هل كان لحديث الغدير حضور في السقيفة ؟
عز الدين سليم
يتساءل البعض أمّا عن حسن نيّة أوعن خبث ولؤم ; لماذا لميحتج أحد من الحاضرين في
اجتماع (سقيفة بني ساعدة) بحديث الغدير أو
غيره ليذكّر المجتمعين باختيار رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب(عليه السلام)إماماً
وقائداً للاُمة بعد رحيله لكي يحرج المجتمعين
على الأقل أو يجرّدهم من الشرعية ؟ومن الملاحظ ـ حقّاً ـ أنّ كتب
المؤرّخين المتداولة تكاد تخلو من أيّ احتجاج
ـ عند السقيفة ـ بحديث الغدير أو غيره ، وما
يوجبه من حقّ عليّ(عليه السلام) على الاُمة
بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) .بيد أنّ هذا السؤال بغض النظر عن
خلفيّاته ينبغي أن تصحبه أسئلة اُخرى عن
حقائق غابت عن الاجتماع المذكور :ـ فلماذا لم تذكر أخبار السقيفة
أيّة إشارة من أحد الحاضرين إلى عدم شرعيّة
الاجتماع طالما لم يحضر فيه آل النبيّ(صلى
الله عليه وآله) وعشيرته الأقربون الذين
كانوا سبب الخير وأساس البركة التي نالتها
الاُمة ومحور حركة النهوض في حياة اُولئك
الناس ؟ـ ولماذا لم تذكر أخبار السقيفة
أيّ احتجاج من أحد الحاضرين أنّ من الخزي
والعار على الحضور أن يجتمعوا في تلك السقيفة
ورسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لا يزال
مسجّىً دون دفن بين أهله ، وهم في غاية الأسى
والحسرة لفقده وخسارته التي لا تعوّض ؟ـ ولماذا لم تذكر روايات المؤرخين
احتجاجاً لأحد بقوله : كان من الوفاء لنبيّنا
وهادينا(صلى الله عليه وآله) أن يتمّ تجهيزه
ومواراته في قبره ، ثم نجتمع للتداول في أمر
من يخلفه في قيادة التجربة من بعده ؟ـ لماذا حاول الأنصار استبعاد
المهاجرين عن اجتماع السقيفة في بداية الأمر
، فلمّا اكتشف المهاجرون أمرهم هبّوا لأخذ
زمام المبادرة منهم؟ـ هل تسرّب إلى الأنصار أن قريشاً
مصرّة على نقض قرار رسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) بتعيين علي بن أبي طالب(عليه السلام)إماماً
للاُمة فقلقوا على مستقبلهم ، فبادروا إلى
عقد اجتماعهم في السقيفة لتقرير مصيرهم ،
ولذا طرحوا فكرة زعامة سعد بن عبادة ، ثم
طرحوا فكرة تقسيم القيادة بين المهاجرين
والأنصار : (منّا أمير ومنكم أمير) [1]
.ـ لماذا منع عمر رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) من كتابة كتابه الذي قال عنه(صلى
الله عليه وآله) إن كتابته ستؤدّي إلى حفظ
الاُمة من الضلال : «هلمّ أكتب لكم كتاباً لن
تضلّوا بعده» قال عمر : إنّ النبيّ غلبه الوجع
، وعندكم كتاب اللّه فحسبنا كتاب اللّه ،
واختلف أهل البيت فمنهم من يقول ما قال عمر ،
فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف قال : «قوموا
عنّي» [2] ; ولقد قال عمر عن هذه الحادثة :
(... ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه ـ باسم
عليّ ـ فمنعته من ذلك ...) [3] .ـ ما هو دور قبيلة (أسلم) في حسم
الموقف لصالح أصحاب السقيفة ، وهل كان دخولها
إلى المدينة المنوّرة بأسلحتها عفويّاً أم
كانت على تنسيق مع الخليفة عمر بن الخطاب ،
يقول الطبري : إنّ (أسلم) أقبلت بجماعتها حتّى
تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر ، فكان عمر
