نظرية
المعرفة في فلسفة
الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قدس
سره)
* الدكتورة عائشة يوسف المناعي (قطر)
المعرفة وعلاقتها بالعلم :
قد يتداخل معنى المعرفة مع معنىالعلم فيكون مرادفاً له، من حيث أن كلاً منهما
يعني : إدراك صور الأشياء أو صفاتها أو
علاماتها أو إدراك المعاني المجردة سواء أكان
لها وجود خارج الذهن أم لم يكن ، فيقال :
عَلِمَ الشيء بمعنى عرفه . وقد عرّف التهانوي
في كشّافه العلم على أنه معنى من معاني
المعرفة فقال : «ومنها (أي المعرفة) العلم
مطلقاً تصوراً كان أو تصديقاً» [1] .ومن هنا يستعمل المتكلمون في تعريف
العلم كلمة المعرفة . فيقول الباقلاني في
تعريف المعرفة إنه : «معرفة المعلوم على ما هو
به» [2] .وللجويني تعريف آخر يقول فيه : «العلم
عقد يتعلق بالمعتقد على ما هو به» [3] ،
وجاء في لسان العرب : «العرفان : قال ابن سيده :
وينفصلان بتحديد لا يليق بهذا المكان» [4]
والقدماء يفرّقون بين المعرفة والعلم فيما
يقول د . صليبا بالعموم والخصوص والإحاطة في
الإدراك أو عدمه : «فالمعرفة إدراك الجزئي،
والعلم إدراك الكلي ، وأن المعرفة تستعمل في
التصورات والعلم في التصديقات ، ولذلك تقول :
عرفت اللّه دون علمته ، لأن من شرط العلم أن
يكون محيطاً بأحوال المعلوم إحاطة تامة ، ومن
أجل ذلك وصف اللّه بالعلم لا بالمعرفة ،
فالمعرفة أقل من العلم ، لأن للعلم شروطاً لا
تتوافر في كل معرفة ، فكل علم معرفة ، وليست كل
معرفة علماً» [5] وبحيث يمكن القول بأن
العلم مجموع معارف والمعرفة جزء من العلم .
ولقد اعتنى علماؤنا ـ من محدثين ومفسرين
وفقهاء وعلماء كلام وفلاسفة ـ بموضوع المعارف
الإنسانية عناية بلغت من الاهتمام بها مبلغاً
جعلهم يفتتحون مصنفاتهم بموضوع العلم
وحقيقته ومعناه ، وما يحصل به العلم من النظر
والاستدلال وأحكام النظر ، مما يعني اهتمامهم
البالغ بنظرية المعرفة في مسمّاها الحديث .
أما المحدّثون فلفظ المعرفة عندهم له أربعة
معان : «الأول : الفعل الذي يتم به حصول صورة
الشيء في الذهن سواء كان حصولها مصحوباً
بالانفعال أو غير مصحوب به . والثاني هو الفعل
العقلي الذي يتم به النفوذ إلى جوهر الموضوع
لتفهم الحقيقة .. والثالث مضمون المعرفة
بالمعنى الأول ، والرابع مضمون المعرفة
بالمعنى الثاني» [6] .وتعني هذه النظرية بالبحث في طبيعة
المعرفة وماهيتها ومصادرها وموانعها
وشرائطها وقيمتها ووسائلها ، ويذهب البعض إلى
: «أن نظرية المعرفة قسم من علم النفس النظري
الذي يصعب فيه الاستغناء عن علم ما بعد
الطبيعة ، لأن غرضه البحث عن المبادئ التي
يفترضها الفكر متقدمة على الفكر نفسه ، ومعنى
ذلك أن نظرية المعرفة هي البحث في المشكلات
الفلسفية الناشئة عن العلاقة بين الذات
المدركة والموضوع المدرك ، أو بين العارف
والمعروف» [7] وبما أن الذات لابد وأن
يتجه تفكيرها إلى شيء ما ، ولا تستطيع أن تفكر
في العدم ، كان الوجود هو موضوع المعرفة ،
والوجود كمفهوم فلسفي يقصد به مطلق الواقع
ويقابله العدم ، وهذا الواقع قد يكون في
الخارج أو في الذهن «فالوجود الخارجي عبارة
عن كون الشيء في الأعيان ، وهو الوجود المادي
[8] ، والوجود الذهني عبارة عن كون الشيء في
الأذهان وهو الوجود العقلي أو المنطقي» [9]
.إن العلاقة ـ التي يتحدث عنها
هؤلاء ـ تتطلب وعي الذات العارفة بالمعروف
لتصبح المعرفة «عملية تجمع في داخلها بين شكل
من أشكال الاتحاد وشكل من أشكال التفريق أو
التمييز في الوقت نفسه» [10] بمعنى أن
الذات المدركة إذا عرفت شيئاً وانطبع فيها
ذلك الشيء أصبحت متحدة به ، في الوقت الذي
لابد وأن تتصف تلك الذات فيه بالوعي لكي
تستطيع أن تعرف .وفيما يرى «كولبة» فإن مصطلح نظرية
المعرفة يطلق ويراد منه أحد معنيين : معنى
عاماً ، ويراد به العلم الذي يحث في مادة
العلم الإنساني ومبادئه الصورية ، ومعنى
خاصاً ويراد به العلم الذي يبحث في المعرفة من
حيث مبادؤها المادية [11] . وعليه فالمعنى
الواسع لهذا المصطلح «يشمل كل البحوث
الفلسفية الهامة التي تتعلق بظاهرة المعرفة
مثل المنطق وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء
وعلم الاجتماع والتاريخ وميتافيزيقا المعرفة
. أما المعنى الضيق فيراد به العلم الذي يبحث
في ماهية المعرفة ومبادئها ومصدرها ومنابعها
وشروطها ونطاقها وحدودها» [12] .أما بداية ظهور نظرية المعرفة
فمرتبطة بالفيلسوف الانجليزي لوك (1704م) حيث
يعدّ هو المؤسس الحقيقي لنظرية المعرفة في
العصر الحديث ، لأنه وضع المعرفة في صورة
العلم المستقل كما كان «كتابه (مقالة في العقل
البشري) الذي صدر عام 1690م أول بحث علمي منظم في
أصل المعرفة وماهيتها وحدودها ودرجة اليقين
فيها» [13] إلاّ أن المصطلح ذاته لم يعرف
إلاّ في وقت متأخر عليه في عام 1862م عند تسلر
وذلك في كتابه (أهمية نظرية المعرفة ووظيفتها)
، وبعض الباحثين يرى أن هذا المصطلح ظهر على
يد «رينهد» في عام 1832م في كتابه (نظرية ملكة
المعرفة الإنسانية والميتافيزيقا) [14] .ولا يعنينا هنا تتبع الآراء
العديدة حول بداية ظهور نظرية المعرفة كمصطلح
يطلق على مبحث من مباحث علم الفلسفة أو المنطق
، بقدر ما يعنينا بيان موقف الشهيد الصدر من
مصادر المعرفة وقيمتها ومدى مشاركة كل من
الذات المدركة والموضوع المدرك في المعرفة .
