قراءة في مصائد الاستكبار
«المحاصرة والردع الشامل»
في كلمة التحرير السابقة ، وضمنقراءتنا لمصائد الاستكبار ،أشرنا إلى الخطة
الاستكبارية التي اعتمدت هذه المصائد لتطويع
العالم الثالث وخصوصاً المنطقة الإسلامية
تحقيقاً لأهدافه الستراتيجية وضماناً
لمصالحه الاستكبارية ، وكانت اُولى قراءتنا
في مقولته الشهيرة : «الرضوخ للأمر الواقع» .وفي كلمة هذا العدد ستكون قراءتنا
الثانية في مقولة ومبدأ استكباري آخر ، هو
مبدأ : «المحاصرة والردع الشامل» .إن المحاصرة الاستكبارية تستهدف
أولاً وبالذات الحالات التي بلغت الصحوة
والنضج للحدّ من اتساعها ونموها ، كي لا تنتشر
فتعم سائر المنطقة ، ولكي لا يتم تصدير ذبذبات
الوعي إلى ما حولها ، والحيلولة دون نشوء
تيّار متجانس وكيان متسق له شاخص يمثل القدوة
والمحتذى من جهة ، ومن جهة اُخرى يمثل الثقل
السياسي في الانطلاق ، وبعبارة اُخرى أن لا
يكون لأيّ موقع رسالي متقدم دور ريادي ولا دور
قيادي ، وهذان أساسان لكل تشكيلة حضارية .والمحاصرة قد تتخذ أشكالاً متعددة
فقد تكون اقتصادية وقد تكون عسكرية وقد تكون
إعلامية وقد تكون سياسية ودبلوماسية ، ومن
الخطأ أن نتصور أن ذلك قرار اتخذ ثم اُلغي في
فترة لاحقة ، بل أنه لا يزال مستمراً وينفّذ
بدقة تامة وبأشكال مختلفة قد تنطلي تطوراتها
وتشعباتها على كثير من الواعين والمثقفين
السياسيين وحتى على الإسلاميين منهم ، فيذهب
بهم التصور بأنّ ما يحصل ماهو إلاّ عملية لا تقع
ضمن التخطيط الاستكباري ، أو أنها وليدة
الظروف الطبيعية والخاصة بالمنطقة ،
وليس لها علاقة بالخطط الجديدة التي يستخدمها
الاستكبار لإسقاط ومحاصرة الإسلام في
المنطقة ، ولدينا مثال حيّ واضح لازلنا نعيش
أصداءه وهو حادثة الغزو العراقي العسكري
الشامل للكويت وضمّها إليه بعد ذلك وما تبعته
من تطورات في المنطقة .إن هذا الحدث لم يكن وليد ظروف آنية
، كما أُعلن عن ذلك ، بل إن أميركا والاستكبار
قد أوصلت الأطراف المتنازعة ضمن اللعبة
الدولية إلى ما آل إليه الوضع الحالي ، ضمن
دراسة مسبقة لما سينتهي إليه المستقبل وفق كل
الاحتمالات التي يمكن أن تصوغ الحدث ، والمهم
أن تكون النتيجة لصالح أميركا والاستكبار
العالمي . وفعلاً لاحظنا كيف أن أميركا
استطاعت أن تسخّر الحدث لصالحها بعد أن مهّدت
السبل لوقوعه ، وكيف استطاعت بين عشية وضحاها
إنزال قواتها وبشكل مكثّف في المنطقة
وبعناوين مختلفة ، ولسنا هنا بصدد طرقها الآن
، ويوماً بعد يوم نرى هذا التواجد الفعلي
للقوة الأميركية أصبح نتيجة واقعة أملاها
الغزو العراقي للكويت ، وإن كانت الذرائع
والحجج مختلفة ، ويمكن من خلال ملاحظة مجريات
الأحداث أن يتأكد لنا بأن وراء هذا الحدث
أهدافاً وغايات اُخرى لم يفصح عنها لحد الآن ،
ولكن يمكن تشخيصها عند دراسةمنطقة الشرق الأوسط وتشريح
العوامل التي لها الدور الكبير في صياغة وصنع
المتغيرات في المنطقة ، ويمكننا إجمال هذه
