من سیرة أهل البیت (ع) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

من سیرة أهل البیت (ع) - نسخه متنی

السیدعلی حسینی الخامنه ای؛ مترجم: محمدعلی آذر شب

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

من سيرة اهل البيت (عليهم
السلام)( 2 )*


قيادة الامام الصادق ((عليه السلام))


ولي أمر المسلمينآيـة اللّـه
السيدالخامنئي(دام ظله)

ترجمة: د. محمد عليآذرشبحياة الامام
الخامس من ائمة آل البيت محمد الباقر(عليه
السلام)استمرار منطقي لحياة الامام السجاد(عليه
السلام)اصبح اتباع أهل البيت مجموعة متميزة
ذات وجود مستقل، ودعوة أهل البيت التي
اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميك بسبب
حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية
كوقعة الحرّة وثورة التوابين وبسبب بطش
الامويين، قد اصبح لها وجود منتشر وواضح في
كثير من الاقطار الاسلامية خاصة في العراق
والحجاز وخراسان، واصبح لها «تنظيم» فكري
وعملي. وولت تلك الايام التي قال الامام
السجاد(عليه السلام) عنها: إن أتباعه ما كانوا
يزيدون فيها على عشرين شخصا. واضحى الامام
الباقر(عليه السلام) يدخل مسجد النبي(صلى الله
عليه وآله) في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من
أهل خراسان وغيرها من اصقاع العالم الاسلامي،
يسألونه عن رأي الاسلام في مختلف شؤون الحياة.
ويفد عليه امثال طاووس اليماني وقتادة بن
دعامة وابو حنيفة وآخرون من أئمة المذاهب
الفقهية لينتهلوا من علم الامام أو ليحاجّوه
في أمور مختلفة. وبرز شعراء يدافعون عن مدرسة
اهل البيت، ويُعبّرون عن أهدافها، منهم
الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية
في تصوير الولاء الفكري والعاطفي لال بيت
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله). وتناقلت
الالسن هذه الروائع الادبية وحفظتها الصدور.
ومن جهة أخرى فان خلفاء بني مروان أحسّوا خلال
هذه الفترة بنوع من الطمأنينة، وشعروا
بالاستقرار بعد أن استطاع عبدالملك بن مروان (ت
86 هـ ) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاما
أن يقمع كل المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء
المروانيين في هذا العصر بالامن والاطمئنان
الى أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا
كأسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما ادى الى
انشغالهم باللهو والملذات التي تصاحب الشعور
بالاقتدار والجاه والجلال.مهما يكن الامر فان
حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة اهل البيت
قد قلّت في هذا العصر، واصبح الامام واتباعه
في مأمن تقريبا من مطاردة الجهاز الحاكم.وكان
من الطبيعي أن يقطع الامام خطوة رحبة في ظل
هذه الظروف على طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل
البيت، ويدفع بالتشيع نحو مرحلة جديدة. وهذا
ما يميّز حياة الامام الباقر(عليه السلام).ويمكن
تلخيص حياة الامام الباقر(عليه السلام) خلال
الاعوام التسعة عشر من امامته (95 ـ 114 هـ ) بما
يلي:ابوه الامام السجاد(عليه السلام) عندما
حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمدا إماما
من بعده في حضور سائر ابنائه وعشيرته وسلّمه
صندوقا.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم..
وتذكر أن فيه سلاح رسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) وقال له: «يا محمد هذا الصندوق فاذهب به
الى بيتك. ثم قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولا
درهم، ولكنه كان مملوءا علما»[1].
لعل هذا الصندوق يرمز الى أن الامام السجاد
سلم ابنه محمدا مسؤولية القيادة الفكرية
والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلمه
مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي).ومع بدء
الامام واتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم
أهل البيت(عليهم السلام)، يتسع نطاق انتشار
الدعوة، ويتخذ ابعاداً جديدة تتعدى مناطقها
السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعا
في اصقاع بعيدة عن مركز السلطة الاموية،
وخراسان في مقدمة تلك البقاع كما تحدثنا
الروايات التاريخية[2].ان
الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان
يدفع الامام واتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف
الكلل والملل من أجل تغيير هذا الواقع
والنهوض بالواجب الالهي إزاء هذا الانحراف.إنهم
يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي
أشاعه بنو أمية، فغرقوا الى الاذقان في
مستنقع حياة آسنة موبوءة، حتى أضحوا كحكامهم
لا يفقهون قولا، ولا يصيخون لنصيحة سمعا «إن
دعوناهم لم يستجيبوا لنا»[3].ومن
جهة اخرى يرون دراسات الفقه والكلام والحديث
والتفسير تنحو منحى استرضاء الطاغوت الاموي
وتلبية رغباته. ومن هنا فان كل ابواب عودة
الناس الى جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض
مدرسة اهل البيت بواجبها «وإن تركناهم لم
يهتدوا بغيرنا»[4].اتجهت
مدرسة أهل البيت فيما اتجهت الى تقريع اولئك
الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في
محاولة الى ايقاظ ضمائرهم أو ضمائر اتباعهم
من عامة الناس.نرى الامام يقول للكميت الشاعر
مؤنباً:«امتدحت عبدالملك؟» قال: ما قلت له يا
إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد والاسد كلب، ويا
شمس والشمس جماد، ويا بحر والبحر موات، ويا
حيّة والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل وإنما هو
حجر أصمّ. فتبسم الامام وأنشد الكميت بين يديه:من
لقلب متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام[5]

وبهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين
الاتجاه العلوي والاتجاه الاموي في المكانة
والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة.وعكرمة
تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة
العلمية المرموقة في المجتمع آنذاك، يذهب
لمقابلة الامام، فيؤخذ بهيبة الامام وشخصيته
ووقاره ومعنويته وفكره، فيقول له: «يا ابن
رسول اللّه لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن
عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفا».فقال
له الامام: «إنك بين يدي بيوت أذن اللّه أن
ترفع ويذكر فيها اسمه»[6].ومن
الابعاد الاخرى لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه
المرحلة سرد ما احاط بأهل بيت رسول اللّه
وأتباعهم من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب
في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة،
وتحريك ضمائرهم الرخوة، واستنهاض عزائمهم
الراكدة، وتوجيههم وجهة ثورية حركية.عن
المنهال بن عمر قال: كنت جالساً مع محمد بن علي
الباقر(عليه السلام) اذ جاءه رجل فقال له: كيف
انتم؟ فقال الامام الباقر:«أوما آن لكم أن
تعلموا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الامة مثل
بني اسرائيل، كان يذبّح أبناؤهم وتستحيا
نساؤهم، ألا وإن هؤلاء يذبحون أبناءنا
ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلا على
العجم، فقالت العجم: وبما ذلك؟ قالوا: كان
محمد منا عربيا. قالوا لهم: صدقتم. وزعمت قريش
أن لها فضلا على غيرها من العرب، فقالت لهم
العرب من غيرهم: وبما ذاك؟ قالوا: كان محمد
قرشيا. قالوا لهم: صدقتم. فان كان القوم صدقوا
فلنا فضل على الناس لانا ذرية محمد، واهل بيته
خاصة وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرنا. فقال له
الرجل: واللّه إني لاُحبكم أهل البيت. قال:
فاتخذ للبلاء جلبابا، فواللّه إنه لاَسرع
الينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا
يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم»[7].فما
إن بدت على الرجل علامات الهياج جرّاء
استثارات الامام حتى سارع الامام الى رسم
الطريق أمامه. إنه طريق مفروش بالدماء
والدموع، والامام رائد المسيرة على هذا
الطريق يصيبه البلاء أولاً قبل أن يصيب شيعته.وفي
دائرة أضيق نرى أن علاقة الامام بشيعته
تتخذ خصوصيات متميزة، نراه بين هؤلاء الاتباع
كالدماغ المفكر بين اعضاء الجسد الواحد،
يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط
باستمرار.وتتوفر بأيدينا وثائق تبين هذا
الارتباط متمثلا باعطاء المفاهيم والتعاليم
الصريحة لهؤلاء الاتباع، وبتنظيم مترابط
محسوب بينهم.منها وصية الامام الباقر(عليه
السلام) لجابر الجعفي في اول لقاء له بالامام
أن لا يقول لاحد أنه من الكوفة، وليظهر بمظهر
رجل من أهل المدينة. وبذلك يعلّم هذا التلميذ
الجديد، الذي لمس الامام فيه قدرة على حفظ
الاسرار، درس الكتمان.. وهذا التلميذ الكفوء
أصبح بعد ذلك صاحب سرّ الامام. ويبلغ به الامر
مع الجهاز الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير:«كنت
ملازما لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنّا
بالمدينة، دخل على أبي جعفر(عليه السلام)فودّعه
وخرج من عنده وهو مسرور، حتى وردنا الاخيرجة (من
نواحي المدينة) يوم جمعة فصلينا الزوال فلما
نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم (أسمر)
معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه على عينيه،
واذا هو من محمد بن علي (الباقر) الى جابر بن
يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متى عهدك
بسيّدي؟ فقال: الساعة فقال له: قبل الصلاة أو
بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. قال: ففكّ
الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتى أتى على
آخره، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكا ولا
مسرورا، حتى وافى الكوفة.يقول النعمان بن
بشير: فلما وافينا الكوفة ليلا بتّ ليلتي،
فلما أصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاما له
فوجدته قد خرج علي وفي عنقه كعاب قد علقها وقد
ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجد
منصور بن جمهور.. أميرا غير مأمور وأبياتا من
نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي
شيئا، ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته،
واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى
دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس
يقولون: جُنّ جابر بن يزيد. فو اللّه ما مضت
الايام حتى ورد كتاب هشام بن عبدالملك الى
واليه أن انظر رجلا يقال له: جابر بن يزيد
الجعفي فاضرب عنقه وابعث اليّ برأسه. فالتفت
الى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟
قالوا: أصلحك اللّه كان رجلا له علم وفضل
وحديث، وحج فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان
على القصب يلعب معهم. قال: فأشرف عليه فاذا هو
مع الصبيان يلعب على القصب. فقال: الحمد للّه
الذي عافاني من قتله»[8].هذا
نموذجٌ من نماذج الارتباط بين الامام وخاصةِ
أتباعه، يوضح دقة التنظيم والارتباط، ويبين
كذلك نموذجا لموقف السلطة الحاكمة من هؤلاء
الاتباع، ويؤكد أن الجهاز الحاكم لم يكن
غافلا تماما عن علاقة الامام باتباعه
المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول
اكتشافها ومجابهتها[9].وبالتدريج
يبرز جانب المجابهة في حياة الامام الباقر(عليه
السلام) وفي حياة الشيعة ليسجل فصلا آخر في
حياة أئمة اهل البيت(عليهم السلام).النصوص
التاريخية الموجودة بين ايدينا وهكذا
الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة
مقاومة سياسية حادة ينهض بها الامام. وهذا
يعود الى عوامل كثيرة منها جوّ البطش
والتنكيل المهيمن على المجتمع مما يفرض عنصر
