مـن آفاق القيادة الاسلامية
يوم الولاية
* ولي أمر المسلمين آية اللّه العظمى السيد الخامنئي «دام ظلّه»
من خطاب لولي أمر المسلمين آية اللّه العظمى السيد علي الخامنئي «دام ظلّه » بمناسبة عيد الغدير الأغرّ في جموع غفيرة من أهالي مشهد وزوّار الإمام الرضا(عليه السلام).يوم الغدير يوم الولاية :
إن قضية الغدير قضية إسلامية وليست مجرد قضية شيعية .ففي تاريخ الإسلام ، وذات يوم ، قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كلاماً وعمل عملاً يحتوي كلّ منهما على دروس ومعاني مختلفة .وليس بوسعنا القول إن على الشيعة فقط الاستفادة من الغدير وحديث الغدير ، أمّا سائر المسلمين فلا يشاطرونهم الاستفادة من المضامين القيمة الواردة في هذا الحديث النبوي الشريف ، والذي لا يختص بحقبة دون أخرى .وفي الحقيقة فإنّ الشيعة يكنّون حبّاً خاصّاً أكثر من سواهم لهذا اليوم وهذا الحديث ، نظراً لتنصيب أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام إماماً ووليّاً في يوم الغدير ، غير أنّ حديث الغدير لا يقتصر فقط على استخلاف أميرالمؤمنين ، بل يشتمل على مضامين أخرى بوسع المسلمين جميعاً الاستفادة منها .ففيما يتعلق بأصل حادثة الغدير ، يجدر بكافة المهتمين بالتاريخ الإسلامي أن يعلموا بأنها قضية مسلَّمة لا شكَّ فيها ، حيث إنها لم ترد في الروايات الشيعية وحسب ، بل إن المحدّثين من أهل السنة ـ سواء في العصور المتقدمة أو المتوسطة أو المتأخرة ـ نقلوا هم أيضاً حادثة الغدير ، أي تلك التي وقعت في حجّة وداع الرسول الأكرم في غدير خم .في ذلك اليوم كانت قوافل المسلمين التي أدّت مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)فريضة الحجّ قد تقدم بعضها إلى الأمام ، فأرسل النبي(صلى الله عليه وآله) خلفهم من أعادهم ، ثم انتظر حتى التحق بركبه من تأخّر من القوافل ; فاجتمع حينذاك حشد غفير من المسلمين قيل إنهم بلغوا تسعين ألفاً ، وقيل مئة ألف وقيل مئة وعشرين ألفاً .وفي هذا الجوّ الحار لم يستطع سكان الجزيرة العربية أن يضعوا أقدامهم على الأرض الملتهبة حرارةً ، مع أن معظمهم كانوا من سكان البوادي والقرى الذين تعوّدوا على تحمل الحر الشديد ، حتى أنهم اضطروا لوضع عباءاتهم تحت أقدامهم والوقوف فوقها ، وهو ما ورد أيضاً في روايات أهل السنّة .وفي مثل هذه الظروف أوقف الرسول(صلى الله عليه وآله)أميرالمؤمنين(عليه السلام) ورفع يده أمام الأشهاد قائلاً : «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ; اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه» .وهناك كلام بالطبع ورد في خطبته(صلى الله عليه وآله) قبل وبعد هذه الجمل ، ولكن أكثره أهمية هو ذلك القسم الذي يصرّح فيه الرسول(صلى الله عليه وآله) بقضية الولاية ـ أي الحاكمية الإسلامية ـ وينصّب فيه أميرالمؤمنين إماماً للمسلمين بصورة رسمية وصريحة .ولا شكّ في أنكم قد سمعتم سلفاً بهذا الكلام الذي قلته أنا الآن، كما أن إخوتنا من أهل السنّة قد نقلوه في العشرات من كتبهم المعتبرة ، وهو الذي جمعه المرحوم العلاّمة الأميني في كتابه ، وصنّفه الكثيرون أيضاً في العديد من مؤلفاتهم .وعلى هذا فإن هذا اليوم هو يوم الولاية أولاً ، وثانياً هو يوم ولاية أميرالمؤمنين(عليه السلام) .ما معنى الولاية ؟
