إمام الحسین (علیه السلام) و مصلحة الإسلام العلیا نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إمام الحسین (علیه السلام) و مصلحة الإسلام العلیا - نسخه متنی

فؤاد کاظم المقدادی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراســات

* الشيخ فؤاد كاظم المقدادي

الامام الحسين(عليه السلام)

ومصلحة الاسلام العليا

إن للحسين(عليه السلام) موقعاً
رسالياً تميّز به عن سائر أئمة اهل البيت(عليهم
السلام) ، وجعل منه رمزاً خالداً لكل مظلوم
يصحر بظلامته عبر التاريخ ، وصرخة حق تدوّي في
وجه الظالمين إلى يوم الدين . وليس جزافاً قول
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في حقه(عليه
السلام) إن له درجة لا ينالها أحد من
المخلوقين ، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام)
قال : « كان النبي(صلى الله عليه وآله) في بيت
أم سلمة فقال لها : لا يدخل عليَّ أحد ، فجاء
الحسين(عليه السلام) وهو طفل ، فما ملكت معه
شيئاً حتى دخل على النبي ، فدخلت أم سلمة على
إثره فإذا الحسين على صدره ، وإذا النبي يبكي
، وإذا في يده شيء يقلّبه . فقال النبي : يا أُم
سلمة ، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول ،
وهذه التربة التي يقتل عليها فضعيه عندك ،
فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي ، فقالت أم سلمة
: يا رسول اللّه ، سل اللّه أن يدفع ذلك عنه ؟
قال : قد فعلت فأوحى اللّه عزوجل إليّ أن له
درجة لا ينالها أحد من المخلوقين ، وأن له
شيعة يشفعون فيشفَّعون ، وأن المهدي من ولده ،
فطوبى لمن كان من أولياء الحسين وشيعته ، هم
واللّه الفائزون يوم القيامة »([1])
.

وهو الذي نزل الوحي بتسميته حسيناً ،
فقد روي أنه عندما زُفت البشرى لرسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) بولادة الامام الحسين(عليه
السلام) ، في اليوم الثالث من شهر شعبان
المبارك في السنة الرابعة من الهجرة ، أسرع(صلى
الله عليه وآله) إلى دار الزهراء(عليها السلام)
فقال لاسماء بنت عمير : « يا أسماء ، هاتي ابني
، فحملته إليه ، وقد لُفّ في خرقة بيضاء ،
فاستبشر(صلى الله عليه وآله) وضمَّه إليه
وأذَّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثم
وضعه في حِجرهِ وبكى ، فقالت أسماء : فداك أبي
وأُمي ، ممَّ بكاؤك ؟ قال(صلى الله عليه وآله):
من ابني هذا . قالت : إنه ولد الساعة . قال(صلى
الله عليه وآله) : يا أسماء ، تقتله الفئة
الباغية من بعدي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي . ثم
قال : يا أسماء ، لا تخبري فاطمة فإنها حديثة
عهد بولادته » .

ثم قال(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه
السلام) : « أي شيء سميت ابني ؟ فأجابه علي(عليه
السلام) : ماكنت لاسبقك باسمه يا رسول اللّه .
فنزل جبرئيل(عليه السلام) على رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله)حاملاً اسم الوليد المبارك ،
قال لعلي(عليه السلام) : سمه حسيناً »([2])
.

وتتوالى بيانات رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) في وصف مقام الامام الحسين(عليه
السلام) ، وموقعه الرفيع من الرسالة والرسول ،
منها :

عن يعلى بن مرة ، قال : « قال رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) : حسين مني وأنا من حسين ، احب
اللّه من احب حسيناً ، حسينٌ سبط من الاسباط »([3]) .

وعن سلمان الفارسي ، قال : « سمعت رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) يقول : الحسن
والحسين ابناي ، من أحبّهما أحبّني ، ومن
أحبّني أحبّه اللّه ، ومن أحبّه اللّه أدخله
الجنة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني
أبغضه اللّه ، ومن أبغضه اللّه أدخله النار
على وجهه »([4])
.

وعن البراء بن عازب ، قال : « رأيت رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) حاملاً الحسين بن
علي على عاتقه وهو يقول : اللّهم إني أحبه
فأحبه »([5])
.

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال : « كان
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إذا دخل
الحسين(عليه السلام)اجتذبه إليه ، ثم يقول
لامير المؤمنين(عليه السلام) : أمسكه ، ثم يقع
عليه فيقبّله ويبكي ، فيقول : يا أبه ، لم تبكي
؟ فيقول : يا بنيَّ ، اُقّبل موضع السيوف منك
وأبكي . قال : يا أبه ، وأُقتل ؟ قال : إي واللّه
، وأبوك وأخوك وأنت . قال : يا أبه ، فمصارعنا
شتى ؟ قال : نعم ، يا بني . قال : فمن يزورنا من
أُمتك ؟ قال : لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت
إلاّ الصديقون من أُمتي »([6])
.

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال : «
كان الحسين مع أُمه تحمله ، فأخذه النبي(صلى
الله عليه وآله)وقال : لعن اللّه قاتلك ، ولعن
اللّه سالبك ، وأهلك اللّه المتوازرين عليك ،
وحكم اللّه بيني وبين من أعان عليك . قالت
فاطمة الزهراء : يا أبت ، أي شيء تقول ؟ قال : يا
بنتاه ، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الاذى
والظلم والغدر والبغي ، وهو يومئذ في عصبة
كأنهم نجوم السماء ، يتهادون إلى القتل ،
وكأني أنظر إلى معسكرهم ، وإلى موضع رحالهم
وتربتهم . قالت : يا أبه ، وأين هذا الموضع الذي
تصف ؟ قال : موضع يقال له كربلا ، وهي دار كرب
وبلاء علينا وعلى الاُمة ، يخرج عليهم شرار
أُمتي ، لو أن أحدهم شُفع له في السموات
والارضين ما شفّعوا فيه ، وهم المخلدون في
النار . قالت : يا أبه ، فيقتل ؟ قال : نعم يا
بنتاه ، وما قُتل قتلته أحد كان قبله ، ويبكيه
السموات والارضون ، والملائكة، والوحش ،
والنباتات ، والبحار ، والجبال ، ولو يؤذن لها
ما بقي على الارض متنفس ، ويأتيه قوم من
محبينا ليس في الارض أعلم باللّه ، ولا أقوم
بحقنا منهم ، وليس على ظهر الارض أحد يلتفت
إليه غيرهم ، اولئك مصابيح في ظلمات الجور ،
وهم الشفعاء ، وهم واردون حوضي غداً ، أعرفهم
إذا وردوا عليَّ بسيماهم ، وكل أهل دين يطلبون
أئمتهم ، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا ، وهم
قوَّام الارض ، وبهم ينزل الغيث . فقالت
الزهراء(عليها السلام) : يا أبه ، إنا للّه ،
وبكت ، فقال لها : يا بنتاه ، إن أفضل أهل
الجنان هم الشهداء في الدنيا ، بذلوا انفسهم
واموالهم بأن لهم الجنّة ، يقاتلون في سبيل
اللّه فيقتُلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً ،
فما عند اللّه خير من الدنيا وما فيها ، قتلة
أهون من ميتة ، ومن كتب عليه القتل ، خرج إلى
مضجعه ، ومن لم يقتل فسوف يموت . يا فاطمة بنت
محمد ، أما تحبين أن تأمرين غداً بأمر فتطاعين
في هذا الخلق عند الحساب ؟ أما ترضين أن يكون
ابنك من حملة العرش ؟ أما ترضين أن يكون أبوك
يأتونه يسألونه الشفاعة ؟ أما ترضين أن يكون
بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه
أولياءه ويذود عنه أعداءه ؟ أما ترضين أن يكون
بعلك قسيم النار ؟ يأمر النار فتطيعه ، يخرج
منها من يشاء ويترك من يشاء . أما ترضين أن
تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون
إليك وإلى ما تأمرين به ، وينظرون إلى بعلك قد
حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند اللّه ؟ فما ترين
اللّه صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك
إذا أفلجت حجته على الخلائق ، وأُمرت النار أن
تطيعه ؟ . أما ترضين أن يكون الملائكة تبكي
لابنك ، وتأسف عليه كل شيء ؟ أما ترضين أن يكون
من أتاه زائراً في ضمان اللّه ، ويكون من أتاه
بمنزلة من حج إلى بيت اللّه واعتمر ، ولم يخل
من الرحمة طرفة عين ، وإذا مات مات شهيداً ،
وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي ، ولم
يزل في حفظ اللّه وأمنه حتى يفارق الدنيا ؟
قالت : يا أبه ، سلّمت ، ورضيت ، وتوكلت على
اللّه ، فمسح على قلبها ومسح عينيها ، وقال :
إني وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقرُّ عيناك ،
ويفرح قلبك »([7])
.

وعن ابن عباس قال : « لما اشتد برسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) مرضه الذي مات فيه ،
ضم الحسين(عليه السلام) إلى صدره يسيل من عرقه
عليه ، وهو يجود بنفسه ، ويقول : مالي وليزيد
لا بارك اللّه فيه ؟ اللّهم العن يزيد . ثم
غُشي عليه طويلاً ، وأفاق وجعل يقبل الحسين
وعيناه تذرفان ، ويقول : أما إنَّ لي ولقاتلك
مقاماً بين يدي اللّه عزوجل »([8])
.

