دور أهل البیت (ع) فی بناء الکتلة الصالحة (11) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

دور أهل البیت (ع) فی بناء الکتلة الصالحة (11) - نسخه متنی

السید محمد باقر الحکیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراسات


دور اهل البيت (عليهم السلام ) في بناء
الكتلة الصالحة


( 11 )

نظام أمن الجماعة


* السيدمحمد باقر الحكيم( العراق )يقع
الحديث في موضوع نظام أمن الجماعة في ثلاث
جهات:الاولى: في أهمية وضرورة هذا النظام في
بناء الجماعة الصالحة.

الثانية: في الخطوط العامة التي وضعها
أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لتطبيق هذا
النظام.

الثالثة: في السياسات العامة التي
اتّبعها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لدعم
هذا النظام.

1 ـ أهمية النظام الامني


أما الجهة الاولى فإن نظام أمن
الجماعة في نظرية أهل البيت(عليهم السلام) وفي
ممارستهم وبنائهم للجماعة الصالحة يكتسب
أهمية خاصة لعوامل وأسباب عديدة، منها
العوامل التالية:

العامل الاول: يرتبط بالظروف السياسية
والاجتماعية التي كانت تعيشها الجماعة
الصالحة، حيث مرّ أهل البيت(عليهم السلام)
وأتباعهم بظروف سياسية واجتماعية قاسية،
اتّسمت في غالبيتها العامة بالقتل والتشريد
والمطاردة والقمع والتفتيش على العقائد
لمعرفة طبيعة الانتماء السياسي، وكذلك
بالاتهامات الباطلة بالكفر والارتداد
والزندقة وشقّ عصا المسلمين.

ويمكن أن نلخّص الاسباب في وجود هذه
الظروف القاسية التي أحاطت بهم بالامور
التالية:

أ ـ الحالة السياسية العامة التي
شهدها الحكم الاسلامي، والتي كانت تبرّر
القمع والارهاب السياسي باختلاف العقائد
والشعائر المذهبية، ولم تكن الحالة السياسية
الحاكمة في أوساط المسلمين ـ في كثير من
الاحيان ـ تسمح بالتعددية العقائدية
والفكرية، فضلاً عن التعددية السياسية،
باستثناء ما شهدته فترة حكم الامام علي(عليه
السلام)[1].

ب ـ الموقف السياسي العام الذي كان
يختص به أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم،
والذي كان يلقي بظلاله الثقيلة والقاتمة على
الاوضاع العامة لاهل البيت(عليهم السلام)والجماعة
الصالحة من أتباعهم. والذي يمكن أن يتلخّص هذا
الموقف بتحمّلهم للاعباء والمسؤوليات العامة
في الدفاع عن الاسلام، وكذلك مقاومة الانحراف
على مستوى العقيدة والحكم الاسلامي،
بالاضافة إلى تحمّل مسؤولية مواجهة الظلم
والجور والطغيان في الحكم وفي المجتمعات
الاسلامية.

ولعلّ أهم أسباب القمع الذي واجهه أهل
البيت(عليهم السلام) وأتباعهم كان هو هذا
الموقف السياسي. ثم تطوّر الامر، فتحولت
عمليات القمع والمطاردة والاتهام من السياسة
إلى العقائد والشعائر، وأصبح الصراع ذا طابع
ديني ومذهبي، باعتبار أن هذه العقائد
والشعائر علامة ودليل إثبات على الهوية
السياسية والارتباط بأهل البيت(عليهم السلام).

فالدوافع الاصلية للقمع هي الهوية
السياسية والولاء السياسي الذي يمثّل الاصل
في الشخصية الدينية المتحركة، لكن
الاختلافات المذهبية تعبّر بطبيعة الحال عن
هذه الهوية السياسية وتشير إليها، فأصبحت هي
مثار الاتهام والقمع والمطاردة، لان الشأن
السياسي كان مختلطاً بالشأن الديني لدى عامة
الناس وجمهور المسلمين، ولابدّ من تبرير
العمل السياسي بالاطارات والشعارات الدينية،
بل إن الشأن والقضية الدينية كانت قضية
سياسية، لان المجتمع بكل تفاصيله كان قائماً
على أساس الدين والتمذهب.

وبذلك واجه أهل البيت(عليهم السلام)
وأتباعهم محنة قاسية في ممارستهم لشعائرهم
وعباداتهم، أو في التعبير عن معتقداتهم لا
لانهم يختلفون مع الحكّام أو بقية المسلمين
في المذهب فحسب، بل لان هذه الشعائر كانت تدلّ
على هويتهم السياسية أيضاً، وهي هوية (مطاردة)
من الحكام. وكان على الحكام أن يبرّروا هذه
المطاردة لدى جمهور المسلمين، ولا يصح هذا
التبرير ما لم يتّخذ طابع الدين والقداسة،
ولا يكفي فيه ـ في كثير من الاحيان ـ مجرّد
مخالفة الحكّام ورفض الظلم والجور، أو الحب
والولاء لاهل البيت(عليهم السلام). لان هذه
الاُمور أصبحت معروفة ومقبولة لدى المسلمين،
غاية الامر أن الكثير منهم لا يملك أخلاقية
الالتزام والعمل بها. فكانت المبرّرات لاجل
ذلك هي الاتهامات الباطلة في الدين والعقائد[2].

ج ـ وجود الثورات والاضطرابات
السياسية والدينية في المجتمع الاسلامي
وطيلة التاريخ الاسلامي، حيث كانت تنسحب
الاثار الجانبية لهذه الحركات الرافضة
والاضطرابات المضرّة على الجماعة الصالحة
وأتباع أهل البيت(عليهم السلام). فإن أهل
البيت أو الجماعة الصالحة وإن لم يكونوا وراء
هذه الثورات أحياناً، كما أنهم يرفضون منهج
الاضطرابات كما عرفنا، ولكنهم كانوا يكتوون
بنارها، ويتحملون آثارها وتبعاتها بسبب
اختلاط الرؤوس أو الوشايات والشبهات
والاغراض الشخصية الفاسدة، أو بسبب ان الكثير
من هذه الثورات والنهضات كانت تحمل شعارات
مشابهة لشعارات أهل البيت(عليهم السلام)
وأتباعهم، وتجذب أعداداً من أتباعهم، أو
تتحرك في أوساط محبّيهم أو المحسوبين عليهم
في التصنيف السياسي العام.