وهي من اُمهات المسائل في نظرية المعرفة التي
تفرقت حولها المدارس قديماً وحديثاً ، وبرغم
كثرة هذه المدارس واختلافها حول المصدر
الأساسي للمعرفة فإن من الممكن تصنيفها ـ حسب
فلسفة الإمام الصدر ـ إلى المدارس أو المذاهب
التالية :1 ـ المذهب التجريبي أو الواقعي وهو
المذهب الذي يرجع المعارف جميعها إلى التجربة
أو الواقع ، وينظر إلى العقل على أنه مرآة
تعكس الحقائق الخارجية .2 ـ المذهب العقلي الذي يرجع
المعارف كلها إلى العقل باعتباره الأصل لكل
معرفة .3 ـ المذهب النقدي ، وهو مذهب
توفيقي بين المذهبين السابقين ، ويرى أن
العقل يشارك الحس ومدركاته الحسية في الحصول
على المعرفة .هذا ما لخصه السيد الصدر ، في عرضه
للمذاهب الفلسفية وموقفها من المعرفة
تمهيداً لطرح رؤيته الجديدة المتميزة في
موضوع المعرفة ويقينيتها ، بعد التأكيد على
أهمية نظرية المعرفة والاهتمام بها في أكثر
من مصدر علمي واُطروحة من اُطروحاته ، وبحيث
تشكل منطلقاً أو مرتكزاً عليه جميع القواعد
الفكرية في البحث ليتمكن الدارس من الانطلاق
بعدها إلى معرفة الكون وكل ما يتعلق به ، يقول
الإمام الصدر : «تدور حول المعرفة الإنسانية
مناقشات فلسفية حادة تحتل مركزاً رئيسياً في
الفلسفة وخاصة الفلسفة الحديثة ، فهي نقطة
الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن
الكون والعالم ، فما لم تحدد مصادر الفكر
البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأية
دراسة مهما كان لونها» [15] .وفي نص آخر له يقول : «مفاهيم كل
مبدأ عن الحياة والكون تشكل البنية الأساسية
لكيان ذلك المبدأ ، والميزان الأول لامتحان
المبادئ هو اختبار قواعدها الفكرية الأساسية
التي يتوقف على مدى إحكامها وصحتها إحكام
البنيات الفوقية ونجاحها ولأجل ذلك فسوف نخصص
هذه الحلقة الاُولى من كتابنا لدراسة البنية
الاُولى التي هي نقطة الانطلاق للمبدأ، وندرس
البنيات الفوقية في الحلقات الاُخرى» [16]
.ونفهم من هذين النصين أن الإيمان
بالمعرفة والثقة فيها كطريق للعلم الأساسي أو
البنية الاُولى ـ كما يسميها الصدر ـ لأي كيان
فكري يتوخى إقامة فلسفة أو تصور عن الكون
والإنسان وخالقهما . وبخاصة أن الحاجة لتلك
الدراسة ظهرت أشد ما يكون بعد أن ظهرت النزعات
المادية في الفلسفة الاُوربية الحديثة التي
أنكر كثير من أصحابها ما وراء المادة،
واتخذوا من الشك منهجاً وطريقاً ، وبعد أن
شاعت تلك الأفكار في الثقافة والفنون والآداب
، بل وفي الدين أيضاً ، بالرغم من أن الإنسان
بعقله السليم وفطرته الصحيحة لا يحتاج إلى
عميق استدلال ليؤمن باللّه ووجوده ووحدانيته
في صنعه وخلقه ، يقول الصدر : «الفكر الحديث
منذ قرنين من الزمن ، لم يترك هذا الوجدان
طليقاً وصافياً ، ومن هنا احتاج الاستدلال
بالنسبة إلى من كان ملمّاً بالفكر الحديث
ومناهجه في البحث ، إلى تعميق وملء الفراغات
التي كان الاستدلال الأبسط والأبده ، يترك
ملأها للوجدان الطليق» [17] فالحاجة على
ذلك ماسة لصياغة دليل ينبني على منهج قريب من
الحياة اليومية للمرء ـ تلك الحياة الزاخرة
بالاستدلالات الكثيرة لإثبات العديد من
الحقائق ، ويرى الصدر أن المنهج المستخدم
لإثبات حقائق الحياة اليومية هو المنهج الذي
يلتقي معه منهج الاستدلال ـ المقترح ـ على
الصانع الحكيم ، لأن منهج الاستدلال على وجود
الصانع الحكيم هو نفسه «المنهج الذي نستخدمه
عادة لإثبات حقائق الحياة اليومية ، والحقائق
العلمية ، فما دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق
فمن الضروري أن نثق به بصورة مماثلة لإثبات
الصانع الحكيم الذي هو أساس تلك الحقائق
جميعاً» [18] .في هذا الإطار ، ومن منطلق هذه
الأهمية القصوى جاءت عناية الشهيد محمد باقر
الصدر بنظرية المعرفة ، التي يرى فيها ركيزة
ومقوماً أساسياً من مقومات الدين واُصوله ،
وهذا الترسيخ يعتمد ـ أول ما يعتمد ـ على
الاستدلال الاستقرائي على وجود الصانع
الحكيم .وفي هذه الدراسة التي تدور حول (نظرية
المعرفة في فكر السيد محمد باقر الصدر) سنحاول
اقتفاء أثره في تصنيفه لعناصر نظرية المعرفة
، ونستعرض معه أهم المذاهب والاتجاهات في تلك
النظرية ، لنصل معه إلى خلاصة رأيه واُطروحته
.
المبحث الأول : المصدر الأساسي
للمعرفة
يعد المصدر الأساسي للمعرفة أوللإدراك من أهم الموضوعات التي ثارت حولها
مناقشات كثيرة وشديدة في الفلسفة قديماً
وحديثاً . ولذلك لم يكن لمحمد باقر الصدر بد من
استعراض تلك الفلسفات في إطار تقسيمه للإدراك
إلى تصور : وهو الإدراك الساذج ، وتصديق : وهو
الإدراك المنطوي على حكم «فالتصور كتصورنا
لمعنى الحرارة أو النور أو الصوت ، والتصديق
كتصديقنا بأن الحرارة طاقة مستوردة من الشمس
، وأن الشمس أنور من القمر وأن الذرة قابلة
للانفجار» [19] ، وبناء على التفرقة بين
هذين الإدراكين يستعرض الصدر الفلسفات
النظرية التي عالجت هذين الإدراكين من حيث
تصورهما ومصدرهما الأساسي :
أولاً ـ التصور ومصدره الأساسي :
ويعني الصدر بالمصدر الأساسي «المصدرالحقيقي للتصورات والإدراكات البسيطة» [20]
لأن التصورات على قسمين «أحدهما المعاني
التصورية البسيطة كمعاني الوجود والوحدة
والحرارة والبياض .. والقسم الآخر المعاني
المركبة أي التصورات الناتجة عن الجمع بين
تلك التصورات البسيطة» [21] ، فهذه
التصورات لابد أن يكون لها مصدر تستقي منه
مفاهيمها ، ومن هنا كان لابد للصدر من أن يعرض
لأهم النظريات التي أخذت على عاتقها بيان هذا
المصدر وطبيعته ، ومن هذه النظريات :1 ـ نظرية الاستذكار الأفلاطونية :
التي تقوم على استذكار النفس للمعلومات
السابقة التي كانت قد عرفتها في عالمها
السابق في تجردها ، وقبل هبوطها إلى عالم
الأبدان والأجسام ، واستذكارها لما أدركته من
حقائق مجردة ثابتة في ذلك العالم الذي سماه
أفلاطون (عالم المثل) فهذه النظرية ترى أن
النفس في عالم المادة «تسترجع إدراكاتها
بصورة مفاهيم كلية ، وعلى ذلك فليس لأدوات
المعرفة دور سوى إلفات النفس إلى العالم الذي
هبطت منه لتستذكر ما كانت قد نسيته» [22] .وقد انتقد محمد باقر الصدر تلك
النظرية سواء في شقها المتعلق بوجود النفس
قبل هبوطها إلى البدن ـ في عالم أعلى وأسمى من
وجود العالم المادي ، أو في شقها المتعلق
بإدراك النفس للحقائق المجردة أو «المثل» وأن
العلم والمعرفة هو عبارة عن هذا الإدراك [23]
.2 ـ النظريات العقلية : وتعود لكبار
فلاسفة أوربا مثل ديكارت وكانت وغيرهما .وتتلخص في الاعتقاد بوجود منبعين
للتصورات : أحدهما الحس والآخر الفطرة ، بمعنى
أنّ الذهن البشري يملك معاني وتصورات لم
تنبثق عن الحس ، وإنما هي ثابتة في صميم
الفطرة . والنفس تستنبط من ذاتها ، ولم تسلم
تلك النظرية ـ أيضاً ـ من تفنيد السيد محمد
باقر الصدر ولكن يثبتها بنظرته الخاصة
المنبثقة من القرآن الكريم ، وذلك حين يقرر أن
هذه النظرية يمكن أن يرد عليها اعتراض علمي
يتمثل : في الرجوع بالإدراك إلى طبيعة حسية،
وحينئذ تفقد هذه النظرية كل مبرراتها في جعل
بعض الإدراكات فطرة في النفس ... واعتراض فلسفي
مؤداه أن هذه النظرية لا تفسر لنا صدور
التصورات الكثيرة أو اللانهائية عن النفس
كمصدر بسيط لا كثرة فيه ... ويرى السيد الصدر
أننا لو فسرنا هذه النظرية بإثبات الأفكار
الفطرية التي تكون كامنة في «النفس» بالقوة ،
والتي تخرج إلى الفعل بعد ذلك بسبب «تطور
النفس وتكاملها شعوريا ، كما يشير إليه قوله
تعالى : (واللّه
أخرجكم من بطون اُمهاتكم ...)
