السعادة كيف نجدها ؟ - سعادة کیف نجدها؟ (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

سعادة کیف نجدها؟ (1) - نسخه متنی

عیسی أحمد قاسم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

السعادة كيف نجدها ؟

( 1 )

* الشيخ عيسى أحمد قاسم (البحرين)

كلنا يعيش معنى ارتكازيّاً
للسعادة ، وشعوراً لاهباً بالحاجة إليها ،
وهي تضع من نفس كل إنسان موقع الأمنية الاُولى
والأكثر قيمة والأعز شأنا ; لأنها الغاية من
كل ما يتمناه ويطمح إليه . وما انشداده إلى
أهدافه التفصيلية إلاّ من منطلق تصديقه
بأدائها إلى سعادته . ومن وجد ما كان له أن
يخطئها ; كيف وهي تملأ عليه وجدانه وتفعم
شعوره وتمور بها نفسه وجوداً قائماً حاضراً
عنده في الذات ؟!

وقد خلق اللّه تبارك وتعالى الناس
للسعادة لا للشقاء ، وللهناء لا للعذاب ، (ولو
شاء ربك لجعل الناس اُمة واحدة ولا يزالون
مختلفين * إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم ...)
[1]
. فللرحمة والسعادة ،
والهناء والنجاح كان خلق من مضى ويأتي من
الناس . وهم منشدّون من أعماقهم إلى هذا الهدف
الفطري الذي قد يصيبون حقيقته الكبرى ، وقد لا
يصيبونه ، وقد يتخذون السبيل إليه سبيلا ، وقد
لا يتخذون ماهو سبيله لهم بسبيل ، وإن خادعهم
الرأي الكاذب ، والشعور المنحرف بأنه كذلك .

ماهي السعادة ؟ :

السعادة لغة خلاف الشقاوة ،
والسُّعودة خلاف النُّحوسة [2]
.

وإذا أردنا تعمّقاً ; فقد تطلق
السعادة على حالة التوافق بين ما تشتهيه
النفس وترغبه ، وبين ما تعيشه وتجده من أوضاع
مادية ومتطلبات جسدية ، والشؤون القريبة منها
كمواقع الاجتماع والسياسة والثناء عند الناس
.

وقد تطلق في مرتبة أرفع على الكمال
الفعلي للذات الإنسانية في أبعادها المعنوية
، وشعور الذات بهذه الفعلية من الكمال وهي على
مراتب بين السعادتين :

الرؤية الاُولى للسعادة ذات مدى
قريب تعطي تركيزا على كماليات الحياة المادية
وزينتها وألوانها ومرآئيها ، وتنشدُّ إلى
المنزل الفخم ، والأثاث الجذّاب ، والسيارة
الأكثر شهرة ومتانة وحداثة ، وتهتم بصحة
البدن وقوّته ، وعلى الموقع الاجتماعي
المتقدم ، والشهرة العريضة ، والمركز السياسي
المتفوق ، والحفاوة والتقدير ، وحسن المنظر ،
وجمال المرأى ، واعتدال القوام ، إلى ما إلى
ذلك من أولاد وأزواج وعشائر وأنصار وأتباع
وأملاك وترف وبحبوحة عيش .

وهذه الرؤية تستقطب من الناس
أكثرهم ، وتخلق في داخلهم سعار الشهوة للمادة
إلى حد الجنون والصراع على المحدود من الكم
المادي في الأرض حتى الاقتتال ، وتقويض الأمن
والسعادة بهذا المفهوم نفسه للناهب والمنهوب
، ومن يغلب أو يُغلب ! إذ الدنيا كلها لا تروي
عطش مجذوب إليها ، منكّب على زينتها ، ثم وهي
بيده لا يأمن فواتها ، وأن أحداً لا يغلبه
عليها ، ولذلك يحرسها بكل ماله من حيلة ،
وبفكره وشعوره وكدِّ أعصابه ، وتحسّباته
ومواجهته ; فتستنزفه أكثر ممّا يستنزفها
ويعطي من وجوده لحراستها أزيدها مما تعطيه ،
وربما كان صريع همّها ، وضحية الحفاظ عليها ،
وكم يؤرقه في صراعه من دونها هاجس الخسارة ،
ويقضّ مضجعه خوف الفقر بعد الغنى ، والذل بعد
العزّ ، والضعف بعد الظهور والمنعة ، وأن
الآخرين يستلبونه ودنياه يسرقون مجده وعزّه .

ولذلك يناصب ويعادي ، ويستعبد
ويسترقّ ، ويُدخله حرصه على ما في يده
والزيادة غير المتناهية في صراعات تكدّه وتحط
بقواه ، ويلفّه منها القلق والاضطراب فيما
يلفّ الآخرين بسببه .

أما الرؤية الثانية فهي لا تركّز
على أشياء الخارج وإن كانت لا تلغيها ، ولا
تتسمَّر عند الغنى المستعار ، وإن كانت لا
تهمله ، وإنما هي تعطيه من عنايتها بمقدار ما
تقوم به حياة الأشخاص والمجتمعات ; تستلفتها
الذات الإنسانية : داخلها ومحتواها ومكنونها
في الأبعاد النورانية منها من روح وقلب وعقل
وضمير . وتجد أن السعادة الحقيقية ليست تلك
التي تنبني خارج الذات ، وما يقيمه الإنسان
على الأرض من وجود ، وما يحتفظ به لنفسه من
كنوزها من رصيد .

السعادة في هذه الرؤية مستوى من
الكمال والخير والهدى والنورانية والشفافية
تتوفر عليه الذات ويحضرها في الشعور ، ورؤية
كونية عميقة واسعة صادقة ونضج عقلي وتفتّح
روحي ، ورشد نفسي ، وطهر قلبي ، ونيّة صالحة
وصفاء ضمير في حالة من الانشداد الكلّي
للكمال المطلق ، والتعلق الوله المبتهج
باللّه العظيم ، الرب الرحيم الكريم الحي
الذي لا يموت .

وهي غنى باللّه عمن سواه ، وأنس به
لا تشوبه وحشة ، وثقة فيه لا يضعفها حادث ،
ورضى به لا يمازجه سخط ، هذا والكثير من مثله
من مشاعر الأرواح الزاكيات ، والقلوب
الملهمات إذا أفعمت به الذات الإنسانية وجدت
من لذة الحياة ، وعذوبة الوجود ، وسمّو المعنى
مما لا تبلغه الكلمة ، ولا يحوم حوله الحرف ما
يواقع بها كنه السعادة ، ويسقيها من كأسها
المترعة جمالاً وجلالاً وغبطة وحبوراً ما به
رواء دائم ، وبهجة لا تنقطع .

والسعادة بهذا المعنى لها آفاق
وآفاق ، ولا تقف بها المديات إلاّ من خلال
محدودية الإنسان ، وما يمكن أن يصل إليه
تحليقه وتبلغه انطلاقته التي لابد أن تكون
محدودة بمحدوديته وإن اتسع لها إطار ،
وامتدَّ منها مدى ، وسما بها اُفق .

وبرغم أن بابها مفتوح للسائرين ،
إلاّ أن المحظوظ بالعروج إلى أقرب آفاقها
قليل (وما أكثر الناس ولو حرصت
بمؤمنين) [3] . أما
البالغ إلى بعيد من تلك الآفاق فهم في الناس
صفوةٌ أقل قليل (وما يؤمن أكثرهم
باللّه إلاّ وهم مشركون) [4]
.