وعلى أي حال كانت هذه الظروف القاسية
قضية واضحة واجهها أهل البيت(عليهم السلام)وأتباعهم
في عامة تاريخهم، وكان على أئمة أهل البيت(عليهم
السلام) أن يضعوا الخطط والمناهج والانظمة
التي تحفظ أمن الجماعة ويتخذوا الاجراءات
المناسبة[3]
التي تحميها من عمليات القمع والمطاردة أو
الاستئصال في بعض الاحيان.

العامل الثاني: الضرورات التي كانت
تنبع من التزام الجماعة بالحكم الشرعي
الاسلامي وضرورة وجود كيان للجماعة الصالحة
يحقق تكاملها الذاتي، ويكون قادراً على
استيفاء حاجاتها المختلفة، مثل: معرفة
الاحكام الشرعية، أو القضاء وفصل الخصومات
بين أبنائها، أو ممارسة الولاية والادارة
للاعمال والاموال العامة أو الخاصة التي ليس
لها ولي خاص. كل ذلك انطلاقاً من رؤية عقائدية
وسياسية وعملية ذات أبعاد مختلفة، تتمثل في
فهم أئمة أهل البيت لانحراف أجهزة الحكم
الاسلامي وطغيانها من ناحية، وضرورة الوفاء
بالتزاماتهم تجاه الكيان السياسي الاسلامي
العام من ناحية اُخرى، ومحافظتهم على وحدة
الاُمة الاسلامية من ناحية ثالثة، مع وفاء
الكتلة الصالحة بالتزاماتها من ناحية رابعة.

وهذا الكيان بطبيعة الحال يحتاج إلى
نظام أمن خاص به يحقق له التكامل، ويسهّل له
فاعليته ونشاطه، ويمنحه المرونة في الحركة
والتكيّف.

العامل الثالث: حماية الجماعة الصالحة
من عمليات التخريب والتسلّل في داخلها في
محاولة للاضرار بها أو تشويه سمعتها، أو
تحقيق المكاسب والمنافع الذاتية أو الرخيصة
من قبل بعض العناصر على حساب مصالح الجماعة،
مستفيدين من ظروف المحاصرة التي كان يعيشها
أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في الادوار
الاخيرة لهم، أو محاصرة قادة الجماعة الصالحة
وعلمائها الربّانيين.

ذلك أننا إذا درسنا مدلولات وأهداف
نظام أمن الجماعة بدقة، فسوف نرى أنها لا
تنحصر في حماية الجماعة من القمع، أو تحقيق
المرونة في الحركة والنشاط، بل له أبعاد أخرى
تشمل هذا الجانب أيضاً بالاضافة إلى الجوانب
الاُخرى التي أشرنا إليها في العامل الثاني.
وسوف نتعرف على هذه الحقائق عند دراستنا
للجهة الثانية إن شاء اللّه.

2 ـ الخطوط العامة للنظام الامني


الجهة الثانية: في الخطوط العامة
لنظام أمن الجماعة، ويمكن تلخيص هذه الخطوط
بالاُمور التالية:

الخط الاول: التقية


التقية في نظر أهل البيت(عليهم السلام)
لها أهمية خاصة، حيث وردت فيها عشرات
الاحاديث والروايات، وفيها روايات صحيحة
السند، وهي ذات مضامين متعددة وتتناول مختلف
أبعاد هذا الموضوع المهم، ولعلّ خط التقية هو
أهم الخطوط الامنية على الاطلاق.

أبعاد بحث التقية


البحث في التقية له جوانب عديدة:

الجانب الاول: يرتبط بالجانب العقائدي
والادلّة على صحّتها من القرآن الكريم
والسنّة النبوية.

والجانب الثاني: يرتبط بأهميتها
وموقعها من الدين والالتزامات والمواثيق
الالهية، حيث ورد عنهم(عليهم السلام) أن «التقية
ديني ودين آبائي» وأن «من لا تقية له لا إيمان
له» وأنه «ما عُبد اللّه بشيء أفضل من التقية».

والجانب الثالث: يرتبط بالاحكام
والتكاليف الشرعية وحدودها والاثار الوضعية
والتكليفية، وهو الجانب الفقهي من التقية.

والجانب الرابع: يرتبط بالابعاد
السياسية والاجتماعية والامنية للتقية، وهذا
الجانب هو الذي يهمّنا تناوله في هذا البحث من
الموضوع[4].

ولابدّ أن نشير في البداية إلى أن «التقية»
لها مدلول واسع إذا أردنا أن نفهمها على اساس
موارد استخدام النصوص لمفهوم التقية، حيث
تشمل بالاضافة إلى كتمان المعتقد أو الالتزام
الفقهي المذهبي أو التظاهر بغيره... كتمان
الاسرار في الحركة السياسية والاجتماعية
والثقافية، وأيضاً ألواناً من المجاملة
والملاطفة في المعاشرة، حيث تناولنا هذه
الابعاد في كتابنا «الوحدة الاسلامية من
منظور الثقلين».

ولكن هنا نشير إلى المورد الاول منها
وهو كتمان المعتقد أو الالتزامات الفقهية، أو
التظاهر بغيرها خوفاً من القمع والاذى والضرر.
حيث إن أهل البيت عندما واجهوا مع أتباعهم
عمليات القمع والمطاردة بسبب الالتزامات
العقائدية والمذهبية وضعوا منهج التقية على
أساس الرخصة في ذلك، التي أشار إليها القرآن
الكريم في مثل قوله تعالى: )لا يتّخذ المؤمنون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل
ذلك فليس من اللّه في شيء إلاّ أن تتقوا منهم
تقاة ويحذّركم اللّه نفسه وإلى اللّه المصير)[5]
أو (من كفر باللّه من بعد إيمانه إلاّ من أكره
وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر
صدراً فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب عظيم)[6].

وألزموا أتباعهم بالتزام هذا المنهج
وهو التقية، وعرّفوه على أنه من الواجبات
الشرعية المهمة التي لها علاقة بالايمان
والدين والتقرّب إلى اللّه تعالى كما أشرنا.
وشدّدوا على هذا الامر بدرجة كبيرة، وذلك من
أجل حماية الجماعة والمحافظة على أمنها
واستقرارها وقدرتها على أداء وظائفها، كما
ورد ذلك في رواية عبداللّه بن أبي يعفور عن
أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: «اتقوا
على دينكم وأحيوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن
لا تقية له، إنما أنتم من الناس كالنحل في
الطير، ولو أن الطير يعلم ما في أجواف النحل
ما بقي منها شيء إلاّ أكلته، ولو أن الناس
علموا ما في أجوافكم أنكم تحبون أهل البيت(عليهم
السلام) لاكلوكم بألسنتهم، ولنحلوكم بالسرّ
والعلانية، رحم اللّه عبداً منكم كان على
ولايتنا»[7].

