نقد
رسالة جامعيّة في مواجهة التشيّع
(2)السيّد سامي البدري (العراق)
سرّ اعتماد الطبري على روايات سيف
لم يكن أمر سيف خافياً على الطبري،وكيف يخفى عليه أمره وشيوخالطبري أنفسهم أعرضوا عنه؟ أمثال: عمر بن شبة،
وعلي بن محمد المدائني، مضافاً إلى إعراض
مُصنّفين آخرين كابن سعد والبلاذري، هذا
مضافاً إلى كلمات الرجاليين القدامى أمثال:
يحيى بن معين (ت 233هـ)، وأبي داود (ت 275هـ)،
والنسائي (ت 303هـ).
إذاً لماذا يُورِد الطبري روايات سيف
ويعتمد عليها؟
والجواب نجده صريحاً من المصنف نفسه،
حيث قال في ذكره حوادث سنة (30هـ): «وفي هذه
السنة ـ أعني سنة (30هـ) ـ كان ما ذكر من أمر أبي
ذر ومعاوية و إشخاص معاوية إيّاه منها
إليها (أي المدينة) اُمور كثيرة كرهت ذكرها،
أمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في
ذلك قصّة كتب بها إليّ السري يذكر: أنّ شعيباً
حدّثه سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعسي، قال:
لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر»[1].
ويقول في حوادث سنة (35هـ): وذكرت
اُموراً كثيرة في سبب مسير المصريين إلى
عثمان ونزولهم ذا خشب، منها ما تقدّم ذكره،
ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة منّي لبشاعته[2]،
ثمّ يذكر رواية سيف في ذلك تفصيلاً.
ويقول في حوادث السنّة نفسها أيضاً: «...
إنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي
سفيان لمّا ولّي، فذكر ـ أي هشام عن أبي مخنف ـ
مكاتبات جرت بينهما، كرهت ذكرها لما فيها
ممّا لا يَحتمل سماعَها العامّة»[3].
الوضع الفكري في عصر الطبري
ومن أجل أن نفهم كلمات الطبري هذه لابدّ لنا أن نشير ولو باختصار إلى طبيعة
الاجواء الفكريّة السائدة في عصره، وقد كانت
أجواء صراع بين خطّين:
الاوّل: يحمل التركة العقائديّة
والحديثيّة المتبنّاة في العهد الاُموي،
والّتي تقوم على أساس الولاء لمعاوية
والبراءة من علي(عليه السلام).
الثاني: يحمل تراثاً عقائديّاً
وحديثيّاً يقوم على أساس الولاء لعلي(عليه
السلام) والبراءة من معاوية، ويضمّ هذا الخطّ
مدرستين أساسيّتين:
الاولى: مدرسة الامام جعفر الصادق(عليه
السلام) وتقوم على أساس الاعتقاد بإثني عشر
وصيّاً عيّنهم اللّه تعالى لحفظ سنة النبي(صلى
الله عليه وآله) في الاُمّة من بعده، أوّلهم
علي(عليه السلام) ثمّ الحسن فالحسين، ثمّ تسعة
من ذريّة الحسين(عليهم السلام)، وأصحاب هذه
المدرسة مضطهدون من قبل السلطة في عصر الطبري.
الثانية: مدرسة معتزلة البغداديّين
التي تقوم على أساس الاعتقاد بأفضليّة علي(عليه
السلام)على أبي بكر وعمر مع صحّة بيعتهما، وهو
القول الذي كان يجهر به المأمون وأغلب خلفاء
بني العباس.
رأي العامّة في بغداد
وقد كانت «العامّة» في بغداد وغيرهامن بلدان الخلافة العباسيّة إلى سنة (323هـ)
تمثّل الخطّ الاوّل في جانب الولاء لمعاوية
ومعارضة الطعن عليه، وقد ظهر ذلك واضحاً في
حوادث سنة (212هـ ). قال نفطويه: بعث المأمون
منادياً فنادى في الناس ببراءة الذمّة ممّن
ترحّم على معاوية أو ذكره بخير... فأنكر النّاس
ذلك واضطربوا ولم ينل مقصوده ففتر إلى وقت[4].
