيّة، وهي أعلى وأجلّ من أن يخدش فيها جاهل أو متجاهل أو مشكّك أو مشبوه.















كرامات السيدة المعصومة (عليها السلام)







تتفاوت مراتب البشر في قربهم المعنوي وبعدهم عن الله سبحانه وتعالى، لتفاوت قابلياتهم واستعداداتهم، كما هو الحال في شؤونهم الأخرى، وذلك أمر طبيعي تقتضيه حياة البشر في هذا العالم الذي جعله الخالق الحكيم ظرفاً للتنافس وزوّد الإنسان بالعقل والاختيار والطّاقات المختلفة، وأودع فيه غريزة حبّ الكمال والسعي إليه، وهيّأ له الأسباب المؤدية إلى ذلك، بمقتضى لطفه بالعباد.







وإذا كان ثمّة ما يعيق أو يمنع فمردّه إلى الإنسان نفسه، وقد تكفّلت المباحث الاعتقادية بالبرهنة على ذلك.







وقد اختصّ الله بعض عباده بعنايات وألطاف خاصّة بلغوا بها أعلى درجات الكمال البشري الممكن، وأدنى مراتب القرب المعنوي من الله تعالى، فجعلهم مظاهر لطفه ومجالي رحمته ومجاري فيضه، وذلك لطهارة ذواتهم، وصفاء نفوسهم، وخلوصهم التام لله تعالى، فكانوا مظاهر أسمائه وصفاته، حتى أنّه تعالى مكّنهم من التصرّف في هذا الكون وسخّر لهم الأشياء فاستجابت لهم طائعة، فصدر عنهم ما خرقوا به نواميس الطبيعية، وخالف السّنن المألوفة، وهو ما يعرف بالمعجزة والكرامة، لأنّهم يتمتّعون بقوى خاصّة هي فوق هذا العالم المادي، ممّا لم تبلغ له قوى الناس وقدراتهم، فعجزوا عنه وعن مثله، ومن أجله سمّيت المعجزة بالمعجزة وممّا كان فيه إظهاراً للمنزلة والمكانة، ومن أجله سمّيت الكرامة بالكرامة.







وليست المعجزة أو الكرامة أمراً مستحيلاً، وقد اعترف الفلاسفة بذلك، بل ذكروا أنّ لها أصولاً ثلاثة(217)، قرّروا فيه إمكان ذلك بل وقوعه، على ما شرحوه في كتبهم وأقاموا عليه أدلّتهم.







ولسنا بحاجة ـ بعد القرآن الكريم والروايات المتواترة عن المعصومين (عليهم السلام) ـ إلى ما ذكروه إلا بعنوان المؤيد لهذه الحقيقة الثابتة، فإنّ كتاب الله تعالى وروايات أهل البيت (عليهم السلام) قد تكفّلت ببيانها بما لا تدع مجالاً للرّيب أو التشكيك.







ويأتي الحبيب المصطفى محمد (صلّى الله عليه وآله) في المرتبة الأولى الذي كان في قربه من الله تعالى كـ(قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) والذي هو المجلى الأتم لاسم الله الأعظم، والذي ما عرفت ولن تعرف البشريّة في تاريخها شخصاً في عظمته وكماله ومقامه كالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله)، إلا أن يكون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنّهما من نور واحد ويتلوه في المرتبة.







وإنّه لمن قصور البيان بل من سوء الأدب أن يقرن النبي (صلّى الله عليه وآله) أو يقاس بسائر الناس، وأنّى للناس أن يدركوا مقامه وهو القائل (صلّى الله عليه وآله): (كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين)(218)، و(عليّ مني وأنا منه)(219).







وأنّى للبشر أن تحوم أفهامهم حول تلك العظمة وذلك الكمال وهو القائل (صلّى الله عليه وآله) يخاطب عليّاً (عليهما السلام): (يا علي النّور اسمي والمشكاة أنت)(220)، و(أنت منّي كروحي من جسدي)(221) و(أنت منّي كالضّوء من الضّوء)(222).







ويتلو مرتبتي المصطفى والمرتضى مرتبة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والصديقة الزهراء (عليها السلام)، فإنّهم الأنوار الذين خلقهم الله وجعلهم بعرشه محدقين، حتى منّ بهم علينا فجعلهم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليهم وما خصنا به من ولايتهم طيباً لخلقنا، وطهارة لأنفسنا وتزكية لنا وكفارة لذنوبنا.







ويتلوهم مقامات الرسل والأنبياء والأولياء على اختلاف منازلهم ومراتبهم.







وغرضنا من ذلك كلّه الإشارة إلى أن الله تعالى قد اختصّ بعض عباده بمميّزات وقدرات خاصة، ومعاجز وكرامات، هي مظاهر لقدرة الله تعالى، وعلائم على القرب منه، والمنزلة عنده، والوجاهة لديه، وأردنا به الاستطراق إلى ما نحن فيه.







فإنّ السيدة فاطمة المعصومة وهي بنت وليّ من أولياء الله، وأخت وليّ من أوليائه، وعمّة وليّ من أوليائه، وحظيت برعاية المعصوم واهتمامه، وهي أهل لذلك فبلغت من المنزلة والشأن ما قد عرفت، فكان لها من الكرامات نصيب وافر، ولا زال حرمها الشريف ملاذاً لذوي الحاجات فتقضى حاجاتهم، ولذوي الدعوات فتستجاب دعواتهم، ولذوي الكربات فتكشف كرباتهم، ولذوي الآمال فتتحقق آمالهم، وذلك من آثار التوسّل بها، ووجهاتها عند الله، ولا سيما عند انسداد أبواب الأسباب الطبيعية وتعسّر أو تعذر الطّرق المألوفة.







وقد تواتر نقل الحوادث المختلفة، حتى أصبح من المألوف أن يسمع الإنسان عن كرامة للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في شفاء مرض مستعصٍ قد عجز الأطباء عن علاجه، أو نجاة من هلكة تبدو محقّقة الوقوع، أو استجابة دعاء صالح يُرى أنّه بعيد الاستجابة، أو قضاء حاجة تبدو مستحيلة، أو حلّ مسألة علميّة معضلة لا يظهر وجهها، وغير ذلك من القضايا والحوادث، وكم سمعنا من مشايخنا وأساتذتنا عن كثير من العلماء أنّهم لجأوا إلى حرمها الشّريف ولاذوا بقبرها وتوسلوا بها (عليها السلام) لكشف ما أبهم واستعصى عليهم من المسائل العلميّة الدقيقة فوجدوا آثار ذلك ونالوا ما أرادوا، وكذا نقل الثقات عن كثير من المؤمنين أنّهم قصدوها في كثير من الشؤون المختلفة فظفروا بما كانوا يبتغون، ولا زال اللائذون بحرمها يرون آثار الخير والبكرة والألطاف الخفيّة والجليّة عند التوسل بها إلى الله، فإنّه تعالى قد جعلها باباً من أبواب الرحمة، وملاذاً يلوذ به ذوو الحاجات.







وأمّا ما أثبتته الأقلام فهو أيضاً كثير، ومن ذلك:







ما ذكره المحدّث النوري في دار السلام حيث قال: ومن آيات الله العجيبة التي تطهر القلوب عن رجز الشياطين، أنّه في أيام مجاورتنا في بلد الكاظمين (عليهما السلام) كان رجل نصراني ببغداد يسمّى يعقوب، عرض له مرض الاستسقاء، فرجع إلى الأطباء فلم ينفعه علاجهم، واشتدّ به المرض، وصار نحيفاً ضعيفاً، إلى أن عجز عن المشي، قال: وكنت اسأل الله تعالى مكرّراً الشفاء أو الموت إلى أن رأيت ليلة في النام ـ وكان ذلك في حدود الثمانين بعد المائتين والألف، وكنت نائماً على السرير ـ سيّداً جليلاً نورانياً طويلاً حضر عندي فهزّ السرير، وقال: إن أدرت الشّفاء فالشرط بيني وبينك أن تدخل بلد الكاظمين (عليهما السلام) وتزور فإنّك تبرأ من هذا المرض، فانتبهت من النوم، وقصصت رؤياي على أمّي، فقالت: هذه من الشياطين، وأتت بالصّليب والزنّار وعلّقتهما عليّ، ونمت ثانياً، فرأيت امرأة منقبّة عليها إزارها، فهزّت السرير، وقالت: قم فقد طلع الفجر، ألم يشترط عليك أبي أن تزوره فيشفيك؟ فقلت: ومن أبوك؟ قالت: الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فقلت: ومن أنت؟ قالت: أنا المعصومة أخت الرضا (عليه السلام)، فانتبهت متحيّراً في أمري ما أصنع وأين أذهب؟ فوقع في قلبي أن أذهب إلى بيت السّيد الراضي البغدادي، الساكن في محلّة الرّواق منه، فمشيت إليه فلمّا دققت الباب نادى من أنت؟ فقلت: افتح الباب، فلمّا سمع صوتي نادى بنته افتحي الباب، فإنّه نصراني يريد أن يدخل في الإسلام، فقلت له بعد الدخول: من أين عرفت ذلك؟ فقال: أخبرني بذلك جدّي (عليه السلام) في النوم، فذهب بي إلى الكاظمين (عليهما السلام)، ودخل بي على الشيخ الأجل الشيخ عبد الحسين الطّهراني أعلى الله مقامه فحكيت له القصّة، فأمر بي أن يذهب إلى الحرم المطهّر، فذهبوا بي إليه وطافوا بي حول الشبّاك ولم يظهر لي أثر.







فلمّا خرجت منه تألّمت هنيئة وعرض لي عطش فشربت الماء، فعرض لي اختلاط، فوقعت على الأرض، فكأنه كان على ظهري جبل فحطّ عني، وخرج نفخ بدني، وبدّل اصفرار وجهي إلى الحمرة، ولم يبق فيّ أثر من المرض، فرجعت إلى بغداد لأخذ مؤنتي من مالي، فاطّلع أهلي وأقاربي، فأخذوني وذهبوا بي إلى بيت فيه جماعة فيها أمّي، فقالت لي: سوّد الله وجهك، ذهبت وكفرت، فقلت: ترين ما بقي من مرضي أثر، فقالت: هذا من السّحر، ونظر سفير الدولة الإنكليزية إلى عمّي، وقال: ائذن لي أن أؤدبه، فإنّه قد كفر اليوم، وغداً يكفر جميع طائفتنا، فأمر بي فجرّدوني وأضجعوني وضربوني بالآلة المعروفة بقرباچ، وهو مشتمل على شعب من السّيم الموضوعة على رأس شبه الإبر، فجرى الدّم من أطراف بدني، ولكن لم يؤثّر فيّ من جهة الوجع والألم، إلى أن وقعت أختي نفسها عليّ فكفّوا عنّي، وقالوا لي: اقبل على شأنك، فرجعت إلى الكاظمين (عليهما السلام)، ودخلت على الشيخ المعظم فلقّنني الشهادتين، وأسلمت على يديه، فلمّا كان وقت العصر بعث المتعصّب العنيد (نامق باشا) رسولاً إلى الشيخ ومعه كتاب فيه: إنّ رجلاً أتى إليك ليسلم، وهو من رعايانا وتبعة الإفرنج، فلابدّ أن يسلم عند القاضي، فأجابه: إنّ الذي ذكرته أتى عندي ثم ذهب لشأنه، وأخفاني وبعثني إلى كربلاء، واختتنت هناك، وزرت المشهد الغروي، ورجعت، ثم بعثني مع رجل صالح من أهل اصطهبانات من توابع شيراز إلى العجم، وكنت في القرية المذكورة سنة، فلمّا دخلت بلد الكاظم (عليه السلام) تحرّك فيّ عرق الرّحم، واشتقت إلى لقائهم، وذكرت ذلك للشيخ الأجل الأفقه الشيخ محمد حسن الكاظمي المدعو بياسين جعله الله في درعه الحصين، فمنعني وقال: أخاف أن يلزموك، فإمّا أن تعذّب أو ترجع إلى النصرانيّة، فرجعت عن قصدي، ورأيت في تلك الليلة في النوم كأنّي في بريّة واسعة مخضرّة من النبات، وفيها جماعة من السادة وكان رجل واقف فيها، فقال لي: لم لا تسلّم على نبيّك؟ فسلّمت عليهم، فقال لي أحد السيّدين اللّذين كانا مقدّمين على جميعهم: أتحبّ أن ترى أباك؟ فقلت: نعم، فقال لذلك الرجل: اذهب به إلى أبيه ليراه، فذهب بي فرأيت جبلاً مظلماً يستقبلني، فلمّا قرب منّي استحرّ الهواء فصار مثل الصّيف وارتفع صوت وفتح منه باب صغير يشتعل ناراً يصيبني شررها، واسمع من داخل صياح إنسان، وكان أبي، فاستوحشت فردّني إلى السادة، وكانوا يضحكون عليّ، وقالوا: أتريد أباك بعد هذا؟ فقلت: لا، ثم أمروا بي أن اغتمس في حياض كانت هناك، وهي سبعة فاغتمست بأمرهم في كل واحد منها ثلاث مرات، ثم أتي لي بثياب بيض فلبستها، وانتبهت من النوم، فرأيت بدني يحك وخرجت من محلّ كلها دماميل كبار، وذكرت ذلك للشيخ الأجل فقال: ذلك ممّا في بدنك من لحم الخنزير، واثر الخمر، يريد الله أن يطهّرك منه لمّا أسلمت. وكان يخرج منها القروح إلى أسبوع، وانصرف عن عزمه لزيارة أهله، ورجع إلى محلّ هجرته وتزوّج فيه، واشتغل بذكر قراءة مصائب أبي عبد الله (عليه السلام)، وهو الآن به.







وله أهل وأولاد وتشرّف في خلال تأليف الكتاب مع أهله بزيارة أئمة العراق (عليهم السلام) ثانياً، ثم رجع كثّر الله تعالى أمثاله وأصلح باله وأحسن مآله.(223)







وإنّما ذكرنا هذه القصّة بطولها لأنّها اشتملت على ذكر السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وأنّها كانت أحد أسباب اللطف الإلهي لصاحب القضيّة.







هذا، وقد أحصى بعض الباحثين بعض كرامات السيدة المعصومة فعدّ منها مائة كرامة، ونختار نماذج منها.







فمنها: ما كتبه العالم والخطيب القدير الشيخ جوانمرد، عمّا جرى من كرامة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) لإحدى بناته فقال: في عام 1984م رزقنا الله بنتاً أسميناها (أسماء) وما إن مضى شهران على ولادتها حتى أصيبت بمرض الاختناق وضيق النفس.







تصوّرنا في البداية أن المرض هو (ذات الرئة) الربو، فأخذناها إلى طبيب مختصّ بأمراض الأطفال، وكان تشخيصه الأول أنّها مصابة بالربو، فأدخلناها مستشفى آية الله الگلبايگاني، وبقيت فيه اثني عشر يوماً تقريباً، تتعالج عن هذا المرض، وقد وضعت في الحاضنة، ولكن لم يظهر أي أثر للعلاج.