والسبب في اتخاذ هذا الاجراء هو أن
أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كانت أمامهم
عدّة خيارات رئيسية في مواجهة عمليات القمع
والارهاب، بل الابادة أحياناً لشيعتهم:

1 ـ الانعزال عن المجتمع:


الخيار الاول: الطلب من أتباعهم
الانعزال عن مجتمع المسلمين والانكفاء على
الذات والهروب بالنفس والاهل إلى المناطق
النائية التي لا تتمكّن السلطة من الوصول
إليهم فيها، كالجبال والكهوف والغابات،
وبذلك يتمكّن أتباع أهل البيت أن يمارسوا
شعائرهم كاملة، كما هي مطلوبة منهم في
الواقع، ويظهروا معتقداتهم التي تخالف عقائد
الاخرين في تفصيلاتها وخصوصياتها[8].

لانهم حين يعيشون لوحدهم ولانفسهم
بعيداً عن أنظار الناس وقدرة السلطة يكونون
قادرين بطبيعة الحال على تحقيق ذلك[9].

ولم يقبل أهل البيت لشيعتهم وأتباعهم
هذا الخيار لاسباب متعددة:

منها: أن الالتزام بهذا الخيار والعمل
على اساسه ليس أمراً مقدوراً في جميع
الاحوال، بل يكون عسيراً في أغلب الاحوال،
وبالتالي فسوف يواجه أتباعهم طريقاً مسدوداً
لا يمكن الاستمرار فيه.

ومنها: أن أهل البيت قد وضعوا لاتباعهم
في العلاقات الاجتماعية سياسة الاختلاط
والتعايش والانسجام مع بقية المسلمين
وخصوصاً الاوساط العامة والواسعة التي لا
تتّصف بالتعصّب والعداء لاهل البيت(عليهم
السلام)، وذلك لانهم كانوا يدركون بأن
أتباعهم بحاجة إلى الناس ـ كما سوف نشير إلى
ذلك ـ وحينئذ يكون التزام هذا الخيار وهو «العزلة»
نقضاً لهذه السياسة وتضييعاً للهدف منها، حيث
تحاصر الجماعة، ويضيّق عليها وتحرم من جميع
الفوائد والخدمات العامة التي يحصل عليها
الانسان المسلم من خلال المجتمع الاسلامي
والجماعة المسلمة.

ومنها: أن «الجماعة الصالحة» تتحمل
مسؤوليات تجاه سلام الكيان الاسلامي والامة
الاسلامية ـ كما أشرنا إلى ذلك في عدّة
مناسبات ـ ولا يمكن لهذه الجماعة أن تقوم
بمسؤولياتها هذه إلاّ من خلال التعايش مع
المسلمين والحضور في مجتمعاتهم حتى يمكنها
القيام بهذا الدور الريادي المهم والتأثير في
مجمل الاوضاع الاسلامية من خلال القدوة
والتوعية والمواقف الجهادية الواعية والصلبة.

ومن أجل هذه الاسباب وغيرها رفض أهل
البيت عملياً هذا الخيار.

2 ـ المواجهة والصراع


الخيار الثاني: هو الطلب من أتباعهم
وشيعتهم إظهار عقائدهم، وتطبيق وإجراء
شعائرهم بالكامل في مجتمع المسلمين، والدخول
في مواجهة علنية وصراع مفتوح على عامة
المسلمين حول تفاصيل الحياة الاسلامية، أو في
القضايا الاساسية منها كقضايا الامامة
والشعائر الاسلامية.

وهذه المواجهة ضرورة حتمية اجتماعية
إذا أراد أهل البيت وأتباعهم إظهار هذه
العقائد والتزام هذه الشعائر لما ذكرناه
آنفاً من أن الاوضاع السياسية والروحية حوّلت
الاختلافات الفكرية ووجهات النظر في تفسير
العقائد والاراء الفقهية إلى محاور للصراع
والاصطدام، وأصبح التعصّب المقيت للرأي إلى
حد تبرير ممارسة الاضطهاد سمة عامة من سمات
الحكم أو الفئات المذهبية[10].

ومن الطبيعي أن يرفض أهل البيت(عليهم
السلام) هذا الخيار ولا يلتزموا بهذا المنهج
تجاه أتباعهم، لان هذا الخيار يضرّ بسياسة
التعايش مع المسلمين ويلغيها من الاساس. بل
الاهم من ذلك هو أنه يترتّب على هذا الخيار
أضرار أكبر من ذلك، سواء لجماعة الشيعة
والاتباع أنفسهم، أو لجماعة المسلمين
والمجتمع الاسلامي.

أما الاضرار التي تتحقق للجماعة
الصالحة من أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فهي
أن هذا الخيار قد يؤدي إلى استئصال الجماعة
الصالحة والقضاء على مقومات وجودها
الاجتماعي، وبالتالي إلغاء دورها في الحياة
الاسلامية.

بل قد يكون الضرر أشدّ من ذلك وهو وقوع
البقية الباقية من أفرادها تحت طائلة
الانحرافات العقائدية أو السلوكية، والتحول
إلى الباطنية أو الغلوّ، أو التخلّي عن
ممارسة الواجبات والشعائر الاسلامية
والاكتفاء بالالتزامات النفسية والممارسات
الروحية. كما يلاحظ ذلك في بعض الفرق الشيعية
المنحرفة التي انتهت إلى هذا المصير بسبب
تخلّيها عن سياسة التعايش مع المسلمين أو
التزامها لمنهج المواجهة العلنية في
البداية، وانتهت أخيراً إلى هذه الانحرافات.

وقد ينتهي الامر بالجماعة إلى ضرر
آخر، وهو تغيير العقيدة والمذهب بسبب الضعف
وعدم القدرة على الصمود والتحمّل، واجتماع
تأثيرات عمليات القمع والمطاردة والارهاب من
ناحية، مع أساليب السلطة في التضليل والاغراء
من ناحية اُخرى.

ويبدو من مجمل النصوص التي وردت عن أهل
البيت(عليهم السلام)[11]
أنهم كانوا يرون ـ في تحليلهم للاوضاع
السياسية والاجتماعية ـ أن المواجهة العلنية
سوف تؤدي إلى إلحاق أحد هذه الاضرار الخطيرة
بالجماعة الصالحة، وانطلاقاً من ذلك رفضوا
هذا الخيار.