وفي رواية المسعودي: وأمر بلعنه على
المنابر، واُنشئت الكتب إلى الافاق بذلك،
فأعظم النّاس ذلك وأكبروه، واضطربت «العامّة»
منه، فاُشير عليه بترك ذلك[5].
واستمرّت عامّة بغداد تحمل عقيدة
الولاء لمعاوية والغضب على الطاعنين فيه إلى
سنة (323هـ )، كما نفهم ذلك من خبر ابن
الاثير، قال في حوادث سنة (321هـ ): أمر علي بن
بليق في عهد القاهر بلعن معاوية بن أبي سفيان
وابنه يزيد على المنابر ببغداد فاضطربت «العامّة»،
فأراد علي بن بليق أن يقبض على البربهاري رئيس
الحنابلة ـ وكان يثير الفتن هو وأصحابه ـ فعلم
بذلك فهرب[6].
وقال في حوادث سنة (323هـ ): وعظم أمر
الحنابلة وقويت شوكتهم.. فخرج توقيع الراضي
بما يُقرأ في الحنابلة ينكر عليهم فعلهم
ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه: (تارة،
أنـّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة
السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم
الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والاصابع
والرجلين والنعلين المذهّبين، والشعر القطط،
والصعود للسماء، والنزول إلى الدنيا، تبارك
اللّه عمّا يقول الظالمون والجاحدون علّواً
كبيراً، ثمّ طعنكم على خيار الائمّة، ونسبتكم
شيعة آل محمّد(صلى الله عليه وآله) إلى الكفر
والضّلال، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين
بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا
يشهد بها القرآن، و إنكاركم زيارة قبور
الائمّة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع،
وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من
العوام ليس بذي شرف، ولا نسب ولا سبب برسول
اللّه(صلى الله عليه وآله)، وتأمرون بزيارته،
وتدّعون له معجزات الانبياء، وكرامات
الاولياء، فلعن اللّه شيطاناً زيّن لكم هذه
المنكرات، وما أغواه)[7].
رأي العامّة في دمشق
كان ذلك أمر العامّة في بغداد، أمّاأمرهم في غير بغداد فقد كان أشدّ وخاصّة في
دمشق، حيث استمرّ أهلها بالطعن على علي(عليه
السلام) والولاء لمعاوية، كما هو واضح من
كلمات النسائي صاحب السنن، حين سئل عن سبب
تأليفه كتاب «الخصائص» قال: «دخلت دمشق
والمنحرف بها عن علي كثير، وصنّفت كتاب «الخصائص»
رجاء أن يهديهم اللّه».
وأوضح منه سبب شهادته على أيديهم كما
روى ذلك من ترجم له، ذكروا: أنـّه خرج من مصر
في آخر عمره إلى دمشق فسئل بها عن معاوية وما
جاء في فضائله، فقال: ألا يرضى رأساً برأس حتى
يُفضّل؟! فما زالوا يدفعون في حضنيه «وفي
شذرات الذهب: في خصييه» حتّى اُخرج من المسجد
ثمّ حمل إلى الرملة فدفن بها سنة (303هـ)[8].
عقيدة السلف
ويشارك العامّة في معارضة الطعن علىمعاوية أغلب أهل الحديث، ويعرفون من قبل
المتأخرين بـ (السلف) وهم أحمد بن حنبل صاحب «المسند»،
وابن أبي شيبة صاحب «المصنف» والبخاري ومسلم
وغيرهم، الذين رووا فضائل معاوية، واعتذروا
له عن مخالفته عليّاً(عليه السلام) في صفين
وترحّموا عليه، كما رووا فضائل علي(عليه
السلام) وترحّموا عليه، ويسمّى موقف الترحّم
على علي(عليه السلام) ومعاوية والاعتذار
لمعاوية بـ «عقيدة السلف».