فما معنى الولاية في هذه الجملة التي أطلقها الرسول(صلى الله عليه وآله) ؟إنّ معناها باختصار هو : أنّ الإسلام لا ينحصر في الصلاة والصيام والزكاة والأعمال الفردية والعبادات ، بل إن له نظاماً سياسياً وحكومة قائمة على أحكام الشريعة الإسلامية ، فالحكومة هي الولاية في العرف والاصطلاح الإسلامي .فكيف هو شكل حكومة الولاية ؟ إن الولاية هي تلك الحكومة التي يرتبط فيها الحاكم مع أبناء الشعب بأواصر الحب والعاطفة والفكر والعقيدة .وأما الحكومة التي تفرض نفسها بالقوة ، والتي يأتي بها انقلاب ، والتي لا يؤمن فيها الحاكم بعقيدة شعبه ، ولا يقيم فيها وزناً لأفكاره ومشاعره ، والتي يتمتع فيها الحاكم بإمكانات خاصّة ومزايا معينة حتى في عرف الشعب ـ كما هو شأن حكومات العالم اليوم ـ ويجد فيها فرصته لإشباع نزواته الدنيوية ، فإنّها حكومات لا تمتّ إلى معنى «الولاية» بشيء ; لأن الولاية تعني تلك الحكومة التي تجمع بين الراعي والرعيّة بالروابط الفكرية والعقائدية والعاطفية والإنسانية والقلبية ، ويتعاطف فيها الناس مع الحاكم ، ويحبونه ويعتبرونه محور كل هذا النظام السياسي ، ويعدّون عمله تكليفاً إلهيّاً وينظرون إليه كعبد من عباد اللّه .فالاستكبار لا وجود له في «الولاية» ، والحكومة التي يراها الإسلام هي أسمى ديمقراطية وشعبيّةً من كل ديمقراطيات العالم ، ولها عُلقة مع أفكار ومشاعر وعقائد ومتطلبات الشعوب الفكرية ، وهي الحكومة التي في خدمة الشعب .لا ينبغي أن تكون الحكومة مطمعاً ماديّاً بالنسبة للحاكم أو الولي أو المؤسسات الحكومية ، فهذا يخرجها عن الولاية ; وإذا جعل الحاكم الإسلامي منصبه وسيلةً لتحقيق مآربه المادية وطريقاً للتحكّم والتعالي والوصول إلى سدّة الحكم ; فإنّه لن يكون وليّاً عندئذ ، ولن تكون حكومته حكومة ولائية .إن ولي الأمر في الحكومة الإسلامية ـ أي ذلك الشخص الذي يُوكل إليه أمر إدارة النظام السياسي ـ لا يفترق عن باقي أفراد الشعب من الناحية القانونية ، ومع أنه يمتلك حقّ القيام بالكثير من الاُمور الكبرى من أجل الشعب والبلاد والإسلام والمسلمين ، إلاّ أنه لا يعلو على القانون .لقد حرّف البعض معنى الولاية منذ اليوم الأول وحتى الآن ، ولا سيّما بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية ، وأعطوا لها تعريفاً مغايراً وكاذباً ، فقالوا بأنها تعني الحجر على الناس ، لأنهم يحتاجون إلى وليّ وقيّم ، وقد صرحت بهذه الأقوال شخصيات بارزة ومشهورة فيما يصدرونه من كتب وصحافة، وكل هذا لا يعدو أن يكون كذباً محضاً واتّهاماً للإسلام والولاية .لقد طرح الرسول(صلى الله عليه وآله) قضية الولاية بصورة رسميّة في الغدير ونصّب أمير المؤمنين بصفته مصداقاً لها ، ولا شكّ في أنّ ثمة الكثير من التفصيلات التي تعرفونها ; فإذا كان هناك من لم يطّلع عليها ـ ولا سيما من الشباب ـ فيجدر به أن يتابعها في المؤلفات والكتب الاستدلالية والعلمية وهي كثيرة ومفيدة .
