دراسات
مدى تأثر علماء الفقه والاصول
بالفلسفة
(2)* السيد هاشم الهاشمي
المجال الثاني: القواعد الفلسفية
بعد ان ترجمت الفلسفة والمنطق الىاللغة العربية، وقد بدأت حركة الترجمة
ضعيفة في العهد الاموي، ثم اشتدت في العصر
العباسي وخاصة في عصر المأمون، وكانت الفلسفة
والمنطق من اهم العلوم المنقولة، وقد اغرم
بها العلماء وصار ولعهم بها وباساليبها
شديداً، واثرت في عقولهم، فاخذوا يتناولون
سائر الظواهر العلمية والادبية تناولاً
فلسفياً وعقلياً، كما يلاحظ ذلك في النحو،
حيث فسروا الظواهر النحوية بنظرية العامل
وامثالها، وكذلك في تفسير القرآن الكريم،
والاحاديث الشريفة وغيرها.
ترتبت نتائج واثار على هذا التأثر
بالفلسفة والمنطق، في مجال العلوم النقلية،
والامور الاعتبارية، ذكرها الباحثون، ويمكن
ان يكون بعضها قد ترتّب على الفقه والاصول
نذكر هنا بعض هذه الاثار:
1 ـ تصوروا ان القواعد الفلسفية
والمنطقية عامة، وشاملة تشمل جميع العلوم
والمجالات، ولا تتحدد بمجال وعلم معين.
2 ـ وبما انهم في العلوم النقلية
حاولوا وضع قواعد عامة كالقواعد النحوية، من
اجل حفظ اللسان، واستخدام ابناء اللغة وغيرهم
لها في نطقهم، او القواعد الاصولية، التي يجب
على الفقيه اتباعها لاستنباط الاحكام
الشرعية، وغيرها من قواعد العلوم، وقد تأثروا
في صياغة القاعدة وفي تحديدها، بالقواعد
الفلسفية، او انهم وضعوا لها قواعد فلسفية،
استخدمتها الفلسفة في مجالاتها.
3 ـ تصوروا ان القاعدة النقلية
الاعتبارية كالنحوية والاصولية والفقهية
عامة وشاملة، لا تقبل التخصيص والاستثناء
والتخلف، تماماً كالقاعدة الفلسفية، ومن هنا
وقعوا في مشكلة وجود بعض الشواهد والنصوص
المخالفة لهذه القاعدة كما سنذكره في مجال
الشرط المتأخر، فبحثوا عن علاجها، مع انه
ربما كانت القاعدة النقلية غير القاعدة
العقلية في الشمول.
4 ـ قد تكون هناك ظاهرة او قاعدة نقلية
اخذوها من النص او الاستقراء او السيرة، ولكن
العلماء ونتيجة لتأثير الفلسفة والمنطق،
حاولوا تعليلها وتفسيرها تفسيراً فلسفياً
ومنطقياً او انهم استدلوا عليها باستدلال
فلسفي او منطقي، كما نلاحظ انهم فسروا في
النحو الاعراب، وحركاته وهي امور منصوصة،
تفسيراً فلسفياً بنظرية العلة والعامل،
وأنهم فسروا الاستصحاب وقد دلت النصوص عليه،
بتفسيرات فلسفية وغيرها، ومن هنا وقعوا في
مشكلة وجود الشواهد المنصوصة التي تتخلف فيها
القاعدة، وبذلك تخالف ذلك التفسير الفلسفي
والعقلي لها.
5 ـ ونتيجة لذلك استخدموا في بحثهم
لهذه العلوم النقلية، منهج البحث العقلي
كالقياس، او نهج البحث الاستدلالي، بينما كان
من الجدير استخدام الاستقراء او المنهج
النقلي في دراسة هذه العلوم.