وبعد اثني عشر يوماً أخذناها إلى طبيب آخر مختصّ بأمراض الحنجرة والأنف ووصف دواء ولكن بلا فائدة.







ثم انتقلنا إلى طهران فلعلّ تشخيص المرض يتمّ هناك، وبعد مراجعة عدّة مستشفيات تقرّر أخيراً إدخالها مستشفى (أخوان طهران) المتخصص بعلاج الأطفال.







وبقيت راقدة في المستشفى لمدّة شهر كامل، كانت تعيش خلالها على التنفس الصناعي والمغذّي المائي ـ المنعش ـ عن طريق الوريد.







وبعد الفحوصات الطبيّة أخبرونا عن احتمال وجود جسم غريب في رئتها، وهو السبب في أصابتها بحالة الاختناق وضيق التنفس، وقالوا: لابدّ من إجراء عملية بالمنظار لاكتشاف ذلك الجسم الغريب، إلا أن هذا الجهاز غير موجود في المستشفى، وذكروا أيضاً أن إجراء هذه العملية ربّما يؤدي بحياة الطفلة نظراً لصغر سنّها، خرجنا من المستشفى ولم يكن لنا بد من الرجوع إلى قم، وقد اشتدّت حالة الاختناق عندها، فلم تعد قادرة على الأكل والنوم.







وعلى إثر إصرار أمّها عدنا بها إلى طهران مرّة أخرى، وأدخلناها مستشفى المفيد في طهران، وبقيت على الفراش اثني عشر يوماً، وأجريت لها عمليّة المنظار وتبيّن أن الرئتين سليمتان، وقالوا لنا: من المحتمل أن تكون عضلات الحنجرة مصابة بارتخاء، وهو السبب في حالة الاختناق وضيق التنفس.







خرجنا من المستشفى بلا فائدة ورجعنا إلى قم ونحن في حالة شديدة من اليأس.







بعد يومين أو ثلاثة قرّرت أم الطفلة أن تصوم وتلتجئ بها إلى حرم السيدة الجليلة فاطمة المعصومة (عليها السلام).







صامت الأم في ذلك اليوم، وفي الليل أخذت طفلتها وذهبت بها إلى الحرم الشريف، وكانت قد قالت لأحد أولادها أن يأتي إلى الحرم في الساعة الثانية عشر ليلاً ليرجع بها إلى المنزل.







وفي الموعد ذهب الولد إلى الحرم ليأخذ أمّه إلى المنزل فقالت له أمه: إلى الآن لم تظهر أي نتيجة، ارجع وسأبقى إلى الصباح.







تقول الأم: بقيت إلى الصّباح في الحرم مشتغلة طيلة الوقت بالدعاء والبكاء، وقد ربطت الطفلة بمنديل في ضريح السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، وهي في تلك الحالة من الاختناق وضيق التنفس، وكان كلّ من يراها فكأنّه يرى أن الموت على بعد خطوات منها.







كنت بين حين وآخر أضع في فم الطفلة ملعقة من الماء الممزوج بالسكر، فقالت لي نسوة هناك لا تؤذي الطفلة ودعيها وشأنها.







حتى إذا أذّن لصلاة الصبح تركت الطفلة وابتعدت قليلاً عن الضّريح، وبعد أن صلّيت الفريضة اعترتني حالة تغيّرت فيها أحوالي وصرت أسائل نفسي: كيف أرجع بهذه الطفلة بلا فائدة؟ هناك قلت: إلهي لم يبق لي أمل سوى قبر السيدة المعصومة، وإلى هذه اللحظة لم تظهر أي نتيجة.







بكيت قليلاً وجئت إلى الطفلة لأفتح المنديل، ويا للعجب رأيت الطفلة قد نامت في وقت ما كانت تستطيع فيه أن تنام، لم أخبر أحداً بشيء وفتحت المنديل، ولم تكن الدنيا تسعني من الفرحة والسرور، وأخذت الطفلة وتوجّهت بها إلى المنزل.







بقيت الطفلة نائمة إلى الظهر وبعده استيقظت من نومها، فشربت الحليب وهي في صحة تامّة.







وقد منّ الله سبحانه وتعالى على ابنتي بالشفاء الكامل ببركات قبر السيدة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).







وقد مضى على هذه الحادثة عشر سنوات وهذه الطفلة في الصف الرابع الابتدائي، وهي تلميذة متفوقة في دراستها كما أنّها ملتزمة بالصلاة وسائر المسائل الشرعيّة، وذلك من ألطاف كريمة أهل البيت (عليها السلام).(224)







ومنها: ما نقله الميرزا موسى فراهاني عن مسؤول حراسة حرم السيدة المعصومة (عليها السلام) أنّه في ليلة من ليالي سنة 1300هـ، كنت أتولّى فيها الحراسة فجيء بامرأة من كاشان مصابة بالشّلل للاستشفاء وربطت بالضّريح.







وفي الساعة المقرّرة لإغلاق أبواب الحرم بقيت هذه المرأة في الحرم وأغلقت الأبواب، وكنت خارج الحرم أتولّى الحراسة.







بعد منتصف الليل سمعت صوت المرأة وهي تقول: لقد شافتني.







فتحت باب الحرم ورأيت تلك المرأة السعيدة وقد شفيت، فسألتها عن كيفيّة شفائها، فقالت: أصابني العطش الشديد وخجلت أن أدقّ الباب وأطلب منك الماء، ولذا نمت بعطشي، فرأيت في منامي أنّها أعطتني قدحاً من الماء، وقالت: اشربي هذا الماء وستجدين الشّفاء.







فشربت الماء وانتبهت من النوم ولا أثر للعطش ولا للمرض.(225)







ومنها: ما نقل متواتراً عن المحروم السيد محمد الرضوي أحد خدّام الحرم المطهّر، قال: في ليلة رأيت السيدة المعصومة في عالم الرؤيا وهي تقول: قم وأضئ مصابيح المنائر، فانتبهت من نومي، ونظرت إلى الساعة فرأيت أنّه بقي أربع ساعات إلى أذان الصبح، فعدت إلى النوم ثانية، فرأيت نفس الرؤيا بعينها، ولكني عدت إلى النوم، وفي المرّة الثالثة رأيت نفس الرؤيا وقالت لي بغضب: ألم أقل لك أن تقوم وتضيء مصابيح المنائر؟ فقمت وأضأت المصابيح، وكان الجوّ شديد البرودة والثلج يتساقط بغزارة وقد غطّى الأماكن.







وفي اليوم التالي كان الجوّ صحواً، وكنت واقفاً في الصّحن المطهّر فرأيت جمعاً من الزوار يتحدّثون وأحدهم يقول للآخر: كم يجب علينا أن نشكر هذه السيدة، ولو تأخرت إضاءة المصابيح دقائق معدودة لهلكنا من شدّة البرد.







فتبيّن أنّ هؤلاء الزوّار على إثر تساقط الثلج بغزارة واختفاء معالم البلد قد ضلّوا الطريق، وبقوا في وسط الصحراء، ولكن لمّا أمرتني السيدة بإضاءة المصابيح بانت معالم المدينة لهم وأوصلوا أنفسهم إليها، ونجوا من أذى البرد وشدّته.(226)







ومنها: ما نقله من كتاب قصص العلماء للميرزا الحاج محمد التنكابني المتوفى سنة 1302هـ، قال: في إحدى زياراتي لحرم السيدة المعصومة (عليها السلام) مرض ولدي وزوجتي مرضاً شديداً، وأشرفا على الموت، فجئت إلى حرم ابنة باب الحوائج، وقلت: نحن جئنا من مكان بعيد ولذنا بباب بيتك، ولا نتوقّع أبداً أن نرجع من عندك بالحزن ورغم الأنف والخيبة، وفي نفس تلك اللحظة شفي كلا المريضين وأنقذا من حافّة الموت.(227)







ومنها: ما نقل عن المرحوم الحاج الشيخ محمود علمي الذي كان متولياً على المدرسة الفيضية من قبل آية الله البروجردي، أنّه قال: في زمان المرحوم آية الله الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم المتوفى في 17 ذي القعدة سنة 1355هـ، كنت أرى شخصاً عاجزاً لا يستطيع أن يجمع رجليه، وكان يتّكئ على يديه ويسحب بدنه زاحفاً على الأرض، وكان يأتي على هذه الحالة إلى الحرم للزيارة من دار الشفاء عن طريق المدرسة الفيضيّة. فسألته يوماً عن حاله، فقال: أنا من أهل القفقاز (آذربيجان) وعروق رجلي يابسة، ولا قدرة لي على المشي، وقد زرت مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) للاستشفاء ولكن بلا فائدة، فجئت ولعلّي أجد الشفاء هنا.







وكان من المتعارف في ذلك الوقت أنّه إذا حدثت كرامة من كرامات السيدة المعصومة (عليها السلام) تضرب النقّارة ويسمع صداها إعلاماً لعامّة الناس بما وقع.







وفي ليلة من ليالي شهر رمضان رأيت النقّارة تضرب، وسمعتهم يقولون إنّ السيدة المعصومة قد شافت شخصاً مصاباً بالفالج.







كنت مع بعض الأصدقاء في سفر إلى (أراك) وركبنا عربة تجرّها الخيول، وخرجنا من قم إلى (أراك) فلمّا وصلنا إلى مسافة تبعد عن أراك ستة فراسخ وإذا بنا نرى ذلك الشخص الكسيح العاجز عن المشي ورجلاه سليمتان وقد عوفي من مرضه تماماً، وكان عازماً على زيارة كربلاء مشياً على قدميه، فأركبناه في العربة معنا حتى أوصلناه إلى أراك.(228)







ومنها: ما نقله عن صاحب كتاب أنوار المشعشعين أنه قال: أذكر أن جملاً قد آذاه صاحبه، فالتجأ إلى حرم السيدة المعصومة، وبرك مستريحاً في أسفل الإيوان حتى جاء صاحبه وأخذه.







وقد جرى نظير ذلك في حرم الإمام الرضا (عليه السلام) حيث التجأ إلى حرمه (عليه السلام) جمل، وذكرت قصّته ونشرتها الصحف والجرائد.(229)







وذكر المرحوم الشيخ فرج العمران ـ أحد أبرز علماء القطيف ـ المتوفى سنة 1398هـ في كتابه الأزهار أنّه شاهد في حرم الإمام الرضا (عليه السلام) حادثة مشابهة فقال: وفي صبيحة يوم الاثنين الثالث عشر من الشهر المؤرّخ ـ أي ربيع الثاني عام 1394هـ التجأ ستة أباعر إلى مشهد الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان مكانها يبعد عن المشهد المقدّس أربع ساعات، والموجب إلى التجائها أن أهلها أرادوا ذبحها، ولمّا وصلت إلى الصّحن الشّريف عتقت من الذّبح، وأمر أن تجعل في بستان من بساتين الإمام الرضا، وقد خيّر مالكها بين أخذ ثمنها وبين تخلية أمرها، واختار أن يخلوا أمرها فضمن لمالكها مدفن في الصّحن الشريف مجاناً، وذلك كلّه من بركات الإمام الرضا ضامن الجنّة، وممّن رآها جمع كثير..







وقد سبق نظير هذه الحادثة أكثر من مرّة، ولا عجب من كرامات أهل البيت، فإنّهم ملجأ الخائفين وأمان المروّعين.







وبمناسبة هذه الكرامة أنشأ الفاضل الشيخ محسن بن الحاج علي بن صالح المعلم من أهل الجارودية هذه الأبيات الآتية:







يا ملاذ الأنام يا حجة الله *** على الخلق أنت حاوي المعاجز







عصمة الملتجين والله أنتم *** مأمن الخائفين عند الهزاهز







والمطايا ببابكم لاجئات *** عائدات منكم بأسنى الجوائز(230)







ونكتفي بهذه النماذج القليلة من كرامات السيدة المعصومة (عليها السلام)، وأمّا ما ذكر من كراماتها فهو فوق حدّ الإحصاء، وهي شواهد على أنّ هذه السيدة الجليلة باباً من أبواب الرحمة واللّطف، وقد جعلها الله تعالى ملاذاً للعباد تقضى عندها حوائجهم، وتستجاب عندها دعواتهم، ويحظون بالخير والبركات، فإنّ لها عند الله شأناً من الشّأن.















السيدة المعصومة (عليها السلام) في ضمائر الشعراء







والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفةً *** أو حكمةً فهو تقطيع وأوزان







وأغراض الشعر كثيرة، منها ما هو حقّ وصدق، ومنها ما هو باطل وعبث.







وللشعر دور مميّز في هزّ المشاعر، وتحريك العواطف، وتوجيهها نحو الاستقامة، أو نحو المجون.







وما كان منه في خدمة الحقّ والحقيقة وتوجيه النفوس نحو الفضيلة فهو في نظر أهل البيت (عليهم السلام) موضع عناية وتكريم.







وفي الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) ما يدلّ على اهتمامهم بالشّعراء الذين وظّفوا القوافي في خدمة الحقّ والأخلاق الفاضلة، ولا سيّما يوم كان الشعر في قوّته ونفاذه أمضى من السّيف والسّنان، وفي تأثيره أقوى من السّحر، وفي طليعة أولئك الشعراء: الكميت، والسيد الحميري، ودعبل الخزاعي، وآخرون.







وقد حثّ الأئمة (عليهم السلام) شعراء الشيعة على تجنيد شعرهم وشعورهم في نصرة الحقّ وأهله، ومقارعة الباطل وأهله، والدعوة إلى الخير والفضيلة والصلاح.







ولسنا في مقام الحديث عن الشعر والشعراء، وإنّما أردنا بما ذكرنا أن نصل إلى القول: إنّ لكريمة أهل البيت (عليها السلام) من شعر الشعراء نصيباً وافراً.







وإذا كان من أهمّ أغراض شعراء الشيعة نشر الفضيلة والحثّ عليها امتثالاً لنداءات أئمتهم (عليهم السلام) فإنّ السيدة المعصومة (عليها السلام) قد جسدت الفضيلة والطّهر والعفاف، ولا غرو بعد ذلك أن نجد الشعراء ـ من العرب وغيرهم ـ يقرّرون هذه الحقيقة ويمجدّون الطّهارة والشّرف من خلال قصائدهم التي مدحوا فيها كريمة أهل البيت (عليهم السلام).







وقد اخترت ـ ممّا اجتمع لديّ من قصائد في شأن السيدة المعصومة (عليها السلام) ـ قصيدتين تعربان عن صدق الولاء وعمق المودّة. الأولى للأستاذ معروف عبد المجيد محمد، والثانية للسيد محمد بن حمود العمدي.







وإنّما اخترت هاتين القصيدتين وآثرت إدراجهما في هذا الكتاب لأنّ كلا الشاعرين قد امتازا بأنّهما ممّن بحث عن الحقيقة حتى ظفرا بها في حمى أهل البيت (عليهم السلام)، واستقرّ بهما النوى(231) في حريم التشيع، وأصبحا من شيعة آل محمد (عليهم السلام).







