دراسـات
خطاب الاستنصار الحسيني
استعراض وتحليل( 2 )* الشيخ محمـد مهدي الاصـفي3 ـ المضمون الولائي لاستنصار الحسين(عليه
السلام) :
للاستنصار علاقة وثيقة بشبكة الولاء ،فيجب النصرة فيها عند الاستنصار وهذه الشبكة
ذات بعدين : البعد العمودي ، والبعد الافقي ،
وهما سواء في وجوب النصرة عند الاستنصار .
البعد العمودي من شبكة الولاء :
أما البعد العمودي في هذه الشبكة فهوالولاء للّه ولرسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ولائمة
المسلمين وأولياء أمورهم . يقول اللّه تعالى :
(إنّما وليُّكم اللّه ورسولُه والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون)(1) ، وقد ورد في
تفسير هذه الاية المباركة بأسناد مستفيضة من
طرق الفريقين ، أن الاية الكريمة نزلت في علي
بن أبي طالب(عليه السلام) إمام المسلمين ، وهو
المقصود بقوله تعالى : (الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون)عندما تصدّق بخاتمه
وهو راكع في الصلاة خلف رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) . ويقول تعالى : (وأطيعوا اللّه
وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم)(2)
.
البعد الافقي في شبكة الولاء :
وأما البعد الافقي في هذه الشبكة فهوالولاء للمؤمنين : (والمؤمنون بعضهم أولياء
بعض) ، والمؤمنون على هذا البعد من شبكة
الولاء أسرة واحدة ، تربطهم رابطة الولاء ،
مهما كانت لغاتهم وأوطانهم وطبقاتهم .ما يشترك فيه البعد العمودي والافقي ،
وما يتميّز فيه البعد العمودي من الولاء :ويشترك البعد العمودي والبعد الافقي
في الولاء في وجوب الحبّ والنصر والسلام ،
ويتميّز البعد العمودي عن الولاء بوجوب
الطاعة ، فتجب طاعة اللّه ورسوله وأولي الامر
، وطاعة من يأمر اللّه تعالى ورسوله وأولو
الامر بطاعتهم .
الصيغة التوحيدية في شبكة الولاء :
وكل ما يجب في هذه الشبكة على أعضائهامن الحب والنصر والتعاون والنصيحة والسلام
والطاعة ، إنّما يجب بأمر اللّه تعالى ، فكل
ما يجب في هذه الشبكة يأتي في امتداد طاعة
اللّه تعالى وحده ، فلا طاعة لرسول اللّه ولا
لاولي الامر من دون طاعة اللّه ، وإنما تجب
طاعتهما بأمر اللّه .ولا يجب حب رسول اللّه ولا أولي الامر
ولا المؤمنين ، ولا يجب نصرهم ونصيحتهم إلاّ
بأمر اللّه تعالى ، وبحبّه ، ونصيحته .وهذه الصيغة (التوحيدية) في شبكة
الولاء ، هي خصوصية بارزة ومحورية في كل هذه
الشبكة الواسعة ، وفي كل ما يجب ويحرم فيها ،
وفي أعضاء أسرة التوحيد الكبيرة .
مقوّمات الولاء في البعد الافقي :
يقول تعالى : (إنّ الذين آمنوا وهاجرواوجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه
والذين آوَوا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض
... * والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ...)(3)
.وهذه المجموعة من العناصر هي التي
تشدّ المؤمنين بعضهم ببعض بآصرة الولاء ، وهي
الايمان ، والهجرة ، والجهاد بالاموال
والانفس ، والايواء ، والنصرة .وهذه العناصر في الاية الكريمة ـ وإن
كانت تشير إلى المهاجرين والانصار في صدر
الاسلام ـ تبقى بروحها من ثوابت الولاء ، ولا
ولاء من دونها بين المؤمنين ; ذلك أن أسرة
التوحيد الكبيرة كلّها في مواجهة الشرك
والكفر والظلم والاستكبار ، وهذه المواجهة
حتمية من ناحية ، ومصيرية من ناحية أخرى ،
فلابد أن يدخل المؤمنون في هذه المواجهة كتلة
واحدة ، وصفّاً واحداً ، تربطهم آصرة الولاء (أولئك
بعضهم أولياء بعض) ، كما أن الامر كذلك في أسرة
الشرك والكفر ، فهي تدخل في هذه المواجهة كتلة
واحدة ، تربطها علاقة الولاء العضوية (بعضهم
أولياء بعض) .
الولاء والايمان الحق :
والايمان الحق ، هو الايمان الفاعلالمؤثر الذي يشدّ بعضهم ببعض ، ويجعل منهم
كتلة واحدة في مقابلة الكفر والشرك
والاستكبار . والايمان الحق خصيب
وليس بعقيم ، ويوصل ويفصل ، يوصل المؤمنين
بعضهم ببعض ، ويفصل المؤمنين عن المشركين
والكافرين .والايمان الحق مصدر عطاء وثورة ونصر
وفعل في حياة الانسان المسلم ، ولا يكون
الايمان حقّاً إلاّ ضمن شبكة الولاء بكل
مقوّماتها . يقول تعالى : (والذين آمنوا
وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والذين آوَوا
ونصروا أولئك هم المؤمنون حقّاً)(4)
.وهذه هي القضية الاولى ، والقضية
الثانية أن المؤمنين حقّاً بعضهم من بعض
، يعني أن الايمان الحق جمع شتات المؤمنين ،
وجعلهم كتلة واحدة وصفّاً واحداً ،
وجعل بعضهم من بعض كأعضاء الجسد الواحد .