وأما الاضرار التي تلحق بالمسلمين
وجماعتهم من الالتزام بهذا الخيار فهي إيجاد
الاضطراب وعدم الاستقرار للمجتمع الاسلامي،
والتجزئة والضعف في كيانه العام، خصوصاً إذا
تمكّنت الجماعة من الصمود والاستمرار في حالة
من التكافؤ والتوازن في القوة، حيث يستفيد من
ذلك أعداء الاسلام الخارجيون أو الانتهازيون
والمصلحيون الداخليون.

وهذا ما نلاحظه في كثير من الاوضاع
التي عاشها المسلمون في مختلف عصورهم[12].
كما أن هذا السبب وهذه الاضرار هي التي تفسّر
الكثير من مواقف أئمة أهل البيت(عليهم السلام)
كما عرفناه في البحوث السابقة.

3 ـ التقية والمداراة


الخيار الثالث: هو التقية والمداراة
وكتمان تفاصيل العقيدة التي تكشف عن الهوية
السياسية. أو التي تثير ردود الفعل القاسية في
ظروف التعصّب، وكذلك تكييف أداء الشعائر
الاسلامية بالشكل الذي يحتفظ بأصل الشعائر،
ويكون منسجماً بشكل عام مع المتبنيات العامة
لابناء الاُمة تفادياً للقمع والارهاب، أو
الاثارة والتفسير الظالم أو الخاطئ للشعائر
والسلوك. وقد كان هذا الخيار هو الذي وقع عليه
نظر أهل البيت لمواجهة مثل هذه الظروف الصعبة
التي مرّوا بها وأتباعهم.

ومن الواضح أن هذا الاختيار من أهل
البيت(عليهم السلام) لهذا المنهج «التقية
والمداراة» لم يكن بسبب الاستجابة النفسية
لهذه الضغوط، كالخوف أو الجبن، أو الاحساس
بالهزيمة السياسية أو الروحية. وإلاّ فإن أهل
البيت وشيعتهم هم أهل التضحية والفداء والبذل
والعطاء والصبر والصمود. وقد ربّى أهل البيت(عليهم
السلام) شيعتهم على هذه الاخلاق ـ كما عرفنا ـ
وتنبأوا لهم بالبلاء بالمحن[13].

وإنما كان هذا الخيار انطلاقاً من
رؤية موضوعية واضحة للحياة السياسية وللصراع
الاجتماعي وأسبابه، وتقييماً موضوعياً
للمصالح والمفاسد العامة والاولويات التي
تحكم السيرة الاجتماعية، وتقديم الاهم على
المهم فيها. فكان خيار التقية يمثل الخط
الفكري والسياسي الذي وضعه أهل البيت لحماية
الجماعة الصالحة، وفي خط تحقيق الاهداف
الاسلامية الكبرى.

ويدلّ على هذا الفهم للتقية والتزام
هذا الخيار:

أولاً: ما أشرنا إليه من تقويم أئمة
أهل البيت(عليهم السلام) لمبدأ التقية من أنها
هي الدين «ديني ودين آبائي» أو أنها هي
الايمان «من لا تقية له لا إيمان له» وأنها
نور للانسان في يوم القيامة، وغير ذلك من
المضامين التي تعطي هذا البعد والفهم لمنهج
التقية.

ثانياً: إن التقية والحذر من الاخطار
والاضرار حالة نفسية طبيعية تجرّ الانسان
إليها بفطرته البشرية. ورغم ذلك نجد أهل البيت
يحذّرون شيعتهم من التساهل في الحذر،
ويحثّونهم على التقية، ويهددون تاركها
ويتوعدونه بالعقاب الالهي والدنيوي، وغير
ذلك مما نشاهده بشكل واضح في أخبار التقية[14].

وهذه الظاهرة في أخبار أهل البيت(عليهم
السلام) لا تفسير لها، إلاّ أن أهل البيت لما
كانوا قد ربّوا شيعتهم على الرفض للجور
والظلم، والصبر والصمود والتضحية والفداء من
أجل الحق، وتحمّل مختلف ألوان العذاب والمحن
والالام في سبيل المبدأ والعقيدة، والثبات
على المواثيق والعهود، واجهوا مشكلة حقيقية
في السيطرة على مدلولات هذه التربية
العقائدية والمبدئية والروحية لشيعتهم وضبط
سلوكهم العملي بشكل ينسجم مع عملية البناء
وتحمّل المسؤوليات الكبرى تجاه الاسلام
والكيان السياسي والاُمة الاسلامية. فكان
عليهم أن يوجدوا تربية عقائدية ومبدئية
موازية تحقق الموازنة مع التربية الروحية
والمعنوية العالية في البذل والعطاء
والتضحية والفداء.

فالتقية خط أمني يحمي الجماعة من
عمليات القمع، ولكنه في نفس الوقت له مضمون
تربوي واجتماعي يحقق للجماعة الموازنة
الروحية والنفسية في التعامل مع الاحداث
المختلفة ويوجد لها فرصة المساهمة في عملية
البناء والتغيير الاجتماعي.

ويؤكّد ذلك أن أهل البيت لم يجعلوا
التقية مختصة بخصوص موارد الاخطار والضرر، بل
كانت التقية أشمل وأوسع من ذلك[15].

حدود التقية


كما أن أهل البيت(عليهم السلام) لم
يطلقوا الاذن من التقية بل وضعوا حدوداً لها
وسقفاً لاستخدامها، وهذا الحد هو أن لا تؤدي
التقية إلى الاضرار بالمؤمنين الاخرين، أو
سفك دمائهم، أو تعريضهم للاخطار. فقد ورد عن
الامام الباقر(عليه السلام) في حديث معتبر أنه
قال: «إنما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا
بلغ الدم فليس تقية»[16].

وكذلك لا تصحّ التقية في مورد يؤدّي
استخدامها إلى التهاون في نصرة الاسلام
والمسلمين التي تفرضها موازين وأحكام الجهاد
في سبيل اللّه، حيث تصبح التقية عندئذ غير
مشروعة ولا مبرّرة.

فقد ورد في حديث معتبر عن الامام
الصادق(عليه السلام) قال: «لم تبق الارض إلاّ
وفيها منّا عالم، فإذا بلغت التقية الدم فلا
تقية. وأيم اللّه لو دعيتم لتنصرونا قلتم لا
نفعل إنما نتقي!! ولكانت التقية أحبّ إليكم من
آبائكم واُمهاتكم، ولو قد قام القائم ما
احتاج إلى مساءلتكم عن ذلك، ولاقام في كثير
منكم من أهل النفاق حدّ اللّه»[17].