التشيّع لعلي(عليه السلام) بدعة عند
السلف
وسمّى السلف موقف التشيع لعلي(عليهالسلام) والبراءة من معاوية بـ «البدعة»،
وقسموها إلى صغرى وكبرى.
وأرادوا بـ «البدعة الصغرى» التشيّع
مع الغلوّ أو التشيّع بلا غلوّ.
قال الذهبي: فالشيعي الغالي في زمان
السلف وعرّفه: هو من تكلّم في عثمان والزبير
وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب عليّاً(رضي
الله عنه) وتعرّض لسبّهم.
والغالي في زماننا وعُرفنا هو الذي
يكفّر هؤلاء السادّة ويتبرّأ من الشيخين
أيضاً، فهذا ضالّ متعثّر.
وأرادوا بـ «البدعة الكبرى» الرفض
الكامل[9]،
أي القول بالوصيّة وعدم تصحيح بيعة أبي بكر
وعمر.
وقال أيضاً: وقد احتوى كتابي هذا على
ذكر الكذّابين الوضّاعين «قاتلهم اللّه»...
ثمّ على الثقات الاثبات الذين فيهم بدعة... ثم
البدعة: كبرى وصغرى.
روى عاصم الاحول عن ابن سيرين قال: لم
يكونوا يسألون عن الاسناد حتّى وقعت الفتنة،
فلمّا وقعت نظروا من كان من «أهل السنّة»
أخذوا حديثه، ومن كان من أهل البدعة تركوا
حديثه[10].
والذي يظهر من كلام ابن سيرين هو أنّ
تسمية «التشيّع» لعلي(عليه السلام) وتخطئة
معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم بـ «البدعة» من
تركة الامويين التي حملتها العامّة وأهل
الحديث، واستمرّت إلى عهد الذهبي وابن حجر،
ومنها إلى اليوم عند البعض.
مدرسة الامام الصادق(عليه السلام)في
عصر الطبري
وفي عصر الطبري كان الموقف واحداًإزاء مدرسة الامام الصادق(عليه السلام)، فقد
كان الائمّة عليهم السلام مضطهدين من السلطة
العباسيّة، أمّا أتباعهم وحملة حديثهم فقد
كانوا مضطهدين مرفوضين من السلطة والعامة
معاً، يشاركهم في ذلك في قليل أو كثير أهل
الحديث والمعتزلة، وكانوا يُسمّون «بالرافضة»
ولا زال بعضهم يصرّ على تسمية شيعة الامام
الصادق(عليه السلام) بذلك إلى اليوم.
عقيدة الطبري في الامامة
قال ياقوت: وكان أبو جعفر (الطبري) يذهبفي الامامة إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي، وما عليه أصحاب الحديث في التفضيل،
وكان يكفّر من خالفه في كلّ مذهب، إذ كانت
أدلّة العقول تدفع ذلك كالقول في القدر، وقول
من كفّر أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)
من الروافض والخوارج، ولا يقبل أخبارهم ولا
شهاداتهم. وذكر ذلك في كتابه «الشهادات» وفي «الرسالة»
وفي أوّل «ذيل المذيّل» وكان لا يورث الكفرة
منهم، وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده
وطرحه، وقد هجر طبرستان لمّا انتشر الرفض
بها، وقد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب حديث
غدير خم وقال: إنّ علي بن أبي طالب كان باليمن
في الوقت الذي كان رسول الله(صلى الله عليه
وآله) بغدير خم، فبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ
بالكلام في فضائل علي بن أبي طالب وذكر طرق
حديث غدير خم[11].
قال الذهبي: جمع الطبري طرق حديث غدير
خم في أربعة أجزاء رأيت شطره فبهرني لسعة
رواياته، وجزمت بوقوع ذلك.