ومن شأن هذه النظرة إلى السعادة أن
ترتفع بمن يعيشونها عن الذوبان في صراعات
الأرض وإن خاضوها من أجل اللّه ، وتنقذهم من
سباق على الدنيا لها لا تمكيناً للحقّ من شأنه
أن يجفّف منابع الهدى في الإنسان ، ويسدّ عليه
مطالع النور .

أصحاب هذه النظرة المتطهرون
بنورها وهداها لا يموتون كما يموت أهل الدنيا
المولعون بها ، حشرات لا يزيدون على طين وتراب
، وروح هابطة متمرغة في الوحل مثقلة به لا
يرفّ لها جناح ، ولا أحجار متيبّسة صلدة تجد
مكانها في القعر مع وقود النار .

إنما هم إذا ما رحلوا من هذه الدنيا
رحلوا إلى ربّهم الكريم صالحين نقيين أبراراً
، وملائكة علّيين أطهاراً ، يعبّون من كأس
حياة أكمل ، وينطلقون مع فضاءات من جلال ،
وآفاق من جمال ، لا تتناهى بها حدود ، ولا
تنقطع بها نهايات .

فوارق تفصيلية :

وهذا بعض تفصيل بعد إجمال في فارق
بين السعادتين :

1 ـ تستمد النفس الشعور بالسعادة
بالمعنى الأول من حجم أشياء تقع في يدها ،
وبريق لهذه الأشياء وتمكين من لذات جسد ،
ومطالب شهوات ، ومن صفات بدن أو معنى تتمتع
بها الذات ولا تمتنع على أهداف الحس ودوافعه
أن تركبها إلى ما تريد ، وتسخّرها لما تحاول
كجملة كثيرة من العلوم وقدرة في اللسان وجرأة
في الموقف وشهرة في النسب ، وذلك من خلال ما
تعطيه هذه الصفات من تفوق في الموقع بين الناس
في الحياة وظهور عليهم ، وما تفتحه من فرص
للاستمتاع الجسدي ، وما تتيحه من غزارة في
لذات الحس وشهوات البدن .

بينما تستمد النفس الشعور
بالسعادة بالمعنى الثاني من مستوى إنسانيتها
، وفعلية كمالها وسمّوها ، وشرف دورها
وموقفها ، ومن صفات جمال وجلال معنويين فيها
من حيث القيمة الذاتية لهذه الصفات ،
والاستذواق لها في ذاتها . وهذه صفات تحكم
حركة الحس وتوجّهها ، وتأبى طبيعتها العلوية
أن تكون أداة بيد الحس يسخّرها لإشباع نهمه ،
وتلبية أطماعه . من هذه الصفات العدل ،
والرحمة والإحسان والخلوّ من الأحقاد والحرص
والشح ، وأعلاها المعرفة الحقة بالنفس
والدنيا والآخرة ، وفوق هذا كله معرفة الربّ ،
والثقة به ، والاطمئنان إليه ، والتعلّق
برحمته ، والانجذاب إلى جماله وجلاله .

2 ـ إن كثيراً مما تنظر إليه النفس
بأنه سرُّ سعادتها بالنظرة الاُولى أشياء
تأتي اليوم وتفلت غدا ، وكما تنتقل إلى الشخص
تنتقل منه . خذ لذلك مثلاً من الصحة والقوة
وجمال المحيَّا والثروة والموقع والجاه .
وغيرها كثير . أما ما تعتمده النظرة الثانية
من أسباب للسعادة فهي ألصق بالذات وأبعد عن
العوادي ما أراد الإنسان وصدق تعلّقه باللّه
وتوكّله عليه .

3 ـ الاُولى إذا دامت ماتت بموت
البدن ، وكان في ذلك نهايتها ، والثانية
لافناء لها على الإطلاق ما أذن اللّه ، حيث
أنها سعادة روح ; والروح باقية يتوفاها اللّه
كاملة لتعيش في سعادة أو شقاء حسبما قدَّمت
لنفسها في هذه الحياة . وما يذهب بالموت
تراباً في التراب ويؤول أمره إلى تبعثر شديد
فاحش إنما هو عمارة الأبدان .

4 ـ لا تتم الاُولى للنفس إلاّ حال
غفلتها عن الحقائق والعواقب والتحولات
والمصائر ، وإلاّ فكيف تنعم نفس بشعور
السعادة لمال أو أهل أو جمال أو صحة وقوة
تلتفت إلى أنها مرغمة على خسارتها ولو من بعد
حين وأنها مهددة فيها كل لحظة . وحتى حال اللذة
البدنية الفعلية الغزيرة التي تعطيها
الممارسة لمشتهى من مشتهيات الطعام والشراب
والجنس مثلاً لا يمكن أن تسعد لها نفس تبصر
الحقيقة عند ذاك وتنتبه إلى ما يؤول إليه
المأكل والمشرب ، وما تمثّله قمة الممارسة
الجنسية من ناحية حسية ، وما يمكن أن ينتظر
صاحب هذه اللذة من مستقبل مأساوي في نفس أو
أهل أو مال ، وما يترصده من مرض وعجز وموت
وشدائد . وأين موقع السعادة في مواقع سياسية
واجتماعية ربما كانت الباب للندم والعطب
وأعظم الكوارث ؟!

أما الثانية فتقوم على أعلى درجات
الصحوة والنباهة وحضور الوعي لحقائق الخلق
والحياة والمصير ، وبدايات الأشياء
ونهاياتها وما يعتريها من تقلبات . وفي ظل
النظر الدقيق الواعي المستوعب ربما تحوّلت
اللحظة المرة تمر بها النفس في هذه الحياة إلى
لحظة مستذوقة بما ينتهي إليه تحمّلها من
عاقبة حميدة ، وبما يعنيه هذا التحمل من
ارتفاع بمستوى الذات وتأهلها للمقامات
الرفيعة .

5 ـ كثيراً ما يكون الطريق إلى
الاُولى خسيساً منحطّا يعتمد التدمير
للآخرين ونهب سعادتهم ، أما الثانية والطريق
إليها شريف جليل معطاء ينشر الطيب والهدى
والصلاح ، ويطلب ما استطاع إثراء حياة
الآخرين ووجودهم .

6 ـ تتآكل الاُولى وتنحدر بتقادم
الأيام ، وانحطاط قوى الجسد ، بينما تشبّ
الثانية وتترعرع على الأيام مادام عقل وصحوة
نفس وروح .

7 ـ الباب للثانية مفتوح أمام إرادة
الإنسان . أما الاُولى فيكثر عليها التهارش
حتى يستبد بها في الكثير ذوو الناب والظفر
متصلّبو الضمائر وموتى القلوب .

8 ـ من يفقد السعادة بالمعنى الثاني
يبقى شعوره بالنقص دائماً وإن تبذخت بيده
الحياة ، ونُعم ملمسها من جانبها المادي في
إحساسه ، لأنه لا يجد فيها الكفالة التامة
والقدرة على درأ المحذور ، ولأنه كلما وجد أن
ما يملأ يديه من دنياه شيء غيره ، وأنه عظمة
مُفارقة ، عاد إلى نفسه فلم يجد منها ما يثري
شعوره ويعزّزه بقيمتها ، ويمدُّه بالثقة
والاطمئنان ، وما يبقيه كبيراً في ذاته
مفصولاً عما أقام خارجه من بناءات على أرض وفي
فضاء ، ومفصولاً عن بنية جسمه وفعالياته
المرتبطة ببقاء هذه البنية وحاجات استمرارها
.