يقول : ماذذهو إلاّ أن رأيت أسلم فأيقنت
بالنصر [4] .فالذي يحتجّ بغياب حديث الغدير
وأمثاله عن مناقشات السقيفة كان عليه أن يذكر
الكثير من أمثال هذه الاُمور التي غابت
أخبارها في ذلك الاجتماع الشاذ وملابساته
ومخالفته للشرع أو الواقع أو الأدب .إنّ عموم المؤرّخين الذين تناولوا
حادثة اجتماع (سقيفة بني ساعدة) يعكسون صورة
عن تحرّك منفعل ، سريع ، شابه العنف أحياناً ،
والتحالفات المضادّة ، وكلّ المعلومات
التاريخية المتوفّرة لدينا تشير إلى أنّ فرص
العنف واستعمال السلاح كانت أوفر من غيرها ،
ممّا كان ينذر بعاقبة خطيرة ، وردّة شاملة عن
الإسلام ودعوة الرسول الخاتم(صلى الله عليه
وآله) .وهذه نماذج من صور العنف والانفعال
: ـ قال الحبّاب بن المنذر ـ أثناء اجتماع
السقيفة ـ : (يا معشر الأنصار املكوا على
أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا ـ يعني عمر ـ
وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من الأمر ، فإن
أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه
البلاد ، وتولّوا عليهم هذه الاُمور ، فأنتم
واللّه أحقّ بهذا الأمر منهم ، فإنه بأسيافكم
دان لهذا الدين من لم يكن يدين به ...) .ـ قال عمر : إذاً يقتلك اللّه .- قال الحبّاب : بل إيّاك يقتل [5]
.قال عمر : فكثر اللغط وارتفعت
الأصوات ، حتّى تخوّفت الاختلاف ، فقلت : ابسط
يدك لاُبايعك [6] .ـ فقالت الأنصار أو بعض الأنصار :
لا نبايع إلاّ عليّاً [7] .فأقبل الناس من كلّ جانب يبايعون
أبا بكر ، وكادوا يطأون سعد بن عبادة .. فقال
اُناس من أصحاب سعد : اتّقوا سعداً لا تطأوه ،
فقال عمر : اقتلوه قتله اللّه ، ثم قام عمر على
رأسه ، فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك ،
فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر ، فقال : واللّه لو
حصصتَ منه شعرةً ما رجعتَ وفي فيك واضحة [8].وهناك أحداث وأحداث كثيرة مشابهة
لذلك الأمر الذي يؤكّد أنّ حالة الشدّة
والتحرّك السريع هي التي كانت تكتنف عموم
الموقف في السقيفة حيث حسم الموقف كلّه لصالح
الحزب القرشيّ في بضع ساعات ، ورسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) لم يغسّل بعد حتى أن عليّاً
والعبّاس بن عبد المطلب قد سمعا ضجيج القوم
وهم يبايعون أبا بكر في المسجد ، وكان أهل
البيت لم يفرغوا من غسل رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) بعد [9] .إنّ طبيعة الأحداث التي جرت في
السقيفة وما صحبها من عنف وشدّة واستعجال
عطّلت الكثير من الحجج والمفاهيم الصحيحة
والقيم والحقائق والتعقّل ، فهل تسمح تلك
الحالة المتشنجة المذكورة بذكر حديث الغدير
أو غيره أو موقع بني هاشم ، وضرورة حضورهم في
ذلك الاجتماع الذي كان هو ونتائجه (فلتة) [10]
على حدّ تعبير الخليفة عمر بن الخطاب !؟ثم من يذكر حديث الغدير ، ووصايا
النبي(صلى الله عليه وآله) إذا كان أصحاب هذه
النصوص قد اُبعدوا أساساً من الاجتماع فور
وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) بل أنّ
الانقلاب قد حدث والرسول(صلى الله عليه وآله)
على قيد الحياة حين منعه عمر من كتابة وصيّته