وتلك النعمة الكبرى التي منّ الله تعالى بها عليهما فهداهم لدينه ووفّقهما لما دعا إليه من سبيله، فليحمدا الله عليها كثيراً.







وأمّا القصيدتان فهما:















فاطمة المعصومة سَميّة الزهراء(232)







جرح الأحبّة فاغرٌ ما التاما *** يفري، ولا ندري له إيلاما







نار الصبابة لا تُحرّق عاشقاً *** وتكون برداً فوقه وسلاما







أنا طائر فوق الجبال مقسّم *** إرباً، فمن ذا يجمع الأقساما







لم يمض عصر المعجزات، فعاودي *** عهد الوصال وجدّدي الأيّاما







بعثي ونشري من يديك، وجنتي *** عيناك، طابا للمحب مُقاما







ركب الفواطم ما يزال مسافراً *** مرواً يريد، وروضة، وإماما







يمضي، فلا الأيام تقطع سيره *** ويزيده طول النوى إقداما







وعليه من ألق النبوة مسحةٌ *** أضفت عليه المجد والإعظاما







ومن الحسين بقية لدمائه *** صبغت بحمرة لونها الأعلاما







يا أيها الحادي حداؤك هدّني *** لما ذكرت الأهل والأرحاما







عرج على قمٍّ، فإنّ لنا بها *** قبراً على كل القبور تسامى







شهد الحوادث منذ أول عهده *** ومن الحوادث ما يكون جساما







ظهرت به للعالمين خوارقٌ *** تسبى العقول وتُدهش الأفهاما







حُطوا الرّحال، فإنّ للثّاوي به *** عهداً يصان وحرمة وذماما







يا قبر فاطمةٍ بقمّ تحيةً *** من مدنف ـ يا قبرها ـ وسلاما







طاب الضريح وذاع من شبّاكه *** أرج النـبوة يغـمر الآكاما







واصطفّت الأملاك في ظل الحمى *** زمراً تسبح سجّداً وقياما







وأتى الحجيج من الفجاج قوافلاً *** تسعى إليه وقد نوت إحراما







حرم أتاه الخائفون فأبدلوا *** أمناً، ونال الطالبون مراما







عش لآل محمد يهفو له *** أهل الوداد محبةً وغراما







يا بنت موسى، والمناقب جمّةٌ *** لا يستطيع بها الورى إلماما







أخت الرضا، إني أتيتكِ ناشراً *** صحفاً تفيض خطيئةً وأثاما







يا عمة الجواد، كفكِ والندى *** وأنا ببابك أسأل الإنعاما







أنا زائر يرجو الشفاعة، فاشفعي *** لي في الجنان، فقد قصدت كراما







***







أنا قادم من مصر أنزف حرقةً *** أخفي الشقاء وأكتم الآلاما







ودّعت زينب غير ناسٍ فضلها *** وهي العقيلة كم رعت أيتاما







وهي التي في الطف كم أبدت حجىً *** تحت السيوف وسفّهت أحلاما







ومعي من السبط الشهيد شواهدٌ *** علقتها فوق الصدور وساما







لي بالحسين وبالعقيلة لحمةٌ *** كانت لنفسي في الخطوب عصاما







شقّت لي الدرب العسير، وبدّدت *** في النازلات حُلـوكةً وظلاما







فميت أبدع للولاء قصـيدةً *** وأوقّع الألحان والأنغاما







وأقيم للدين القويم دعائماً *** وأحطم الأوثان والأصناما







ومع الحسين أقود أعتى ثورة *** كانت لسلطان الطغاة ضراما







وأرى الرعية ـ رغم ذل ـ ذروةً *** وأرى الملوك أمامها أقزاما







وأرى العقيدة عزةً وكرامةً *** وأرى الكفر معرة ورَغاما







وأرى التثاقل يوم نَفْر ردَّةً *** وأرى الجهاد تزكّيا وصياما







وأرى الإمامة بيعةً مفروضةً *** وأرى الخلاقة فـلتةٌ وحراما







وأرى كهوف البائسين عمائراً *** وأرى قصور المالكين حطاما







سأقيم في مصرَ العتيدة قلعةً *** وأزيل ـ رغم رسوخها ـ الأهراما







النيل لن يدع الحسين مجدّلاً *** عطشان يشكو الصدّ والإحجاما







كلا، ولن يدع الدعيّ لغيّه *** يسبى ويحرق حرمةً وخياما







يا بنت موسى إنّ في قمّ التي *** ضمتك عزّاً شامخاً وسناما







من قمّ يبتدئ الكلام وبعـدها *** تغدو الحروف أسنة وسهاما







وسيجل التاريخ بالدم صفحةً *** حمراء تقطر نهضة وقياما







خسئت فراعنة الزمان، وكم هوى *** عرش لترفع فوقه الإسلاما (‍233)







من عشق المستجدين(234)







سعدت لياليه بخير هيام *** في مدح من ولدت لخير إمام







في مدح من برقتْ بهاجرة الجوى *** أنعامها فهدتْ إلى نعامي







ما بالُ من ندعو يلمُّ بغيرنا *** وكأنّنا من ليس للإبرام







يرجى ويُعطي الساع خير عطيّة *** من خير ما عزبتْ عن الأوهام







المُمْ بنا يا صاح إنّ عطاءنا *** ما ليس يعلوه ذوو الإنعام







نحن الأولى عقدات كل عصيبةٍ *** حلت بنا هيهات لست بعامي







***







أنا بنت من؟ أدعوكَ ايت جوارناً *** فتروح ثمّ تحالُ للأقزام







كم معدمٍ قد جاء كاد لحرقةٍ *** أن يُسلم الأعناق للإعدام







حُدرت على خديه دمعة فاقد *** لمناهُ حتى العلم في الأحلام







لم يرتفع طرفاه حتى حمّلت *** أرزاقنا بيديه من إكرام







كم سائلٍ قد جاء يطلب منزلاً *** فمننت بالإسكان خير مُقام







كم ذي همومٍ جاء يطلب كشفها *** فمضى قرير العين صاحب هام







كم ذي حشىً يلتاع جاء وناره *** شبت بجسم طاح في الإضرام







لم يبق ـ طرف العين ـ إلا وانبرى *** في برده يختال بعد سلام







***







أنا بنت موسى الكاظم الغيظ الذي *** ما انفكّ في عنت من الظلام







باب الحوائج ذاك والدي الذي *** يعطي الفـقير نوال كل مرام







ارنُ بطرفك نحو كاظمة ترى *** نوراً يشعّ إليك يا متعامي







أنا فاطمٌ هاتيك قالت ايتنا *** إن شئت في حرم ومنزل سامي







حرم لعترتنا، لأهل البيت من *** يقدمه يلق الطهر صدق كلام







يا بنت خير الناس إنّي ضارعٌ *** وأنا غريب الدار في الآطام







سبعاً عكفت بباب مرّة وانقضت *** كالطيف، لا يرجوه ذو الأفهام







وأتيت واويلاه بعد عصيبة *** أرجو الورى، أوّاه أي منام







***







أنا عبدٌ، الشيطان ألقى منية *** في قلبه التيهان شرّ لجام







وتقاذفت أيديه فكرتي التي *** شطحت بمدح اللات والأزلام







ويحي ألست إليك أدْعى منتسباً *** فلمَ انحدرتُ لتهية من طام







ولِم قصدت البيد ضلّة غافل *** متدهده ألهاه طيف جهام







فأتى على واديه ألفى قفره *** قد ضجّ من إقفاره المترامي







وأتى سراباً ثمّ علّ رماله *** آه له ما كان من قحّام







ترك الذرى العلياء مثل مشكّك *** في أمرها في العقد والإبرام







***







وهم الأولى ملأوا بذكرهم الدّنا *** وبعزهم والفخر والعظام







من مثل فاطمةٍ كريمة بيتها *** بيت الإله الخالق العلام







روحي فداها اليوم يوم ولادة *** سعدت بها الدنيا مدى الأيام







يا يوم مولدها ويوم تنزل الـ *** أملاك للتطواف والإحرام







يا خير يوم فيك سيدتي لها *** هبةٌ، وكم وهبت مدى الأعوام







يوم تكشّف فيه غمّي كلّه *** وهمومي انفرجت وفكّ زمامي







مولاة أمري أنتِ سيدة الدّنا *** ومليكة الدنيا وكلّ ذمام







حيّاك رب الكون ما طلعت بها *** شمس وما قمرٌ عفى بظلام







***حيّاك ما نفرت لقمٍّ فرقة *** دعيت لدين الله والإسلام







حيّاك ما علمٌ تلألأ في سما *** حِكَم لأهل البيت بالإعلام







حياكِ ما رجعت لقمٍّ أمّة *** لهداية الأفذاذ والأعلام







حيّاك ما عرفت بأرضك فرقة *** هوت القيقة ليس أي ركام







كم منحةٍ تهدين، ليس لمنحها *** أحد يرجّى اليوم يومي الدامي







وأتيت اليوم بعد التيه أسأل منحتي *** وأقرّ أنّي الأمس في أوهامي







لكن أتيت اليوم بعد تيقّظي *** لعطاكِ للأيتام والأرحام







وهباتُكِ، الإحصاءُ يقصر عندها *** وهباتُكِ، الرحمات لا كَلَمام







***







يا خير من أدعوه ينجز طلبتي *** وتقرّ عيني، عند بنت كرام







يا بنت من ولدوا الخير مسوّد *** علم الهدى الأوّاه والمقدام







يا أخت مولى الكون مولانا الرضا *** سلطان طوسٍ، آه يا لإمام







يا عمّة المولى الجواد المقتدى *** سمح العطايا القرم يا لهُمام







آلُ السما أنتم أئمة قلبي الـ *** مُضنى من الأعيان والأقوام







مولاتي العليا ورؤيا جَلوتي *** ومليكة الأبيات والإلهام







***







يا قمُّ لو تدرين من تيك التي *** سكنت ببيت النور عند هُمام







لبرزتِ هذي الأرض عمرَك كله *** وظللت تفتخرين عند عظام







هذيك بنت الطهر طاهرة اللّوا *** وسليلة الأطهار والعلاّم







هذيك من عُصمت فليس تنفل *** مهما يكن تنساه عند جسام







هذيك نور الله أشرق فـي رُبى *** قمٍّ فما للنور والإظلام







يهناك يا من هام قلبك عندها *** هذا هو الإغماس في استغرام







هذا هيام الروح صفوك فاطمٌ *** الله يا الله يا لهُيام







العاشقون (الستَّ فاطمَ) ثلة *** من خير هذا الناس والهيّام







في قبّة صفراء حطّت فوقها الـ *** أملاك في الأشكال مثل حمام







***







يا داخل الحجرات سلّم ها هنا *** جبري حتى هُوْ أتى بسلام







واخفض فثمّ النو يبهر طرفك الـ *** جيران وادعُ الله باستعظام







وقل السلام عليك مولاتي أنا *** تهيان، لا يأويه بيت حامي







صلى عليه الله مولاتي أنا *** التيهان والعمدي اسمي الظامي(235)















عشّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله)







تتميّز مدينة قم المقدسة اليوم عن سائر المدن الإيرانيّة بأنّها الحاضرة العلمية الكبرى للشّيعة، وقد ازدهرت الحركة العلميّة فيها بعد هجرة أكثر العلماء إليها من النجف الأشرف خلال الثلاثين عاماً الماضية.







وعلى الرغم من أن لمدينة مشهد قدسيّة خاصّة في نفوس الشيعة تتجاوز ما لمدينة قم من القداسة والمكانة لأنّها تتضمّن المرقد الشريف للإمام الثامن من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلا أن الحركة العلميّة في مدينة قم أكثر نشاطاً وازدهاراً. فإنّها تضمّ عشرات الآلاف من طلاب العلوم الدينية في مختلف المراحل العلميّة، ومن مختلف أنحاء العالم، كما استوطنها كثير من الإيرانيين وانتقلوا إليها من مدنهم وقراهم المختلفة.







ويعود تأسيس الحوزة العلمية إلى أكثر من سبعين عاماً على يد المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري المتوفى عام 1355هـ، وكانت الحوزات العلمية آنذاك تتوزّع بين طهران وأصفهان وشيراز ومشهد وبعض مدن المنطقة الجنوبية وبعض المدن الأخرى.







ومنذ تأسيس الحوزة في قم أخذت الحركة العلميّة تضعف في غيرها حتى أصبحت هي الكبرى، واتجه إليها الأنظار وصارت تالية للحوزة الأم النّجف الأشرف.







أمّا اليوم فهي المهجر العلمي الكبير للدراسات الدينية العليا لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ولا سيّما بعد أن انحسر أكثر العلماء عن النجف الأشرف واضطرتهم الظروف للرّحيل عنها، وغادرها أكثرهم إلى قم.







ولكن تبقى للنجف الأشرف خصوصيّاتها وآثارها فهي الحوزة الأم حتى أن الكوفة الكبيرة أصبحت إحدى نواحيها، وأمّا قم فهي الكوفة الصغيرة.







وتعود شهرة النجف الأشرف العلميّة إلى اليوم الذي استوطنها شيخ الطائفة الطوسي (قدس سره)، وأسّس فيها حوزته العلميّة الكبرى فأصبحت منطلق الفكر الشيعي، ومركز المرجعية الشيعية عبر القرون، وقد تخرّج منها مئات الآلاف من العلماء، وإلى يوم الناس هذا، فإنّ القائمين على الدروس العليا في حوزة قم إنّما هو خرّيجوا مدرسة النجف الأشرف، حتى أنّ مؤسس الحوزة في قم هو أحد خريجي مدينة النجف الأشرف.







ولو أن النجف الأشرف تعود إلى سالف عهدها لما بقي في قم وغيرها من المدن الأخرى من أهل العلم وطلاّبه إلا القليل ممّن يقعده العجز، أو ينقصه العزم، أو لا يجد في نفسه الطموح.







وكم سمعنا آهات الحسرة والاشتياق إلى النجف ومرابعها ممّن قهرته الظّروف وأرغمته على مغادرتها.







وحسبك أنّ في النجف باب مدينة العلم، ومنبع الفيض والعطاء، وإمام المتقين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإنّ في جوار المرتضى معنى لا يحوم حوله البيان.







وأمّا اختصاص مدينة قم عمّا عداها من سائر المدن باحتضان العلم والعلماء فيعود إلى خصوصيّة في أرض قم كما كشفت عنها الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ كما سيأتي ـ إضافة إلى ما تتمتّع به هذه المدينة المقدسة من الأصالة والعراقة في ولاء أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّه كانت إحدى قلاع التشيع عبر القرون.







ويرجع الوجود الشيعي في هذه المدينة إلى الربع الأخير من القرن الهجري الأول يوم استوطنها الأشعريون فراراً من ظلم بني أميّة في الكوفة ونواحيها.