وفي حديث آخر يقدم الامام من أهل البيت(عليهم
السلام) القاعدة العامة لمضمون التقية، مما
يكشف عن محتواها الامني والاخلاقي فيقول كما
روي عنه: «لان للتقية مواضع من أزالها عن
مواضعها لم تستقم له، وتفسير ما يتّقى مثل أن
يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم
الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان
التقية مما لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فإنه
جائز»[18].

كما أنه ورد عنهم(عليهم السلام) أن
الانسان يجب عليه أن يتحمّل الاضرار البالغة،
ويبذل نفسه وماله دون دينه[19].

وكل هذه الروايات تؤكّد أن التقية
إنما هي «منهج» عملي أمني محدد ضمن إطار
المصالح الاسلامية العليا، والمحافظة على
الجماعة الصالحة، وليست مجرّد رخصة في الهروب
من الواقع أو الفرار من الاعداء.

الخط الثاني: كتمان الاسرار


وإلى جانب التقية وضع أهل البيت خطاً
آخر لامن الجماعة وهو «كتمان الاسرار
والمحافظة عليها» وعدم «إذاعتها» أو «التحدّث»
بها سواء تجاه الاعداء من الطغاة والحاقدين
من النواصب أو المتربصين من المنافقين
والنفعيين أو الغوغاء من عامة الناس الذين
ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح.

وهذا الخط قد يتداخل إلى حد كبير مع خط
«التقية»، بل نلاحظ في بعض الروايات اطلاق
مفهوم التقية أيضاً على كتمان الاسرار،
ومخالفة التقية على إذاعة الاسرار. ولذلك
لابدّ من تحديد «موضوع» هذا الخط الامني الذي
يكاد أن يلتزم به كل مجتمع إنساني يريد أن
يحمي وجوده من الاعداء، ويحتفظ بتماسكه
وقدرته على الاداء.

إن موضوع هذا الخط الامني هو: «الكلام
والحديث والادلاء بالمعلومات السرية» الذي
يشكّل عادة أكبر الاخطار التي يمكن أن
تواجهها أي جماعة تتعرّض لعمليات القمع
والابادة.

وقد تناولت كتب الاخلاق موضوع عثرات «اللسان»
والاضرار البالغة التي تلحق الانسان في حياته
الاجتماعية، وفي علاقته باللّه تعالى
والناس، وما يصدر عنه من ذنوب وآثام أو مصائب
وجراحات ولكن كل ذلك جاء في صراط بيان الذنوب
التي يرتكبها اللسان كجارحة من جوارح الانسان.

أما هذا الخط الامني فقد تناول موضوع «اللسان»
من بُعد آخر وهو بُعد إذاعة الاسرار وإفشائها
بالشكل الذي يعرض الجماعة إلى الاخطار، حيث
يكشف عن حركتها ومواقفها وحجمها وانتماء
أفرادها مما يعرّضهم لاشد الاخطار.

فقد كان أهل البيت وشيعتهم وأتباعهم
يمثلون «جماعة» من المسلمين لها خصائصها
ومقوماتها العقائدية والفكرية والثقافية
ومواقفها السياسية، وغير ذلك من الخصائص.
وكانت هذه الجماعة منتشرة في مختلف أنحاء
العالم الاسلامي، وتعيش ضمن المجتمعات
الاسلامية، وتخضع للسلطة الحاكمة بشكل عام.

وقد كان الحكام الطغاة يصنّفون هذه
الجماعة ـ دائماً بسبب خصائصها ـ إلى جانب
القوى المعارضة، كما أن السلطات كانت تخافها
وتقمعها بسبب قدرتها وحيويتها والتفافها حول
قيادة أئمة أهل البيت، وهم أصحاب حق في
الخلافة، وموضع رضا وقبول عام من المسلمين.

تأليب العامة ضد الشيعة:


ولذلك كانت هذه الجماعة تتعرض ـ كما
ذكرنا ـ إلى المطاردة والقمع من ناحية،
وعمليات التشويه والاساءة إلى سمعتها
وعقائدها ودورها وأهدافها في الحياة
الاسلامية، وذلك لعزلها ومحاصرتها في الامة
ثم ممارسة الضغط عليها من خلال تأليب الامة
عليها من ناحية اُخرى.

والشيء الذي يعني الطغاة والحاكمين
وكذلك الحاقدين والنواصب ويثير اهتمامهم
وغضبهم، وإن كان هو الجانب السياسي من
الموضوع لانه يمثل السبب الحقيقي لهذه
العمليات المتعددة الجوانب. إلاّ أن الانتماء
المذهبي للافراد كان مهماً أيضاً بقدر ما
يؤشر على الانتماء السياسي كما عرفنا.

ويبدو الامر مختلفاً بعض الشيء في نظر
الاوساط العامة للاُمة، حيث كان يثير
اهتمامها الجانب العقائدي للجماعة الصالحة،
لان الاوساط العامة للاُمة بسبب فهمها الساذج
للاسلام وتربيتها من قبل الحكام وعلماء السوء
على التعصّب والحقد أصبحت لا يهمها الموقف
السياسي بقدر الموقف المذهبي، ولذلك أخذت
ترفض بقسوة كل ما يخالف الاراء والالتزامات
العقائدية التفصيلية الجاهزة التي تقدمها
السلطة لها. حيث عملت السلطات الحاكمة من خلال
اجهزتها على إبقاء الاُمة بعيدة عن إدراك
الحقائق ومعرفتها، سواء فيما يتعلّق بأعمال
الطغاة وتصرّف الحاكمين، أو فيما يتعلّق
بالموقف السياسي للتيارات السياسية الاُخرى،
أو واقع الالتزام المذهبي، بل عملوا على
تأليبها وتحريضها على هذه التيارات بشتى
الاساليب والوسائل.

فبدلاً من تربية الامة على البحث
والمعرفة وترسيخ دعامة الحرية في الحوار
العلمي والممارسة العملية ضمن الاطار
الاسلامي العام والمسلّمات العقيدية
الضرورية كانت التربية للاُمة على التعصّب
للرأي والمذهب وإطلاق التهم «بالكفر» و«الزندقة»
و«الخروج عن الاسلام» و«شقّ عصا المسلمين»
لمجرّد الاختلاف بالرأي في التفاصيل أو
المطالبة بالحق، أو الوقوف في وجه الظالم
والجائر ورفض ممارسات الظلم والاستئثار.

