بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
إلى نقلهم في حوض سيارة الشرطة على ثلاث دفعات لكي يصدّق أقوالهم، ثارت ثائرة الحكومة التي اشمأزت من وصف قانونها بحبة الفاصولياء... امتقع وجه مدير الشرطة وهو يقرأ نسخة من المحضر، وسيّر كتاباً رسمياً موقعاً بإمضائه يطالب فيه من حاكم التحقيق، ضماناً رسمياً من وهابي على حياة المفوضين الثلاثة. الآن، أصبح الظلام كاملاً حول وهابي، وذلك يعني أن المفوضين الثلاثة شقوا له الطريق الذي أرادوه أن يسلكه، وفي الساعة الواحدة ظهراً أعاده أولئك المفوضون إلى مركز الشرطة والقيود في يديه. رآه الناس في الماجدية زائغ البصر ومكشوف الرأس وهو جالس القرفصاء في الحوض الخلفي المكشوف لسيارة الشرطة. كان المفوضون الثلاثة قد رفضوا توسلاته، وكذلك التماسات أولاده وأبناء أخوته، ورفضوا أيضاً رجاء إمام جامع الماجدية، بعدم وضع القيود في يديه، بعدم نقله في سيارة الشرطة، بل بسيارته الخاصة وسيركب أحد المفوضين معه. قال وليد وابتسامة واسعة في وجهه: ـ لحد الآن لم يغب عن بالنا أنه عمنا، بل هو بمثابة أب لنا، لكن لا تورطونا مع الحكومة ومع قانون الحكومة. تراجع المتوسلون بسرعة أمام الحكومة وقانونها. سارت السيارة ببطء من بيت ملك الصفاطين إلى مركز شرطة الماجدية، تاركة الوقت الكافي لخروج الناس من دكاكينهم لرؤية وهابي المتقرفص في حوضها الخلفي المكشوف... أدار مأمور المركز ظهره لوهابي الذي قاده المفوضون الثلاثة وكلمات الاعتذار تتساقط من أفواههم، إلى غرفة التوقيف التي ما يزال يقبع فيها سائقه ووكيله. سألوه من خلف القضبان إن كان يحتاج لشيء، غير أنه لم يسمعهم بسبب سخطه المتفاقم في كل لحظة والذي أغلق عينيه وسد أذنيه. قال نجرس بعد أن أشعل سيجارة جديدة: ـ حبس الحاكم وهابي لمدة ثلاثة أيام بشرط عدم قبول خروجه بكفالة.. قال ملوكي ورأسه فوق الماء فقط: ـ لماذا رفض الكفالة؟.. ـ لأنه هدد حياة المفوضين. أغطس ملوكي رأسه تحت الماء ثم أخرجه.. قال وهو يقذف الماء من فمه: ـ أعتقد أن أحدهم سيقع قتيلاً، فآل وهابي لا تخيفهم الحكومة. سرى الخوف إلى قلب المندائي، فحاول تغيير الحديث: ـ ألا تخرج من الماء؟.. منذ متى لم تأكل؟... أنا لحد الآن لم أتناول غدائي... اخرج لنأكل سوية. ـ اذهب، سآتي وراءك سريعاً. ارتدى بدلته وحذاءه بعد ذهاب نجرس، بحث عن الزجاجة والقدح في أرجاء الورشة ولم يعثر عليهما، فزمجر: ـ الصّبي النجس... استولى عليهما... بعد الغداء تطوّح ملوكي في شوارع الماجدية حاملاً صداعه إلى كل مكان. لم يجلس في مقهى أو يتوقف في أبواب دكاكين معارفه، فهو يعرف حول ماذا سيدور الحديث، إضافة إلى أنه لم يكن متلهفاً لسماع أكثر مما سمع حتى الآن. وصل إلى نهاية شارع الجامع، إلى حيث ينتهي الشارع المعبد وتبدأ الأرض الخلاء، الأرض السوداء الممتدة حتى شريط البساتين الذي يبدو وكأنه ينتصب على الأفق الشرقي. راقب شريط البساتين المغمور بطبقات من الدخان واحدة فوق الأخرى، وسيطر عليه إحساس بالكآبة لذلك الشفق الهزيل والضوء. ثم مرت من فوقه سحابة طويلة وواسعة وغير متماسكة من أدخنة تنانير الماجدية، وشم رائحة حرق الحطب الجاف المنبعثة من البيوت القريبة. انكفأ إلى الخلف، لكنه لم يسلك الشارع الذي قدم منه، انكفأ إلى الأزقة المتشابكة، الأزقة، التي توّلد انطباعاً غريباً عن هندسة خرجت من عقل مشوش. كان يعرف الأزقة التي تقوده إلى شارع الملعب مختصرة مسافات كبيرة. سلكها لا لأنه لا يملك وقتاً يمكن هدره في سير ملتوٍ بين أزقة تلتوي وتدور هي الأخرى من دون استقامة أو نظام، بل لأنه يريد الوصول ما أمكنه من سرعة حتى يمر، أو يقف على مقربة من بيت ساهرة، فقلبه استيقظ الآن كما لم يستيقظ قلب بشري مثله. استيقظ قالباً كل مشاعره تجاه ما يحيطه من كائنات: بشر وبيوت وشوارع وحيوانات. اكتشف أن خطواته التي كانت قبل دقائق أو لحظات وئيدة وخالية من أي هدف، أصبحت سريعة باتجاه بيت ساهرة. فكر متسائلاً: أهذا ما يسمونه الحب؟... لم يبحث عن الجواب لأنه هو نفسه لم يشأ أن يجد الجواب، لأنه غير قادر على العثور عليه... اخترق سوق الماجدية من الخلف.عبر شارع الملعب وتجاوز النصف الثاني من السوق ليغوص في الأزقة الكائنة خلفه. مر بفتاة متجاوزاً إياها بخطواته السريعة. لكن شرارة كهربائية صعقته وسمرته في مكانه: ـ ملوكي... إلى أين أنت مسرع بهذه الخطوات؟ ووقفت أمامه حاملة رقية كبيرة وضاغطة