إلى آخر الآية الكريمة» فسوف تثبت هذه
النظرية العقلية، وتسلم من الاعتراضين
العلمي والفلسفي ، وما يحسب للشهيد الصدر في
فلسفته أنه أعاد أساس هذه النظرية من منظور
إسلامي لولاه لفقدت هذه النظرية تماسكها
الداخلي وبناءها المنطقي .3 ـ النظرية الحسية : وتقوم على
الاعتقاد بأن المصدر الوحيد الذي يمد الذهن
ويموّنه بالتصورات والمعاني هو الحس . أما
القوة الذهنية فهي القوة العاكسة للإحساسات
المختلفة في الذهن ، والذهن ليس له إلاّ
التصرف في صور المعاني المحسوسة بالتركيب أو
التجزئة أو التجريد والتعميم .وهذه النظرية نشأت كردّ فعل لنظرية
الأفكار الفطرية التي مثّلها الفيلسوف
الفرنسي «ديكارت» ، وأول من تبنى النظرية
الحسية ـ في المعرفة ـ الفيلسوف الانجليزي
جون لوك ، الذي قضى ـ إلى حد ما ـ على نظرية
الأفكار الفطرية ، واقتفى أثره بعد ذلك وواصل
مهمته وطوّر من نظريته الحسية هذه طائفة من
الفلاسفة الانجليز في مقدمتهم الفيلسوفان
باركلي وديفيد هيوم ... ويشير الاُستاذ الشهيد
إلى أن الفلسفة الماركسية تلقفت هذه النظرية
الحسية وتبنتها واعتمدت عليها في نظريتها
التي تقرر أن كل إدراكاتنا وشعورنا ليس إلاّ
انعكاسات للواقع الحسي الموضوعي بصورة أو
بأُخرى [24] .. وقد عرض نصوصاً لأئمة
الفلسفة الماركسية تصور مذهبهم المادي في
المعرفة .. ثم بين أن النظرية الحسية تركز على
التجربة وتتخذ منها برهاناً على ما تقرره في
نظرتها الحسية مع أن التجربة تدل على أن
الإحساس ينبوع أساس في التصورات ، وأنه ـ
بدونه ـ لا توجد تصورات في الذهن البشري ، لكن
التجربة لا تنفي قدرة الذهن على توليد معان
وتصورات جديدة ليست مدركة بالحواس ، وإن كانت
تستمد عناصرها من الحس . فالتجربة وإن كانت
تثبت أهمية الحس في الإدراكات إلاّ أنها لا
تجرد الذهن عن فاعليته في ابتكار تصورات
جديدة مخترعة ... ويضرب السيد الصدر مثلاً لهذه
الإدراكات مفاهيم ذهنية من قبيل : العلة
والمعلول والعرض والإمكان والوجوب والوحدة
والكثرة ... الخ . ففي مثال العلية يرصد الحس
ظاهرتين متعاقبتين ، أما ما بينهما من تأثير
وتأثر فهو معنى لا يعود إلى الحس من قريب أو من
بعيد ، بل هو أمر ذهني خالص ... وبهذا تفلس
النظرية الحسية وتعجز عن تقديم تفسير صحيح
لإدراكات عديدة لا تستمد من الحس ولا ترصدها
الحواس [25] .أما النظرية التي يرتضيها ، فهي :4 ـ نظرية الانتزاع : وهي نظرية
الفلاسفة المسلمين بصفة عامة ـ كما يقول
الصدر ـ وتتلخص هذه النظرية في أنها تقسّم
التصورات الذهنية إلى قسمين : تصورات أولية ،
وتصورات ثانوية ، الأولية هي الأساس في
تصورات الذهن الإنساني ، وهي تتولد من
الإحساس بمحتوى هذا التصور أو ذاك بصورة
مباشرة . فنحن ندرك الحرارة إذا لمسناها
واللون إذا أبصرناه ... وهكذا . وهذه التصورات
هي بمثابة القاعدة أو نقطة الانطلاق للنوع
الثاني من التصورات وهو التصورات الثانوية ،
وهي التي ينشئها الذهن وينتزعها من قاعدة
التصورات الأولية ، فالذهن هنا له دور
الإنشاء والابتكار وليس دور التركيب والتجزئ
والتجريد فقط . وهذه نقطة فارقة بين تلك
النظرية والنظرية العقلية . ويجب أن نفرّق بين
انتزاع المفاهيم الكلية التي تنطبق على
المحسوسات مثل إنسان وفرس وشجرة وانتزاع
البديهيات الأولية مثل مفهوم الوجود والعدم
والوحدة والكثرة . فانتزاع الفئة الاُولى : «يحصل
للعقل من طريق تجريد وتعميم الجزئيات
المحسوسة بشكل مباشر ... أما الفئة الثانية
فإنها لم ترد إلى الذهن من طريق الحواس مباشرة
، وإنما الذهن بعد أن يظفر بالصور الحسية فإنه
يقوم بنشاط خاص وترتيب معين لينتزع هذه
المفاهيم من تلك الصور الحسية ، ولهذا تسمى
الفئة الاُولى بالإصلاح الفلسفي (المعقولات
الاُولى) والفئة الثانية المعتمدة على
الاُولى (بالمعقولات الثانية) ، وهذه
المعقولات الثانية الفلسفية هي التي تشكل
البديهيات الأولية للمنطق وموضوعات أغلب
مسائل الفلسفة الاُولى» [26] .
ثانياً ـ التصديق ومصدره الأساسي :
ونقطة البداية في هذا الموضوع ـوكما يراها الصدر ـ هي في تحديد «أصل المعرفة
التصديقية والركائز الأساسية التي يقوم
عليها صرح العلم الإنساني» [27] ، هذا
الأصل أو الأساس أو المبدأ الذي تنتج عنه
المعارف البشرية هل هو العقل بمفاهيمه أو
الحس بمداركه أو هو العقل والحس معاً ؟وحول الإجابة على هذه الأسئلة ،
ظهر اتجاهان : الأول : المذهب العقلي ، وسمي
بذلك لاعتماده على العقل ، والثاني : المذهب
التجريبي ، لاعتماده على الحس والتجربة .أما المذهب العقلي : فهو المذهب
الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلامية وطريقة
التفكير الإسلامي [28] . وفي هذا المذهب
تنقسم فيه المعارف إلى طائفتين : الاُولى :
معارف ضرورية أو بديهية لا تحتاج إلى دليل
وبرهان مثل : (النفي والإثبات لا يصدقان معاً
في شيء) (لا حادث بلا سبب محدث) (الكل أكبر من
الجزء) .. الخ أمثلة القضايا الضرورية ،
والثانية : معارف نظرية تستمد صحتها من معارف
ومعلومات سابقة تستنبط منها ، مثل (الأرض
كروية) (الحركة سبب الحرارة) (التسلسل ممتنع) ،
ولو لا تلك المعارف السابقة الضرورية أو
البديهية، لما استطاع الذهن البشري التوصل
إلى معارف نظرية على الإطلاق . إذن فالركن
الأساسي للعلم بصفة عامة هو المعلومات
العقلية الأولية ، أو العلل الأولى للمعرفة ،
وهي على نحوين : أحدهما ما كان شرطاً أساسياً
لكل معرفة إنسانية بصورة عامة وهو مبدأ عدم
التناقض، والآخر ما كان سبباً لقسم من
المعلومات وهو سائر المعارف الضرورية» [29]
والعملية التي تستنبط بها المعرفة النظرية من
المعارف السابقة هي التي يطلق عليها اسم
الفكر والتفكير .وكأن السيد محمد باقر الصدر يتحدث
هنا عن العلم الحصولي بجانبيه التصوري
والتصديقي ، ولا يتحدث عن العلم الحضوري بحسب
تقسيم بعض العلماء للعلم ـ من حيث طبيعة وجود
المعلوم الواقعي والعيني ـ والعلم الحصولي هو
ما ينتج بناء على وجود واسطة بين العالم وذات
المعلوم ، فالوجود الخارجي للمعلوم لا يتعلق
بشهود العالم به مباشرة وإنما يتعلق علمه
بشيء يعكس ذلك المعلوم كالحس والتجربة
والصورة والمفاهيم الذهنية ، أما العلم
الحضوري فالمعلوم فيه ينكشف للعالم به مباشرة
بلا واسطة مثل علم الإنسان بذاته وكونه
موجوداً مدركاً، وعلمه بالنفس وقواها
المدركة والمحركة، وعلمه بحالاته النفسية
والوجدانية ... ويدخل ضمن هذا العلم العرفان
والمكاشفات القلبية على مذهب الإشراقيين
[30] .وأما المذهب التجريبي : فهو الذي
يرى أن الإنسان إذا كان مجرّداً من التجارب،
فلن تكون عنده معرفة لأي حقيقة من الحقائق .