ففقد السمو الذاتي والسعادة
المرتبطة به لا يعوّض عن فراغاته الهائلة في
الذات ، ولا يسدُّ النقص المترتب عليه ،
والجوعات الناتجة عنه في أعماق الشعور ، كبير
ما في يد الإنسان من متاع الحياة وزينتها
وفتنتها ، وكل ذلك لا يطامن من قلقه المستقبلي
الذي يفرض نفسه عليه مهما حاول أن ينسى
المستقبل أو يجحده من الأساس .

بينما تعالج السعادة النابعة من
سموّ الذات باتصالها بمصدر العطاء الكثير من
مشكلات الفقد المادي ومعاناته ، فإن قليل
المادة كثير في النظر الذي لا يركّز على
الشهوات ، وإن درجة التحمل للنفوس التي ارتقت
في ذاتها يصغر معها الكثير من الأزمات التي
تثقل نفوساً من أهل التراب . وكثير مما يعدّه
أهل الأرض ضرورة ، ويمثّل فقده مشكلة حادة لا
يراه من استغنى في نفسه شيئاً ليحسَّ له بفقد
إذا لم يكن .

9 ـ الهمم التي يتطلبها طريق
السعادة الثانية لا تساويها همم قد تبلغ
بأصحابها مبالغ متقدمة من سعادة الأبدان . فهي
تتطلب دائماً همماً أكبر وعزائم أشدّ وأمضى
وأكثر مداومة ومصابرة .

10 ـ لم يعرف من أحد عُلِم بأنه من
أهل سعادة الذات أن قد ضحّى بسعادته تلك
النابعة من روحه وكمال ذاته من أجل سعادة
يجدها بعض من خلال أشيائه ومقتنياته .

والذين يعلمون جزماً أنهم من أهل
سعادة الروح هم أنبياء اللّه ورسله وأوصياء
رسله ، ولم يسجّل التاريخ عن أحدهم بتاتا
استبدالاً للذي هو أدنى بالذي هو خير ، بينما
يأتي الكثيرون كسحرة آل فرعون ، ومصعب ابن
عمير ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة زوج الرسول(صلى
الله عليه وآله) ، والحر بن يزيد الرياحي
أمثلة حيّة ، وشهادات صارخة على تضاؤل سعادة
البدن أمام فرصة لسعادة الروح والرمي
بالاُولى جانبا عند التزاحم .

وحينما تتم للروح سعادتها وتنفتح
الفرص لسعادة الدنيا حسب النظر المألوف ،
تفقد هذه الفرص بريقها في نفوس الكمّل وإن لم
يكن تزاحم ; فلا تجدها تستهويهم ، ولا تجد لهم
بها اُنساً ، ولا منها عن أُنسهم باللّه شاغلا
. وأكثر من كونهم على ترفع وتنزه منها تجدهم في
نفرة من الدنو منها واستيحاش ، وعليك أن لا
تفتقد الشاهد الناطق بذلك . وأمامك حياة
الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) ، وعلي
أمير المؤمنين(عليه السلام) اللذين كانت
الدنيا تتمرغ على قدميهما الشريفين فلم يجدا
إلاّ أن يدوساها مشغولين عنها بعطاء وفير
غزير كبير هانيء من اللّه الحميد المجيد في
الذاتين الكريمتين من صنعه البديع .

11 ـ تأصّل المعنى الأول للسعادة في
النفوس مقوّضاً للمجتمعات، حيث أن الأرض لا
تشبع نهم طامع في الدنيا باحث عن معناه من
خلال أشيائها ، فلابد من تصارع وتآمر وتقاتل
بين الأفراد والجماعات والأقوام على أسباب
المعاش والظهور والقوة والترف والبذخ إلاّ أن
تقهر القوة ، وتسكت السطوة ، ويكون هناك
مستكبرون مترفون ، ومستضعفون محرومون ، فيسكن
الصراع فترة في مذلة وفساد ليعود اُخرى عند
نقطة من التحولات .

وتأصّل المعنى الثاني للسعادة في
النفوس بلا معاداة للدنيا قاعدة لبناء
مجتمعات التعاون والتضامن والتكامل والإيثار
. فنظافة النفس من مشاعر الحرص والشحّ بالدنيا
وتحلّيها بالثقة والقناعة والرحمة ; مما
ينتجه سموّ الذات ، والتعويل على اللّه مبنت
للترفع عن سرقة جهود الناس وعطاء عرقهم
للتبذخ من جهة ، وللنهوض بحاجات المحتاجين
ممن يمنعهم مانع من الكسب من جهة اُخرى . وكم
سيكون في الناتج العام الاقتصادي من فائض لو
طلب الناس حدَّ الكفاية لا الكفاف بلا ترف ولا
سرف ولا إهدار للثروات بما يهدر الصحة
والكرامة والأمن ويحطّم الأخلاق ، ويثير
الفساد والرعب في الأرض ؟

الإسلام والسعادة :

الإسلام كلمة اللّه خالق الإنسان
روحه وبدنه ، فهو للروح والبدن ، ولا بخس فيه
لبدن كما لا بخس فيه لروح ، ولا غفلة ولا إهمال
منه لحاجة لهذا أو ذاك ، ولا تضييع في منهجة
الإسلام لبعد من أبعاد الإنسان ، ولا تغييب
لمقتضى من مقتضيات ذاته ، على أنه لا يتوقع أن
نجد متقدماً متأخراً في هذه المنهجة أو
متأخراً مكانه متقدم .

والإسلام في نظامه العبادي
والأخلاقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ،
وكل أنظمته الاُخرى الحكيمة الرصينة العادلة
منظومة متناغمة متناسقة تنشدُّ إلى رؤية
كونية دقيقة عليمة لولا دقّتها واستيعابها
وديمومتها لما كان للكون استمرار وانتظام .

هذه المنظومة الرائعة المتلاقية
تنتهي إلى تخريج الإنسان المتكامل الذي يتوفر
على أوضاع حياتية ناجحة ، ومستوى إنساني
متفوق ، ليعيش هناءة الحياة في بعدها الأرضي
بأقصى ما تسمح به طبيعة الحياة على الأرض ،
وإن كانت تمثّل دورة امتحان وجهد وجهاد
ومكابدة أكثر مما تمثّل دورة للنعيم وأجواء
مفتوحة على الراحة والاستمتاع العريض ، ويعيش
هناءة الحياة ببعدها السماوي بأعلى درجة
تطيقها قابلية الإنسان لأن يخطو في اتجاه
الكمال . على أن الهدف الأسمى لمنظومة التكامل
ـ الإسلام ـ هو أن ينشدَّ بإنسان الأرض إلى
السماء ، ويعطي قابليات روحه عروجاً إلى
اللّه سبحانه رشداً بعد رشد ، ونقاء إلى نقاء
، وطهراً فوقه طهر ، وشوقاً يتبعه شوق ،
ومعرفة تنضاف إليها معرفة ، وتخلَّقا في نماء
بخلق اللّه العظيم ما وسع هذا الإنسان على
محدوديته وتناهيه ، وحينئذ ترى الذات
الإنسانية نفسها وجوداً كريماً ، وعطاءً
ثرّاً من عطاء اللّه ، وشعاعاً لألاءً من فيض
نوره الذي لا يحدُّ ، فلا تقارف سوءاً ، ولا
تتعاطى باطلا ، ولا تميل إلى ظلم أو فساد ، ومن
نظرها إلى أنها قبسة نور من فيض اللّه العظيم
تشرف وتطلب سموّاً أكثر ، وتحليقاً أبعد ،
وتنوراً أكبر ، فتشغلها رحلة الكمال عن
الإسفاف والإسراف والإيغال في لذائذ الحيوان
. ومن وعيها بكونها في هداها ومعرفتها
وأشواقها الجليلة وطموحاتها النبيلة قبسة لا
تنطفئ باللّه ومدده تغني وتقي وترضي .