واما عن مدى تاثر علماء الفقه والاصول
بهذه القواعد الفلسفية؟
في البداية يلزم التأكيد على هذه
الملاحظة وهي ان العلماء درسوا النصوص
الشرعية بدقة وعمق، واستخرجوا الكثير من
الاحكام والقواعد الاصولية والفقهية، وكذلك
استخرجوا منها الكثير من الالفاظ والمصطلحات
والمفاهيم الشرعية، المستحدثة او الممضاة من
قبل ا لشارع، واستخدموا في ذلك منهج البحث
النقلي بدقة، من توثيق النصوص وتحقيقها
وفهمها، كما يدل على ذلك علم الرجال والدراية[1]
وخلال بحوثهم الفقهية والاصولية حيث ذكرت
فيها القواعد العلمية الدقيقة لمنهج البحث
النقلي وفي مجال توثيق النصوص وتحقيقها
وغيرها، كما انهم توصلوا الى بعض القواعد
والمفاهيم والمصطلحات من خلال سيرة
المتشرعة، او السيرة العقلائية، او العرف،
كحجية خبر الواحد، وحجية الظواهر وغيرهما. او
من خلال الادلة العقلية، واستخدموا في ذلك
منهجاً في البحث يتلاءم ومجال البحث، من
الاستقراء، او المنهج الاستدلالي، او المنهج
العقلي والطريقة القياسية، وغيرها، اذن
فالمفاهيم والقواعد الاصولية والفقهية، لا
يختص وجودها في النصوص فحسب، ليتحدد عملهم
بالنصوص، والمنهج النقلي، اذ هناك قواعد
واحكام تستفاد من غير النصوص ايضاً، وربما
كانت موجودة فيها، ولكن النصوص انما ذكرتها
امضاء للسيرة، عند العرف والعقلاء، او
ارشاداً للحكم العقلي.
وكان العلماء خاصة يحاولون التجرد عن
كل التأثيرات في مجال دراسة النصوص، وغيرها،
لاجل استخراج القواعد، او استنباط الاحكام،
لتكون نظرتهم نظرة موضوعية خالصة في التوصل
للاحكام الشرعية، ويدل على هذا شدة ورعهم
وعدالتهم في سلوكهم وارائهم وبحوثهم، فانهم
وان استخدموا او استفادوا من القواعد
والمصطلحات الفلسفية والمنطقية او غيرها من
سائر العلوم، ولكن لا يعتمدون الا على تلك
القواعد الفلسفية او المنطقية التي يرون
تاثيرها في عملية الاستنباط والوصول
للقواعد، فهذه الاستفادة لا تؤثر في نظرتهم
الموضوعية، ومنهجيتهم العلمية الخالصة
للشعور بمسؤوليتهم الشرعية في بحثهم
واستنباطهم، ومن هنا رأينا حتى ذوي الاهتمام
الخاص بالفلسفة من العلماء يبذلون اقصى جهدهم
في عدم التأثر بدراساتهم الفلسفية في مجال
الاستنباط، كما هو الملاحظ في بحوثهم
وكتاباتهم، وكما صرّحوا هم بذلك مثل ما رأينا
من تفريق الشيخ الاصفهاني بين الامور
الاعتبارية وغيرها، واختلاف القواعد الجارية
فيها، وكما ذكره المترجمون لامثال هؤلاء
العلماء، او الذين حضروا دروسهم او اطلعوا
على بحوثهم.
ولكن بالرغم من هذه الملاحظة التي
ذكرناها، فان هناك البعض منهم، وربما بصورة
غير مقصودة، ونتيجة للدراسات الفلسفية
والمنطقية والاعجاب بها، حاول تعميم القواعد
والمبادئ الفلسفية التي اجراها الفلاسفة في
التكوينيات الى مجال الفقه والاصول، وهما
غالباً من الاعتباريات كما ذكرنا وسنذكر
الشواهد على ذلك، ولذلك، لاجل اجرائها،
ولاستخدام المصطلحات الفلسفية بما تملكه من
محتويات، كما لم يتمكنوا من معالجة الشبهات
والمشكلات القانونية، فانهم قد اضافوا
مشكلات قانونية جديدة، نتيجة هذا التاثر
بالفلسفة والمنطق في البحث الاصولي والفقهي.
