التوطين
عبد الله العرويالاستشراق
الآن، والآن فقط، يمكن أن نجيب عن السؤال المتعلق بالاستشراق بعد أن أثبتنا أن المحدث هو الذي،عندما يتكلم على تاريخ الإسلام، لا يعني تاريخ المجتمع بما فيه الأمور غير الخاضعة للشريعة، وإنما يعني فقط تاريخ الحفاظ على نص الشريعة. هذا الاختزال هو حدّ موقفالمحدث. فإذا عرفنا الاستشراق بهذا الموقف، نفسه، وقلنا إن المستشرق هو أيضاً يختزل تاريخ المجتمع الإسلامي في تاريخ العقيدة، وجب ضرورةً أن نجري عليه حكم المحدثين علىأنفسهم وغيرهم من مسلمي الدار. أما إذا وسعنا التعريف، وقلنا إن تاريخ الإسلام هو تاريخ المجتمع في أوسع معانيه، وقلنا إن الاستشراق، بالمعنى المعاصر غير التقليدي، يدرسهذا الموضوع الواسع، فيجب الحكم عليه من المنطلق الذي نحكم منه على مشروع ابن خلدون. فالحكم على الاستشراق يختلف باختلاف تعريفنا له. تميز الاستشراق التقليدي (القرنالتاسع عشر) بتحقيق النصوص، وتفوق في عمله هذا على التحقيق القديم وعلى من لا يزال يمارسه بين المحدثين. لكن هذا تفوق نسبي وموقّت، إذ قد يوجد بين القدامى والمحدثين منيكون في المستوى نفسه. والتحقيق على أي حال صناعة تكتسب بالدُربة والمثابرة، ولا يحوم حوله جدال نظري. إذا أخذنا اغناتس غولدزيهر ممثلاً على هذا الاتجاه، أدركنا في الحالأين يكمن الإشكال. لقد أقدم على دراسة، تمحيص، الحديث دون أن يتقيّد بمنهجه، ظناً منه أنه في حلّ منه، وأن طريقته النقدية أشمل وأدق من مسطرة الجرح والتعديل. إلاّ أن هذاالموقف هو بالضبط ما رفضه مبدأ الحديث، أي ما تأسس الحديث كعلم وصناعة بدحضه وتفنيده (نص الإمام مسلم والخطيب البغدادي). إذا كان المحدث الحافظ يرفض رواية المبتدع ويقول:'كما يستوي في الكفر المتأول وغير المتأول، يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول'. (ابن الصلاح ص114)، فكيف يتصور أن يقبل رأي غولدزيهر في سند أو متن أي حديث؟ أثبتنا أنالحفاظ لا يضمون إلى جماعتهم، لا يعتبرون حافظاً مؤتمناً على نص الشرع، إلا من تقيد بالشروط المتفق عليها منذ تأسيس العلم، ومن زاد شرطاً واحداً فلا يقبل منه. ويبعد منالجماعة المعتبرة من يتشدّد ومن يتساهل في تطبيق الشروط، وإذا ما تمسك بموقفه وأراد أن يكون مذهباً لوحده عدّ سفيهاً.
بما أن غولدزيهر لم يفهم منطق الحديث فإنه لمينتبه إلى أنه حوّل مادته إلى مجموعة معلومات تاريخية لا فرق بينها وبين سائر المعلومات. يظن أنه يتكلم على الحديث في حين أنه يتكلم على الآداب. فيحتج بكتاب الأغاني علىكتب السنة (ص57 وما بعدها). إن المستشرق التقليدي، من طراز غولدزيهر، يحشر نفسه ضمن أصحاب التعديل، ويريد أن يفعل اليوم، بوسائله الخاصة وبمنهجه الخاص، ما فعله أصحابالصحاح، كما لو كان يجوز له أن يقوم، هو بعملية إصلاح وتصحيح بتأليف كتب صحاح جديدة.