الغدير روح الوحدة :
إن قضية الغدير بوسعها أن تكون روح الوحدة ، وقد كتب المرحوم آية اللّه الشهيد المطهري مقالاً حول ذلك بعنوان «الغدير والوحدة الإسلامية» ، حيث اعتبر كتاب الغدير ـ الذي يعالج قضايا الغدير ـ أحد محاور الوحدة الإسلامية ، وهو رأي صائب .ومن الممكن أن يكون ذلك أمراً عجيباً ، ولكن هذه هي الحقيقة . لقد طرح أصل قضية الولاية التي لا خلاف فيها بين شيعي وسنّي في حادثة الغدير ، وبغض النظر عن الجانب الاعتقادي لدى الشيعة من تنصيب الرسول لأمير المؤمنين كما هو واضح في حديث الغدير ، فلو رفع مسلمو العالم وشعوب الدول الإسلامية شعار الولاية الإسلامية اليوم; لانفتحت شتّى المغاليق وحُلّت كافة المعضلات التي تعاني منها الاُمة الإسلامية ووجدت مشكلات العالم الإسلامي طريقها إلى الحلّ .إن قضية الحكومة والنظام السياسي والحاكمية السياسية لمن أعقد قضايا العالم ; فبعض الدول تعاني من الاستبداد والدكتاتورية ، وبعضها تعاني من الحكومات الفاسدة ، بينما يعاني البعض الآخر من الحكومات الضعيفة ، والبعض من الحكومات العميلة ; فلو طرحت الحكومة الإسلامية بمعناها الحقيقي ـ أي الولاية ـ وباتت شعاراً للمسلمين ، فإنّها ستكون دواءً لشتّى أنواع الضعف والاقتصاد والعمالة وكذلك الدكتاتورية . وعلى هذا فإنّ لواء الولاية هو لواء إسلامي .إنني أدعو كافة إخوتنا المواطنين من الشيعة والسنّة ـ على مستوى بلدنا هذا في الوقت الحاضر ـ لأن ينظروا إلى قضية الغدير من هذه الزاوية وأن يولوا اهتماماً لهذا القسم من حديث وقضية الغدير ، كما أرجو أن يحتفل إخوتنا من أهل السنّة بعيد الغدير أيضاً ـ عيد الولاية ـ لأن أصل نشوء قضية الولاية من الأهمية بمكان ، كأهمية ولاية أميرالمؤمنين ، وهو من القواسم المشتركة بيننا وبين الإخوة من أهل السنّة .لقد كان رأيي دائماً ، سواء قبل انتصار الثورة أو بعدها ، هو أنّ على الشيعة والسنّة اليوم الترفّع عن خلافاتهم التقليدية في معاملاتهم اليومية ، وأن يكفّوا عن النزاع والتحارب ، ويجتمعوا حول قواسمهم المشتركة والتي من بينها الولاية ، ومازال هذا هو رأيي حتى الآن .إن ثمّة محاولات متزايدة تبذل في العالم اليوم لشقّ صف الشيعة والسنّة ، وهو ما سيجني الاستكبار ثماره كما يعلم ذوو البصائر والفكر ; إنهم يهدفون إلى إبعاد إيران عن اُسرة الدول الإسلامية وأن يحصروا الثورة الإسلامية داخل الحدود الإيرانية ، ويمهّدوا السبيل أمام الدول الإسلامية لممارسة الضغوط على إيران ويحولوا دون تأسّي الشعوب الأخرى بالشعب الإيراني .فعلينا أن نكون على خلاف ما يطمحون ; إنّ على كل واحد ـ سنيّاً كان أو شيعيّاً ـ أن يعمل على تمتين عُرى المحبة وتوثيق أواصر الصداقة بين الشيعة والسنّة ، وبهذا يكون قد قدّم خدمة للثورة والإسلام وأهداف الاُمة الإسلامية .وأمّا الذي يعمل على زرع الفرقة بينهم فسيكون على تضادّ تامّ مع هذه الحركة .إنني على علم بأنّهم في بعض الدول الإسلامية ـ التي لا أرغب في التصريح باسمها ـ يتلقّون الأموال من الصناديق المؤسسة لخدمة أهداف وأطماع الأجانب ، وينفقونها على إصدار الكتب التي تنال من الشيعة ومذهبهم وتاريخهم ، ثم يوزعونها في شتى أقطار العالم الإسلامي ; فهل هؤلاء يحبون السنّة ؟! كلاّ ، بل إنهم يريدون القضاء على الشيعة والسنّة كليهما ، فهم لا يحبون الشيعة ولا السنّة .