التقية بين اتباع الامام الذين هم المطلعون
الوحيدون على حياة الامام السياسية.. ولكن
ردود الفعل المتشدّدة التي يبديها العدو تبين
عمق العمل الجهادي. فحين يتخذ جهاز حاكم مقتدر
كجهاز عبدالملك بن مروان، الذي يعتبر اقوى
حاكم أموي، ضد الامام الباقر(عليه السلام)كل
أسباب الشدّة والحدّة، فان ذلك يدل دون شك على
إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جراء
حركة الامام واتباعه. لو كان الامام منهمكا
فقط بنشاط علمي، لا ببناء فكري وتنظيمي، فان
الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع
الامام، لان ذلك يدفع بالامام وبأتباعه الى
موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي
شهيد فخ الحسين بن علي من السلطة.باختصار موقف
السلطة المتشدّد من الامام الباقر(عليه
السلام) يمكن فهمه على أنه رد فعل لما كان
يمارسه الامام من عمل معارض للسلطة.من
الاحداث الهامة في اواخر حياة الامام الباقر(عليه
السلام) استدعاء الامام الى الشام عاصمة
الخلافة الاموية. فالخليفة الاموي أراد أن
يستوثق من موقف الامام تجاه الجهاز الحاكم
فأمر باعتقاله وارساله مخفورا الى الشام. (وفي
بعض الروايات أن الحكم هذا شمل ابنه الشاب
أيضا جعفراً الصادق).يؤتى بالامام الى قصر
الخليفة. وهشام أملى على حاشيته طريقة مواجهة
الامام لدى وروده. تقرر أن يبتدئ الخليفة ثم
تليه الحاشية بالقاء سيول التهم على الامام،
وكان يستهدف في ذلك امرين: اولهما اضعاف
معنويات الامام وخلق حالة من الانهيار النفسي
فيه. والثاني: محاولة ادانة الامام في مجلس
يضمّ زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة
الامامة)، ثم نقل هذه الادانة عن طريق ابواق
البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس
وبذلك يسجل لنفسه انتصارا على خصمه.يدخل
الامام مجلس الخليفة، وخلاف ما اعتاده
الداخلون من السلام على الخليفة بإمرة
المؤمنين، يتوجه إلى كل الحاضرين، ويشير
اليهم جميعا ويقول: السلام عليكم.. ودون أن
ينتظر الاذن بالجلوس يأخذ مكانه في المجلس.
وهذا الموقف من الامام أضرم نار الحسد والحقد
في قلب هشام.. وبدأ هشام على الفور يقول: يا
محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا
المسلمين، ودعا الى نفسه، وزعم أنه الامام
سفها وقلة علم، وجعل يوبّخه[10].وبعد
هشام أخذ أفراد بطانته يرددون مثل هذه التهم
والتوبيخ.. والامام ساكت في كل هذه المدّة
ومطرق بوقار ينتظر فرصة الاجابة.. وحين افرغت
البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت على
المجلس، نهض الامام وتوجه الى الحاضرين، وبعد
أن حمد اللّه واثنى عليه وصلى على نبيه، خاطب
المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيّن تفاهة هذه
البطانة وانقيادها البهيمي كما بيّن فيها
مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير اسلامية،
واستخف بكل ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل
وهيلمان ومكانة وسلطان، فقال:«ايها الناس!
اين تذهبون؟ واين يراد بكم؟ بنا هدى اللّه
أولكم، وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم ملك
معجّل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا
ملك، لانّا أهل العاقبة. يقول اللّه عزّ وجل:
والعاقبة للمتقين»[11].عبارات
تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد واثبات وردّ في
جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض على سامعها
الايمان بحقّانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام
سبيل سوى الامر بسجن الامام.الامام في سجنه
واصل عمله التغييري فأثّر على من معه في السجن.
بلغ الامر هشاما فكَبُر عليه أن يرى حدوث مثل
ذلك في عاصمته المحصّنة من التأثير العلوي.
فأمر أن يؤخذ السجين ومن معه على مركب سريع (البريد)
ويُرسل الى المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته،
وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه
القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو
طعام[12].مرت
ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهى خلالها
ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا «مدين».
وأغلق اهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر
ابواب مدينتهم، وأبوا أن يبيعوا متاعا. اشتد
على أتباع الامام الجوع والعطش. صعد الامام
على مرتفع يطل على المدينة ونادى بأعلى صوته:يا
أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقية اللّه.
يقول اللّه: (بَقية اللّه خير لكم إن كنتم
مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ).يقول الراوي:
وكان بين اهل المدينة شيخ كبير فأتاهم فقال:
يا قوم هذه واللّه دعوة شعيب(عليه السلام).
واللّه لئن لم تخرجوا الى هذا الرجل بالاسواق
لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدّقوني
واطيعوني.. فاني لكم ناصح.استجاب اهل المدينة
لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا الى أبي جعفر
واصحابه الاسواق[13].وآخر فصل في
هذه الرواية يبين أيضاً بطش الخليفة العباسي
وتجبّره. فبعد أن فتح اهل المدينة أبوابها
للامام وصحبه، كُتب بجميع ذلك الى هشام. فكتب
هشام إلى عامله على مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ
فيقتله رحمة اللّه عليه وصلواته[14].ومع
كل ذلك، يتجنب الامام أيّ مواجهة حادّة
ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم. فلا يعمد
الى سيف، ولا يسمح للايدي المتسرعة الى
السلاح أن تشهره، ويوجهها توجيها حكيما، وسيف
اللسان أيضا لا يشهره إذا لم يتطلب عمله
التغييري الاساسي الجذري ذلك. ولا يسمح لاخيه
زيد، الذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه
أيمّا ثورة أن يخرج (يثور) بل يركز نشاطه العام
على التوجيه الثقافي والفكري.. وهو بناء اساس
ايديولوجي في اطار مراعاة التقية السياسية.