جاء في دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: وقصّة ذلك أنّه بعد أن قتل الحجّاج بن يوسف الثقفي في العراق، محمد بن سائب الأشعري، وكان عميداً لقبيلة الأشاعرة، أخذت النكبات (تنزل) تترى على هذه القبيلة من قبل الحجّاج وسائر عمّال الدولة الأموية، فاعتزم رؤساؤها ورجال الفكر فيها على ترك أرض العراق بأفراد قبيلتهم قاصدين ناحية أصفهان من إيران.







ولمّا كان من أكبر رؤساء هذه القبيلة الشقيقان عبد الله والأحوص ابنا سعد بن مالك الأشعري، وكانا في سجن الحجّاج الذي اضطر إلى إطلاق سراحهما تحت ظروف سياسة قاهرة، ملزماً إيّاهما البقاء في الكوفة.







ولمّا كان هذان الشقيقان يشعران بأنّ مصيرهما سيكون مصير بقيّة رجال الشيعة، فقد تركا الكوفة تحت جنح الظلام متنكرين، واتّجها نحو أصفهان يرافقهما شطر كبير من رجال قبيلتهما الأشاعرة، ونزلوا على ضفاف نهر قم.







وفي اليوم الثاني من نزولهما هذه الأرض شاهد بعض رجال قبيلة الأشاعرة أنّ سكان هذه المنطقة الأصليين يدخلون مواشيهم في قلاع عالية الجدران ويغلقون عليها أبواب القلاع ومنافذها.







ولما سألوهم عن سبب ذلك أجابوهم خوفاً من غزو عشائر الدّيلم التي تغزوهم كلّ سنة في مثل هذا الموسم فتنهب وتقتل، وقد وصلت هذه العشائر في غزوها الآن إلى بضعة فراسخ من هذه القرية.







وحينما سمع الأحوص ذلك نادى في رجال قبيلته بردّ غزو عشائر ديلم، وأنّ على رجل القبيلة الدفاع عن مواشيهم ونسائهم وأطفالهم الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ولا قلعة لهم يصونون بها أعراضهم وأموالهم، وحينما اقتربت عشائر الديلم من الأحوص وقبيلته بادرها الأشعريون بهجوم عنيف قضى على تلك العشائر وردّها على أعقابها بعد أن تركت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى، واستطاع الأحوص بذلك إنقاذ قبيلته وردّ العادية عن المتحصّنين في القلعة من السكّان الأصليين.







أمّا عشائر الديلم فنكصوا على أعقابهم ولم يعودوا بعد ذلك إلى غزو هذه الناحية وقراها.







وقد اتصل رؤساء السكان الأصليين بكلّ من الشقيقين عبد الله والأحوص شاكرين لهما ولأفراد قبيلتهما صنيعهم، ومقدّمين لهم الهدايا، وملتمسين منهم عدم النزوح عن هذه الأرض والاستيطان فيها كمزارعين مستغلّين لها، مستفيدين من مراتعها، فتقبّل الشقيقان هذا الاقتراح واستوطنت قبيلتهما هذه الناحية التي عرفت فيما بعد بقم.







وبمرور الزمان التحق بقية رجال قبيلة الأشاعرة بهؤلاء مهاجرين من العراق، ومستوطنين هذه الناحية.







وهكذا تمّ سكن قبيلة الأشاعرة ضفاف نهر قم، وأخذوا ينشرون فيها التشيع.







وقد تم ذلك كلّه خلال عشر سنوات بدأت سنة 73هـ وانتهت سنة 83هـ.







ثم تفرّق بعض أفخاذ هذه القبيلة في المناطق المتاخمة لقم ككاشان، وآوه، وساوه، والقرى الممتدة بين قم وأصفهان.







وقد دلّت الروايات على أنه كان لطلحة بن الأحوص دور هام في تمصير مدينة قم بعد أن استوطنها رجال قبيلته، وإنّه أول من شرع ببناء العمارة فيها بالآجر بعد الإسلام.







إن مدينة قم التي يعود الفضل لتأسيسها على شكل مدينة شيعية عامرة بمكان قصبة صغيرة لبني سعد الأشعري وخاصّة لابن عبد الله بن سعد الأشعري ابن عم طلحة المذكور، الذي كان من أجلّة فضلاء الشيعة في الكوفة ثم انتقل إليها مع أبيه.







إن هذه المدينة أخذت بعد سنة 83هـ تتسع، وينتشر فيها العمران، وتشاد على أرضها المساجد، والمدارس الدينيّة، والمعاهد العلميّة، وقبور الأولياء والملوك والعظماء والأمراء والعلماء، وأصبحت تدريجاً من المدن الإسلامية الشيعية المقدّسة، وخاصة بعد دفن فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) المعروفة (معصومة قم) فيها.(236)







وقد نصّ الحموي في معجمه على أن مدينة قم شيعية إماميّة خالصة فقال: وكان متقدّم هؤلاء الأخوة عبد الله بن سعد، وكان له ولد قد ربّي بالكوفة فانتقل منها إلى قم، وكان إمامياً فهو الذي نقل التشيع إلى أهلها فلا يوجد بها سنّي قط.







ثم نقل حكاية لطيفة تدلّ على صدق تشيّع أهل هذه المدينة فراجع.(237)















النماذج الخيّرة في العلم والعمل







هذا، وقد نبغ من أحفاد الأحوص أفذاذ من الرجال حملوا العلم والمعرفة والأدب والتقوى والفضيلة، وكان لهم دور عظيم في حفظ التشيّع ونشره والدفاع عنه، وكانت لهم صِلات وثيقة بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ولبعضهم منزلة خاصّة عندهم (عليه السلام)، وقد حملوا كنوزاً ثمينة من العلوم والمعارف أخذوها عن الأئمة (عليهم السلام)، وسعوا في طلبها حتى أصبح لهم في قم شأناً عظيماً، وقصدهم طلاّب الحديث، وصنفوا الكتب الكثيرة وسارت بعلومهم الركبان، ولا يبعد أن يكونوا هم ونظائرهم المعنيّين بما روي عن الأئمة (عليهم السلام): لولا القمّيون لضاع الدين.(238)







وكان من أشهرهم:







عمران بن عبد الله بن سعد الأشعري القمي وأخوه عيسى بن عبد الله، وهما من أجلاء أهل قم، ومن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وأحبائه، فقد كان يحبهما كثيراً، وكلّما قدما المدينة سأل عنهما وعن حالهما وتفقدهما، وسأل عن حال أقربائهما.(239)







روى الكشي بسنده عن حمّاد الناب، قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) ونحن جماعة، إذ دخل عليه عمران بن عبد الله القمي، فسأله وبرّه وبشّه، فلمّا أن قام قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من هذا الذي بررت به هذا البرّ؟ فقال: من أهل البيت النجباء ـ يعني أهل قم ـ ما أرادهم جبار من الجبابرة إلا قصمه الله.(240)







وروى بسنده عن أبان بن عثمان، قال: دخل عمران بن عبد الله القمي على أبي عبد الله (عليه السلام) فقرّبه أبو عبد الله، فقال له: كيف أنت؟ وكيف ولدك؟ وكيف أهلك؟ وكيف بنو عمّك؟ وكيف أهل بيتك؟ ثم حدّثه مليّاً، فلمّا خرج قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): من هذا؟ قال: هذا نجيب قوم النجباء، ما نصب لهم جبّار إلا قصمه الله.(241)







وفي رواية أن الإمام (عليه السلام) دعا له وقال وهو قابض على يده: أسال الله أن يصلّي على محمد وآل محمد وأن يظلّك وعترتك يوم لا ظلّ إلا ظلّه.(242)







ولعمران ابن يسمّى المرزبان من أصحاب الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وروي عنه أنّه قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): أسألك عن أهم الأمور إليّ أمن شيعتك أنا؟ فقال: نعم. قال: قلت: اسمي مكتوب عندك؟ قال: نعم.(243)







وروى الكشي بسنده عن أبي محمد أخي يونس بن يعقوب، قال: كنت بالمدينة فاستقبلني جعفر بن محمد (عليهما السلام) في بعض أزقّتها، قال: قال: اذهب يا يونس فإنّ بالباب رجلاً منّا أهل البيت، قال: فجئت إلى الباب فإذا عيسى بن عبد الله القمي جالس، قال: فقلت له: من أنت؟ فقال له: أنا رجل من أهل قم، قال: فلم يكن بأسرع من أن أقبل أبو عبد الله (عليه السلام)، قال: فدخل الدار، ثم التفت إلينا فقال: ادخلا، ثم قال: يا يونس بن يعقوب أحسبك أنكرت قولي لك إنّ عيسى بن عبد الله منّا أهل البيت، قال: قلت: أي والله جعلت فداك، لأنّ عيسى بن عبد الله رجل من أهل قم، فقال: يا يونس، عيسى بن عبد الله هو منّا حي وهو منّا ميّت.(244)







وروى أيضاً بسنده عن يونس بن يعقوب، قال: دخل عيسى بن عبد الله القمي على أبي عبد الله (عليه السلام) فأوصاه بأشياء، ثم ودّعه وخرج عنه، فقال لخادمه: ادعه، فانصرف إليه فأوصاه بأشياء، ثم ودّعه وخرج عنه، فقال لخادمه: ادعه فانصرف إليه فأوصاه بأشياء، ثم قال له: يا عيسى بن عبد الله إن الله عزّ وجلّ يقول: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ) وإنّك منّا أهل البيت، فإذا كانت الشمس من هاهنا من العصر فصلّ ست ركعات، قال: ثم ودّعه، وقبّل ما بين عيني عيسى فانصرف، قال يونس بن يعقوب: فما تركت السّت ركعات منذ سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ذلك لعيسى بن عبد الله.(245)







ومنهم: زكريا بن آدم بن عبد الله بن سعد الأشعري القمّي الذي كان جليلاً عظيم الشأن والمنزلة، وقد أرجع الإمام الرضا (عليه السلام) بعض أصحابه إليه لأخذ معالم الدين منه.







روى الكشي بسنده عن محمد بن حمزة بن اليسع عن زكريا بن آدم، قال: قلت للرضا (عليه السلام): إنّي أريد الخروج عن أهل بيتي فقد كثر السفهاء فهيم، فقال: لا تفعل، فإنّ أهل بيتك يدفع عنهم بك، كما يدفع عن أهل بغداد بأبي الحسن الكاظم (عليه السلام).(246)







وروى بسنده عن علي بن المسيب، قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كل وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقل: من زكريا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا، قال علي بن المسيب: فلمّا انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عمّ احتجت إليه.(247)







وروى الكشي بسنده عن زكريا بن آدم أنّه قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) من أول الليل في حدثان موت أبي جرير، فسألني عنه وترحّم عليه، ولم يزل يحدّثني وأحدّثه حتى طلع الفجر، فقام فصلّى الفجر.(248)







وقال العلامة: وحجّ الرضا (عليه السلام) سنة من المدينة وكان زكريا بن آدم زميله إلى مكة.(249)







ولمّا توفي زكريا بن آدم بعث الإمام (عليه السلام) بكتاب ضمّنه دعاءه له والثناء عليه.







روى الكشي بسنده عن محمد بن إسحاق والحسن بن محمد، قالا:







خرجنا بعد وفاة زكريا بن آدم بثلاثة أشهر نحو الحجّ، فتلقّانا كتابه (عليه السلام) في بعض الطريق، فإذا فيه: ذكرت ما جرى من قضاء الله في الرجل المتوفّى رحمه الله يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حيّاً، فقد عاش أيام حياته عارفاً بالحق، قائلاً به، صابراً محتسباً للحقّ، قائماً بما يحبّه الله ورسوله، ومضى رحمه الله غير ناكث ولا مبدّل، فجزاه الله أجر نيّته وأعطاه خير أمنيته..(250)







ومنهم: أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص بن السائب بن مالك بن عامر الأشعري.. شيخ قم ووجيهها وفقيهها غير مدافع، وكان أيضاً الرئيس الذي يلقى السلطان بها، ولقي أبا الحسن الرضا (عليه السلام) وله كتاب.(251)







ومنهم: أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري وكان من خواصّ الإمام العسكري (عليه السلام) ورأى صاحب الزمان، وهو شيخ القميين ووافدهم.(252)







روى الشيخ الصدوق في كمال الدين حديثاً مبسوطاً وجاء في آخره: إنّه قال للإمام العسكري (عليه السلام):.. سألتك بالله وبحرمة جدك إلا شرّفتني بخرقة أجعلها كفنا.







قال الراوي: فأدخل مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهماً، فقال: خذها ولا تنفق على نفسك غيرها، فإنّك لن تعدم ما سألت، وإنّ الله تبارك وتعالى لن يضيع أجر من أحسن عملاً، قال سعد: (راوي الحديث): فلمّا انصرفنا من حضرة مولانا من حلوان ـ المعروف اليوم بـ(پل زهاب) ـ على ثلاثة فراسخ حمّ أحمد بن إسحاق وثارت به علّة صعبة أيس من حياته فيها، فلمّا وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات دعا أحمد بن إسحاق برجل من أهل بلده كان قاطناً بها، ثم قال: تفرقوا عنّي هذه الليلة واتركوني وحدي، فانصرفنا عنه، ورجع كلّ واحد منّا إلى مرقده.







قال سعد: فلمّا حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة ففتحت عيني فإذا أنا بكافور الخادم (خادم مولانا أبي محمد (عليه السلام)) وهو يقول: أحسن الله بالخير عزاكم، وجبر بالمحبوب رزيّتكم، قد فرغنا من غسل صاحبكم ومن تكفينه، فقوموا لدفنه، فإنّه من أكرمكم محلاّ عند سيّدكم، ثم غاب عن أعيننا، فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والعويل حتى قضينا حقّه وفرغنا من أمره رحمه الله.(253)







ومنهم: سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي الأشعري أبو القاسم، شيخ هذه الطائفة، وفقيهها ووجيهها.(254)







ومنهم غيرهم وهم كثير.







وأمّا من برز من غير الأشعريين في العلم والتقوى والفضيلة فمن العسير جداً إحصاؤهم، فإن هذه المدينة أشبه شيء بمدرسة كبرى تخرّج منها رجال العلم والإيمان، وأصبحوا منائر هدى ورشاد، وفي طليعتهم الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، ووالده علي بن الحسين، ومحمد بن الحسن بن الوليد، ومحمد بن الحسن القمي، ومحمد بن الحسن الصفّار، وعلي بن إبراهيم ووالده إبراهيم بن هاشم، وغيرهم كثير ممّن كانوا من أجلاء هذه الطائفة وعظمائها وقد تكفّلت كتب الرجال ببيان أحوالهم ومختلف شؤونهم ومن أراد المزيد فليراجع.















قم وأهلها في روايات أهل البيت (عليهم السلام)







ومن خلال ما تقدم يتبيّن ما لهذه المدينة المقدّسة من المنزلة عند أهل البيت (عليهم السلام) وما لأهلها من الشأن والمكانة.