ونظراً لأن مجموعة من الشيعة هم الذين أقاموا الحكومة الإسلامية ويرفعون راية الإسلام في إيران ، ولأن الجميع يعرفون التشيّع عن الشعب الإيراني ، فإنّ الأعداء يفرغون ما في صدورهم من غلّ على الثورة ، ويلقون به أيضاً على رأس الشيعة ! إنّهم يحاربون الشيعة حتى يحولوا دون انتشار الحاكمية السياسية الإسلامية ، ورفرفة هذا اللواء الخافق بالعزة والفخر على أيّ مكان آخر ، ولكيلا يكون ذلك مطمحاً لشباب البلدان الأخرى .فعلى الجميع أن يتوخّوا الحذر من معاضدة الأعداء في هذه الممارسات الخيانية ، وإن على الجميع في هذا البلد أو في المحافل الإسلامية أو في التجمعات الشيعية أو إخوتنا من أهل السنّة في بلادنا أن يبتعدوا عن كلّ ما يساعد الاستكبار على دقّ إسفين التخاصم والعداء بيننا .وبالطبع فإنّنا لا نعني بذلك أن يصبح الشيعة سنّة ولا أن يتحوّل السنّة إلى شيعة ، ولا نريد أن ندفع الشيعة والسنّة إلى التخلّي عمّا لديهم من طاقات وإمكانيات علمية لترسيخ آرائهم العقائدية ، بل إن النشاط العلمي هو أمر جيّد ولا غضاضة فيه ، فليصدروا المؤلفات العلمية ، ولكن في نطاق الأجواء العلمية دون سواها وبلا تجريح ولا إساءة .وعلى هذا فإنّنا لا ينبغي لنا أن نقف بوجه من يستطيع إثبات رأيه ، إلاّ أنّه كل من يبتغي إيجاد الصدع بقوله أو بعمله أو بشتى الوسائل الأخرى; فإنّنا نعتقد بأنّ هذا يصبّ في صالح الأعداء . فعلى السنّة والشيعة معاً أن يأخذوا حذرهم ، وهذا هو ما تشتمل عليه أيضاً «الوحدة الوطنية» التي تحدثنا عنها .وفي الواقع فإنّني أريد أن أنبّه هنا إلى أنّ البعض يعتبرون الوحدة الوطنية شعاراً سياسيّاً لا دينيّاً في محاولة للمساس بها .ولقد نصحنا هؤلاء ، وها نحن اليوم نقدّم إليهم النصح أيضاً بأن لا يكونوا سبباً في تقويض دعائم وحدة هذا الشعب العظيم والمتآلف ، لأن تمزيق نسيج هذا الشعب الكبير لا يكون إلاّ خدمة لأعدائه، فلو حافظ هذا الشعب العظيم الواعي على الوحدة الوطنية في هذا البلد ; فإنّ هذا سيكون عوناً على وحدة شعوب أخرى .إنّ الاُمة الإسلامية ذات المليار والنصف مسلم لو اتحدت في قضاياها الأساسية ; لوجدنا أن هناك قوّة عظمى خرجت إلى حيّز الوجود ، ولكن إذا ما وقع المساس بالوحدة الوطنية فلا جدوى حينئذ للحديث حول وحدة العالم الإسلامي ، لأنه سيكون مدعاة لسخرية الجميع ، وهو ما يريد البعض تحقيقه .
كيف يمكن توفير الوحدة الوطنية ؟
فكيف يمكن إذاً توفير الوحدة الوطنية ؟ إن أحد السبل إلى ذلك هو أن يلتزم أصحاب الكلمة المسموعة في الأوساط الشعبية أو المسؤولون أو الشخصيات الدينية والعلمائية والسياسية بعدم الإيقاع في تصريحاتهم بين مجموعة وأخرى أو جناح شعبي وآخر ، وألاّ يثيروا الفتن .وفي الواقع فإنّ إثارة الفتن وتبغيض أبناء الشعب بعضهم لبعض; يعتبر إحدى فقرات مشروع ، يعكف الأعداء على تنفيذه ضد هذا الشعب . فهذه الإذاعات الأجنبية وتلك المراكز الخبرية يمكن أن يقال بأنّ نصف ما تبثّه من أقوال قد اُعدّ لها سلفاً ; بغية زرع بذور البغضاء وتكدير الصفو بين فئات الشعب، آخذين في اعتبارهم ماسيسفر عنه ذلك من عواقب .