ومن هنا ندرك كيف أن رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) كان يهيىء ولده الحسين(عليه
السلام)لدور رسالي فريد ، ويوحي به ويؤكده ،
ليحفظ له رسالته من الانحراف والضياع ; لذا
نجد أن سيرة سيد الشهداء الامام الحسين(عليه
السلام) ، هي من أبرز مصاديق وحدة الهدف في
تحقيق وحفظ مصلحة الاسلام العليا ، التي
اتسمت بها ادوار ائمة اهل البيت(عليهم السلام)
، على رغم تنوّعها في الطريقة وتباينها
الظاهري في المواقف ، وقد تمثل في سيرة الامام
الحسين(عليه السلام)مبدأ حفظ مصلحة الاسلام
العليا في اربعة مواقف كبرى ، شملت عهد إمامة
أبيه(عليه السلام)وعهد إمامة أخيه الحسن(عليه
السلام) وعهد إمامته(عليه السلام) .

1 ـ في عهد إمامة أبيه امير المؤمنين(عليه
السلام) :

وقد جسّد الامام الحسين(عليه السلام)
فيه الطاعة التامّة والامتثال الكامل لاوامر
امامه امير المؤمنين(عليه السلام) ، في الموقف
من الخلافة بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)
، وخصوصاً ايام الفتنة الطخياء على عهد عثمان
بن عفان ، التي انتهت بقتله ، وكذلك في
خوضه حروب الدفاع عن دولة الاسلام وخلافة
امير المؤمنين(عليه السلام) ، التي كان
ابرزها حرب الناكثين المعروفة بحرب الجمل،
وحرب القاسطين المعروفة بحرب صفين ، وحرب
المارقين المعروفة بحرب النهروان . وقد اشرنا
إلى ذلك سابقاً عند بياننا لمواقف امير
المؤمنين(عليه السلام) والامام الحسن(عليه
السلام) في حفظ مصلحة الاسلام العليا .

2 - في عهد إمامة أخيه الحسن بن علي(عليه
السلام) :

كان الامام الحسين(عليه السلام) ظهير
أخيه الامام الحسن(عليه السلام) الامين
وساعده الايمن في مواجهة الباغية معاوية بن
أبي سفيان ، ثم كان شريكه في دفع الفتنة
الكبرى التي وقع فيها اصحابه واتباعه بسبب
الصلح ، الذي أملته الضرورة فأوقعه مع معاوية
حقناً لدماء اهل البيت(عليهم السلام) ، ودماء
اصحابهم واتباعهم التي مثّلت في حينها سناء
مصلحة الاسلام في بقاء من يصدع بحق الثقلين ،
ويذبّ عن اهل بيت النبوة والعصمة ، ويدفع عن
الاسلام غائلة التحريف والتزوير . وقد أشرنا
أيضاً إلى ذلك فيما سلف من ذكر المواقف الكبرى
للامام الحسن(عليه السلام) لحفظ مصلحة
الاسلام العليا .

3 ـ في عهد إمامته(عليه السلام) :

وفي هذا العهد ضرب الامام الحسين(عليه
السلام) المثل الاعلى في تجسيد روح الثبات
والقدم الراسخة على مبادئ الاسلام ومصلحته
العليا ، حيث كان له سلام اللّه عليه موقفان
متواليان ، قد يلحظان متخالفين ظاهرياً ، من
الحكم الاموي منذ اليوم الاول لصيرورة
الامامة إليه بعد استشهاد أخيه الامام الحسن(عليه
السلام) ; الاول من معاوية بن أبي سفيان
، والثاني من يزيد بن معاوية :

أ ـ موقفه من معاوية بن أبي سفيان :

وله في موقفه هذا من معاوية صورتان
تكامليتان ، كلاهما تحكيان مبدأيته العصماء
في لحاظ مصلحة الاسلام العليا :

الصورة الاولى : التزامه(عليه السلام)
بعهد أخيه الامام الحسن(عليه السلام) ، ووفاؤه
ببنود صلح أخيه المبرم مع معاوية بن أبي سفيان
; لاعتقاده بأنّ المصلحة الاسلامية لا زالت في
ذلك ، ولان مبادئ الاسلام واحكامه تأبى عليه
نقض العهود والتحلل من الوفاء بالعقود إلاّ
إذا أُخلّ بشروطه أو انتهت مدته ، لقول اللّه
تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)([9])
وقوله أيضاً : (وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان
مسؤولاً)([10])
. فممّا رواه الكلبي والمدائني وغيرهما من
اصحاب السير قالوا : « لمّا مات الحسن بن علي(عليهما
السلام) تحركت الشيعة بالعراق ، وكتبوا إلى
الحسين(عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له
، فامتنع عليهم ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية
عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة
، فإن مات معاوية نظر في ذلك »([11])
.

الصورة الثانية : وفيها سلك الامام
الحسين(عليه السلام) مسلكاً تكاملياً في
مقابل التزامه بما تمليه عليه الحكمة الالهية
والمصلحة الاسلامية للصلح الذي عقده الامام
الحسن(عليه السلام) مع معاوية والتي من ابرزها
كشف حقيقة هذا الاخير وحقيقة حكومة بني أمية
للمسلمين ، فانطلق الامام(عليه السلام) من نفس
هذه الحكمة الالهية والمصلحة الاسلامية وعمل
جهده لكشف هذه الحقيقة .

وهنا يتبين لنا السر في عدم التخالف
بين موقفه في الصورة الاولى وموقفه في هذه
الصورة الثانية ، فهما صورتان لموقف تكاملي
هادف يحفظ في الاولى حدود الصلح المعلنة
ويسعى في الثانية لتكميل تحقيق الاهداف
المنشودة لهذا الصلح وذلك عن طريق إظهار الحق
وإعلانه في وجه معاوية بن أبي سفيان ،
والتصديّ له بالحجّة البالغة ، وتعرية
انحرافه عن كتاب اللّه وسنة نبيه(صلى الله
عليه وآله) ، ودرء البدع التي احدثها في الدين
، واستنكار الظلم والجور الذي أوقعه على صفوة
الاصحاب والتابعين من شيعة اهل البيت(عليهم
السلام) ، وسفك دمائهم الطاهرة خلافاً لبنود
الصلح المبرم مع الامام الحسن(عليه السلام) .
وممّا روي في ذلك :

1 ـ تصديه(عليه السلام) لامر معاوية
وولاته وعمّاله بلعن امير المؤمنين(عليه
السلام) على المنابر واضطهاد شيعته ، وقتل من
يروي شيئاً من فضائله ، فعن سليم بن قيس قال : «
نادى منادي معاوية أن قد برئت الذمّة ممّن
يروي حديثاً من مناقب علي وفضل اهل بيته ،
وكان أشدّ الناس بليّة اهل الكوفة ، لكثرة من
بها من الشيعة ، فاستعمل زياد بن أبيه ، وضمّ
إليه العراقين الكوفة والبصرة ، فجعل يتتبع
الشيعة وهو بهم عارف . يقتلهم تحت كل حجر ومدر
، واخافهم، وقطع الايدي والارجل ، وصلبهم في
جذوع النخل ، وسمل اعينهم وطردهم وشردهم ، حتى
نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور ;
فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو
شريد . وكتب معاوية إلى جميع عمّاله في جميع
الامصار أن لا تجيزوا لاحد من شيعة عليّ واهل
بيته شهادة ، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان
ومحبيه ومحبي اهل بيته واهل ولايته ، والذين
يروون فضله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم
وأكرموهم ، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم
أبيه وقبيلته ، ففعلوا حتى كثرت الرواية في
عثمان ، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من
الصِّلات والخلع والقطائع من العرب والموالي
، وكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في
الاموال والدنيا ، فليس أحد يجيء من مصر من
الامصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلاّ
كتب اسمه وأُجيز ، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه
.

ثم كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان
قد كثر وفشا في كل مصر ، فادعوا الناس إلى
الرواية في معاوية وفضله وسوابقه ، فإن ذلك
أحبّ إلينا وأقرّ لاعيننا ، وأدحض لحجّة اهل
البيت وأشدّ عليهم ، فقرأ كلّ امير وقاض كتابه
على الناس . فأخذ الرواة في فضائل معاوية على
المنبر في كل كورة وكل مسجد زوراً ، وألقوا
ذلك إلى معلمي الكتاتيب ، فعلّموا ذلك
صبيانهم كما يعلمونهم القرآن ، حتى علّموه
بناتهم ونساءهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء
اللّه .

وكتب زياد بن أبيه إليه في حقّ
الحضرميين أنهم على دين علي وعلى رأيه ، فكتب
إليه معاوية أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ
ورأيه ، فقتلهم ومثّل بهم .

وكتب كتاباً آخر : « انظروا من قبلكم من
شيعة علي واتهمتموه بحبه فاقتلوه ، وإن لم تقم
عليه البينة ، فاقتلوه على التهمة والظنة
والشبهة تحت كل حجر » حتى إن الرجل لتسقط منه
كلمة فتضرب عنقه ، في حين كان الرجل يرمى
بالزندقة والكفر فلا يتعرّض له بمكروه بل
يكرّم ويعظم ، وكان الرجل من الشيعة لا يأمن
على نفسه في بلد من البلدان ، لا سيما الكوفة
والبصرة ، حتى لو أن احداً منهم أراد أن يلقي
سرّاً إلى من يثق به خاف خادمه ومملوكه ، فلا
يحدثه إلاّ بعد أن يأخذ عليه الايمان المغلظة
أن يكتم عليه ، حتى كثرت أحاديثهم الكاذبة ،
ونشأ عليها الصبيان .