وقال أيضاً: وشُنِّع عليه بيسير
تشيُّع، وما رأينا إلاّ الخير[12].
وقال أبو بكر بن كامل: حضرت أبا جعفر
حين حضرته الوفاة، فسألته أن يجعل كلّ من
عاداه في حلّ، فقال: كلّ من عاداني وتكلّم فيّ
في حلّ إلاّ رجلاً رماني ببدعة[13].
قال ياقوت: ودفن ليلاً خوفاً من
العامّة لانـّهم كانوا يتّهمونه بالتشيّع[14].
تأريخ الطبري
وفي ضوء ما عرفنا من طبيعة الوضعالفكري في عصر الطبري، ومن التهمة التي وجّهت
إليه من «العامّة» يتّضح لنا سرّ «مراعاته
للعامّة» في حوادث الفتنة وحرب الجمل وغيرها،
بإيراده روايات سيف، مع اطّلاعه الكامل على
كلمات أهل الجرح والتعديل فيه، وكثرة
المجهولين في طرق رواياته.
ويبدو أنّ الطبري كان يهدف لكتابه في
التاريخ أن يكون مرآة عاكسة لروايات
الاتجاهين المتصارعين ومدارسهما المختلفة،
بدرجة تسمح بها حالة عصره، ولا يبتعد بها
كثيراً عن عقيدته، فجاء بعدد لا بأس به من
روايات الواقدي في الفتنة في قبال روايات سيف
فيها، كما جاء بعدد وافر من روايات عمر بن شبة
في حرب الجمل، وعدد قليل جدّاً من روايات نصر
بن مزاحم فيها، في قبال روايات سيف في ذلك،
جاء بذلك من أجل أن لا يكون في صف العاذرين
معاوية.
واعتمد كثيراً على روايات أبي مخنف في
حرب صفّين والجمل، ومقتل حجر، وقتل الحسين(عليه
السلام)، إلاّ في قتل علي(عليه السلام) وبيعة
الحسن(عليه السلام)، فإنّه جاء بروايات
الزهري والشعبي وعوانة وغيرهم، لكي لا يحسب
من الشيعة الذين يقولون بالوصيّة للحسن
والحسين بعد علي(عليه السلام) بأمر رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله)، ومراعاة لموقف السلطة
السلبي من الحسنيّين.
والطبري يراعي العباسيين مراعاة
تامّة في ذكره أخبار ولاية العهد للامام
الرضا(عليه السلام)، وسبب وفاته وأنـّه أكل
عنباً فأكثر منه فمات فجأة، في قبال رواية
السم التي كانت معروفة ومتداولة.
وبهذه الرؤية في انتقاء الاخبار تحقق
للطبري في كتابه ما أراد له وخاصّة بعد وفاته،
وصار الكتاب الاوّل من بين كتب التاريخ لا
ينافسه كتاب آخر، وتداوله الحكّام والعامّة
وغيرهم، وحاز الطبري بسببه على لقب «إمام
المؤرّخين».
وثمّة أمر آخر ساعد الطبري كثيراً على
تحقيق هدفه في كتابه، وهو ما أشار إليه في
مقدّمة كتابه قال: فما يكن في كتابي هذا من خبر
ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو
يستشنعه سامعه، من أجل أنـّه لم يعرف له وجهاً
في الصحّة ولا معنىً في الحقيقة، فليعلم
أنـّه لم يؤت في ذلك من قبلنا، و إنّما اُتي
من قبل بعض ناقليه إلينا، و إنّما أدّينا
ذلك على نحو ما اُدّي إلينا[15].
فإنّ هذا الكلام يصلح للردّ على
العامّة لو اعترضوا على إيراده حديث الدّار
والوصيّة لعلي(عليه السلام)[16]،
أو حديث إسلام أبي بكر بعد إسلام خمسين شخصاً[17]. أو حديث أنّ
النبي(صلى الله عليه وآله)بعث عليّاً في صلحه،
وأنّ قريشاً بعثت سهيل بن عمرو في صلحها[18] . أو إيراده
روايات أبي مخنف في قتل الحسين(عليه السلام)،
وهو يصلح أيضاً للردّ على من ينكر عليه إيراده
روايات سيف وعوانة بن الحكم والشعبي وغيرهم
ممن عرف بالوضع لصالح الاُمويين.
