فنون وآداب
نظرية الادب الاسلامي بين الفكـرة
والتكـوين
عامر ملاّ عيدي( العراق )
على الرغم من وجود
الخزين الهائل من الادب والفن الاسلاميين على مدى
العصور من صدر الاسلام حتى وقتنا الحاضر،
إلاّ أن القارئ الاسلامي والعربي لا يجد
نظريةً مستقلةً ومبوّبةً في كتاب مستقل خاص
بآراء النظرية الاسلامية للادب والنقد، ولا
تعدو الاراء في النقد الادبي والاكاديمي
للادب الاسلامي غير شذرات متفرقة تتوزع بين
صفحات الكتب. لذا كان لزاماً على القارئ
المسلم نتيجةً لغياب عناصر الفهم الادبي
اللجوء الى نظرية الادب الغربية التي وضعها
كلٌ من الاستاذين: «رينيه ويليك» ] المولود
في فيينا لابوين تشيكيين عام 1903م، والحائز
على شهادتي دكتوراه من براغ والولايات
المتحدة، وعدة درجات فخرية مماثلة، وله كتب
ودراسات في النقد الادبي وتأريخ نشوء الادب
الانجليزي [و«استون وارين» ] الاميركي
الاصل واستاذ اللغة الانجليزية في جامعة
ميشيغان، والمشارك في أغلب المجالات الادبية
العالمية، وله عدة مؤلفات في النقد، مثل: «السكندر
بوب الناقد والانسان» و«قديسو نيوانجلند»[[1].
او اللجوء الى نظرية الادب التي ألفها مجموعة
من الكتّاب والاساتذة السوفييت[2].
والنظريتان موضع بحث ودراسة في عدة جامعات
كمنهج دراسي كما في الجامعة التونسية التي
أقرّت الثانية[3].
وقد جاءت آراء الغربية كرد فعل على
الثانية إبّان الحرب الباردة بين القطبين،
حيث يستعرض الشرقيون آداب المدرسة الواقعية
الاشتراكية، ويطرحون آراءهم وفق الماديّة
التاريخية كمفاصل محرّكة للتطوّر
الديالكتيكي، ويبثون داخل متون نظريتهم
الادبية آراءً فلسفية قديمة، ويوعزون بشكل
ذكيٍّ عوامل تطورها او اضمحلالها إلى
الماركسيّة، بعيداً عن العمق العقيدي للدين
وروح الرسالات السماويّة، وأثر الرسل
والانبياء في تغيير وجه الارض وحركة الامم.
وذلك يعود بدءاً لالغائهم بل وقطعهم الحبل
الذي يوصل آدم(عليه السلام) بالبشرية،
واعتبروا ذلك خرافة. ولا نريد الاطالة وعرض
فصول هذا الكتاب لاعتبار انتهاء الفكرة
الشيوعية من حيّز الوجود الانساني بفعل عامل
السنّة التاريخية نفسه، الذي عوّلت عليه
الماركسية كثيراً، ولم يبق من هذه الفكرة سوى
بعض ما تعانيه الشعوب في طريقه للزوال. ويحاكي
الغربيّون النظرية الشرقيّة في الادب، ولكن
قبالة آرائها، فيضع المؤلفان آراءهما وفق
النظرة الرأسمالية، وكما ربط الشرقيون ربطاً
جدلياً بين التاريخ وواقعهم الاشتراكي، ربط
الغربيون ذلك ربطاً وفق الانظمة والقوانين
وعوامل الانتاج الرأسمالية والاستعمارية.