العوامل بالنقاط التالية :1 ـ نمو التيار الإسلامي وانتشاره
في المنطقة وبالتحديد منذ انتصار الثورة
الإسلامية في إيران وطرح الإسلام كعنصر حاكم
على اللغة السياسية في المنطقة رغم وجود
تيارات اُخرى على مستوى الحكم أو التكتل .2 ـ اختلال خطط الاستكبار
الاستراتيجية لحل المشكلة الفلسطينية،
وانهيار كل محاولات تكريس اسرائيل كأمر واقع
، وبروز التيار الشعبي الإسلامي لحمل لواء
القضية الفلسطينية على مستوى مناهضة أصل وجود
دويلة اسرائيل ، بعد أن استطاعت دوائر
الاستكبار العالمي تطويع المنظمات
الفلسطينية العلمانية وتحويلها من الرفض
للوجود الصهيوني في فلسطين إلى العمل على
إنشاء دولة التسالم الفلسطينية إلى جوار دولة
اسرائيل الصهيونية . فكان لبروز التيار
الإسلامي في عمق الشعب الفلسطيني أثر بالغ في
تحجيم هذه المنظمات ووضعها في زوايا محرجة
تدور مدار الأنظمة العميلة في المنطقة .3 ـ بروز البؤر الثورية الإسلامية
وبأشكال مختلفة في مواجهة الأنظمة العميلة
رغم تباينها من حيث القوة في فترات زمنية
متفاوتة ، ولا ينكر أن هذه البؤر الثورية جاءت
كأثر مباشر لنجاح الثورة الإسلامية رغم أن
بعضها لا يحكي الحس الإسلامي والثورة
الإسلامية في المستوى المطلوب لها .4 ـ سقوط الأقنعة عن الوجوه العميلة
من خلال أحداث ما بعد الثورة الإسلامية في
ايران ، بحيث أصبحت الثورة الإسلامية ـ لما
لها من باع طويل في مقارعة الاستكبار ـ
مقياساً واضحاً لمصداقية ما تطرحه الأنظمة
العميلة من شعارات برّاقة كاذبة ، ومدى
ارتباطها بالعمالة والتبعية للاستكبار ،
ولعل الذي يحصل في المنطقة ما هو إلاّ بداية
سلسلة تغييرات لتحسين الوجوه العميلة فيها
والتي انكشف زيفها أمام شعوبها ، وهذا لا يتم
إلاّ بتغيير سياسي شامل يلعب فيه الاستكبار
دوراً رئيساً وفقاً لشروط المقاومة ووعي
الجماهير الذي بدأ يبرز تدريجياً على السطح .5 ـ فشل جميع محاولات إسقاط أو
تحجيم الدولة الإسلامية كمحور في المنطقة ،
بل وفي العالم الإسلامي ، وبروز الجمهورية
الإسلامية في ايران ، كقوة جديدة على الساحة
الدولية ، لها أثرها البالغ رغم أساليب
الاستكبار في إجهاضها والقضاء عليها ، وقد
برز هذا جليّاً في مواقف الجمهورية الإسلامية
الحدّية والدقيقة خلال سني الحرب وفي فترة ما
بعد وقف إطلاق النار ومن خلال القضايا
الاقليمية الحسّاسة وفي مقدمتها القضية
الفلسطينية .6 ـ انهيار الايديولوجية الماركسية
للمعسكر الشرقي والتقارب السياسي بين الشرق
والغرب وحدوث تغيرات أساسية على الخارطة
السياسية للمعسكر الشرقي وانعكاس ذلك على
منطقة الشرق الأوسط الإسلامي ، الذي أمتدّ
تأثيره إلى إيجاد نوع من التطلع فيها نحو
التغيير وخصوصاً لدى شعوب المنطقة .وعليه رأى الاستكبار العالمي
ضرورة أن يتكامل تطبيق مبدأ المحاصرة
الاستكبارية ، بضم الردع المباشر والشامل
إليه عن طريق المواجهة العلنية وعدم الحياء