وكان اشدّ الناس في ذلك القرّاء
المراؤون المتصنّعون ، الذين يظهرون الخشوع
والورع ، فكذبوا وانتحلوا الاحاديث وولّدوها
، فحظوا بذلك عند الولاة والقضاة وادنوا
مجالسهم ، وأصابوا الاموال والقطائع
والمنازل ، حتى صارت احاديثهم ورواياتهم
عندهم حقّاً وصدقاً ، فرووها وقبلوها
وتعلموها وعلّموها ، وأحبّوا عليها وابغضوا
من ردها أو شكّ فيها ، فاجتمعت على ذلك
جماعتهم ، وصارت في يد المتنسّكين والمتدينين
منهم ، فقبلوها وهم يرون أنها حق ، ولو
علموا بطلانها وتيقّنوا أنها مفتعلة لاعرضوا
عن روايتها ولم يدينوا بها ، ولم يبغضوا من
خالفها ، فصار الحقّ في ذلك الزمان عندهم
باطلاً ، والباطل عندهم حقّاً ، والكذب صدقاً
، والصدق كذباً .

فلمّا مات الحسن بن علي(عليه السلام)
ازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق للّه ولي إلاّ
هو خائف على نفسه ، أو مقتول أو طريد أو شريد ،
فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين ، حجّ الحسين
بن علي(عليه السلام) وعبد اللّه بن جعفر وعبد
اللّه بن عباس معه . وقد جمع الحسين بن علي(عليه
السلام) بني هاشم ; رجالهم ونساءهم ومواليهم
وشيعتهم ، مَنْ حج منهم ومَنْ لم يحج ، ومن
الانصار ممّن يعرفونه واهل بيته ، ثم لم يدع
احداً من اصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)
ومن أبنائهم والتابعين ، ومن الانصار
المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ جمعهم ،
فاجتمع عليه بمنى اكثر من ألف رجل عامتهم
التابعون وأبناء الصحابة ، والحسين(عليه
السلام) في سرادقه ، فقام(عليه السلام) فيهم
خطيباً ، فحمد اللّه واثنى عليه ، ثم قال : «
أما بعد ، فإن ّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا
ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم ، وإنّي
أريد أن أسألكم عن اشياء ، فإن صدقت فصدقوني ،
وإن كذبت فكذبوني . اسمعوا مقالتي واكتموا
قولي ، ثم ارجعوا إلى امصاركم وقبائلكم من
امنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون ،
فإني اخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب ، واللّه
متمّ نوره ولو كره الكافرون » .

فما ترك الحسين(عليه السلام) شيئاً
انزل اللّه فيهم (اهل البيت(عليهم السلام)) من
القرآن إلاّ قاله وفسّره ، ولا شيئاً قاله
الرسول في أبيه وأمّه واهل بيته إلاّ رواه وفي
كل ذلك يقول الصحابة : « اللّهم نعم ، قد
سمعناه وشهدناه » ويقول التابعون : « اللّهم
قد حدثنا من نصدقه ونأتمنه » ، حتى لم يترك
شيئاً إلاّ قاله ، ثم قال : « أنشدكم
باللّه إلاّ رجعتم وحدّثتم به من تثقون به »
ثم نزل وتفرق الناس على ذلك([12])
.

2 ـ استنكاره(عليه السلام) على معاوية
قتله لصفوة من صحابة رسول اللّه وتابعيهم من
شيعة اهل البيت ; لقد روى صالح بن كيسان قال : «
لما قَتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حجّ ذلك
العام ، فلقي الحسين بن علي(عليه السلام)فقال :
يا أبا عبد اللّه ، هل بلغك ما صنعنا بحجر
واصحابه وأشياعه وشيعة أبيك ؟ فقال(عليه
السلام) : وما صنعت بهم ؟ قال : قتلناهم ،
وكفّناهم ، وصلّينا عليهم . فضحك الحسين(عليه
السلام) ثم قال : خصمك القوم يا معاوية ، لكننا
لو قتلنا شيعتك ما كفّناهم ولا صّلينا عليهم
ولا قبرناهم . ولقد بلغني وقيعتك في علي
وقيامك ببغضنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ،
فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ، ثم سلها الحق
عليها ولها ، فإن لهم تجدها اعظم عيباً فما
اصغر عيبك فيك ، وقد ظلمناك يا معاوية فلا
توترنّ غير قوسك ولا ترمينّ غير غرضك ، ولا
ترمنا بالعداوة من مكان قريب ، فإنّك واللّه
لقد أطعت فينا رجلاً ما قدم إسلامه ، ولا حدث
نفاقه ، ولا نظر لك ، فانظر لنفسك أو دع ـ يعني
عمرو بن العاص ـ »([13]) .

وجاء في سيرة اهل البيت لابي علم : « إن
مروان بن الحكم كتب إلى معاوية ، وكان عامله
على المدينة ، أمّا بعد ، فإن عمرو بن عثمان
ذكر أن رجالاً من اهل العراق ووجوه اهل الحجاز
يختلفون إلى الحسين بن علي(عليه السلام)، وأنه
لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه
يريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ برأيك .
فكتب إليه معاوية : بلغني كتابك ، وفهمت ما
ذكرت فيه من أمر الحسين ، فإيّاك أن تتعرض له
بشيء ، واترك حسيناً ما تركك ، فإنّا لا نريد
أن نتعرض له ما وفى ببيعتنا ، ولم ينازعنا
سلطاننا ، فأمسك عنه ما لم يبدِ لك صفحته » .

وكتب إلى الحسين(عليه السلام) : « أمّا
بعد ، فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقاً
فإني ارغب بك عنها ، ولعمر اللّه إن من أعطى
اللّه عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإن أحق
الناس بالوفاء من هو مثلك في خطرك وشرفك
ومنزلتك التي انزلك اللّه بها ، فاذكر ، وبعهد
اللّه أوفِ ، فإنك متى تنكرني أنكرك ، ومتى
تكدني أكدك ، فاتق شقّ عصا هذه الامة ، وأن
يردهم اللّه على يديك في فتنة ، فقد عرفت
الناس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولاُمة
جدك ، ولا يستخفنّك السفهاء الذين لا يوقنون »
.

فكتب إليه الحسين(عليه السلام) في
جوابه : « أما بعد ، فقد بلغني كتابك أنه بلغك
عني أمور أن بي عنها غنىً ; زعمت أني راغب فيها
، وأنا بغيرها عنك جدير ، أمّا ما رقي
اليك عني ، فإنه رقّاه إليك الملاّقون
المشاءون بالنمائم ، المفرقون بين الجمع ،
كذب الساعون الواشون ، ما أردت حربك ولا
خلافاً عليك . وايمُ اللّه إني لاخاف اللّه
عزّ ذكره في ترك ذلك، وما أظنّ اللّه تبارك
وتعالى براض عني بتركه ، ولا عاذري بدون
الاعتذار إليه فيك وفي اولئك القاسطين
الملبين حزب الظالمين ، بل اولياء الشيطان
الرجيم .

ألست قاتل حجر بن عدي أخي كندة واصحابه
الصالحين المطيعين العابدين ; كانوا ينكرون
الظلم ويستعظمون المنكر والبدع ويؤثرون حكم
الكتاب ، ولا يخافون في اللّه لومة لائم ،
فقتلتهم ظلماً وعدواناً بعد ما كنت اعطيتهم
الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة ، لا
تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، ولا بإحنة
تجدها في صدرك عليهم ! .

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول
اللّه ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة
فصفرت لونه ، ونحلت جسمه ، بعد أن أمنته
وأعطيته من عهود اللّه عزوجل وميثاقه ما لو
أعطيته العُصم ففهمته لنزلت إليك من شغف
الجبال ، ثم قتلته جرأة على اللّه عزوجل
واستخفافاً بذلك العهد ؟ ! .

أولست المدعي زياد بن سمية ، المولود
على فراش عبيد عبد ثقيف ، فزعمت أنه ابن أبيك ؟
وقد قال رسول اللّه : « الولد للفراش وللعاهر
الحجر » ، فتركت سنة رسول اللّه واتبعت هواك
بغير هدىً من اللّه ، ثم سلّطته على اهل
العراق فقطع ايدي المسلمين وارجلهم وسمل
اعينهم ، وصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من
هذه الامة وليسوا منك .

أولست صاحب الحضرميين الذين كتب إليك
فيهم ابن سمية أنهم على دين عليّ ورأيه ،
فكتبت إليه اقتل كلّ من كان على دين علي(عليه
السلام) ورأيه ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ؟
ودين عليّ ـ واللّه ـ وابن عليّ للذي كان يضرب
عليه أباك ، وهو أجلسك بمجلسك الذي انت فيه ،
ولولا ذلك لكان افضل شرفك وشرف أبيك تجشم
الرّحلتين اللتين بنا منّ اللّه عليكم
فوضعهما عنكم . وقلت فيما تقول : انظر نفسك
ولدينك ولامة محمد(صلى الله عليه وآله)وإتقِ
شقّ عصا هذه الامة وأن تردهم في فتنة . فلا
اعرف فتنة اعظم من ولايتك عليها ، ولا اعلم
نظراً لنفسي وولدي وأمّة جدي افضل من جهادك ،
فإن فعلته فهو قربة إلى اللّه عزوجل ، وإن
تركته فأستغفر اللّه لذنبي واسأله توفيقي
لارشاد أُموري .