فعلى أصحاب الإعلام والأقلام أن يحذروا في الدرجة الأولى من أن تسيء أقوالهم ظنونا هذا على ذاك، أو أن يوقعوا بين أبناء الشعب ، أو يحفروا هوّة بين الشعب والمسؤولين ، لأن هذا هو لون آخر من ألوان إشعال فتيل الفتنة .إنّ البعض لا همّ لهم سوى نشر الشائعات أو اصطناع الأخبار أو تزييفها وتحريفها والتلاعب بحقيقتها، من أجل تضليل المخاطب ، بغية إساءة ظن الجماهير والشباب والقرّاء والمستمعين بمسؤولي الحكومة، وطمعاً في زرع الشكّ في نفوسهم ، وهذا لا فائدة له سوى إبطاء حركة تقدّم الشعب والبلاد ، وتشاؤم الجماهير ويأسها من المستقبل ، وإطفاء شعلة الأمل المتوهجّة في صدور أبناء الشعب.إن البعض يحاولون دفع الجماهير إلى إساءة الظن بالحكومة قاطبةً أو ببعض المسؤولين ، في حين أنّهم لو كانوا على حقّ ، لعملوا على إيصال توجيهاتهم بشكل أو بآخر إلى المسؤولين على اختلاف درجاتهم، ولكانت النتائج أفضل .إنه لو وقعت حادثة أو حدث اغتيال أو اُرتكبت جريمة ; لوجدنا أولئك الذين لا يشعرون بأدنى قدر من المسؤولية يطلقون الكثير من الكلام الفارغ والواهم والمحيّر بالنسبة للمتلقي . وإن الذين على علم بالحقيقة يعرفون أن أولئك كم هم بعيدون عن الواقع ، أو أنهم يتغافلون عامدين عن الحقيقة ، وهو ما يسيء إلى الوحدة الوطنية . ولهذا فإنّ الوحدة الوطنية أحد أبرز مطالب الشعوب .إن شعباً يقتحم ساحة الاقتصاد مسلحاً بوحدة الكلمة لجدير بالتقدم ، وحتى لو شنّوا عليه حرباً لاستمرّ في تقدمه .إنّه من الممكن الحفاظ على كرامة الشعب أكثر فأكثر عن طريق الوحدة الوطنية ; وإن الشعوب بوسعها تحقيق كافّة آمالها العظمى في ظلّ الوحدة الوطنية ، وأمّا الخلافات وتفرّق الكلمة وتعكير صفو النفوس والزجّ بالأجنحة والتجمعات والأفراد والشخصيات إلى ساحة المواجهة بعضها مع بعض; فلا يمكن أن يعود بأيّة فائدة .ولهذا فإنّ الوحدة الوطنية أصل نأمل من الجميع الحفاظ عليه ، وهو ما ننشده في المسؤولين ذوي الاحتكاك مع الرأي الشعبي العام .
مقولة «الأمن القومي» :
وأمّا المقولة الثانية فهي مقولة «الأمن القومي» ، وهذا ما يحظى بالأهمية القصوى . وبالطبع فإن الأمن القومي يشمل الأمن الداخلي وكذلك الأمن الخارجي ، فالأمن الخارجي يعني تلك المنطقة التي لا يمكن تهديد البلاد عن طريقها بوسيلة القوى الأجنبية خارج الحدود ، أو أن تهاجم القوى العسكرية حدود أحد البلدان ـ كما يحدث في الحروب ـ أو شنّ الهجوم السياسي أو الإعلامي على بلد ما ممّا يسفر بدوره عن القلاقل والاضطرابات ، وهو ما يلاحظ كثيراً بالنسبة لبعض البلدان ، ويترتب عليه العديد من المشاكل .وأما الأمن الداخلي فهو حركة واسعة من الجهود التي لو توفّر على بذلها كافّة المسؤولين المعنيين ; لنجحوا في تحقيق هذا الرجاء العظيم ، لأنّ الأمن ليس بالأمر اليسير .وكما قلت في مستهل هذا العام ، فإنّه إذا لم يتحقق الأمن لتوقفت عجلة الاقتصاد ، وإنه إذا لم يتحقق الأمن لانعدمت العدالة الاجتماعية ، وإذا لم يتحقق الأمن ; لزال العلم وتوقف التقدم العلمي ، وإذا لم يتحقق الأمن ; لتفسّخت تدريجاً كافّة أجزاء البلاد . ولهذا فإنّ الأمن قاعدة وأساس .