وقد مرّ أنّ قم حرم آل محمد، وهي كوفتهم الصغيرة ومأوى شيعتهم، وتضافرت الرّوايات الواردة عنهم (عليهم السلام)، في بيان فضلها وأفضليّتها على كثير من البقاع.







فمنها: ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنّه ذكر الكوفة، قال: ستخلو الكوفة من المؤمنين، ويأزر عنها العلم كما تأزر الحيّة في حجرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدناً للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهلها قائمين مقام الحجّة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها، ولم يبق في الأرض حجة فيفيض العلم منها إلى سائر البلاد في الشرق والغرب، فيتمّ حجّة الله على الخلق، حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم، ثم يظهر القائم (عليه السلام) ويسير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد، لأنّ الله لا ينتقم من العباد إلا بعد إنكارهم حجّته.(255)







ومنها: ما رواه أنس بن مالك، قال: كنت ذات يوم جالساً عند النبي (صلّى الله عليه وآله) إذ دخل عليه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال (صلّى الله عليه وآله): إليّ يا أبا الحسن، ثم اعتنقه وقبّل ما بين عينيه، وقال: يا علي إنّ الله عزّ اسمه عرض ولايتك على السماوات فسبقت إليها السماء السابعة فزينها بالعرش، ثم سبقت إليها السماء الرابعة فزيّنها بالبيت المعمور، ثم سبقت إليها السماء الدنيا فزينها بالكواكب، ثم عرضها على الأرضين فسبقت إليها مكّة فزيّنها بالكعبة، ثم سبقت إليها المدينة فزيّنها بي، ثم سبقت إليها الكوفة فزيّنها بك، ثم سبقت إليها قم فزيّنها بالعرب، وفتح إليها باباً من أبواب الجنة.(256)







ومنها: ما روي عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قم عش آل محمد، ومأوى شيعتهم، ولكن سيهلك جماعة من شبابهم بمعصية آبائهم، والاستخفاف والسخرية بكبرائهم ومشايخهم، ومع ذلك يدفع الله عنهم شرّ الأعادي وكلّ سوء.(257)







ومنها: ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها، فإنّ البلاء مدفوع عنها.(258)







ومنها: ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: إذا أصابتكم بليّة وعناء فعليكم بقم، فإنّه مأوى الفاطميين، ومستراح المؤمنين، وسيأتي زمان ينفر أولياؤنا ومحبّونا عنّا ويبعدون منا، وذلك مصلحة لهم لكيلا يُعرفوا بولايتنا، ويحقنوا بذلك دماءهم وأموالهم، وما أراد أحد بقم وأهلها سواءً إلا أذلّه الله وأبعده من رحمته.(259)







ومنها: ما روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إنّ للجنة ثمانية أبواب، ولأهل قم واحد منها، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم، ثم طوبى لهم.(260)







ومنها: ما رواه عفان البصري عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: أتدري لم سمّيت قم؟ قلت: الله ورسوله وأنت أعلم، قال: إنّما سمّيت قم لأنّ أهلها يجتمعون مع قائم آل محمد ـ صلوات الله عليه ـ ويقومون معه، ويستقيمون عليه وينصرونه.(261)







ومنها: ما رواه صفوان بن يحيى بيّاع السّابري قال: كنت يوماً عند أبي الحسن (عليه السلام) فجرى ذكر قم وأهلها وميلهم، إلى المهدي (عليه السلام)، فترحم عليهم، وقال: رضي الله عنهم، ثم قال: إنّ للجنة ثمانية أبواب وواحد منها لأهل قم، وهم خيار شيعتنا من بين سائر البلاد، خمّر الله تعالى ولايتنا في طينتهم.(262)







ومنها: ما روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: إنّ لعلى قم ملكاً رفرف عليها بجناحيه، لا يريدها جبّار بسوء إلا أذابه الله كذوب الملح في الماء، ثم أشار إلى عيسى بن عبد الله فقال: سلام الله على أهل قم، يسقي الله بلادهم الغيث، وينزل الله عليهم البركات، ويبدّل الله سيئاتهم حسنات، هم أهل ركوع وسجود وقيام وقعود، هم الفقهاء العلماء الفهماء، هم أهل الدراية والرواية وحسن العبادة.(263)







ومنها: ما روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: تربة قم مقدسة، وأهلها منّا ونحن منهم، لا يريدهم جبّار بسوء إلا عجّلت عقوبته ما لم يخونوا إخوانهم، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم جبابرة سوء، أمّا إنّهم أنصار قائمنا، ودعاة حقّنا، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم اعصمهم من كلّ فتنة، ونجّهم من كلّ هلكة.(264)







ومنها: ما روي عن الرضا (عليه السلام)، قال: للجنّة ثمانية أبواب، فثلاثة منها لأهل قم، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم.(265)







ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: صلوات الله على أهل قم، ورحمة الله على أهل قم، سقى الله بلادهم الغيث..(266)







ومنها: ما رواه أبو الصّلت الهروي قال: كنت عند الرضا (عليه السلام) فدخل عليه قوم من أهل قم فسلّموا عليه، فردّ عليهم وقرّبهم، ثم قال لهم: مرحباً بكم وأهلاً، فأنتم شيعتنا حقاً، فسيأتي عليكم يوم تزورون فيه تربتي بطوس، ألا فمن زارني وهو على غسل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه.(267)







ومنها: ما ورد في كتاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى أهل قم وآبه (آوه) وجاء فيه: إنّ الله تعالى بجوده ورأفته قد منّ الله على عباده بنبيّه محمد بشيراً ونذيراً، ووفقكم لقبول دينه، وأكرمكم بهدايته، وغرس في قلوب أسلافكم الماضين ـ رحمة الله عليهم وأصلابكم الباقين تولّى كفايتهم وعمّرهم طويلاً في طاعته ـ حبّ العترة الهادية، فمضى من مضى على وتيرة الصواب، ومنهاج الصدق، وسبيل الرشاد، فوردوا موارد الفائزين، واجتنوا ثمرات ما قدّموا، ووجدوا غبّ ما أسلفوا..(268)







وغيرها من الروايات الكثيرة، وهي تدلّ على جلالة هذه المدينة وأهلها، ورعاية الأئمة (عليهم السلام) لهم، وعنايتهم بهم، ممّا جعل من هذه المدينة حصناً منيعةً للتشيع، وقلعة محكمة تدافع عن حريم مذهب آل محمد (صلّى الله عليه وآله) عبر القرون في صلابة من الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، ورسوخ في الاعتقاد.















مفاخر القميين







وذكر أن لأهل قم مناقب وفضائل أخرى امتازوا بها على سائر الناس، وعدّت من مفاخرهم وأوليّاتهم.







قال الشيخ النمازي: مفاخر أهل قم كثيرة منها: أنّهم وقفوا المزارع والعقارات الكثيرة على الأئمة (عليهم السلام).







ومنها: أنّهم أول من بعث الخمس إليهم.







ومنها: أنّهم (عليهم السلام) أكرموا جماعة كثيرة منهم بالهدايا والتحف والأكفان، كأبي جرير زكريّا بن إدريس، وزكريّا بن آدم، وعيسى بن عبد الله بن سعد، وغيرهم، ممن يطول بذكرهم الكلام، وشرّفوا بعضهم بالخواتيم والخلع، وأنّهم اشتروا من دعبل ثوب الرضا (عليه السلام) بألف دينار من الذهب، إلى غير ذلك.







ومنها: قبر فاطمة بنت موسى (عليهما السلام) وثواب زيارتها.(269)







ومن طريف ما يروى ما جرى لدعبل بن علي الخزاعي الشاعر المشهور، وكان من قصّته أنه دخل على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بمرو، فقال له: يا بن رسول الله إنّي قد قلت فيك قصيدة، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك، فقال (عليه السلام): هاتها. فأنشده:







مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات







فلما بلغ إلى قوله:







أرى فيأهم في غيرهم متقمساً *** وأيديهم من فيئهم صفرات







بكى أبو الحسن الرضا (عليه السلام)، وقال له: صدقت يا خزاعي، فلما بلغ إلى قوله:







إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم *** أكفّاً عن الأوتار منقبضات







جعل أبو الحسن (عليه السلام) يقلّب كفّيه ويقول: أجل، والله منقبضات، فلمّا بلغ إلى قوله:







لقد خفت في الدينا وأيام سعيها *** وإنّي لأرجو الأمن بعد وفاتي







قال الرضا (عليه السلام): آمنك الله يوم الفزع الأكبر، فلمّا انتهى إلى قوله:







وقبر بـبغداد لنفس زكيّة *** تضمّنها الرحمن في الغرفات







قال له الرضا (عليه السلام) أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟







فقال: بلى يا بن رسول الله. فقال (عليه السلام):







وقبر بطوس يا لها من مصيبة *** توقّد في الأحشاء بالحرقات







إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً *** يفرّج عنّا الهمّ والكربات







فقال دعبل: يا بن رسول الله هذا القبر بطوس قبر من هو؟ فقال الرضا (عليه السلام): قبري ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له.







ثم نهض الرضا (عليه السلام) بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة، وأمره أن لا يبرح من موضعه، فدخل الدار، فلمّا كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمائة دينار رضويّة، فقال له: يقول لكم مولاي: اجعلها في نفقتك، فقال دعبل: والله ما لهذا جئت، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليّ، وردّ الصرّة، وسأل ثوباً من ثياب الرضا (عليه السلام) ليتبرّك به ويتشرف به، وأنفذ الرضا (عليه السلام) جبّة خزّ مع الصرّة وقال للخادم: قل له: خذ هذه الصرّة، فإنّك ستحتاج إليها ولا تراجعني فيها.(270)







وفي رواية أخرى: أن دعبل الخزاعي قال: لما قلت (مدارس آيات) قصدت بها أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، وهو بخراسان ولي عهد المأمون في الخلافة، فوصلت المدينة وحضرت عنده وأنشدته إياها فاستحسنها، وقال لي: لا تنشدها أحداً حتى آمرك.







واتصل خبري بالخليفة المأمون فأحضرني، وسألني عن خبري، ثم قال: يا دعبل أنشدني (مدارس آيات خلت من تلاوة) فقلت: ما أعرفها يا أمير المؤمنين، فقال: يا غلام أحضر أبا الحسن علي بن موسى الرضا.







فلم تكن إلا ساعة حتى حضر، فقال له: يا أبا الحسن سألت دعبلاً عن (مدارس آيات) فذكر أنّه لا يعرفها، فقال لي أبو الحسن: يا دعبل أنشد أمير المؤمنين، فأخذت فيها، فأنشدتها فاستحسنها، وأمر لي بخمسين ألف درهم، وأمر لي أبو الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بقريب من ذلك.







فقلت: يا سيّدي إن رأيت أن تهبني شيئاً من ثيابك ليكون كفني، فقال: نعم، ثم دفع إليّ قميصاً قد ابتذله ومنشفة لطيفة، وقال لي: احفظ هذا تحرس به.







ثم دفع ليّ ذو الرئاستين أبو العباس الفضل بن سهل وزير المأمون صلة وحملني على برذون أصفر خراساني.







قال: ثم كررت راجعاً إلى العراق، فلمّا صرت في بعض الطريق خرج علينا الأكراد فأخذونا، وكان ذلك اليوم مطيراً فبقيت في قميص خلق وضرّ جديد، وأنا متأسف من جميع ما كان معي على القميص والمنشفة، ومتفكّر في قول سيدي الرضا (عليه السلام)، إذ مرّ بي واحد من الأكراد الحراميّة تحته الفرس الأصفر الذي حملني عليه ذو الرئاستين ووقف بالقرب منّي ليجتمع عليه أصحابه وهو ينشد: (مدارس آيات خلت من تلاوة) ويبكي، فلمّا رأيت ذلك منه عجبت من لصّ من الأكراد يتشيّع، ثم طمعت في القميص والمنشفة فقلت: يا سيدي لمن هذه القصيدة؟ فقال: وما أنت وذلك ويلك؟ فقلت: لي فيه سبب أخبرك به، فقال: هي أشهر بصاحبها أن تجهل فقلت: من هو؟ قال: دعبل بن علي الخزاعي شاعر آل محمد جزاه الله خيراً، فقلت له: والله يا سيدي أنا دعبل وهذه قصيدتي، فقال: ويلك ما تقول؟ قلت: الأمر اشهر من ذلك، فأرسل إلى أهل القافلة فاستحضر منهم جماعة وسألهم عنّي، فقالوا بأسرهم: هذا دعبل بن علي الخزاعي.







فقال: قد أطلقت كل ما أُخذ من القافلة خلالة فما فوقها، كرامة لك، ثم نادى في أصحابه من اخذ شيئاً فليردّه فرجع على الناس جميع ما أخذ منهم ورجع إليّ جميع ما كان معي، ثم بذرقنا ـ أي كنّا في حمايته ـ إلى المأمن فحرست أنا والقافلة ببركة القميص والمنشفة.(271)







وفي رواية: أنّ دعبل أخذ الصرّة والجبّة وانصرف وصار من مرو في قافلة، فلمّا بلغ (ميان قوهان)، وقع عليهم اللّصوص، فأخذوا القافلة بأسرها وكتّفوا أهلها، وكان دعبل فيمن كتّف، وملك اللّصوص القافلة، وجعلوا يقسّمونها بينهم، فقال رجل من القوم متمثّلاً بقول دعبل في قصيدته:







أرى فيأهم في غيرهم متقسماً *** وأيديهم من فيئهم صفراتفسمعه دعبل فقال له: لمن هذا البيت؟ فقال: لرجل من خزاعة، يقال له دعبل بن علي، قال دعبل: فأنا دعبل قائل هذه القصيدة التي منها هذا البيت، فوثب الرجل إلى رئيسهم، وكان يصلّي على رأس تلّ، وكان من الشيعة، وأخبره فجاء بنفسه حتى وقف على دعبل، وقال له: أنت دعبل؟ فقال: نعم، فقال له: أنشد القصيدة، فأنشدها فحلّ كتافه وكتاف جميع أهل القافلة، وردّ عليهم جميع ما أخذ منهم كرامة لدعبل.







وسار دعبل حتى وصل إلى قم فسأله أهل قم أن ينشدهم القصيدة، فأمرهم أن يجتمعوا في المسجد الجامع، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم القصيدة فوصله الناس من المال والخلع بشيء كثير، واتصل بهم خبر الجبّة فسألوه أن يبيعها منهم بألف دينار، فامتنع من ذلك، فقالوا له: فبعنا شيئاً منها بألف دينار، فأبى عليهم وسار عن قم.







فلمّا خرج من رستاق البلد لحق به قوم من أحداث العرب وأخذوا الجبّة منه، فرجع دعبل إلى قم وسألهم ردّ الجبّة عليه، فامتنع الأحداث من ذلك، وعصوا المشايخ في أمرها، فقالوا لدعبل: لا سبيل لك إلى الجبّة فخذ ثمنها ألف دينار، فأبى عليهم، فلمّا يئس من ردّهم الجبّة عليه سألهم أن يدفعوا إليه شيئاً منها، فأجابوه إلى ذلك، وأعطوه بعضها ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار.