وقلت فيما تقول : إن أنكرك تنكرني ، وإن
أكدك تكدني . وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين منذ
خلقت ؟ فكدني ما بدا لك إن شئت ، فإني أرجو
ألاّ يضرّني كيدك ، وألاّ يكون على أحد أضرّ
منه على نفسك ، على أنك تكيد فتوقظ عدوك وتوبق
نفسك ، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثّلت بهم
بعد الصلح والايمان والعهد والميثاق ،
فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلاّ لذكرهم
فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا بما به شرفت وعرفت ،
مخافة امر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن
يفعلوا . أو ماتوا قبل أن يدركوا .

أبشر يا معاوية بقصاص ، واستعد للحساب
، واعلم أنّ للّه عزوجل كتاباً لا يغادر صغيرة
ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس اللّه تبارك
وتعالى بناس أخذك بالظنة وقتلك أولياءه
بالتهمة ، ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى
الغربة والوحشة ، واخذك الناس ببيعة ابنك
غلام من الغلمان ، يشرب الشراب ، ويلعب
بالكعاب . لا أعلمك إلاّ قد خمرت نفسك ، وشريت
دينك ، وغششت رعيتك ، وأخزيت أمانتك ، وسمعت
مقالة السفيه الجاهل ، وأخفت التقي الورع
الحليم .

قال : فلمّا قرأ معاوية كتاب الحسين(عليه
السلام) قال : لقد كان في نفسه غضب عليّ ما كنت
أشعر به ، فقال ابنه يزيد ، وعبد بن أبي عمير
بن جعفر : أجبه جواباً شديداً تصغر إليه نفسه ،
وتذكر أباه بأسوأ فعله وآثاره . فقال : كلاّ ،
أرأيتما لو أنّي أردت أن أعيب عليّاً محقّاً
ما عسيت أن أقول ؟ إن مثلي لا يحسن به أن يعيب
بالباطل وما لا يعرف الناس ، ومتى عبت رجلاً
بما لا يعرف لم يحفل به صاحبه ولم يره شيئاً ،
وما عسيت أن أعيب حسيناً وما أرى للعيب فيه
موضعاً ، إلاّ أني قد أردت أن أكتب إليه
وأتوعّده وأهدده وأجهله ثم رأيت ألا أفعل
»([14])
.

3 ـ إظهاره وإعلانه لفضائل اهل البيت(عليهم
السلام) وحقهم في ولاية المسلمين ، فعن
موسى بن عقبة أنه قال : « لقد قيل لمعاوية
إنّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين(عليه
السلام) ، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب ،
فإن فيه حصراً أو في لسانه كلالة . فقال
لهم معاوية : قد ظننا ذلك بالحسن ، فلم يزل حتى
عظم في اعين الناس وفضحنا ، فلم يزالوا به حتى
قال للحسين : يا أبا عبد اللّه لو صعدت المنبر
فخطبت . فصعد الحسين(عليه السلام) المنبر ،
فحمد اللّه واثنى عليه وصلّى على النبي(صلى
الله عليه وآله) ، فسمع رجلاً يقول : من هذا
الذي يخطب ؟ فقال الحسين(عليه السلام) : نحن
حزب اللّه الغالبون ، وعترة رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) الاقربون ، واهل بيته الطيبون
، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) ثاني كتاب اللّه تبارك وتعالى
، الذي فيه تفصيل كل شيء ، لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه ، والمعوّل علينا في
تفسيره ، لا يبطينا تأويله ، بل نتبع حقايقه ،
فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة ، أنْ كانت
بطاعة اللّه ورسوله مقرونة . قال اللّه عزوجل :
(أطيعوا اللّه واطيعوا الرسول وأولي الامر
منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه
والرسول) وقال : (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى
أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتّبعتم
الشيطان إلاّ قليلاً) .

وأحذرّكم الاصغاء إلى هتوف الشيطان
بكم ، فإنّه لكم عدوّ مبين ، فتكونوا كأوليائه
الذين قال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس
وإنّي جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على
عقبيه وقال إني بريء منكم فتلقون للسيوف
ضرباً وللرماح ورداً وللعمد حطماً وللسهام
غرضاً ، ثم لا يقبل من نفس إيمانها لم تكن
آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً »([15])
.

ب ـ : موقفه من يزيد بن معاوية :

جسّد الامام الحسين(عليه السلام) في
هذا الموقف الرسالي الفريد أحد ابرز مصاديق
وحدة الهدف في تحقيق مصلحة الاسلام العليا في
ادوار ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، رغم
تنوعها وتباينها في الطريقة والاساليب ، حين
نهض(عليه السلام) في وجه الفاجر يزيد بن
معاوية مسترخصاً كل شيء في سبيل مصلحة
الاسلام العليا .

إن من ابرز مصاديق الحكمة في نهضة
الامام الحسين(عليه السلام) في سبيل تحقيق
مصلحة الاسلام العليا هي :

1 ـ أن معاوية في تنصيبه لابنه يزيد من
بعده للخلافة قد نقض عهده المبرم في صلحه مع
الامام الحسن(عليه السلام) ، وبذلك اصبح
الامام الحسين(عليه السلام)أمام أمر مستحدث
يقتضي منه موقفاً يتناسب وما تمليه مصلحة
الاسلام العليا .

2 ـ ان تنصيب يزيد من قبل أبيه معاوية
خليفة للمسلمين سيصبح اكبر قضية تهدد اساس
العقيدة الاسلامية بالمحق ، ويعرضها
للزوال ، وذلك من خلال الانحراف الخطير الذي
سيطرأ على مسألة الحكم الاسلامي وخلافة رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) فإن تنصيب مثل يزيد
للخلافة ـ وهو المتجاهر بالفسق والفجور
والزنا وشرب الخمور ، وبتلك الطريقة التي
سلكها معاوية ، وهي إخراج الخلافة عن
اصولها حتى عن مبنى الخلافة الراشدة بعد رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) ، وجعلها وراثية في
بني أمية على اسس الجاهلية ومقولاتها ـ يعني
على اقل تقدير وقوع الحكم الاسلامي في خطر
التحوّل الجذري ، والانقلاب الكلّي في
الحكم الالهي الذي جاء به رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) ، وما يقوم على اساسه من عدل وقسط
وصلاح ، إلى عصبيات الجاهلية القبلية ،
وحكم الطاغوت الوراثي الذي سيكون للهوى
والرأي المستبد الملاك التام والمقياس
الفصل بين قيامه وحاكميّته على المسلمين
.

3 ـ إن مشكلة الانحراف الجذري في مسألة
الخلافة آنذاك لم تكن في إدراك مجمل هذه
الحقيقة ، فقد كان المسلمون المخلصون
حينئذ ، وعلى رأسهم كبار الصحابة والتابعين
من الموالين لاهل البيت(عليهم السلام)
ومحبيهم ، مدركين لها ولخطورتها ، إلاّ أنّ
الارادة العامة للمسلمين لم تكن بمستوى هذا
الادراك ، مما دفع الامام الحسين(عليه السلام)
لتحمل هذه المسؤولية الكبرى ، فانبرى لبذل
دمه ودماء اهل بيته واصحابه لتكون وقوداً
ساخناً لالهاب تلك الارادة الهامدة ، وتعرية
حقيقة الجاهلية الكامنة في خلافة يزيد بن
معاوية ، التي استبدل فيها حاكمية كتاب اللّه
وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله) واهل بيته
الطاهرين(عليهم السلام)، بحاكمية الجاهلية
وسنة القبيلة والاباء والاجداد من بني أمية
وأبي جهل ; وبدأت منذ نهضته وبعد استشهاده(عليه
السلام) مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا
الخطّ المنحرف ، ليقوم للدين عود ولتستقيم
كلمته في العباد .

ولتصديق ذلك لابد لنا من إلقاء نظرة
على نماذج من الوقائع الخاصة لنهضة الامام
الحسين(عليه السلام) الكبرى ، لنتلمس من
خلالها المحتوى المبدئي في حفظ مصلحة الاسلام
العليا ، ورعايتها التي ضحى الامام الحسين(عليه
السلام)بنفسه واهل بيته واصحابه من اجلها
، منها :

1 ـ لا بيعة ليزيد (شارب الخمور وقاتل
النفس المحرمة والمعلن بالفسق) :

فقد جاء في كتب التاريخ أن معاوية لما
هلك بدمشق في منتصف رجب سنة ستين هجرية ، وكان
ابنه يزيد في حوران ، قام الضحاك بن قيس
بتكفينه ثم صلى عليه ودفنه بمقابر باب الصغير
، وأرسل البريد إلى يزيد يعزّيه بأبيه ، ويطلب
منه الاسراع في القدوم ليأخذ بيعة مجددة من
الناس([16])
، فسار يزيد إلى دمشق فوصلها بعد ثلاثة ايام
من دفن معاوية ، واقبل الناس عليه يهنّئونه
بالخلافة ويعزونه بوفاة أبيه ، فقال يزيد :
« ... أبشروا يا اهل الشام ، فإن الخير
لم يزل فيكم ، وستكون بيني وبين اهل العراق
ملحمة ، وذلك أني رأيت في منامي منذ ثلاث ليال
كأن بيني وبين اهل العراق نهراً يطّرد بالدم
جرياً شديداً ، وجعلت اجهد نفسي لاجوزه فلم
أقدر حتى جازه بين يدي عبيد اللّه بن زياد
وأنا انظر إليه » .