ولكن هذا الاسلوب لم يكن يمنع الامام ـ
كما اشرنا ـ من توضيح «حركة الامامة» لاتباعه
الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير وهو إقامة
النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب
هؤلاء، بل يعمد أحيانا الى إثارة عواطفهم
بالقدر المطلوب على هذا الطريق. والتلويح
بمستقبل مشرق من السبل التي مارسها الامام
الباقر(عليه السلام) مع أتباعه. وهو يشير ايضا
الى تقويم الامام(عليه السلام) للمرحلة التي
يعيشها من الحركة.يقول الحكم بن عيينة: بينا
أنا مع أبي جعفر(عليه السلام) والبيت غاص
بأهله إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة (عكازة) له
حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يابن
رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته. ثم سكت فقال
ابو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته.
ثم اقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال:
السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعا،
وردّوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه على الامام
وقال: يابن رسول اللّه أدنني منك جعلني اللّه
فداك. فواللّه إني لاحبكم وأحب من يحبكم،
وواللّه ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا،
وإني لاُبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللّه ما
أبغضه وأبرأ منه لوتر كان بيني وبينه. واللّه
إني لاحلُّ حلالكم واحرّم حرامكم، وانتظر
أمركم، فهل ترجو لي جعلني اللّه فداك؟ فقال
الامام: اليَّ اليَّ، حتى أقعده إلى جنبه ثم
قال:«ايها الشيخ إن ابي عليّ بن الحسين(عليه
السلام) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني
عنه فقال له أبي(عليه السلام): إن تمت ترد على
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وعلى عليّ
والحسن والحسين وعلى عليّ بن الحسين، ويثلج
قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل
بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين... وإن
تعش ترى ما يقرّ اللّه به عينك، وتكون معنا في
السنام الاعلى». قال الشيخ وهو مندهش من عظمة
البشرى: كيف يا ابا جعفر؟ فاعاد عليه الكلام،
فقال الشيخ: اللّه اكبر يا أبا جعفر إن انا متُ
أرد على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وعلى
علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقرُ
عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي واُستقبل بالروح
والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي
ههنا، وإن أعش ارى ما يقرُ اللّه به عيني،
فاكون معكم في السنام الاعلى؟ ثم اقبل الشيخ
ينتحب حتى لصق بالارض. واقبل اهل البيت
ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ
رأسه وطلب من الامام ان يناوله يده فقبلها
ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها الى صدره،
وقام فودّع وخرج والامام ينظر اليه ويقول: «من
أحبّ أن ينظر الى رجل من أهل الجنة فلينظر الى
هذا»[15].مثل
هذه التصريحات، تذكي روح الامل في قلوب تعيش
جوّ الاضطهاد والكبت، فتكسبها زخما ودفعا نحو
الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام
الاسلامي العادل.تسعة عشر عاما من إمامة
الباقر(عليه السلام) تواصلت على هذا الخط
المستقيم المتماسك الواضح.. تسعة عشر عاما من
التعليم الايديولوجي، والبناء، والتكتيك
النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة،
والتقية، واذكاء روح الامل.. تسعة عشر عاما من
مسير شائك وعر يتطلب كثيرا من الجدّ والجهد.
وحين أشرفت هذه الاعوام على الانتهاء واوشكت
شمس عمره المبارك على المغيب، تنفس اعداؤه
الصعداء، لانهم بذهاب هذا القائد الموجّه سوف
يتخلصون من مصدر إثارة طالما قضّ مضاجعهم
وسرق النوم من عيونهم. لكنّ الامام خيّب
آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من
وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة، ووسيلة توعية
مستمرة! لقد وجّه ولده الصادق(عليه السلام) في
اللحظات الاخيرة من حياته توجيها يمثل نموذجا
رائعا من نماذج التقية التي مارسها الامام
الباقر(عليه السلام) والاسلوب الذي استعمله
في مرحلته الزمنية الخاصة. في الرواية عن ابي
