كلمة التحرير
إن أكثر الحق فيما تُنكرون
لم يتوان دهاقنة الاستكبار عن التصعيد
المستمر للهجوم الحاقدوالصخب المتعصّب على
الاسلام ودعوته الصادقة ودعاته الاُمناء منذ
أن علا له في الافاق صوت، واستطالت له في بعض
الحواضر شوكة، وامتدت بقوة الحق وعلوه إلى
حواضر اُخرى. فبعد أن قطعت يد ظلمهم الطولى في
إيران الاسلام انفلتت أزمّة الاُمور من
أيديهم في فلسطين ولبنان والجزائر، ولم
تنفعهم عمليات الترقيع في مصر، ومسرحية
الارادة الدولية في العراق، وجرّت جيوشهم
أذيال الخيبة في الصومال، وتشرذموا بين كرّ
وفرّ في بلدان الخليج العربية وشبه القارة
الهندية، وأعيتهم المماطلة واستنفدوا ما في
جعبتهم من خداع وتضليل في البوسنة والهرسك،
وانكشفت ازدواجيّتهم الرخيصة في أفغانستان
وطاجيكستان والشيشان، وهكذا في كل مكان خفقت
للاسلام فيه راية، وانبلج به صبح صادق.
بل وفي تصعيد آخر جنّ جنون أقزام
الاستكبار وراحوا يتخبّطون في تصريحات منكرة
ومواقف متشنّجة عندما وجدوا أن من كانوا
يأملون انصهارهم في بوتقة ماديتهم المقيتة
وحضارتهم الزائفة من المسلمين المهاجرين إلى
ديارهم قد تحولوا إلى دعاة إنقاذ لابناء
أوربا من الموت في ماديتها التي لا ترحم،
والضياع في ظلماتها التي لا تنتهي، حتى وصل
بهم الامر إلى تشريع قوانين صارمة واتخاذ
إجراءات من شأنها سلب الحريات وقمع الاراء.
ومن موقع الزعامة الاستكبارية كانت
أميركا أول من بادر لذلك، فقد عزمت حكومتها
على المصادقة على قوانين جديدة تهدف إلى
تقييد حركة المجموعات والشخصيات الاسلامية
المقيمة في أميركا وتقليص نشاطاتها. ولم
يُخفِ ساستها انفعالاتهم فراحوا يصرّحون
بنواياهم ويكشفون عن البعد الستراتيجي
لاجراءاتهم تلك، ومنهم وزير الخارجية
الاميركية الاسبق هنري كيسنجر الذي أبدى
مخاوفه ـ في كلمة له بلجنة الدفاع التابعة
لمجلس الشيوخ الاميركي ـ من أن تنامي
الاُصولية الاسلامية خلال السنوات المقبلة
سيشكل أكبر خطر على الامن القومي الاميركي،
وسيؤدي إلى ايجاد تحوّل خطير في الشرق الاوسط.
كما أن الاُصولية التي انتفضت بوجه
الانظمة العلمانية وشبه العلمانية في الشرق
الاوسط، يمكنها أن توجه ضربة لمسار السلام في
المنطقة.
وتناغمت روسيا مع أميركا بعد أن
أصابها الهلع من تنامي الوعي الاسلامي وتصاعد
نزعة الاستقلال لدى شعوب القوقاز وصدعها
بهويتها الاسلامية الاصيلة، وانكشف لها واقع
يخالف تماماً ما نشرته وكالة أنباء «نوفوستي»
في الستينات من أخبار تضمنت صورة لاخر متدين
في آسيا الوسطى ـ حسب زعمها ـ مدعية أن
مهام الدين قد انتهت في تلك المنطقة، في حين
ان نشاطات الجماعات الاسلامية التي تشكّلت في
حينه كانت من السرّية بحيث لم يستطع جهاز
التجسس السوفيتي كشف أمرها.