ومما لا شكّ فيه أنّ قيمة روايات
الطبري وروايات غيره أيضاً بقيمة طرقها
وأسنادها، وقد التزم الطبري بإيراد أسانيد
أخبار كتابه كاملة، وبهذا يكون قد قدّم خدمة
لعلم التاريخ في عصرنا الراهن يشكر عليها، إذ
لولا ذلك لما أمكننا تقويم مصادر أخباره أو
ترجيح رواية على اُخرى علميّاً.
وخلاصة ردّنا على الدليل الاوّل: هو
أنّ الطبري لم يورد روايات سيف اعتقاداً منه
بوثاقة سيف، بل مراعاة للعامّة التي كانت
تتحسّس جدّاً من الطّعن على معاوية والحكّام
من بني اُميّة، وخوفاً من نقمتها، ومع ذلك لم
يسلم منها حين دفن ليلاً بسببها، وفي ضوئه
يبقى الباحث وجهاً لوجه أمام سيف وأسانيده.
رأي الذهبي في أحاديث سيف
كان الذهبي أوّل قائل في حقّ سيف أنـّه:كان أخباريّاً عارفاً، وجاء من بعده ابن كثير
فرجّح رواية سيف في كيفيّة قتل عثمان الضعيفة
سنداً على رواية خليفة بن خيّاط الصحيحة
سنداً، وجاء من بعده ابن حجر ليقول: كان سيف
ضعيفاً في الحديث، عمدة في التاريخ.
ولم تكن للذهبي ولا ابن كثير ولا ابن
حجر حجّة في قبال كلمات الرجاليينسوى العقيدة المسبقة بالصحابة، والرغبة
الجامحة لرؤية التاريخ وفقالمعتقد.
ولست أدري كيف يتحوّل «متروك الحديث
باتفاق» كما عبّر الذهبي نفسه في كتابه «المغني
في الضعفاء»: «الراوي عن خلق كثير من
المجهولين» كما يقول عنه في «ميزان الاعتدال»:
«راوي الموضوعات عن الاثبات» «المجمع على
كذبه» كما روى ابن حجر في «تهذيب التهذيب»..
أقول: كيف يتحوّل مثل هذا الراوي بعد أربعة
قرون من استقرار كلمات أهل الجرح والتعديل
فيه إلى «أخباري عارف» و«عمدة في التاريخ»؟
وما هو الجديد الّذي جدّ في سيرته ورواياته
وطرقه؟
إنـّه قول بلا دليل في قبال قول
الرجاليين القدامى وفي قبال بحث العلاّمة
العسكري الذي يتناول شيوخ سيف ورواته ليكشف
عن طبيعة المجهولين، الذين عرفت بهم أسانيده
وأنـّهم مما تفرّد به سيف كما تفرّد بعدد من
أسماء الصحابة اعتبرهم العسكري من مختلقاته.
الذهبي من العاذرين معاوية
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنّ رأيالذهبي في سيف كان قول عاذر لمعاوية، جاء
دعماً وسنداً وانتصاراً لراوية العذر
ومختلقه عارياً من الدليل والحجّة.