وقد ذكرنا ان هذا التأثر انما نشأ
نتيجة دراسة علماء الفقه والاصول غالباً
للفلسفة ولما تملكه الفلسفة من اغراء وعمق،
ومن هنا ربما بحث عن الفقه والاصول بروح
فلسفية، والنظر الى النصوص او البحوث الفقهية
وغيرها من خلال رؤية فلسفية، وتفسيرها
تفسيراً فلسفياً، وبذلك يفقد الباحث الرؤية
الموضوعية الخالصة، اضافة الى ما ذكره البعض
من عدم صواب بعض الاراء والقواعد الفلسفية في
ذاتها، ولعله لاجل ذلك دعا بعض العلماء الى
تجنب دراسة الفلسفة، لانها ربما اثرت على
الباحث لا شعوريا في دراسته للفقه والاصول
وتفسير النصوص وغيرها، بحيث تنعكس الاراء
الفلسفية في الدراسات الفقهية والاصولية.
ولكن اعترض على ذلك، بان هناك قواعد
ومفاهيم مشتركة بين الفقه والاصول والفلسفة،
وكذلك نلاحظ ان العلماء قد استخدموا في
بحوثهم المصطلحات والاراء الفلسفية
واعتمدوها في الكثير من مسائل الاصول والفقه،
فكان من الضروري لفهم بحوثهم دراسة هذه
المفاهيم والاراء، ثم ان التفاعل والتأثير
المتبادل بين العلوم امر طبيعي، وربما وصلت
بعض العلوم الى نتائج متطورة، وصائبة،
ونظريات يقينية، لها تاثيرها الكبير في علمي
الاصول والفقه، كبعض البحوث اللغوية، او
المنطقية او الفلسفية الحديثة، مما تسلط
الاضواء على البحوث الفقهية والاصولية،
فلماذا نعرض عن الاستفادة من تجارب الاخرين
وجهودهم العلمية، مع تاثيرها في عملية
الاستنباط، واستخراج القواعد والاصول؟!
بالاضافة لما تفيده الفلسفة من ترويض
الباحث وتعويده على التعمق في البحث، والقوة
في التفكير، كما ان البعض لم يتفهم الاراء
والمسائل الفلسفية حق الفهم، لذلك اعترض على
بعض المسائل الفلسفية وانها غير صائبة، اضافة
لما تملكه الفلسفة والمنطق من معطيات في غير
مجالي الفقه والاصول كما في مجال الاستدلال
على المعتقدات الاسلامية والدفاع عنها،
ومواجهة الفلسفات والمبادئ المنحرفة، هذه
وغيرها من الادلة التي يبرر بها دراسة
الفلسفة والمنطق، طبعاً وان هناك من ناقش هذه
الادلة.
وبالرغم من هذه الاراء المختلفة
والمتضاربة في هذا المجال، فان هناك نقاط
اختلاف بين الفلسفة والاصول والفقه،
ومجالهما كما اعترف بها العلماء، وعدم التنبه
لها، ادى الى ظهور بعض المشكلات الاصولية
والفقهية.
اذن، فقد طبق البعض قواعد وقوانين
الامور التكوينية على الامور الاعتبارية*.[2]
ولكن الذي يجب علينا قوله، ان بعض
علمائنا، وخاصة المتاخرين منهم، قد تنبهوا
لهذا التأثر بالفلسفة، واختلاط المفاهيم
والمسائل الفلسفية بالاصولية والفقهية مع
اختلاف مجالهما، لذلك اعترضوا في مسائل عديدة
على مثل هذا التأثر، وهناك شواهد عديدة على
اعتراضاتهم نذكر نماذج منها وقد اشرنا الى
بعضها خلال هذا المقال.
منها اعتراض البعض منهم، على ادخال
مشكلة الشرط المتاخر في علمي الفقه والاصول،
لان مجالها الفلسفة وعالم التكوين، لا عالم
الاعتبار، وسنوضح هذا الاعتراض اكثر.
وقد اعترض البعض على صاحب الكفاية
بحثه عن مسألة الجبر والتفويض في علم الاصول.
كما اعترضوا على بعض ارائه في هذا الموضوع.
واعترضوا على تاثير فكرة السنخية بين
العلة والمعلول وقاعدة الواحد لا يصدر منه
الا الواحد في موضوع علم الاصول، وفي بعض
المسائل الاصولية والفقهية.
وكذلك اعترض على ما ذكرناه، من اعتماد
اتحاد الموضوع في الاستصحاب على الفكرة
الفلسفية (قيام العرض في الخارج بلا موضوع
محال)، بان مجال هذه الفكرة هو التكوين لا
الاعتبار[3] وهو يؤكد ما
ذكرناه من اختلاف مجال العلمين.