نماذج من الإخلال بالأمن والاستقرار :
وفي الحقيقة فإنّ للأمنِ نماذج تختلف من حيث الأهمية ; فانعدام الأمن أو الاستقرار الذي يمكن أن يعاني منه كافة أفراد المجتمع في حياتهم اليومية أو يسمعوا به من الآخرين ، فهو أمر وإن كان حائزاً على الأهمية ، إلاّ أنّه لا يهدد كثيراً بالخطر ، وذلك كحوادث السرقة مثلاً ، والتي ينبغي التغلّب عليها بواسطة جهاز الشرطة والضرب عليها بيد من حديد .وثمّة مثال آخر لانعدام الأمن كتقويض بعض الأشخاص لدعائم الأمن العائلي ; من أجل نزواتهم القذرة والوضيعة ، إلاّ أنه ليس نموذجاً من الدرجة الأولى .كما أنّ بثّ الرعب والقلق من قبل الأشرار والأوباش والأراذل المستهترين ، هو نموذج آخر لإنعدام الأمن . فلدينا تقريرات عمّا يقع في العالم من حولنا ، وهو ممّا شاهده أو سمعه بعض منكم في مكان ما ، حيث يعمد بعض الأشرار الخارجين عن القانون إلى التعرّض لأعراض وشرف الناس في الأزقّة والأحياء ، وهو ما تقع مسؤولية أيضاً على عاتق جهاز الشرطة والسلطة القضائية ، من حيث ردعهم وإيقاع العقاب بهم ، حتى لا يظنّ بعض المتسكّعين والمتنطّعين بأنّ لهم الحقّ في ارتكاب ما يحلو لهم من حماقة وأخطاء ، ثمّ لا يكون جزاؤهم سوى النوم بضع ليال في أحد السجون .لقد أعدّ الإسلام أقسى العقوبات لاولئك المثيرين للمخاوف ، والباعثين على الرعب والوحشة داخل الأجواء الاجتماعية . فلو طبق الحكم الإلهي على مثل هؤلاء وسواهم من اللصوص ـ ولا سيّما المحترفين منهم لهذه الممارسات ـ لكان لذلك أكبر الأثر بالتأكيد .فليدعوا جانباً بعض المجاملات العالمية والموجات الدعائيّة حتى يعرفوا ما هو حكم اللّه . لقد وضع الحكم الإلهي كلّ شيء في مكانه المناسب وبالقسطاس المستقيم .إن انعدام الأمن الاقتصادي يمثل جزءاً آخر من انعدام الأمن ; فالذين يسببون الاضطراب وعدم الاستقرار للأجواء الاقتصادية مستغلّين ذوي الدخل المحدود ، يقومون بذلك عن طريق الممارسات غير القانونية والتحاليل ، فيبددون بذلك أموال الطبقات المعوزة وطاقات الشعب ويصادرونها لصالحهم .وأسوأ من هؤلاء جميعاً أولئك الذين يصادرون لصالحهم ثروات الحكومة والوطن بواسطة أعمال الاحتيال ، أو خرق القوانين والالتفاف عليها أو التهرّب من القانون ، وهم لا يتورعون عن شتّى وسائل الاستغلال الشخصي ; فهؤلاء يقفون خلف عدم الاستقرار والأمن الاقتصادي .إنكم ترون أنّ التحايل والتهرّب من القانون هو أحد الأسباب التي تقف وراء الاقتصاد المريض والمتردي في أيّ بلد ، والتي يستغلّها البعض، للحصول على الثراء الفاحش والاستيلاء على ثروات الشعب والحكومة .إلاّ أن الأخطر من الاضطراب الاقتصادي هو الاضطراب الاجتماعي، فهو الذي يمسّ الأمن القومي أكثر من سواه ، ولذلك فإنّهم يلجأون إلى تأزيم أوضاع العمل وتوتير الأجواء العلمية والطلابية .