ـ كما أشرنا ـ وقد كانت الاستعدادات تامّة
لإنجاز تلك المهمّة ، فالصحابيّ عمر منع
كتابة الوصيّة الأخيرة للنبي(صلى الله عليه
وآله) لكي لا يصرّ على قيادة علي(عليه السلام)
للمسيرة أمام الحاضرين ثم أشغل الناس بعد
وفاة النبي بحكاية أن النبي(صلى الله عليه
وآله) لم يمت .لقد توفي رسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) نصف النهار يوم الاثنين ، وأبو بكر غائب
بالسُنَح وعمر حاضر فاستأذن عمر ، ودخل على
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) مع المغيرة بن
شعبة ، وكشف عن وجهه ; قال عمر : واغشياه ما
أشدّ غشي رسول اللّه !فقال المغيرة : مات واللّه رسول
اللّه .فقال عمر : كذبت ، ما مات رسول اللّه
، ولكنك رجل تحوسك فتنة ، ولن يموت رسول اللّه
حتى يفني المنافقين [11] !!وبقي عمر يكرّر هذه الكلمات
وأمثالها حتى جاء أبو بكر من السُنح ، وقرأ
هذه الآية : (وما محمد إلاّ رسول
قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم ...؟) [12] .فقال عمر : هذا في كتاب اللّه ؟ قال
أبو بكر : نعم فسكت عمر [13] .وكان عمر هو الإنسان الوحيد الذي
أصرّ على عدم موت النبي(صلى الله عليه وآله)حتى
أنّ عبد اللّه بن اُم مكتوم قرأ عليه نفس
الآية السابقة [14] ، فلم يتجاوب معه حتى
جاء أبو بكر ، فتغيّر موقف الرجل رأساً على
عقب .حتى إذا عقد الأنصار اجتماعهم في
سقيفة بني ساعدة ; أسرع أبو بكر وعمر وأبو
عبيدة بن الجرّاح إليهم ، ووجّهوا أحداث
الاجتماع إلى ما أرادوا ، ثم اُنجزت آخر حلقات
الخطّة بتسلُّم قبيلة «أسلم» لمهمتها
المرسومة في المدينة حيث ملأت سككها في
استعراض عسكري ، أجهض أي تحرك محتمل ، بعد أن
بايعت أبا بكر بالخلافة .إنّ هذه الأحداث كلّها جرت في
سويعات عصر يوم الاثنين من عام 11 هـ وحُسم كل
شيء والرسول(صلى الله عليه وآله) لم تتمّ حتى
عملية تغسيله ـ كما أشرناـ.فهل بمقدور أحد أن يطالب بحقّ ، أو
يذكّر بوصيّة أو ينصح باتّباع معروف ؟ ، ثم
ماذا ينفع التذكير إذا كانت غالبية قريش
تعتقد أن ليس كلّ ما يقوله الرسول(صلى الله
عليه وآله) ويوصي به ممّا ينبغي التزامه ،
والتمسُّك به ، خصوصاً إذا كان أمراً دنيوياً
يتعلّق بشؤون الحياة كالحرب والسلم وإدارة
اُمور الناس وسياسة العباد وما إلى ذلك [15]
، وهذه نماذج من مواقف قريش نذكرها بشكل عابر :
ــ الموقف من صلح الحديبية : حيث
اعترض عمر بن الخطاب بشدة على النبي(صلى الله
عليه وآله) حين قرر الصلح ، وفي ذلك تفصيلات
يجدها المتتبّع في كتب السيرة [16] .ـ والموقف من غنائم خيبر ، حين ظنّ
الأنصار سوءاً برسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) [17] .ـ والموقف من أسرى بدر وفدائهم
[18] .ـ وموقف الرماة في معركة اُحد من
أوامر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، وما
سبّبه عصيانهم من هزيمة كبيرة للمسلمين [19]
.ـ والموقف من سريّة اُسامة بن زيد .ـ والموقف من وصيّة النبي(صلى الله
عليه وآله) حين عزم على كتابة كتاب لن يضلّوا
بعده أبداً ـ كما أشرنا ـ وغيره ذلك كثير [20]
.وهناك خطّ عام لدى قريش يتمحور حول
معصية الرسول(صلى الله عليه وآله) فيما يخالف