فصاح اهل الشام : « امض بنا حيث شئت .
معك سيوفنا التي عرفها اهل العراق في صفين » ،
فجزاهم خيراً وفرّق فيهم أموالاً جزيلة .

وكتب إلى العمال في البلدان يخبرهم
بهلاك أبيه وأقرهم على عملهم ، وضم العراقين
إلى عبيد اللّه بن زياد بعد أن أشار عليه بذلك
سرجون مولى معاوية ، وكتب إلى الوليد بن عتبة
وكان على المدينة : « أما بعد ، فإن معاوية
كان عبداً من عباد اللّه ، أكرمه واستخلصه
ومكّن له ، ثم قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته .
عاش بقدر ومات بأجل ، وقد كان عهد إليّ
وأوصاني بالحذر من آل أبي تراب لجرأتهم على
سفك الدماء ، وقد علمت يا وليد أن اللّه تبارك
وتعالى منتقم للمظلوم عثمان من آل أبي سفيان ;
لانهم أنصار الحق وطلاب العدل ، فإذا ورد عليك
كتابي هذا فخذ البيعة على اهل المدينة ».

ثم أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها : «
خذ الحسين وعبد اللّه بن عمر وعبد الرحمن بن
أبي بكر وعبد اللّه بن الزبير بالبيعة أخذاً
شديداً ، ومن أبى فاضرب عنقه ، وابعث إليّ
برأسه »([17])
.

وقام العامل بهذه المهمة ، فبعث إلى
الحسين(عليه السلام) وابن الزبير في منتصف
الليل رجاء أن يغتنم الفرصة بمبايعتهما قبل
الناس ، فوجدهما رسوله عبد الرحمن بن عمرو بن
عثمان بن عفان([18])
في مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) ، فارتاب
ابن الزبير من هذه الدعوة التي لم تكن في
الوقت الذي يجلس فيه للناس »([19])
.

واتضح لابن الزبير ما عزم عليه الحسين
من ملاقاة الوالي في ذلك الوقت ، فأشار عليه
بالترك حذار الغيلة ، فعرّفه الحسين(عليه
السلام) القدرة على الامتناع([20]
وصار إليه الحسين(عليه السلام) في ثلاثين([21])
من مواليه واهل بيته وشيعته شاكين السلاح ،
ليكونوا على الباب فيمنعوه إذا علا صوته([22])
، وبيده قضيب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ،
ولما استقر المجلس بأبي عبد اللّه(عليه
السلام) نعى الوليد إليه معاوية ، ثم عرض عليه
البيعة ليزيد ، فقال(عليه السلام) : « مثلي لا
يبايع سراً ، فإذا دعوت الناس إلى البيعة
دعوتنا معهم فكان امراً واحداً »([23])
.

فاقتنع الوليد بكلامه ، ولكن مروان
ابتدر قائلاً : « إنْ فارقك الساعة ولم يبايع
لم تقدر منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم
، ولكن احبس الرجل حتى يبايع أو تضرب عنقه .
فقال الحسين : يابن الزرقاء([24])
، أنت تقتلني أم هو ؟ كذبت وأثمت »([25]) .

ثم أقبل على الوليد وقال : « أيها
الامير ، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة
ومختلف الملائكة ، بنا فتح اللّه وبنا يختم ،
ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة
معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن
نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أَيُّنا أحق
بالخلافة »([26]) .

فأغلظ الوليد في كلامه وارتفعت
الاصوات ، فهجم تسعة عشر رجلا قد انتضوا
خناجرهم وأخرجوا الحسين(عليه السلام) إلى
منزله قهراً([27])
، فقال مروان للوليد : « عصيتني ! فو اللّه لا
يمكنك على مثلها . قال الوليد : (ويح غيرك) يا مروان
! اخترت لي ما فيه هلاك ديني . أقتل حسيناً أن
قال لا ابايع ؟ ! واللّه لا أظن امرأً يحاسب
بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة([28])
، ولا ينظر اللّه إليه ولا يزكّيه وله عذاب
أليم »([29]) .

2 ـ الخلافة محرمة على آل أبي سفيان
:

وفيها دلالة على حرمة الخلافة على
أساس قبلي جاهلي ، فقد نقلت كتب التاريخ أن
الامام الحسين(عليه السلام) بعد أن رفض بيعة
يزيد ، لقيه مروان عند صباح اليوم الثاني ،
فدار بينهما كلام نصح فيها مروان الامام(عليه
السلام) ببيعة يزيد ، فاسترجع الحسين(عليه
السلام) وقال : « على الاسلام السلام إذا بليت
الامة براع مثل يزيد ، ولقد سمعت جدي رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) يقول : الخلافة
محرمة على آل أبي سفيان([30]) ، فإذا
رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه ،
وقد رآه اهل المدينة على المنبر فلم يبقروا ،
فابتلاهم اللّه بيزيد الفاسق » وطال الحديث
بينهما حتى انصرف مروان مغضباً([31]) .

3 ـ لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى
لما بايعت يزيد :

فقد جاء أن محمّد بن الحنفية قال
للامام الحسين(عليه السلام) : « يا أخي ، أنت
أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ ، ولست أدّخر
النصيحة لاحد من الخلق إلاّ لك ، وأنت أحق بها
. تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن
الامصار ما استطعت ، ثم ابعث برسلك إلى الناس
، فإن بايعوك حمدت اللّه على ذلك ، وإن
اجتمعوا على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك ولا
عقلك ، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك . وإني اخاف
عليك أن تدخل مصراً من هذه الامصار فيختلف
الناس بينهم ، فطائفة معك وأخرى عليك ،
فيقتتلون فتكون لاوّل الاسنّة غرضاً ، فإذا
خير هذه الامة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها
دماً وأذلّها أهلاً . فقال الحسين : « فأين
اذهب ؟ قال : تنزل مكة ، فإن اطمأنّت بك الدار
وإلاّ لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من
بلد إلى آخر حتى تنظر ما يصير إليه أمر الناس ،
فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين
تستقبل الامور استقبالاً ، ولا تكون الامور
أبداً أشكل عليك منها حين تستدبرها استدباراً([32]) . فقال الحسين :
يا أخي ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوىً
لما بايعت يزيد بن معاوية . فقطع محمد
كلامه بالبكاء . فقال الحسين : يا أخي ، جزاك
اللّه خيراً . لقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا
عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيأت
لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، أمرهم أمري
ورأيهم رأيي . وأما أنت فلا عليك
أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم ، لا
تخفي عني شيئاً من أمورهم »([33])
.

4 ـ إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي
محمّد(صلى الله عليه وآله) :

كتب الحسين(عليه السلام)قبل خروجه من
المدينة وصيّة قال فيها : « بسم اللّه الرحمن
الرحيم . هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى
أخيه محمد بن الحنفية ، أن الحسين يشهد أن لا
إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمداً
عبده ورسوله جاء بالحق من عنده ، وأن الجنة حق
والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها ، وأن
اللّه يبعث من في القبور .

وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا
مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الاصلاح
في أمة جدي صلى اللّه عليه وآله . أريد أن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي
وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق
فاللّه أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر
حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم وهو خير
الحاكمين .

وهذه وصيتي إليك يا أخي ، وما توفيقي
إلاّ باللّه عليه توكلت وإليه انيب ، ثم طوى
الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمد([34])
.

5 ـ ما الامام إلاّ العامل بالكتاب
والاخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه
على ذات اللّه :

فقد ذكر المؤرخون أن الحسين(عليه
السلام) وافته في مكة كتب اهل الكوفة ، من
الرجل والاثنين والثلاثة والاربعة ، يسألونه
القدوم عليهم لانهم بغير إمام ، ولم يجتمعوا
مع النعمان بن بشير في جمعة ولا جماعة ، وكثرت
لديه الكتب ، حتى ورد عليه في يوم واحد
ستمئة كتاب ، واجتمع عنده من نوب متفرقة اثنا
عشر ألف كتاب ، وفي كل ذلك يؤكدون الطلب وهو لا
يجيبهم . وآخر كتاب ورد عليه من شبث بن ربعي ،
وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ، وعزرة بن
قيس ، وعمرو بن الحجاج ، ومحمد بن عمير بن
عطارد ، وفيه : «إن الناس ينتظرونك ، لا رأي
لهم غيرك ، فالعجل العجل يابن رسول اللّه ،
فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الارض
وأورقت الاشجار ، فاقدم إذا شئت ، فإنما تقدم
على جند لك مجنّدة »([35])
.

ولما اجتمع عند الحسين ما ملا خرجين
كتب إليهم كتاباً واحداً دفعه إلى هانئ بن
هانئ السَبُعي ، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي ،
وكانا آخر الرسل . وصورته : « بسم اللّه الرحمن
الرحيم . من الحسين بن علي إلى الملا من
المؤمنين والمسلمين . أما بعد ، فإن هانئاً
وسعيداً قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم
عليّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي قصصتم
وذكرتم ، ومقالة جلكم أنه ليس علينا إمام
فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى والحق
، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل
بيتي ، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم
ورأيكم ، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي
الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به
رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، أقدم عليكم وشيكاً
إن شاء اللّه . فلعمري ما الامام إلاّ العامل
بالكتاب ، والاخذ بالقسط ، والدائن بالحق ،
والحابس نفسه على ذات اللّه . والسلام »([36])
.