السلام والعصمة في شبكة الولاء :
ومن أهم خصائص شبكة الولاء (السلام) و(العصمة)للانسان المسلم ، فهو يمنح الاخرين السلام في
تعامله معهم وعلاقته بهم ، ويتمتع هو بالعصمة
، فلا يحق له أن يعتدي على أحد ولا أن يؤذي
أحداً من المسلمين ويظلمه ، كما لا يحق لاحد
أن يخترق العصمة التي منحها اللّه تعالى
ويهتكها .فهناك (سلام) من جهة ، و(عصمة) من جهة
أخرى ، وهذا أحد أهم بنود الولاء في علاقة
المؤمنين بعضهم ببعض داخل شبكة الولاء .
معنى السلام :
رُوي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): « المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده
إلاّ بالحق ، ولا يحق أذى المسلم إلاّ بما يجب
» .وعن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام)
: « المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ،
ولا يخونه . ويحق على المسلمين الاجتهاد في
التواصل والتعاقد على التعاطف
والمواساة لاهل الحاجة ، وتعاطف بعضهم على
بعض ، حتى تكونوا كما أمركم اللّه
رُحماء بينكم ، متراحمين »(5)
.وشبكة الولاء على متانتها واستحكامها
وقوّتها حسّاسة شديدة الحساسية تجاه أيّة
إساءة أو أذىً .عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) :
« إذا قال رجل لاخيه المؤمن أفّ خرج من ولايته
وإذا قال : أنت عدوّي كفر أحدهما ، ولا يُقبل
من مؤمن عملاً ، وهو مُضمر على أخيه سوءاً »(6)
.وعن الصادق(عليه السلام) : « إن اللعنة
إذا خرجت من صاحبها ترددت بينه وبين الذي
يُلعن ، فإن وجدت مساغاً ، وإلاّ رجعت إلى
صاحبها ، وكان أحقّ بها ، فاحذروا أن تلعنوا ،
فيحلّ بكم »(7) .
وفي العصمة :
وفي العصمة روي عن رسول اللّه(صلى اللهعليه وآله) : « المسلم على المسلم حرام دمه
وعرضه وماله »(8)
.وعنه(صلى الله عليه وآله) : « المسلم
أخو المسلم ، لا يخونه ولا يكذّبه ولا يخذله .
كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه »(9)
.وعنه(صلى الله عليه وآله) : « كل مسلم
على مسلم محرّم »(10)
.وعن زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه
الصادق(عليه السلام) أنه قال : « إنّ رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) وقف بمنى حين قضى
مناسكها في حجّة الوداع فقال : أيها الناس ، اسمعوا
ما أقول لكم ، واعقلوا عنّي ، فإنّي لا أدري
لعليّ لا ألقاكم في هذا الموقف بعد
عامنا هذا ، ثم قال : أي يوم أعظم حرمة ؟ قالوا
هذا اليوم . قال : فأيّ شهر أعظم
حرمة ؟ قالوا : هذا الشهر . قال : فأيّ بلد أعظم
حرمة ؟ قالوا : هذا البلد . قال : فإنّ
دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى
يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم . ألا هل بلّغت
؟ قالوا : نعم »(11)
.وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) : «
أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ
اللّه ، فإذا قالوها فقد حرم عليَّ دماؤهم
وأموالهم »(12)
.وعن أبي هريرة قال : « قال رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) : أُمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلاّ اللّه ، فإذا قالوا لا إله
إلاّ اللّه عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ
بحقّها ، وحسابهم على اللّه »(13)
.