وقد عبّر الامام الصادق(عليه السلام)
عن هذا المنهج الذي اتبعه الطغاة في تربية
الاُمة بقوله: «إن بني اُمية أطلقوا للناس أن
يتعلموا الايمان، ولم يطلقوا لهم أن يتعلّموا
الشرك، حتى إذا حملوهم عليه لم يعرفوا ذلك»[20].

ومن هنا نجد أن أئمة أهل البيت لم
يكتفوا في موضوع أمن الجماعة الصالحة
وحمايتها من العدوان بمجرد (التقية) بمعنى
الطلب من أتباعهم عدم إظهار عقائدهم أو
الاثارة بشعائرهم سلوكياً، فإن ذلك وإن كان
مهماً في تجنّب الضغوط التي يمارسها الناس
ضدّهم، وبالتالي عزلهم عن المجتمع ومحاصرتهم
في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية
والاقتصادية، بل اهتم أهل البيت(عليهم السلام)بالشيء
الاخر ولكن الاهم، وهو أن يكفّوا عن الحديث
والكلام في القضايا السياسية والدينية، أو
الادلاء بالمعلومات أو العواطف والمشاعر[21]
التي تكشف حقيقة انتمائهم السياسي أو مقدار
نفوذ الجماعة وحجمها في أوساط الامة، أو
طبيعة المواقف السياسية التي تلتزم بها
الجماعة الصالحة تجاه الحكم أو تجاه الحركات
السياسية الاخرى المناوئة، حيث كانت هذه
الاحاديث وإذاعة هذه المعلومات تشكّل خطراً
على الجماعة، وتوظّف من قبل الاعداء
لمطاردتها أو القضاء عليها.

إن قضية كتمان الاسرار والمعلومات عن
حقيقة الكتلة تعتبر من أهم القضايا الامنية
التي كانت تواجهها الكتلة، وتحتاج إلى درجة
عالية من «الوعي» و«ضبط اللسان والحديث» لان
الحكام الطغاة كانوا على درجة عالية من
الحساسية والشعور بالخطر على مصالحهم لما
تتمتع به الجماعة الصالحة من أصالة وواقعية
وإخلاص واستعداد للتضحية، وكذلك لوضوح
المفاهيم الصحيحة التي كانوا يطرحونها
للاُمة، ومنطق الحق الذي كانوا يعتمدونه في
بيانها.

صيغ للتحذير


ومن هنا نجد أئمة أهل البيت يولون هذا
الخط الامني عناية وأهمية خاصة في عشرات من
صيغ التحذير والتوعية والتعليم.

فقد روى الكليني(قدس سره) في حديث
معتبر عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: «سألت
الرضا(عليه السلام) عن مسألة فأبى وأمسك، ثم
قال: لو أعطيناكم كل ما تريدون كان شراً لكم،
واُخذ برقبة صاحب هذا الامر. قال أبو جعفر(عليه
السلام): ولاية اللّه اسرّها إلى جبرئيل(عليه
السلام) وأسرّها جبرئيل إلى محمد(صلى الله
عليه وآله)، وأسرّها محمد إلى علي، وأسرّها
علي إلى من شاء اللّه، ثم أنتم تذيعون ذلك، من
الذي أمسك حرفاً سمعه؟ قال أبو جعفر(عليه
السلام): في حكمة آل داود ينبغي للمسلم أن يكون
مالكاً لنفسه، مقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل
زمانه، فاتّقوا اللّه، ولا تذيعوا حديثنا،
فلولا أن اللّه يدافع عن أوليائه وينتقم
لاوليائه من أعدائه، أما رأيت ما صنع اللّه
بآل بَرمك وما انتقم اللّه لابي الحسن(عليه
السلام)؟ وقد كان بنو الاشعث على خطر عظيم،
فدفع اللّه عنهم بولايتهم لابي الحسن، وأنتم
بالعراق ترون أعمال هؤلاء الفراعنة وما أمهل
اللّه لهم، فعليكم بتقوى اللّه، ولا تغرّنكم
الحياة الدنيا، ولا تغترّوا بمن قد اُمهل
قبلكم، فكأن الامر قد وصل إليكم»[22].

وفي حديث آخر صحيح يحذّر الامام
الصادق(عليه السلام) بشكل واضح عن الاضرار
الدنيوية التي تترتب على إذاعة الاسرار. قال:
«من استفتح نهاره بإذاعة سرّنا سلّط اللّه
عليه حرّ الحديد وضيق المجالس»[23].

ويصل التحذير أحياناً إلى ضرورة
الالتزام بدرجة عالية في الكتمان حتى يقول
الامام أبو الحسن(عليه السلام) ـ كما روى
عثمان بن عيسى ـ : «إن كان في يدك هذه شيء، فإن
استطعت أن لا تعلم هذه (يقصد الاخرى) فافعل،
قال: وكان عنده إنسان فتذاكروا الاذاعة فقال:
احفظ لسانك تعز، ولا تمكّن الناس من قياد
رقبتك فتذل»[24].

ويشبّه في حديث آخر معتبر خطر «الاذاعة»
بقتل النبيين بغير حق، كما عن أبي بصير عن أبي
عبداللّه الصادق(عليه السلام) في قول اللّه
عزّ وجلّ: (ويقتلون النبيين بغير حق) فقال: «أما
واللّه ما قتلوهم بأسيافهم ولكن أذاعوا عليهم
وأفشوا سرّهم فقتلوا»[25].

كما روى الكليني أيضاً في الكافي بسند
صحيح عن سليمان بن خالد قال: «قال أبو عبد
اللّه(عليه السلام): يا سليمان، إنكم على دين
من كتمه أعزّه اللّه، ومن أذاعه أذلّه اللّه»[26].

وعندما كان يلاحظ أحد الائمة ظاهرة
الاندفاع في تبنّي القضايا السياسية أو
الاهتمام في التحرك في الاُمة لتوعيتها على
حبّ أهل البيت(عليه السلام) يقول، كما روي عن
الامام علي بن الحسين(عليهما السلام): «وددتُ
واللّه لو افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض
لحم ساعدي: النزق وقلّة الكتمان»[27].

وفي حديث آخر يعطي الامام الصادق(عليه
السلام) لموضوع الكتمان دوراً يرتبط بالايمان
والعقيدة وبأصل الولاء لاهل البيت وتحمل
مسؤولية الدعوة.