ومنها اعتراضهم على القول بالتضاد بين
الاحكام الخمسة، بان التضاد تختص استحالته
بالامور التكوينية، واما الامور الاعتبارية
فهي خفيفة المؤونة، خاضعة لاعتبار المعتبر،
ولا تشملها احكام وقوانين الامور التكوينية،
ولكنهم ذكروا بانه يمكن لنا ان نتصور مجالات
تكوينية للاحكام الشرعية والاعتبارية، وهي
مبادئها اي الملاكات من المصالح والمفاسد، او
غاياتها، وهي مجال الامتثال[4]،
وهذان المجالان تكوينيان، يمكن القول
باستحالة التضاد فيهما، واجراء الاحكام
التكوينية فيهما.
ومنها: ما ذكرناه من اعتماد بحث اجتماع
الخيارين في آن واحد على القاعدة الفلسفية (استحالة
اجتماع علتين على معلول واحد)، فقد ناقشه
المحقق النائيني مناقشة دقيقة[5]، ترجع لما ذكرناه
من الفرق بين المجال التكويني حيث تجري فيه
هذه القواعد الفلسفية، والمجال الاعتباري
حيث لا مجال فيه لهذه القواعد الفلسفية
التكوينية.
ومما يدل على توجه علمائنا وحتى
السابقين منهم الى هذا الاختلاف بين التكوين
والفلسفة وعالم التشريع والاعتبار، هذه
الفكرة التي تتردد كثيراً في كتبهم ومنذ
القديم في الفقه والاصول (ان الاسباب الشرعية
معرفات لا علل او لا مؤثرات)[6]،
وهذا يدل على ارادة معنىً آخر غير معناها
الفلسفي المصطلح، وانما استخدموا اللفظ
الفلسفي للتعبير عن هذا المعنى الاخر.
وفي فوائد الاصول (ان قياس باب
الانشائيات بباب التكوينيات في غير محله، فان
التكوينيات زمام الانكسار ليس بيد الكاسر بل
الذي بيده هو الكسر واما الانكسار فيحصل
قهراً، وهذا بخلاف باب المنشئات فانها امور
اعتبارية، ويكون زمامها بيد المعتبر النافذ
اعتباره، وله ايجادها على اي وجه اراد)[7].
وفي المحاضرات (وعلى الجملة فباب
الاحكام الشرعية باب الاعتبارات، وهو اجنبي
عن باب التأثير والتأثر، ولا صلة لاحد
البابين بالاخر ابداً، فلا مانع من تقييد
الشارع متعلقها بامر متاخر كما انه لا مانع من
تقييدها بامر مقارن او متقدم، .. ولا وجه لتوهم
استحالة القيد المتاخر الا من ناحية اطلاق
الشرط عليه زاعماً ان المراد منه ما كان له
دخل في تاثير المقتضي فيكون من اجزاء العلة
التامة، فلا يعقل تاخره عن وجود المعلول، ومن
ذلك يظهر ان المغالطة في المقام انما نشأت عن
الاشتراك اللفظي حيث قد اخذ الشرط في الصغرى
وهو قوله هذا شرط، بمعنى وفي الكبرى وهي قوله
كل شرط مقدم على المشروط بمعنىً آخر، فلم
يتكرر الحد الوسط وبدونه فلا نتيجة)[8].
وهذا النص من شواهد ما ذكرناه، من
تاثير استخدام الالفاظ والمصطلحات الفلسفية
بمجالها من معنىً فلسفي في مجال الفقه
والاصول، حيث يشتبه الامر على الباحث والقارئ
فيفهم من هذا المصطلح معناه الفلسفي، ويحاول
استخدامه بما له من محتوى في المجال الشرعي،
او يحاول تطبيق القانون الفلسفي، في المجال
الشرعي، والاعتباري، ونتيجة لذلك نشأ من
مشاكل الشرط المتأخر، والاجازة في بيع
الفضولي بناءً على الكشف او البحث عن موضوع
واحد لعلم الاصول اتباعاً لقاعدة الواحد
وامثالها.