وكما ذكرت قبلاً فإنّ أحد المسؤولين الأميركيين صرّح منذ حوالي شهر بأنّ الفوضى ستعمّ شتى أنحاء إيران ، ممّا يدل على أنهم عاكفون على تنفيذ خطة بهذا الصدد ، وهو ما يوجب على أبناء الشعب الحيطة والحذر ، فضلاً عمّن يتعرضون مباشرة وأكثر من غيرهم لمثل هذه المؤامرات .وهذا ليس جديداً ; فلقد ظلّ الأعداء يبذلون جهودهم المتواصلة منذ بداية الثورة وحتى الآن في هذا الاتجاه . إنّهم يؤزّمون أجواء العمل ويفتعلون الاضرابات لشلّ القوى العاملة وتعطيلها عن أداء دورها البنّاء في البلاد ، ومع أنّهم لم يحصدوا سوى الفشل حتى الآن إلاّ أنّهم مازالوا يخططون . كما أنهم يثيرون القلاقل والاضطرابات في الجامعات ، وقد جرّبوا هذه الطريقة مرّة أو مرّتين ولكنّهم تلقّوا صفعة من الطلبة ، وارتدّوا خائبين . وربما يكون الأعداء قد أفلحوا أحياناً في تنفيذ مخططهم هذا . إنّهم لا يكفّون عن السعي في تأزيم الأجواء الجامعية والطلابية وإثارة الاضطرابات تحت شعار التظاهرات وسواها ، فيعطّلون الدروس ويُلجئون الاستاذ والطالب كليهما إلى البطالة . إن الجميع يلاحظون أنّ طلبتنا اليوم آخذون في الكشف عن مواهبهم الخلاّقة ، وإنّنا لنجد بين الطلبة أموراً مبهرة تبعث على الأمل حقيقة ، وتبشّر بمستقبل واعد ووضّاء .ولهذا فإنّ إحدى خطط الأعداء إثارة الاضطرابات في الجامعات ليحولوا دون التعلّم وتلقي الدروس والتوجّه إلى المختبرات .كما أنهم يثيرون الشغب في الشوارع والمدن ، كما حدث في طهران يومي الحادي والعشرين والثاني والعشرين من شهر تير في العام المنصرم ، فبثوا الرعب في المدينة وهدّدوا بالخطر حياة الناس من شيب وشبان وأطفال ونساء ، وكذلك حياة المارّة ، وحتى الجالسين في منازلهم وغرفهم ، فلماذا ؟! لأن شرذمة رأت أن تنزل إلى الشوارع في حركة هوجاء وعنيفة وتقوم بأعمال الشغب ، فتحرق السيارات وتهشّم زجاج المباني متذرعةً بالحجج الواهية .فمن الذي يُعطي الحق لأحد في أيّ من البلدان لمداهمة الناس في منازلهم ـ فهذا ليس محلاّ للغرباء ـ وبثّ الخوف والوحشة في نفوسهم ؟!ومن البديهي فإنّ قوات الأمن والشرطة والمتطوعين لا تقف مكتوفة الأيدي حيال مثل هذه الممارسات .ولكن من الذي ينبغي عليه توخّي الحذر في مواجهة مثل هذه التصرفات المثيرة للاضطراب ؟! إنّه الشعب نفسه وإنهم الشباب والعمال والموظفون وكذلك الطلبة أنفسهم ، أي أولئك الذين تستهدفهم مثل هذه المؤامرة ، وتُبيَّت لهم النوايا السيئة فعليهم جميعاً بأخذ حذرهم، وليردعوا كلّ من تسوّل له نفسه خلق الإثارات ، وليعلموا أنّه إنّما يتحدث بلسان الأعداء ، وأنّ صوته هو صوت الأعداء ، كما خبروا ذلك في التجارب السابقة .إن مهمة إقرار الأمن تقع على عاتق الأجهزة المعنية ، كوزارة الأمن، ووزارة الداخلية ، وقوات الشرطة ، والمؤسسة القضائية ، وذلك فضلاً عن وعي الشعب .إن هذا هو أهم ما يريده الشعب من الحكومة ، كما أن هذا هو ما أطالب به الأجهزة المختصّة .فعلى الجميع توخّي الحيطة والحذر ، وعليهم التعامل بوعي مع الأحداث ، ولا ينبغي لنا أن نطلق العنان للعدو ليفعل ما يحلو له .