فالتجربة هي المصدر الأول لجميع المعارف ،
ولا توجد معارف عقلية سابقة على التجربة .ويستخلص السيد محمد باقر الصدر من
عرضه لهذين المذهبين حقيقة لا تخفى على كل
عاقل ، وهي أن المعرفة الإنسانية إذا كانت
مستنتجة من بعضها البعض سواء في ذلك
بالاستنباط أو بالاستقراء; «فيجب أن تكون
لهذه المعرفة بداية تتمثل في معارف غير
مستنتجة بأي صورة من صور الاستنباط أو
الاستقراء ، لأننا لو لم نفترض هذه البداية
لواجهنا متراجعة لا نهائية ، ولتوقف التوصل
إلى معرفة على حصول عدد لا نهائي من المعارف
وبالتالي تصبح المعرفة مستحيلة» [31] .وبناء على ذلك نخلص مع السيد محمد
باقر الصدر في إيمانه بالمذهب العقلي وعدم
إنكاره لدور التجربة إلى ما يلي :1 ـ المذهب العقلي هو المذهب
المستحسن عند الشهيد الصدر ، وهو المذهب الذي
يثبت العقل بل والتجربة ـ أيضاً ـ على أنه
المذهب الصحيح في تفسيره لمصدر المعارف بأنها
ترتكز على معارف قبلية سابقة أو ما يسميها
بالقضايا الأولية ، وأن القائلين بالتجربة هم
أنفسهم لا يستطيعون أن يؤكدوا قاعدتهم
القائلة «التجربة هي المقياس الأساسي لتمييز
الحقيقة» لأن هذه القاعدة إن كانت خطأ فقد
تهاوى مذهبهم من الأساس ، وإن كانت صواباً فما
السبب في صوابها ؟ فإن كان صوابها بلا تجربة
فمعنى ذلك أنها بديهية وهذا يهدم مذهبهم في
إنكار معارف سابقة على التجربة ، وإن كان
صوابها بتجربة سابقة عليها فهذا أمر مستحيل
لأن التجربة لا تؤكد قيمة نفسها .2 ـ المذهب العقلي يرى أن ميدان
المعرفة البشرية أوسع من حدود الحس والتجربة
، حيث إنه ينطلق إلى ما وراء المادة من حقائق
وقضايا ، وبذلك يتحقق للميتافيزيقا إمكان
المعرفة ، وليست الحقائق الميتافيزيقية
وحدها التي تحتاج في إثباتها إلى العقل ، بل
المادة ، والتي لا يمكن الكشف عنها بالتجربة
الحسية الخالصة تحتاج في إثباتها إلى العقل
أيضاً ، إضافة إلى أن التجربة ـ في المذهب
التجريبي ـ لا تتعلق بنفس المادة وحقيقتها ،
أو بالجوهر المادي ، وإنما تتعلق بظواهر
المادة وأعراضها، مما يعني أن المذهب
التجريبي عاجز حتى عن إثبات المادة نفسها .3 ـ المذهب العقلي يؤمن بأن الفكر
يسير دائماً من العام إلى الخاص ، أي من
الكليات إلى الجزئيات (الاستدلال القياسي) ،
أما المذهب التجريبي فإن الفكر أو حركة الذهن
فيه تنتقل من الجزء إلى الكل ، ومن الخاص إلى
العام (الاستدلال الاستقرائي) ، وبالرغم من
ذلك فإن السيد محمد باقر الصدر يثبت أن «استنتاج
نتيجة علمية من التجربة يتوقف دائماً على
الاستدلال القياسي الذي يسير فيه الذهن
البشري من العام إلى الخاص ومن الكلي إلى
الجزئي كما يرى المذهب العقلي تماماً» [32]
.4 ـ يؤمن المذهب العقلي
بالاستحالات العقلية ، أما المذهب التجريبي
فلا يدخل الحكم باستحالة وجود شيء أو عدم
إمكان وجود شيء في نطاق التجربة عنده «وقصارى
ما يتاح للتجربة أن تدلل عليه هو عدم وجود
أشياء معينة ، ولكن عدم وجود شيء لا يعني
استحالته» [33] . ومن الطبيعي أن يجوز
التناقض في ظل عجز المذهب التجريبي عن إثبات
الاستحالة ، وإذا جاز التناقض فإن جميع
المعارف والعلوم تنهار من الجذور ومن الأساس
، ولا يمكن معه إثبات قضية علمية أو حسية أو
عقلية .5 ـ يؤمن المذهب العقلي بقيام علاقة
السببية (العلية) في المعرفة البشرية بين بعض
المعلومات وبعضها الآخر . أما المذهب
التجريبي فلا يمكن أن يثبت مبدأ العلية
والضرورة القائمة بين ظاهرتين ، بل قصاراه
إثبات ظاهرتين فقط دون ما بينهما من علاقة
وارتباط عِلّي ، ومع انهيار مبدأ العلية
تنهار أيضاً جميع العلوم الطبيعية كما يقرر
الصدر [34] .6 ـ وأخيراً فإن المذهب لا ينكر دور
التجربة في العلوم والمعارف البشرية وفضلها
العظيم على الإنسانية ، ومدى خدمتها في
ميادين العلم وما كشفته من أسرار الكون وغموض
الطبيعة ، ولكن المذهب العقلي يرى أن التجربة
بمفردها لا تستطيع أن تقوم بدورها على أكمل
وجه ، بل هي تحتاج إلى القضايا الأولية
البديهية كمبدأ أساسي تنطلق منه ، فنحن
والآخرون ـ فيما يقول الصدر «على حد سواء على
ضرورة الاعتراف بذلك المقياس الذي ترتكز عليه
اُسس فلسفتنا الإلهية ، وإذا حاول التجريبيون
بعد ذلك أن ينكروا ذلك المقياس ليبطلوا علينا
فلسفتنا; فهم ينسفون بذلك الاُسس التي تقوم
عليها العلوم الطبيعية ولا تثمر بدونها
التجارب الحسية شيئاً [35] بل إن القضية
التجريبية التي اعتبرها أرسطو من القضايا
اليقينية في المعرفة البشرية يعتبرها الصدر
من القضايا اليقينية المستدلة والمستنتجة
وفقاً للمرحلة الاستنباطية من الدليل
الاستقرائي ، لأن الاستدلال فيها احتمالي ،
ولذلك فهي دائماً مستنتجة بدرجة أقل من
اليقين [36] .وهكذا تتطابق فلسفة الإمام الصدر
ومنهجه العقلي مع معطيات الفلسفة الإسلامية ،
وهو إذ يقف في وجه المذهب التجريبي ـ في مختلف
مستوياته ومدارسه ـ فإنه يستمد موقفه هذا من
البعد العقلي في فلسفة الإسلام ، تلك التي
تدرج في ذات الاتجاه مع المذهب العقلي ، وقد
استطاع السيد الصدر بهذه الوقفة المتأصلة أن
يكشف عن عوار المذهب التجريبي وتناقضه في
بنائه الفلسفي بما لم يكشفه أحد من قبله .وإذا كان المذهب الماركسي أو
الفلسفة الماركسية تعد الصيغة الكاملة
للمذهب التجريبي باعتبارها فلسفة مادية
خالصة ، فإن السيد الصدر قد ركز عليها في نقده
لهذا المذهب ، فالماركسية برغم أنها تعتنق
الرأي الثاني للمذهب التجريبي وهو أن للمعرفة
خطوتين : حسية وعقلية أو التطبيق والنظرية أو
مرحلة التجربة ومرحلة المفهوم والاستنتاج ،
إلاّ أنها أرادت أن تحتفظ للتجربة بدورها
كمقياس عام للمعارف البشرية وأنه لا توجد
معرفة منفصلة عنها .ويصل السيد الصدر ـ بعد استعراضه
لرأي الماركسية في المعرفة ـ إلى نتيجة مضادة
لا ترضى عنها الماركسية ، وهي أن تلك الخطوة
الثانية من خطوتي المعرفة وهي خطوة ـ الحكم
والاستنتاج ـ التي أخذت بها الماركسية ـ هي
نفسها الخطوة التي «ارتكز عليها المذهب
العقلي في القول بأن عدة من قوانين العالم
العامة يعرفها الإنسان معرفة مستقلة عن
التجربة كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية
ومبدأ التناسب بين العلة والمعلول» [37] .وتبقى نقطة هامة في هذا الموضوع
وهي اعتراض قد يوجه للعقليين مؤداه : أن
العقليين إذا كانوا يؤمنون بمعلومات ومعارف
أولية سابقة يصفونها بالضرورية ويدعون أن هذه
المعارف الأولية هي بمثابة الطريق الأساسي في
المعرفة ; فكيف تأخرت تلك المعلومات الأولية
عن ولادة الإنسان مع الادعاء بضرورتها أو
ذاتيتها ؟ويجيب السيد الصدر على ذلك بأن
المقصود بضرورية تلك المبادئ في العقل ; أن
الذهن لابد وأن يتصور المعاني التي تربط
بينها تلك المبادئ ، ومن ثم يستنبط المبدأ
الأول دون حاجة منه لسبب خارجي ، وضرب لذلك
مثلاً (مبدأ عدم التناقض) الذي يتضمن حكماً
تصديقياً بأن وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان .
فهذا المبدأ غير موجود عند الإنسان منذ
ولادته لأنه يتوقف على تصوره الذهني لمعنى
الوجود ومعنى العدم ومعنى الإجماع ، ثم يؤلف
بعد ذلك المبدأ الأول القائل باستحالة
وجودهما معاً أو رفعهما معاً [38] .وما يقوله الصدر في هذا الصدد يؤكد
ما قاله علماء الكلام أيضاً في هذه المسألة ،
فقد جاء في تفسير الفخر الرازي للآية الكريمة
: (واللّه
أخرجكم من بطون اُمهاتكم لا تعلمون شيئاً
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم
تشكرون) [39]
: «أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة
خالية عن المعارف والعلوم باللّه ، فاللّه
أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف
والعلوم ... وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي
مزيد تقرير فنقول : التصورات والتصديقات إما
أن تكون كسبية وإنما أن تكون بديهية ،
والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات
البديهيات ، فلابد من سبق هذه العلوم
البديهية ، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه
العلوم البديهية إما أن يقال أنها كانت حاصلة
منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة . والأول باطل لأنا
بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنيناً في رحم
الاُم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا
يجتمعان ، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء
، وأما القسم الثاني فإنه يقتضي أن هذه العلوم
البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت
حاصلة ، فحينئذ لا يمكن حصولها إلاّ بكسب وطلب
، وكل ما كان كسبياً فهو مسبوق بعلوم اُخرى
فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ويجب أن
تكون مسبوقة بعلوم اُخرى إلى غير نهاية . وكل
ذلك محال . وهذا سؤال قوي مشكل وجوابه أن نقول :
الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في
نفوسنا ثم إنها حدثت وحصلت، أما قوله فيلزم أن
تكون كسبية ، نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا
بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع
والبصر» [40] .ويرى مرتضى المطهري أن الفلاسفة
الإسلاميين عامة يتبنون نظرية أرسطو
ويعترفون بأن نفس الإنسان في حالة الطفولة في
وضع القوة والاستعداد المحض وهي صفحة بيضاء
لم يكتب فيها شيء ، ثم تبدأ المعرفة بالإدراك
الحسي للجزئيات ثم الإدراكات الكلية العقلية
، ويرون أن جميع التصورات البديهية العقلية
يجردها العقل وينتزعها من المعاني الحسية
[41] ـ كما سبق في حديثنا عن نظرية الانتزاع
في التصور ـ .ولابن حزم الظاهري في هذه المسألة
وجهة اُخرى ، يرى فيها أن هذه البديهيات حاضرة
في نفس الطفل ، وأنه يستخدمها في تمييزه دون
أي معرفة سابقة ، فهو يستخدم علمه بأن الجزء
أقل من الكل وأن المتضادين لا يجتمعان وأن
الجسم لا يوجد في مكانين في آن واحد دون أن
يشعر بأنه يعلم هذه القضايا أو يلاحظ أنه
يدركها بطريق العقل ، يقول ابن حزم في التدليل
على ارتكاز هذه القضايا في نفس الطفل : «فإن
الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته
تمرتين بكى ، وإذا زدته ثالثة سر ، وهذا علم
منه بأنه الكل أكثر من الجزء ، وإن كان لا
يتنبه لتحديد ما يعرف من ذلك ، ومن ذلك علمه
بأن لا يجتمع المتضادان فإنك إذا أوقفته
قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا
يكون قائماً قاعداً معاً ، ومن ذلك علمه بأن
لا يكون جسم واحد في مكانين، فإنه إذا أراد
الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى ...
علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد
أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد . ومن ذلك
علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد ،
فإنه تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد
فيه علماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما
فيه فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد
فيه» [42] ويستطرد ابن حزم في ذكر تلك
البديهيات التي يعلمها أو يدركها الصبي
الصغير ، والتي تدل على أن البديهيات فطرة
وموجودة في النفس البشري منذ أول لحظة في
وعيها .
المبحث الثاني : قيمة المعرفة
تتمثل قيمة المعرفة إجمالاً في مدىدرجة اليقين الذي تصل إليه إدراكاتنا تصوراً
كانت هذه الإدراكات أم تصديقاً ، أو بمعنى آخر
في مدى إمكان كشف المعرفة عن الحقيقة ، كما
تتمثل من ناحية اُخرى في الإيمان بإمكانية
المعرفة ، وهذا اليقين الذي يعتبر معياراً
لقيمة المعرفة أو الإيمان بها ينقسم ـ فيما
يرى الصدر ـ إلى أنواع ثلاثة :1 ـ اليقين المنطقي أو الرياضي : وهو
الذي يقصده منطق البرهان عند أرسطو ، ومعناه
العلم بقضية معينة ، والعلم بأن من المستحيل
أن لا تكون القضية بالشكل الذي علمت عليه .