وذهب صاحب الجواهر في باب اجازة البيع
الفضولي الى ان استحالة تاثير المتاخر في
المتقدم سبباً كان او شرطاً تختص بالامور
العقلية، واما الاعتباريات ومنها المجعولات
الشرعية فليست مجرى هذه القاعدة[9].
وذكر المرحوم الامام السيد البروجردي
(ان ورود الاشكال ـ اشكال الشرط المتاخر ـ وان
كان مما لا ينكر ولكنه بالاضافة الى الامور
الخارجية والعلل الحقيقية ومعلولاتها لا
بالنسبة الى الامور الاعتبارية والاضافات
المنتزعة عن امور مثل العبادات ومعلولاتها)[10].
وبعبارة اخرى: ان الشروط الشرعية ليست
كالشروط العقلية بحيث يستحيل فيها تاثير
اللاحق في السابق، فيمكن ان يكون الامر
المتاخر او السابق شرطاً موثراً في الامر
السابق او المتاخر، كما وقع ذلك في موردين، في
غسل المستحاضة، وفي اجزاء العبادات
التدريجية كالصلاة[11].
واعترض الشيخ الانصاري على صاحب
الجواهر: بانه لا فرق فيما فرض شرطاً او سبباً
بين الشرعي وغيره، وتكثير الامثلة لا يوجب
وقوع المحال العقلي. فلا فرق بين ان يكون
المشروط امراً خارجياً، او امراً شرعياً، في
استحالة تاثير المعدوم.
وقد ذكر المحقق النائيني (ان حكم العلل
التشريعية حكم العلل التكوينية) فانه بعد
اعتبار الشارع السببية لشيء ما، اما ابتداءً
أو بالتبع ، بحيث يتوقف شيء على شيء آخر، فلا
يعقل، بعد هذا الاعتبار، ان يتحقق المسبب
بدون سببه ويكون له حكم الاسباب الحقيقية بعد
الجعل والاعتبار، بحيث يتوقف وجود المسبب
الشرعي على سببه الشرعي، كتوقف المسبب
الحقيقي والعقلي على سببه، (فالشارع انشأ
السببية للايجاب والقبول والرضا فبدون تحقق
جميع اجزاء السبب لا يعقل تحقق المسبب، وما
يقال من ان الاسباب الشرعية معرفات لا علل لا
يستقيم في المقام لانها علة كالعلة التكوينية
بل هي هي بناءً على قابلية تعلق الجعل
بالسببية نعم هذا التعبير صحيح في علل
التشريع)[12].
ولعل هذا هو مراد الشيخ الانصاري في
اعتراضه على صاحب الجواهر، وانه بعد الاعتبار
يكون الشرط والسبب الحقيقي كالسبب الشرعي،
ولكن الفرق بينهما، في اصل هذا الشرط، او
السبب وواقعه، فان الاسباب الاعتبارية
والشرعية، يكون انشاؤها وايجادها، وزمام
امرها، ووضعها ورفعها بيد المعتبر والشارع،
حيث له اعتبارها او رفع الاعتبار عنها بعد
ذلك، وكذلك له اعتبارها على اي وجه اراد، واما
الاسباب الحقيقية التكوينية، فليست خاضعة
لاعتبار المعتبر بما هو معتبر، وبهذا التفسير
نجمع بين كلمات المحقق النائيني وغيره، الذي
عبر احيانا باختلاف الامور الاعتبارية عن
الامور الحقيقية، وعبر أيضاً ان العلل
الشرعية كالعلل العقلية اي بعد جعلها
واعتبارها.
ولكن يمكن القول، بان الاسباب
الشرعية، وان شابهت الاسباب التكوينية
والعقلية، بعد الجعل والاعتبار، ومن حيث توقف
المسبب عليها، ولكن يبقى فرق بينهما، بان
السبب التكويني، ما يكون المسبب ناشئاً منه
حقيقة، كحصول الاحراق او الحرارة من النار،
واما المسبب الشرعي فليس كذلك، فليس وجوب
صلاة الظهر ناشئاً حقيقة من الزوال، وانما
اوجده الشارع المعتبر بلحاظ ملاكاته، واما
الزوال فهو معرف وعلامة على حصوله. ولسنا في
مجال البحث عن هذه المطالب، فتراجع بحوث
علمائنا المحققين في ذلك.