عبداللّه الصادق(عليه السلام)قال: «قال لي أبي:
يا جعفر اوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب
تندبنني عشر سنين بمنى أيام منى»[16].وهذه
الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الامام
الباقر وغفلوا عما فيها من دلالات كبيرة. لقد
خلف الامام (800) درهم، وأوصى أن يخصص جزء منها
لمن يندبه في منى.. وندب الامام في منى له معنى
كبير. إنه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان
يشعّ دائما بالتوعية والاثارة وخلق روح
الحماس والمقاومة.واختيار منى بالذات يعني
مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كل
أرجاء العالم الاسلامي، خلال فترة
الاستقرار الوحيدة في موسم الحج. فكل مناسك
الحج يمرّ بها الحاج وهو في حركة دائبة
مستمرة، الاّ في منى حيث يبيت الليلتين او
الثلاث، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع
ويطّلع. وندب الامام في هذا المكان سيثير
التساؤل عن شخصية هذا المتوفّى من هو؟
فيحصلون على الجواب من أهل المدينة الذين
عاصروه. انه من أبناء رسول اللّه واستاذ
الفقهاء والمحدثين. ولماذا يندب في هذا
المكان؟ الم يكن موته طبيعيا؟ من الذي قتله أو
سمّه؟ هل كان يشكل خطرا على الجهاز الاموي؟ و..
و.. عشرات الاسئلة كانت تثار حين يندب الامام
في هذا المكان. ثم يحصل السائلون على الاجابة..
وتنتشر الاخبار في اطراف البلاد واكنافها بعد
عودة الحجيج الى أوطانهم. وكان هناك في مواسم
الحج من يأتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه
التساؤلات مغتنما فرصة تجمع المسلمين، وليبث
روح التشيّع من خلال أعظم قناة إعلامية آنذاك.هكذا
عاش الامام، وهكذا خطط لما بعد وفاته فسلام
عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل
اللّه ويوم يبعث حيا.توفي الامام الباقر(عليه
السلام) وهو في السابعة والخمسين من عمره، على
عهد هشام بن عبدالملك، وهو من اكثر ملوك بني
اُمية اقتدارا. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة
الاموية آنذاك من مشاكل ومتاعب فان ذلك لم
يصرفها عن التآمر على القلب النابض للشيعة أي
الامام الباقر، فأوعز هشام الى عملائه أن
يدُسّوا السمَّ للامام، وحقق بذلك انتصاره في
القضاء على أخطر أعدائه.وتحمّل الامام الصادق(عليه
السلام) مسؤولية مواصلة المسيرة في ظروف
معقّدة وصعبة للغاية.فالانتفاضات تنشب في طول
البلاد وعرضها، والولاة منهمكون بجمع
الاموال والثروات الطائلة[17]، والطاعون
والقحط يضرب مناطق واسعة منها خراسان
والعراق، والجهاز الحاكم يبطش دون رحمة ويخلق
حالة من الذلّ والخنوع بين الناس. والمنشغلون
بالعلوم الاسلامية من فقه وحديث وتفسير لم
يكن خطرهم غالبا يقل عن خطر الساسة والحكام،
وهم الذين يُفترض بهم أن يكونوا ملاذَ الناس
وملجأَهم، كثير من هؤلاء كانوا يدبّجون
الفتاوى ليرضوا السلطان والولاة[18].
وكثيرٌ منهم كانوا يشغلون أنفسَهم ويشغلون
الناسَ بتوافهِ الامور ويُثيرون النزاعات
الكلامية الفارغة التي لا تمت بصلة الى
الاسلام والى معاناة الجماهير.مهمة الامام
الصادق(عليه السلام) في هذه الظروف المظلمة هي
ما ذكرناه بشأن مهمة الامامة، وتتلخص في طرح
الفكر الاسلامي الصحيح، أي تبيين الاسلام كما
جاء في القرآن وسنة رسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) مع مكافحة كل الانحرافات والتشويهات
الجاهلة والمغرضة، وكذلك التخطيط لاقامة
نظام العدالة الاسلامية وصيانة هذا النظام في
حالة إقامته.كلا المهمتين: المهمة الفكرية
والمهمة السياسية تشكلان خطرا كبيرا على
النظام الحاكم. ليست المهمة السياسية وحدها
تثير سخط السلطة فالمهمة الفكرية أيضا تلغي
تلك الافكار والمفاهيم المنحرفة التي قدمها
السلطان ووعاظه باسم الدين الى المجتمع[19].
من هنا فان العملية الفكرية لها الاولوية
لانها تقضي على الزيف الديني الذي يستند اليه
الجهاز الحاكم في مواصلة ظلمه. من جهة اخرى
فان الاوضاع السائدة مستعدة للفكر الشيعي
الثوري والحرب والفقر والاستبداد عوامل
تغذّي روح الثورة، اضف الى ذلك عامل الاجواء
التي وفّرها نشاط الامام الباقر(عليه السلام)
في المناطق القريبة والنائية.ان
الاستراتيجية العامة للامامة هي النهوض
بثورة توحيدية علوية. ومتطلباتها هي:

اولاً: ايجاد مجموعة تحمل فكر الامامة
وتهضمه وتتطلع بشوق الى تطبيقه.

وثانياً: ايجاد مجموعة منظمة مجاهدة
مضحّية.

وهذه المتطلبات تستلزم بدورها نشر
الدعوة في جميع أرجاء العالم وإعداد الارضية
النفسية لتقبل الفكر الاسلامي الثائر في جميع
الاقطار، وتستلزم أيضاً دعوة أخرى لاعداد
افراد مضحين متفانين يشكلون التنظيم السرّي
للدعوة.وهذا هو سرّ صعوبة الدعوة على طريق
الامامة الحقّة. فالدعوة الرسالية التي
تستهدف القضاء على الطاغوت وعلى التفرعن
والتجبّر والعدوان والظلم في المجتمع وتلتزم
بالمعايير الاسلامية، لا بدّ أن تستند الى
ارادة الجماهير وقوّتها وايمانها ونضجها.
خلافا لتلك الدعوات التي ترفع شعار محاربة
الطغاة، وهي تمارس في الوقت نفسه أعمال
الطغاة والظَلَمة في حركتها دون أن تتقيد
بمبادئ أخلاقية واجتماعية، فمثل هذه الدعوات
لا تواجه صعوبات الدعوات الرسالية الهادفة.
وهذا هو سرّ عدم تحقق أهداف حركة الامامة على
المدى العاجل، وهو ايضا سرّ الانتصار السريع
للحركات الموازية لحركة الامامة (مثل حركة
العباسيين).الظروف المساعدة والارضية
المناسبة التي وفّرها نشاط الامام السابق ـ الباقر(عليه
السلام)ـ أدّت الى أن يظهر الامام الصادق(عليه
السلام) ـ في جوّ العذاب الطويل الذي عانى منه
الشيعة ـ بمظهر الفجر الصادق الذي ينتظره
اتباع أهل البيت في سالف أيامهم. والامام
الباقر(عليه السلام) ذكر بالاشارة والتصريح
ما يركز هذا المفهوم.عن جابر بن يزيد الجعفي: «سئل
الامام الباقر(عليه السلام) عن القائم فضرب
يده على ابي عبداللّه(عليه السلام) وقال: هذا
واللّه ولدي قائم آل بيت محمد(صلى الله عليه
وآله)»[20].والقائم
هنا طبعا غير قائم آل محمد في آخر الزمان وهو
المهدي(عليه السلام) الذي تواترت الروايات
لدى كل المسلمين أنه يظهر في آخر الزمان وأنه
الخليفة الثاني عشر من خلفاء رسول اللّه.
القائم هنا بمعناه اللغوي ينطبق على كل من
ينهض بوجه الظلم والاستبداد، وهو اصطلاح
معروف في مدرسة أهل البيت، ولا يعني ذلك أن
يكون القائم بالسيف بالضرورة. بل إنه يقوم
بهجوم ثقيل خطير سواء في اسلوب النشاط الفكري
او التنظيمي او بأية صورة اُخرى تستهدف
مقارعة الظالمين ومهاجمتهم. فالامام الباقر(عليه
السلام) يركز هنا على مفهوم نهوض الامام
الصادق(عليه السلام)بمسؤولية كبيرة تجاه
السلطة القائمة، ولا يركز على النتيجة.. بل في
رواية اخرى يتحدث بلغة تكاد تكون يائسة من
امكان انتصار حركة الامامة على الوضع السياسي
القائم.ومن الروايات التي يركز فيها الامام
الباقر(عليه السلام) على الدور الذي سينهض به
الامام الصادق(عليه السلام) ما رواه ابو
الصباح الكناني قال: «نظر ابو جعفر الى ابنه
ابي عبداللّه فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال
اللّه تعالى: )ونريد أن نمن على الذين
استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم
الوارثين(»[21].ولعل
تصريحات الامام هذه هي التي أشاعت فكرة قيام
الامام الصادق وخلافته بين الشيعة، وجعلت
اصحاب الباقر والصادق(عليهما السلام) يترقبون
ساعة الصفر بين آونة واُخرى.

في رجال الشيخ الكشي رواية يمكن أن
نفهم منها هذه الحالة السائدة بين اتباع أهل
البيت آنذاك:

روى ابن مسكان عن زرارة انهُ سأل ابا
عبداللّه(عليه السلام) عن رجل من اصحابنا مختف
من غرامة. فقال: اصلحك اللّه ان رجلاً من
اصحابنا كان مختفياً من غرامة فان كان هذا
الامر قريباً صبر حتى يخرج مع القائم، وان كان
فيه تأخير صالح غرامةً؟ فقال لهُ ابو
عبداللّه(عليه السلام): يكون، فقال زرارة:
يكون الى سنة؟ فقال ابو عبداللّه(عليه السلام):
يكون إن شاء اللّه، فقال زرارة: يكون الى
سنتين؟ فقال ابو عبداللّه(عليه السلام): يكون
إن شاء اللّه، فخرج زرارة فوطّن نفسه على ان
يكون الى سنتين فلم يكن، فقال: ما كنت ارى
جعفراً الا اعلم مما هو[22].وعبارة
«هذا الامر» في عرف اتباع اهل البيت كناية عن
المستقبل الموعود لهم، أي استلام زمام الحكم
أو القيام بما يقربهم من ذلك كالثورة المسلحة
مثلا. والقائم هو الذي يقود تلك العملية.وفي
رواية اخرى يذكر هشام بن سالم، وهو ايضا من
وجوه الشيعة المعروفة أن زرارة قال له: لا ترى
على اعوادها غير جعفر، قال: فلما توفي ابو
عبداللّه(عليه السلام)اتيته فقلت له: تذكر
الحديث الذي حدثتني به؟ وذكرته له، وكنت اخاف
ان يجحدنيه، فقال: اني واللّه ما كنت قلت ذلك
الا برأيي[23].من
مجموع ما تقدم نفهم أن الامام الصادق(عليه
السلام) كان في نظر أبيه وفي نظر الشيعة مظهر
آمال الامامة والتشيّع. وكأن سلسلة الامامة
قد ادخرته ليجسّد مساعي الامام السجاد
والامام الباقر(عليهما السلام). كأنه هو الذي
يجب أن يعيد بناء الحكومة العلوية والنظام
التوحيدي، يجب أن ينهض نهضة اسلامية أخرى.
الامامان السابقان طويا المراحل الصعبة
الشاقة لهذا الطريق اللاحب وعليه أن يقطع
المرحلة الاخيرة، والظروف ـ كما ذكرنا ـ قد
تهيأت، والامام استثمر هذه الظروف لينهض
برسالته الجسيمة.منذ بداية استلام المسؤولية
حتى الوفاة قضى 33 عاما في جهاد متواصل، وخلال
هذه الاعوام كانت الظروف في مد وجزر، مرّة
تتجه لصالح مدرسة اهل البيت ومرة اخرى
تعاكسها، مرة تبعث على التفاؤل وعلى أن النصر
قريب، ومرة اخرى تشتد الضغوط وتختنق الانفاس
فيخيّل الى أصحاب الامام أن كل الامال قد
تبددت. والامام الصادق(عليه السلام) في كل هذه
الاحوال ماسك بدفّة القيادة بعزم وتصميم
يجتاز بالسفينة عبر هذه الامواج المتلاطمة
الممزوجة بالامل واليأس، لا يفكر الا بما يجب
قطعه في المستقبل من أشواط، باعثا الجد
والنشاط والايمان في اتباعه للوصول الى ساحل
النجاة.ويلزمنا هنا أن نشير الى ظاهرة مؤسفة
تواجه كل الباحثين في حياة الامام الصادق(عليه
السلام)، وهي الغموض الذي يكتنف السنين
الاولى لبدايات إمامة الصادق(عليه السلام)التي
اقترنت بأواخر أيام بني اُمية. كانت حياة
صاخبة متلاطمة مليئة بالحوادث الجسام، يمكن
أن نفهم بعض ملامحها من خلال مئات الروايات.
غير أن المؤرخين والمحدثين لم يعرضوا لنا هذه
الفترة بشكل مرتب منسجم مترابط، ولا بد
للباحث أن يعتمد على القرائن، وأن يلاحظ
التيارات العامة في ذلك الزمان، ويقرن كل
رواية بما حصل عليه من معلومات مسبقة ليفهم
محتوى الرواية وتفاصيلها.ولعلّ أحد أسباب هذا
الابهام يكمن في سريّة حركة الامام واتباعه..
فالتنظيم السري القائم على اُسس صحيحة يجب أن
تبقى المعلومات عنه سرية مخفية، وأن لا يطلع
عليها من هو خارج التنظيم. ولا تنتشر هذه
المعلومات الا بعد أن تحقق الحركة انتصارها.
ومن هنا تتوفر لدينا معلومات وافية عن تفاصيل
الاتصالات السرية في حركة العباسيين، لان
حركتهم انتصرت. ولا شك أن حركة أهل البيت لو
قُدّر لها أن تنتصر وتستلم زمام الامور
لاطلعنا اليوم على أسرار تنظيمها الواسع.وثمة
سبب آخر يمكن أن يكون عاملا في هذا الغموض هو
أن المؤرخين كانوا يدوّنون عادة ما يرضي
السلطان، ولذلك نرى في كتبهم تفاصيل حياة
الخلفاء ولهوهم ولعبهم وسهراتهم ومجالس
طربهم، بينما لا نرى شيئاً يؤبه له بشأن
الثائرين والمظلومين والمسحوقين، لان مثل
هذه المعلومات تحتاج من الباحث أن يتحرى
ويبحث ويخاطر، بينما حياة الخلفاء مادة جاهزة
وغنيمة باردة تكسب الرضا وتستدر العطاء.والمؤرخون
الخاضعون للخلافة العباسية استمروا يكتبون
على هذا المنوال مدة خمسمائة سنة بعد حياة
الامام الصادق(عليه السلام)، ومن هنا لا يمكن
أن نتوقع العثور على شيء معتد به من المعلومات
عن حياة الامام الصادق(عليه السلام)أو أي إمام
من أئمة الشيعة في مثل هذه المصادر.الطريق
الوحيد الذي يستطيع أن يهدينا الى الخط العام
لحياة الامام الصادق(عليه السلام)هو اكتشاف
المعالم الهامة لحياة الامام من خلال الاصول
العامة لفكر الامام وأخلاقه. ثم نبحث في
القرائن والادلة المتناثرة التاريخية
والقرائن الاخرى غير التاريخية لنتوصل الى
التفاصيل.

« يتبع »



([1])
بحار الانوار 46: 229 باب 4. عن البصائر 4: 44.

([2])
من ذلك رواية ابي حمزة الثمالي يقول: «حتى
أقبل ابو جعفر(عليه السلام) وحوله اهل خراسان
وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج» (بحار الانوار
46: 357 ط: بيروت)، وانظر حديث أحد علماء خراسان
مع عمر بن عبدالعزيز، وفيه اكثر من عبرة
ودلالة. (بحار الانوار 46: 366).

([3])
من حديث للامام الباقر(عليه السلام) في ارشاد
الشيخ المفيد: 284، وبحار الانوار 46 : 288.