نعم إذا كان أكثر من سعادة ، وقبلنا
أن تكون سعادة لبدن وسعادة لروح ، فلا ريب أن
سعادة البدن في الإسلام وسيلة ، وسعادة الروح
هدف ، وما كان وسيلة وطريقا يحافظ فيه دائماً
على صفة طريقية دون أن ينقطع عنده النظر
وتنتهي به المحاولة ، ولنطالع رأي الإسلام في
أمر السعادة للإنسان في كل من الكتاب والسنة :

أ ـ على مستوى الكتاب :

(وما خلقت الجن والإنس
إلاّ ليعبدون) [5] (...
ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع
عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ...)
[6]
.

الآية الاُولى تجعل عبادة اللّه ،
ومعرفته ، والانشداد إلى عظمته ، وانطلاقة
الروح على المدى اللا محدود إليه ، وفي
الفضاءات اللامتناهية النورانية في اتجاه
كماله المطلق هدفا لخلق الإنسان ، ومعرفة
العبد بربّه، وشعوره بأنه في كنف رحمته ، وفي
قلعة حماه ، وثقته برفده ، ورؤيته لعظيم من
جماله وجلاله ، سعادة ما نالها عبد من عباد
اللّه إلاّ وأنسته ما عداها ، وكان له منها
غنى عن كل ما تمناه الآخرون .

والآية الثانية تعالج أمر
الضرورات البدنية وحاجات الحياة المادية
ولذائذها فتفتح الباب لإشباع هذه الحاجات حتى
لا يكون من جوعة البدن وعراه وآلامه ومتاعبه
الثقيلة معيق للكثيرين عن الانطلاقة الروحية
في رحلة النور والهدى والكمال . ولذلك تختار
الآية الطيبات التي لا تتعاكس وشروط الرحلة
المباركة ومقتضياتها ، ويحرّم الخبائث التي
تترك آثاراً سلبية ضارّة على توجّه الروح
وحركتها الصاعدة ، وتلقي عن الإنسان جانباً
كل ما يثقل حركته إلى اللّه ، ويحدّ من قوة
أندفاعه وتحليقه الروحي في أجواء الصفاء
والنقاء والشفافية والطهر في المسارات
العمودية المفتوحة اللا محدودة في اتجاه
معرفة أكمل وأوفى بخالقه العلىّ العظيم،
وربّه الرحيم الكريم .

وانظر قوله تعالى : (كلوا
من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلَّ
عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)
[7]
فإن المستظهر أن موضوع
الآية هو خصوص الطيبات من الرزق فهي الرزق
المعني لها ، لأن ما كان من الخبائث وممنوعاً
عنه لا ينسجم بأن تعبّر عنه الآية (ما
رزقناكم) ولو بنحو الإطلاق الذي يشمله وما
كان طيبا ، فلا معنى لكونه رزقاً لنا ولا يؤذن
فيه ، وقرينة الامتنان لا تناسب الخبيث كذلك ،
وعليه يستظهر من الطغيان المنهي عنه في الآية
هو الاستغراق في الطيبات ، وفصلها عن وظيفتها
الطريقية ، وتحويلها إلى هدف تقيم عليه النفس
، وتنشغل به ، وينقطع همّها عنده ، وتجد أقصى
لذتها وسعادتها فيه .

وبيّنت الآية الكريمة أن هذا ينتهي
إلى الهويّ والسقوط في المستوى الإنساني ،
وهو الموضوع للهويّ في النار والخلود فيها .
نعم بالانغماس حتى في الطيبات من المأكل
والمشرب والملبس والمسكن والمركب والمنكح
إلى حد التجمد عندها والانقطاع إليها بلا
معرفة بالنفس وبالرب، وبلا فاعلية روح ولا
عبادة يخسر الإنسان إنسانيته ، وتفشل حياته
عن الوصول إلى غايتها السامية وهدفها الكبير .
وهذه هي نهاية عبد وقع في غضب اللّه ، واستحقّ
خذلانه بما رضي به من التلهي بلذّات الأرض
والإقامة عندها منصرفاً عن بناء الروح ،
وتربية الذات تربية تضعها على طريق كمالها
وهدفها الإلهي الأصيل .

إن الواضح من كتاب اللّه الكريم
أنه لا يناهض فكرة الاستمتاع بالطيبات
والانتفاع البدني بخيرات الأرض وخلق الأجواء
المادية المناسبة لراحة النفوس وتخفّفها من
ضغط مشكلات المعاش والتخلص من حالة اختناق
الدوافع وكبتها ، بل الإسلام بقرآنه وسنّته
يقيم من النظم الحياتية في ميدان العمل
والاكتساب والاقتصاد والزراعة والصناعة ما
يؤدي إلى الرخاء وسعة العيش عند الفرد
والمجتمع ، ويدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام
حتى تكون اُمة الإسلام المكتفية الغنية التي
يحتاج إليها الآخرون دون أن تحتاج للآخرين ،
وقد شرّع المسألة الجنسية وفتح من الدروب
الحلال في مجالها ، وأوجد من التمهيدات
والتسهيلات والأجواء النفسية والاجتماعية ما
يجعلها مسألة محلولة في الإسلام بالكامل بلا
فوضى ولا أزمات أو تشنجات أو اختناقات تؤدي
إلى التحطّم أو الانفجار . وكمواجهة صريحة لخط
الكبت وتعذيب الجسد أو حرمانه يأتي مثل قوله
عزّوجلّ : (قل من حرَّم زينة اللّه
التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي
للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم
القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون)
[8]
فلا استقذار للطيبات من
مأكل وملبس ومشرب ومنكح ومسكن وكل ما تحتاجه
حياة الناس في الأرض ، بل يقف الإسلام في
مصدره التشريعي الأول في وجه من يريد أن يؤسّس
للحرمان ، ويفرض رهبانية ما بها من سلطان ولو
بتحريم شيء واحد من الطيبات . ومع الطيبات
الزينة وبإضافتها إلى اللّه سبحانه يبعد بها
النص الكريم عن أن تكون طريقاً لفساد أو تحلل
أو استغلال سيء . وإنما هي ذات دور إنساني
اُسري واجتماعي بنّاء لتنمية العلاقات ،
وإيجاد المودات ، وإضفاء مسحة من الجمال
والروعة على الأشياء بما يُثير البهجة ويرتفع
بمستوى الأذواق ويريح النفوس في إطار ما يحل
وينفع .