ومن خلال ذلك كله، يمكن لنا ان نذكر
العوامل التالية التي تبرر استخدام العلماء
للمفاهيم والقواعد الفلسفية، مع التأكيد على
ما ترتب على هذا الاستخدام من شبهات في مجال
الفقه والاصول:
1 ـ الاستفادة من القواعد المنطقية او
الفلسفية في طريقة الاستدلال، دون ان يكون
لها دور حقيقي في استنباط الحكم بحيث تكون من
مقدماته، كما يلاحظ اعتمادهم على المنطق
والطريقة القياسية، او الاستقراء في هذا
المجال.
2 ـ التعبير عن الامور الاعتبارية
والقانونية بالمفاهيم والقواعد الفلسفية،
دون ارادة محتوياتها الفلسفية، لما ذكرناه من
اسباب دفعتهم الى هذا التعبير.
3 ـ وجود قواعد مشتركة في كلا
المجالين، الاعتباري والحقيقي، كما ذكرناه
من ذهاب البعض الى ان العلل الشرعية كالعلل
العقلية، والمؤثرات الحقيقية، فتشملها قواعد
ومفاهيم الموجودات الحقيقية، امثال توقف
المعلول على العلة، واستحالة تاثير المعدوم
وامثالها.
4 ـ ارجاع الامور الاعتبارية الى امور
تكوينية، وموجودات حقيقية لتصدق عليها
القواعد والمفاهيم الفلسفية، كما ذكرنا في
ملاحظة الاحكام الشرعية من حيث المبدأ
والملاك ومصالحها ومفاسدها، او من حيث
المنتهى ومقام الامتثال، وكذلك ما قيل بان
الطلب الانشائي والاعتباري لا يقبل التشكيك،
لان التشكيك من احكام الموجودات الخارجية،
ولكن لو لاحظنا منشأ هذا الطلب وهو الارادة
الحقيقية فانها تقبل التشكيك، وغير ذلك، مما
يمكن تصور مجال حقيقي وتكويني لتملك الامور
الاعتبارية، لتصدق عليها تلك المبادئ
والقواعد.
5 ـ ما ذكرناه من اختلاف مصدر الحكم
والقاعدة، من النقل او السيرة، او الدليل
العقلي وهذا يفرض الاختلاف في منهج البحث،
والقواعد والاسس التي يعتمد عليها الباحث في
الوصول للحكم او القاعدة.
وغير ذلك من العوامل التي تبرر
استخدام المفاهيم والقواعد الفلسفية
والمنطقية في مجال الامور الاعتبارية والفقه
والاصول.
واخيراً، فاننا حين نلاحظ المفاهيم
والقواعد الفلسفية والمنطقية، فما كان يصلح
منها للاستفادة في الفقه والاصول اذا وجد
ذلك، مع صواب ذلك المبدأ أو المفهوم الفلسفي
والمنطقي لان بعض المبادئ الفلسفية قد شك
فيها حتى في المجال التكويني فنستفيد منه في
هذا المجال اما بالحفاظ على محتواه، حيث يمكن
تطبيق هذا المفهوم او القانون بما له من محتوى
فلسفي ومنطقي في مجال الفقه والاصول، او انه
لو لم يمكن تطبيقه بمحتواه في مجال الفقه
والاصول، فيجب افراغه من ذلك المحتوى
لاختصاصه في عالم التكوين، وعلم الفلسفة،
واعطائه محتوىً جديداً يتلاءم والمجال
الاعتباري، وعلم الفقه والاصول ـ مع التنبيه
على ذلك حتى لا يشتبه المعنى على القارئ او
الباحث ـ حيث لا يمكن استخدام الفاظ اخرى في
هذا المجال، او لتعود العلماء على هذه
المصطلحات المعينة وتجذرها في بحوث الفقه
والاصول بحيث يصعب التخلي عنها.
([1])
تلاحظ مقدمة في المنهج: 79.
هامش
الصفحة اللاحقة (138):
(*) وهناك شواهد لذلك نذكر بعضها.
يلاحظ (المدخل في علم الاصول) وقد استفدت من
هذا البحث القيم في بعض اراء هذا المقال.