فاليقين المنطقي مركب من علمين، وما لم ينضم
العلم الثاني إلى العلم الأول لا يعتبر يقينا
في منطق البرهان ، واليقين الرياضي يندرج في
اليقين المنطقي لأنه يعني تضمن إحدى القضيتين
للاُخرى [43] .2 ـ اليقين الذاتي : وهو جزم الإنسان
بقضية من القضايا بشكل لا يراوده أي شك أو
احتمال للخلاف فيها . وليس من الضروري في
اليقين الذاتي أن يستبطن أي فكرة عن استحالة
الوضع المخالف لما علم . فالإنسان قد يرى رؤيا
مزعجة في نومه فيجزم بأن وفاته قريبة .. ولكنه
في نفس الوقت لا يرى أي استحالة في أن يبقى
حياً ، لأن كونه غير محتمل لا يعني أنه مستحيل
.3 ـ اليقين الموضوعي : وهو يستلزم
الصحة في مطابقة القضية التي تعلق بها
اليقين، مع الواقع إضافة إلى الصحة في درجة
التصديق من حيث مطابقته لمبررات موضوعية تفرض
درجة التصديق تلك «ومن هنا نصل إلى فكرة
التمييز بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي
، فاليقين الذاتي: هو التصديق بأعلى درجة
ممكنة، سواء كان هناك مبررات موضوعية لهذه
الدرجة أم لا . واليقين الموضوعي: هو التصديق
بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة
متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات
الموضوعية ، أو بتعبير آخر : إن اليقين
الموضوعي هو أن تصل الدرجة التي تفرضها
المبررات الموضوعية إلى الجزم» [44] .والأمر الثاني الذي يُعنى به علم
المعرفة : هو إمكان المعرفة والعلم بوقوعها ،
وهو أمر لا يقبل الإنكار ولا الشك ، ولايتردد
في الاعتراف به أي إنسان سوي عاقل لم تؤثر
الشبهات على ذهنه وتفكيره ، وبالرغم من ذلك
فقد ظهرت في تاريخ الفلسفة مذاهب تنكر العلم
مطلقاً، ولا تعترف بإمكان المعرفة مثل :
السوفسطائيين والشكاك واللاأدريين . وقد
صنفهم بعض علمائنا على أنهم مرضى نفسيون ، وأن
اللّه ابتلاهم بالوسواس الذهني الشديد ،
وبخاصة أن قسماً منهم أنكروا الوجود ذاته
ناهيك عن المعرفة .كما أظهر تاريخ الفلسفة ـ أيضاً ـ
طائفة تدعي نسبية المعرفة بمعنى أنه لا توجد
في نظرهم قضية صحيحة بشكل مطلق ، واليقين عند
هؤلاء لا يتعدى اليقين الذاتي . وربما كان
هذان التياران هما أبرز التيارات التي ظهرت
لتشكك في إمكانية وقوع المعرفة أو تؤمن
بوقوعها; لكنها لا تؤمن بقدرة المعرفة على كشف
الحقيقة ، وذلك إضافة إلى المذهب الذي ينكر
الحقيقة إنكاراً تاماً ـ كما ذكرنا من قبل ـوقد انصب جُلّ اهتمام السيد محمد
باقر الصدر في هذه المسألة على الفلسفة
الماركسية التي يرفض أصحابها مذهب السفسطة
وفلسفة الإنكار والشك ، ويرون أن الفلسفة
قادرة على الوصول إلى اليقين الفلسفي عن طريق
إيمانها بإمكان المعرفة الجازمة الحقيقية .
لذلك يحاول الصدر الوصول مع الماركسية إلى
حقيقة موقفها ـ كممثلة للتيار المادي ـ ثم
يطرح بعد ذلك وجهة نظر الفلسفة الإسلامية ،
لكنه يرى أنه لا بد قبل ذلك من استعراض لبقية
المذاهب الفلسفية لأنه ـ على حد قوله : «لأجل
أن نعرف المشكلة ونتبين مدى إمكان حلها على
أساس الفلسفة الماركسية ووجهة نظر الفلسفة
الإسلامية فيه يجب أن نشير بصورة سريعة إلى
أهم المذاهب الفلسفية التي عالجت هذه المشكلة»
[45] .من هنا بدأ السيد محمد باقر الصدر
باستعراض تلك الفلسفات منذ العصر اليوناني
حين ظهرت السفسطة في القرن الخامس قبل
الميلاد، وظلت ردحاً من الزمن إلى أن ظهر
سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين حاربوها . ووضع
أرسطو منطقه المعروف لكشف مغالطات السفسطة. «وخلاصة
مذهبه في نظرية المعرفة أن المعلومات الحسية
والمعلومات العقلية الأولية أو الثانوية
التي تكتسب بمراعاة الاُصول المنطقية هي
حقائق ذات قيمة قاطعة» [46] .وظل مذهب اليقين مسيطراً على
الموقف الفلسفي حتى القرن السادس عشر
الميلادي ، حيث نشطت العلوم الطبيعية واكتشفت
حقائق لم تعرف من قبل ، وخاصة في الهيئة ونظام
الكون ، فبعثت تلك التطورات مذاهب الشك
والإنكار من جديد .ثم ظهر في هذا الجو منهج العقليين
على يدي ديكارت الذي بدأ فلسفته بالشك الجارف
المطلق ، ولم يستثن من شكه إلا فكره الذي يرى
أنه حقيقة واقعة ، هذا الفكر الذي يعد نقطة
الانطلاق إلى اليقين الفلسفي «أنا أفكر فأنا
إذن موجود» .ومن هذا الجانب الذاتي الذي أثبته
ديكارت في تأملاته الفلسفية ، راح يثبت
جانباً آخر هو الجانب الواقعي الموضوعي ، ثم
رتب الأفكار الإنسانية وصنّفها في ثلاثة
أنواع :1 ـ أفكار فطرية مغروزة في طبيعة
الإنسان ، وهي هذا النوع الشديد الوضوح
والجلاء من الأفكار ، ومن هذا النوع : فكرة «اللّه»
والحركة والامتداد في الطبيعة .2 ـ أفكار لا تتمتع بالوضوح السابق
، وهي الأفكار الغامضة التي تنتج في الذهن
كثمرة لتعامل الحواس مع الواقع الخارجي . وهذه
الأفكار ليست لها أصالة النوع الأول ، بمعنى
أنها ليست فكراً إنسانياً خالصاً كما هو
الحال بالنسبة للطائفة الاُولى .3 ـ أفكار مختلفة كتلك التي يصطنعها
الإنسان ويخترع صورتها اختراعاً ، وإن كان في
اختراعه إياها يستمد عناصر الصورة من وقائع
حسية موجودة بالفعل ، وذلك مثل أن يتصور «إنساناً»
له رأسان .ويصنف ديكارت فكرة «اللّه» في
مقدمة الأفكار الفطرية التي تحدّث عنها في
النوع الأول ، ويعدها «حقيقة موضوعية» تقع
خارج فكر الإنسان وتتجاوز كل أفكاره ، لأن
فكرة اللّه تعادل تماماً فكرة الموجود الكامل
المطلق الذي لا نهاية لكمالاته . فبالضرورة لا
يكون الإنسان ـ الناقص ـ هو مصدر هذه الفكرة ،
ويتعين بالضرورة أيضاً أن تكون هذه الفكرة في
ذهن الإنسان انعكاساً لموجود ـ بالفعل ـ كامل
كمالاً مطلقاً وهو اللّه ـ تعالى .ويلاحظ الإمام الصدر أن القاعدة
التي بنى عليها ديكارت فلسفته في إثبات وجوده
وفي إثبات الوجود الإلهي ، عرض لها الفيلسوف
المسلم ابن سينا من قبل بعدة قرون ، وزيفها أو
نقضها ، ورأى أنها لا تعتبر اسلوباً من
الاستدلال العلمي على وجود الإنسان المفكر
ذاته [47] .ويتابع الصدر تطور المذاهب
الفلسفية في مشكلة «اليقين» فيعرض ـ بعد ذلك ـ
للنظرية الحسية والتجربية ، ويتحدث عن جون
لوك الذي يعد الممثل الرئيسي ، أو الناطق
الرسمي باسم النظرية الحسية ، فهذا الفيلسوف
كان يرى أن الإدراك كله بل حتى المعارف
البديهية ترجع إلى الحس والتجربة ، وبالرغم
من ذلك فهو يرى أن هذا الحس ليس له قيمة فلسفية
قاطعة في نظرية المعرفة .ثم يعرض الصدر للمذهب المثالي كما
ظهر على يد أفلاطون فيما يسمّى بنظرية المثل
عنده ، وهو غير المثالية التي اتخذت مفهوماً
آخر يختلف كل الاختلاف عن المثالية القديمة ،
فبينما كانت المثالية الأفلاطونية تؤكد على
وجود الحقيقة الموضوعية للإدراكات العقلية
والحسية معاً ; سارت المثالية الحديثة في طريق