علاقة النصر بشبكة الولاء :
وعلاقة النصر بشبكة الولاء علاقةوثيقة ومحكمة . يقول تعالى : (وإن استنصروكم في
الدين فعليكم النصر)(14)
. فإذا استنصر المسلمين مسلمون من أطراف الارض
وجب عليهم ـ على نحو الكفاية ـ المبادرة إلى
نصرهم .عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام)
أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال : « من
أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ، ومن
سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس
بمسلم »(15) .وعن البراء بن عازب قال : « أمر النبي(صلى
الله عليه وآله) بسبع ونهانا عن سبع . فذكر ردّ
السلام ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإبرار
القسم »(16)
.وعن الصادق عن أبيه(عليهما السلام) قال
: « لا يحضرن أحدكم رجلاً يضربه سلطان جائر
ظلماً وعدواناً ولا مقتولاً ولا مظلوماً ،
إذا لم ينصره ، لان نصرة المؤمن على المؤمن
فريضة واجبة ، إذا هو حضره ، والعافية أوسع ما
لم يلزمك الحجة الظاهرة »(17)
.ويحرم على المسلم خذلان المسلم إذا
دعاه إلى نصرته وهو قادر عليها .عن موسى بن جعفر عن آبائه قال : « قال
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : من أصبح لا
يهتم بأمور المسلمين فليس من الاسلام في شيء ،
ومَن شهد رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه
فليس من المسلمين »(18)
.وقد سبق هذا الحديث بلفظ قريب .وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال : «
ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته ،
إلاّ خذله اللّه في الدنيا والاخرة »(19)
.وعنه(عليه السلام) قال : « ما من مؤمن
يعين مؤمناً مظلوماً إلاّ كان أفضل من صيام
شهر واعتكافه في المسجد الحرام ، وما من مؤمن
ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته ، إلاّ نصره
اللّه في الدنيا والاخرة ، وما من مؤمن يخذل
أخاه وهو يقدر على نصرته ، إلاّ خذله اللّه في
الدنيا والاخرة »(20)
.وعنه(عليه السلام) قال : « ما من مؤمن
يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته ، إلاّ خذله
اللّه في الدنيا والاخرة »(21) .
استنصاران للحسين(عليه السلام) في قصر
بني مقاتل :
وإذا لم يسع المسلم تلبية استنصارالمسلمين واجابة دعوتهم ونصرهم ، فلا يحضر
استغاثتهم واستنصارهم . وقد مر بنا قريباً قول
الامام الصادق(عليه السلام) ، حسب الرواية : «
لا يحضرن أحدكم رجلاً يضربه سلطان جائر ظلماً
وعدواناً ... » .وقد كان الحسين(عليه السلام) إذا
استنصر رجلاً فأبى عليه ينصحه أن يبتعد عنه
ويغيب عن مصرعه ، لئلاّ يسمع باستغاثته .وكان للحسين(عليه السلام) لقاءان في
منزل قصر بني مقاتل(22)
في طريقه إلى كربلاء : اللقاء الاول بعبيد
اللّه بن الحرّ الجعفي ، واللقاء الثاني
بعمرو بن قيس المشرقي وابن عمّه ، وقد
استنصرهم الحسين(عليه السلام) جميعاً ،
فاعتذروا ولم تطب نفوسهم بالموت ، فنصحهم
الحسين(عليه السلام) أن يبتعدوا عنه ويغيبوا
عن مصرعه ، لئلاّ يسمعوا استغاثته فلا يجيبوه
فيكبّهم اللّه تعالى في النار .وإليك تفاصيل هذين اللقائين :في اللقاء الاول التقى بعبيد اللّه بن
الحرّ الجعفي فاستنصره ، فاعتذر عبيد اللّه
كما ذكرنا ذلك من قبل ، وقال له أنه لا يشك أن
من شايعه كان سعيداً في الاخرة ، ولكن نفسه لا
تطيب بالموت ، وأهدى إلى الحسين(عليه السلام)فرسه
(الملحقة) ومدحها ، فقال له الحسين(عليه
السلام) : « أما إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة
لنا في فرسك ، ولا فيك ، وما كنت متّخذ
المضلّين عضُداً ، وإنّي أنصحك كما نصحتني .
إن استطعت ألاّ تسمع صراخنا ، ولا تشهد وقعتنا
فافعل ، فو اللّه لا يسمع واعيتنا أحد ولا
ينصرنا إلاّ أكّبه اللّه في نار جهنّم »(23)
.واللقاء الثاني في نفس المنزل بعمرو
بن القيس المشرقي وابن عمّه . رواه الصدوق في
عقاب الاعمال عن أبيه قال : « دخلت على الحسين
أنا وابن عمّ لي ، وهو في قصر بني مقاتل ،
فسلمت عليه .فقال له ابن عمّي : يا أبا عبد اللّه ،
هذا الذي أراه خضاب أو شعرك ، فقال : خضاب ،
والشيب إلينا بني هاشم يعجل .ثم أقبل علينا . فقال : جئتما لنصرتي ؟
فقلت : إنّي رجل كبير السن ، كثير الدين كثير
العيال ، وفي يدي بضائع الناس ، ولا أدري ما
يكون ، وأكره أن أضيع أمانتي . وقال له ابن
عمّي مثل ذلك . قال لنا : فانطلقا فلا تسمعا لي
واعية، ولا تريا لي سواداً ، فإنه من
سمع واعيتنا ، أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم
يعبأ ، كان حقّاً على اللّه عزوجل أن يكبّه
على منخره في النار » .