منها: قانون عدم معقولية تقدم
المعلول على علته زمانا، وهو من القوانين
الواضحة الضرورية، اذ من الواضح عدم امكان
تقدم المعلول التكويني زماناً على علته، لان
العلة لا بد ان تكون مقارنة للمعلول، واجزاء
العلة وان كان لها احيانا سبق زماني على
المعلول، ولكن لا يمكن ان تتاخر زمانا عنه،
ومن هنا تساءلوا كيف يؤثر الشرط المتاخر على
الامر المتقدم عليه، في الامور الاعتبارية
والقانونية، مع ان المتاخر زمنياً لا يمكن
له التاثير في المتقدم؟ فهذا القانون
الفلسفي حيث طبق في علم الاصول والفقه، قد
خلق مشكلة عويصة هي مشكلة الشرط المتاخر،
ومن مواردها في الفقه، موضوع الاجازة في بيع
الفضولي بناء على الكشف، وغسل المستحاضة
ليلاً الذي يكون شرطاً في صحة صومها ذلك
اليوم.
ومنها: مسألة الكشف الانقلابي
في البيع الفضولي فقد ذهبوا لبطلانه اتباعاً
للقانون القائل بان الشيء لا ينقلب عما وقع
عليه، وكذلك مسألة تبديل الامتثال الذي
يتعرض له في بحث الاجزاء، حيث قالوا بعدم
معقوليته اتباعاً لهذا القانون، وهو من
القوانين المرتبطة بالتكوينيات، ولكنه
استخدم في علم الاصول.
ومنها: قانون استحالة اجتماع
الضدين والمثلين الذي اعترف به الفلاسفة في
التكوينيات، طبق في علم الاصول، حيث اعتبر
من مقدمات امتناع اجتماع الامر والنهي، كما
في الكفاية، حيث ذهب الى التضاد بين
الاحكام، مع انه لا يوجد التضاد في
الاعتباريات، وكذلك في مسألة الجمع بين
الحكم الظاهري والواقعي، في بحث الامارات،
ذكر اشكال التضاد بين الحكم الواقعي
والظاهري.
ومنها: قانون استحالة الاهمال
في الواقعيات، اذ لا معنى للاهمال في الامور
الخارجية والواقعية، لان الوجود مساوق
للتشخص، وكل شيء غير متشخص فهو غير موجود،
وقد حاولوا تطبيق هذا القانون الفلسفي في
الاعتباريات، في بحث المطلق والمقيد، وانه
لا بد من الاطلاق او التقييد، اذ لا يعقل
الاهمال، ولكن الاهمال غير معقول في
الواقعيات، واما في الاعتباريات، فهل هو
كذلك ام لا؟.
ومنها: قانون استحالة تحقق
العرض بدون معروض، حيث ينقل عن الشيخ
النراقي في بحث البيع، انه انكر تمليك الكلي
في الذمة، لان الملكية سوف تتقوم بامر
معدوم، وكيف يعقل تقوم العرض بامر معدوم؟
ومنها: ما ذكر، بان انطباق
الماهيات على افرادها في التكوينيات غير
خاضع للجعل، لان هذا الانطباق قهري، وقد
استخدم هذا القانون في تطبيق المفاهيم
الكلية الاعتبارية على افرادها الاعتبارية،
مع انه ربما كان التطبيق خاضعاً للجعل
والاعتبار، حيث يختلف عن تطبيق الكلي
الخارجي التكويني على افراده التكوينية.
ومنها: استحالة التفكيك بين
الملازم والملزوم، فانه في عالم التكوين
يستحيل التفكيك بين النار والحرارة مثلاً،
ولكن هل يمكن التفكيك بين الملزوم الاعتباري
ولازمه الاعتباري ام لا؟، ومن هنا نشأت فكرة
الاصل المثبت في علم الاصول.
ومنها: ما ذكر في الروضة في كتاب
الطلاق، حين البحث عن الرجعة وانها هل تعيد
النكاح ام لا، حيث ذكر بان البعض ذهب الى عدم
عودته. (لانه محال، لاستحالة اعادة المعدوم)،
فان النكاح قد انعدم بالطلاق فكيف يعاد مرة
اخرى، وهذا قانون فلسفي وهو استحالة اعادة
المعدوم.