من التعامل بالهوية الوحشية الصريحة وسحق
مشاعر الملايين والتحدي الحاد لكل بادرة ،
والظهور بمظهر القاهر لا المفاوض ، وهذا
الأصل ليس بالجديد ، وإنما الجديد فيه تحديثه
واجراؤه بعد التجميد عقيب الحرب الفيتنامية ،
وهناك أكثر من مؤشر يدل على وجود مثل هذه
النهج الجهنمي في المخيلة الاستكبارية ،
فانتهاك حرمة الحرم الشريف بمكة في حج عام 1987م
بارتكاب أعظم مجزرة وقحة في التاريخ المعاصر
من الوضوح بمكان ، بحيث لا تكاد تخفى على ذي
الذهنية الاعتيادية فضلاً عن المتتبع
السياسي ، وربما تحاول الأبواق الأجيرة أن
تحجم الحادثة الفظيعة بأساليب تصويرية فنيّة
عديدة ، فتزعم أن ما حدث في مكة إنما كان بين
رجال الأمن والحجاج الإيرانيين ، والخلاف
عادة يتطلب بعض الشدّة التي قد تقترن
بالارتجال .يا لها من قابلية عجيبة على
التزوير وقلب الحقائق وتصوير حلبة المعركة
الواقعية بأنها مباراة شكلية بين متمازحين ،
في حين أن طرفي الصراع الحقيقين هما
الاستكبار والإسلام الأصيل بما يمثّله من
مواقف التحدي في الحج الإبراهيمي الحنيف ، (قاتلهم
اللّه أنّى يؤفكون)[1]
.ولدينا مؤشر آخر يؤكد ما أسلفناه
من ماهية المخطط الاستكباري الرهيب في
المنطقة الإسلامية ، وهو إعداد قوات التدخل
السريع التي أنفقت أميركا جهوداً مكثفة
لإظهاره على الساحة ، وجاءت الهزائم النكراء
لتلك القوات لتدفع الاستكبار لإعادة حسابات
القوة والقدرة التي يمتلكها في المنطقة ، ومن
تلك الهزائم النكراء نكسته في صحراء طبس في
ايران ، ومنها نكسته الاُخرى في لبنان ، حيث
ولت مدبرة إلى غير عودة حتى فاجأتنا بظهورها
في مياه الخليج الفارسي ، ولكن هذه المرة برزت
تحت غطاء واسع من القوات الدولية ، وبعد
اشتراك كافة اللصوص الكبار ومن يدور في فلكهم
في هذه الخطوة ، وبعد أن أخذت تصول وتجول تلك
الأساطيل في المياه الدافئة في استعراض
للعضلات ، لكن لم تغمض للجنود الأميركيين عين
ولم يقر لهم قرار حتى ضربوا ضربتهم الخسيسة
عندما قامت القطعات البحرية الأميركية
بجريمتها التاريخية بشأن الطائرة المدنية
التي راح ضحيتها أكثر من 400 برئ ، وسقطت ورقة
التوت عن البيت الأبيض وللمرة الألف وليعلنوا
عبر رسالتهم الدموية هذه إلى الجمهورية
الإسلامية في ايران بالذات وإلى دول المنطقة
تلويحاً بأن منطق المحاصرة ثم الردع الشامل
ينتظر كل من يتحدى أو يخرج عن إرادتهم
ومخططاتهم في المنطقة .والمواجهة الاستكبارية العلنية
للإسلام لم تراوح في حدود البندقية; بل
استعملت فيها كل الوسائل الممكنة ، وما كتاب
الآيات الشيطانية عنّا ببعيد ، إذ أنه كان
بمثابة تحد صريح للتيار الإسلامي وللمسلمين
في العالم ، ولأول مرة في تاريخنا المعاصر
نلمس الإسناد الدولي للكتاب القذر، فقد تبنته
المطابع ودور النشر والترجمة بعشرات اللغات ،
في حين أن نسبية آنشتاين لم تحظ بمثل هذا
الاعتناء ولا بنسبة واحد بالمئة مما حظى به