والذهبي لا يخفي اعتذاره لمعاوية، كما
جاء في ترجمته له قال:
وقتل عمار مع علي وتبيّنَ للناس قول
رسول الله(صلى الله عليه وآله): تقتله الفئة
الباغية[19] ثمّ قال:
وخلْفَ معاوية خلقٌ كثيرٌ يحبّونه، إمّا قد
ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، و إمّا قد
ولدوا في الشام على حبّه وتربّى أولادهم
كذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد
كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل
العراق ونشأوا على النصب، نعوذ باللّه من
الهوى. كما نشأ جيش علي(رضي الله عنه) ورعيّته
ـ إلاّ الخوارج ـ على حبّه، والقيام معه، وبغض
من بغى عليه والتبرّي منهم. وغلا خلق منهم في
التشيع. فباللّه كيف يكون حال من نشأ في إقليم
لا يكاد يشاهد فيه إلاّ غالياً في الحبّ
مفرطاً في البغض؟ ومن أين يقع له الانصاف
والاعتدال؟ فنحمد اللّه على العافية، الذي
أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحقّ واتضح من
الطرفين، وعرفنا مآخذ كلّ واحدة من
الطائفتين، وتبصّرنا فعذرنا واستغفرنا
وأجبنا باقتصاد، وترحّمنا على البغاة بتأويل
سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء اللّه مغفور...
وتبرّأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا
عليّاً وكفّروا الفريقين[20].
العاذرون معاوية من المحدثين
جاءت كلمات المحدثين المنتصرين لسيفبن عمر تكراراً لكلمات الذهبي وابن حجر، ولا
يعنينا من أمرها شيئاً ما دامت كذلك.
ونجد من المفيد أن نقف قليلاً عند كلام
أحمد راتب عرموش الذي استخرج روايات «الفتنة
ووقعة الجمل» لسيف من الطبري والذهبي وابن
عساكر ونشرها في كتاب مستقل. قال في مقدّمته:
إنّ عمله في الكتاب جمع رواية سيف بن عمر عن
مقتل عثمان ووقعة الجمل من كتب التاريخ
المختلفة، وأنـّه بعد مطالعة هذين الموضوعين
في معظم كتب التاريخ القديمة والحديثة تبيّن
له أن تاريخ الطبري هو أوفاها موضوعاً
وأكملها رواية. ثم نقل كلام ابن خلدون عنه
معلّلاً اعتماده الكلّي عليه في حوادث الجمل:
هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر
الطبري، اعتمدناه للوثوق به، ولسلامته من
الاهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من
المؤرّخين.
واستشهد أيضاً بكلام سعيد الافغاني في
كتابه «عائشة والسياسة» حيث يقول في مقدّمة
كتابه: ولا بدّ من الاشارة إلى أنـّي جعلت
أكثر اعتمادي ـ بعد البحث في المصادر
التاريخيّة ـ على الطبري خاصّة، فهو أقرب
المصادر من الواقع، وصاحبه أكثر المؤرّخين
تحرّياً وأمانة، وعليه اعتمد كلّ من أتى من
بعده من الثقات. وليس الكامل لابن الاثير إلاّ
تاريخ الطبري منسّقاً مختصراً منه الاسانيد
واختلاف الروايات[21].
أقول: ويتبيّن لنا من هذا الكلام أن
دليل سليمان حمد العودة في رسالته لردّ
اعتبار روايات سيف لم يكن سوى كلام ابن خلدون
فيه، وقد مرّ الكلام مفصّلاً عنه.
ثمّ استشهد بكلمات الدكتور يوسف العش
لبيان ضرورة تمحيص روايات الفتنة، وما ذكره
أهل الجرح والتعديل في حقّ الواقدي وأنـّه «متروك
الحديث» و«ليس بثقة»، «وأنـّه ممن يضع» وقوله:
إنّ التاريخ يجب أن لا يؤخذ عن كذّاب.
ثم يضيف عرموش قائلاً: ومن يكذب عن
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فمن باب أولى
أن يكذب عن غيره، طالما أنّ عقاب جريمة الكذب
على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) النّار
كما ورد فيه الحديث الشريف: «من كذب عليّ
فليتبوّأ مقعده من النّار».