وتأتي أهمية آراء المدرستين من أهمية
الادب والنقد الادبي نفسهما وكونهما يؤثران
تأثيراً مباشراً في حركة الامم والشعوب، ومن
خلالهما تخرج النخبة ذات الذوق الرفيع لتوجّه
الصراع الحضاري والانساني وفق نظرتها ووفق
مرتكزاتها العقيديّة. وعندما لا يجد الاديب
والناقد والقارئ المسلم عناصر أوليّة
اسلامية للفهم الادبي والنقدي سيلجأ الى
المتوفّر في المكتبة ليكون مطيته في الفهم
والكتابة والنقد. وكم تأثّر كتابنا المسلمون
بآراء المدرستين، وأنتجوا أجيالاً أدبيةً
متأثرة الى حدّ بعيد بهما. حتى بدت اكثر
الفضائل الروحية رواسب في كتاباتهم يرون
محاربتها وحذفها من الذهن، وليس أدلّ على ذلك
من نجيب محفوظ والطيب الصالح وعبدالرحمن منيف
وجبرا إبراهيم جبرا[4]
وغيرهم، مع الاخذ بنظر الاعتبار مساحة
ومستويات قرائهم.
وإذا أردنا ان نناقش الان فليس أمامنا
سوى النظرية الغربية التي إذا بقيت دون طرح
مقابل، فمعنى ذلك سيادتها، وبالنتيجة ستخدم
التوجّه نحو النظام الدولي الجديد،
باعتبارها كتبت على مستوى علاقات وصراعات
النظام الرأسمالي، علما بأنّها لا تخدم
مجتمعنا لان أغلب المطروح فيها غير مترجم،
وبعيد عن إحساسنا وتوجّهنا الحضاري، آخذين
بنظر الاعتبار انعكاس آراء هذه النظرية على
الاجهزة السمعية والمرئية التي تغزونا بشكل
سريع ومباشر. علاوةً على خلو النظريتين
تماماً من الطروحات الادبية والفلسفية
الاسلامية، وكذلك فنونها، وهذا ما يجعلهما
ناقصتين لا تلبيان الحاجة لجملة امور منها:
1 ـ قيمة الادب والفلسفة والبلاغة
والنقد الاسلامي وتأثيرها على حركة تطور
الاُمم الثقافية والسياسية والاجتماعية.
2 ـ تأثير التاريخ الاسلامي على حياة
الشعوب.
3 ـ القيمة القرآنية والعرفانية في
التأثير على عقل غير الاسلاميين. فعندما
تناقش النظريتان التصوف والفلسفة والتاريخ
لا تأخذان سوى آراء القديسين والرهبان كالاب
اُوغسطين وآدم سميث مثلاً.
وعندما نريد ان نشخّص الخلل في
النظريتين لا نريد ان نلغي كل ما جاء فيهما،
لان هناك عناصر فهم وتأثير مشتركة عند كل بني
البشر، رغم اختلاف الاجناس واللغة وعوامل
الزمن، لكن أخذ الاراء برمّتها يؤدي الى
نتائج سلبية سنطرح مثالاً واحداً عليها من
ايران، فعندما سئل أعضاء قواعد حزب توده «الشيوعي»
عن سبب اعتناقهم الفكر الشيوعي وهم يعيشون في
بلد يختلف حضارياً وعقائدياً عن روسيا وتنشط
عندهم الدراسات الحوزوية والدينية الاُخرى،
أجابوا بأنهم لم يطالعوا رأس المال الماركسي
وآراءه في الديالكتيك والاشتراكية بشكل
مفصّل بل تأثّروا بالادب الواقعي الاشتراكي
وعمالقته كدوستويفسكي وتولستوي وغوركي
وغيرهم.
أما إذا عدنا الى سبب عدم بلورة نظرية
اسلامية في الادب والنقد نستطيع ان نشخّص
جملة عوامل:
1 ـ تعسّف الحكام المتعاقبين على
السلطات في البلدان الاسلامية، وبعدهم عن
الدين، بل ومحاربتهم له; بل اهتموا بآداب
وفنون لهوهم ومجونهم.
2 ـ قتل وتشريد الكتّاب والادباء الذين
لا يوالون توجهات السلطة، وكمّ أفواههم،
وانتهاك حرماتهم، وصعود المتزلّفين
والمتملّقين السطحيين، حتى أصبح لكل أبي فراس
مائة متنبي من الدرجة العاشرة حيث كتب هؤلاء
توجهات السلطات وأهدافها[5].