رغباتها ، يقول عبد اللّه بن عمرو بن العاص :
كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) فنهتني قريش ، وقالوا: تكتب
كلّ شيء سمعته من رسول اللّه ورسول اللّه بشر
يتكلّم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة ،
فذكرت ذلك لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ،
فأومأ بإصبعه إلى فيه ، وقال : «اكتب فو الذي
نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ» [21] .وهذا الحديث يبلور حقيقة الموقف
القرشي من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وتعاليمه
.بقي السؤال المطروح في هذه
المناسبة لماذا لم يحتج أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب(عليه السلام) بحديث الغدير أو الوصية
أو غيرهما ؟والحقيقة التي لا غبار عليها ـ
وكما مرّ بعض ذلك ـ أن علياً(عليه السلام)
وسائر بني هاشم لم يُدعَوا إلى اجتماع
السقيفة أبداً ، وقد استغلت قريش انشغالهم
بمصيبة فقد النبي(صلى الله عليه وآله) ، وقد
عُقدت الصفقة لأبي بكر ، وبويع في السقيفة دون
علم من بني هاشم قاطبة ، حيث فوجىء الإمام(عليه
السلام) والعباس بن عبد المطلب(رضي الله عنه)
بنبأ بيعة أبي بكر ، ورسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) لم يُغسل بعد .وخلال ساعات قلائل تمّ كلّ شيء ،
وجاءت (أسلم) وملأت سكك المدينة المنورة
بالرجال والسلاح ، واطمأن عمر بن الخطاب
لمسيرة الأحداث ـ كما يقول ـإنّ أيّ احتجاج قبال ما جرى لا
يغيّر شيئاً من طبيعة الموقف ، ومع ذلك فإن
أمير المؤمنين(عليه السلام) والصدّيقة
الزهراء(عليها السلام) ، وبعض الموالين
تحرّكوا بالحدود الممكنة ، التي تُلقى من
خلالها الحجّة فحسب دون أن يؤدّي ذلك إلى
إراقة دماء وإرباك الحالة العامة للاُمّة لكي
لا تنهزم الاُمة أمام المرتدّين كمُسيلمة
الكذّاب وسجاح وغيرهما ، أو تتعرّض إلى غزو
واسع من شمال الجزيرة حيث الدولة الرومانية
وقدراتها الهائلة ..أجل تحرّك الإمام علي(عليه السلام)
بحدود إلقاء الحجّة فحسب فجرت اجتماعات في
داره أيّاماً لتدارس الموقف والعمل ما من
شأنه لإيقاف التداعي والانهيار فهجمت (شرطة)
الحكومة على الدار غير مرّة وأرهبت المجتمعين
وآل البيت(عليهم السلام) وجرت محاولة لحرق
الدار من قبل الخليفة عمر بن الخطاب ومن معه .وندرك عمق المأساة وحجم ما جرى من
قراءة هذه الوثائق المتبقية على صفحات كتب
التاريخ التي دوّنها أمّا موالون للسلطات أو
حذرون منها :1 ـ قال الخليفة أبو بكر في مرض موته
: (أما إنّي لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على
ثلاث فعلتهنّ : فأمّا الثلاث التي فعلتها ،
فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن
كانوا قد أغلقوه على الحرب) [22] .2 ـ اجتمع جماعة من المهاجرين
والأنصار مع علي(عليه السلام) في بيت فاطمة
بنت الرسول(صلى الله عليه وآله) فبعث إليهم
أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة ،
وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، فأقبل بقبس من نار
على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة
فقالت : (ياابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟ ،
