كلمة التحرير
نحو معرفة واقعية لاهل البيت عليهم
السلام
إنّ حركة التاريخ الاسلامي وعملية
التغيير المتواصلة فيها جانبان جوهريان:
الجانب الاول: هو محتوى الرسالة
الاسلامية ومضمون اُطروحة التغيير الالهية
المتمثّل بالتنزيل الحكيم والقرآن الكريم
والسنّة الشريفة. وهذا الجانب إلهي تكفّله
اللّه سبحانه وأنزله على نبيّه محمد صلّى
اللّه عليه وآلهكاملاً لا نقص فيه: (اليَوْمَ
أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم وَأتْمَمْتُ
عَلَيْكُم نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُم
الاسْلامَ دِيناً)([1])
وسدّده بالوحي: (وَما يَنْطِقُ عَن الهَوى *
إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى)([2])
وصانه بالطهارة والعصمة.
والجانب الثاني في عملية التغيير هذه
جانب اجتماعي حركي بما هو متجسّد في الرسول
وأهل بيته والصفوة من أتباعهم بكلّ ما في هذا
الجانب من صراع وكفاح بين تلك العصبة الالهية
وبين التيّارات الاجتماعية المختلفة الرابضة
حولها، والمشتبكة معها في أشكال الصراع
العقائدي والاجتماعي والسياسي والقتال
العسكري.
فهي هنا عملية تغييرية ببعدها البشري
المتجسّد واقعاً حيّاً على ساحة التاريخ
وحركته الميدانية، وهي بهذا مرتبطة ارتباطاً
فعلياً مع الوجودات والتيّارات البشرية
الاخرى التي تعيش هذا التجسيد وتقف منه مؤيدة
أو رافضة مقاومة. فهي إذن وبهذا اللحاظ عملية
بشرية يتحكّم في أفرادها وتجمّعاتها ما
يتحكّم في سائر الناس أفراداً وجماعات من سنن
وقوانين اجتماعية على مرّ الزمن ومختلف
الاعصار والامصار: (وَتِلْكَ الايّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النّاس ِ)([3]).
وكون هذا الجانب في حركة الرسول صلّى
اللّه عليه وآلهوأهل بيته الطاهرين عليهم
السلام والصفوة الصالحة من أصحابهم عملية
بشرية محكومة للسنن والقوانين الاجتماعية لا
يخرجها عن أصولها الالهية المتضمّنة في محتوى
الرسالة الاسلامية، بل هي وجه كاشف وسيرة
حاكية عن تلك الاصول، إلاّ أنها في تفريعاتها
تفترق عنها في المصاديق الجزئية والموضوعات
الخارجية. وهي بهذا تعتبر متحرّكة متغيّرة
بلحاظ الزمان والمكان، وتُرى وكأنـّها منطقة
فراغ في الرسالة تفتقر إلى تشخيص مواطن
المصلحة ومواطن المفسدة في مفرداتها، فتكون
حركة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وآله
وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ومواقفهم
فيها كاشفة عن تلك المصالح والمفاسد ومشخّصة
للموقف الاسلامي منها.
ومن خلال هذه النظرة المركّبة يمكننا
اكتشاف وتحديد معالم المنهج المتكامل في
معرفة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وآله
وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، والتعرّف
على دعوتهم التبليغية في الناس و إعدادهم
للصفوة الرائدة وبنائهم للامة الراشدة،
والذي يجب أن يُلحظ جانبان متعانقان في تقويم
المفردات الموضوعية لسيرتهم عليهم السلام
واستخلاص الحقائق والرؤى منها.
فمن حيث انتسابهم للاسلام كمبلّغين
هادفين هم ربّانيون مهيمنون على الواقع
الانساني وحاكمون مستوعبون لحركة التاريخ
بما اختصّهم اللّه به من رسالة الوحي وشرعة
التنزيل، ومن حيث كونهم دعاةً مغيّرين
متقوّمين بواقع الانسان وجهده الخاص في
حركتهم الميدانية على ساحة التاريخ، بما فيها
من قوى بشرية اُخرى تنسجم معها أو تقاومهم
وتصارعهم في حركتهم تلك، هم بشر تحكمهم سنن
وقوانين اجتماعية وتتحكّم فيهم ضوابط وشروط
وضعها اللّه سبحانه وتعالى لتنظيم حركة
الانسان والمجتمع ورسم مساره في الحياة، سواء
اختار مسار الانحطاط والشقاء أو مسار الكمال
والسعادة: (سُنّة اللّهِ الّتي خَلَتْ مِنْ
قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّة اللّه
تَبْديلاً)([4]).