معاكس ، فعملت على زعزعة أساس الواقع
الموضوعي ، وأعلنت مذهباً جديداً في نظرية
المعرفة الإنسانية ألغت به قيمتها الفلسفية ،
وهذه المثالية الحديثة هي ما توقف عندها
السيد محمد باقر الصدر ، ورصد أهم اتجاهاتها
في المدارس الآتية :المثالية الفلسفية : ويمثلها
باركلي الذي لا يقرّ بوجود شيء ما لم يكن ذلك
الشي مُدركاً يقول : «أن يوجد هو : أن يُدرِك أو
أن يُدرَك» . والشيء المدرك هو النفس ،
والأشياء المدركة هي التصورات والمعاني
القائمة في مجال الحس والإدراك ، أما الأشياء
الموضوعية المستقلة عن حيز الإدراك فليست
موجودة .ويفنّد السيد محمد باقر الصدر تلك
المثالية بمهارة فلسفة بالغة الدقة ، يضيق عن
تفصيلها هذا البحث المحدود ، فقد أثبت ـ بعد
استعراض أدلة باركلي ـ أن باركلي نفسه مضطر
إلى الاعتراف بوجود معارف مضمونه الصدق في
التفكير البشري ، ولو لا ذلك لما استطاع أن
يستدل على مزاعمه .المثالية الفيزيائية : وهي التي
تحاول الاستغناء عن إضافة أي حقيقة جوهرية
للمادة، إذ العالم مرده إلى حركة خالصة كما
قال كارل بيرسون: «المادة هي اللامادي الذي هو
في حركة» وهذا الاتجاه المثالي الفيزيائي كما
يقول السيد محمد باقر الصدر «استهوى كثيراً
من الفيزيائيين فقالوا : مادام العلم يقدّم في
كل يوم براهين جديدة ضد القيمة الموضوعية
للمعرفة ، وضد الصفة المادية للعالم ، فليست
الذرات أو البنيات الأساسية للمادة ، بعد أن
تبخرت على ضوء العلم إلاّ طرقاً مناسبة
للتعبير عن الفكر ، واستعارات وإشارات لا
تتضمن من الحقيقة الواقعية شيئاً» [48] ،
ويحكم الصدر على هذه الفكرة بأنها خاطئة وأن
خطأها كان نتيجة لخطأ في التفكير الفلسفي،
وليس ناتجاً عن برهان فيزيائي في المجال
العلمي يقول: «وهكذا انبثقت النزعة المثالية
أو اللاأدرية لا باعتبار برهنة العلم على
صحتها وصوابها; بل باعتبار تزعزع عقيدة
العلماء بالعلم وزوال إيمانهم بمسلماته
القاطعة» [49] .المثالية الفسيولوجية : وهي اتجاه
ينطلق من أن الشكل الذاتي للإحساس البشري
ناتج ومتوقف على تركيب الحواس والجهاز العضوي
بصورة عامة للإنسان، بمعنى أن الأشياء في
العالم الخارجي ليست هي التي تعطينا الإحساس
بالشيء ، إنما الذي يحددها هو جهازنا العصبي ،
والأشياء الخارجية دورها يكون في أنها سبب
أولي في إثارة العمليات الحسية في أعضائنا ،
والجهاز العصبي هو الذي يبلور عملية الإحساس
في الكيفية التي يعبر بها عن نفسه .ويُخطّئ السيد محمد باقر الصدر هذا
الاتجاه لأنه يفتح مجالاً للتشكيك في مدى
مطابقة الإحساس للواقع الموضوعي .أنصار الشك الحديث : وهذا المذهب
يعود في الأصل إلى مذهب الشك القديم الذي كان
يعلن عن (لا أدرية) مطلقة ، أي أن الإنسان لا
يستطيع أن يعطي حكماً على الأشياء .وكما قدمت اللاأدرية القديمة
نفسها كحل وسط للصراع بين المذاهب
السوفسطائية والفلسفة التحقيقية ، زعمت
مدرسة الشك الحديث أنها تقوم بنفس الدور كحل
للصراع بين المثالية الحديثة التي زعمت بأن
الواقع ليس أمراً مستقلاً عن شعور الإنسان
وإدراكه ، وبين الواقعية التي تؤكد على أن
الواقع حقيقة موضوعية خارجية ومستقلة في
ذاتها عن الإنسان بكل مشاعره وإدراكاته ، وقد
عبر الصدر عن موقع مدرسة الشك الحديث بين
المدرستين : المثالية والواقعية بقوله : «المثالية
تزعم أن الواقع قائم في الشعور والإدراك ،
والواقعية تؤكد على أنه موجود بصورة موضوعية
مستقلة ، والشكية ترفض أن تجيب على المسألة ;
لأن الرد عليها مستحيل فلترجأ المسألة إلى
الأبد» [50] وحقيقة الأمر أن هذا الشك لا
يتخذ الشك العلمي ، بل ـ هو كما يرى الصدر ـ
خطأ فلسفي أو أزمة نفسية .ولكن وجدت طائفة تؤمن بقيمة
المعرفة وموضوعيتها ، ولكن نتيجة نظرياتهم
العلمية أدت بهم إلى الشك في المعرفة الذي
أطلق عليه اسم الشك العلمي . وقد ركز السيد
محمد باقر الصدر على أهم تلك الاتجاهات في هذا
المذهب وهي :أ ـ السلوكية : التي اتخذت من سلوك
الكائن الحي وحركاته الجسمية ـ التي يمكن
إخضاعها للحس العلمي والتجربة ـ موضوعاً لعلم
النفس دون الاعتراف بما وراء ذلك من عقل وشعور
، وهذا الاتجاه بالتالي يؤدي حتماً إلى موقف
سلبي تجاه قيمة المعرفة وإلى عدم الاعتراف
بقيمتها الموضوعية .ب ـ مذهب التحليل النفسي عند فرويد
، ويعتمد السلوك في نظريته على العناصر
الشعورية وهي مجموعة الأفكار والعواطف
والرغبات التي نحس بها في نفوسنا ، وعلى
اللاشعور في العقل وهي شهواتنا وغرائزنا
المختزنة .ج ـ المادية التاريخية المعبرة عن
نظرة الماركسية إلى التاريخ والمجتمع
والاقتصاد وربطها للمعرفة الإنسانية عموماً
بالوضع الاقتصادي ورؤيتها لفكر الإنسان ، على
أنه انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية وما ينشأ
عنها من علاقات [51] .ويلخّص الصدر فلسفة الماركسيين في
المعرفة في عناصر ثلاثة :1 ـ أن الحقيقة عندهم في نمو وتطور
يعكس نمو الواقع وتطوره .2 ـ أن الحقيقة والخطأ يمكن أن
يجتمعا فتكون الفكرة الواحدة خطأ وحقيقة.3 ـ أن أي حكم مهما بدت الحقيقة فيه
واضحة فهو يحتوي على تناقض خاص وبالتالي على
جانب من الخطأ ، وهذا التناقض هو الذي يجعل
المعرفة والحقيقة تنمو وتتكامل [52] .نستخلص من هذه العناصر الثلاثة أن
الماركسية تعني بالحقيقة مفهوماً آخر غير
المفهوم الوحيد للحقيقة في الفلسفة الواقعية
الذي يعني (مطابقة الفكرة للواقع) فالماركسية
تتحدث عن تلك الحقيقة كلفظ يخلو من معناه
الحقيقي ، لذلك فهي لا يمكن أن تبرأ من نزعات
الشك والسفسطة ، كما يقول الصدر ، لمجرد اتخاذ
لفظ الحقيقة وبلورته في مفهوم جديد .ويرد الصدر على الماركسية بإثبات
الحقيقة بصورتها المقبولة بما يعني
موضوعيتها وثباتها، وأنها لا يمكن أن تتطور
وتنمو أو تكون محدودة في كل مرحلة من مراحل
تطورها بحدود تلك المرحلة الخاصة . والفكرة
لابد أن تكون إما حقيقة مطلقة مطابقة للواقع ،
وإما غير مطابقة فتكون خطأ ، يقول : «وأنا أعلم
أن هذه الكلمات تثير اشمئزاز الماركسية ،
وتجعلهم يقذفون الفكر الميتافيزيقي بما
تعودوا إلصاقه به من تُهم فيقولون : إن الفكر
الميتافيزيقي يجمد الطبيعة ويعتبرها حالة
ثبات وسكون ، لأنه يعتقد بالحقائق المطلقة
ويأبى عن قبول التطور والحركة فيها ، وقد
انهار مبدأ الحقائق المطلقة تماماً باستكشاف
تطور الطبيعة وحركتها» [53] .ثم يفنّد السيد محمد باقر الصدر
فلسفة الماركسيين هذه ، وانعكاساتها الخاطئة
على الحقائق الميتافيزيقية ، مبيناً أن في
الميتافيزيقا «الإيمان بالحقائق المطلقة
ورفض التغير والحركة فيها لا يعني مطلقاً
تجميد الطبيعة ، ولا ينفي تطور الواقع
الموضوعي وتغيره . ونحن في مفاهيمنا الفلسفية
نعتقد بأن التطور قانون عام في عالم الطبيعة .