وتبعتهم الدول الغربية التي عقدت
اجتماعاً موسّعاً لخبرائها لتدارس طرق
واساليب مواجهة تنامي الاُصولية الاسلامية
في اوربا!! وذلك بناءً على اقتراح تقدمت به
الحكومة الفرنسية المعروفة تأريخياً بعدائها
الايديولوجي للاسلام والمسلمين. هذه الدولة
التي تدعي أنها مهد الديمقراطية ومنتجع
الحرية، والمنظّرة الاولى للائحة حقوق
الانسان، يختنق وزير تربيتها الوطنية «فرانسوا
بايرو» عندما يكتشف أن ثمة (15) ألف طالبة مسلمة
في الثانويات الفرنسية قد ارتدين الحجاب مع
بداية عام 1994م. ويندفع مستشار وزير داخليتها
فيقول: «نحن لن نسمح بانشاء أرخبيل اُصولي في
فرنسا».
وتزداد هذه الدولة «ديمقراطية»
وحرصاً على حقوق الانسان المزعومة، فتنشر
إحدى كبريات صحفها المعروفة «أكسبريس»
حواراً بين أحد فلاسفتها الماديين «اندريه
غلوكسمان» والباحث السياسي «جان كلود
كازانوفا» حول مسألة الحجاب وأبعادها
السياسية والاجتماعية، بعد أن أثارت في
المقدمة التساؤل بأنه: هل يمكن اعتبار الحجاب
كمظهر ديني بسيط أو كعامل تحريض سياسي؟ فيجيب
مدعي الفلسفة «اندريه غلوكسمان»: أن الحجاب
لا يعتبر رمزاً للايمان! إنه رمز اُصولي وليس
إسلامياً! ولا يعرفه التراث الديني في شمال
افريقيا وفي شكله القسري الحالي، فهو مستورد
من إيران! والاسلام: رجمٌ في إيران، قتل
واغتيالات في الجزائر. ان الحجاب إجراء وعمل
إرهابي! وفي فرنسا فإن طالبات الثانويات
والمتحمسات يعلمن بأن حجابهن ملطخ بالدم!
ويجب على الفتيات اللواتي يرتدين الحجاب
تأييد «تسليمه نسرين» وأن يصرخن بأن من حق «رشدي»
أن يعيش، عند ذاك لا يشكل الحجاب خطراً. انّ
الاصولية الاسلامية تساهم بموجة ثالثة من
التطرّف بعد النازية والشيوعية، ويشكّل
الحجاب جداراً ثالثاً بعد جدار الاطلنطي
وجدار برلين، حائطاً نفسياً، رمزاً
للعدوانية!!
وبهذه اللغة المليئة بالحقد والتعصّب
والعدوان يصورون الاسلام والمسلمين وبنفس
اللسان وبدون حرج أخلاقي يتكلمون عن حقوق
الانسان وحريته وديمقراطية النظام والحكم،
وهم ابعد ما يكونون عنها في ديارهم. فمن يصدّق
دعوتهم هذه في باقي بقاع العالم؟
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل تمادوا في
هوسهم الحاقد، فأظهر رئيس أركان قوات حلف
شمال الاطلسي البعد الاعمق لنوايا الغرب في
قوله: «لقد كسبنا الحرب الباردة بعد (70) عاماً
ونعود مرة اُخرى إلى الصراع الرئيسي منذ 1300
عام، إنها المواجهة مع الاسلام. إن الجيش الذي
أمكن أن يعيش (1300) عام وليس (70) عاماً لابد أن
يكون خطيراً».
وجسدت أميركا هذه النوايا بحركتها
المحمومة التي استطاعت من خلالها أن تقنع
فرنسا وإيطاليا وألمانيا بأن يساهموا في
خطتها الجديدة بالتدخل المباشر وأداء دور
أمني وعسكري مرسوم في شمال افريقيا لمواجهة
ما يسمونه بالاُصولية الاسلامية التي أخذت
تهدد المصالح الستراتيجية للغرب في تلك
المنطقة.
وصبّت في نفس الهدف الاجراءات التي
أقدمت عليها السلطات الفرنسية بتعطيل جميع
الاصدارات الصحفية والثقافية التي يقوم بها
الاسلاميون الجزائريون، وحرمتهم حتى من
التعبير عن آرائهم ونشر ظلامتهم! ناهيك عن
الاعتقالات التعسفية، والابعادات الجماعية.