3 ـ الموقف السلبي للشريعة الاسلامية
من بعض الفنون كالنحت والرسم ذي البعد الثالث
(المجسم) والموسيقى جعل الكثير من المتخصصين
والنقاد يعزفون عن الخوض والدراسة فيها.
لكن كل هذا لن يعتبر عاملاً في عدم
بلورة وصياغة نظرية للادب الاسلامي ففي
القرآن الكريم والسنّة المطهّرة بكل أنواعها
القولية والفعلية والتقريرية للرسول الاكرم(صلى
الله عليه وآله) وأئمة الهدى(عليهم السلام)
أبعاد تفتقر إليها النظريتان، ومثال واحد
يكفي للاستدلال على القيمة الادبية والفنية
الاسلامية، ولنتفحص قوله تعالى: (والصبح اذا
تنفّس)[6] سنجد في هذه
الصورة الواقعية من البلاغة والبعد الادبي ما
تعجز عنه كل النظريات، حيث فيه الايجاز،
اليقين، الصورة، الواقعية، العقيدية، وغيرها.
كما أن البنيوية الحديثة لا تجاري مثل هذه
الصياغة مهما بلغت. وهذا بعدٌ آخر هو الاعجاز.
كما ان السنة النبوية المطهّرة تصرح «أنّ
من البيان لسحراً» وهو بالضبط الانسجام
الروحي والمتعة الحقيقية للدواخل والمنفعة
الواقعية للانسان.
وبعد، فسنطرح جملةً من المفاهيم
الاولية للفهم الادبي هي في الحقيقة مشتركة
بين النظريتين والنظرة الاسلامية للادب،
باعتبار المعادل الموضوعي الانساني. كما
سنقوم بطرح مفاهيم إسلامية أوليّة، ولا
نعتبرها آراءً، بل محاولات خاضعة للنقاش مع
القرّاء، وليست المناقشة وطرح الاراء
الاُخرى مختصةً بطبقة دون اخرى، بل تشمل
القرّاء والكتاب والنقاد، خصوصاً ونحن نخوض
الصراع الحضاري مع الافكار الغربية، ونعيش
زمن الصحوة فلا بد لنا من ادب اسلامي خالص،
نستطيع التأثير من خلاله والتصحيح في فكر
الانسان المعاصر، الذي تعصف به المادة والقلق...
وأهم العناصر الاولية للفهم والنقد الادبي
كما جاء في النظريتين هي:
1 ـ التفاهم العاطفي والاستمتاع:
وهي علاقة ذات عدة أبعاد نفسية
وفكرية، واستعدادات ذهنية للقبول والاستفادة
من النص المقروء، ومن شأن هذا إعطاء نتائج
إيجابية، كما أنها عبارة عن مفتاح للدخول في
عالم النص واستخلاص المراد منه، وشروط مسبقة
للقارئ والكاتب والناقد بشكل عام، ولدارسي
الادب اكاديمياً بوجه خاص، لان فن القراءة
والانجذاب إليها هو المثال للتثقيف الذاتي
ومعرفة بواطن الاشياء والباعث للتطبيق
العملي.
2 ـ التمييز بين الادب والدراسة
الادبية:
يقول ويليك: «هما فعاليتان متمايزتان
إحداهما خلاّقة، فن، والاُخرى إذا لم تكن
بالضبط علماً فهي ضرب من المعرفة والتحصيل»[7].
إذاً المهمة تختلف، ويفصّل ذلك: «ان
على الاديب المبدع ان يترجم تجربته الى
مصطلحات فكرية، وأن يتمثّلها ويحوّلها الى
خطة متماسكة يجب ان تكون عقلانية»[8].
اذاً الاشتراط هنا، أن تكون تجربة
الاديب المبدع نوعاً من المعرفة، وليست مجرد
انفعالات اهليليجيّة متعرجة، تنزف دون علاج،
وهذا معنى قوله: «ضرب من المعرفة» بالاضافة
الى ممارسة الاديب لاُمور لا عقلانية، لكنها
مبرمجة وموجهة نحو هدف عقلاني نافع. كما يميل
«ويليك» الى الرأي القائل بأن الدراسة
الادبية يجب ان تكون إبداعاً ثانياً للنص، من
شأنه أن يضفي الى نتائج. وإلاّ فعملية تفكيك
عناصر النص نفسها بالوصف والعرض تعني عملية
نسخ لا حاجة إليها، أو ترجمة عمل فني الى
اُسلوب آخر من نفس اللغة يكون في العادة أدنى.