قال : نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الاُمة)
[23] ، (ودخلوا الدار) [24] ، (وخرجت
فاطمة تبكي وتصيح) [25] ، وبقي عمر ومعه
قوم فأخرجوا عليّاً ، فمضوا به إلى أبي بكر ،
فقالوا له : بايع ، فقال : (إن أنا لم أفعل فمه ؟
قالوا : إذن واللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب
عنقك ، فقال : إذاً تقتلون عبد اللّه وأخا
رسوله .. فلحق عليّ بقبر رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) يصيح وينادي : ياابن اُم إنّ القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني) [26] .وممّا قام به أمير المؤمنين(عليه
السلام) هو التحرك على الأنصار بعيداً عن أعين
السلطة : (ثم إنّ عليّاً حمل فاطمة على حمار ،
وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم
النصرة ، وتسألهم فاطمة الانتصار له ..) [27]
.إن هذه الأجواء المحيطة بعليّ(عليه
السلام) أترى أنها مناسبة لعمل أكثر من هذا؟
ثم هل تسع مثل هذه الظروف أمير المؤمنين(عليه
السلام) أن يتحرّك في ساحة أوسع من ذلك ، وهو
الذي تحاصره المصلحة العامة ، ومصلحة الإسلام
العليا ، وضغط السلطة ، وقلّة الناصر ؟ ولذا
رأى أنّ المناسب لتلك الحالة أن يكتفي بهذا
الحد من المعارضة ، وأن يذكّر عند كلّ فرصة
مناسبة طوال ربع قرن من الزمان ، وهذه بعض
مظاهر تمسك علي(عليه السلام)بحقّه والتذكير
به :1 ـ فقد كشف عبد اللّه بن العباس بن
عبد المطلب رضوان اللّه عليهم عن بعض هذه
الحقيقة في حوار له مع الخليفة عمر بن الخطاب
أيّام خلافة عمر جاء فيه :عمر : كيف خلّفت ابن عمّك ؟ابن عباس : فظننته يعني عبد اللّه
بن جعفر ، فقلت خلّفته مع أترابه .عمر : لم أعنِ ذلك ، إنما عنيت
عظيمكم أهل البيت .ابن عباس : خلّفته يمتح بالغرب وهو
يقرأ القرآن .عمر : يا عبد اللّه عليك دماء البدن
إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر
الخلافة ؟ابن عباس : نعم .عمر : أيزعم أنّ رسول اللّه نصّ
عليه ؟ابن عباس : وأزيدك ، سألت أبي عمّا
يدّعي ـ من نص رسول اللّه بالخلافة ـ فقال :
صدق .عمر : كان من رسول اللّه من أمره ذرو
من قول لا يثبت حجّة ، ولا يقطع عذراً ، ولقد
كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه
أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك [28] .2 ـ المناشدة يوم الشورى : بقي أمير
المؤمنين(عليه السلام) يهتمّ بإرساء قواعد
مصلحة الإسلام والمسلمين مع احتفاظه بحقّه
الشرعي كمظلوم ومغصوب حقّه في خلافة الاُمة
وقيادتها ..وحفظه لمصلحة الإسلام والمسلمين
تبلور في عموم مسيرته وتعامله مع الخلفاء
الثلاثة الذين سبقوه تاريخيّاً : (أبي بكر ،
وعمر ، وعثمان) .فقد طرد أبا سفيان حين جاءه يبايعه
بعد السقيفة ويدعوه للوقوف في وجه أبي بكر
قائلاً له : واللّه إنّك ما أردت بهذا إلاّ
الفتنة وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام
شرّاً .وقد ذكر المؤرّخون تفصيلات اُخرى
حول تحرّكات أبي سفيان وإصرار أمير المؤمنين(عليه
السلام) على طرده وزجره [29] .ولقد انصرف لجمع القرآن الكريم حسب
نزوله وأتمّ هذا المشروع العظيم في فترة