فالهوية والانتماء الاسلامي جرم كاف لحرمان
الانسان من أبسط حقوقه في بلاد وضعت ما يسمى
بـ «ميثاق حقوق الانسان» ودعك عن تصريحاتهم
المعلنة بأنهم لن يسمحوا بسقوط النظام
الجزائري بأيدي الاسلاميين ولو جاء ذلك من
خلال الديمقراطية وانتخاب الشعب.
إن هذا التنكّر الفاضح لحقوق
المسلمين، والكيد المتعصّب للاسلام الاصيل
وحركته النبيلة لو كان مقتصراً على قوى
الاستكبار ودوائره لهان الامر، إذ إن الاصل
في الكفر هو العداء للاسلام وأتباعه، أما أن
تظهر أصوات نكرة ودعوات ضالة تنمو فيها
تجمعات طفيلية لا همّ لها إلاّ إثارة النعرات
وتغذية البدع ودفع الغوغاء بعصبيات تراق فيها
الدماء البريئة للمسلمين، وتهتك حرماتهم
ومقدساتهم باسم الدين، لتكمل شوط الاستكبار
في التآمر على أصالة الاسلام العظيم ووحدة
اُمته المجاهدة، فذلك غاية النفاق والنكوص عن
الحق ورسالته.
ففي الوقت الذي تعيش الامة الاسلامية
صحوتها الكبرى وحركتها الشاملة من أجل إبراز
هويتها الذاتية وبيان اطروحتها الرسالية
للعالم، والتي اضطرها الاستكبار والصهيونية
وأذنابهما إلى خوض جهاد ضار من أجل تحقيق ذلك
الهدف المقدس في أغلب أنحاء البلاد
الاسلامية، وعلى مختلف الاصعدة والاساليب في
هذا الوقت الحساس والخطير تظهر جماعات متطرفة
ومندفعة بهوس تلك العصبيات الجاهلية
والدعوات الضالة لتساهم في مواجهة يقظة الامة
الاسلامية ونهضتها الوحدوية، مستهدفة تكريس
الفرقة وإحباط كل محاولات رتق الفتوق وتوحيد
أوصال هذه الامة التي عانت الكثير من ذلك في
عهود الاستعمار المظلمة. ففي بلد واحد
كالباكستان ـ مثلاً ـ الذي طالما عانى من كيد
الاستعمار الانجليزي في تمزيق أوصاله إلى
كيانات متعددة، تكفّر تلك الجماعات عقائد أهل
البيت(عليهم السلام)وتبيح سفك دماء أتباعهم
لا لذنب إلاّ أنهم آمنوا بأهل البيت(عليهم
السلام) واتبعوهم تمسكا منهم بوصية رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) التي قال فيها: «إني
تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل
بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي»،
فتهاجم جماهير الموالين لاهل البيت وهم يحيون
شعائر ذكرى شهادة أبي عبداللّه الحسين(عليه
السلام) وأصحابه البررة في يوم عاشوراء
الخالد، وتفجّر مساجدهم وتهدم دورهم وتحرق
محلاّتهم ويُقتل ويُجرح من خلال ذلك علماؤهم
وآلاف من رجالهم ونسائهم واطفالهم. ومما يثير
الدهشة والحيرة ويسعر في النفس كوامن الغضب
الاسلامي أن تصدر من ادعياء العلم فتاوى تدعم
هذه الممارسات وتزوّر معالم الشريعة
الاسلامية السمحاء، وتحدث فيها البدع
والضلالات، وتصدر على اساسها فتاوى التكفير
وإباحة دماء المسلمين من أتباع أهل البيت(عليهم
السلام) وغيرهم من أتباع الفرق الاسلامية
الاخرى، بدلاً من السعي للتقريب والتوحيد
والتأليف بين المسلمين، وبدلاً من إصدار
فتاوى الجهاد ضد الكفار وهم يحتلّون أرض
المقدسات في فلسطين ويسفكون دماء المسلمين
فيها ويهتكون أعراضهم ومقدساتهم، وبدلاً من
دعم الحركات الاسلامية التي تخوض جهاداً
مريراً ضد المستكبرين في الكثير من بلدان
العالم الاسلامي كالجزائر ومصر وغيرهما.