والمنهج الإسلامي الشامل وهو
يستهدف تكميل الإنسان في دورة الحياة والبلوغ
به إلى أقصى درجات ما يتّسع له وجوده من كمال
لا يسلك به لذلك طرقا مرهقة معادية لبهجة
الحياة والاستمتاع بطيباتها واستذواق الجمال
فيها ، بل يصنع له من أجواء الحياة المريحة
الميسَّرة ، والأوضاع الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية والخلقية ما يكون من
مرونته وتناسبه مع متطلبات الإنسان وسد
جوعاته ما يسهل عليه الدرب لبلوغ غايته
الروحية الرفيعة ، ويسلك به إلى مرتقاه
الإنساني عبر أيسر الطرق وأسرعها إيصالاً
وأكثرها ملاءمة لكل ما يزخر به وجوده من أبعاد
. وأنت ترى كيف دفع الإسلام حين تولى تربية
المجتمع على طريق أهدافه الإلهية القويمة على
يد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بالأوضاع
الإنسانية والمادية البنّاءة كلها إلى
الأمام ; وصولاً إلى غرض التربية الروحية
العالية ، ولم يسلك بالمجتمع المسلم والفرد
المسلم لهذا الغرض الرسالي الأساس طريقا
يعادي الحياة ونموَّها وطيبات الدنيا
وزينتها .

وأكبر نضج روحي وإنساني يتوقع أن
يبلغه إنسان هذه الأرض هو زمن الظهور للقائم
عجل اللّه فرجه ، وهو الزمن الذي لم تكثر
خيرات الأرض وتعمُّ يوماً بقدر ما تكثر وتعم
فيه . فيوم الإسلام ليس يوم ضيق وفقر وتقشّف
ورهبنة ، ويوم حياة الروح والقلب والوجدان
والضمير ليس يوماً لموت البدن وذبوله وانحطاط
قواه .

نعم قال اللّه سبحانه : (يا
بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا
واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحّب المسرفين)
[9]
، وقال عزّ من قائل : (قل
إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن
والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا باللّه
ما لم ينزّل به سلطانا وأن تقولوا على اللّه
ما لا تعلمون) [10] .

فيوم الإسلام هو يوم حياة الروح
والبدن ، يوم النضج الإنساني ، والتقدم
المادي ، يوم الخيرات والبركات في الأنفس
والأموال والأوضاع ، وليس يوم جاهلية ولا
ضلال ، ولا ظلم ولا استغلال ، ولا فقر ولا شحّ
، ولا يوم بهائم ، همُّها علفها ، تتقمم حتى
تقتلها بطنتها ، وتذهب ضحية سرف مأكل ومشرب
ومنكح ، بلا خُلق وقيم وإيمان . ويوم الإسلام
ليس من أيام العري والفساد والفواحش والتبذل
والسقوط ، ولا من أيام الكفر والشرك
والانحطاط العقلي والروحي والتيه والضياع ،
وغياب الفطرة وموت الضمير .

ونجد الناس يوم القيامة فيما
يقرّره القرآن الكريم : فريق سعادة وفريق شقاء
، ذاك خالد في نعيمه ، وهذا خالد في العذاب (...
فمنهم شقي وسعيد * فأما الذين شقوا ففي النار
لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها مادامت
السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربك إن ربك فعالٌ
لما يريد * وأما الذين سُعدوا ففي الجنّة
خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلاّ ما
شاء ربّك عطاء غير مجذوذ) [11]
.

فريق الشقاء يوم القيامة إنما شقي
لسقوطه الروحي في الحياة الدنيا بانفصاله
أيامها عن اللّه وخلوده إلى هواه وشيطانه
وزينة الأرض . وفريق السعادة يوم القيامة إنما
سعد لسموّه الروحي في هذه الحياة بتعلّقه
أيامها باللّه ، وركونه إلى الدليل من عقله
والهدى من ربه ، والاستعانة بالطيبات على
تكميل نفسه والإعداد لآخرته . فكلٌ من سعادة
الآخرة وشقائها مصنعه الأرض في الحياة الدنيا
ومن خلال إرادة الإنسان المخيّر بين الخلود
إلى الأرض ، والصعود بكيانه الإنساني ومضمونه
الروحي إلى السماء ... بين الاستقامة
والانحراف ... بين الإيمان والكفر ... بين
الطيبات والخبائث . والقائمة السوداء من هذه
المتقابلات لا تجاري القائمة المشرقة منها في
تقديم السعادة في الدنيا للإنسان . وإن قدّمت
لذائذ حيوانية سرقةً من بعض مع فساد كبير في
الأرض ، فالثمن عذاب مقيم في الآخرة بما تحدثه
من تصفية إنسانية وروحية لأصحابها وهم كثير .
أما القائمة المشرقة فهي تتخذ من سعادة
الدنيا طريقا إلى سعادة الآخرة ، وتصوغ
بمنهجة الإسلام إذا حكمت سعادة متصلة ترافق
الإنسان في حياته ولا تودعه يوم موت ، ولا يوم
بعث ولا نشور .

إن الانكباب على الدنيا والانصراف
عن اللّه عزّ ذكره لا يحقّق سعادة دنيا ولا
آخرة ، فإن السعادة تتطلب شعوراً بالأمن على
الحاضر والمستقبل وثقة من الفاقد بالذات ،
يتدفق الفيض من الغير الغني بذاته ، دعماً
مستمراً ، وحماية دائمة ، وأكبر غنى في الدنيا
لا يوفر لصاحبه ذلك ولا الجيوش ولا العشائر
والمواقع . وأي غنى بيد إنسان ، وأي قوة وصحة ،
وأي رصيد مادي أو معنوي مما يؤتاه ، يعيش هم
الاحتفاظ به وحراسته وتوقع استلابه منه
فيسهره ويضنيه ويرهق أعصابه من دون أن تفارقه
حالة الخوف والترقب والتحسب لطروّ الأزمان ؟
وكفى بهم المرض وعجز الشيخوخة وهمّ الموت
منغصّاً للذات الحياة لمن لا يجد فرصة غير
فرصة الحياة ولا عوضاّ عن متاعبها وما يلمّ به
فيها من الأزمات . وإذا كان عمر الآمال سنوات
متلاشيات يعقبها عدم أو عذاب; فهي آمال صفراء
بئيسة قصيرة حقيرة لا تحتضن السعادة ولا تنبت
انشراحاً ولا مسرات إلاّ أن يكون دواراً أو
غيبوبة تنسي الحقيقة . (ومن أعرض
عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة
أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا *
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم
تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه
ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) [12]
فهي خسارة حياتية .. خسارة وجود . عيشة ضنك ،
ومنقلب سوء لمن ينسى اللّه ، ويكبّ على علف
ومرعى كما تكبّ مربوطة وسائمة .

ب ـ على مستوى الحديث :

في المأثور عن أهل بيت العصمة(عليهم
السلام) نور من نور الكتاب وهدى من هداه ،
وكلماتهم مرآة تربك أفكار الكتاب ومفاهيمه
ورؤاه وطروحاته . فلتكن لنا وقفة مع الحديث في
المحاور التالية :

1 ـ سعادة الدنيا :

«ثلاثة هي من السعادة الزوجة
المواتية ، والولد البارّ ، والرزق يرزق ،
معيشة يغدو على صلاحها ويروح على عياله» [13]
«من سعادة المرء المسلم أن يكون متجره في
بلاده ، ويكون خلطاؤه صالحين ، ويكون له ولد
يستعين به» [14] ، «إن من
سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده ، والمرأة
الجملاء ذات دين ، والمركب الهني ، والمسكن
الواسع» [15] ، «من
سعادة المرء أن تكون صنايعه عند من يشكره
ومعروفه عند من لا يكفره» [16]
.

