دراسـات
القيم الاسلامية في الادارة* الشيخ محمد تقي مصباح اليزديترجمة : عباس الاسدي
اتجاهات القيم لدى الفلاسفةثمة اتجاهان متضادان يتبناهما فلاسفة
الحقوق والاخلاق ، وجميع من توغل في مبحث
القِيَم :الاول : القيمة التي تبلورها الرغبات
والاذواق الفردية والجماعية .الثاني : القيمة الحقيقية للشيء نفسه .فقد ناقش الفلاسفة منذ القدم هذا
الموضوع ، واجابوا كل حسب متبنياته على
السؤالين التاليين : هل الخير هو ما ينسجم مع
ذوق الانسان ، أم إن الانسان يستحسن من الشيء
ما كان خيراً ؟ بعبارة اخرى : هل نؤدي من العمل
ما كان خيراً ، أم إن الخير هو ما نختاره نحن
ونستحسنه ؟ .يقول البعض إن الخير هو ما يستحسنه
الانسان ، ويقول آخرون : للخير حقيقة ذاتية ،
سواء رضينا بذلك ام لا ، علمنا به أو جهلناه ;
ولهذا يجب اكتشاف الخير والعمل بمقتضاه .وهنا لا نريد التوغل اكثر من هذا في
بحث فلسفي معمق يبعدنا عن اصل الموضوع ، ولهذا
نكتفي بسرد رأينا في بحث القيم من خلال اختيار
الاتجاه الثاني ، والقول إن القيمة لها حقيقة
ذاتية ، فالناس تدرك بعض الاشياء وتستحسنها
باعتبارها خيراً ، ولكنها تختلف في بعض
الاشياء التي لا يدرك خيرها الجميع ، فتتدخل
عندئذ الاذواق والاراء الشخصية .l القيم الاسلامية في الادارةحينما نطرق موضوع القيم الاسلامية
وصلتها بالادارة ، فإننا نقصد أن الاسلام
طرح قيماً لابد من اعتمادها ; لانها قيم
معتبرة شئنا ام أبينا ، وموجودة
علمنا بها ام جهلناها ; ولهذا فالاسلام يرفض
النظرية التي تقول بانقياد القيم
للاذواق الفردية والجماعية . والقيم التي يطرحها الاسلام
إما أن تتعلق بالفرد والحياة الفردية ، أو
بالجمع والحياة الاجتماعية التي
تشتمل على قيم ينبغي للجمع مراعاتها ، وهذه القيم
إما أن تطرح في مداها الاجتماعي الواسع ، أو أن تطرح
ضمن تجمعات خاصة مختارة ، وتفصيل كل هذه
الاقسام يخرج عن مدى بحثنا الذي
سيسلط الضوء على القيم الاجتماعية فقط .
اساس القيم الاجتماعية
تستند القيم الاجتماعية على مرتكزين :الاول : الرأي والعقيدة .الثاني : الاتجاه والميل .حيث تنشأ القيمة من خلال هذينالمرتكزين ، وتصبح الواسطة بين رؤية الانسان
واتجاهه وبين فعله .إن الرؤية التي ينبغي أن ندركها
ابتداءً هي رؤيتنا لسلسلة من حقائق عالم
الوجود ، التي تثير فينا الاتجاهات والميول ،
حيث يتبلور مفهوم القيم لدينا من خلال
الرؤية والاتجاه الذي تولده . والقيم تسبب
الفعل الارادي في الانسان ، بمعنى أن القيم
توجه المرء لاختيار السلوك الذي يوافقها
أثناء ادارته لاي عمل ; وعليه فإن ما يكوّن
افعالنا ويوجهها هي القيم التي نؤمن بها ،
والحاصلة من رؤيتنا تجاه الاشياء وميلنا
إليها .
اصول القيم الاجتماعية في الاسلام
تقوم القيم الاجتماعية في الاسلام علىثلاثة اصول :الاصل الاول : الاعتقاد بأن جميع البشر
هم عباد للّه تعالى ، وهذه رؤية عقائدية تمثل
قاعدة للقيم الاخرى التي تستند عليها .فحينما يعتقد الانسان أنه وجميع بني
البشر مخلوقون للّه تعالى وعباد له ، وأنه عز
اسمه ينظر إلى جميع مخلوقاته نظرة لطف ورحمة ،
بل إنهم مخلوقون على اساس رحمته ; حينما يعتقد
الانسان بهذا فإنه مثلما يتودد لخالقه ويرغب
إليه فطرياً ، يتودد ايضاً لمخلوقاته التي
تمثل اثراً من وجوده ورحمته .فإذا احب الانسان شيئاً احب جميع ما
يتعلق ويرتبط بذلك الشيء ; فكل البشر هم خلق
اللّه ويرتبطون به ، ومن ثم فإن المؤمن الموحد
تحصل لديه على هذا الاساس عاطفة خاصة تجاه كل
الانسانية . وهذا أصل من اصول الرؤى التي
يترتب عليها ميل للانسان تجاه تلك الرؤية ،
فلقد اشرنا إلى أن القيم تستند على الرؤية ،
والميل أو الرغبة الناجمة عن تلك الرؤية ،
فحينما تكون الرؤية توحيدية ، فإن الميل الذي
ينبثق عنها هو حب الخلق ، أو حب الانسان .الاصل الثاني : الرؤى التي تؤسس للقيم .
مثال ذلك الاعتقاد بأن جميع البشر ولدوا لاب
واحد وام واحدة ، صفة الاخوّة تكويناً ،
بواسطة أو بدونها . فحينما يؤمن المرء بأن كل
الناس يشكلون اُسرة واحدة كبيرة ، تحصل لديه
عاطفة اجتماعية أخرى ، ألا وهي العاطفة
الاسرية ، أو الحس العائلي الذي يولد هو الاخر
شعوراً ينبعث من الشعور بالقربى ، ألا وهو
الاحساس بالحب والود تجاه كل البشر ،
باعتبارهم يمثلون اسرة واحدة يتصل بهم
بالقربى بشكل أو بآخر ، وهذه عاطفة غريزية أن
يحب الانسان قرباه ، سواء بالنسب أو بالسبب ;
وهذا الاصل بدوره يصبح اساساً ومصدراً لميل
آخر في الانسان .الاصل الثالث : الاخوة الايمانية ، وهو
أصل اسلامي بحت ، بخلاف الاصلين السابقين
اللذين تؤمن بهما الاديان الاخرى بنسبة وأخرى
; فالاسلام ـ فضلاً عن أنه يعتبر بني البشر
كلهم من أم واحدة وأب واحد ـ يعتقد بوجود
رابطة معنوية خاصة بين المسلمين ، توجب نوعاً
من العلاقة بين ارواح مجموعة البشر الذين
ينتمون إلى هذا الدين ، وهي علاقة معنوية
وقلبية : (إنما المؤمنون أخوة)(1)
.l القيم الاجتماعية العامة في الاسلامتتحقق على اساس المعتقدات الثلاثة
السالفة مجموعة قيم ، تقوم على قاعدة الحب
والمودة المتبادلة بين البشرية ، وكلما اولى
الانسان اهتماماً بهذه العلاقات ، وعمل
بمقتضاها ، ترسخت الاحاسيس والعواطف ، وهذا
في الحقيقة مبدأ من مبادىء علم النفس . ومن
الممكن أن يأنس انسان بآخر منذ أن يلقاه أول
وهلة ، ويشعر له بنوعاً من الحب ، ولكنه ينساه
بعد حين من الزمن لعوامل معينة ، كعامل البعد
، أو ألاّ يستطيع احد الطرفين أن يعمل بما
تُمليه عليه ضرورات المودة القائمة ، فتضعف
العلاقة وتزول تدريجياً ; أما إذا أُعطيت لهذه
العلاقة نصيبها من الاهتمام ، فإنها ستترسخ
وتزداد دون شك ; ذلك أن المرء كلما اولى
اهتماماً متزايداً بهذه الحقائق ، ولم ينلها
النسيان بعد مرة واحدة من تصورها وتصديقها في
ذهنه ، وفكر بها المرة تلوة الاخرى ، وعمل
بمقتضياتها ، اشتدت لديه الحالة بحيث يتصور
كلما رأى شخصاً أنه أمام معشوقه ، يريد أن
يحتضنه ويقدم له أية خدمة يقدر عليها .إن مجموعة الرؤى والميول تولد مثل هذه
القيم التي يستعد الانسان وفقها
للتضحية من اجل عباد اللّه ، ويتضح مما مر أن
الرؤى تطلق الميول ، لتظهر من مجموع ذلك
هذه القيم التي تؤدي دوراً في سلوك الانسان
.
القيم الاجتماعية
تُقسم القيم الاجتماعية في الاسلامعموماً إلى قسمين ، أو بعبارة اخرى يحدد
الاسلام مبدأين لعلاقات البشر المتبادلة
وسلوكهم المتقابل ; والحق أن هناك عاملين
مهمين يتحكمان بجميع علاقات الانسان ، هما
عامل العدل والقسط ، وعامل الاحسان ; فأية
علاقة أو تعاون يقوم بين البشر في حياتهم
الاجتماعية ، إنما يقوم على اساس اداء ادوار
متبادلة ، فحينما تؤدى الاعمال بشكل جماعي
مشترك ، سواء كانت الجماعة صغيرة كالاسرة
المكونة من الزوج والزوجة ، أو كبيرة مؤلفة من
المجتمع البشري الهائل ; فإن اثر هذه الاعمال
ونتائجها تعود على المجتمع نفسه ، أي إن كل
فرد يجب أن يرى نتيجة عمله والاتعاب التي
تحملها في سبيل ذلك ، ولكن كيف يتم توزيع
عوائد العمل المشترك على مجموعة الاشخاص
الذين شاركوا فيه ؟هنا يجب أن يحكم مبدأ العدالة على هذه
العلاقة ، فيعطى كل شخص ما يناسب النشاط الذي
بذله في هذا العمل المشترك ، ومن الظلم أن
يُعطى مَنْ بذل جهداً اكبر في هذا العمل
نصيباً أدنى . هذا إذا كان الجميع يعمل بنشاط
دائب ، ولكن لا يتحقق هذا الشرط في المجتمعات
الانسانية المختلفة ، فلربما لا يستطيع بعض
الافراد ممارسة النشاط المطلوب ضمن المجتمع .
خذ على ذلك مثال الاسرة التي يشترك فيها
الزوجان في ادارتها مدة من الزمن ، وتوزع
النتائج المستحصلة بالتساوي والعدالة بين
افرادها ، ولكن يقع حادث لرب العائلة يمنعه من
مواصلة عمله ، فما العمل هنا ؟ أيموت الرجل من
الجوع ؟ وهل يجب أن يُحرم من المنافع التي كان
يتمتع بها أثناء نشاطه وعمله ; لانه أُقعد عن
العمل ولا يستطيع أن يقوم بنشاط اقتصادي ؟ هنا
يتنحى مبدأ العدل جانباً ليحل محله الاحسان ;
ولكن يجب أن يُطبق مبدأ العدالة مع من يتكاسل
عن اداء عمله ، لانه قادر على ذلك ويتقاعس عنه
.ويعتقد البعض بقاعدة لكل حسب عمله ;
وهنا تقع الطامة الكبرى على رأس العاجزين في
المجتمع ، مثل كبار السن الذين لا يستطيعون
القيام بنشاط اقتصادي يعود عليهم بالربح
اللازم ، ومن ثم لابد من القضاء عليهم بمختلف
الطرق ، فكانوا ـ على سبيل المثال ـ يُنقلون
إلى منطقة سيبيريا للقضاء موتاً بين صقيعها ،
ولولا بعض المشاكل والعقبات التي كانت تواجه
المجتمع ومسؤوليه ، لقضي على جميع كبار السن
بهذه الطريقة ، لانهم ـ حسب المعتقد الذي
ينطلقون منه ـ مستهلكون غير منتجين ، وعليه
فإن غيابهم افضل من وجودهم ; وهذه قاعدة
يرفضها الدين الاسلامي رفضاً باتاً ، ويلقي
على عاتق المجتمع مسؤولية الاحسان إلى كل
القاصرين والعاجزين ، الذين لا يستطيعون اداء
أي نشاط اقتصادي . قال تعالى : (إن اللّه يامر
بالعدل والاحسان)(2)
، فاللّه تبارك وتعالى أمر بالاحسان كما أمر
بالعدل ، فلو كانت العدالة تدخل في اطار القيم
دون الاحسان ، لوجب القضاء على الضعفاء
والقاصرين ; لانهم لا يؤدون عملاً لكي يستحقوا
عليه جزاءً .لا يعتقد الاسلام بهذه القاعدة أبداً
، بل يرى أن الاحسان له قيمته في موقعه
المناسب ، وعلى الانسان أن يضحي من أجل أن
يأخذ بيد العاجزين .إذن فهناك اثنتان من القيم العامة
الحاكمة على السلوك الاجتماعي البشري ، وهما
غير القيم الفردية ، ففي العلاقات الاجتماعية
تنضوي كل القيم إما تحت لواء العدل ، أو تحت
راية الاحسان سواء في المسائل الاقتصادية أو
السياسية ، أو العلاقات العاطفية والانسانية
.
الهدف من الادارة في الغرب والشرق
ثمة قيم خاصة تطرح في أي محيط عملتشكله مجموعة من الموظفين ومدير يرأسهم ،
وتنبع مبادئ الادارة والقيم الحاكمة فيها من
الرؤى والمعتقدات الخاصة السائدة في المجتمع
نفسه . وإذا وقفنا على الكتب التي أُلفت
والبحوث التي طرحت في الادارة ، لا سيما في
الفصول التي تتناول العلاقة بين علم النفس
والادارة ، رأينا أن الهدف الذي يصبو إليه
الجميع هو تحقيق المقاصد السياسية
والاقتصادية للمجتمع بالشكل الافضل ، وتنشد
التعليمات التي تُعطى للمدراء والارشادات
التي يزوّدون بها ، الحصول على انتاج افضل
واكثر ، وتحقيق ارباح اكبر لاصحاب المصانع ،
سواء كانت تلك المصانع تعود إلى شخص واحد ، أو
يمتلكها جميع العمال ، وسواء كان النظام
الحاكم رأسمالياً أو اشتراكياً .ومهما يكن من أمر فإن الهدف من الادارة
الغربية هو تحقيق المزيد من الارباح ، أي إن
على المدير أن يتصرف مع موظفيه وعماله في
المصنع بشكل يزيد من نسبة الارباح والعائدات
، وينسحب هذا الامر على الجانب السياسي ايضاً
، فالتوجيهات التي يسير عليها السياسيون ، أو
القيم التي يعملون بها ويخططون اعتماداً
عليها ، إنما تهدف في النهاية إلى اقرار حالة
الامن في البلاد ، واعطاء اكبر قدر ممكن من
الراحة والرفاهية للشعب . وبعبارة ثانية : إن
محور جميع القيم التي تُطرح ضمن مقولة
الادارة هو المادة فقط ، ولو كان الوصول إليها
يتم بجَلْد العامل لما ترددوا في ذلك ، كما لو
تَسَنّى ذلك بطريق تشجيع العامل أو احترامه
أو مكافأته ، فإنهم يطرقون الاسلوب المناسب
في التعامل لاجل كسب المزيد من النفع ، وبشكل
عام فإن محور الهدف الغائي عند الغرب هو
المادة .
الهدف السامي في النظام الاسلامي
الدين الاسلامي لا ينتهي هدفه عندتحقيق الاستقرار والرفاه للمجتمع ، وإنما
يعتبر هذا الاستقرار مقدمة لهدف اسمى وارفع ،
فالاسلام يريد للمجتمع الراحة والرفاه
والاستقرار والامن والعدالة والاحسان ، لكنه
يروم هدفاً آخر ، فهو يريد للانسان أن يرقى في
مدارج الكمال ليتربع على قمة الانسانية .وهذه الانسانية لا ترتبط بجسمه وبطنه
وفرجه ، وإنما بروحه ; فالهدف الذي ينشده
النظام الاسلامي هو تكامل الروح الانسانية ،
وبطبيعة الحال فهناك علاقة وثيقة بين الروح
والجسد ، فمن اراد تربية الروح ، فلا يستطيع
ذلك إذا تجاهل الجسد ; لان من غير الممكن تقوية
الروح مع الجوع والمرض الذي يؤدي بحياة
الانسان ، ولابد اولاً من تأمين الحاجة
الاقتصادية للانسان من صحة ومسكن وأمن ،
لتمهَّد الارض التي يقف عليها وينطلق منها
نحو سموّ روحه : (وعد اللّه الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما
استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم
الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً)
، لتأتي من ثم نتيجة هذه المقدمات : (يعبدونني
لا يشركون بي شيئا)(3) ، أي إن اللّه
تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالعز والامن في
الدنيا لكي يعبدوه ، وهذه العبادة تتضمن
الكمال الانساني ، اما إذا انعدم الامن
وانتشر الجوع وساد الذل في المجتمع ، فلن
يستطيع الانسان أن يطوي مدارج كماله ; لانعدام
الارضية المناسبة لذلك ، ففي ظل العدل والامن
والاستقرار يتمكن المرء من التفكير بسموه
الروحي والمعنوي .إذن ، يهدف الاسلام إلى تكامل الروح ،
ويلقي هذا الهدف بظلاله على جميع القيم التي
تتحدد بدورها في هذا الاطار ، بمعنى أن كل تلك
الامور مطلوبة لانها تعين على عبادة اللّه ،
وإذا تعدّت حدودها المرسومة فقدت اهميتها
القيميّة ، وأعطت نتائج لا تنسجم مع الهدف
المنشود .l الاتجاه الرئيسي للحركة في الادارة
الاسلاميةفي الاسلام توجد قيمة مطلقة واحدة هي
عبادة اللّه ، أو بعبارة ابسط هي التقوى ، أما
سائر القيم فهي قيم مُمهّدة واولية ونسبية ،
تكون وسيلة للوصول إلى تلك القيمة المطلقة ;
وحينما ننظر إلى القضايا الاجتماعية من هذه
الرؤية الاسلامية ، فعندئذ لا ترقى مسألة
الربح والنفع الاقتصادي إلى مستوى الاعتبار
والقيمة ، إلاّ إذا جاءت هذه المسألة في سياق
تحقيق العبادة للّه ، وتفقد أية قيمة لها إذا
ادت إلى الطغيان (إن الانسان ليطغى * أن رآه
استغنى)(4)
.وما هو الموقف لو ارتفع انتاج المصنع
وزادت ارباحه ، في مقابل انخفاض القوة
الفكرية والمعنوية لدى العامل ؟ .لا يرى الماديون في ذلك ضيراً ; لانهم
يطمحون إلى زيادة الربح باعتباره أصلاً ،
وماعدا ذلك لا يهمهم في شيء ، والمدير الجيد
برأيهم هو الذي يستطيع أن يحقق منافع اكثر
لمصنعه ، مهما كان سلوكه مع عماله
ترهيباً أو ترغيباً ; ولكن هل يوافق الاسلام
على هذه الطريقة من التعامل ؟كلا ، فالاسلام يوظف كل شيء لعبادة
اللّه ، وتهذيب الانسان ، ويرفض كل ما يبعد
الانسان عن انسانيته ، حتى وإن كان الثمن
تحقيق مصالح اجتماعية أو فردية ، ويدعو إلى
حفظ الشخصية الانسانية حتى وإن كانت النتيجة
هي انخفاض عائداته ، ويؤكد الاسلام على ضرورة
احترام الحق المعنوي إلى جانب الحق المادي
للعامل ، أي يجب أن يُعطى الوقت الكافي
للمطالعة الدينية وتهذيب النفس والتربية
الاخلاقية ; وليس من الصحيح أن يُستغل كل وقته
للعمل ، دون أن تتوفر له فرصة مراجعة نفسه
وتهذيبها ، حتى وإن كان ذلك برضاه ; لان ذلك من
شأنه أن يجعل منه آلة ليس غير.
قيمة التقدم التقني لدى الاسلام
والعالم الغربي
للعلم قيمته أينما كان ، بشرط ألاّيؤدي إلى تدمير القيم الاخرى ، وتكتسب
التقنية العلمية قيمتها إذا اصبحت وسيلة
للتقدم والسمو الروحي ، ولكن ماهو الموقف إذا
هبطت بالروح الانسانية ، وادت إلى السقوط
المعنوي ؟العالم الغربي لا يرى ضيراً في ذلك ;
لان التقنية الجديدة تنسجم مع تطلعاته في كسب
المزيد من النفع ، وتحقيق الربح الوفير ، حتى
وإن سبب في طرد العمال . اما الموقف الاسلامي
فيختلف عن ذلك ، ولا يرى أن التقدم التكنولوجي
ينطوي دائماً على قيمة ، وإنما يكتسب هذه
القيمة إذا ساعد على التكامل الانساني ،
وإلاّ فإن التخمة من الطعام واشباع اللذات
الجنسية لا يدلان على انسانية الانسان ; لانه
مهما استغرق فيهما فلن يصبح اقوى من
الحيوانات .l خطب ود النّاس بين النظام الاسلامي
والانظمة الغربيةيتعين على المسؤولين في النظام
الاسلامي العمل بما يرضي الناس ، ولكن ليس
بشكل مطلق ، فعلى سبيل المثال هل يمكن للحاكم
الاسلامي أن يقف مكتوف اليدين حيال تبرج
المرأة في الملا العام ، وعدم ارتدائها
للحجاب الاسلامي ، وإن كان رضاها في هذا
السلوك الذي تمارسه ؟أو هل تستطيع الدولة الاسلامية أن
تشرع قانون زواج الرجال من الرجال ، كما هو
الحال في بعض دول العالم التي تبيح ذلك وتفتخر
به ، فمن اراد مارسه عن رضاً ، ومن عارضه لم
يعمل به ؟الفرق بين الانظمة الوضعية والنظام
الاسلامي في هذه الفقرة ، يكمن في أن الغرب
يعتبر رضا الشعب اصلاً لا محيد عنه ، في حين
يأخذ الاسلام بعين الاعتبار اموراً أخرى .
الفرق بين الادارة الاسلامية
والادارة الغربية
إننا في الوقت الذي نؤكد حتمية تعلّمالنظريات المتعلقة بالادارة وعلومها وما
يرتبط بها ، ندعو إلى عدم الاكتفاء بها ; ذلك
أن الادارة الاسلامية لا تنطلق من مبادئ
مادية بحتة ، كما هو الحال في الادارة الغربية ;
فإلى جانب نظريات الادارة المعروفة لابد أن
تطبق القيم الاسلامية ، وتُدرس العلاقة
بينها وبين هذه النظريات ، وبدون اعتماد هذه
القيم في العملية الادارية تتخذ الادارة
الاسلامية ايضاً شكل الادارة الغربية تدريجياً
.إننا في موقفنا هذا لا نعارض الغرب
بصفته رقعة جغرافية من هذه الكرة الارضية ،
ولا نعارض تلك الشريحة من البشر وما تفرزه
عقولهم وافكارهم ، بل نحب كل بني البشر حسب ما
يمليه علينا اسلامنا ، إلاّ أن من يسير بعكس
تيار الانسانية والاسلام يصبح ممقوتاً
بالعرض ، والاصل عندنا أننا نكنّ الحب لجميع
البشر ، من الشرق كانوا أو من الغرب ، ومن
الشمال أو من الجنوب ، لانهم كلهم عباد للّه ،
ونحترمهم ما لم يعارضوا الحق ويتجهوا بخلاف
مسار الانسانية . وعليه فإن خلافنا مع الغرب
ليس بسبب ما يحمله من علم وثقافة ، وإنما بسبب
بعض ابعاده السلبية ، وبسبب انحصاره في
الماديات ونسيانه القيم المعنوية ; وانتقادنا
للثقافة الغربية لا يطال الابعاد
الايجابية فيها ، لان العلم الذي يعتبر من
الفضائل والعطايا الالهية ، جيد بحد ذاته
وليس بعيب ، بل ننتقد الجوانب السلبية
السائدة في ذلك المجتمع ; لان الغرب نسي أن
الانسان هو عبد للّه ، وأن مآبه إليه .إن هدفنا من الادارة لا ينحصر في تحقيق
الرفاه المادي فقط ، بل إننا نطلبه لانه يمهد
للانطلاق نحو سبيل التكامل المعنوي ، ولهذا
فإننا نأخذ بتلك النظريات والعلوم ما نفعتنا
في تحقيق اهدافنا للسير في مدارج الكمال
الروحي والمعنوي ، وحينما تتقاطع مع هذا
الهدف نعمل لتحديدها وتطويقها .بلحاظ الهدف الذي ذكرنا ، ماهي القيم
التي يجب أن تؤخذ بالاعتبار في مجال الادارة
الاسلامية ؟
القيم المطلوبة في الادارة
يفترض بالمدير ـ وهو يضع نصب عينيهالقيم الاسلامية ـ أن يسعى للارتقاء بمستوى
المعنويات لدى العاملين تحت امرته ، وينتهز
أية فرصة مواتية ليعزز هذه المعنويات بين
زملائه ، كما يجب عليه أن يشيع في محيط عمله
اجواء الصدق والاخلاص ، ويبدأ من نفسه فيكون
صادقاً في كلامه ، مخلصاً في عمله وسلوكه ;
باعتباره قدوة لبقية زملائه من العاملين معه
، وأن يربي الموظف على الصدق ، لا على الكذب
والخوف والرياء والاحتيال ، وعليه أن يتعامل
معه بمنطق سليم ، فإذا اخطأ الموظف صحّح له
خطأه بكل احترام .ويجب أن يعتقد بمبدأ الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، وكل القيم والمبادئ
الاسلامية ، ويصر على تنفيذها بمتابعتها ، لا
أن يكتفي باصدار البيانات والتعميمات
والتوجيهات للعمل بهذه المبادئ في دائرة
سلطته .وهنا يطرح السؤال التالي : هل من
الصحيح في بعض الحالات أن نضحي بالقيم
الاسلامية من أجل التقدم بالعمل ؟تتقاطع في هذه الحالة الثقافة
الاسلامية للعمل مع الثقافة الغربية ، فهذه
الاخيرة تطلب من المدير أن يركز على مستوى
العمل ويرفعه مهما كان الاسلوب الذي يتبعه ،
أما الاسلام فيحث المدير على احترام القيم
حتى وإن ادى ذلك إلى التباطؤ في العمل ، لان
الانسان في الاسلام هو المهم ، وليس المطلوب
اداء عمل افضل على حساب كرامة الانسان .وعلى المدير ـ إن كان مسلماً أو غير
مسلم ـ أن يعمل على خطب ود موظفيه ، فإذا كان
مسلماً اصبح الدافع لديه اقوى ; لانه سيحاول
من خلال هذه الخصلة التأثير على الموظفين
وتعزيز معنوياتهم ، فحب اللّه الذي يعتمل في
نفس المدير يمهد الطريق إلى حب عباد اللّه ،
والعاملين تحت امرته هم من هؤلاء العباد ،
فيستطيع من خلال هذا الحب الذي يضفيه على
موظفه أن يكسبه إليه ، فحينما يرى الموظف أن
مديره يحسن إليه ، ويتعامل معه بإيثار ، سوف
يحبه من صميم قلبه ، وهذا المستوى من العلاقة
العاطفية بين المدير والموظف يدفع العمل نحو
الامام بالاسلوب الصحيح ، وليس من طريق
الاحتيال والخداع .فما هو الطريق إلى تحقيق ذلك ؟يحب أن يتصف المدير بصفة التضحية
والاخلاص والتواضع ، فعلى سبيل المثال يستطيع
من خلال متابعة امور الموظف ، بالسلام عليه ،
والسؤال عن احواله ، أو عن حال زوجته المريضة
، أن يكسب حب هذا الموظف ، فمثل هذه الامور
تطور العمل ; لان الموظف انسان ولابد أن تحترم
شخصيته الانسانية قبل كل شيء ثم يُطلب منه أن
يؤدي عمله ، فإذا عانى من امر ما وجب على
المدير أن يسأله عن ذلك ، ويسعى لحل مشكلته ;
عندئذ سيؤدي الموظف عمله على احسن وجه ، حتى
وإن لم يُطلب منه ; لان الانسان عبد الاحسان .فالايثار والتضحية والاحترام
والاخلاص وحب الخير وامثال تلك الصفات
الحميدة ، هي الوسائل التي يعمل من خلالها
المدير المسلم ، ولا يسلك سبيل
الاحتيال والخداع والتشجيع الاجوف ورسائل
التقدير التي لا قيمة لها ، فإذا استطاع
المدير أن يستميل قلب موظفه بكلمتين ، فذلك
افضل ـ من دون شك ـ من كتب التقدير التي يصدرها
، وإذا استطاع أن يوفر له مبلغاً يساعده على
اداء دينه ، أو أجرة منزله ، او تسديد علاج
ولده ، فذلك افضل من الكلام الاجوف والوعود
الفارغة .إذن فالعلاقة الحميمة بين المدير
والموظف هي اهم مسألة يمكن من خلالها تطوير
العمل والتقدم به .
خلاصة البحث
يعتبر الاسلام خصلتي العدل والاحسانمن القيم التي يجب أن تتحكم في العلاقات
الاجتماعية ، ولابد من أن تؤخذا بالاعتبار في
الادارة ، ومن مصاديق عدالة المدير في دائرة
عمله أن يساوي بين جميع الموظفين ، ولا يجعل
العلاقات الشخصية تسود على الضوابط
والقوانين الحاكمة .ومن مصاديق الاحسان أن يساعد المدير
موظفه حينما يمرض أو يواجه أية مشكلة في حياته
، فإذا كانت المشكلة تُحل بالمال وفّره له ،
أو تُحل بالتوجيه والتوصية لم يبخل عليه ، أو
على الاقل أن يواسيه في مشكلته باللسان .وثمة امور كثيرة اخرى تدخل في تفاصيل
العملية الادارية ، لا يمكن أن نتناولها في
هذا المقال المختصر ; وتبقى كلمة اخيرة نقولها
، وهي أن هذه الامور كلها مقدمة ووسيلة يتوجه
من خلالها الانسان إلى ربه ، ويطلق نفسه وروحه
من قفص المادة والحياة الدنيوية الضيقة ، إلى
رحاب العالم المعنوي الواسعة .
(1)
الحجرات : 10 .(2)
النمل : 90 .(3)
النور : 55 .(4)
العلق : 6 و 7 .