وتزداد الدهشة والحيرة ويتفجّر الغضب
الاسلامي عندما يذهب هؤلاء في ضلالاتهم حدّاً
لا يطاق، فيتوج كبيرهم فتاواه السلطانية
بفتوى جواز الصلح مع اسرائيل، هذه الفتوى
الفاضحة في خروجها عن اُصول الاسلام ومبادئه
العليا في ردع الظلم وإقامة العدل واعلاء
كلمة اللّه والاسلام، لم نجد لها سابقة في
تاريخ الاسلام بل حتى في تاريخ الانسانية،
فلم يحدث في التاريخ أن تنازل أحد عن حقه
لمغتصبه عن إرادة واختيار، ولم تسمع البشرية
بمن سلّم لقاتله ومدّ له يد الصلح والامان،
ولم تأت الاديان ـ كل الاديان ـ على امتداد
البشرية بالدعوة إلى مثل ذلك، بل على العكس
منه وقف جميع الانبياء والاولياء والمصلحين
بوجه المعتدين، وكانت من اُولى مهامهم
الرسالية القضاء على دواعي البغي والشر
والفساد ونشر الحق وإقامة العدل في ربوع
الارض.
وامتثالاً لقوله تعالى: (وآمنوا بما
أنزلتُ مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر
به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي
فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا
الحق وانتم تعلمونَ)[1].
فقد انبرى الكثير من علماء المسلمين ومفكريهم
من مختلف البلاد الاسلامية للرد على هذه
الفتوى الباطلة والتعبير عن سخطهم وغضبهم
منها، فتصدوا لدحضها وتفنيدها لما رأوا فيها
من خروج عن الاسلام وتجاوز فاضح على حقوق
المسلمين، كما فعل علماء ومفكرون أمثالهم قبل
ذلك مع الفتوى الباطلة بتكفير أتباع أهل بيت
النبوة(عليهم السلام) وإباحة دمائهم.
إننا ومن منبر رسالة الثقلين نبارك
هذه المبادرات المسؤولة، ونطالب بالمزيد
منها، اعتقاداً منا بأن هذه الردود والمواقف
الاسلامية حريّة بأن تردع كل من تسوّل له نفسه
تجاوز أحكام اللّه والاستهانة بمقدسات الامة
الاسلامية ومقدراتها، وأن توقف كل ذي بدعة
عند حدّه. والمطلوب من جميع المسلمين علماء
ومفكرين ومثقفين أن يقفوا صفاً واحداً بوجه
أمثال هؤلاء الذين بفعل فتاواهم السلطانية
أضفوا الشرعية على الطواغيت وأحدثوا في الدين
أخطر البدع وأعظم الضلالات.
إن هؤلاء بفتاواهم الباطلة ودعواتهم
الضالة هذه يشكلون خطراً كبيراً من داخل
البيت الاسلامي على وحدة الامة الاسلامية
ورسالتها الالهية، ويساهمون مع قوى الكفر
العالمي في تهديم كيانها والانقضاض عليها،
لقد جعلوا أنفسهم جسوراً لتطبيع وعي المسلمين
على جور قادتهم وبغي حكامهم وتنفيذ إرادة
ومخططات الاستكبار وجرثومته الفاسدة اسرائيل
في ضرب الامة الاسلامية في الصميم، ألا ساء ما
يزرون.
وما خطابنا لهم ولاسيادهم إن لم
يرتدعوا إلاّ خطاب أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب(عليه السلام) لامثالهم في قوله الخالد: «لا
تقولوا بما لا تعرفون، فإن أكثر الحق فيما
تُنكرون، واعذروا من لا حجّة لكم عليه....»[2].
والحمد للّه رب العالمين.
([1])
البقرة: 41 ـ 42.
([2])
نهج البلاغة: خ87 .