تتحدث الكلمات عنهم(عليهم السلام)
عن أمثلة من زوجة جميلة موافقة ذات دين ،
ومركب هنئ مريح ، ومسكن واسع ، وصلاح معيشة ،
ومكسب مستقر ، ومن ولد بارّ ، وخلطاء صالحين ،
وجو اجتماعي مناسب ممّا يعطي راحة بال وهدأة
نفس وانشراح خاطر هنا في الحياة ، وتعد ذلك من
السعادة المطلوبة المرغوبة التي تدفع إليها .

وإذا راجعت الإسلام في أنظمته كلها
وجدت هذه الكلمات منهم(عليهم السلام)ترمز إلى
مضامين تتكفل تلك النظم بتحقيق مصاديقها على
أرض الواقع، بل إن هذه الكلمات نفسها إنما
جاءت لتؤدي دورها في إطار النسيج العام
الإسلامي لتحقيق واقع السعادة في الأرض بما
تطيقه ظروف الحياة عليها ، فهي مؤشرات عامة
لخلق المناخات الفكرية والنفسية والاجتماعية
التي تحتضن هذا اللون من عوامل السعادة في
مجتمع تسوده روح التقوى وأمل الآخرة . على أن
الإسلام كما تقدّم لا يحاول أن يقيم للسعادة
في الأرض كيانا مفصولاً عن قضية الإيمان
والقيم الرفيعة، والتربية الإلهية لذات
الإنسان ، فإنه شأن لا يلتقي ورؤيته الكونية
الأصيلة وعلمه الدقيق بالإنسان ، مع كونه يرى
أن مثل هذه المحاولة أمر فاشل ، فإن بقاء
الجوعة الروحية في الإنسان ، وما يحدثه
التوجه المادي الصرف من فوضى في حياة
المجتمعات ، ومن طموحات جنونية في نفوس
الأفراد والجماعات تجاه المادة بما تعجز
الأرض عن تلبيته ، ويمثّل ملهاة مضِلّة
مُغوية للإنسان ; كاف لأن يحرم من السعادة من
طلبها عن طريق النهم المادي المفتوح وإشباعه
، كيف وهو كلّما تنامى هذا التهم داخله احترق
به ؟ أو كل ما تسبّب إليه من اجتماع مال وجاه
وقوة وسلطة بيده زاد من مستوى همّه وقلقه
والحسرة على مفارقته ؟!

إن ما لا شك فيه هو أن المنهج
الرباني يأخذ المجتمع الإنساني إلى منجاة من
الفقر والمرض والخوف والجهل والكسل والتمزّق
، وعن كل العوائق التي تستهلكه في دوّامة
همومها ومآسيها عن تكميل ذاته ، وصناعة
مستواه الإنساني الكريم ، وتستنفذه دون أن
يحقّق غاية حياته من سموّ الروح وعظمة المعنى
، كما نأى به عن حياة الضنك والشحّ والمعاناة
في أوضاعه المعاشية والمادية عامة حتى لا
تضيق به الحياة ولا تتحول أيام دنياه إلى
مأساة وطريقه إلى اللّه سبحانه إلى طريق شائك
. الأصل أن يعيش أوضاعاً موسّعة تُلمسه لطف
اللّه به في كل جنبات الحياة ، على أن لا يكون
له من تمدّد الثروات والغنى الفاحش، ويبطره
ويلهيه عن الغاية القصوى من معرفة اللّه
وعبادته ، ويجعله ركّاضاً وراء سراب العزّة
والعظمة والخلود الكاذب في المال ، ومظاهر
الزينة السطحية ، ومستنقع الشهوات .

وقد يأتي تدفّق في النعم استدراجاً
لا رحمة لقوم لا يفقهون (أيحسبون
أنما نمُدُّهم به من مال وبنين * نسارع لهم في
الخيرات بل لا يشعرون) [17]
كما قد يأتي النقص فتنة ودرسا من دروس الواقع
المر لتتجلى من خلاله الأحجام والأوزان ،
وتنكشف لذاتها ولغيرها الذوات في مجتمع
الإنسان : (ولنبلونكم بشيء من
الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس
والثمرات وبشر الصابرين) [18]
.

وهاتان ظاهرتان تكوينيتان تحدثان
بتقدير إلهي حكيم تأديبا أو تربية حسب
مقتضيات أوضاع المجتمع البشري في الحكمة
الإلهية المتعالية ، والتحولات التي تعرض
عليه من انحراف عن خط اللّه عمداً أو غفلة
انحرافا يمسُّ التصورات والمشاعر والتوجهات
وأنماط السلوك والتعامل . وهذا الدرس
التكويني أو ذاك إنما يعمل على ردّ المجتمع
البشري لما يستهدفه النظام التشريعي من تركيز
الأوضاع بالصورة التي تناسب سعادة الإنسان في
الحياة وتجلّيها في حدِّها الأكمل في الآخرة .

2 ـ سعادة الآخرة :

«عند العرض على اللّه سبحانه تتحقق
السعادة من الشقاء» [19]
.

«سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل
لآخرته» [20] .

«أفضل السعادة استقامة الدين» [21]
.

«ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد
اليقين» [22] !.

«إن حقيقة السعادة أن يختم للمرء
عمله بالسعادة ، وإن حقيقة الشقاوة أن يختم
للمرء عمله بالشقاء» [23]
.

مرّت نصوص تعدّ أشياء ماديّة
كالدار الوسيعة والمرأة الجميلة والمركب
الهنيء من السعادة ، ومرّ أن منظومة
التشريعات الإسلامية ، والنظام الإسلامي
الشامل لا يبني سعادة الآخرة على معزل من
الدنيا ، أو من خلال تحويلها إلى شقاء وجحيم ،
أو صحراء جرداء ، وإنما يطلب للإنسان سعادته
الاُخروية من خلال عمارة الدنيا وأوضاع
معتدلة هانئة فيها ; فيكون للإنسان منها عون
على دربه الصاعد إلى الكمال .

وإذا طالعنا المجموعة الأخيرة من
النصوص ; وجدناها بين ما يفضّل سعادة الدين
والآخرة على سعادة الدنيا «أفضل السعادة
استقامة الدين» ، ومنها ما لا يلتفت إلى سعادة
الدنيا ولا يعيرها نظراً بالقياس إلى سعادة
الآخرة ، وكأنه لا وزن لها بإزائها للفارق
الهائل بين الاثنين : «سعادة الرجل في إحراز
دينه والعمل لآخرته» ، «إن حقيقة السعادة أن
يختم للمرء عمله بالسعادة ، وإن حقيقة
الشقاوة أن يختم للمرء بالشقاء» .

إن هذه المجموعة تجعل قيمة السعادة
، أو حقيقتها في المحتوى الروحي الحي
والمضمون المعنوي المتقدم الذي يتحقق لذات
الإنسان في هذه الحياة بجهد وجهاد من توفيق
اللّه . أما ما نسميه سعادة من لحظات بشاشة
وانشراح للنفس لملاءمة الأوضاع المادية مع
مشتهاها; فهي لا تعبأ به ولا ترى له شأنا يكون
به من حقيقة السعادة ، ولو شملنا هذه الحقيقة
لتلك اللحظات العابرة غير الخالصة تماماً من
المكدرات لو تم الالتفاف ، فهي مستوى أوّلي
بسيط منها .

