بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
بالإهانة، إهانة لجلستهم التي يجب أن يحترمها الآخرون، حتى وإن كانوا يرتدون بدلات عمل أجنبية. غير انهم ابتلعوا الإهانة، وتابعوا خطوات ملوكي التي جعلتها بدلته الفضفاضة تتجه إلى الجانبين بدلاً من الأمام. تابعوا ملوكي حين وقف تحت النخلة في نهاية لسان الأرض، تابعوه بفضول لم يشعروا به سابقاً وهو يضع علبة الكيكوز المعدنية على الأرض برقة، ثم أخرج من جيب جانبي قدح زجاج وكيس نايلون مليء بمكعبات الثلج، ومن جيب آخر أخرج ثلاثة أكياس من النايلون أيضاً، لم يميزوا محتوياتها في الظلمة الخفيفة، لكنهم ميزوا زجاجة العرق الكاملة التي أخرجها من جيب جانبي آخر. ـ زجاجة كاملة؟.. ـ هذا يعني أن ملوكي قرر قتل أحدهم... أسند حدبته الضائعة وراء قماش البدلة إلى جذع النخلة، يعني أنه أعطاهم ظهره.بدا لهم، خاصة المفوضين الثلاثة، أن ملوكي ملأ الليل بالإهانات الموجهة إليهم. إلا أن قلوبهم التي تلين خلال ما يشربون العرق، تسامحت مع تلك الإهانات، ثم سمت ـ تلك القلوب ـ في تسامحها حين تذكروا أن ملوكي لم يسبق له أن شرب العرق أبداً. دار همس بينهم، همس ظاهره وباطنه استند على حب الخير لملوكي. ـ إذن، هو في ورطة؟ ـ مَنْ؟... ملوكي؟.. إنه قادر على إيقاع نصف قاطني الماجدية في مليون ورطة. ـ أنتركه هكذا؟.. ـ نعم... إذا كان في ورطة فسيأتي إلينا.. لكن علوكي ذو الصوت الجميل، اقترح أن يذهب إليه، أن يعرف أين حشر ملوكي رأسه. غير أن ملوكي زمجر في وجه علوكي حالما جلس إلى جانبه. زمجر وكشر مثل حيوان ضار، فتراجع علوكي إلى مجلسه السابق. قال: ـ كاد ينهشني.. بتلك الزمجرة، وبتلك التكشيرة، حاول ملوكي أن يعبر لعلوكي ذي الصوت الجميل عن حاجته للانفراد بنفسه. حاول أن يفكر وهو وحيد مع نفسه بعيداً عن الآخرين. فشل عن استعادة هدوئه بعد تلك الزمجرة، وشعر أنه بدأ يغضب، وإن غضبه أخذ يتفاقم، وهكذا لجأ إلى قدحه المترع حتى حافته. رفع قدحه من دون ذلك التردد أو الوجل الذي يشعر به مَنْ يشرب أول مرة. رفع قدحه وشربه حتى آخر قطرة، فشبت النار من بلعومه حتى قاع معدته، وابتلع بسرعة نصف كيس اللبلبي وربع كيس اللبن الرائب. ملأت الدموع عينيه، وارتفع ما يشبه جيشاً من النمل المسرع من بطنه إلى رأسه. بدأ اللعاب يتدفق من فمه كنذير للغثيان، غير أنه لم ينشغل بما طرأ على بطنه ورأسه وفمه. أشعل سيجارة توهجت جمرتها في الظلمة تحت النخلة السامقة، وحين أراد أن يريح رأسه على جذعها اضطر أن يزحلق عجيزته قليلاً إلى الأمام ليبعد حدبته عن ذلك الجذع. وبدأ يفكر: لماذا تلك الضربة على رأسي؟.. لماذا ارتعشت حين رأيتها؟... أهي جميلة؟.. هي حورية.. هي آية من آيات الجمال... عند هذا الحد أغمض عينيه وارتبك تفكيره.. حاول أن يعاود التفكير، غير أن جمال ساهرة سد جميع المنافذ أمام فكره. حاول ذلك ثانية لكنه فشل. اعتدل في جلسته وملأ قدحاً آخر، قدحاً مترعاً فيه الكثير من العرق والقليل من الماء والثلج، وكرعه مثلما كرع القدح الأول، فتطايرت شرارات صغيرة من النار مع دموعه، ونفث جسمه أبخرة ساخنة من مساماته. فتح جميع أزرار البدلة الأمامية، وسال عرق غزير من وجهه فمسحه بأردانه. حين هدأت معدته التي أحس بها تغلي مثل قدر على النار، حين أغمض عينيه عن المصابيح المتوهجة في الجانب الآخر من النهر والمتراقصة من دون انسجام، حاول أن يفكر مرة أخرى، لكن الدوائر، الكرات الصغيرة الحمر والزرق والصفر المتحركة تحت جفنيه دونما توقف، جعلته يحس أنه يعوم في دوامات ملونة. ثم اختفى كل شيء.. اختفى جيش النمل واختفت الدوائر الملونة، واختفت أيضاً الأبخرة الساخنة المتدفقة من مسامات جسده، الآن، هو يجلس على وسادة لينة لا على أرض خشنة صلبة، والنهر كف عن جريانه السريع وعاد هادئاً مثلما كان، وتوقفت مصابيح الجانب الآخر من النهر عن رقصها العابث. الآن، صفا فكره الذي عصفت به البلبلة والإرباك قبل قليل، ثم إنه يشعر الآن بقوة كبيرة، قوة لم يعهدها سابقاً، تستقر في جسده المنهك المحطم. حاول وهو يمر بهذا الصفاء النادر لرأسه أن يفكر ولو للمرة الأخيرة، أن يصل إلى حقيقة ماكان سيصل لولا هذا الصفاء الذي لن يحصل عليه بعد هذه الليلة أبداً. وماكان أحد سيصدق ماتوصل إليه لو أنه قصه عليه. لكن ملوكي ـ وهذا من سوء حظه ـ فتح الباب الذي سيطل على تعاسته المزرية طوال السنتين التاليتين. خلال ماكان يكرع الكأس تلو الكأس، كان يفكر بنفس سرعة شربه. حار في البداية أمام خوفه خلال السنوات الأثنتي