ما القول الآن في مشروع آخر يهدف إلى دراسة المجتمع 'الإسلامي' بكل تفريعاته _وضعناكلمة إسلامي بين مزدوجتين للتنبيه على أن المعنى أوسع بكثير من الإسلام المحدّد بطرق الحفظ على نص الرسالة؟ والمشروع يتجاوز في منهجه استثمار الشهادات، أي الأسطوغرافياالإسلامية التقليدية، إلى استنطاق الأشياء بتوظيف مختلف العلوم المعاصرة'. هل نسمّي هذا المشروع استشراقياً، لا لسبب إلا لأن غالبية القائمين به أو الداعين إليه منالغربيين، دون الالتفات إلى أنه يتفق في العمق مع المشروع الخلدوني المتولد عن أغراض ومقاصد الفقهاء الأصوليين؟
لا يمكن إذاً تعريف الاستشراق بمنهج واحد. إنه يحتويعلى منهجين متعارضين، تماماً كما هو حال التأليف الإسلامي، وأكبر خطأ نرتكبه، قبل الحكم عليه، هو عدم التمييز بينهما. الأول مبني على شهادة الرجال، فهو قوي وقويم في أيديالمحدثين الحفاظ المسلمين، وهو ضعيف متهافت في أيدي غيرهم بين المسلمين من أدباء ووعّاظ وكتّاب دواوين، وهو متناقض مشوّه في أيدي المستشرقين التقليديين. ظنّ البعض أنهذا المنهج خاص بتمحيص الرواية الشفويّة، أياً كان مصدرها، فيمكن تطبيقه خارج إطاره الأصلي، مثلاً لنقد الأخبار الإفريقية. هذا الاستنتاج سليم في ظاهره فقط، ويقال فيهما قلناه في منهج الإخباريين الأدباء. صحيح أن مسلك المحدثين على مستوى الرواية، لا ينفصل عن مفهوم الحديث بمعناه اللغوي (أي الرواية الشفوية)، وأحاديث الرسول قيدت فيكنانيش منذ عهد الرسالة، لكن هذا لا يعني أن مقصود الرواية الحديثية هو الرواية بذاتها (راجع كلام الخطيب البغدادي ضد طلاب الخبر لمجرد الخبر)، فهي رواية حديث منسوب إلىنبي يخشى الراوي تحوير معنى وتحريف لفظ حديثه. كل ما يمكن أن يقال، والحال هذه، هو أنه إذا وجد في المجتمع الإفريقي جماعة تشبه في هيئتها ودورها جماعة الحفاظ، وكان لهاضابط يضمن استمرارها، فلا بد أن يكون ذلك الضابط شبيهاً بمنهج المحدثين المسلمين. أما تطبيق المنهج على المجتمع الإفريقي بالسحب والتعميم، لأنه مجتمع أمّي كما كانالمجتمع العربي إبّان الرسالة، فإن ذلك يولد معرفة لا تتعدى ما نقرأ في كتب الآداب الإسلامية.
لكل هذه الاعتبارات نحكم على المستشرق، الذي يَروم تجاوز منهج الحديث فيدراسة الحديث، أنه يقول برأيه، ورأيه لا وزن له لدى الحفاظ لأنه بذلك ينفي من الأساس مفهوم الحفظ.
أما المنهج الثاني فإنه مبني على دلائل الأشياء (شهادة الشواهد)، إلاّأنه عكس الأول، لا يستقر على حال بل يتطور باستمرار بحسب تعدّد وتجدّد المسالك المؤدّية إلى استنطاق الأشياء. لا مسوّغ للقول إن أحداً من المؤرخين المسلمين أو منالمستشرقين التقليديين قد أتقنه. فهو من أصله ومبدئه قابل للتعميم داخل وخارج المجتمع الإسلامي، لأنه يرصد الثوابت في المجتمع كمجتمع، أي في المجتمع البشري بدون تخصيص.ولذلك استنبط في آن من أصول الفقه ومن مدارك الحكمة ومن تجارب الأمم. ليس غريباً ولا دخيلاً على التأليف الإسلامي، لكن يجب على من أراد تطبيقه أن يأخذه على حاله الآن، فيشكله المتكامل المتطور، لا على صورته الأولى عندما كان مجرّد تخمين وتطلّع. وفي الوقت نفسه لا يجوز أن يحل محل منهج الحديث لدراسة الحديث لأنه يجعل ضمنياً من الحديثمادّة أدبية.
المصدر: مفهوم التاريخ ج1(الافاظ والمذاهب)