وانصرف دعبل إلى وطنه فوجد اللّصوص قد أخذوا جميع ما كان في منزله، فباع المائة دينار التي كان الرضا (عليه السلام) وصله بها من الشيعة كلّ دينار بمائة درهم، فحصل في يده عشر آلاف درهم، فذكر قول الرضا (عليه السلام): إنّك ستحتاج إلى الدنانير.







وكانت له جارية لها من قلبه محل، فرمدت رمداً عظيماً، فأدخل أهل الطّب عليها، فنظروا إليها فقالوا: أمّا العين اليمنى فليس لنا فيها حيلة، وقد ذهبت، وأمّا اليسرى فنحن نعالجها، ونجتهد ونرجو أن تسلم.







فاغتم لذلك دعبل غمّا شديداً، وجزع عليها جزعاً عظيماً، ثم ذكر ما كان معه من فضلة الجبّة فمسحها على عيني الجارية، وعصبها من أول الليل فأصبحت وعيناها أصحّ ممّا كانتا قبل، ببركة الإمام الرضا (عليه السلام).(272)







وإنّما ذكرنا هذه الرواية بطولها لما فيها من الطرافة واللّطافة والدلائل، كما أنّ فيها دلالة على ولاء أهل قم وحبّهم لآل محمد (عليهم السلام).















العلويون في قم







أشرنا فيما تقدّم إلى أن سياسة حكّام بني أمية وبني العباس كانت تعتمد على البطش بالعلويين وقهرهم وتشريدهم، وكان بنو العباس هم الأشدّ في ذلك كما اعترف المأمون العباسي، وقد أدّى ذلك إلى نزوح العلويين عن مواطنهم وتفرّقهم في أطراف الأرض إلى حيث يجدون الأمن والأمان، وقد مرّت علينا نماذج من أولئك الذين اضطرتهم الظروف العصيبة التي عصفت بهم إلى التنكر والتواري عن الأنظار خوفاً على أنفسهم وأعراضهم وذويهم.







ولمّا كانت مدينة قم من المدن السبّاقة إلى التشيّع والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) أصبحت ملاذاً لبعض هؤلاء حيث التجأ إليها كثير من العلويين ولا سيّما بعد أن دفنت فيها السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، وأصبح حرمها الشريف مزاراً وملاذاً.







ومنذ أن اتخذ بعض العلويين من قم موطناً ومستقراً له بدأ الوجود العلوي بالانتشار، ولا زالت بعض السلالات العلويّة التي ينتهي نسبها إلى أولئك الذين سكنوا قم واستوطنوها باقية إلى اليوم كالسّادة البرقعيين فقد ذكرت بعض المصادر أنّ أول من دخل مدينة قم من السادة الرضويّة هو موسى بن الإمام الجواد (عليه السلام) في سنة 256هـ، وهو المعروف بالمبرقع، وكان يضع على وجهه برقعاً دائماً فلذا لقب بالمبرقع، وتوفي في قم سنة 296هـ، وقد التحق به أخواته زينب، وأم محمد، وميمونة بنات الإمام الجواد (عليه السلام)، ثم جاءت بعدهن بريهة بنت موسى، وتوفّين بقم، ودفنّ عند فاطمة المعصومة (عليها السلام)(273) كما ذكرناه فيما تقدّم.







وتنتشر في قم قبور السّادة العلويين وهي مزارات يقصدها أهل قم والوافدون إليها، وهي كثيرة.







منها: مزار فيه قبران أحدهما لموسى المبرقع، والثاني قبر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى.







ومنها: مزار كبير يعرف بـ(چهل اختران) ويحوي عدّة من قبور السادة العلويين منهم: محمد بن موسى المبرقع، وزوجته بريهة بنت جعفر بن الإمام علي الهادي (عليه السلام)، وزينب بنت الإمام موسى، وبناته: فاطمة، وبريهة، وأم سلمة، وأم كلثوم، وغيرهنّ من العلويات والفاطميات وكلّهن من أعقاب وذراري موسى المبرقع.(274)







هذا وقد انتشر أعقاب موسى المبرقع عدا قم في الرّي وقزوين وهمدان وخراسان وكشمير والهند وسائر البلدان.(275)







وقد تولّى بعضهم النقابة والأمارة، وكان فيهم العلماء وأهل التدبير والسيادة، فإنّ محمد بن أحمد بن موسى المعروف بأبي علي كان رجلاً فاضلاً تقيّاً ورعاً للغاية، حسن المنظر والمناظرة، فصيحاً عاقلاً، وكان رئيساً ونقيباً في قم، وأميراً للحاج، وقد شبهه أمير قم بالأئمة في الفضل والكمال، واعتقد بأنه يصلح للإمامة.







وكان ابنه أحمد بن محمد المعروف بالأعرج سيّداً جليل القدر عظيم الشأن، رفيع المنزلة رئيساً نقيباً في قم، وكان رجلاً متنسّكاً متعبّداً محبّباً إلى قلوب الناس، سخيّاً جواداً واسع الجاه، ولد بقم سنة 311هـ وتوفي في شهر صفر سنة 358هـ وكانت وفاته لأهل قم مصيبة عظمى.







وكان ابنه أبو الحسن موسى بن أحمد سيّد أهل قم ورئيسهم، حسن المعاملة معهم، مراعياً حقوقهم، وفوّضت إليه نقابة السادة في قم ونواحيها، وكان سادة آبة وقم وكاشان وغيرها تحت نظره في جميع أمورهم.(276)







وخلاصة القول أنّهم كانوا أشراف هذه المدينة وأجلاّءها في العلم والعمل.







ومنها: مزار أحمد بن قاسم بن أحمد بن علي بن جعفر العريضي، المعروف بـ(شاهد أحمد قاسم)، وهو معروف بالشّرف والجلالة، وقبره مزار كافة الناس، وكان عليه سقيفة، فلمّا جاء أصحاب خاقان المفلحي في سنة 295هـ إلى قم رفعوا السقيفة فتركت زيارته مدّة إلى أن رأى بعض صلحاء قم في المنام في سنة 371هـ أن ساكن هذه البقعة رجل فاضل، وفي زيارته ثواب عظيم، فبنى قبره بالخشب وجدّد، وأصبح يزار، وقال بعض الثقات: كان يأتي إليه أصحاب الأمراض المزمنة والمعلولون ويتوسلون به فيجدون الشفاء ببركة روحه الطاهرة.(277)







أقول: أشار إلى ذلك أحد الأساتذة من السادة العلماء الأجلاّء، وأرشدني إلى زيارته والتوسل به، وأنّ حرمه موضع إجابة، وقد توسّل به في بعض المهمّات فقضيت حاجته.







وحرمه اليوم أحد المعالم البارزة في قم، وقد دفنت في حرمه أخته فاطمة.







وفي جواره دفن كثير من العلماء والمؤمنين ويزدحم الزوّار عند قبره ولا سيّما في ليالي الأربعاء والجمعة من كلّ أسبوع.







ومنها: مزار قيل: إنّ حمزة بن الإمام موسى بن جعفر (عليهم السلام) قد دفن فيه.(278)







وقد اختلفت الأقوال في ذلك، فنقل العلامة القمّي عن بعض كتب العلامة المجلسي أن قبر حمزة بن موسى (عليه السلام) يقرب من قبر السيد عبد العظيم(279) (الحسني).







وقد تقدم ما نقلناه من رجال النجاشي أن السيد عبد العظيم الحسني كان يخرج مستتراً فيزور القبر المقابل لقبره ويقول هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر (عليهما السلام).







وذكر غيره أنّ قبره في اصطخر من شيراز.(280)







وذكر المحدّث القمي أن في مدينة قم الطيبة مزار يعرف بـ(شاهزاده حمزة)، ولأهل هذه البلدة اعتقاد تام فيه ويحترمونه ويعظّمونه، وله قبّة وصحن، ويظهر من كلام صاحب تاريخ قم أنّ هذا الشخص هو حمزة بن موسى (عليه السلام)، كما ورد في تاريخ السادات الرضائية الذين أقاموا بقم ودفنوا فيها، أنّه قال: جاء يحيى الصوفي إلى قم وأقام بها وسكن في دار قرب دورة زكريّا بن آدم ومشهد حمزة بن موسى بن جعفر (عليهما السلام).(281)







واليه ينتهي نسب السلالة الصفوية الذين حكموا إيران أكثر من قرنين من الزمان(282)، وذكرنا فيما تقدّم أن أربعة من سلاطينهم دفنوا بجوار السيدة المعصومة (عليها السلام).







ومنها: مزار كبير يعرف اليوم بـ(گلزار) قيل: إنّ علي بن جعفر الصادق (عليه السلام) مدفون فيه.(283)







وقد اختلف في ذلك أيضاً، وقيل إنّه مدفون في العرض من نواحي المدينة، وسكن فيها، وله أولاد كثيرون، وهم العريضيون.(284)







وقال العلامة المجلسي: وأمّا كونه مدفوناً في قم فغير مذكور في الكتب المعتبرة، لكن أثر قبره الشريف موجود قديم وعليه اسمه مكتوب.(285)







وهناك مزارات أخرى في قم تنسب لأولاد الأئمة (عليهم السلام) وأحفادهم من السادة الحسنيين والحسينيين والموسويين والرضويين وغيرهم وقد ذكرهم القمّي في تاريخه، والعلوي العمري في مجديه(286) ويقصدهم الزّائرون ويتوسلون بهم لقضاء حوائجهم.







وقد أشرنا فيما تقدّم إلى أنّ هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة مستوعبة، فعسى أن يتهيأ لها من يسد هذا الفراغ.







والخلاصة أنّ أرواح الطيبيّن والصّلحاء تحيط بقم وأهلها، وتدفع عنها وعنهم عاديات الزمان.















مسجد جمكران







يقع في الجهة الجنوبية من قم وعلى بعد بضعة آلاف من الأمتار مسجد كبير يقال له مسجد جمكران إضافة إلى اسم المكان، يقصده المئات بل الآلاف من المؤمنين من شتى بقاع إيران وغيرها، ولا سيّما في ليالي الأربعاء من كل أسبوع، يقضون فيه أوقاتاً في العبادة والتهجّد والتوسّل بالحجة ابن الحسن العسكري (عليهما السلام) وهو عامر بالعبادة في جميع الأوقات.







ويعود تاريخ هذا المسجد إلى القرن الرابع الهجري، وقد ذكرت في كيفيّة تأسيسه قصّة عجيبة ترتبط بالإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهو الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولذا نسب المسجد إليه.







ويعدّ هذا المسجد من العلائم البارزة لهذه المدينة المقدسة.







ومن النادر جدّاً أن يزور شخص مدينة قم ويغفل عن زيارة هذا المسجد والصّلاة فيه. وقد ذكر أن له صلاة مخصوصة بكيفيّة خاصّة كما سيأتي بيانها.







ومنذ أن أسّس هذا المسجد وإلى يوم الناس هذا ولا زال المؤمنون يتوافدون على هذا المسجد وحداناً وأفواجاً، ويبتهلون إلى الله تعالى ويتوسلون بوليّه الحجة ابن الحسن (عليهما السلام) في مختلف شؤونهم وقضاياهم، ولا سيّما بالدعاء لتعجيل الفرج.







وقد اتسعت رقعة هذا المسجد بعد أن كانت مساحته صغيرة، وأصبح يتسع للآلاف من المصلّين وخصّص قسم منه إلى النساء، وتشرف عليه هيئة خاصّة تدير شؤونه ولوازمه وسائر مرافقه.







وإنّك لتجد في كلّ ليلة أربعاء من كل أسبوع ازدحام الزّائرين من أهل قم وغيرها من سائر المدن لزيارة حرم السيدة المعصومة ومسجد جمكران وبعض المزارات الأخرى.







ونظير ذلك ما كان يجري في الكوفة حيث مسجد السّهلة فقد دأب الصّالحون وأهل العبادة على قضاء هذه الليلة من كلّ أسبوع في مسجد السّهلة للصلاة والتهجد والابتهال، وكانت ألطاف الله تعالى وعناياته تغمر بعض هؤلاء فيحظون بالكرامة الخاصّة أو بقضاء الحوائج أو باستجابة الدعوات.







أمّا اختصاص ليلة الأربعاء من بين الليّالي فلم نعرف له وجهاً، اللهم إلا أن يكون من المجريّات لبعض الصالحين، وأصبحت عادة عند المؤمنون.







نعم ذكر السيد ابن طاووس في أعمال مسجد السّهلة ذلك، فقال: إذا أردت أن تمضي إلى السّهلة فاجعل ذلك بين المغرب والعشاء الآخرة من ليلة الأربعاء، وهو أفضل من غيره من الأوقات.(287)







فلعلّ اختيار زيارة مسجد جمكران في ليلة الأربعاء والصلاة فيه بمقتضى المناسبة بين المسجدين حيث التوسّل بالإمام الحجّة ابن الحسن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.







وأمّا قصّة بناء هذا المسجد وما رافقها من أحداث فهي كما في الحكاية الثامنة من كتاب جنّة المأوى، قال: في تاريخ قم تأليف الشيخ الفاضل الحسن بن محمد بن الحسن القمّي من كتاب مؤنس الحزين في معرفة الحقّ واليقين من مصنفات أبي جعفر محمد بن بابويه القمي ما لفظه بالعربية:







سبب بناء المسجد المقدس في جمكران بأمر الإمام (عليه السلام) على ما أخبر به الشيخ العفيف الصّالح حسن بن مثلة الجمكراني. قال: كنت ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة نائماً في بيتي، فلمّا مضى نصف من الليل فإذا بجماعة من الناس على باب بيتي فأيقظوني وقالوا: قم وأجب الإمام المهدي صاحب الزمان، فإنّه يدعوك.







قال: فقمت وتعبّأت وتهيّأت، فقلت: دعوني حتى ألبس قميصي، فإذا بنداء من جانب الباب: هو ما كان قميصك، فتركته وأخذت سراويلي فنودي: ليس ذلك منك فخذ سراويلك، فألقيته وأخذت سراويلي ولبسته، فقمت إلى مفتاح الباب أطلبه فنودي: الباب مفتوح.







فلمّا جئت إلى الباب رأيت قوماً من الأكابر فسلّمت عليهم فردّوا ورحّبوا بي، وذهبوا بي إلى موضع المسجد الآن، فلمّا أمعنت النّظر رأيت أريكة فرشت عليها فراش حسان، وعليها وسائد حسان، ورأيت فتى في زيّ ابن ثلاثين متكئاً عليها، وبين يديه شيخ وبيده كتاب يقرؤه عليه، وحوله أكثر من ستين رجلاً يصلّون في تلك البقعة، وعلى بعضهم ثياب بيض وعلى بعضهم ثياب خضر.