السعادة بهذا المنظور روحي محلّق ،
ومتانة في الذات الإنسانية من حيث بناؤها
المعنوي ، واستيعابها للمعرفة الحقّة
وتنوّرها بها ، وتحليها بانعكاساتها في
الشعور والنية والعمل ، وتحوّلها مرآة تعكس
من جمال وجلال لا منقوص ولا محدود للكامل
المطلق المتعال محدوداً بما يتأنّى لها في
نموّها وتكاملها في إطار الإمكان المحدود أن
تعكسه .

وتحوّل هذه الكلمة الثرّة «عند
العرض على اللّه سبحانه تتحقّق السعادة من
الشقاء» ساعة تبيّن السعادة من الشقاء على
ساعة العرض على اللّه سبحانه ، والوزن الحق
للأنفس من بارئها فيما انتهت إليه فعلياتها
ومضامينها في الخير والشر والصلاح والفساد
بما كسبت أيديها ; فإنه لا يعبر السعادة
بمعناها الداني نظراً إلاّ بلحاظ عاقبتها وما
تؤدّي إليه في اليوم الآخر ; يوم تجلّي
الأرواح على واقعها ، وبروز الذوات بأوزانها
وأقدارها الفعلية الصادقة . يومئذ يظهر أن
سعادة الغِنى والصحة والشهرة والرفاه وكثير
من هذا القبيل في الدنيا سعادة حقّاً أو شقاءً
فيما تؤول إليه الاُمور ، ويكون للدوام ،
وفيما هو واقع الذات لهذا الإنسان ولذاك ،
ومستوى له من شأنه السعادة أو من شأنه الشقاء
في الأبد ، ويظهر أن ضيق المعيشة وشحّها ،
واعتراء الأمراض ، وانغلاق فرص من فرص اللذة ،
وتنكّر الآخرين ، وغلبة الظروف مما شقاء في
هذه الحياة خير واقع على المدى البعيد على
أذاه الحاضر ، أو شر فيما هو المردود على
صناعة الذات ، وتبلور النفس ، وفيما يستقبله
الإنسان كذلك بعد حين ، وفيما هو باق لا
يعتريه فناء ولا يعرف النهاية . أو لا يصح أن
يعدَّ شقاء اليوم سعادة إذا كان ما يعقبه من
خير للذات ، ومن مستقبل كريم يفوق بسعادته
وهناءاته ولذا ذاته على كل مستويات الذات
وأبعادها آلام هذا الشقاء ببلايين المرات بل
بما لا يعدُّ ويحصى ؟! على أن الطريقة التي
تعتمدها المنهجة الإسلامية كما تقدم ليس أن
تعذب في الحياة ، لتعطي عن ذلك ثمنا من سعادة
الآخرة ، وإنما هي المنهجة التي توصل سعادة
الآخرة بالدنيا وتهيء بسعادة الدنيا لسعادة
الآخرة ، وإن كانت ملابسات الحياة وظروفها
والتضادُّ بين الأحياء فيها والانحراف عن
المنهج الحق في مجتمعاتها قد يتسبب في حرمان
شخص ومتاعبه في الدنيا ، وهي دار التربية
والامتحان ، فيعتاض من فضل ربّه عن حرمانه
ومتاعبه نعيما مقيما ، وملكا كبيراً ،
ومقاماً كريما وسعادة أبدية في الآخرة إذا
استقام على الدرب الذي فتحه اللّه لأوليائه ;
لأن يصعدوا بقلوبهم وأرواحهم إليه رغم
المصاعب والأزمات المترصدة على الدرب .

تعارض محلول :

أساساً وكما تقدم لا تعارض بين
حاجات البدن والروح ... بين سعادة الدنيا
والآخرة في الإسلام ، بلا لا تتم سعادة في
الدنيا مع خواء روح ، ويستعان لسعادة الروح
بسعادة البدن . ولكن من ناحية الواقع الخارجي
توجد حالات تتعارض فيها مطالب البدن مع حاجات
الروح ، وتنعمُّه مع كمالها .

وهذه مجموعة من كلمات وردت عن أهل
البيت(عليهم السلام) تقدّم الرأي في هذه
الحالات :

«أسعد الناس من ترك لذّة فانية
للذة باقية» [24.] .

«إن سعادة الناس في الدنيا من عدل
عمّا يعرف ضرّه ، وإن أشقاهم من اتبع هواه ،
فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدّمتم من خير ،
وما سوى ذلك وددتم لو أن بينكم وبينه أمداً
بعيداً» [25] .

«أسعد الناس بالدنيا التارك لها ،
وأسعدهم بالآخرة العامل لها» [26]
.

ثانية في هذا المقام الواحد يؤكد
أن الإسلام يقيم نظاماً شامخاً للموازنة بين
الدنيا والآخرة ، ويعمرها وصلة لإعمار الآخرة
، يقيم نظاماً يوفّر لأبناء الدنيا الاكتفاء
، ويسدّ عنهم أبواب الفاقة ، بما يثير فيهم من
روح العمل ، ويلاحق منهم روح الكسل والطمع
والجشع ، ويشيع بينهم علاقات العدل والإحسان
، ويبنيهم على الأخاء والتراحم والمودة ،
ويجفّف مادة البغي والعدوان ، وينتصف للمظلوم
من الظالم ، ويأخذ بموازين القسط في توزيع
الثروة ناتجا ومواد أولية قبل ذلك ، ويضخّ في
النفوس معاني تثري الذات ، وتشبعها غنى من
داخلها فتسمو وتعفّ ، ويسرج مصباح العقل حتى
يكون النور الوهّاج ، والرؤية المديدة ،
والإدراك المصيب ، ويطلق قوى الروح لتسبح في
عالم الملكوت ، وتسبّح مولعة بحمد اللّه .

نظام الإسلام تتناغم فيه مقرّرات
المادة والروح ، وتتلاقى على مصلحة البدن
وبنائه ، ورفعة الرّوح وسموّها ، وهي إذ تطلق
الروح محلّقة كريمة تزكو بها حياة البدن
وتطهر وتطيب .

فالإسلام لا يعيش مشكلة الانغلاق
على الروح دون البدن ، أو على البدن دون الروح
، ولا يعيش مشكلة الانقسام والتهافت بين هذه
الجنبة والاُخرى من نظامه ، فلا صراع في
النظام الإسلامي المتكامل داخل النفس ، ولا
على الأرض بين بدن وروح . ولكن الصراع بين شطري
الكيان الإنساني أزمة قائمة في نفس الإنسان
وحياته من منطلق الانحراف عن الإسلام ،
والأنظمة الأرضية القاصرة والديانات
المبتدعة التي تملك على الكثير من تفكيرهم ،
وتستحوذ على تلوين مشاعرهم وطموحاتهم
وتوجهاتهم ، وهذه التيارات تخلق أوضاعاً صعبة
على الأرض ، وتضيق الفرص أمام من يشعر بآدميته
في بعديها الثابتين ومتطلباتهما لو أراد أن
يعطي لكل بعد حقّه ، فيضطر أن يصبر على أحد
فقدين : فقد يمس منه روحه ، وفقد يمس منه البدن
. فماذا إذا فرض على الإنسان هذا الواقع
المرهق من فعل الأنظمة الأرضية والديانات
المخترعة والانحراف بدرجاته المختلفة عن
الإسلام ؟

قد يكون ما يزاحم الآخرة من الدنيا
لذّة على كونها فانية غير مقوّمة للحياة ، وقد
تكون مقوّمة ، كما أن المزاحم من الآخرة أصل
السعادة فيها على تقدير ، ودرجة من درجاتها
العليا على تقدير آخر . والتقديم دائماً في
الكلمة الاُولى من الطائفة الأخيرة للآخرة
على الاُولى ، فعلى تقدير أن يدخل المتمتع
بالدنيا المحروم من الآخرة تحت السعادة ولو
مجازاً ، فإن سعادته لا تضارع شيئا من سعادة
الآخرة ولا تقاربه . فالخيار عند العاقل مع
التزاحم لا يحتاج إلى تأمل ، فإنه وإن لم يكن
أطلب للمخلوق الحي في الدنيا من أن تبقى حياته
له ، ولكنها لو تطلبت آخرته ثمنا فإن كلمة
الدّين والعقل مجمعة على أن لا تكون الآخرة
ثمن الاُولى ، بل تقدم حياة البدن ثمنا لحياة
الروح ، ويوم الدنيا وهو فان حفاظاً على يوم
الآخرة الذي لا يفنى .