6 ـ رضا اللّه رضانا اهل البيت :

فقد ورد أن الحسين(عليه السلام) لما
بلغه أن يزيد انفذ عمرو بن سعيد بن العاص في
عسكر ، وأمّره على الحاج ، وولاّه أمر الموسم
، وأوصاه بالفتك بالحسين(عليه السلام) أينما
وجد([37])
، عزم على الخروج من مكة قبل إتمام الحج ،
واقتصر على العمرة كراهية أن تستباح به حرمة
البيت([38])
.

وقبل أن يخرج قام خطيباً فقال : « الحمد
للّه ، وما شاء اللّه ، ولا قوة إلاّ باللّه ،
وصلى اللّه على رسوله . خطّ الموت على ولد آدم
مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى
أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ! وخير لي مصرع
أنا لاقيه . كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة
بين النواويس وكربلا ، فيملان مني أكراشاً
جوفاً وأجربة سغباً . لا محيص عن يوم خطّ
بالقلم . رضا اللّه رضانا اهل البيت . نصبر على
بلائه ويوفّينا أجور الصابرين . لن تشذ عن
رسول اللّه لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة
القدس ، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده . ألا
ومن كان فينا باذلاً مهجته موطّناً على لقاء
اللّه نفسه فليرحل معنا ، فإني راحل مصبحاً إن
شاء اللّه تعالى »([39])
.

وكان خروجه(عليه السلام) من مكة لثمان
مضين من ذي الحجة ، ومعه اهل بيته ومواليه
وشيعته من اهل الحجاز والبصرة والكوفة ،
الذين انضموا إليه ايام إقامته بمكة ، وأعطى
كل واحد منهم عشرة دنانير وجملاً يحمل عليه
زاده([40])
.

7 ـ نحن اهل بيت محمد(صلى الله عليه
وآله) أولى بولاية هذا الامر :

فقد جاء أن الحسين(عليه السلام)بعد
خروجه من مكة سار حتى نزل في شراف ، وعند السحر
أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا ، وفي
نصف النهار سمع رجلاً من اصحابه يكبر ، فقال
الحسين : « لم كبرت ؟ قال : رأيت النخل ، فأنكر
من معه أن يكون بهذا الموضع نخل وإنما هو
أسنّة الرماح وآذان الخيل ، فقال الحسين :
وأنا أراه ذلك » ثم سألهم عن ملجاً يلجأون
إليه ، فقالوا : « هذا ذو حسم([41])
عن يسارك فهو كما تريد » فسبق إليه الحسين
وضرب أبنيته . وطلع عليهم الحر الرياحي([42]) مع ألف فارس ،
بعثه ابن زياد ليحبس الحسين(عليه السلام) عن
الرجوع إلى المدينة أينما يجده ، أو يقدم به
الكوفة ، فلما رأى سيد الشهداء(عليه السلام)
ما بالقوم من العطش ، أمر اصحابه أن يسقوهم
ويرشفوا الخيل ، فسقوهم وخيولهم عن آخرهم .

وكان علي بن الطعان المحاربي مع الحر ،
فجاء آخرهم وقد أضرّ به العطش ، فقال له
الحسين(عليه السلام) : « أنخ الراوية » وهي
الجمل بلغة الحجاز فلم يفهم مراده فقال له : «
أنخ الجمل » ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل
من السقاء ، فقال له ريحانة الرسول : « اخنث
السقاء » فلم يدر ما يصنع لشدة العطش ، فقام(عليه
السلام) بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى
فرسه .

ثم إن الحسين استقبلهم فحمد اللّه
وأثنى عليه وقال : « إنها معذرة إلى اللّه
عزوجل وإليكم ، وإني لم آتكم حتى اتتني كتبكم
، وقدمت بها عليّ رسلكم أن اقدم علينا فإنه
ليس لنا إمام ، ولعل اللّه أن يجمعنا بك على
الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني
ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم ، وإن كنتم
لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي
جئت منه إليكم » .

فسكتوا جميعاً . وأذّن الحجاج بن مسروق
الجعفي لصلاة الظهر ، فقال الحسين للحر : «
أتصلي بأصحابك ؟ قال : لا ، بل نصلي جميعاً
بصلاتك » فصلى بهم الحسين(عليه السلام) .

وبعد أن فرغ من الصلاة أقبل عليهم فحمد
اللّه وأثنى عليه ، وصلى على النبي محمد(صلى
الله عليه وآله) وقال : « أيها الناس ، إنكم إن
تتقوا اللّه وتعرفوا الحق لاهله يكن أرضى
للّه ، ونحن أهل بيت محمد(صلى الله عليه وآله)
، أولى بولاية هذا الامر من هؤلاء المدعين ما
ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان ، وإن
أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقنا ، وكان
رأيكم الان على غير ما أتتني به كتبكم ،
انصرفت عنكم . فقال الحر : ما أدري ما هذه الكتب
التي تذكرها ، فأمر الحسين عقبة بن سمعان
فأخرج خرجين مملوّين كتباً . قال الحر : إني
لست من هؤلاء ، وإني أُمرت ألاّ افارقك إذا
لقيتك حتى أُقدمك الكوفة على ابن زياد . فقال
الحسين : الموت أدنى إليك من ذلك ، وأمر أصحابه
بالركوب ، وركبت النساء فحال بينهم وبين
الانصراف إلى المدينة »([43])
.

8 ـ من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً
لحرام اللّه ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول
اللّه يعمل في عباد اللّه بالاثم والعدوان
فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على
اللّه أن يدخله مدخله :

فقد ورد أن الامام الحسين(عليه السلام)
خطب في اصحاب الحر في البيضة([44])
، فقال بعد الحمد للّه والثناء عليه : « أيها
الناس ، إن رسول اللّه قال : من رأى سلطاناً
جائراً مستحلاً لحرام اللّه ناكثاً عهده
مخالفاً لسنة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه
بالاثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول
، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله . ألا وإن
هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة
الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ،
واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام اللّه
وحرموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر ، وقد اتتني
كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنكم لا
تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تممتم على بيعتكم
تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة
بنت رسول اللّه ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع
أهليكم ، ولكم فيّ أسوة ، وإن لم تفعلوا
ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ،
فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي
وأخي وابن عمي مسلم ، فالمغرور من اغترّ بكم ،
فحظكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث
فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني اللّه عنكم ،
والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته »([45]).

9 ـ إني لا أرى الموت إلاّ سعادة ،
والحياة مع الظالمين إلاّ برماً :

لقد كان نزول الامام الحسين(عليه
السلام) في كربلاء في الثاني من المحرم سنة
إحدى وستين([46])
، فجمع ولده وإخوته وأهل بيته ، ونظر إليهم
وبكى وقال : « اللّهم إنا عترة نبيك محمد
، قد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا ،
وتعدّت بنو أمية علينا . اللّهم فخذ لنا بحقنا
، وانصرنا على القوم الظالمين » .

وأقبل على اصحابه فقال : « الناس عبيد
الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما
درّت معائشهم ، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ
الديّانون »([47])
.

ثم حمد اللّه وأثنى عليه وصلى على محمد
وآله وقال : « أما بعد فقد نزل بنا من الامر ما
قد ترون ، وإن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر
معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صُبابة كصُبابة
الاناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألا ترون
إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا
يُتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء اللّه ،
فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع
الظالمين إلاّ برماً »([48])
.

10 ـ لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق
بسخط الخالق :

عندما بعث الحر بن يزيد الرياحي إلى
ابن زياد يخبره بنزول الحسين(عليه السلام)في
كربلاء ، كتب ابن زياد إلى الحسين(عليه السلام)
: « أما بعد يا حسين ، فقد بلغني نزولك كربلاء،
وقد كتب إليَّ امير المؤمنين يزيد ألاّ
اتوسّد الوثير ولا أشبع من الخمير أو ألحقك
باللطيف الخبير ، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد .
والسلام » .

ولما قرأ الحسين(عليه السلام) الكتاب
رماه من يده وقال : « لا أفلح قوم اشتروا مرضاة
المخلوق بسخط الخالق . وطالبه الرسول بالجواب
فقال : ما له عندي جواب ، لانّه حقت عليه كلمة
العذاب » .

وأخبر الرسول ابن زياد بما قاله أبو
عبد اللّه(عليه السلام) ، فاشتد غضبه([49]) وأمر عمر بن
سعد بالخروج إلى كربلاء لقتال الامام الحسين(عليه
السلام) .

11 ـ لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء
الذليل ولا أفرّ فرار العبيد :

عندما أقبل عمر بن سعد نحو الحسين(عليه
السلام) في ثلاثين ألفاً ، دعا الامام الحسين(عليه
السلام)براحلته فركبها ، ونادى بصوت عال سمعه
جلهم : « أيها الناس ، اسمعوا قولي ، ولا
تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي ، وحتى
أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري
وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم
بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم
تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم :
(فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم
علكيم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون) . (إن
وليّي اللّه الذي نزّل الكتاب وهو يتولى
الصالحين) .