كتاب القصصي التافه سلمان رشدي ، وهذا دليل
صارخ على أن الهجمة في غاية الشراسة والصلافة
إلى الحد الذي يجعل القمم العربية والقمم
الإسلامية ينتظر العديد من أعضائها أوامر
أميركا وحلفائها ليتخذوا القرارات والمواقف
التي تُملى عليهم دون وازع من حياء أو خجل.ولو عدنا بالذاكرة السياسية سنوات
; لوجدنا كيف يصرّح ، بكل وقاحة ، أحد رجال
البيت الأبيض ـ في حينه ـ أن ما يجري في
الشيشان يختلف عمّا يجري في ألمانيا الشرقية
، فمن حق روسيا أن تسحق الانتفاضة الإسلامية
في آسيا الوسطى بالحديد والنار ، ومن حق
الألمان أن يطالبوا بالاستقلال ، لأنهم لو
خرجوا من العلبة الروسية سوف يدخلون في
العلبة الغربية ، أما المسلمون في الشيشان
الروسية وفي غيرها من دول القوقاز فهم يطمحون
إلى الاستقلال الصرف . وهذه النظرة المتميزة
للمنطقة هي التي تفسّر لنا السكوت العالمي
المتعمد على الجرائم التي تمارس ضد جنوب
لبنان من قبل لقيطة الاستكبار (اسرائيل) ،
الأمر الذي يُجلّي لنا الوحشية التي تقابل
بها سواعد الحجارة في فلسطين المظلومة
، ولا تُصْغي إلى ما يقال من أن ذلك حدث داخلي
مربوط بتل أبيب وقراراتها ، لأننا لا
يمكن أن نفسّر التشجيع الأميركي والحماس
الاستكباري العالمي بأنه حالة اتفاقية وفي
وقت العد التنازلي العربي .ويطال منطق المحاصرة والردع
الشامل عقائد المسلمين وإيمانهم برسالتهم
الإسلامية فيضع الاستكبار مصائده الخبيثة
لزعزعة ثقة الشعوب الإسلامية برسالتها
بإشاعة عدم قدرة الإسلام على مواكبة التطور
وعجزه عن حل أزمات الإنسان المعاصر ، وأن
الدين الذي حلّ مشاكل مجتمع الجزيرة العربية
قبل ألف عام يصطدم اليوم بإحراجات الواقع
المعاش وتعقيداته بحيث يصعب الاحتفاظ
بمصداقية الإسلام في بناء المجتمع الفاضل ،
الذي طالما يحلم به المسلم ، وذلك من خلال
التشويه والضبابية التي تثيرها وسائل
الإعلام حول مجريات الاُمور في الدولة
الإسلامية المباركة ، وعرضها بشكل إخفاقات
متتالية أقوى ما فيها الشعار ، ولعمري أن هذا
أخطر سهم تضمّه الكنانة الاستكبارية .ولقد بدأ يلوح لنا بفعل التطورات
الأخيرة على الساحة السياسية أن الاستكبار
أخذ بوضع بيوضه المحسّنة واحتضانها في أعشاش
بعض دول المنطقة من خلال عسكرته المباشرة
فيها ، وتحويل أرضها ومياهها وسمائها إلى
معكسر متحرك ملأت أصداء معدّاته المتطورة
آذان شعوب الشرق الإسلامي المنكوبة ، مصحوبة
بضجيج الخطابات المتبادلة والتصريحات
الحادّة بين أقزام المنطقة من جهة ، وبين
عمالقة الورق في أميركا واوروبا غرباً وشرقاً
من جهة اُخرى ، كما يلوح لنا أن الزمن القريب
سيرينا تفقيس بيوض الاستكبار تلك ، ولكنه
سيرينا أيضاً انبعاث الرفض الإسلامي لكل
أفراخ وإفرازات هذه اللعبة الشيطانية
الخبيثة ، وهذا ما سيكون لنا حديث فيه لاحقاً.(ويمكرون ويمكر اللّه
واللّه خير الماكرين) صدق اللّه العلي
العظيم.والحمد للّه رب العالمين .
[1] التوبة : 30 .