وأن كينونته الخارجية في صيرورة مستمرة ،
ونرفض في نفس الوقت كل توقيت للحقيقة وكل تغير
فيها» [54] ويضرب الصدر لذلك مثالاً ، بأن
يفترض أن الحرارة اشتدت في ماء خاص ، وأنها في
ارتفاعها تكون في حركة مستمرة وتطور تدريجي .
وهذا يعني أن كل درجة من الحرارة يبلغها الماء
فهي درجة مؤقتة . وليس للماء في هذه الحالة
درجة حرارة مطلقة . بمعنى أننا إذا قسنا
الحرارة في لحظة معينة ووجدناها (90 درجة) ; فقد
حصلنا على حقيقة عن طريق التجربة وهي أن درجة
الماء في هذه اللحظة هي (90) ونقول عنها حقيقة
لأنها فكرة مطابقة للواقع وإن كانت درجة
مؤقتة وخاصة بلحظة معينة من الزمان ، وهذا
يعني أننا نؤمن بالتطور والتغير، وفي الوقت
ذاته نؤمن بأن الحقيقة ثابتة ومطلقة ، ولا
تتغير بتغير وتطور الطبيعة . فحين حكمنا على
درجة حرارة الماء بأنها (90) في لحظتها وزمنها
التي كانت فيه حين اختبرناها ووجدناها قد
طابقت الواقع ; فهي على ذلك حقيقة مطلقة في
لحظتها وزمنها وظرفها المعين ، ولا نستطيع أن
نحكم عليها بخلاف ذلك في تلك اللحظة وذلك
الزمن.لذلك فهدف الماركسية في إخضاعها
الحقيقة لقانون الحركة والتطور; لم يكن إلاّ
محاولة منها للقضاء على الحقائق المطلقة التي
تؤمن بها الفلسفة الميتافيزيقية ; يقول الصدر
: «وقد فاتها أنها تقضي على مذهبها بالحماس
لهذا القانون ، لأن الحركة إذا كانت قانوناً
عاماً للحقائق فسوف يتعذر إثبات أية حقيقة
مطلقة وبالتالي يسقط قانون الحركة بالذات عن
كونه حقيقة مطلقة» [55] .النسبيون : وهم الذين يعترفون
بوجود حقيقة ويؤمنون بإمكان المعرفة البشرية
لها ، ولكن هذه المعرفة أو الحقيقة التي يمكن
للفكر الإنساني أن يحصل عليها هي معرفة أو
حقيقة نسبية «بمعنى أنها ليست حقيقة خالصة من
الشوائب الذاتية ومطلقة ، بل هي مزيج من
الناحية الموضوعية للشيء ، والناحية الذاتية
للفكر المدرك ، فلا يمكن أن تفصل الحقيقة
الموضوعية في التفكير عن الناحية الذاتية»
[56] .ويرى الصدر أن أنصار هذا المذهب
ينقسمون إلى اتجاهين رئيسيين، ويختلفان في
معنى النسبية وحدودها في العلوم البشرية ،
هذان الاتجاهان هما : نسبية كانت والنسبية
الذاتية .
[1] نقلاً عن د . جميل صليبا ـ المعجم
الفلسفي ـ دار الكتاب اللبناني ـ بيروت طـ 2 ـ
1982 ، 2 : 392 .[2] التمهيد ، تحقيق محمد يوسف موسى
ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ 1950م ، ص 12 .[3] البرهان في اُصول الفقه ، تحقيق
د . عبد العظيم الديب ـ طـ قطر 1399 هـ ، 1 : 120.[4] ابن منظور ـ دار صادر ـ بيروت ـ (مادة
عرف) ، 9 : 236 .[5] المعجم الفلسفي 2 : 392 ـ 393 .[6] المرجع نفسه 2 : 393 .[7] المرجع نفسه 2 : 478 .[8] ينبغي أن نلفت النظر إلى أن هذا
التقسيم قاصر، لأن الوجود الخارجي ليس
محصوراً في الوجود المادي، أو كون الأشياء في
الأعيان ، بل يشمل الموجودات المفارقة في
المقام الأول ، مثل : اللّه، ومثل العقل
والنفس، بل الوجود الإلهي هو أول واُولى في
مرتبة الوجود الخارجي من وجود الأشياء
المادية، فالوجود الخارجي يجب أن يعرّف بأنه
الخارج عن الذهن، والخارج عن الذهن لا ينحصر
بالضرورة في الموجودات المادية بل يشملها
ويشمل الوجودات المفارقة أيضاً.[9] د . جميل صليبا ـ المعجم الفلسفي 2
: 559 .[10] د . محمود زقزوق ـ دراسات في
الفلسفة الحديثة ـ دار الطباعة المحمدية ـ طـ
ـ القاهرة 1988م ص 185 .[11] انظر: المدخل إلى الفلسفة ـ
ترجمة د . أبو العلاء عفيقي ـ لجنة التأليف
والترجمة والنشر ـ القاهرة 1942م ص 37 .[12] د . محمود زقزوق ـ تمهيد للفلسفة
ـ مكتبة الانجلو المصرية ـ طـ 2 ـ 1979م ، ص 116 .[13] د . محمود زقزوق ـ تمهيد للفلسفة
، ص 115 .[14] انظر : المرجع نفسه ـ نفس المصدر
.[15] فلسفتنا ـ دار التعارف
للمطبوعات ، ص 12 بيروت 1982م ، ص 57 .[16] المصدر نفسه ص 52 .[17] المرسل الرسول الرسالة ـ الدار
العالمية ـ بيروت 1986م ، ص 4 .[18] المصدر نفسه : 22 .[19] فلسفتنا ، المصدر السابق : 58 .[20] المصدر نفسه .[21] المصدر نفسه .[22] الشيخ جعفر سبحاني ، محاضرات في
نظرية المعرفة ، بقلم الشيخ حسن العاملي ،
الدار الإسلامية ، بيروت ، طـ 1 ، 1990م ، ص 135 .[23] راجع تفصيل هذا النقد في
فلسفتنا : 60 .[24] فلسفتنا : 65 .[25] المصدر نفسه : 66 ـ 67 .[26] محمد حسين الطباطبائي، اُسس
الفلسفة، دار التعارف للمطبوعات، طـ2، بيروت
1988م ص18.[27] فلسفتنا : 70 .[28] المصدر نفسه .[29] فلسفتنا : 72 ـ 73 .[30] محمد تقي مصباح اليزدي ، المنهج
الجديد في تعليم الفلسفة ، ترجمة محمد عبد
المنعم الخاقاني ، مؤسسة النشر الإسلامي ،
ايران 1407 هـ 1 : 171 ـ 179 .[31] محمد باقر الصدر، الاُسس
المنطقية للاستقراءـ دار التعارف للمطبوعات
طـ 5 بيروت 1986م : 463 .[32] فلسفتنا : 84 .[33] المصدر نفسه : 78 .[34] المصدر نفسه : 89 .[35] المصدر نفسه : 85 .[36] محمد باقر الصدر، الاُسس
المنطقية للاستقراء : 38 .[37] فلسفتنا : 93 .[38] فلسفتنا : 87 ـ 88 .[39] النحل : 78 .[40] التفسير الكبير ، دار الكتب
العلمية ، طـ بيروت 1990م 2 : 72 .[41] تعليق المطهري على كتاب اُسس
الفلسفة للطباطبائي ، المرجع السابق ص 18 وما
بعدها.[42] الفصل في الملل والنحل ، مطبعة
محمد صبيح ، القاهرة 1 : 5 ـ 6، هذا وقد فند
الإمام الصدر نظرية المعرفة أيضاً في الفلسفة
الوضعية المنطقية وكشف عن زيفها في محاولاتها
استبعاد القضايا الميتافيزيقية مثلما فعل مع
الفلسفة الماركسية ، انظر فلسفتنا : 96 ـ 102 .[43] الاُسس المنطقية للاستقراء : 322 .[44] الاُسس المنطقية للاستقراء : 325 .[45] فلسفتنا : 109 .[46] فلسفتنا : 110 .[47] راجع نقد ابن سينا لهذا المبدأ
في فلسفتنا : 114 ـ 115 .[48] فلسفتنا : 133 .[49] المصدر نفسه : 139 .[50] فلسفتنا : 142 .[51] فلسفتنا : 155 وما بعدها .[52] فلسفتنا : 187 .[53] فلسفتنا : 192 .[54] المصدر نفسه .[55] فلسفتنا : 194 .[56] فلسفتنا : 143 .