ثم قال : « الحمد للّه الذي خلق الدنيا
فجعلها دار فناء وزوال ، متصرفة بأهلها حالاً
بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقي من
فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع
رجاء من ركن إليها ، وتخيّب طمع من طمع فيها ،
وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد اسخطتم اللّه
فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ
بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربنا
وبئس العبيد أنتم ! أقررتم بالطاعة وآمنتم
بالرسول محمد(صلى الله عليه وآله) ، ثم إنكم
زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد
استخوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه
العظيم ، فتباً لكم ولما تريدون ! إنا للّه
وإنا إليه راجعون . هؤلاء قوم كفروا بعد
إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين([50]) .

أيها الناس انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا
إلى أنفسكم وعاتبوها ، وانظروا هل يحل لكم
قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيكم ،
وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين باللّه ،
والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه ؟أوليس
حمزة سيد الشهداء عم أبي ؟ أوليس جعفر الطيار
عمي ؟ أولم يبلغكم قول رسول اللّه لي ولاخي :
هذان سيدا شباب أهل الجنة ؟ فإن صدقتموني بما
أقول ـ وهو الحق ـ فو اللّه ما تعمدت الكذب منذ
علمت أن اللّه يمقت عليه أهله ويضرّ به من
اختلقه ، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه
عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد اللّه
الانصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد
الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك ،
يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول
اللّه لي ولاخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك
دمي ؟ ! » .

ثم قال الحسين(عليه السلام) : « فإن
كنتم في شك من هذا القول ، أفتشكون أني ابن بنت
نبيكم ؟ فو اللّه ما بين المشرق والمغرب ابن
بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم !
أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم
استهلكته ، أو بقصاص جراحة ؟ فأخذوا لا
يكلمونه ، فنادى : يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن
ابجر ، ويا قيس بن الاشعث ، ويا زيد بن الحارث
، ألم تكتبوا إليّ أن اقدم قد أينعت الثمار
واخضرّ الجناب ، وإنما تقدم على جند لك مجنّدة
؟ فقالوا : لم نفعل .

قال : سبحان اللّه ! بلى واللّه لقد
فعلتم . ثم قال : أيها الناس إذا كرهتموني
فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الارض ، فقال
له قيس ابن الاشعث : أولا تنزل على حكم بني عمك
؟ فإنهم لن يروك إلاّ ما تحب ، ولن يصل إليك
منهم مكروه .

فقال الحسين(عليه السلام) : أنت أخو
أخيك . أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم
مسلم بن عقيل ؟ لا واللّه ، لا أُعطيهم بيدي
إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد . عباد
اللّه ، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون . أعوذ
بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب».

ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان
فعقلها([51])
.

12 ـ هيهات منّا الذلّة يابى اللّه لنا
ذلك ورسوله والمؤمنون :

وخطب الامام الحسين(عليه السلام)
خطبته الثانية فيمن جاء لقتاله ، حيث ركب فرسه
واخذ مصحفاً ونشره على رأسه ، ووقف بإزاء
القوم وقال : « يا قوم ، إن بيني وبينكم كتاب
اللّه وسنة جدي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)
»([52])
.

ثم استشهدهم على نفسه المقدسة وما
عليه من سيف النبي(صلى الله عليه وآله) ودرعه
وعمامته ، فأجابوه . بالتصديق ، فسألهم عما
أقدمهم على قتله ، فقالوا : « طاعة
للامير عبيد اللّه بن زياد » فقال(عليه السلام)
: « تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً ! أحين
استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين ،
سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم
علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم ؟
فأصبحتم ألباً لاعدائكم على أوليائكم ، بغير
عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلا
لكم الويلات ! تركتمونا والسيف مشيم ، والجأش
طامن ، والرأي لما يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها
كطيرة الدبى ، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش
ثم نقضتموها ، فسحقاً لكم يا عبيد الامة ،
وشذاذ الاحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرفي الكلم
، وعصبة الاثم ، ونفثة الشيطان ومطفئي السنن !
ويحكم ! أهؤلاء تعضدون ، وعنا تتخاذلون ؟ أجل
واللّه ، غدر فيكم قديم ، وشجت عليه أصولكم ،
وتأزرت فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر ، شجىً للناظر
، وأكلة للغاصب .

ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين
اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منا
الذلّة ، يأبى اللّه لنا ذلك ورسوله
والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حميّة ،
ونفوس أبيّة ، من أن نؤثر طاعة اللئام على
مصارع الكرام . ألا وإني زاحف بهذه الاسرة على
قلة العدد وخذلان الناصر .

أما واللّه لا تلبثون بعدها إلاّ
كريثما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ،
وتقلق بكم قلق المحور . عهد عهده إليّ أبي عن
جدي رسول اللّه (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا
يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون)
. (إني توكّلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة
إلاّ هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) »([53]) .

ثم رفع يديه نحو السماء وقال : « اللّهم
احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني
يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً
مُصبِرة ، فإنهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربنا
عليك توكّلنا وإليك المصير([54])
.

واللّه لا يدع أحداً منهم إلاّ أنتقم
لي منه ، قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، وإنه
لينتصر لي ولاهل بيتي وأشياعي »([55])
.

13 ـ يا أمة السوء ، بئسما خلفتم محمداً
في عترته :

فقد روي أن الامام الحسين(عليه السلام)
عندما ودّع عياله أمرهم بالصبر ولبس الاُزر ،
وقال : « استعدّوا للبلاء ، واعلموا أن اللّه
تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شر
الاعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذّب
عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه
البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكّوا ،
ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم »([56])
.

ثم صاح بالقوم بصوت عال : « يا أمة
السوء ، بئسما خلفتم محمداً في عترته ! أما
إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل
يهون عليكم ذلك عند قتلكم أياي . وايم اللّه ،
إني لارجو أن يكرمني اللّه بالشهادة ، ثم
ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون . فقال الحصين :
وبماذا ينتقم لك منا يابن فاطمة ؟ قال : يلقي
بأسكم بينكم ويسفك دماءكم ، ثم يصبّ عليكم
العذاب صبّاً »([57])
.

14 ـ اللهم احكم بيننا وبين قومنا
فإنهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا
ونحن عترة نبيك(صلى الله عليه وآله) :

وحتى اللحظات الاخيرة التي كان الامام
الحسين(عليه السلام)يجود فيها بنفسه ، وهو
مضمخ بدمه على ارض كربلاء ، لم يغفل أبداً عن
مبدأيته الرسالية ، فكانت آهاته وآلامه ، وهو
في تلك الحالة ، هي تسليم لامر اللّه ، ونظرٌ
إلى مستقبل الرسالة والامة ، وبيان لحقيقة
موقفه وموقعه من الرسالة التي حملها ، والدور
الذي اضطلع به ، فمما روي أن هلال بن نافع قال:
« كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه ، فو
اللّه ما رأيت قتيلاً قط مضمخاً بدمه أحسن منه
وجهاً ، ولا أنور ، ولقد شغلني نور وجهه عن
الفكرة في قتله ، فاستقى في هذه الحال ماء
فأبوا أن يسقوه ، وقال له رجل : لا تذوق الماء
حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها ، فقال ((عليه
السلام)) : أنا أرد الحامية ؟ وإنما أرد على جدي
رسول اللّه ، وأسكن معه في داره في مقعد صدق
عند مليك مقتدر ، وأشكوا إليه ما ارتكبتم مني
وفعلتم بي ، فغضبوا بأجمعهم حتى كأن اللّه لم
يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئاً »([58])
.

ولما اشتد به الحال رفع طرفه إلى
السماء وقال : « اللّهم متعال المكان ، عظيم
الجبروت ، شديد المحال ، غنيّ عن الخلايق ،
عريض الكبرياء ، قادر على ما تشاء ، قريب
الرحمة ، صادق الوعد ، سابغ النعمة ، حسن
البلاء ، قريب إذا دُعيت ، محيط بما خلقت ،
قابل التوبة لمن تاب إليك ، قادر على ما أردت ،
تدرك ما طلبت ، شكور إذا شُكرت ، ذكور إذا
ذُكرت ، أدعوك محتاجاً ، وأرغب إليك فقيراً ،
وأفزع إليك خائفاً ، وأبكي مكروباً ، وأستعين
بك ضعيفاً ، وأتوكل عليك كافياً . اللّهم احكم
بيننا وبين قومنا ، فإنهم غرّونا وخذلونا
وغدروا بنا وقتلونا ، ونحن عترة نبيك ، وولد
حبيبك محمد(صلى الله عليه وآله) ، الذي
اصطفيته بالرسالة ، وأتمنته على الوحي ،
فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم
الراحمين([59])
.

صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك يا
غياث المستغيثين([60])
، مالي رب سواك ولا معبود غيرك ، صبراً على
حكمك يا غياث من لا غياث له ، يا دائماً لا
نفاد له ، يا محيي الموتى، يا قائماً على كل
نفس بما كسبت ، احكم بيني وبينهم وأنت خير
الحاكمين»([61]).