وجيزة ، كما اهتمّ بردّ شبهات الوفود الكافرة
التي تأتي مستفسرة عن حقيقة الإسلام الحنيف ،
ومبادئه ، كما أوقف نفسه الشريفة لتصحيح
الأخطاء ، وتسديد المسيرة ما استطاع إلى ذلك
سبيلاً [30] .ولكنه مع كلّ ذلك كان يبدي
مظلوميته كلّما سنحت له فرصة ، فهو يقول : «أمّا
الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون
نسباً ، والأشدّون برسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) نوطاً ، فإنّها كانت أثرة شحّت عليها
نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، والحكم
للّه ، والمعود إليه يوم القيامة» [31] .«فو اللّه ما زلت مدفوعاً عن حقّي ،
مُستأثراً عليّ منذ قبض اللّه نبيّه(صلى الله
عليه وآله) حتّى يوم الناس هذا» [32] .ومن جواب له على كتاب لمعاوية كان
يذمّه فيه ويعيّره جاء فيه :«إنّي كنت اُقاد كما يُقاد الجمل
المخشوش حتى اُبايع ، ولعمر اللّه لقد أردت أن
تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على
المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ، ما لم
يكن شاكّاً في دينه ، ولا مُرتاباً بيقينه»
[33] .ومع شدّة حرصه على وحدة المسلمين
وشوكتهم ، ومع شديد اهتمامه بسلامة المسيرة ،
فإنه كان يطرح حقّه ، ويوضّح موقعه الحقيقي من
المسيرة كلّما وجد مناسبة لذلك .وممّا يذكره المؤرّخون ، وأصحاب
السنن أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) وجد في
اجتماع الستّة الشورى ـ وكان ضمنهم ـ بعد وفاة
عمر بن الخطاب ، فرصة للإدلاء برصيده
الواقعيّ الذي غفله البعض أو تغافلوا عنه ،
فقد ناشد الحاضرين بقوله : «أنشدكم باللّه ـ
أيها النفر جميعاً ـ وراح يعدّد جملة من
فضائله العظام ، وممّا جاء في مناشدته :
فأنشدكم باللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) : (من كنت مولاه فعليّ مولاه ،
اللّهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ; ليبلغ
الشاهد منكم الغائب) ، غيري ؟ قالوا : اللّهم
لا ..» [34] ، وهكذا ذكّر الحاضرين بالنصّ
عليه من قبل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)في
يوم الغدير ، حينما وجد الفرصة مناسبة لذلك .3 ـ مناشدة الرحبة : وفي أيّام
خلافته جمع أمير المؤمنين(عليه السلام)المسلمين
في رحبة مسجد الكوفة وطالب كلّ من سمع حديث
الغدير من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)
مباشرة ، أن يدلي بشهادته أمام الحضور .وقد جرت هذه المناشدة المظلومة بعد
خمسة وعشرين عاماً على السقيفة ، وكان قد مات
الكثير من شهود ذلك الحدث أو قُتل حيث كان في
هذه الفترة الزمنية ـ الممتدّة بين حجّة
الوداع التي ألقى رسول اللّه(صلى الله عليه
وآله)فيها حديث الغدير ومناشدة الرحبة ـ قد
جرت أحداث مريرة ، كما جرت تطوّرات كبرى كحروب
الردّة وفتوح الشام ، والعراق ، وبلاد فارس ،
إضافة إلى طاعون عمواس ، علاوة على الموت
الطبيعي لكثير من شيوخ الصحابة وكهولهم .لقد ناشد الإمام عليّ(عليه السلام)
جماهير المسلمين أن يشهدوا بقوله : «أنشد
اللّه على امرىء مسلم سمع رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله)يقول يوم غدير خمّ ما قال إلاّ قام