الاستنصار لاتمام الحجّة :
عاشوراء مفترق طريق ، ومن فارق الحسين(عليهالسلام) في عاشوراء عن علم وعمد وسمع واعيته
وحضر استغاثته فسبيله نار جهنم .وقد شطر الناس عاشوراء منذ سنة 61 هـ
إلى اليوم شطرين : شطر إلى الجنة ، وشطر إلى
النار ، فمن كان رأيه من رأى الحسين(عليه
السلام) ، وهواه مع الحسين(عليه السلام) ،
وموقفه مع الحسين(عليه السلام) ، كان سبيله
الجنة ، ومن كان رأيه من رأي يزيد ، وهواه مع
يزيد ، وموقفه مع يزيد كان سبيله النار ; ذلك
أن الحسين(عليه السلام) وارث الانبياء
والصدّيقين والمرسلين في مسير التاريخ كله ،
فمن كان هواه مع الحسين(عليه السلام) ، كان لا
محالة مع حركة الانبياء والمرسلين
والصدّيقين ، ومن كانه هواه مع آل أبي سفيان ،
كان موقفه لا محالة مع أعداء الانبياء
وخصومهم .ولذلك فإن الحسين(عليه السلام) وارث
الانبياء ، ويزيد وارث الطغاة والجبابرة ،
وعاشوراء من أيام (الفرقان) في التاريخ .وقد شطر عاشوراء ـ كما ذكرنا ـ الناس
منذ سنة 61 هـ إلى اليوم شطرين : (أنصار) و(أعداء)
.ولسنا نعرف شطراً وسطاً بينهما إلاّ
أن يكون من المستضعفين الذين يرجون رحمة
اللّه بالاستضعاف . إذن (عاشوراء) مفترق طريق ،
وقد كان الحسين(عليه السلام) يحرص يوم عاشوراء
وقبله أن يتم الحجة على كل أولئك الذين وقفوا
مع آل أبي سفيان ; (لئلا يكون للناس على اللّه
حجّة) ، وكان يحرص أن ينقذ من يمكن انقاذه ،
ويصلح من يمكن إصلاحه ، ويهدي من يمكن هدايته .كان الحسين(عليه السلام) يتم الحجة في
استنصاره واستغاثته الذي تكرر منه على كل
الذين قاتلوه وحاربوه وظلموه ، أو وقفوا من
مصرعه موقف المتفرّج الذي لا يبالي بما كان
يحدث ، فقد كان(عليه السلام) يعلم بأن لهذا
اليوم شأناً كبيراً في التاريخ ، وأنه مفترق
الطريق بين الحق والباطل والهدى والضلال في
التاريخ ، فأراد أن يتم الحجة على الناس لئلا
يكون للناس على اللّه حجة .
تنوّع الخطاب الحسيني :
ولذلك نجد أن الخطاب الحسينيللاستنصار خطاب متنوّع ، فهو(عليه السلام)حريص
على أن ينفذ إلى تلك القلوب المغلقة ، ويفتحها
بأي اسلوب ممكن ، فهو يخاطب عقولهم تارة ،
ويخاطب ضمائرهم تارة ، والضمير آخر قلعة
تقاوم الباطل في نفس الانسان ، ويخاطب قلوبهم
وعواطفهم تارة ، والعاطفة خزين مبارك من
الخير والرحمة في نفس الانسان ، وآخر ما ينضب
من نفسه وقلبه .لقد خاطب الحسين(عليه السلام) عقولهم
يوم عاشوراء فقال لهم : « أحين استنصرتمونا
والهين فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً
لنا في أيمانكم ، وحششتم علينا ناراً
اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم
إلباً لاعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه
فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم » .وخاطب ضمائرهم فقال : « يا شيعة آل أبي
سفيان ، إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في
دنياكم » .وخاطب عواطفهم ثالثاً فقال في آخر
استغاثة له(عليه السلام) : « أما من مغيث
يغيثنا ؟ أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) ؟ » .من مشاهد الاستغاثة المؤثرة استسقاؤه
للطفل الرضيع يوم عاشوراء وهو يتلظّى
عطشاً ، فرفعه إليهم وقال : « أما منكم من أحد
يأتنا بشربة من الماء لهذا الطفل
الرضيع ؟ » ثم قال لهم : « اسقوا هذا الرضيع »(24) .والعاطفة خزين مبارك من الخير والرقة
والرحمة كما ذكرنا ، وآخر ما ينضب في نفس
الانسان ، وهذه الرحمة التي تفيض بها العاطفة
تطهّر القلب مما يعلق به من الدرن ، وتلينه
وتفتح مغاليقه .وقد تنغلق العقول ويتصامّ الناس عن
نداء العقل ، ولكنهم يستجيبون لنداء العاطفة
، وتنفتح له قلوبهم .
المعنى الشمولي لخطاب الحسين(عليه
السلام) :
لا نجد مبرراً للقول بأنّ خطاب الحسين(عليهالسلام) بالاستنصار كان مقتصراً على أولئك
الذين عاصروا الحسين(عليه السلام) وشهدوا
وقفة الطف .وليس ثمة دليل في خطاب الحسين(عليه
السلام) يمنع أن يكون للاجيال التي تعاقبت من
بعده ، ممّن لبّوا هذا الخطاب وأسرعوا في
الاستجابة له ، فقد كان المجتمع الاسلامي
يومئذ يمرّ بفترة رهيبة من التاريخ فقد فيها
الكثير من أخلاقيته وقيمه وكفاءاته .ولست أدري ماذا فعل معاوية ، خلال سني
حكمه من افساد وظلم ، حتى بلغ المجتمع
الاسلامي في عصر ابنه يزيد هذا المبلغ من ضعف
الارادة ونضوب القيم وفقدان الاخلاق ، وليس
أدل على ما نقول من أن ابن رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) يدعوهم إلى الخروج على يزيد وهم
يعرفون الحسين(عليه السلام) ويعرفون يزيد ، ثم
لا يستجيب له من كل أولئك الذين خاطبهم الحسين(عليه
السلام) أو بلغهم خطابه إلاّ اثنين وسبعين
رجلاً فقط .وأصدق وصف لهذا العصر هو الوصف الذي
يصفه به الحسين(عليه السلام) ، كما يرويه
الطبري في التاريخ ، وهو أول خطبة له(عليه
السلام) بعد وصوله إلى كربلاء . يقول(عليه
السلام) : « إن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ،
وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صُبابة
كصُبابة الاناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل .
ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا
يتناهى عنه ؟ » . وهو وصف دقيق لذلك العصر ،
ولاثبات هذا الوصف يقول الامام(عليه السلام) :
« ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به ؟ » . ومن أجل
ذلك نعتقد أن خطاب الحسين(عليه السلام) لا
يقتصر على عصره ، فليس من سبب لحجب هذا الخطاب
عن العصور التي تلي ذلك العصر .ولسنا نريد أن ننفي صفة مخاطبة الناس
في ذلك العصر من خطاب الحسين(عليه السلام) ،
ولكنّا نريد أن نقول إن روح هذا الخطاب أوسع
من ذلك العصر .إن الصراع الذي خاضه(عليه السلام) في
سنة احدى وستين هجرية حلقة متوسطة من سلسلة
طويلة من الصراع بين التوحيد والشرك والهدى
والضلال ، يتصل طرف منه بصراع الانبياء(عليهم
السلام) مع أئمة الكفر ، والحسين(عليه السلام)
وارث هذه السلسلة المتصلة من ائمة التوحيد ،
ويتصل الطرف الاخر منه بسلسلة طويلة من
الصراع في امتداد الطف يقوده ائمة التوحيد ،
حتى يتسلّم المهدي من آل محمد(صلى الله عليه
وآله) لواء التوحيد ، وتطهير الارض من رجس
الشرك والظلم .وعاشوراء من المفاصل الاساسية في هذه
السلسلة الممتدة من الصراع بين التوحيد
والشرك والهدى والضلال ، وخطاب الحسين(عليه
السلام) خطاب شامل لكل أولئك الذين بلغهم هذا
الخطاب ، ومكّنهم اللّه تعالى من وراثة تراث
عاشوراء ، ورزقهم الوحي والبصيرة .
التلبية :
والتلبية الواردة في نصوص الزياراتالتي يزور المسلمون بها الحسين(عليه السلام)
تشير إلى هذه الحقيقة التاريخية ، فإن الحسين(عليه
السلام) (داعي اللّه) ، ونداؤه ودعوته توحيد
اللّه ، وخطابه الدعوة إلى نصرة دين اللّه
وشريعته وأحكامه وحدوده ، ورفض الطاغوت
والكفر به . وهذه دعوة عامة ، وخطاب شامل لتلك
الاجيال الذين تعاقبوا بعد عاشوراء .وإذا حجبنا عصرهم عن التلبية المباشرة
لدعوة الحسين(عليه السلام)واستنصاره ، فنحن
اليوم نلبّي ذلك الخطاب ، ونستجيب لتلك
الدعوة في ازالة الظلم والشرك ومجاهدة
الظالمين ، وتثبيت أركان التوحيد في الارض ،
وهدم بنيان الشرك والظلم والاستكبار .وقد ورد في نصوص زيارة الحسين(عليه
السلام) : « لبيك داعي اللّه . إن لم يجبك بدني
عند استغاثتك ، ولساني عند استنصارك ، فقد
أجابك قلبي وسمعي وبصري » والتلبية من مقولة (العزم)
و(الفعل) ، وليس من مقولة (القول) . والقول
تعبير عن عزم الانسان على الفعل .فالتلبية الحقيقية لخطاب الحسين(عليه
السلام) أن يقف الانسان مع الحسين(عليه السلام)في
مواجهة الظالمين ، وعدم الركون إليهم ،
ورفضهم والبراءة منهم ، والصمود والثبات في
مواجهتهم .ولست أعتقد أن مرور ألف وثلاثمئة (عام)
على مصرع الحسين(عليه السلام)وأصحابه وأهل
بيته الذين لبّوا دعوته ، قد خفّف من قسوة
الصراع وضراوة المعركة ، ولا أعتقد أن