ثمّ يترجم لسيف بن عمر فلا يذكر عنه
إلاّ قول الذهبي: «وكان أخباريّاً عارفاً»
وقول ابن حجر: «كان ضعيفاً في الحديث، عمدة في
التاريخ» أمّا أقوال أهل الجرح والتعديل فيه
فكأنـّها لم يذكرها الذهبي ولا ابن حجر ولا
غيرهما.
ثمّ يعلّق عرموش بعد ذلك قائلاً: ويبدو
من مراجعة كتب التراجم أنّ سيفاً لم يكن من
رواة الحديث المعتمدين، لكن يجمع واضعوها على
أنـّه عمدة في التاريخ وأنـّه كان أخباريّاً
عارفاً.
لقد أخطأ الاستاذ عرموش بحقّ قرّائه
أكثر من مرّة في ترجمته لسيف بهذه الطريقة
الموهمة.
يقول لقرّائه: إنّ من يكذب على الرسول(صلى
الله عليه وآله) يستسهل الكذب على غيره، ثمّ
يقدّم سيفاً لقرّائه على أنـّه: ضعيف في
الحديث، عمدة في التاريخ. ولا يذكر لهم كلمات
أهل الجرح والتعديل الصريحة في حقّ سيف أنـّه
«كذّاب» «يضع الحديث» «يروي الموضوعات عن
الاثبات» وقد أجمعوا على ردّ روايته في
الحديث بسبب ذلك.
ويقول لقرّائه: إنّ التاريخ لا يؤخذ من
كذّاب ثمّ يقدّم لهم رواية سيف الكذّاب
الوضّاع في تاريخ الفتنة وحرب الجمل بصفتها
الاوثق والاقوى.
ولا نريد أن نسترسل معه في الحساب أكثر
من ذلك.
ويبقى سيف وضّاعاً
ويتبيّن لنا مما مضى أنّ سيفاً باق ـكما ذكر عنه الرجاليّون الاوائل ـ كذّاباً
وضّاعاً يروي عن خلق من المجهولين، وتأتي
دراسة السيد العسكري لاسانيد رواياته
ومتونها منسجمة مع كلمات الاقدمين فيه.
خلاصة وتعقيب
1 ـ إنّ الدليل الاوّل الذي اعتمد عليهكاتب «الرسالة» لاعتبار رواية سيف هو تكرار
لكلام ابن الاثير وابن خلدون، وقد أجاب عنه
الطبري نفسه بأنـّه يورد رواية العاذرين
معاوية للحوادث خشية العامّة.
2 ـ و إنّ العامّة في عصر الطبري
كانت لا تتحمّل الطعن على معاوية وعمرو بن
العاص وغيرهما، وكانت السلطة تخشى غضبها في
ذلك، وفشلت في تعميم لعن معاوية أكثر من مرّة.
3 ـ و إنّ العامّة في عصر الطبري
قتلت النسائي صاحب السنن، لانـّه كتب «خصائص
علي» واستنكر أن يكون لمعاوية فضيلة سوى قول
النبي(صلى الله عليه وآله): «اللّهمّ لا تُشبع
بطنه»[22].
4 ـ إنّ العامّة في عصر الطبري كانت
تسمّي التشيّع لعليّ والبراءة من معاوية بدعة.
5 ـ إنّ الطبري راعى في انتقاء روايات
تاريخه العامّة والسلطة العباسيّة إلى درجة
كبيرة، ولو على حساب الصحابي أبي ذر الغفاري
والامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام).
6 ـ إنّ قيمة روايات الطبري بقيمة
رواتها، وقد ذكرهم بشكل كامل ونبّه إلى إلقاء
التبعة عليهم لمن كان من أهل التحقيق والخبرة.
7 ـ إنّ الدليل الثاني ـ وهو كلام
الذهبي في حق سيف ـ لم يكن أكثر من قول عاذر
لمعاوية جاء دعماً وسنداً وانتصاراً لراوية
العذر ومختلقه.
8 ـ إنّ كلمات المتأخّرين عن الذهبي في
حق سيف كانت تكراراً لكلمات الذهبي، ومن موقع
الاعتقاد بعذر معاوية في حربه عليّاً(عليه
السلام).