والظاهر من المطروح انه لم يستخلص
رأياً محدداً بل ترك الامر مفتوحاً لعدة آراء
ضرب لها امثلة، منها مسألة الادب ودراسته
التي تؤدي الى نتائج تشكيكية في طابعها
باحتجاج ان الادب لا يمكن دراسته على
الاطلاق، ويرى «ويليك» تثبت التقدير والتذوق
والحماسة للنص، وهو وإن كان نقد هذا، لكنه
طرحه لانه لم يجد غيره.
3 ـ المعرفة المنهجيّة الخاصة:
مما لا شك فيه أن هناك تماساً وتداخلاً
كبيرين بين المنهج العلمي والدراسات
الادبية، إذ من الممكن ان يستفيد الادب من
الاحصاء والرسم والخطوط البيانية، حيث اثبتت
هذه العلوم قيمتها أحياناً في مجال او تكنيك
محدود، كاستعمال الاحصاء في مناهج معينة لنقد
النصوص أو لدراسة الاوزان، لكنها أخفقت في
الكثير من المجالات، مما دعا المشايعين
لعملية الغزو العلمي للدراسة الادبية
للاشارة الى ان الانتصارات المقبلة لحل
المعضلات الادبية جميعها ستكون لعلم الاعصاب.
وبما ان المنهج العلمي لا يمكن
استبعاده بسهولة عن الدراسات الادبية
كالاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب،
والمقارنة مشتركة في جميع أصناف المعرفة
المنهجيّة، غير أن الحل الاخير هو: «ان للبحث
الادبي مناهجه الخاصة التي لا تتطابق دائماً
مع العلوم الطبيعية»[9].
ومثلما استطاعت علوم الفلسفة والتاريخ
والفقه واللغة ان تستنبط مناهجها وقواعدها من
أدلتها التفصيلية، فالادب كذلك، وبما ان لكل
علم هدفاً ذاتياً ومنهجيّة خاصة فيجب ان
نعترف بوجود هذا الفرق بين المناهج والاهداف
لكل من العلوم الطبيعية والانسانية. فمثلاً
الفرق بين مناهج العلوم الطبيعية والتاريخ
يأتي انطلاقاً من التعارض بين الشرح والادراك.
ويميّز الفرنسي أ ـ د ـ كسينوبول بين العلوم
الطبيعية والتاريخ بـ «ان الاولى تنشغل بواقع
متكرر [وقائع مكرورة] والثانية بالواقع
المتعاقب [وقائع متعاقبة]»[10].
اما في الادب فإننا ندرس شكسبير
مثلاً، لاننا نهتم بما يميّزه عن بقية الناس،
وليس بما يشترك فيه معهم، ونريد من ذلك أن
نفهم ما تفرّد به، وحتى دراسة أدب أمّة من
الامم يهتم بها الدارس بوصفها حالةً فردية
ذات مواصفات وخصائص مميّزة تفردها عما
يشابهها من مجموعات أخرى.
من خلال هذا القول نستطيع دعم القول
بالمنهجيّة الفرديّة باعتبار ان لكل عمل ادبي
نسيجيّة وعينيّة خاصة في تفاعلاتها
وانفعالاتها التي من غير الممكن ان تتكرر.
وفي النتيجة تشكل المناهج الادبية
خصوصية لنفسها من جانب، وهي مشتركة مع غيرها
باللغة والكلمات من جانب آخر.