التلبية لذلك الخطاب أيسر ـ في عصرنا ـ من
التلبية لنفس الخطاب في ذلك العصر .فالمعركة هي المعركة ، والخطاب هو
الخطاب ، والتلبية هي نفس التلبية، وضريبة
التلبية هي نفسها .تفسير وتحليل جملة من المضامين
الواردة في خطاب الاستنصار الحسيني :ويستوقفنا في خطابات الحسين(عليه
السلام) خطابه المعروف في مكة عشية خروجه إلى
العراق ، وقد تناقل أرباب السِير هذا الخطاب ،
وورد في أكثر المصادر التي دوّنت سيرة الحسين(عليه
السلام) وخروجه إلى العراق .وقد ذكرنا الخطاب في القسم الاول من
هذه المقالة ، والامام يبدأ خطابه بهذه
الكلمة الغريبة : « خطّ الموت على ولد آدم مخطّ
القلادة على جيد الفتاة » .وهذه البداية تفسر كل حركة الامام
وخروجه ، وتوضح للناس الذين يستنصروهم الحسين(عليه
السلام) ما يؤول إليه أمره وأمر من معه ، ليخرج
من يخرج معه وهو على بينة من أمره ، وهو أمر
يهمّ الامام كثيراً ، ويصرّ عليه في كل مراحل
حركته ، بمقدار اصراره على استنصار الناس
ودعوتهم للخروج معه على يزيد ، فهو يدعوهم
ويعفيهم في وقت واحد ، يدعوهم إذا صحّ عزمهم
على لقاء اللّه في خروجهم هذا ، وطابت أنفسهم
بالقتل في سبيل اللّه ، ويعفيهم إذا لم تطب
نفوسهم بالقتل في سبيل اللّه ، فإن الحسين(عليه
السلام) يسعى إلى الموت ، وليس إلى سلطان ولا
مال .ويطلب من الانصار من يصدق عزمه وتصدق
نيّته في ابتغاء القتل في سبيل اللّه .ومصيبة الناس في دنياهم إقبالهم على
الدنيا وتعلّقهم بها ، وهروبهم وخوفهم من
الموت هو سرّ ضعفهم ، وسقوطهم ، وخضوعهم
للظالمين ، وهو انهم عليهم ، وهو نقطة الضعف
الكبرى في حياتهم . أما إذا هانت الدنيا في
أعين الناس ، وزال الخوف من الموت عن نفوسهم ،
فلا يتمكن الظالم من ظلمهم ، ولم يسلموا
أنفسهم لسطوته وبطشه . وكيف يهرب الانسان من
الموت وقد « خطّ الموت على ولد آدم مخطّ
القلادة على جيد الفتاة » ؟ فالموت يحاصر
الانسان ، ولا يستطيع ابن آدم أن يخرج من
حصاره ، فلا ينفعه هروب . ثم لماذا يخاف
الانسان من الموت والموت جمال المؤمن وكماله
، ويزدان به كما يزدان جيد الفتاة بالقلادة ؟
ولا ينقص من جمال الموت أنه يحاصر الانسان ،
كما لا ينقص من جمال القلادة أنها تطوّق جيد
الفتاة . فليس كل طوق ذلاًّ وأسراً .ولست أعرف تصويراً للموت أجمل من هذا
التصوير الذي يقدّمه الحسين(عليه السلام)
للموت عشية خروجه إلى العراق . ثم يقول(عليه
السلام) : « وما أولهني إلى أسلافي اشتياق
يعقوب إلى يوسف ! » .إنّ الموت عند الحسين(عليه السلام)
لقاء اللّه ، ولقاء أسلافه الصالحين إبراهيم
وموسى وعيسى ورسول اللّه ، وهو يشتاق إلى هذا
اللقاء اشتياق يعقوب إلى يوسف ، فهو غصن من
تلك الشجرة وثمرة طيبة لها ، يحنّ إليها حنين
الفرع إلى أصله . فليس بالموت يمكن ردع الحسين(عليه
السلام) عن رسالته وقضيّته.وهذه رسالة الحسين إلى طاغية عصره
وإلى أنصاره معاً .ثم يقول(عليه السلام) : « لا محيص عن يوم
خطّ بالقلم . رضا اللّه رضانا أهل البيت » . وهي
صورة أخرى لنفس المشهد ولكن بلون آخر ، فقد
كان المشهد السابق مشهد الشوق والوله إلى
لقاء اللّه ولقاء أحبّائه ، وهذا مشهد
التسليم والرضا لامر اللّه . وسواء عرض الامام
هذه العاقبة من خلال الاشتياق والوله ، أو من
خلال التسليم والرضا ، فالرسالة واحدة
والنتيجة واحدة . ثم يقول(عليه السلام) : « لن
تشذ عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لحمته ،
وهي مجموعة له في حظيرة القدس » .إنه بضعة من رسول اللّه لحمه ودمه ،
بضعة من روحه ، ووعيه ، وهداه، وبصيرته ،
ورسول اللّه(صلى الله عليه وآله) هو الخير
والهدى كلّه ، وما تفرّق من رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) يجتمع له في حظيرة القدس ، ولا
تشذ عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لحمة
ولا بضعة له .ومن أراد أن يجتمع برسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) مع الصدّيقين والصالحين في
حظيرة القدس فعليه أن يلتحق بالحسين(عليه
السلام) ، ومن شذّ عنه(عليه السلام) شذّ عن
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) . ثم يختم(عليه
السلام) كلامه بهذا الخطاب « ألا ومن كان