ومنها: ما ذكروه من لزوم وجود
جامع في بحث الصحيح والاعم، وذلك لان الاثر
واحد، فلا بد ان يكون المؤثر واحداً، وهذا
تطبيق للقانون الفلسفي، وهو ان الواحد لا
يصدر منه الا الواحد.
ومنها: ما نقله الشيخ الانصاري
في بحث الخيارات، حول مبدأ خيار الحيوان،
وان مبدأه العقد، او الافتراق، فانه لو قلنا
ان مبدأه العقد لزم اجتماع خيارين في وقت
واحد، خيار المجلس وخيار الحيوان (فانه لو لم
نلتزم بانفكاك خيار الحيوان عن خيار المجلس
يلزم احد المحذورين على سبيل منع الخلو،
وهما اجتماع المثلين، واجتماع سببين على
مسبب واحد، وكلاهما محال)، حيث ان اجتماع
السببين على مسبب واحد مخالف لقاعدة الواحد.
وقد اعترض عليه بعض المتاخرين:
بان الاحكام الشرعية، ليست اسبابا حقيقية،
حتى تجري فيها قوانينها، بل هي امور
اعتبارية، وسيأتي مزيد توضيح لهذا الاعتراض.
وقد ناقش الشيخ هذا القول ايضاً
بما يظهر منه توجهه الى عدم خلط الامور
التكوينية بالامور الاعتبارية (ويرد
التداخل بان الخيارين ان اختلفا من حيث
الماهية فلا بأس بالتعدد، وان اتحدا فكذلك،
اما لان الاسباب معرفات، واما لانها علل
ومؤثرات يتوقف استقلال كل واحد منها في
التأثير على عدم مقارنة الاخر وسبقه فهي علل
تامة الا من هذه الجهة).
ومنها: ما نقله الشيخ الانصاري
عن فخر المحققين في الايضاح، في بحث خيار
المجلس، فيما لو اكره احدهما على التفرق
وبقي الاخر باختياره، فهل يتحقق الافتراق؟
حيث ذكر عدة قواعد فلسفية قال: (ان هذا مبني
على بقاء الاكوان وعدمه، وافتقار الباقي الى
المؤثر وعدمه. وان الافتراق ثبوتي او عدمي،
فعلى عدم البقاء، او افتقار الباقي الى
المؤثر يسقط، لانه فعل المفارقة، وعلى القول
ببقائها واستغناء الباقي عن المؤثر وثبوتية
الافتراق لم يسقط خياره، لانه لم يفعل
شيئاً، وان قلنا بعدمية الافتراق والعدم ليس
بمعلل فكذلك، وان قلنا انه يعلل سقط ايضاً،
والاقرب عندي السقوط، لانه مختار في
المفارقة) ويلاحظ في هذا النص الاستفادة من
قواعد فلسفية عديدة.
وقد علق الشيخ الانصاري عليه (وهذا
الكلام وان نوقش فيه بمنع بناء الاحكام على
هذه التدقيقات..) مما يدل على توجه علمائنا
الى اختلاف الامور التكوينية وقوانينها، عن
الامور الاعتبارية واحكامها.
ومنها: ما ذكره الشيخ الانصاري
في خيار الغبن في مسألة تصرف المغبون هل يسقط
خيار الغبن ام لا؟ وجهان (وربما يبنيان على
ان الزائل العائد كالذي لم يزل او كالذي لم
يعد)، وهذه مسألة فلسفية، وهي مسألة امتناع
اعادة المعدوم.
وغيرها من المسائل والاحكام
الاصولية والفقهية التي اعتمد فيها على
قواعد ومفاهيم فلسفية، يضيق المجال لو
تعرضنا اليها جميعاً.
هوامش
الصفحات السابقة:
([3]) مصباح الاصول 3 : 228.
([4])
مصباح الاصول 2 : 108.
([5])
منية الطالب 2 : 34.
([6])
التنقيح الرائع 2 : 45، وكذلك يلاحظ قواعد
الشهيد.
([7])
فوائد الاصول 1 : 176.
([8])
المحاضرات 2 : 309.
([9])
الجواهر 22 : 289.
([10])
الحاشية على كفاية الاصول 1 : 238.
([11])
محاضرات في الفقه الجعفري 2 : 341.
([12])
منية الطالب 1 : 236.