4 ـ إمكان وعدم القانون الادبي:
يدور الامر بين وضع قانون للادب
بالزيِّ العصري ويطابق المنهجين التاريخي
والعلمي، وقد يؤدي هذا الامر الى مجرد تجميع
للوقائع. والاخر على العكس، والذي يدعو الى ان
البحث الادبي ليس علماً، لكن الحل المضاد
للعلم له مخاطره. فقد يؤدي الحدس الشخصي الى
تقدير انفعالي، والى ذاتية تامة. وهنا لنا «قول»
هو: إذا وضعت قوانين علمية للادب أو المتعة
الحقيقية فستكون العملية شبيهة بالفيزياء
وفق قاعدة الفعل ورد الفعل، أو شبيهة
بالاتحاد الكيمياوي، وهذا غير ممكن، لان
الشاعر مثلاً لا يعمل لاتحاد انفعالاته
والتقاطات أحاسيسه بالوزن لتنتج مقطعاً أو
صورة شعرية أو مفردة، بل العملية عملية
انصهار داخلي غير مادي وغير محدودة، لذلك قال
«أرسطو»: ان الشعر أعمق من التاريخ، فهو أعمق
فلسفةً منه.
إذاً العمل الابداعي الادبي
كالانسان، ينفرد بسمات مميّزة لشخصيته، وهو
في نفس الوقت مشترك في قانون الانسانية مع بني
جنسه.
من هنا نرى ان النقد الادبي يحاول ان
يميّز الجزئيات من خلال المصطلحات الكلية.
هذه أربعة عناصر استطعت ان أبوّبها
على هذه الصورة، لعل القارئ والاديب يستعين
بها مؤقتاً كأوراق خارجيّة مهمة للدخول في
ذاتيات المدارس الادبية لحين بلورة عناصر
جديدة لنظرية إسلامية، نعتقد بامكان بروزها
كما برزت اللائحة الاسلامية لحقوق الانسان[11].
والتي حفلت بالعديد من الفقرات والمواد التي
لم تتطرق لها اللائحة العالمية، رغم تعديلات
جنيف، ومثلما اشتركت اللائحتان في مواد
وفقرات عدة.
إذاً ليس من المستحيل صياغة نظرية
كبرى للادب والنقد الاسلامي الذي تتوفر مادته
التاريخية والتراثية والثابتة لكل العصور.
فلدينا القصص القرآني، والمثل، والحكمة،
والسنّةُ المطهرة، علاوة على واقعة الطف،
والوقائع التي تلتها، التي نستطيع ان نستخلص
منها أعظم الحكم، وأروع الدراما والتراجيديا.
واعتقد انه لو صيغت نظرية للادب والنقد
الاسلامي على ضوء ما نملك لالغينا الكثير من
تلك التي يسمونها بالروائع والخالدات. «فصموئيل
بيكت» ملا الدنيا وشغل الناس بمسرحية «في
انتظار غودو» التي لو استخدمنا أمامها قضية
الغائب «عج» لالغيناها، وكذلك هاملت شكسبير
الذي وقف له العالم هاتفاً لعقود من الزمن
عندما هتف بمقولته: «أكن أو لا أكن تلك هي
المسألة». بينما قال الاعمق والاروع من ذلك
العباس بن علي(عليه السلام) قبل اكثر من ثلاثة
عشر قرناً ولم يتداع رغم أحلك الظروف الذاتية
والموضوعية، فنراه يقول:
يا نفس من بعد الحسين
هونيوبعـده لا كـنت أو تكـونـي
فهاملت ينتحر، بينما العباس(عليه
السلام) ينتصر. هذا تراثنا وحقيقتنا كمسلمين،
وهذه حقيقتهم في أرفع مستويات ثقافتهم. ولنا
إذا ترجمنا المواقف الاسلامية للرجال بشكل
ادبي، أو استفدنا منها ادبياً فسنلغي الكثير
من شخصيات دوستويفسكي وهمنجواي. وما أبله
دوستويفسكي، ومانولي نيقوس كازنتزاكي في
المسيح يصلب من جديد إلاّ شخصيات رفعتها
النظرية الادبية والاكاديمية النقدية لكل
مدرسة من المدرستين.