فشهد بما سمع ولا يقم إلاّ من رآه بعينه وسمعه
بإذنه ، فقام ثلاثون صحابيّاً فيهم اثنا عشر
بدرياً فشهدوا أنه أخذه بيده ، فقال للناس :
أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟
قالوا : نعم ، قال رسول اللّه(صلى الله عليه
وآله) : (من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهم والِ
من والاه ، وعادِ من عاداه ..)» [35] ،
وهكذا وجد الإمام(عليه السلام) فرصة مناسبة
لتثبيت هذا الحق المهضوم الموحى به من اللّه
عزّوجل بتبليغ صريح من رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) .وهكذا فإن المصلحة الإسلامية
العليا وإن فرضت على أمير المؤمنين عليه
الصلاة والسلام أن يلوذ بالصمت والصبر
والتحمُّل إلاّ أنه كلّما وجد فرصة مناسبة
لتثبيت حقّه ومظلوميته بل حقّ الرسالة
والرسول(صلى الله عليه وآله) إلاّ وصدع بذلك
الحقّ ، وتلك الحقيقة التي تضافرت جهود قريش
ومن ناصرهم على إخفائها .ولا يخفى أن أهل البيت(عليهم
السلام) وحوارييهم قد بذلوا وسعهم ـ رغم
المحنة والتعتيم ـ من أجل تبليغ الاُمة بحديث
الغدير ورسالته كالصديقة الزهراء عليها
الصلاة والسلام التي ألقت خطبة في مسجد رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله)تحمل هذا المضمون
[36] ، وكالإمام السبط الحسين بن علي(عليه
السلام) الذي ألقى خطاباً حول هذا الموضوع في
عهد معاوية مستثمراً وجود الحجيج في عرفات ،
وهكذا يمكننا أن نقول : إنّه صار بمقدورنا أن
ندرك الظروف الواقعية التي ألمّت بحديث
الغدير في حوادث «السقيفة» ، والأوقات التي
تلت ذلك الحادث ، لأكثر من عقد في الزمان ،
وصدق أمير المؤمنين علي(عليه السلام) حيث يقول
: «لا يعاب المرء بتأخير حقه ، إنّما يعاب من
أخذ ما ليس له» [37] .
[1] الطبري 2 : 456 (حوادث سنة 11 هـ) .[2] صحيح البخاري باب كتاب العلم 1 : 22
ـ 23 .[3] أخرجه الإمام أبو الفضل أحمد بن
أبي طاهر في تاريخ بغداد بسنده المعتبر عن ابن
عبّاس وذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة 3 : 97 (أحوال عمر) .[4] الطبري 2 : 458 وغيره .[5] الطبري 2 : 456 (حوادث عام 11 هـ) .[6] سيرة ابن هشام 4 : 336 .[7] الطبري 3 : 208 ، وابن الأثير 2 : 123 ،
قالته الأنصار بعد بيعة أبي بكر .[8] وفي فيك واضحة : يهدده بإسقاط
أسنانه ![9] العقد الفريد : ابن عبد ربّه
الأندلسي 4 : 258 .[10] البخاري 4 : 119 باب رجم الحبلى من
الزنا والطبري (حوادث سنة 11 هـ ) وغيرها .[11] مسند أحمد بن حنبل 6 : 219 .[12] آل عمران : 144 .[13] طبقات ابن سعد 2 / ق 2 / 54 ، وغيره
من المصادر .[14] نفس المصدر 2 / ق 2 / 57 ومصادر
اُخرى .[15] الفصول المهمة في تأليف الاُمة :
السيد عبد الحسين شرف الدين طـ 5 دار النعمان /
النجف الأشرف 81 ـ 82 .[16] راجع فقه السيرة : محمد سعيد
البوطي طـ 4 / 1972 م ص 345 وغيره .[17] نفس المصدر : 427 ـ 428 عن البخاري .[18] نفس المصدر : 228 .[19] فقه السيرة مصدر سابق : 252 .[20] راجع السيد عبد الحسين شرف
الدين : المراجعات مراجعة 58 ، مراجعة 100 .[21] سنن الدارمي 1 : 125 وسنن أبي داود 2
: 126، ومسند أحمد 2 : 162 وص 192 وجامع بيان العلم