([4])
بحار الانوار 46: 288.

([5])
المناقب 4: 207 وهذه الميمية من هاشمياته وفيها
يخاطب أئمة اهل البيت(عليهم السلام)فيقول:

ساسة لا كمن يرى رِعية النا

سِ سواء ورِعية الانعامِ

وهو بيت له دلالته الكبيرة.

([6])
بحار الانوار 46: 258.

([7])
بحار الانوار 46: 360 رواية 1 ـ باب 100 نقلاً عن
امالي الطوسي: 95.

([8])
بحار الانوار 46: 282 ـ 283 نقلاً عن الكافي 1: 396.

([9])
يؤيد هذه الحقيقة، اضافة الى قضية جابر
ونظائرها، رواية عبداللّه بن معاوية الذي
يسلّم الامام الباقر(عليه السلام) رسالة
تهديد من حاكم المدينة (بحار الانوار 46: 246.
الباب 16 الرواية 34).

([10])
بحار الانوار 46: 263 رواية 63 باب 5 .

([11])
بحار الانوار 46: 264 الباب 16 الرواية 63.

([12])
ويروى أنه أشاع بين اهالي المدن الواقعة على
الطريق أن محمد بن علي وجعفر بن محمد تنصّرا
وخرجا من الاسلام (بحار الانوار 46: 306). وشبيه
ذلك ما وقع لمولانا وهو من زعماء الحركة
الاسلامية المناهضة للاستعمار البريطاني في
منتصف القرن التاسع عشر. فقد أشاعوا عنه أنه
وهابي. وكانت هذه التهمة كافية لاسقاط هذا
الرجل المناضل من أعين الناس البسطاء السذّج.
الوهابية كانت مقرونة في اذهان الناس بتلك
العصابة التي روّعت حجاج بيت اللّه واستباحت
دماء المسلمين في الحجاز.. فكانت كريهة لديهم
ومقيتة. وتهمة الوهابية الصقت بهذا الرجل
فتقبلتها الاذهان الساذجة دون أن تسأل عن
مبرر هذه التهمة وعن امكان أن يكون رجل مناضل
مثل مولانا معتنقا لفكرة جاء بها الانجليز
الى العالم الاسلامي (راجع كتاب: المسلمون في
حركة تحرير الهند (بالفارسية) ط آسيا) حين ارى
موقف الناس من الامام الباقر(عليه السلام) بعد
اتهامه بالنصرانية في ذلك الزمان وموقفهم من
مولانا بعد اتهامه بالوهابية في القرن الماضي
اتعجّب من وحدة المواقف، واردّد ما يقوله
الشاعر العربي: الناس كالناس والايام واحدة..

([13])
بحار الانوار 46: 264.

([14])
بحار الانوار 46: 313.

([15])
بحار الانوار 46: 362 ـ 363.

([16])
بحار الانوار 46: 220.

([17])
خالد بن عبداللّه القسري والي العراق كان
عائده السنوي ثلاثة عشر مليوناً. وكتب
اليه الخليفة أن لا يبيع غلته قبل بيع غلة
الخليفة. فصعد خالد المنبر وذكر أن قوما
يتهمونه بالتلاعب بالاسعار، ولعن من يتلاعب
بالاسعار (ويقصد بذلك الخليفة وكان عليه
واجدا). وامرأة هشام كان لها ثوب خيوطه من
الذهب ومرصع بالمجوهرات القيّمة، وقد ثقل
وزنه حتى ما كانت تقدر على أن تمشي به. ولم
يستطع أحد أن يضع له قيمة. وهشام نفسه كان له
بساط من الحرير والذهب طوله 100 ذراع وعرضه 50
ذراعا. (ابن ايرج 5 / 220، وبين الخفاء والخلفاء ص28
و56).

([18])
من ذلك فتوى الحسن البصري في عدم جواز الخروج
على الحجاج بن يوسف ذلك الطاغية الذي سفك الدم
الحرام واخذ المال الحرام وترك الصلاة قائلاً:
أرى أن لا تقاتلوه فانها إن تكن عقوبة من
اللّه فما أنتم برادي عقوبة اللّه
بأسيافكم وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم
اللّه وهو خير الحاكمين (نظرية الامامة لدى
الشيعة الاثني عشرية، د. احمد محمود صبحي، ص23).

([19])
مع كل الانحرافات التي عصفت بالمجتمع كان
الايمان بالدين يسيطر على الافكار والقلوب،
والظلمة الطغاة استغلوا هذا الايمان، فقدموا
للمجتمع مفاهيم منحرفة باسم الدين تضمن
بقاءهم واستمرار ظلمهم وتحكمهم. من ذلك اضفاء
صفة القدسية على «البيعة». فكلما تمادى
الخليفة في غيّه وظلمه لا تجوز معصيته ولا
الثورة عليه لان له في الاعناق بيعة! وكان
لهذا المفهوم دوره الكبير في خلق حالة من
الخضوع والخنوع أمام الجهاز الحاكم.

([20])
بحار الانوار 47: 13، باب 3 الرواية 6، ط بيروت.

([21])
بحار الانوار 47: 13، باب 3 الرواية 4 عن الارشاد:
289.

([22])
رجال الكشي: 158 ط : مصطفوي.

([23])
رجال الكشي :156 ـ 157 ط : مصطفوي.

/ 1