ولنضرب هنا مثلاً واحداً من سيرة
الامام الحسين(عليه السلام)، ونرى كم من
الاستنتاجات نستطيع ان نستخلصها، فعندما
تقدم جارية له وردةً في العيد وتحييه بتحية
الاسلام نراه يردّ عليها ويقول لها: أنت حرّةٌ
لوجه الله. وعندما يستفسر أصحابه منه: أمن أجل
وردة تعتق جارية؟ يجيبهم(عليه السلام): ألم
تقرأوا قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيّوا
بأحسن منها)[12]؟
هنا نستطيع استنتاج ما يلي:
1 ـ الانسانية ومعالجة قضية الرقيق
والاماء بأبسط الاثمان رغم معرفة السبط
الثاني(عليه السلام) كيف اصبحت هذه جارية وذاك
رقّـاً.
2 ـ الربط الواقعي بين العقيدة والواقع
المعاش.
3 ـ رهافة الحس والنظرة الجمالية للورد
وعكسها على انكسارات الجارية.
4 ـ الرحمة وتعويد الامة عليها.
5 ـ المنفعة المادية والروحية.
وغيرها من الاستنتاجات.
فإذا أردنا أن نقارن جمالياً مع قياس
الفارق بين المسلم وغيره نضع النقطة الثالثة
أمام بكاء هتلر عند سماعه زقزقة العصافير،
وكيف عكس هذا الاحساس بالجمال على العالم.
والمثال المطروح ليس إلاّ حالة طارئة وخفيفة
وسريعة في حياة المسلمين وقادتهم الحقيقيين،
الامر الذي يدعو لصياغة نظرية أدبية ونقدية
مستقلة لنا.
وأرى ان صياغة نظرية أدبية ونقدية
للادب الاسلامي يمكن ان تتضمن بعض المفاهيم
الاولية للفهم التي نحاول طرحها الان
بالاضافة الى ما تقدّم:
* النظرة المتفحصة للنص والاراء: فعلى
الاديب والناقد والقارئ المسلم ان تكون له
إحاطة عقيدية ثابتة لا قلقة بقواعد واُصول
وتاريخ عقيدته، حتى لا تمر عليه مختلف النصوص
وتجرفه بمتونها وحلاوتها، فعندما يقرأ مثلاً
رواية «عشيق الليدي تشارلي» يجب ان يستنتج
أنها قصة حبٍّ محرّمة رغم لواعجها
وانفعالاتها، ويجب أن يحكم على الحرب نفسها
لا على نتائجها. كما يجب ان تكون له وشائج
حميمة بتراثه وشعبه، لا كما فعل الشاعر
الكبير «بدر شاكر السياب» عندما ترجم النظرة
السلبية عند الانجليز بخصوص نزول المطر في
شعره:
«أتعلمينَ أيَّ حزن يبعث المطر»[13].
وهو بذلك خالف النظرة العقيدية لشعبه
واُمته، فالقرآن الكريم يصرّح بعكس ذلك كما
في قوله تعالى: (وأنزلنا من المُعصِراتِ ماءً
ثَجّاجاً * لنُخرجَ به حبّاً ونباتاً)[14].
وقوله تعالى: (وَأن لو استقاموا على
الطريقةِ لاسقيانهم ماءً غدقا)[15].
وقوله تعالى: (ونزّلنا من السماء ماءً
مباركاً...)[16].
وغيرها الكثير.
* البحث عن العناصر المشتركة للمنفعة
عند الانسان: فمن خلالها نستطيع إعطاء
الانسانية فكرنا وتغذيتها به وتصحيح أفكارها
وركائز معتقداتها، الامر الذي يتطلب قراءة
أفكارهم وممارساتهم لاكتشاف عناصر المتعة
الحقيقية والتقبل لديهم.
* اعتبار الادب من العناصر الاساسية
التي تعمل على ضوئها ومن خلالها الاجهزة
السمعية والمرئية التي تدخل كل البيوت.
* العبرة: ونستطيع ان نستند في فهم حركة
التطور التاريخي للانسانية أو سقوط الحضارات
الى الاية الكريمة: (لقد كانَ في قَصَصهم عبرة
لاُولي الالباب)[17].