المأساوية المروعة لواقعة كربلاء
عنصر أساسي في تحقيق مصلحة

الاسلام العليا :

لقد كان للصورة المأساوية التي تميّزت
بها واقعة الطف الدامية في كل وقائعها
ومفرداتها ، دور مرسوم وأثر بليغ شاءه اللّه
سبحانه لتتحقق للامام الحسين(عليه السلام)
أهدافه الالهية من خلال نهضته الكبرى .
والمتصفح لكتب التاريخ التي تسرد تفاصيل
واقعة الطف الاليمة سيهتز ضميره ويعتريه
الحزن والالم الشديد ، بل تجري دمعته مع كل
مفردة من مفردات الواقعة المأساوية ، منذ
حركة الامام الحسين(عليه السلام) بأهل بيته
وأصحابه من مكة المكرمة ، حتى استشهاده على
أرض كربلاء وسبي نسائه وأطفاله فيما بعد ، وفي
الوقت نفسه يستعر غضباً وغيضاً على الطاغية
يزيد وابن زياد وعمّالهم من قتلة الامام
الحسين(عليه السلام) ; لشدة قسوتهم وظلمهم
الذي لا حدّ له في طريقة مواجهة الامام(عليه
السلام) ، وقتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي
نساء عترة الرسول(صلى الله عليه وآله)
وأطفالهم .

ولقد فعلت هذه المأساة فعلها في تأجيج
عواطف المسلمين ، خصوصاً أهل الكوفة وغيرها
في حواضر العراق والحجاز ، وخلقت الارضية
الواسعة لايّة مبادرة تعبوية لمواجهة
الخلافة الاموية ، وكسر هيبتها ، وفضح تسترها
بستار الخلافة الاسلامية ، ولهذا نجد أن
مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا الخط
المنحرف قد بدأت منذ أن بدأت النهضة الحسينية
الكبرى ، واشتدت بعد استشهاده(عليه السلام) ،
وكلها تنادي بشعار الرضا من آل محمد(صلى الله
عليه وآله) ، وهو شعار الامام الحسين(عليه
السلام) الشهير، الذي أطلقه في نهضته حيث قال :
« رضا اللّه رضانا أهل البيت » .

ولم أجد أبلغ من وصف الامام الحسن(عليه
السلام) لمسأة الامام الحسين(عليه السلام) ،
فقد روى أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) أن
الحسين دخل على أخيه الحسن(عليهما السلام)في
مرضه الذي استشهد فيه ، فلما رأى ما به بكى ،
فقال له الحسن : « ما يبكيك يا أبا
عبد اللّه ؟ قال : أبكي لما صنع بك . فقال الحسن(عليه
السلام) : إن الذي يؤتى إليّ سمٌ يدس إليّ
فاقتل به ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه ،
يزدلف إليك ثلاثون ألفاً يدّعون أنهم من أمّة
جدنا محمد ، وينتحلون دين الاسلام ، فيجتمعون
على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك
ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها تحل ببني أمية
اللعنة ، وتمطر السماء رماداً ودماً ، ويبكي
عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان
في البحار »([62])
.

ولم يقف الاثر التعبوي للنهضة
الحسينية عند حدّ مقطعي من مسيرة الامة ، بل
تواصل بنمو نوعي وكمي مطرّد عبر العصور ، حتى
إننا نستطيع القول : إن من أبرز الادلّة
الواقعية على الاثر الدائم لهذه النهضة
الخالدة في أعماق المسلمين ، وتحقيقها للهدف
الشامل في تقويم المصلحة الاسلامية العليا
على مستوى الرسالة والامة جمعاء ، هو هذا
الاجماع المطلق في جميع العصور على تأييدها
والتفاعل مع معطياتها ، والادانة المطلقة
ليزيد بن معاوية موقفاً ومنهجاً ، فهذه كتب
الحديث والتاريخ والسير لكل المذاهب والفرق
الاسلامية تجمع على ذلك ، وهذه كتب المحدثين
من اسلاميين وغير اسلاميين ، ممن تناول قيام
الامام الحسين(عليه السلام) ونهضته بالدرس
والتحليل ، تجمع على ذلك أيضاً ، حتى لقد جاء
على لسان أحدهم ، وهو الزعيم الهندي المعروف (غاندي)
قوله : « لقد عرف الحسين كيف يكون مظلوماً
فينتصر » .



([1])
البحار 44 : 225 ، ح5 .

([2])
الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى: 217.
الطبري، دخائر العقبى في مناقب ذوي القربى:
119. الخوارزمي، مقتل الحسين 1: 87 و 88 .

([3])
الفيروز آبادي، فضائل الخمسة 3:262. صحيح
الترمذي2:307.

([4])
الطبرسي، إعلام الورى: 219.

([5])
ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة في معرفة
احوال الائمة(عليهم السلام) : 171.

([6])
البحار 44 : 261، ح14.

([7])
البحار 44 : 264 و265، ح22.

([8])
المصدر نفسه266، ح24.

([9])
المائدة : 1 .

([10])
الاسراء : 34 .

([11])
الشيخ المفيد، الارشاد : 200.

([12])
راجع الاحتجاج للطبرسي 2:295 ـ 296.

([13])
الطبرسي، الاحتجاج 2:296 ـ 297.

([14])
الحسني، سيرة الائمة الاثني عشر 2 : 45.
والطبرسي، الاحتجاج 2:297 ـ 298.

([15])
الطبرسي، الاحتجاج 2: 298 ـ 299.

([16])
راجع ابن كثير الدمشقي ـ البداية والنهاية 8 :
145.

([17])
مقتل الخوارزمي 1: 178ـ 180 ط. النجف.

([18])
تاريخ ابن عساكر4:327.

([19])
تاريخ الطبري 3:270.

([20])
الكامل لابن الاثير 4:15.

([21])
اللهوف للسيد رضي الدين ابن طاووس .

([22])
مقتل الخوارزمي 1:183، الفصل 8 .

([23])
تاريخ الطبري 3:270.

([24])
في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : 229، طبع
ايران، والاداب السلطانية للفخري : 88، أن جدة
مروان كانت من البغايا، وفي كامل ابن الاثير
4:75، أن الناس كانوا يعيرون ولد عبد الملك بن
مروان بالزرقاء بنت موهب، لانها من المومسات
ومن ذوات الرايات.

([25])
تاريخ الطبري وكامل ابن الاثير والارشاد
وإعلام الورى.

([26])
مثير الاحزان لابن نما الحلي من أعلام القرن
السادس.

([27])
مناقب ابن شهرآشوب 2: 208.

([28])
تاريخ الطبري 3 : 270.

([29])
اللهوف : 14 .

([30])
اللهوف : 13 . ومثير الاحزان :10 .

([31])
مقتل الخوارزمي 1:185، الفصل 9.

([32])
تاريخ الطبري 3:271، والكامل لابن الاثير 4:7.

([33])
مقتل محمد بن أبي طالب، ولم يذكر ارباب
المقاتل هذا العذر، واعتذر العلامة الحلي في
أجوبة مسائل ابن مهنا بالمرض، وفي أخذ الثار
لابن نما الحلي ص 81، إصابته بقروح فلم يتمكن
من الخروج مع الحسين(ع).

([34])
مقتل العوالم : 54، ومقتل الخوارزمي 1: 188،
الفصل 9.

([35])
ابن نما، مثير الاحزان:11.

([36])
تاريخ الطبري 3: 278. والاخبار الطوال : 238.

([37])
المنتخب : 304، الليلة العاشرة.

([38])
ابن نما، مثير الاحزان : 89 . وتاريخ
الطبري 3:295.

([39])
اللهوف : 33. وابن نما، مثير الاحزان : 20.

([40])
نفس المهموم : 91 .

([41])
حسم (بضم الحاء المهملة وفتح السين بعدها ميم)
: جبل كان النعمان بن المنذر يصطاد به.

([42])
في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 215 : الحر بن
يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب الردف بن هرمي
بن رياح يربوع ، وقيل لعتاب الردف لان الملوك
يردفونه.

([43])
ارشاد المفيد. وابن شهرآشوب في المناقب 2:193.

([44])
البيضة: ما بين واقعته إلى عذيب الهجانات،
وهي أرض واسعة لبني يربوع بن حنظلة.

([45])
تاريخ الطبري 3:307.

([46])
نص عليه الطبري في تاريخه 3:310، وابن الاثير
في الكامل 4:20، والمفيد في الارشاد.

([47])
البحار 10:198. ومقتل الخوارزمي 1:237.

([48])
هذا في اللهوف، وعند الطبري في تاريخه 3:307
أنه خطب فيهم بذي حسم ، وفي العقد الفريد 2:312،
وحلية الاولياء 3:39، وتاريخ ابن عساكر 4:333 مثل
ما في اللهوف، وفي مجمع الزوائد 9:192، وذخائر
العقبى :149، وحلية الاولياء 2:39، والعقد
الفريد 2:312 ما يظهر منه أنه خطب بذلك يوم
عاشوراء، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي 3:209
لما نزل عمر بن سعد بالحسين خطب اصحابه.

([49])
البحار 10 : 189، ومقتل العوالم : 76 .

([50])
مقتل محمد بن ابي طالب.

([51])
تاريخ الطبري 3:319.

([52])
تذكرة الخواص: 143.

([53])
تاريخ ابن عساكر 4:334. ومقتل الخوارزمي 2:7
واللهوف :54.

([54])
اللهوف: 56 ط. صيدا، ومقتل الخوارزمي 2:7.

([55])
مقتل العوالم : 84 .

([56])
جلاء العيون للمجلسي (بالفارسية).

([57])
مقتل العوالم: 98، ونفس المهموم: 189، ومقتل
الخوارزمي 2:34.

([58])
ابن نما، مثير الاحزان:49.

([59])
مصباح المتهجد والاقبال، وعنهما في مزار
البحار: 107، باب زيارته يوم ولادته.

([60])
اسرار الشهادة: 423.

([61])
رياض المصائب: 33.

([62])
أمالي الصدوق: 101، المجلس 24.

/ 1