فعن عبد الاعلى قال: سمعت أبا عبداللّه
يقول: «انه ليس احتمال أمرنا التصديق له
والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته
عن غير أهله. فاقرأهم السلام وقل لهم: رحم
اللّه عبداً اجترّ مودّة الناس إلينا،
حدّثوهم بما يعرفون، واستروا عنهم ما ينكرون»[28].

ويشتد الامام الصادق(عليه السلام) ـ في
حديث آخر ـ في الانكار على اولئك الذين يذيعون
الاسرار ولا يلتزمون بالتعليمات، ويعرّضون
إمامهم وجماعتهم للاخطار والمهالك، ويظهر
غضبه عليهم ويتبرّأ منهم.

فعن القاسم شريك الفضل ـ وكان رجل صدق
ـ قال: «سمعت ابا عبداللّه «الصادق»(عليه
السلام) يقول: خلق في المسجد يشهروننا ويشهرون
أنفسهم، اُولئك ليسوا منا ولا نحن منهم، أنطق
فاُداري وأستر فيهتكون ستري، هتك اللّه
ستورهم، يقولون: إمام، واللّه ما أنا بإمام
إلاّ من أطاعني، فأما من عصاني فلست لهم
بإمام، لِمَ يقلقلون باسمي؟ ألا يكفّون اسمي
من أفواههم؟ فواللّه لا يجمعني اللّه وإيّاهم
في دار»[29].

( يتبع )



([1])
لقد عالجنا هذا الموضوع في كتابنا الوحدة
الاسلامية من منظور الثقلين: 162 ـ 186.

([2])
في نظرة فاحصة لهذه الظاهرة السياسية
الاجتماعية، يمكن أن نتبيّن بوضوح الفرق بين
ما كان يلاقيه أهل البيت(عليهم السلام)وأتباعهم
من قسوة تجاه قضية الاختلاف المذهبي، وما كان
يلاقيه أحياناً أتباع الفرق والمذاهب
الاسلامية من عنت وأذىً على يد الفرق
والمذاهب الاُخرى، مع أن الاختلافات بين بعض
الفرق والمذاهب الاسلامية وبعضها الاخر ليست
بأقلّ ـ إن لم تكن أكثر ـ من الاختلافات
العقائدية أو الفقهية بين هذه المذاهب ومذهب
أهل البيت(عليهم السلام)وأتباعهم، إذا
استثنينا القضية السياسية.

ومع هذا، لا نجد عمليات القمع
والمطاردة بين هذه المذاهب بعضها مع البعض
الاخر، أو من قبل الحكام عندما يلتزمون
واحداً من هذه المذاهب بمستوى الشدّة والقسوة
والاصرار والاستمرار الذي واجهه أتباع مذهب
أهل البيت(عليهم السلام).

ولا شكّ في أن السبب الحقيقي
لتفسير ذلك هو «الهوية السياسية» لاتباع مذهب
أهل البيت(عليهم السلام)وموقفهم السياسي
الرافض للظلم والطغيان، وتصبح حينئذ
الممارسات الدينية المذهبية علامة تؤشر على
أشخاص الملتزمين بهذا المذهب السياسي. ولذلك
نجد أيضاً أن هذه الالتزامات العقائدية
والممارسات المذهبية للشعائر يكون لها نفس
هذا المردود القاسي ـ أحياناً ـ في أوساط
المذاهب الاسلامية عندما تتحول إلى مؤشر
وعلامة على انتماء سياسي (مطارد) كما حصل في
بعض أدوار الصراع بين المعتزلة والاشاعرة، أو
في بعض أدوار الصراع بين المذاهب الاسلامية
الاُخرى أنفسها، أو كما نشاهده في عصرنا
الحاضر من المطاردة للحجاب أو بعض الالتزامات
الدينية باعتبارها تؤشر على الهوية السياسية
لاصحابها.

وقد تتعمق وتتجذّر الحالة
السياسية ذات الطابع المذهبي في أوساط الاُمة
إلى حدّ تتحول فيه إلى حالة اجتماعية ثابتة
غير سياسية، ولكنها مستهدفة بالذات كحالة
مذهبية، وذلك بسبب تصاعد الاحقاد والتعصّب
الاعمى والتخلّف الفكري والاجتماعي لدى
الاُمة، كما نشاهده في بعض الفقرات التاريخية
بين المذاهب الاسلامية عموماً وبشكل دائم
تجاه أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم،
لوجود التراكم التاريخي والثبات في الموقف
والهوية السياسية لهم.

([3])
مثل الاجراء الذي اتخذه الامام الحسن(عليه
السلام) في الصلح مع معاوية للمحافظة على وجود
الجماعة وعدم استئصالها.

([4])
سوف نتناول الجانب الاول والثاني في هذه
السلسلة إن شاء اللّه، وأما الجانب الثالث
فهو بحث فقهي يذكره الفقهاء في مواضعه الخاصة.

([5])
آل عمران : 28.

([6])
النحل : 106.

([7])
وسائل الشيعة 11 : 461، ح8 عن الكافي. وبالرغم من
أن جميع المسلمين بل والعقلاء يلتزمون بهذا
السلوك الاجتماعي والسياسي بشكل إجمالي، بل
إن بعض الجماعات الاسلامية حاولت إعطاء
مبررات لهذا السلوك، ووضعت روايات على لسان
النبي من أجل مهادنة الحاكم الظالم ومسايرته
والرضوخ إليه. ولكن مع ذلك عرف هذا النهج عن
أتباع أهل البيت(عليهم السلام)لاسباب، منها
أنهم كانوا يتعرضون إلى القمع باستمرار،
وأنهم بيّنوا أن السكوت للضرورة وليس ديناً،
كما أنهم(عليهم السلام) ذكروا التقية كمنهج
محدد المعالم والافاق على ما سوف نعرف ذلك
بشكل إجمالي.

([8])
لا يوجد اختلاف بين أتباع أهل البيت(عليهم
السلام) وعامة المسلمين في القضايا العقائدية
الاساسية، وإنما يوجد الاختلاف في بعض
التفاصيل، وكذلك في قضية الامامة للمسلمين
والخلافة للرسول، وأنها هل هي بالنص ـ كما
يذهب أهل البيت(عليهم السلام)وأتباعهم إلى
ذلك ـ حيث نص النبي(صلى الله عليه وآله) على
إمامة علي والائمة الاحد عشر من ولده(عليهم
السلام)، أو أن الامر قد تركه النبي(صلى الله
عليه وآله) للمسلمين ليصنعوا لانفسهم
ويختاروا ما يشاؤون ويريدون دون تحديد من
الشريعة، أو أن الشريعة حدّدت المنهج بالشورى
التي لم يعمل بها المسلمون إلاّ في خلافة أبي
بكر فقط بطريقة، وفي خلافة عثمان بطريقة
ثانية، وفي خلافة علي بطريقة ثالثة.