* الاستفادة من عناصر الفهم الاولي في
الفنون المتطورة عندنا، كالخط ومراحل تطور
حروفه التي بات عددها الى ما شاء الله. وكذلك
الزخرفة وفن العمارة، والذي تطورت الهندسة
على ضوئه.
هذه مجرد ملاحظات للنقاش والاثارة،
وربما يأتي الذي يلغيها من اساتذتنا وادبائنا
الرساليين ويأتي بالسديد. كما هي دعوة لبلورة
النظرية الادبية والنقدية الاسلامية ـ
خصوصاً ونحن نعيش زمن الصحوة الاسلامية
المباركة، وبحبوحة الحرية الفكرية هنا
وهناك، وكنتيجة لبركات هذه الصحوة ـ لنرسي
قواعدنا في هذا المجال الذي هو خطوة واحدة من
مسير الخطوات الكادحة بالانسان نحو الاعلى لا
إلى اليمين أو اليسار او الخلف.
([1])
جاءت ترجمة المؤلفين في مقدمة كتاب نظرية
الادب «الغربية».
([2])
نظرية الادب «الشرقية» تأليف مجموعة من
الاساتذة السوفييت.
([3])
مقدمة كتاب نظرية الادب تأليف مجموعة من
الاساتذة السوفييت.
([4])
لقد اثبت نجيب محفوظ ذلك في روايته اولاد
حارتنا واساء للقيم الدينية، وكذلك الطيب
الصالح في روايته عرس الزين حيث صور رجل
الدين بذلك الانسان التافه الاقرب الى السحر
والشعوذة، اما عبدالرحمن منيف فصور في
الاشجار واغتيال مرزوق حالات من ابطاله
كأنها مساجد المسلمين المهجورة، ولا يخفى
على القارئ دور جبرا ابراهيم جبرا في
كتاباته الادبية كيف يحاول مسخ الهوية
الشرقية ذات المسحة الروحانية وهو من اكبر
رجال التغريب الادبي في الوطن العربي.
([5])
مثال ذلك المؤرخ العراقي «الكبير»
عبدالرزاق الحسني الذي ظهر على شاشة تلفزيون
بغداد وهو يقبل يد حاكم العراق صدام، هذا
حديثاً. ويقول الحُصري القيرواني في كتاب
زهر الاداب وثمر الالباب المشروح بقلم زكي
مبارك على الصفحة «29» عند حديثه عن القرن
الرابع الهجري وكتّابه: «ومن اهم الجوانب
التي تمثل الحالة العقلية في ذلك العصر
الخصومات العنيفة التي قامت بين الكتاب، فقد
كانت بينهم مناوشات ومجادلات نشأت من
اطماعهم في الحياة الماديّة، وكانوا يمثلون
غالباً طوائف من الافكار الدينية والسياسية
يقومون في الدفاع عنها بما تقوم به الجرائد
المغرضة في العصر الحاضر وكان لهم من القوّة
ما كان للشعراء فلم يكن من بدٍّ ان يتنافس
اصحاب الملك في تقريبهم، ولم يكن بدٌّ كذلك
من ان يتنافس هؤلاء في الاستئثار بالحظوة
عند الوزراء والرؤساء والملوك». وفي رسائل
بديع الزمان ص145 جاء بخصوص الكتّاب: «ولا
صلحت احوالهم، الا فسدت اعمالهم، ولا فاض
جاههم، إلاّ غاضت مياههم».
([6])
التكوير: 18.
([7])
نظرية الادب «الغربي»: 11.
([8])
نفس المصدر والصفحة.
([9])
نظرية الادب «الغربي»: 13.
([10])
نفس المصدر: 14.
([11])
نص اللائحة الاسلامية لحقوق الانسان نشر في
مجلة رسالة الثقلين العدد السابع.
([12])
النساء: 86 .
([13])
الجزء الثاني من ديوان بدر شاكر السياب،
قصيدة انشودة المطر: 476.
([14])
النبأ: 14 ـ 15.
([15])
الجن: 16.
([16])
ق: 9 .
([17])
يوسف: 111.