ففي معركة بدر الكبرى، مثلاً، عندما
التقى الجمعان المسلمون بقيادة الرسول
الامين صلّى اللّه عليه وآله والمشركون
بقيادة أبي جهل وطغاة قريش تحقّق النصر
الاكبر والفرقان الاعظم للحق على الباطل
عندما توفّرت الشروط الموضوعية لهذا النصر
بحسب السنن والقوانين الكونيّة لحركة
الانسان الاجتماعية، وكان أساس شروط النصر
هذه وأهمّها التقوى، وصبر المسلمين في اللّه
وفي طاعة رسوله الذي استحق رفد يد الغيب وفيض
المدد الالهي ونفوذ سنّة النصر للمسلمين في
تلك المعركة الفاصلة: (وَلَقَدْ نَصَرَكُم
اللّهُ بِبَدْر وأنْتُم أذِلَّةٌ فاتَّقوا
اللّه لَعَلَّكُم تَشْكُرون* إذْ تَقُولُ
للمُؤمِنين ألَنْ يَكْفِيَكُم أنْ
يُمِدَّكُم رَبُّكُم بِثَلاثةِ آلاف مِن
الَملائِكَةِ مُنْزَلين* بَلى إنْ تَصْبِروا
وَتَتَّقوا وَيَأتوكُمْ مِنْ فَوْرِهِم هذا
يُمْدِدْكُم رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاف مِن
المَلائِكَةِ مُسَوِّمينَ* وَما جَعَلَهُ
اللّهُ إلاّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئنَّ
قُلوبُكُم بِهِ وَما النَّصْرُ إلاّ مِنْ
عِنْدِ اللّه العَزِيز الحَكيم)([5]).
وبنفس الرؤية وزاوية اللحاظ خسر المسلمون
معركة اُحد مع المشركين لانـّهم فقدوا في
اللحظات الحاسمة من المعركة الشروط الاساسية
للنصر، فهم بعد أن خالف أكثرهم رأي رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله في التحصّن في المدينة
المنورة وتشتيت المشركين وسحقهم في طرقها
وأزقتها، أصرّوا على الخروج الى المشركين
خارج المدينة وقتالهم بعيداً عن مدينتهم، ثم
جاء منعطف الوهن الثاني من خلال المنافقين
المندسّين في صفوف المسلمين بقيادة عبدالله
بن اُبي بن سلول الذي استطاع أن يثني أكثر من
ربع الجيش عن المعركة لينسحب بهم بعيداً
عنها، وفي أوج النصر الاولي للمسلمين في
المعركة حدثت الثلمة الثالثة التي أجهزت على
ذلك النصر وتلك الغلبة عندما عصى الرماة
الذين أمرهم رسول الله صلى اللّه عليه وآله
بحماية ثغور المسلمين الخلفية وتركوا
مواقعهم واندفعوا نحو الغنائم، فانكشف ظهر
الجيش الاسلامي، فكانت فرصة المشركين لضرب
المسلمين من الخلف وبعثرتهم وكسر شوكتهم،
ونزل في ذلك الوحي على رسوله الكريم بقرآن
مبين: (وَلَقَدْ صَدَقَكُم اللّهُ وَعْدَهُ
إذْ تَحُسُّونَهُم بإذْنِهِ حَتّى إذا
فَشِلْتُم وَتَنازَعْتُم في الامْر
وَعَصَيْتُم مِنْ بَعْدِ ما أراكُم ما
تُحِبُّونَ مِنْكُم مَنْ يُريدُ الدُّنيا
وَمِنْكُم مَنْ يُريدُ الاخرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُم عَنْهُم لِيَبْتَلِيَكُم
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُم واللّهُ ذو فَضْل على
المُؤمِنين* إذْ تُصْعِدونَ وَلا تَلْوونَ
على أحَد وَالرَّسولُ يَدْعُوكُم في
اُخراكُمْ فَأثابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ
لِكَيْلا تَحْزَنوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما
أصابَكُمْ واللّهُ خَبيرٌ بِما تَعمَلون)([6]).