وفضله لابن عبد البر 1 : 85 طـ 2 القاهرة 1388 هـ
وغيرها .[22] الطبري 2 : 619 ومروج الذهب 1 : 141
والإمامة والسياسة 1 : 18 .[23] ابن عبد ربّه الأندلسي : العقد
الفريد 3 : 64 ، وأبو الفداء 1 : 156 .[24] تاريخ اليعقوبي 2 : 126 .[25] السقيفة لأبي بكر الجوهري
برواية ابن أبي الحديد 1 : 134 .[26] الإمامة والسياسة : ابن قتيبة
الدينوري : 20 .[27] الإمامة والسياسة : 19 طـ الحلبي
تحقيق د . المزيني ومثله ابن أبي الحديد 5 : 6 : 28
طـ مصر، وهذا اللفظ للمصدر الثاني .[28] أخرج هذا الحديث بسند معتبر
الإمام أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في كتابه
تاريخ بغداد، كما ذكره ابن أبي الحديد
المعتزلي في شرح نهج البلاغة 3 : 97 (أحوال عمر) ،
طـ 1 مصر و ج 12 : 20 طـ ، مصر تحقيق محمد أبو الفضل
و 3 : 141 طـ دار الفكر، وذكرها السيد شرف الدين :
المراجعات ، مراجعة 106 ص 293 ـ 294 .الذرو ـ بالكسر والضم ـ المكان
المرتفع والعلو مطلقاً، والمعنى أنه كان من
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في أمر عليً
علو من القول في الثناء عليه، وهذا اعتراف من
عمر كما لا يخفى. يربع في أمره : هذا مأخوذ من
قولهم ربع الرجل في هذا الحجر إذا رفعته بيده
امتحاناً لقوّته، يريد أن النبي(صلى الله
عليه وآله)كان في ثنائه على عليّ(عليه السلام)
بتلك الكلمات البليغة يمتحن الاُمة أنها هل
تقبل خليفة أم لا .. انظر هامش المراجعات مصدر
سابق / مراجعة 106 .[29] الكامل في التاريخ : ابن الأثير (حديث
السقيفة) .[30] يراجع في ذلك عليّ والخلفاء :
المرحوم الشيخ نجم الدين العسكري .[31] نهج البلاغة : 231 .[32] نفس المصدر : 53 .[33] نفس المصدر : 387 ومن كتاب له(عليه
السلام) إلى معاوية .[34] أخرج المناشدة المذكورة الحافظ
الذهبي في ميزان الاعتدال 1 : 205 والحافظ بن حجر
العسقلاني في لسانه 2 : 157، والخطيب الخوارزمي
في المناقب : 246، والإمام الحمويني الشافعي في
الفرائد الباب 58 ، وأخرجه العلاّمة الدارقطني
كما في الصواعق ، كما أخرج المناشدة غير هؤلاء
كثيرون راجع مناقب ابن المغازلي : 112 ـ 118 طـ 2 :
1402 ، طهران .[35] مسند أحمد بن حنبل 4 : 370 بسند
صحيح طـ الميمنية ، مصر وترجمة الإمام عليّ بن
أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي 2 :
7 حديث 503 ومجمع الزوائد للهيثمي الشافعي 9 : 104،
وصحيحه ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي : 56 طـ
. الحيدرية / النجف ، والغدير للأميني 1 : 174
والبداية والنهاية لابن كثير 5 : 211 وغيرها،
وراجع المراجعات للسيد شرف الدين لمعرفة
المزيد من مصادر المناشدة مراجعة 56 وهوامشها
تحقيق الشيخ حسين آل راضي .[36] راجع خطبة الزهراء(عليها السلام)
في بلاغات النساء، الإمام أبو الفضل أحمد بن
أبي طاهر : 280 وأخرجها أبو بكر أحمد بن عبد
العزيز الجوهري في كتاب السقيفة بإسناده
وأوردها الطبرسي في الاحتجاج والمجلسي في
البحار وغيرهم ومضامين خطبتها في نساء
الأنصار أكثر وضوحاً راجع نفس المصدر .[37] نهج البلاغة: الإمام علي بن أبي
طالب (باب المختار من حكم أمير المؤمنين رقم
166).