([9])
يذكر بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى: (ثم
قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى بن
مريم وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين
اتّبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً ابتدعوها ما
كتبناها عليهم إلاّ ابتغاءَ رضوانِ اللّه فما
رعوها حقّ رعايتها...) «الحديد: 27».

عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) على حمار فقال: يابن
اُم عبد، هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل
الرهبانية؟ فقلت اللّه ورسوله أعلم. فقال:
ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي
اللّه، فغضب أهل الايمان فقاتلوهم، فهزم أهل
الايمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلاّ
القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم
يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في
الارض إلى أن يبعث اللّه النبي الذي وعدنا به
عيسى(عليه السلام)يعنون محمداً(صلى الله عليه
وآله)فتفرّقوا في غيران الجبال واحدثوا
رهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه، ومنهم من
كفر، ثم تلا هذه الاية: (ورهبانية ابتدعوها ما
كتبناها عليهم...) إلى آخرها. «مجمع البيان 9: 243».

([10])
هذه الظاهرة كانت من ظواهر المجتمعات
المتخلّفة سياسياً وقد عرفها الانسان
الاوربي في العصور الوسطى من خلال محاكم
التفتيش والصراع بين الكاثوليك
والبروتستانت، كما عرفها الانسان الشرقي في
بعض الادوار، ولا زال الاوربيون يمارسون هذا
النوع من الاضطهاد ـ أحياناً ـ كما هو في منع
الفتيات المحجبات من الدراسة، أو طرد بعض
اللاجئين من البلاد لمجرّد ممارسة الشعائر
المذهبية ذات الدلالة السياسية التي لا
يتحمّلها الانسان الاوربي. وكذلك نجد بعض
الحكومات في البلاد الاسلامية تضطهد جماعات
من الناس لمجرّد الممارسة المذهبية التي
تؤشّر على الهوية السياسية، حتى لو كانت
الممارسة غير سياسية.

([11])
من جملة هذه النصوص ما أشرنا إليه قريباً من
رواية عبد اللّه بن أبي يعفور عن الامام
الصادق(عليه السلام)، وكذلك الروايات التي
وردت وتصف التقية بأنها «جُنّة المؤمن» و«ترس
المؤمن» مثل ما روي عن الامام أبي جعفر الباقر(عليه
السلام) من قوله: «وأي شيء أقرّ لعيني من
التقية، إن التقية جُنّة المؤمن». (وسائل
الشيعة 11: 460، ح4). والرواية الاخرى الصحيحة عن
أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق(عليهما
السلام): «التقية ترس المؤمن، والتقية حرز
المؤمن، ولا إ يمان لمن لا تقية له... إن
العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيدين
اللّه عزّوجلّ به فيما بينه وبينه، فيكون له
عِزّاً في الدنيا، ونوراً في الاخرة، وإن
العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيذيعه،
فيكون له ذلاًّ في الدنيا، وينزع اللّه ذلك
النور منه». (وسائل الشيعة 11: 460، ح6. وقد أخرجه
في اُصول الكافي، وذيله في الهامش).

([12])
كما هو في الصراع بين الحمدانيين والايوبيين
في بلاد الشام، وكذلك بين الفاطميين
والايوبيين في بلاد مصر، والصراعات بين
الامويين والعلويين في بلاد المغرب.

([13])
عن علي(عليه السلام) أنه قال: «من أحبّنا أهل
البيت فليستعدّ للفقر جلباباً» وأنه قال: «من
أحبّنا أهل البيت غتّه البلاء غتّاً». ويؤكّد
ذلك ما ورد عنهم من أن المحن والبلاء تزيد
الانسان قربى من اللّه تعالى، كما شرحناه
سابقاً.

([14])
منها ما ورد عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر(عليه
السلام) يقول: «لا خير في من لا تقية له، ولقد
قال يوسف: (أيتها العير إنكم لسارقون وما
سرقوا)» (وسائل الشيعة 11: 464. ح17).

ومن مسائل داود قال: قال لي علي
بن محمد الهادي(عليهما السلام): «يا داود لو
قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً»
(وسائل الشيعة 11: 466، ح26). وقد أشير إلى بعض
الاحاديث سابقاً.

([15])
سوف نتحدث في قسم آخر من هذه البحوث عن التقية
وأبعادها المختلفة بما يوضّح هذه الفكرة.

([16])
وسائل الشيعة 11: 483، ح1.

([17])
وسائل الشيعة 11: 483، ح2.

([18])
المصدر: 469، ح6.

([19])
المصدر: 451، ح2 وص139، ح2.

([20])
الكليني، اُصول الكافي 2: 305.

([21])
لقد كانت بعض الادوار قاسية، حتى أن ذكر علي
وفاطمة(عليهما السلام) بخير كان له مدلولات
سياسية، فقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه
السلام)أنه قال: «إياكم وذكر علي وفاطمة(عليهما
السلام) فإن الناس ليس شيء أبغض إليهم من ذكر
علي وفاطمة(عليهما السلام)». (وسائل الشيعة 11:
486، ح2) ولا شك أن اُولئك الناس كانوا غير هؤلاء
المسلمين الذين نعرفهم الان بحب علي وفاطمة(عليهما
السلام).

وروى ابن حجر في ترجمة علي بن
رباح ما موجزه: كان بنو اُمية إذا سمعوا
بمولود اسمه علي قتلوه، فبلغ ذلك رباحاً فقال:
هو عُلَيّ، وكان يغضب من عَليّ ويحرّج على من
سمّاه به.

وقال ابن حجر: قال علي بن رباح:
لا أجعل في حلّ من سمّاني «علي» فإن اسمي
عُليّ. (راجع ترجمته في تهذيب التهذيب 7: 319).

([22])
الكليني، اُصول الكافي 2: 224.

([23])
وسائل الشيعة 11: 493، ح2.

([24])
وسائل الشيعة 11: 493، ح5.

([25])
المصدر: 494، ح7.

([26])
المصدر: 484، ح1.

([27])
المصدر: 484، ح2.

([28])
وسائل الشيعة 11: 484، ح5.

([29])
المصدر: 485، ح1.

/ 1