9 ـ إنّ سيف بن عمر يبقى كما ذكر عنه أهل
الجرح والتعديل: (كذّاباً) (وضّاعاً) (يروي عن
خلق كثير من المجهولين)، و إنّ بحث العسكري
في روايات سيف وأسانيده فيها يصدّق مقولة
الرجاليّين فيه. ولا يفوتنا أن نذكر هنا
مشاركة بعض الباحثين المحدثين النتيجة نفسها
في حق سيف وردّ رواياته التي ينفرد بها، منهم
الدكتور عبدالعزيز الهلالي الاستاذ في جامعة
الملك عبدالعزيز، الذي نشر بحثه عن عبدالله
بن سبأ في حوليّات كلّية الاداب الكويتيّة
السنة الثامنة، ومنه الاستاذ محمد حسن شراب
في رسالة الماجستير (المدينة في العهد الاموي)،
على الرغم من أنّ هذا الاخير من العاذرين
معاوية وابنه يزيد، كما هو واضح في رسالته
الانفة الذكر.
([1])
تاريخ الطبري 4 : 283.
([2])
تاريخ الطبري4 : 356 .
([3])
المصدر: 557 .
([4])
سير أعلام النبلاء، 10 : 281، ترجمة المأمون
وفوات الوفيات 2 : 238. وتاريخ الطبري حوادث سنة
211 هـ .
([5])
مروج الذهب 3 : 455 ـ 456 .
([6])
الكامل في التاريخ 8 : 307 . وعاش البربهاري
سبعاً وسبعين سنة وتوفي سنة 328هـ ، وكان
معاصراً للطبري.
([7])
الكامل في التاريخ 8 : 307 .
([8])
سير أعلام النبلاء. وتهذيب التهذيب.
([9])
ميزان الاعتدال.
([10])
ميزان الاعتدال: المقدمة. ولسان الميزان:
المقدّمة.
([11])
معجم الادباء 18 : 83 ـ 85 .
([12])
سير أعلام النبلاء 14 : 277 .
([13])
معجم الادباء 18 : 84 .
([14])
المصدر: 40 .
([15])
تاريخ الطبري 1 : 8 .
([16])
المصدر نفسه 2 : 321 .
([17])
المصدر: 316 .
([18])
المصدر: 630 .
([19])
قال شعيب الارنووط مخرج أحاديث سير أعلام
النبلاء: وهو حديث صحيح مشهور بل متواتر،
ولمّا لم يقدر معاوية على إنكاره قال: إنّما
قتله الذين جاءوا به كما في (المسند: 161) بسند
صحيح، فأجابه علي رضي اللّه عنه بأنّ رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) إذاً قتل حمزة حين
أخرجه.... وهذا منه رضي اللّه عنه إلزام مفحم
لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها، وما ذهب
إليه المؤلّف من كون طائفة معاوية هي
الباغية هو مذهب فقهاء الحجاز والعراق من
فريقي الحديث والرأي، منهم مالك والشافعي
وأبو حنيفة والاوزاعي وغيرهم، كما قال
الامام عبدالقاهر الجرجاني في كتاب
الامامة، نقله عنه المناوي في فيض القدير 6 ـ
663 .
([20])
سير اعلام النبلاء 3 : 128 ـ 142.
([21])
كان عمل ابن الاثير مع تاريخ الطبري كعمل ابن
هشام مع سيرة ابن اسحاق، وقد حذف كلّ منهما
أخباراً مهمّة مع تجريد الكتابين من أسانيد
الروايات. وقد ذكرنا نموذجين من الاخبار
التي حذفها ابن الاثير في ما مرّ.
([22])
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 14 ص 130
معقباً على الحديث: قلت: لعلّ أن يقال هذه
منقبة لمعاوية لقوله: «اللهمّ من لعنته أو
سببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة».