دراسـات
الوحدة الاسلامية دراسة في الطرق
العملية لتحقيقها
* الشيخ مصطفى قصير العاملي( لبنان ) قال تعالى فى محكم كتابه : (واعتصموابحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة
اللّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم
فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة
من النار فأنقذكم منها كذلك يبين اللّه لكم
آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين
تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات
وأولئك لهم عذاب عظيم)(1)
.هذه الايات الشريفة وآيات أخرى ليست
قليلة وردت في الذكر الحكيم ، تدعو المسلمين
إلى الالتفاف حول دين اللّه سبحانه وتعالى ،
والاعتصام بحبله والتمسك بالكتاب الكريم وما
جاء به الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله) ،
كما تأمرهم بنبذ الفرقة والاختلاف والحفاظ
على الوحدة والائتلاف .(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
فاعبدون)(2)
.(وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا
فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن اللّه مع
الصابرين)(3)
.وعلى هذا النهج جرت السنة النبوية
الشريفة وسنة الائمة المعصومين(عليهم السلام)
، فقد ورد عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)
أنه قال : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسهر والحمى»(4)
.وقال : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضه بعضاً»(5)
.وقال : «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع
ربقة الاسلام من عنقه»(6)
.وهذا النص الاخير روي من طرق الشيعة
الامامية أيضاً بهذا الشكل : «من فارق جماعة
المسلمين فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه ، قيل
يا رسول اللّه ، وما جماعة
المسلمين ؟ قال : جماعة أهل الحق وإن قلّوا»(7)
.من هذه النصوص يتبيّن أن الاسلام دين
الوحدة ودين الالفة والمودّة، ودين الاجتماع
والتكاتف ، وأنه دين أساسه كلمة التوحيد
والاخلاص ، وأن الناس كلهم عباد اللّه ، (إنّ
أكرمكم عند اللّه أتقاكم)(8).العبادات الاسلامية والاحكام الشرعية
تجسد هذا المنهج القويم وتكرس هذا الاتجاه ،
فصلاة الجماعة مثلاً عبادة يومية جعلت منها
الشريعة المقدسة مظهراً من مظاهر الاتحاد
والتآلف ، فهم يجتمعون عدة مرات في اليوم
الواحد في تظاهرة وحدويّة تنظم صفوفهم خلف
إمام واحد ، في اتجاه واحد ، وقلوبهم نحو هدف
واحد ، هو طاعة اللّه وامتثال أمره وأداء فرضه
.وصلاة الجمعة مظهر آخر من مظاهر
الاتحاد والاجتماع ، وهي دورة تعبويّة
اسلامية سياسية وعبادية ضمن المنهج الاسلامي
.والاعياد الاسلامية العظيمة أيضاً
تظاهرة اتحاد وتآلف بين المسلمين ، فعن
الامام الرضا(عليه السلام) وقد سئل عن علة جعل
يوم الفطر عيداً ، قال : «لان يكون للمسلمين
مجمعاً يجتمعون فيه ويبرزون إلى اللّه عز وجل
فيحمدونه على ما من عليهم ، فيكون يوم عيد
ويوم اجتماع ويوم فطر ويوم زكاة ويوم رغبة
ويوم تضرع»(9)
.ولعل حج بيت اللّه الحرام من أبرز
المظاهر العبادية التي يتجلّى من خلالها
الجانب الوحدوي ، إذ إنه أعظم مؤتمر يجتمع
إليه المسلمون من جميع أقطار الدنيا تلبية
لنداء ربهم ، ليؤدوا مناسكهم في عبادة جماعية
تضم المسلمين على اختلاف لغاتهم وألوانهم
وأجناسهم وأحوالهم ، بقلوب خاشعة خاضعة لم
يوحّدها سوى الاسلام ولم يجمع بينها إلاّ
التقوى .هذه العبادات اليومية والموسمية التي
شرعها الدين الاسلامي وغيرها من العبادات
والاحكام الاخرى تكشف عن اهتمام الشريعة
المقدسة ببناء مجتمع متّحد متعاون متكافل
كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص . ولقد أكد
الرسول(صلى الله عليه وآله)على أهمية الالفة
والاتحاد منذ اللحظات الاولى لدخول المدينة
المنورة ، ونفّذ ذلك عملياً في حركة التآخي
الفريدة ، فآخى بين المهاجرين والانصار وبين
الانصار أنفسهم والمهاجرين أنفسهم ، فقد كان
المجتمع الاسلامي آنذاك في مستهل تشكيله وفي
بداية نشوئه ، وهو مقبل على امتحان عسير تفرضه
طبيعة الدين الجديد والوضع السياسي المحيط
بالمدينة المنورة ، فهو أحوج ما يكون إلى
الاتحاد ورص الصفوف وازالة جميع عوامل
الاختلاف والتفرق ، ليتمكن ـ على ضعف
امكاناته ـ من الصمود في وجه الاعاصير التي
توشك أن تعصف من مختلف الاتجاهات .لقد قام(صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة
بين المسلمين ليجعل من الاسلام محور وحدتهم
واساس ارتباطهم وقطب حركتهم ، وليجعل هذه
القرابة الجديدة أقوى من قرابة الرحم والنسب
وليجعل هذه الرابطة أوثق من رابطة القبيلة
والوطن . لقد قضى بذلك(صلى الله عليه وآله) على
العصبيات الجاهلية والنزعات المختلفة التي
كانت تمزق المجتمع آنذاك ، وأحل محلها حالة من
الالفة والاخوة لم يذق ذلك المجتمع طعمها من
قبل ، فصنع من ذلك المجتمع الناشئ الصغير قوة
كبرى دافعت عن الاسلام واحتضنته بقوة ،
وأفشلت كل المؤامرات التي استهدفت القضاء
عليه ، ثم حملت رايته المنتصرة لترفعها فوق
ربوع الجزيرة العربية في مدة يسيرة ثم منها
إلى أقطار المعمورة . إن من فضول القول الحديث
عن اهتمام الاسلام بالاتحاد والالفة ، ورفضه
لعوامل التشتت والنزاع .
عوامل التشتت والافتراق
قد يتصور البعض أن الحديث عن «الوحدةالاسلامية» في هذا العصر فيه نوع من المثالية
وضرب من الخيال ، نظراً لما آل إليه المسلمون
من التفرق والاختلاف حتى أصبحوا طرائق قدداً
، الامر الذي يجعل من لمّ الشمل واعادة اللحمة
قضية عسيرة جداً .وهذا بالحقيقة يدفع الكثيرين إلى
اليأس والاستسلام للواقع المرّ ، وهو لا يزيد
الشقة إلاّ عمقاً والجرح إلا اتساعاً .وفي المقابل هناك العديد من المخلصين
الذين نذروا أنفسهم للتقريب بين المذاهب
الاسلامية ، وسعوا جهدهم لردم الهوة المصطنعة
وتضميد الجراح ، هؤلاء انطلقوا في جهودهم تلك
على أساس من الاحساس بالمسؤولية والشعور
بالتكليف الشرعي والحرص على وحدة الصف .وكل سعي في هذا المجال إذا أريد له
النجاح فلا بد أن يقوم أولاً على دراسة وافية
لعوامل التفرقة التي أدت بالمسلمين إلى ما هم
عليه، وبعد ذلك التخطيط لازالة تلك العوامل
وتحصين المجتمع الاسلامي ضدها ، واستبدالها
بدواعي الاتحاد والالفة ، ويمكن تقسيم تلك
العوامل إلى قسمين :القسم الاول : عوامل داخلية .القسم الثاني : عوامل خارجية .أما العوامل الداخلية : فتتمثل في
النوازع البشرية المختلفة من قبيل حب الرئاسة
والتسلط وحب الذات ولو على حساب حقوق الاخرين
مما يدفع الى الظلم والجور ، والاقبال على
الدنيا بما يتجاوز الحدود الطبيعية ، وهذه
الامور هي الاساس الذي يتولد عنه النزاع
والضغائن والاحقاد ، وربما جرّت إلى التعدي
والطغيان وسفك الدماء وسحق الحريات ، وما إلى
ذلك من التجاوزات التي تفتت المجتمع وتشتت
الامة ، كما أن الجهل يشكل عاملاً مهماً في بث
الفرقة .وهذا النوع من العوامل لا يخلو منه
مجتمع بشري منذ بداية الخليقة حتى الان ولعل
من أهم أهداف الدين الاسلامي بل كافة الاديان
السماوية معالجة هذه النزعات البشرية
والقضاء عليها ، وذلك من خلال البرامج
التربوية والقوانين الشرعية .ونظام العبادات في الاسلام يهدف إلى
هذه النقطة عندما يربي الانسان على العبودية
للّه والطاعة المطلقة ، ويحرره من قيود
الشهوات الحيوانية والنوازع النفسانية .كما أنّ الدراسات الاخلاقية تتكفّل
بمعالجة هذا الجانب ، ووظيفة الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر في حقيقتها تشكل حالة من
التكافل الاجتماعي للوقاية من تلك الامراض ،
ونظام الحدود والتعزيرات أيضاً شرع لذلك
الغرض .وأما العوامل الخارجية ، ونقصد بها
العوامل الدخيلة على المجتمع الاسلامي ،
والتي تستهدف تجزئة هذا المجتمع ، وتحطيم
الاواصر ، وبث الفرقة ، وإثارة النزاعات
والحروب لاضعاف المجتمع والسيطرة عليه ، أو
تشويه الاسلام والحيلولة دون انتشاره واتساع
رقعته .وقد يستفيد المخططون لهذه الاهداف من
القسم الاول من العوامل، ويعملون على تنميتها
واستغلالها كأدوات فعالة لخدمة مآربهم ، ونحن
إنما فصلناها لانها في نفسها تشكل أحياناً
عوامل مستقلة ، وإن كانت أيضاً بالنسبة للقسم
الثاني تشكل أرضية ملائمة لها وأدوات فعالة
لخدمتها .وبالطبع فإن أعداء الاسلام الذين
يتربصون بنا الدوائر قد يستفيدون من الكثير
من نقاط الضعف ، وينفذون إلى مخططاتهم من خلال
العديد من الثغرات ، ويستخدمون من الادوات ما
يتيسر لهم ، وقد تختلف هذه الادوات من زمان
إلى زمان ومن مكان إلى آخر ، وقد تصبغ الادوات
أحياناً بصبغة دينية ، وأخرى بصبغة اقتصادية
، وربما استخدمت وسائل محليّة تخفى على
الكثيرين ولا يدرك حقيقتها إلاّ ذوو البصائر .وأشد الادوات فتكاً تلك التي تعمل
بوحي الاعداء دون أن تدري ، بل ربما تصورت
نفسها تخدم الدين وتحرص على مصالح المسلمين.
دور الخلافات الفكرية والمذهبية
هناك رؤية مفادها أن الخلافات الفكريةوالمذهبية على مستوى المعتقد ، وعلى مستوى
المنهج الفقهي والاصولي تشكل عاملاً أساسياً
من عوامل التشتت والافتراق ، وسداً منيعاً
أمام كل مساعي الوحدة والتقارب بين المذاهب
الاسلامية ، ولاجل هذا كرس أصحاب الرؤية كل
جهودهم في مجال معالجة هذه الخلافات ، فراحوا
يبحثون تارة عن نقاط الالتقاء وأخرى عن الطرق
التي ربما توصل إلى تقريب وجهات النظر في
مسائل الخلاف . ولعل البعض قد حقق نجاحاً
ملموساً في هذا المضمار ، إلاّ إنه بقي
محصوراً في حدود دائرة ضيقة ، ولم تحل المشكل
جذرياً .والحقيقة أن الاختلافات الفكرية لا
تشكل عاملاً من عوامل الافتراق بقدر ما هي
أداة تستخدم في اثارة النزاعات ، وقد استخدمت
بالفعل وجُعلت أساساً لذلك .إن الخلافات الفكرية بمنزلة اختلاف
اللغة واختلاف القومية وأمثال ذلك ، ليست في
واقعها من عوامل الافتراق والنزاع ، ولكنها
تستغل من قبل دعاة التفرقة والتجزئة وتشكل
أرضية خصبة لنشاطهم .الخلافات الفكرية قد تكون في نفسها
دليل حياة ودليل قوة ، بشرط أن تكون وليدة
حالة طبيعية وأن تبقى في حدود الدائرة
الفكرية ، فتعدد الاراء والنظريات من شأنه أن
يثري الحركة الفكرية ويدفعها نحو التكامل
والنمو . نعم هناك حالات من الخلاف الفكري
تنشأ من التقليد الاعمى والتعصب البغيض ،
فتولد حالة القصور الفكري والجمود ، وهذه بلا
شك من الامراض التي تتطلب العلاج .في الساحة الاسلاميّة هناك نوعان من
الخلاف الفكري :النوع الاول : الخلاف بين المسلمين
وغيرهم ممن لا يعتنقون الدين الاسلامي من
الملاحدة أو أهل الكتاب ، ولا شك أن هذه
الدائرة من الخلاف ليست محل كلامنا ، ولكنها
يمكن أن تؤخذ نموذجاً لدراسة المنهج الذي
رسمه الاسلام لنا في كيفية التعامل مع
الخلافات الفكرية بشكل عام ، وهذا النوع بشكل
خاص .ففي دائرة الخلاف مع الملحدين لا يقطع
الاسلام حبل الوصال معهم ، وإنما هو يخاطب
عقولهم باعتبار أنه القدر المشترك بين كل
البشر، ويتابع منهج الحوار الفكري ما دام ذلك
ممكناً، إذ إن هدف الاسلام الاساسي هو الوصول
بالناس ـ كل الناس ـ إلى الحق والارتباط بالحق
ليس أكثر .(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم
بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)(10)
.ولم ينكر الاسلام على الناس الشك في
شيء إذا كان ذلك في طريق طلب الحقيقة ، وفي
سبيل الوصول الى اليقين ، وإنما انكر على
المشككين الذين يرفضون الحقيقة دون حجة ولا
بيّنة ، وإنما يدفعهم إلى ذلك حالة العناد
والتقليد الاعمى . هذا هو المنهج القرآني في
طرح الحقيقة والدعوة إليها، فهو تارة يدعوهم
للتدبر في الايات الكونية ، وأخرى يطلب منهم
التأمل بأنفسهم وإعمال عقولهم ، وثالثة ينقض
عليهم دعاواهم، وهكذا يرسم منهج الحوار مع
الفكر ومخاطبة العقول.ولا يلجأ إلى القوة والحسم إلاّ إذا
مارسوا الطغيان ولجوا في العناد وتنكّروا
للعقل والدليل ، وهو مع ذلك يترك الباب
مفتوحاً إذا ما استجابوا لنداء العقل وتخلّوا
عن العناد ورضوا بالحق .ومن النوع الاول أيضاً الخلاف مع أهل
الكتاب ، لكن المسألة هنا تختلف من حيث سعة
دائرة المشتركات ، فهم يؤمنون باللّه ويصدقون
بالمعاد وبوجود الرسالات السماوية ـ بالجملة
ـ فالحوار معهم كان مبنياً على أساس
المسلّمات المشتركة : (ولا تجادلوا أهل الكتاب
إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم
وقولوا آمنا بالذّي أنزل إلينا وأنزل إليكم
وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)(11)
.(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلاّ اللّه ولا
نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً
من دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا
مسلمون)(12)
.وكذلك هنا لا يخرج عن دائرة الحوار
الفكري ومخاطبة العقول والاحتجاج بالمسلّمات
عندهم واقامة الدليل والبرهان ، إلاّ إذا
أعرضوا عن هذا الاسلوب وأخذتهم العصبية
ولجّوا في العناد ، وهو مع ذلك يتدرج معهم في
المقارعة والنزاع : (فمن حاجك فيه من بعد ما
جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم
ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين)(13)
.فاذا تجاوزوا ذلك ـ وقد تجاوزوه
بالفعل ، وأخذوا يتآمرون على الاسلام
والمسلمين ـ فلا بد من الانتقال إلى ساحة
الصراع العسكري واستعمال القوة .النوع الثاني : الخلاف الفكري بين
المسلمين أنفسهم .هناك أصول مشتركة بين جميع المسلمين ،
وهي الايمان باللّه وتوحيده وبنبوة الرسول
محمد(صلى الله عليه وآله) وبالقرآن الكريم
كتاب اللّه المنزل وبالمعاد يوم القيامة .ولا يشك أحد من المسلمين بأن القرآن
الكريم والسنة النبوية الشريفة هما المصدران
الرئيسيان لمعرفة أحكام الشريعة والمعارف
الاسلامية ، ومع ذلك فهناك الكثير من
الخلافات ترجع كلها إلى كيفية فهم الكتاب
والسنة احياناً ، وإلى الطرق التي تثبت بها
السنة النبوية الشريفة أحياناً أخرى ، فهي
خلافات لا تمس الاصول الاساسية للشريعة ،
وإنما هي خلافات فكرية داخل إطار تلك الاصول
تمليها طبيعة تعدد الانظار والاراء وتفاوت
درجات الادراك والفهم ، وهو بالتالي أمر لا بد
منه في الجملة .ومن المسلّم أن هناك بعض الظروف التي
قد تلعب دوراً في تعميق هذه الخلافات
وتطويرها ، فتخلق الارضية المناسبة
لاستغلالها من قبل اعداء الاسلام ، وهذه
الظروف كما يلي :1 ـ التأثر بالاجواء الاجتماعية
الموروثة أو الدخيلة على المجتمع الاسلامي ،
والتي تطبع الفكر بطابع خاص وتجعله أسيراً
لنهج فكري معين ، يقوده إلى الوقوع في
انحرافات أو سلوك اتجاه قد لا يصيب الحقيقة .2 ـ التأثر بذوي النفوذ السياسي أو
المكانة الاجتماعية الذي يجر عادة إلى اتباع
منهجهم الفكري والابتعاد عن المناهج الاخرى ،
وبالتالي يتحول ذلك إلى مذهب خاص له مؤيدوه
والمدافعون عنه .3 ـ الميول والمصالح السياسيّة
والاقتصادية التي لها تأثيرها الكبير في تبني
نوع خاص من الرؤى بما يتناسب مع تلك الميول .
وقد تدفع أحياناً إلى تشجيع الوضاعين
والدساسين الذين يتاجرون بالدين لمآرب شخصية
، فيقومون بوضع الحديث ، أو اختلاق تفسير
وتأويل خاص يخدم تلك المصالح ، فيؤدي إلى
اختلاط الحق على الناس ، وينشأ عنه تعدد في
النظرات والاراء وربما أدى إلى ولادة فرقة أو
مذهب .4 ـ من اسباب تعميق الخلاف وجود
الحركات السرية للمنافقين واليهود الذين
يهدفون إلى زعزعة أركان الدين الاسلامي
وتشويه حقائقه ، وذلك عبر أساليب كثيرة ،
كإثارة الشبهات والتشكيكات ، وادخال بعض
الافكار الغريبة بطريق وآخر ، وربما مارسوا
عملية الوضع أيضاً بالاتجاه الذي يخدم
أهواءهم . وهذا النمط من العوامل أوجد هذه
الكمية من الاسرائيليات التي ابتلي بها
الحديث عندنا .5 ـ والاهم من كل هذه الامور هو الدور
الذي يلعبه أعداء الاسلام ، باستغلال هذه
العوامل والاستفادة منها في اثارة النزاعات
وبذر الشقاق ، وبث العداوات . وقد شهد القرن
الاخير تصعيداً في هذا النشاط ، وحقق
المستعمرون أغراضهم ومآربهم عندما عمدوا إلى
تقسيم العالم الاسلامي على أساس القوميات
واختلاف اللغات والاقاليم ، وأثيرت الحروب
بين المسلمين لاغراض لا تخدم إلاّ الاستعمار
، وقد هُزِمَ المسلمون يوم تناسوا المشتركات
بينهم والمصالح العامة ، وتخلّوا عن أسس
وحدتهم وحبل اعتصامهم الذي يجمعهم ويؤلف
بينهم ، وقدموا الانتساب إلى القومية وإلى
الاقليم وإلى اللغة على الانتساب إلى الدين ،
على خلاف تعاليم الكتاب العزيز وسيرة الرسول
الكريم(صلى الله عليه وآله) .ولقد استطاع المستعمرون أن يصنعوا من
الوطن الاسلامي الكبير كيانات صغيرة متعدّدة
فاقدة لمقوّمات القوة والحياة والاستمرار ،
وحرصوا أشد الحرص على إضعافها وخلق المعضلات
السياسية والاقتصادية لها لكي تبقى أسيرة
الحاجة وفريسة الصراعات ، ليتسنى لهم التحكم
بمصائر شعوبها والسيطرة على ثرواتها
ومقدراتها .العالم الاسلامي اليوم وبفضل أولئك
المستعمرين بات يشكل بؤرة الفقر والفاقة
وميدان الصراعات المعقدة ، بينما تدار عجلة
الصناعة في الغرب بوقوده وزيته ، وتقوم
الماكنة الاقتصادية على خيراته وكنوزه
المودعة فيه .لم يعد أولئك المستعمرون اليوم بحاجة
لارسال قواتهم والمخاطرة بجيوشهم لقمع حركات
التحرر ، وتأديب من يفكر بالتمرد ، أو يهدد
مصالحهم الخاصة ، فهم يمسكون بقياد الجيوش في
أكثر البلاد الاسلامية ، ويتحكمون بالدفة
السياسية فيها ، فعملاؤهم يكفونهم المؤونة
ويؤدون المطلوب على أفضل وجه .ولسنا بحاجة إلى شواهد لاثبات ذلك ،
ففي كل يوم لنا شاهد ، وكل لحظة لنا دليل .
عوامل أم أدوات
إن تعدد الاراء واختلاف وجهات النظربين العلماء والمفكرين لا تشكل حالة مرضية ،
وإنما هي دليل حياة ودليل قوة ودليل حركة
العقل والفكر ، والمؤسف أن الكثير من الناس
يعتقد أن اختلاف وجهات النظر هو السبب الكامن
وراء الفرقة والتشتت ، فتراهم يشعرون بالجزع
والاسى إذا اختلف الفقهاء في الفتوى مثلاً ،
أو تباينت الاراء في مسألة معينة ، وقد غفلوا
عن حقيقة مفادها أن الغاء مثل هذه الاختلافات
لا يتم إلاّ إذا عطل الفكر عند البشر ومنع
العقل من ممارسة نشاطه .نعم ، إن اختلاف وجهات النظر ثغرة قد
يستغلها الاعداء وزارعو الفتن ، فيتخذون منها
ذريعة لبث الفرقة والنزاع والخصومة ، ولاجل
هذا يفترض أن ينتبه المسلمون الى هذه الحقيقة
، ويتعاملوا مع الاختلافات الفكرية على أنها
ظاهرة صحة ، وأنها حالة طبيعية ويحصروها من ثم
في إطار البحث العلمي ، ولا يسمحوا لها
بالتعدي والتجاوز لتصبح أدوات فتك وأسلحة
دمار .ولعل أوضح دليل على ما نقول ، ما نجده
من اختلاف الاراء بين علماء الفريق الواحد
الذي قد يبلغ مقداراً لا يقل عن اختلاف الاراء
بين الفرق المتعددة ، ومع ذلك لا يؤدي في
الحالة الاولى إلى الخصومة والنزاع ، بينما
في الحالة الثانية يشكل مادة لذلك . والسبب
يكمن في طبيعة التعاطي مع تلك الاختلافات
واستغلالها تارة في النزاع والخصومة وعدم
استغلالها أخرى .فاختلاف الاراء ليس عاملاً من عوامل
الفرقة والتشتت بمقدار ما هو أداة تستغل
فيها . مثله مثل السلاح الذي يدخر لحالات
النزاع والحرب ، فقرار الحرب لا يتولد عن وجود
السلاح ، وإنما يتخذ لتوفر عوامل أخرى تؤدي
إلى اشعال ناره ، فإذا اتخذ قرار الحرب لجأ كل
فريق إلى أسلحته ليفتك بالاخر .وما نشاهده اليوم عندما تشهر المسائل
الخلافية في النزاعات المذهبية فهو من هذا
القبيل .فلا بد إذن أن نميّز بين عوامل
الافتراق والتشتت وبين الادوات التي تستخدم
فيه . وبالتالي يفترض أن ينطلق العلاج على
اساس القضاء على العوامل وصيانة الادوات عن
الاعداء وعدم السماح لهم باستغلالها .
خطوات عملية في طريق الوحدة
من خلال الاستعراض المتقدم يمكن أننخلص إلى وضع برنامج توحيدي يتمثل بخطوت : أولاً : ليس من الضروري أبداً تركيز
الجهود التقريبية على اساس تقريب وجهات النظر
، وتعليق كل الامال على النجاح في هذا الجانب
، وإن كان تقريب وجهات النظر والتقليل من
الخلافات الفكرية في نفسه مطلوباً .ثانياً : الاسلام واحد والحقيقة واحدة
، والاختلافات ناتجة من اختلاف النظر وطريقة
الفهم ، فهي وليدة قصور الفكر البشري ، وأثر
الحوار الفكري في الاجواء الطبيعية كبير جداً
في تكامل ذلك الفكر واقترابه من الحقيقة ،
فالمفترض أن يحرص الجميع على توفير الاجواء
الملائمة والظروف الصحيّة للحوارات الفكرية
وتشجيعها ورعايتها .ثالثاً : الخطوات العملية على طريق
وحدة المسلمين لا تنتظر نتائج الحوارات
الفكرية ولا تتوقف عليها ، بل تنطلق على قاعدة
المشتركات التي وحّدنا الاسلام على اساسها ،
وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، فمن قالها
حقن دمه وعصم ماله ، وصار له ما للمسلمين
وعليه ما عليهم وهذه اهم قاعدة توحيدية .رابعاً : قراءة كل فريق لغيره من
الفرقاء لابد أن تكون بعين الباحث عن الحقيقة
والواقع ، لا بعين الباحث عن العيوب والثغرات
، وتقصي العثرات ، فإن الكثير من الاقلام التي
تصدّت لدراسة الفرق والمذاهب ، لم تتجرد عن
عصبياتها وعدائها المسبق للفرق الاخرى ،
فساهمت تلك الكتابات بتعميق الجراحات وتشويه
الصور .في هذا المجال أحب أن أشير إلى أن
القراءة الصحيحة للمذاهب والفرق هي التي
تعتمد على ماكتبه أصحاب تلك المذاهب وعلماء
تلك الفرق ، فيجب الرجوع إلى أهل الاراء
لمعرفة آرائهم ، فهم أقدر على عرضها وأدق في
تصويرها ، وتصوير أدلتها .أما إذا رجع الباحث في دراسته لفرقة من
الفرق ولمذهب من المذاهب إلى مخالفيهم ، فلن
يحصل على نتائج دقيقة ولن يرى تمام الحقيقة
ولن يقف على تفصيل معتقداتهم وآرائهم .
والمؤسف أن هذا يحدث كثيراً بيننا والبعض منا
يبني نظراته تجاه الاخرين على ذلك .قد تسمع بحادثة بسيطة وشجار مختصر بين
اثنين من أصحابك، وتكوّن في ذهنك صورة من خلال
ما سمعت ، لكنك ستفاجأ إذا استمعت إلى ذوي
العلاقة لمقدار الاختلاف بين الواقع والنقل ،
هذا مع اتحاد الواسطة فكيف إذا تعددت ، وكيف
إذا رافق ذلك سوء ظن وعصبية وما شابه .فنحن ندعو الباحثين إلى التجرّد ،
والتحلّي بالانصاف ، وأخذ معلوماتهم من
المنابع الصافية والمصادر المباشرة .وهناك نقاط أخرى يجدر الاشارة إليها ،
تتعلق بكيفية دراسة فكر الاخرين والتعرف على
آرائهم :الاولى : التفريق بين الرواية والرأي ،
فإن وجود رواية في كتب قوم لا يدلّ أبداً على
أنهم يفتون بمضمونها أو يعتقدون صحتها
ويعملون بها ، فكثيراً ما نراهم يثبتون
النصوص في مصادرهم ويتركون أمر دراستها إلى
مجال آخر أو إلى أهل الفن ، فربما ناقشوا
سندها أو متنها ، وربما كانت معارضة بغيرها ،
وربما كانت تخالف الكتاب أو السنة القطعية
مما يقتضي طرحها . والنتيجة أنه لا تلازم بين
الرواية والاعتقاد .الثانية : رأي أحد العلماء لا يمثل
أبداً رأي الطائفة أو المذهب ، وإن كان
منتسباً إليهما. فكثيراً ما ينفرد شخص برأي
خاص في مسألة من المسائل أو فرع من الفروع
بينما يكون رأي الطائفة على خلافه ، فلا يصح
تحميل الطائفة ذلك الرأي . وهذا الخطأ قد وقع
فيه بعض الباحثين إذ وجّهوا انتقاداتهم
للطائفة بناء على ذلك القول الشاذ .ولمعرفة رأي طائفة معينة في مسألة من
المسائل لا بد من ملاحظة ما يجمعون عليه ، أو
ما يكون مشهوراً بينهم ويذهب إليه أغلب
علمائهم ومفكريهم ، ولا ينظر إلى الشاذ .الثالثة : يفترض للباحث أن يعتمد
الاسلوب العلمي بالبحث ، وأن يتجنّب
المغالطات ، والدخول في النزاعات المبنائية ،
ونقصد بها المسائل الخلافية التي يرجع الخلاف
فيها إلى الاختلاف على المبنى العلمي المعتمد
، فمثلاً قد يكون هناك قاعدة أصولية مقبولة
عند شخص غير مقبولة عند آخر ، أو رواية تصح
بحسب قواعد هذا الفريق ولا تصح على قواعد ذاك
الفريق ، فلا بد من حصر البحث في القاعدة
المختلف فيها وسوق الادلة لاثبات أو نفي ذلك
المبنى ، دون الدخول في الفروع المرتّبة التي
ستكون بطبعها تابعة للمباني .وأخيراً فإنه ليس من الضروري أبداً
نقل الخلافات إلى دائرة أوسع والالتزام بما
لا يلزم ، وترتيب آثار العداء تجاه من نختلف
معهم إذا لم نوافق من خلال الحوار للوصول إلى
وفاق في الرأي واتفاق في النظر .وبعبارة أخرى لابد من حصر الخلافات
الفكرية في دائرتها وعدم السماح لاعدائنا
باستغلالها والاستفادة منها ، وعندئذ لن يكون
هناك أي محذور من فتح الحوارات وتشكيل
الندوات لتدارس نقاط الخلاف، ولابد من تناسي
الخلافات المذهبية وكتمانها فيما لو ظهر من
أعداء الاسلام أي تحرك للعب على وترها .ومن الخطوات العملية في مجال التقريب
ولم الشمل إزالة الحاجز النفسي المصطنع الذي
وضعه أعداؤنا بين أتباع الفرق والمذاهب
المختلفة ، وهذا الامر له أهمية كبرى للوصول
إلى الصورة الحقيقية ورؤية بعضنا الصحيحة
لبعض ، فإن البعد والجفاء يترك أسوأ الاثر على
النفوس ويزرع الضغائن والاحقاد ، وبالتالي
يمهد الطريق لمثيري الفتن والنزاعات .فنحن ندعو المجاميع العلمية والحوزات
والمعاهد عند المذاهب الاسلامية كافة أن
تنفتح على بعضها ، وتضع حداً لهذا الانغلاق
على النفس . نحن ندعو علماء المذاهب والفرق
الاسلامية لزيارة حوزاتنا العلمية ومعاهدنا
وحضور الندوات والمباحثات العلمية ، ولا نقصد
الزيارات الرسمية والديبلوماسية ، وإنما
نعني الزيارات الاستطلاعية العلمية المفتوحة
من حيث الزمان ، وبالمقابل نأمل أن يقوم علماء
ومفكرو الشيعة بزيارات مماثلة باتجاه
المذاهب الاخرى .الجامعات والمؤسسات العلمية بامكانها
أيضاً أن تؤدي دوراً فعالاً في هذا المجال ،
وذلك بافتتاح أقسام خاصة لدراسة المذاهب
الاسلامية ، بشرط ان يعهد إلى أساتذة كفوئين
من كل مذهب اسلامي لتدريس مذهبهم .لماذا يضع كل فريق سداً فولاذياً أمام
النتاجات الفكرية للفريق الاخر ، ولا تدرس
إلاّ بخلفية البحث عن العيوب والثغرات ؟ إذا
كنا نريد الحفاظ على نقاوة الفكر وصفائه
فلابد من اطلاق عنانه واعطائه حريته .ولا يفوتنا أن نسجل أسفنا لما يعانيه
الكتاب الشيعي في العديد من البلاد الاسلامية
من حصار وحظر ; فإن البعض يضع الكتاب الشيعي في
لائحة الكتب الممنوعة ، ويتعامل معها أسوأ
مما يتعامل مع كتب الكفر والضلال .لماذا يمنع الملايين من المسلمين
المثقفين من الاطلاع على واقع المذاهب الاخرى
، بينما يباح لهم قراءة المطبوعات المشحونة
بالكفر والانحراف والفساد الاخلاقي ؟!.لماذا يسمح للاعلام الغربي المعادي
للاسلام بالدخول إلى كل بيت ومكتب
ومدرسة من بلادنا الاسلامية ، ولا يسمح
للاعلام الاسلامي أن يأخذ مكانه ؟! إنه
الواقع الاليم الذي نعيشه في العديد من
البلاد .
مطلق الاتحاد أو الاتحاد في دائرة
الحق
لا شك أن الاتحاد عامل قوة ، وكل مسلمفي أعماقه رغبة شديدة وشوق كبير لرؤية
الاسلام يشمخ علواً ، وترف رايته على كل رابية.
كل مسلم يحب أن يرى العالم الاسلامي قوياً
عزيزاً منيعاً ، والاسلام عندما يدعو
للالتزام بالجماعة واصلاح ذات البين وينهى عن
الفرقة والتشتت ، يريد بذلك التمحور حول
الدين وحول الحق الذي جاء به الدين ، وإلاّ
فإنّ الاتفاق على كلمة الكفر والالتزام
بالجماعة وإن كانت على باطل مما لا يمكن أن
يدعو إليه الدين ولا يحبه اللّه .وقد ورد عن رسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) أنه قال : «جماعة أمتي أهل الحق وإن
قلّوا»(14)
.وعنه(صلى الله عليه وآله) أيضاً : «إن
القليل من المؤمنين كثير»(15)
.وورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام)
قوله :«الجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً ،
والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً»(16)
.فالكثرة بما هي كثرة ليست غاية في نظر
الاسلام ، وإنما المطلوب هو التزام سبيل
اللّه والاجتماع على هذا السبيل والاتفاق
عليه ، لا مجرد الاتفاق والاجتماع كيفما كان
وكيفما اتفق ، وعلى هذا الاساس يمكن أن نفهم
مراد الرسول(صلى الله عليه وآله) من الجماعة
في الاحايث المروية عنه في النهي عن مفارقة
الجماعة ، فإنه ليس المقصود مطلق الجماعة ولو
كانوا جماعة الباطل وأعداء الدين ، ولذا كان
التعبير الوارد في بعض النصوص «جماعة
المسلمين» فالحق هو الملاك ، والاسلام هو
الغاية ، والاجتماع عليه يكسبه قوة ومنعه
ويحقق أهدافه .