باذلاً فينا مهجته ، موطّناً على لقاء اللّه
نفسه فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء
اللّه » .إن السبط الشهيد يسعى إلى لقاء اللّه ،
ويطلب من الناس مهجهم ، ويدعو الناس إلى أن
ينتزعوا حبّ الدنيا من قلوبهم ، ويوطّنوا
أنفسهم للقاء اللّه .وهو خطاب عجيب قلّما عهدنا نظيراً له
في خطابات القادة السياسيين والعسكريين إذا
دعوا الناس للقتال . فهو(عليه السلام) لا
يمنّيهم بمال ولا سلطان ، وإنما يمنّيهم
بلقاء اللّه ، ويطلب منهم أن يوطّنوا أنفسهم
لذلك ، ولا يرضى منهم بغير مهجهم .ثم يقول لهم إنه يتقدّمهم في هذه
الرحلة : « فإنّي راحل مصبحاً غداً إن شاء
اللّه » ، ولست أدري ماذا تستبطن هذه الجملة
القصيرة من العزم والارادة والقوة والبصيرة
والهدى والتسليم لمشيئة اللّه وارادته .وقد شاء اللّه تعالى أن يكون هذا العزم
وهذه الارادة والبصيرة وهذا التسليم مبدأ
لبركات كثيرة في تاريخ الاسلام .وفي منزل البيضة خطب الحسين(عليه
السلام) في أصحاب الحرّ فقال : « أيّها الناس ،
إن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال : من رأى
سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام اللّه ، ناكثاً
عهده مخالفاً لسنة رسول اللّه ، يعمل في عباد
اللّه بالاثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل
ولا قول ، كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله
» .وهذا الحديث الذي يرويه السبط الشهيد
عن جدّه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) منهج
في العمل السياسي والحركي والمعارضة ، يختلف
عن المنهج الذي تبنّاه بنوا أمية في عصرهم ،
الذي يلخّصه عبد اللّه بن عمر في كلمته
المعروفة : « نحن مع من غلب » .وقد عمل بنوا أمية على إشاعة هذا
المنهج السياسي بين المسلمين ، واختلقوا في
ذلك الاحاديث ، وأعلنوا به من على المنابر
لاجهاض كل معارضة سياسية وحركية في وجوههم ،
ولاسباغ الشرعية على حكمهم .فمن هذه الاحاديث ما رواه الحجاج قال :
« قال لي أبو هريرة : ممن أنت ؟ قلت : من أهل
العراق . قال : يوشك أن يأتيك رجال من أهل الشام
، فيأخذوا صدقتك ، فإذا أتوك فتلقهم بها ،
فإذا دخلوها ، فكن في أقاصيها ، وخلِّ عنهم
وعنها ، وإيّاك وأن تسبّهم ، فإنّك إن سببتهم
ذهب أجرك وأخذوا صدقتك ، وإن صبرت جاءت في
ميزانك يوم القيامة »(25)
.وعن زيد بن وهب قال : « سمعت عبد اللّه
قال : قال لنا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) :
إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها .
قالوا . فماذا تأمرنا يا رسول اللّه ؟
قال : أدّوا إليهم حقّهم ، وسلوا اللّه حقّكم »(26)
.وعن جنادة بن أمية قال : « دخلنا على
عبادة بن الصامت وهو مريض ، فقلنا : أصلحك
اللّه ، حدّثنا بحديث ينفعك اللّه به سمعته من
النبي(صلى الله عليه وآله) ، فقال: دعانا النبي(صلى
الله عليه وآله) فبايعناه فقال فيما أخذ علينا
أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا
ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا
ننازع الامر أهله، إلاّ أن تروا كفر بواحاً
عندكم من اللّه فيه برهان »(27)
.وهذا أقصى ما يطلبه الحكّام الظلمة من
الناس . وفي كتب الحديث الكثير من هذه
الروايات التي يأباها القرآن ويرفضها
الاسلام .ونحن من دون أن نناقش هذه الاحاديث
مناقشة سندية ، نقطع بأنها منحولة موضوعة على
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، ونتّهم في
ذلك بني أمية أولاً . وقد خفي أمر ذلك على كبار
المحدّثين الذين رووا هذه الاحاديث وأكثروا
من روايتها .ودليلنا على ذلك هو القرآن . ونعتقد أن
المنهج العلمي الصحيح في نقد الرواية هو عرض
الرواية على القرآن ، والنقد من حيث السند
يأتي بعد العرض على القرآن ، فما خالف القرآن
نرفضه ونرده صحّ سنده أم لم يصح . هذا هو منهج
أهل البيت(عليهم السلام) في نقد الرواية .
ولذلك فنحن لا نطيل الوقوف لمناقشة هذه
الروايات ، ونقدها من حيث السند ، فالامر
عندنا أوضح من ذلك . ودليلنا على ذلك آيات
مُحكمات من كتاب اللّه تنهى عن الركون إلى
الظالمين وعن طاعة المسرفين .وإليك إضمامة من آيات كتاب اللّه .