والكلمة الثانية في هذه الطائفة من
الكلمات عنهم(عليهم السلام) تتحدث عن فئة في
الناس بلهاء ، لا يعدلها أحد في ماهي عليه من
سفه الاختيار حتى لتدرك أن الشقاء الأبدي في
ما يوافق الهوى ويغذّي نهم الشهوة من طرق حرام
، فتنساق مع الهوى إلى الهاوية على علم لا
تتماسك عن عقل ولا دين عن الانجراف إلى
الهاوية في تخليد وتأبيد .

ومن هو أسعد الناس في تلك الكلمة ؟
من عدل عن الضارِّ وقد عرف ضرره وإن يكن
الحياة ... حياة الدنيا والبدن عندما يكون
الثمن الوحيد لبقائها سعادة الآخرة ،
والمساومة من أجلها على الدين ، وهل تعدل فرصة
بقاء قد لا تطول الأيام فضلا عن الشهور
والسنين حياة الخلود وفوز الأبد ؟! ومن ضحّى
بدنيا تضرّ بآخرته وقدَّم لغده فهو له مذخور ،
وجزاؤه به موفور ، ومن أخطأ الخيار ، وقدّم
الهوى على التقوى كان ما ينتظره مرعبا
مروّعا ، ولودّ أن بينه وبينه أمداً بعيداً .

وأسعد الناس ـ في النص الثالث ـ
بهذه الدنيا التارك للتنافس عليها من أجلها ،
والإيغال فيها إغراقا في شهواتها ، تفرّغا من
هذا الموفّق الرشيد لما هو الأصل في دورة
الحياة والهدف منها من التخرج إنساناً قد
اكتمل نضجه عقلاً وروحاً ونفساً ، وانطلقت
إرادته على طريق الخير والهدى والنّور ،
والتقى اللّه العظيم الجليل بعقله وروحه
وقلبه ، فارتفع قدراً ، واطمأن نفساً ، وطاب
حياة ومنقلبا ، ولم يعرف القلق والاضطراب
والخوف على المصير ، والعقد إليه سبيلا ، ولا
الشعور بالإحباط والفشل وخيبة الأمل إلى نفسه
منفذا . وكيف يأسى ، أو يذبل أملاً ويفتر في
نفسه الرجاء من وجد اللّه وحماه ومدده وهُداه
؟! ماذا وجد من فقدك ؟! وماذا فقد من وجدك ؟ وهل
يفقد من وجد اللّه غنى أو عزّة أو أمنا
واطمئنانا وسكينة ، أو قوة ونصرة ، أو اُنساً
وبهجة أو أي خير حتى يقع في إحباط أو يمسّه
شعور بخوف أو قلق واضطراب ؟ حق لمن فقد اللّه
لرجس قلبه ودنس روحه أن تحتوشه مشاعر الضعف
والقلق ، وتنهار آماله ، وينهّد منه الرجاء ،
ويستولي عليه تشاؤم عميق ، ويأس مقيت ، وإن
وجد غنى عارضا ، وصحة عابرة ، وعزّا ظاهرياً ،
وقوّة موهومة ، وسنداً مما يطلب في نفسه السند
.

الواجدون للّه كاملاً مطلقا لا
كامل معه ، خالقا بديعاً قادراً لا خالق من
دونه ، مالكاً لا مالك سواه ، حيّاً قيوماً
سميعاً بصيراً عليما خبيراً رؤوفاً رحيما
شديداً جبّاراً ، لا يأتي عليه فناء ، ولا
يمسّه قصور ، ولا يعتري قوته وسلطانه وهن ،
ولا يشوب قدرته ضعف ، وأنه الجواد الكريم
الحنّان المحسن الذي لا يُخلف وعده ، ولا
يُمنع رفده ... الواجدون للّه ممن يعيشون رؤيته
كذلك عقلا وقلبا وروحاً وملء المشاعر وجنبات
النفس ومنعطفاتها وجميع أقطارها وأبعادها ;
رؤية لا تغيب ، ولا تقيم ، ويجدون أنفسهم على
طريقه ، وقلوبهم مليئة بحبّه ، وأرواحهم
متعلّقة برجائه ، وهممهم متوجّهة إليه ،
وخطاهم في سبيله ; كيف لا يكتفون ، ولا يفنون ،
ويقوون ، ويثقون ، ويأمنون ، ويأنسون ،
ويهنؤون ؟! هؤلاء هم السعداء في الدنيا ،
السعداء في الآخرة الذين سعادتهم معهم أبداً
تنبع من نور أنفسهم التي تنوّرت بنور اللّه ،
وأشرقت من عطائه حتى صارت تشعّ على الأقاصي من
المكان والزمان .

أسعد الناس من لم يجتذ به التنافس
على الدنيا ، على زخارفها استغناء بوعد اللّه
الجميل ، وانشغالاً بلذة رضوانه ، ووعياً منه
للوظيفة الكريمة في هذه الحياة ، بل أسعدهم من
ضحّى بها جملة وتفصيلا ، وبكل حذافيرها ، وحتى
النفس والنفس الأخير منها لو بان من الدنيا
أنها تخادعه يوماً ما على دينه ، وتساومه عليه
بأن إما حياة بلا دين ، أو دين بلا حياة ،
وموتٌ تطلعاً لما عند اللّه وعشقا للقائه .


[1] هود : 118 ـ 119 .

[2] تاج العروس 2 : 376
.

[3] يوسف : 103 .

[4] يوسف : 106 .

[5] الذاريات : 56 .

[6] الأعراف : 157 .

[7] طه : 81 .

[8] الأعراف : 32 .

[9] الأعراف : 31 .

[10] الأعراف : 33 .

[11] هود : 105 ـ 108 .

[12] طه 124 ـ 127 .

[13] البحار 100 : 5 ح
18 .

[14] نفس المصدر : 7
ح 27 .

[15] البحار 63 : 149 ح
3 .

[16] ميزان الحكمة 4
: 463 من غرر الحكم .

[17] المؤمنون : 55 ـ
56 .

[18] البقرة : 155 .

[19] ميزان الحكمة 4
: 464 عن غرر الحكم .

[20] المصدر السابق
.

[21] المصدر السابق
: 465 .

[22] المصدر السابق
.

[23] البحار 68 : 364 ح
3 .

[24] ميزان الحكمة 4
: 464 عن غرر الحكم .

[25] بحار الأنوار
72 : 355 .

[26] ميزان الحكمة 4
: 465 .


/ 1