وكان ذلك الشيخ هو الخضر (عليه السلام)، فأجلسني ذلك الشيخ (عليه السلام) ودعاني الإمام (عليه السلام) باسمين وقال: اذهب إلى حسن بن مسلم وقل له: إنّك تعمر هذه الأرض منذ سنين وتزرعها ونحن نخرّبها، زرعت خمس سنين والعام أيضاً أنت على حالك من الزّراعة والعمارة، ولا رخصة لك في العود إليها، وعليك ردّ ما انتفعت به من غلاّت هذه الأرض ليبنى فيها مسجد، وقل لحسن بن مسلم: إنّ هذه أرض شريفة قد اختارها الله تعالى من غيرها من الأراضي وشرّفها، وأنت قد أضفتها إلى أرضك، وقد جزاك الله بموت ولدين لك شابّين فلم تنتبه من غفلتك، فإن لم تفعل ذلك لأصابك من نقمة الله من حيث لا تشعر.







قال حسن بن مثلة: قلت: يا سيدي لابدّ لي في ذلك من علامة، فإنّ القوم لا يقبلون ما لا علامة ولا حجّة عليه، ولا يصدّقون قولي، قال: إنا سنعلم هناك، فاذهب وبلّغ رسالتنا، واذهب إلى السيد أبي الحسن وقل له: يجيء ويحضره ويطالبه بما أخذ من منافع تلك السنين ويعطيه الناس حتى يبنوا المسجد ويتمّ ما نقص من غلّة رهق ملكنا بناحية اردهال ويتم المسجد وقد وقفنا نصف رهق على هذا المسجد ليجلب غلّته كلّ عام ويصرف إلى عمارته.







وقل للناس: ليرغبوا إلى هذا الموضع ويعزّروه ويصلّوا هنا أربع ركعات للتحيّة في كلّ ركعة يقرأ سورة الحمد مرّة وسورة الإخلاص سبع مرّات، ويسّبح في الركوع والسجود سبع مرّات، وركعتان للإمام صاحب الزمان (عليه السلام) هكذا: يقرأ الفاتحة فإذا وصل إلى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كرّره مائة مرّة، ثم يقرؤها إلى آخرها، وهكذا يصنع في الركعة الثانية، ويسبّح في الركوع والسجود سبع مرات، فإذا أتمّ الصلاة يهلّل ويسبّح تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإذا فرغ من التسبيح يسجد ويصلّي على النبي وآله مائة مرة، ثم قال (عليه السلام) ما هذه حكاية لفظه: (فمن صلاّها فكأنّما صلّى في البيت العتيق).







قال حسن بن مثلة: قلت في نفسي: كأنّ هذا موضع أنت تزعم أنّما هذا المسجد للإمام صاحب الزمان مشيراً إلى ذلك الفتى المتكئ على الوسائد، فأشار ذلك الفتى إليّ أن اذهب.







فرجعت فلمّا سرت بعض الطريق دعاني ثانية، وقال: إنّ في قطيع جعفر الكاشاني الرّاعي معزّاً يجب أن تشتريه، فإن أعطاك أهل القرية الثمن تشتريه وإلا فتعطي من مالك، وتجيء به إلى هذا الموضع وتذبحه الليلة الآتية، ثم تنفق يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر رمضان المبارك لحم المعز على المرضى ومن به علّة شديدة فإنّ الله يشفي جميعهم، وذلك المعز أبلق كثير الشّعر وعليه سبع علامات سود وبيض ثلاث على جانب وأربع على جانب سود وبيض كالدّراهم.







فذهبت فأرجعوني ثالثة وقال: تقيم بهذا المكان سبعين يوماً أو سبعاً فإن حملت على السبع انطبق على ليلة القدر، وهو الثالث والعشرون وإن حملت على السبعين انطبق على الخامس والعشرين من ذي القعدة وكلاهما يوم مبارك.







قال حسن بن مثلة: فعدت حتى وصلت إلى داري ولم أزل اللّيل متفكّراً حتى أسفر الصبح فأدّيت الفريضة وجئت إلى علي بن المنذر فقصصت عليه الحال فجاء معي حتى بلغت المكان الذي ذهبوا بي إليه البارحة فقال: والله إنّ العلامة التي قال لي الإمام واحد منها أنّ هذه السلاسل والأوتاد هاهنا.







فذهبنا إلى السيد الشريف أبي الحسن الرضا، فلمّا وصلنا إلى باب داره رأينا خدّامه وغلمانه يقولون إنّ السيد أبا الحسن الرّضا ينتظرك من سحر، أنت من جمكران؟ قلت: نعم فدخلت عليه الساعة وسلّمت عليه، وخضعت فأحسن في الجواب وأكرمني، ومكّن لي في مجلسه، وسبقني قبل أن أحدّثه، وقال: يا حسن بن مثلة إنّي كنت نائماً فرأيت شخصاً يقول لي: إنّ رجلاً من جمكران يقال له حسن بن مثلة يأتيك بالغدوّ ولتصدّقن ما يقول، واعتمد على قوله، فإنّ قوله قولنا، فلا تردّن عليه قوله، فانتبهت من رقدتي وكنت أنتظرك الآن.







فقصّ عليه الحسن بن مثلة القصص مشروحاً، فأمر بالخيول لتسرج، وتخرّجوا فركبوا، فلمّا قربوا من القرية رأوا جعفر الرّاعي وله قطيع على جانب الطريق، فدخل حسن بن مثلة بين القطيع وكان ذلك المعز خلف القطيع، فأقبل المعز عادياً إلى الحسن بن مثلة، فأخذه الحسن ليعطي ثمنه الرّاعي ويأتي به فأقسم جعفر الرّاعي أنى ما رأيت هذا المعز قطّ، ولم يكن في قطيعي إلا أنّي رأيته، وكلّما أريد أن آخذه لا يمكنني، والآن جاء إليكم. فأتوا بالمعز كما أمر به السيد إلى ذلك الموضع وذبحوه.







وجاء السيد أبو الحسن الرضا رضي الله عنه إلى ذلك الموضع وأحضروا الحسن بن مسلم واستردّوا منه الغلاّت، وجاءوا بغلاّت رهق وسقفوا المسجد بالجذوع وذهب السيد أبو الحسن الرضا رضي الله عنه بالسّلاسل والأوتاد وأودعها في بيته، فكان يأتي المرضى والمعلولون ويمسّون أبدانهم بالسّلاسل فيشفيهم الله تعالى عاجلاً ويصحّون.







قال أبو الحسن محمد بن حيدر: سمعت بالاستفاضة أن السيد أبا الحسن الرّضا في المحلّة المدعوة بموسويّان من بلدة قم فمرض ـ بعد وفاته ـ ولد له فدخل بيته وفتح الصّندوق الذي فيه السّلاسل والأوتاد فلم يجدها.







ثم قال المحدّث النوري: وقد نقلنا الخبر السابق من خطّ السيد المحدث الجليل السيد نعمة الله الجزائري عن مجموعة نقله منه، ولكنّه كان بالفارسية فنقلناه ثانياً إلى العربية ليلائم نظم هذا المجموع.







ولا يخفى أنّ كلمة التسعين الواقعة في صدر الخبر بالمثنّاة فوق ثم السين المهملة كانت في الأصل سبعين مقدّم المهملة على الموحّدة واشتبه على الناسخ لأنّ وفاة الشيخ الصدوق كانت قبل التسعين، ولذا نرى جمعاً من العلماء يكتبون في لفظ السبع أو السّبعين بتقديم السين أو التاء حذراً عن التصحيف والتحريف، والله تعالى هو العالم.(288)







هذا ما ذكر في قصّة بناء هذا المسجد، وظاهراً أنّها في اليقظة لا في المنام.







وعلى أي حال فالحكاية المذكورة وإن لم تكن حجة شرعيّة، ليثبت بها استحباب الصّلاة المذكورة بالكيفية الخاصة ـ كما هو مقتضى الصناعة ـ إلا أنه يقال بثبوته بعنوان آخر وهو كونه من صغريات قاعدة التسامح في أدلّة السنن، والتي تناولها العلماء بالدراسة في علم الأصول على اختلاف بينهم في توجيهها.







مضافاً إلى أن أصل القضية أمر مسلّم عند علماء الشيعة، حيث تلقّوه بالقبول، وتسالموا عليه، وقد ذهب بعض الأجلاّء منهم إلى أنّ ما اتفقت سيرة الشيعة عليه والتزموا به لا يحتاج إلى دليل.







ويؤيّد ذلك: ما يشاهده المؤمنون ويلمسونه من آثار العبادة والتوسّل في هذا المكان المبارك، الأمر الذي يكشف عن صحة هذه القضيّة وواقعيّتها.







والحاصل: أنّ هذه البقعة لا تخرج عن كونها مسجداً من المساجد العامرة بالعبادة، وموطناً من مواطن الدعاء والتوسل بصاحب الزمان (عليه السلام) وردت فيها هذه الخصوصيّة وظهرت لها آثار جليلة كثيرة.















نهاية المطاف







وبعد فهذا آخر ما أردناه من هذه الصّفحات المختصرة حول سيّدة جليلة من سيدات البيت العلوي، اختصّها الله تعالى بكثير من الميّزات، وكان لها عنده تعالى شأن من الشأن، حتى غدت من أفضل النساء.







وقد أدرك القارئ العزيز الوجه في الاستطراد بذكر بعض المباحث الخارجة ـ كما يبدو ـ عن دائرة الموضوع، فإنّه أمر تفرضه طبيعة هذه الدراسات التحليليّة ذات القضايا المتداخلة.







على أنّ فقدان عدّة حلقات من مسلسل الأحداث أو قلّة ما سجّله المؤرخون، تضطر الباحث لأن يلتمس وجوه الملاءمة والانسجام بين المقدّمات ونتائجها، أو الفحص عن مقدمات لبعض النتائج، بغية التوصل إلى إعطاء صورة واضحة بالمقدار الممكن، فيؤدّي ذلك ـ بدواً ـ إلى خروج البحث عن دائرة موضوعه.







واسأل الله تعالى أن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم وأن يكون أداء لبعض الحق من الوفاء والإخلاص والمودّة لغصن من أغصان الشجرة الطيّبة لا زلنا نتفيّأ ظلاله، ولا تزال السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) تغمرنا بألطافها وبركاتها، وتحوطنا برعايتها وعنايتها ونحن في حماها فإنّها سيدة عشّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وكريمة أهل البيت (عليهم السلام).(289)







وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين







الجمعة







26 ذو القعدة الحرام 1420هـ















(1). سورة إبراهيم: 24-25.







(2). تفسير القمي: ج1، ص398-399.







(3). معاني الأخبار: ج2، باب نوادر المعاني الحديث: ج61، ص380.







(4). الأصول من الكافي: ج1، باب إن الأرض كلها للإمام (عليه السلام) الحديث، 80، ص428.







(5). تفسير نور الثقلين: ج3، ص535-537.







(6). وسائل الشيعة: ج14، باب8، من أبواب مقدمات النكاح وآدابه الحديث 5.







(7). عيون أخبار الرضا: ج1، ص274.







(8). المنهج القويم في إثبات الإمامة من الذكر الحكيم، ص101-120.







(9). سورة المائدة: 67، وراجع كتاب الغدير في الكتاب والسنة والأدب.







(10). نهج البلاغة، الخطب 15، ص36.







(11). نهج البلاغة، الخطبة 92، ص138-139.







(12). مناهل الضرب في أنساب العرب، ص393.







(13). مناهل الضرب في أنساب العرب، ص393.







(14). الإرشاد: ج2، ص246.







(15). إعلام الورى: ج2، ص37.







(16). معجم رجال الحديث: ج4، ص100-102.







(17). الإرشاد: ج2، ص245.







(18). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص74.







(19). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص485-520.







(20). عيون أخبار الرضا: ج1، ص17-18.







(21). منتهى الآمال: ج2، ص406.







(22). كتاب الغيبة، ص208-210.







(23). سورة الحجرات: 13.







(24). مجمع البيان: ج9، ص138.







(25). بحار الأنوار: ج22، ص326.







(26). سورة المسد: 1-3.







(27). سورة آل عمران: 195.







(28). سورة آل عمران: 10.







(29). تفسير القرآن العظيم: ج1، ص357.







(30). الإمام الحسين (عليه السلام)، ص232-233.







(31). سورة الحجرات: 13.







(32). الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب، ص59-67.







(33). الفروع من الكافي: ج5، كتاب النكاح، باب آخر منه الحديث 4، ص344.







(34). الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، ص26-27.







(35). مقتل الحسين (عليه السلام)، هامش ص27.







(36). سورة آل عمران: 19.







(37). الأنوار البهية، ص107.







(38). الأنوار البهية، ص179.







(39). عيون أخبار الرضا: ج1، ص18.







(40). منتهى الآمال: ج2، ص523.







(41). منتهى الآمال: ج2، ص591.







(42). منتهى الآمال: ج2، ص649.







(43). منتهى الآمال: ج2، ص695.







(44). منتهى الآمال: ج2، ص405.







(45). عيون أخبار الرضا: ج1، ص15.







(46). عيون أخبار الرضا: ج1، ص15.







(47). عيون أخبار الرضا: ج1، ص15.







(48). منتهى الآمال: ج2، ص404-405.







(49). الفروع من الكافي: ج5، باب شراء الرقيق، الحديث 14، ص212.







(50). شرائع الإسلام: ج2، ص58.







(51). قواعد الأحكام، ص130.







(52). تذكرة الفقهاء: ج2، ص500.







(53). الحدائق الناضرة: ج19، ص417.







(54). مجمع البيان في تفسير القرآن: ج7، ص335-337.







(55). كريمة أهل البيت (عليهم السلام) (فارسي) ص83-86.







(56). الأصول من الكافين ج1، باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام). الحديث 1، ص477.







(57). الأصول من الكافي: ج1، باب مولد أبي الحسن موسى (عليه السلام) الحديث 2، ص477.







(58). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص86.







(59). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): ج1، ص347-372.







(60). رياحين الشريعة: ج5، (فارسي)، ص31.







(61). أعلام النساء المؤمنات، ص576.







(62). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص103.







(63). تذكرة الخواص، ص351.







(64). مستدرك سفينة البحار: ج8، ص261.







(65). وسائل الشيعة: ج15، باب 22، من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 6.







(66). وسائل الشيعة: ج15، باب 22، من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 7.







(67). كمال الدين وتمام النعمة، ص165.







(68). الأصول من الكافي: ج1، باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسى (عليه السلام)، الحديث 3، ص308.







(69). وسائل الشيعة: ج15، باب 27، من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.







(70). وسائل الشيعة: ج15، باب 23 وباب 24 من أبواب أحكام الأولاد.







(71). الفروع من الكافي: ج6، كتاب العقيقة، باب حق الأولاد، الحديث 6، ص48.







(72). بحار الأنوار: ج43، ص10-16 و18 و65.







(73). رياحين الشريعة: ج5، ص35.