الوحدة والتبليغ للمذهب
كل فرد منا يحمل قناعات ويتبنّى آراءويحب أن يعرض هذه القناعات والاراء على
الاخرين ، إما باعتبار أنها من نتاجات فكره أو
لانها هي الحق والصواب بنظره وإذا توسعنا
قليلاً نجد أن أصحاب المدارس الفكرية كذلك
يحبون عرض مدرستهم ودعمها بالادلة والبراهين
والدفاع عنها ، وكذلك الامر على مستوى
المذاهب والفرق الكبيرة فقد يتوهم البعض أن
التبليغ والدعوة لمذهب معين ينافي الوحدة
والاجتماع ويؤدي إلى الفرقة والخلاف .والحقيقة أن التبليغ والدعوة بحد
ذاتهما لا يؤديان إلى ذلك إلا اذا رافقهما
حالة من التعصب وحالة من الجمود الفكري ، وإذا
تجاوز الداعية والمبلّغ حدود الحوار الفكري
إلى التربص بالاخرين والسعي لحذفهم واسقاطهم
.ونعم ما قيل من أن «الصراع الفكري دليل
صحة ودليل يقظة ما لم يؤدّ الى انشقاق في صفوف
الامة ومواجهة عدائية»(17)
، وهذا مما لا يحصل عادة في الاطر
الصحيحة لعرض الافكار والاراء ، وفي أجواء
الحوار الفكري الخالص عن شوائب الحقد والتعصب
.وهل يمكن للامة أن تبلغ رشدها الفكري
إذا أوصدت باب حرية الفكر، وسدت منافذ الحوار
وجمّدت الطاقات المخزونة في العقول البشرية .والفرق كبير بين الاقتناع بالفكرة
وتبني الرأي وبين التعصب لهما، وبين قبول
العقيدة لان الدليل ساقه إليها وبين التقليد
الاعمى ، وبين الحوار من أجل الوصول إلى
الصواب وبين الجدال بهدف إفحام الاخرين
وتبكيتهم واسقاطهم .والنتيجة أنا لا نرى أن من الشروط
العملية للوحدة منع أرباب الفرق والمذاهب من
الدعوة والتبليغ ، بل ندعو لنبذ العصبية ،
والتجرد عن النظرة العدائية لبعضنا تجاه بعض
ثم ليعرض كل انسان فكره وعقيدته ، وليكن ميزان
العقل هو الاساس في قبول ذلك أو ردّه .لقد اتبع هذا الاسلوب أكبر العلماء من
مختلف المذاهب ، لم يَحُلْ الاختلاف الفكري
بين اجتماعهم وتحاورهم وأخذ بعضهم عن بعض .
وإذا كان الاجتهاد قد قاد بعضهم إلى رأي ،
فإنه قد ساق الاخرين إلى رأي آخر، وما دام
الدليل هو المحكّم فالامر في اطاره الصحيح
وطريقه السليم . نعم عندما يحاول أحد أن يفرض
رأيه فرضاً ، وأن يقبل الدليل والبرهان إذا
كان يؤيد فكرته ويرفضهما إذا لم يكونا كذلك ،
فعندئذ يمكن أن يقال إن هذا النحو من الصراع ـ
الذي قد يسمى فكرياً وليس كذلك ـ أول الطريق
نحو التشتت والفرقة . وليس الاعلان بالرأي
والدعوة إليه هو السبب في ذلك ، وإنما المشكلة
مشكلة أولئك الذين لا يتحملون الحوار الفكري
القائم على القواعد الاستدلالية ، ويتأذون
ممن لا يقبل آراءهم أو ينقدها .
كلمة أخيرة
إن زرع وتنمية روح الاخوة وتقبّلالحقيقة وغسل القلوب مرحلة متقدمة رتبة على
الحوارات الفكرية ، بل هي أرضية لابد منها
لانجاحها وتحقيق مآربها ، وإلاّ كانت
الحوارات الفكرية ساحة لاشعال نار النزاعات
وتغذية الصراعات .إن دعاة التفرقة مرجفون ـ حسب تعبير
الشيخ شلتوت ـ يتربصون بنا الدوائر ، ولا
يعجبهم أن يروا المسلمين يداً واحدة على
أعدائهم ، وصفاً واحداً في مواجهتهم .إذا كان «اصلاح ذات البين أفضل من عامة
الصلاة والصوم»(18)
، فلان فيه حفظ الاسلام وقوته وتماسك أهله .
ولاجله قال(صلى الله عليه وآله) في تتمة
الحديث : «وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات
البين ، ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم»(19)
.* *
*
(1)
آل عمران : 103 ـ 105.(2)
المؤمنون : 52 .(3)
الانفال : 46 .(4)
صحيح مسلم، شرح النووي 16:140 .(5)
صحيح مسلم، شرح النووي 16:139.(6)
كنز العمال للمتقي الهندي 1:886 وفي معناه
بألفاظ متقاربة 1:1039 ـ 1045.(7)
المجلسي، بحار الانوار 27:67.(8)
الحجرات : 13.(9)
المجلسي، بحار الانوار 90:362.(10)
النحل : 125 .(11)
العنكبوت : 46 .(12)
آل عمران : 64 .(13)
آل عمران : 61 .(14)
المجلسي، بحار الانوار 2 : 265 و 27:67 .(15)
المجلسي، بحار الانوار 2 : 266 .(16)
المجلسي، بحار الانوار 2 : 266.(17)
في سبيل الوحدة الاسلامية : 59 .(18)
المتقي الهندي، كنز العمال 2 : 5487، والمجلسي،
بحار الانوار 76:43 عن النبي(صلى الله عليه
وآله).(19)
الكليني، الكافي 7 : 51 .