وفي مسألة المرجعيّة بعد رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآلهلم يكن جزافاً تأكيده
على تحديد هويّة أهل البيت عليهم السلام
ومقامهم في كل مناسبة مواتية وفرصة سانحة
لتثبيت الوحي والامر الالهي بخلافتهم و إمامتهم
من بعده، فهو يعلم كل العلم أن الامّة ستعيش
من بعده مشكلة القيادة لمسيرة الاسلام
وحاكميّته على الارض، تلك المسيرة التي عمل
وتحمّل ما تحمّل من أجل حفظها وحمايتها من
الانتكاس والانكفاء عن أهدافها التي رسمها
القرآن الكريم.
إنّ هذه النظرية في تناول تلك السيرة
المباركة تنسجم انسجاماً تامّاً مع المنهج
الشمولي والنظرة المترابطة لها والتي ألمحنا
اليها في كلمتنا السابقة([7])،
فمن يتناول وفق هذه النظرية سيرة الرسول صلّى
اللّه عليه وآله وعناياته الخاصة باُمّهات
المسائل العقائدية والسياسية الكبرى في
الاسلام وحركته الميدانيّة ويربط ذلك بسير
القيادة الاسلامية عبر العصور التالية يعي
بوضوح وعمق حقيقة ومرامي مواقف أمير المؤمنين
عليه السلام والقائل عنها: «فأمسكت يدي حتى
رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون
إلى محق دين محمد صلّى اللّه عليه وآله، فخشيت
إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو
هدماً فتكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت
ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول
منها ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع
السحاب، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل
وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه»([8])،
كما ويدرك حكمة صلح الامام الحسن عليه السلام
وعظمة الهدف في نهضة الامام الحسين عليه
السلام والطريقة المأساوية في تفاصيل وقائع
الثورة الدامية التي كانت أحد عوامل خلودها
وتعاظم أثرها في المسلمين بل وفي غيرهم عبر
التاريخ الاسلامي والانساني المديد. ويسبر
أغوار النهج التربوي الذي سلكه الامام السجاد
عليه السلامليكشف أسراره وآثاره البليغة في
إيجاد الارضية الخصبة لمدرسة التجديد
والاحياء لدين محمد صلّى اللّه عليه وآله على
يد الصادقين عليهما السلام ليتّصل كلّ ذلك
بأدوار الائمّة من بعدهم التي رافقتها
ولازمتها شتّى أنواع الارهاب والبطش والسجن
والتشريد والاغراء والاغواء حتى الشهادة دون
أهدافهم الالهية التي جاهدوا من أجلها.
إنّ انتهاج هذا السبيل التكاملي
والطريقة الشمولية في دراسة تاريخ وسيرة أهل
البيت عليهم السلام سوف يحقق لنا رؤية
إسلامية واقعية تجمع بين المبادئ والمثل
الاسلاميّة العليا التي تمثّلها الرسول صلّى
اللّه عليه وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم
السلام والسنن والقوانين الاجتماعية التي
حكمت مسيرتهم التغييرية في الواقع الانساني.
وبذلك نحصل على المعرفة الصادقة لهم، وتتكامل
لدينا نظرية التأسّي والاقتداء بهم عليهم
السلام سواء في سلوكهم الفردي أو في حركتهم
الاجتماعية التي بها سنعالج أهمّ مشكلة يعاني
منها المسلمون اليوم في صراعهم الحضاري مع
قوى الكفر والاستكبار وتحقق شروط بناء كيانهم
الاجتماعي والسياسي في خضمّ هذه المواجهة
الدامية، فوفق هذا المنهج يمكننا اكتشاف
القوانين والاساليب والشروط التي أودعها
اللّه تعالى الواقع الاجتماعي والمتحكّمة في
مسيرة العمل التغييري التي باستهدائها في
الكفاح والجهاد الذي يخوضه المسلمون اليوم
تتحقق الاهداف الالهية التي يرمون إليها،
ويكون النصر حليفهم في كل بقاع الارض ويحقّ
القول الالهي الكريم فيهم: (وَالّذينَ
جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِينَّهُم سُبُلَنا
وَإنَّ اللّه لَمَعَ المُحْسنِين)([9]).
صدق اللّه العليّ العظيم والحمد للّه
رب العالمين.
([1])
المائدة: 3.
([2])
النجم: 3 و4.
([3])
آل عمران: 140.
([4])
الفتح: 23.
([5])
آل عمران: 123 ـ 126.
([6])
آل عمران: 152 ـ 153.
([7])في
العدد الخامس من المجلة.
([8])
نهج البلاغة: كتاب 62 صفحة 451.
([9])
العنكبوت: 69.