(74). أوائل المقالات، ص35، وتلخيص الشافي: ج1، ص183-196، وكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص274 وص286-287.







(75). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص36-42.







(76). الأصول من الكافي: ج1، كتاب الحجة، باب مولد الزهراء فاطمة (عليها السلام)، الحديث 4، ص459.







(77). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص36-42.







(78). مجمع البحرين: ج6، ص152.







(79). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص47-48.







(80). منتهى الآمال: ج2، ص403.







(81). معجم رجال الحديث: ج12، ص235-236.







(82). رياحين الشريعة: ج5، ص35.







(83). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص62-64.







(84). مستدركات علم رجال الحديث: ج8، ص593-594.







(85). كتاب المسلسلات، ص250-251.







(86). كتاب المسلسلات، ص272-273.







(87). أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، ص353.







(88). الرواشح السماوية، الراشحة السابعة والثلاثون، ص157-161.







(89). سورة إبراهيم: 37.







(90). تفسير نور الثقلين: ج2، ص551.







(91). الروضة من الكافي، الحديث 485، ص311-312.







(92). الإرشاد: ج2، ص67.







(93). بحار الأنوار: ج40، ص26.







(94). بحار الأنوار: ج40، ص26.







(95). بحار الأنوار: ج40، ص27.







(96). سورة إبراهيم: 37.







(97). تفسير نور الثقلين: ج2، ص551.







(98). تاريخ قم (فارسي)، ص215، وبحار الأنوار: ج60، ص216-217.







(99). بحار الأنوار: ج60، ص228.







(100). بحار الأنوار: ج102، ص265.







(101). عيون أخبار الرضا: ج2، ص367.







(102). منتهى الآمال: ج2، ص380.







(103). منتهى الآمال: ج2، ص380-381.







(104). معجم رجال الحديث: ج10، ص133.







(105). معجم رجال الحديث: ج13، ص242-252.







(106). بحار الأنوار: ج29، ص183-213.







(107). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص75-81.







(108). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص26-54.







(109). عيون أخبار الرضا: ج1، ص92.







(110). بحار الأنوار: ج48، ص144.







(111). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص457.







(112). عيون أخبار الرضا: ج1، ص91.







(113). الأصول من الكافي: ج1، باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، الحديث 15، ص316-317.







(114). الأصول من الكافي: ج1، باب الإشارة على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، الحديث، 14، ص315.







(115). تاريخ اليعقوبي: ج2، ص415.







(116). جواهر الكلام: ج30، ص92-116.







(117). من لا يحضره الفقيه: ج3، كتاب النكاح، باب الأكفّاء، الحديث 5، ص249.







(118). جواهر الكلام: ج30، ص106-107.







(119). الفروع من الكافي: ج5، كتاب النكاح، باب نوادر، الحديث 54، ص568.







(120). بحار الأنوار: ج43، ص107.







(121). تاريخ الطبري: ج8، ص104-105.







(122). مقاتل الطالبيين، ص408-412.







(123). مقاتل الطالبيين، ص422 وص427.







(124). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج1، ص457.







(125). سر السلسلة العلوية، ص14-15.







(126). تاريخ الطبري: ج8، ص198-200، والكامل في التاريخ: ج6، ص93.







(127). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص74-75.







(128). عيون أخبار الرضا: ج1، ص108-111.







(129). عيون أخبار الرضا: ج1، ص111.







(130). تاريخ قم، ص221، ومنتهى الآمال: ج2، ص280-281.







(131). معجم رجال الحديث: ج15، ص294-295.







(132). معجم رجال الحديث: ج20، ص301-306.







(133). تاريخ الطبري: ج8، ص198-200 والكامل في التاريخ: ج6، ص93.







(134). الطرائف: ج1، ص278.







(135). عيون أخبار الرضا: ج2، ص161.







(136). عيون أخبار الرضا: ج2، ص161.







(137). الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، ص149.







(138). للاستزادة يراجع كتاب الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام).







(139). عيون أخبار الرضا: ج2، ص139.







(140). عيون أخبار الرضا: ج2، ص140.







(141). عيون أخبار الرضا: ج2، ص217.







(142). منتهى الآمال: ج2، ص451.







(143). منتهى الآمال: ج2، ص450.







(144). عيون أخبار الرضا: ج2، ص217-218.







(145). أعلام الورى: ج1، ص100.







(146). ورد في أحوال عبد المطلب (عليه السلام) أنّه أمر بذلك قبل أن يموت فقد ذكروا أنّه لمّا أدركت عبد المطلب الوفاة، بعث إلى أبي طالب وهو في سكرات الموت ومحمد على صدره، فوصّاه برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ورعايته وأن يحفظه بلسانه وماله ويده، وقال له: إنّه والله سيسودكم ويملك أمركم، ثم أخذ عهداً من أبي طالب، وقال: الآن هان عليّ الموت، ثم جعل محمداً (صلّى الله عليه وآله) على صدره وبكى، وأمر بناته بالبكاء عليه ورثائه قبل أن يموت، فجاءت ستّ من بناته وأنشدت كلّ واحدة منهن قصيدة في حقّه، إلى أن توفي، وكان عمره الشريف حينذاك مائة وعشرين سنة. لاحظ منتهى الآمال: ج1، ص110. أقول: والفرق بين الأمرين أوضح من أن يذكر.







(147). منتهى الآمال: ج2، ص451.







(148). الإرشاد: ج2، ص271.







(149). منتهى الآمال: ج2، ص451 و499.







(150). عيون أخبار الرضا: ج2، ص202.







(151). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص493-494.







(152). سيدة عش آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، ص73، والحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، ص428.







(153). سيدة عش آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، ص69.







(154). سيدة عش آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، ص71.







(155). سيدة عش آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، ص69-70.







(156). سيدة عش آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، ص70-71.







(157). رجال النجاشي: ج2، ص66-67.







(158). الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، ص427-428.







(159). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص435.







(160). تاريخ قم، ص213.







(161). الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، ص428.







(162). الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، ص428، وكرمية أهل البيت (عليهم السلام)، ص174-175.







(163). معجم البلدان: ج3، ص201.







(164). الطرائف: ج1، ص278.







(165). تاريخ قم، ص215، وبحار الأنوار: ج60 وص216-217.







(166). تاريخ قم، ص213.







(167). منتهى الآمال: ج2، ص379.







(168). منتهى الآمال: ج2، ص378-379.







(169). تاريخ قم، ص213، وبحار الأنوار: ج48، ص290.







(170). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص38.







(171). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص178-179.







(172). سورة الرعد: 31.







(173). سورة النمل: 40.







(174). المنهج القويم في إثبات الإمامة من الذكر الحكيم، ص193-194.







(175). سورة النمل: 20.







(176). سورة النمل: 21.







(177). سورة الرعد: 31.







(178). سورة النمل: 75.







(179). سورة فاطر: 23.







(180). الأصول من الكافي: ج1، باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم الحديث 7، ص226 والمنهج القويم في إثبات الإمامة من الذكر الحكيم، ص193-194.







(181). تاريخ قم، ص213.







(182). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص105-106.







(183). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص109-110.







(184). الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، ص14.







(185). مجلة الهادي، العدد الثاني من السنة الثانية ذو القعدة، 1392هـ، ص109.







(186). مجلة الهادي، العدد الثاني من السنة الثانية ذو القعدة 1392هـ، ص109.







(187). تاريخ قم، ص214.







(188). منتهى الآمال: ج2، ص379.







(189). منتهى الآمال: ج2، ص371-372.







(190). حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص439.







(191). مجلة الهادي، العدد الثاني من السنة الثانية، ذو القعدة 1392هـ، ص107-108.







(192). تاريخ قم، ص213.







(193). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص181.







(194). مجلة الهادي، العدد الثاني، من السنة الثانية، ذو القعدة، 1392هـ، ص105-106.







(195). سورة النور: 36.







(196). لاحظ - على سبيل المثال - تلخيص الشافي للشيخ الطوسي، والطرائف للسيد ابن طاووس، وكشف المراد للعلامة الحلي.







(197). وسائل الشيعة: ج10، باب4، من أبواب المزار وما يناسبه الحديث 1-7.







(198). وسائل الشيعة: ج 10، باب 2، من أبواب المزار وما يناسبه الحديث 15.







(199). المقنعة، ص485-486.







(200). تهذيب الأحكام: ج6، كتاب المزار، باب 7، في فضل زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) الحديث 7، ص22.







(201). تاريخ قم، ص215، وبحار الأنوار: ج60، ص216-217.







(202). تاريخ قم، ص215، وبحار الأنوار: ج60102، ص267.







(203). عيون أخبار الرضا: ج2، ص267.







(204). بحار الأنوار: ج102، ص266.







(205). رياحين الشريعة: ج5، ص35.







(206). كامل الزيارات، باب 106، فضل زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليهم السلام)، الحديث 2، ص536.







(207). بحار الأنوار، 102، ص265-267.







(208). تاريخ قم، ص215، وبحار الأنوار: ج60، ص216-217.







(209). بحار الأنوار: ج60، ص228.







(210). تاريخ قم، ص215، وبحار الأنوار: ج60، ص216-217.







(211). بحار الأنوار: ج60، ص228.







(212). منتهى الآمال: ج2، ص131.







(213). تفسير نور الثقلين: ج3، ص206-211.







(214). صفات الشيعة، الحديث 5، ص82.







(215). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص43-45 وسيدة عش آل محمد (صلّى الله عليه وآله)، ص37-38.







(216). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص60.







(217). غرر الفرائد (شرح المنظومة)، ص330-333.







(218). مناقب آل أبي طالب: ج1، ص266.







(219). مناقب آل أبي طالب: ج3، ص64.







(220). مناقب آل أبي طالب: ج1، ص341.







(221). مناقب آل أبي طالب: ج2، ص246.







(222). مناقب آل أبي طالب: ج2، ص246.







(223). دار السلام: ج2، ص169-171.







(224). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص216-219.







(225). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص253.







(226). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص273.







(227). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص250.







(228). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص277-278.







(229). كريمة أهل البيت (عليهم السلام)، ص292.







(230). الأزهار الأرجية: ج15، ص254-255.







(231). (واستقرّ بي النوى) كتاب ألفه شاعرنا السيد محمد بن حمود العمدي وذكر فيه أسباب تشيعه وركوبه سفينة النجاة، صدر الكتاب عن مراكز الأبحاث العقائدية في قم، وطبعته الأولى سنة 1420هـ.







(232). للأستاذ معروف عبد المجيد محمد، وهو من مواليد عام 1952 في مدينة القليوبية بمصر، درس الآداب واللغات السامية في جامعة الأزهر في مصر، والنقوش السامية في جامعة روما في إيطاليا، والآثار الكلاسيكية اليونانية والرومانية في جامعتي زيورخ في سويسرا وغوتنغن في ألمانيا. يجيد عدداً من اللغات الحية والقديمة عمل في الترجمة والتدريس الجامعي. اعتنق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) سنة 1984. صدر له: (أنا الحسين بن علي) رواية (معلقة على جدار الأهرام) شعر (أحجار لمن تهفو لها نفسي) شعر (وينصبون عندها سقيفة) شعر (بلون الغار.. بلون الغدير) شعر.







(233). بلون الغار.. بلون الغدير، ص179-183.







(234). للسيد محمد بن حمود بن أحمد العمدي، وهو من مواليد عام 1975 في مدينة ذمار باليمن، اتجه لطلب العلم منذ صغره في مدينتي ذمار وصعدة، اعتنق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) الإمامي الاثني عشري سنة 1413هـ له من الكتب والأبحاث (رحلة عقل) دراسة موضوعية مقارنة لمباني نظرية الإمامة عند الزيدية والإمامية، (الزيدية والإمامية جنباً لجنب) (إلى الله) ديوان شعر (واستقربي النوى).







(235). ديوان (إليّ الله) مخطوط.







(236). دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج3، ص230.







(237). معجم البلدان: ج4، ص541.







(238). بحار الأنوار: ج60، ص217.







(239). منتهى الآمال: ج2، ص273.







(240). رجال الكشي: ج2، ص624.







(241). رجال الكشي: ج2، ص624-625.







(242). رجال الكشي: ج2، ص623-624.







(243). رجال الكشي: ج2، ص794.







(244). رجال الكشي: ج2، ص624.







(245). رجال الكشي: ج2، ص625.







(246). رجال الكشي: ج2، ص857-858.







(247). رجال الكشي: ج2، ص 858.







(248). رجال الكشي: ج2، ص 873.







(249). الخلاصة (رجال العلامة)، ص75.







(250). رجال الكشي: ج2، ص 858.







(251). رجال الكشي: ج؟؟ ص 217.







(252). الخلاصة، ص15.







(253). كمال الدين وتمام النعمة: ج2، ص464 ومنتهى الآمال: ج2، ص685-686.







(254). رجال النجاشي: ج1، ص401.







(255). تاريخ قم، ص95، وبحار الأنوار: ج60، ص213.







(256). تاريخ قم، ص94، وبحار الأنوار: ج60، ص212.







(257). تاريخ قم، ص98، وبحار الأنوار: ج60، ص214.







(258). تاريخ قم، ص97، وبحار الأنوار: ج60، ص214.







(259). تاريخ قم، ص98، وبحار الأنوار: ج60، ص214-215.







(260). بحار الأنوار: ج60، ص215.







(261). تاريخ قم، ص100، وبحار الأنوار: ج60، ص216.







(262). تاريخ قم، ص100، وبحار الأنوار: ج60، ص216.







(263). تاريخ قم، ص99، وبحار الأنوار: ج60، ص217.







(264). تاريخ قم، ص93، وبحار الأنوار: ج60، ص218-219.







(265). بحار الأنوار: ج60، ص228.







(266). بحار الأنوار: ج60، ص228.







(267). عيون أخبار الرضا: ج2، ص260.







(268). مناقب آل أبي طالب: ج4، ص458.







(269). مستدرك سفينة البحار: ج8، ص600.







(270). عيون أخبار الرضا: ج1، ص263-264.







(271). كشف الغمة: ج2، ص261-263.







(272). عيون أخبار الرضا: ج2، ص263-265.







(273). تاريخ قم، ص215-216.







(274). منتهى الآمال: ج2، ص570.







(275). منتهى الآمال: ج2، ص571.







(276). منتهى الآمال: ج2، ص571-572.







(277). تاريخ قم، ص225.







(278). منتهى الآمال: ج2، ص368.







(279). منتهى الآمال: ج2، ص367.







(280). المجدي في أنساب الطالبين ص117.







(281). منتهى الآمال: ج2، ص368.







(282). منتهى الآمال: ج2، ص368.







(283). منتهى الآمال: ج2، ص259.







(284). منتهى الآمال: ج2، ص259.







(285). بحار الأنوار: ج102، ص273.







(286). تاريخ قم، ص205-239، والمجدي في أنساب ا?

/ 1