يقول تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا
فتمسكم النار)(28)
.ويقول تعالى : (ولا تطيعوا أمر
المسرفين * الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون)(29)
.ويقول تعالى : (ولا تطع من أغفلنا قلبه
عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرطاً)(30)
.ويقول تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون
أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا
أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يُضلّهم
ظَلالاً بعيداً)(31) .وينهض أبو عبد اللّه سيد الشهداء
يومئذ لازالة هذا اللبس عن سنة رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) ، فيعلن في الناس أن رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) قال : « من رأى
سلطاناً جائراً ... فلم يغير عليه بفعل ولا قول
كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله » ، وهي
مسؤولية شاقة وصعبة ، وانطلاقاً من هذه
المسؤولية خرج الحسين(عليه السلام)على طاغية
عصره .فإذا ابتلى اللّه تعالى المسلمين
بسلطان جائر ، لا يسع المسلمين جميعاً إلاّ أن
ينهضوا لتغييره بفعل أو قول ، ومن يسكن إلى
الظالم ويسكت عنه « كان حقّاً على اللّه
أن يدخله مدخله » ، وهي كلمة عجيبة ، تستوقف
الانسان طويلاً ، وتُشعره بثقل المسؤولية
الصعبة في ظروف الظلم والاستبداد السياسي .
فلا يكفي ألاّ يركن الانسان إلى الظالم ولا
يتعاون معه ولا يسنده حتى لا يدخل مدخله في
النار ، وإنما يجب عليه أن يسعى إلى تغييره
بفعل أو قول ، فإن لم يفعل كان حقّاً على اللّه
أن يدخله مدخله .ثم يقول(عليه السلام) : « وأنا أحق من
غيّر » ، ومن أولى من ابن رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) أن ينهض بالتغيير ، ويقود حركة
التغيير ، ويدعو إلى التغيير .وهو(عليه السلام) في هذه الرحلة قائد
وقدوة ، قائد يقود حركة التغيير ويدعو إليه «
وأنا أحق من غيّر » ، و(قدوة) يتقدّمهم في كل
محنة وشده ، ويكون نصيبه منها الاوفى . يقول(عليه
السلام) : « فإن تممتم عليَّ بيعتكم ، تصيبوا
رشدكم ; فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت
رسول اللّه . نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم
، ولكم فيَّ أُسوة » .ثم يقول(عليه السلام) : « وإن لم تفعلوا
ونقضتم بيعتي ... فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم
ضيّعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه » .إن آل أبي سفيان أعداء الناس ، وقد
تمكّنوا من رقابهم ، وأفسدوا أخلاقهم ودينهم
وقيمهم ، وأذلّوهم ، والحسين(عليه السلام) خرج
ليقود حركة التغيير وإن نقضوا عهدهم ، فلم
يضرّوا إلاّ أنفسهم ، وأمكنوا آل أبي سفيان من
رقابهم ، وذلّلوا أنفسهم لظلمهم واستكبارهم ،
وأورثوا أبناءهم ذلاًّ ، ومن نكث فإنّما ينكث
على نفسه .
(1)
المائدة : 55 .(2)
النساء : 59 .(3)
الانفال : 72 ـ 73.(4)
الانفال : 74 .(5)
وسائل الشيعة 8:543.(6)
وسائل الشيعة 8:611.(7)
وسائل الشيعة 8:613.(8)
مسند أحمد بن حنبل 2 : 491.(9)
سنن الترمذي4:325، ح 1927 .(10)
مسند أحمد بن حنبل 5 : 4 و 5 .(11)
الكافي 7:273، ووسائل الشيعة19:2.(12)
بحار الانوار 68:424.(13)
مشكاة المصابيح:12ـ14.(14)
الانفال : 72 .(15)
وسائل الشيعة11:560.(16)
صحيح البخاري 2 (كتاب المظالم) الباب 5 .(17)
بحار الانوار 75:17 عن قرب الاسناد : 26 .(18)
بحار الانوار75:21 عن نوادر الراوندي : 21.(19)
بحار الانوار 75:17 عن آمالي الصدوق : 291.(20)
بحار الانوار 75:20 عن ثواب الاعمال : 138.(21)
بحار الانوار 75:22 عن المحاسن : 99.(22)
يقول السيد عبد الرزاق المقرم إن القصر ينسب
إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة ، ويقع بين عين
التمر والقطقطانة والقربات.(23)
مقتل الحسين لعبد الرزاق المقرّم 202 ـ 204
نقلاً عن أمالي الصدوق وخزانة الادب 1:298.(24)
الخصائص الحسينية، الشيخ جعفر التُستري: 186.(25)
الشعر والشعراء لابن قتيبة : 572.(26)
صحيح البخاري 4: 181 (كتاب الفتن)طـ.مصر 1286هـ.(27)
صحيح البخاري4: 181 (كتاب الفتن)طـ.مصر1286هـ.(28)
هود : 113 .(29)
الشعراء : 151 ـ 152 .(30)
الكهف : 28 .(31)
النساء : 60 .