وماذا يجدي الاعتراف ؟
إن هذا الأمن الداخلي قد يمتدّ أحياناً إلى الأمن الخارجي ، كممارسة الإثارات ; فمنذ بضعة أيام جاءت بعض التصريحات على لسان أحد الوزراء الأميركيين ، حيث اعترف الأميركيون الآن وبعد حوالي نصف قرن أنهم هم الذين دبّروا انقلاب الثامن والعشرين من شهر مرداد ; لقد مر نحو سبع وأربعين سنة ، ولكنهم يعترفون الآن بأنهم كانوا يساندون حكومة الشاه القمعية والنظام البهلوي الدكتاتوري الفاسد ، وأنهم كانوا وراء انقلاب الثامن والعشرين من مرداد ، وأنهم ظلّوا يدعمون حكومة الشاه الدكتاتورية والقمعية والفاسدة والوضعية ، طوال خمسة وعشرين عاماً .كما أنهم اعترفوا الآن فقط بأنهم ساندوا صدام حسين في حربه ضد إيران .فما الذي يشعر به الشعب الإيراني المظلوم ـ في رأيكم ـ إزاء هذا الموقف وهذه الاعترافات ؟!لقد فرض علينا النظام العراقي الحرب لمدة ثماني سنوات ; فقصف المدن ، وقضى على المصادر الحيوية، وقتل الشباب ، وبدّد آلاف المليارات من ثروتنا الوطنية ، وأضاع الكثير من الفرص علينا ، وارتكب جريمة تاريخية كبرى .لقد كنّا نقول دائماً في تلك الأيام إن الأميركيين يدعمون صدام حسين، ولَكَم كررنا ذلك في زمن الحرب ، وشدّدنا على هذا القول ، ولكنهم كانوا ينكرون ويقولون بأنهم على الحياد ! وبعد مضي اثني عشر عاماً على انتهاء الحرب ; جاءت هذه الوزيرة الأميركية لتعترف بصراحة في أحد المراكز بأنهم قدموا الدعم لصدام حسين .والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : ما جدوى اعترافاتكم هذه ؟ !
والآن وبعد أن تحكّم محمد رضا بهلوي الظالم والمجرم والفاسد في رقاب هذا الشعب ، على طوال خمسة وعشرين عاماً ، ومددتم له يد العون في قمع هذا الشعب ، جئتم الآن لتقرّوا معترفين بأنكم كنتم وراء ذلك ، فماذا يجدينا هذا الاعتراف ؟!إن الأمر كما يقتل شخص ابناً عزيزاً لشخص آخر ، ثم يأتي ليقدّم له الاعتذار ! إنهم لم يعتذروا ، ولم يطلبوا العفو الآن ، بل إنهم يعترفون وحسب !لقد دبّرتم انقلاب الثامن والعشرين من مرداد ، ثم أوقعتم هذا البلد نهباً للظلم والفساد على طوال سنوات متمادية ، ثم جئتم لتقولوا نعم لقد فعلنا ذلك ! فماذا يجدينا الآن اعترافكم هذا ؟!إنني أقول منذ الآن بأنّه ربما أتى وزير أميركي آخر بعد عشرين أو خمسة وعشرين عاماً أخرى ليعترف بأنهم دبّروا مؤامرة ضد إيران في هذه الأيام ، أي في زماننا الحالي ، وأنهم قاموا بهذه الحركة ، وأنهم ارتكبوا تلك الجريمة ، وأنهم دعموا أعداءنا في الداخل ، وأنهم نظّموا ضدنا صفوف المعارضة ، وما عدا ذلك ; فماذا تجدي هذه الاعترافات للشعب الإيراني بعد سنوات من ارتكابكم للجرائم والمظالم التي مازلتم ترتكبونها حتى الآن ؟!إنكم تكيلون بمكيالين في تصريحاتكم ; فتقولون بأن إيران تمتلك شعباً عظيماً وحضارة عتيدة ، فهل يكفي هذا لكي ينسى هذا الشعب كل هذه الممارسات الخيانية والعدائية والوحشية ؟!أتحسبون أنكم تخدعون طفلاً ؟ ! إنّ هذا الشعب شعب عريق ، وهو يعرف ذلك جيداً ، ويدري أنه يمتلك تراثاً حضاريّاً عظيماً . وإننا ندري قبلكم بأن موقعنا الجغرافي موقع مهم واستراتيجي جدّاً ، فهل أتعبتم أنفسكم ولم تفهموا ذلك سوى الآن فقط ؟ !إن هذا هو الموقف الذي لا يريد أن يتعامل مع الشعوب إلاّ من موقع الاستكبار والتسلّط والسيادة .إن عيب أميركا الكبير ـ والذي هو عيب البشرية في هذا العصر ـ هو أنّها تريد التعامل مع شعوب العالم من موقع التعالي والغطرسة والسيادة والتملّك ، فهي تتعامل في سياستها الخارجية من موقع الاستعلاء ، فلماذا كل هذه العنجهية ؟ ! أمن أجل هدف ما ؟ ! كلاّ ، إنها لا تعدو مصالحهم! وإنهم لا يتبجّحون إلاّ من أجل الحفاظ على مصالحهم .وقد يخضع بلد ما أو شعب ما لمثل هذه الغطرسة لسبب أو لآخر ، ولكن الشعب الإيراني إذا لم يخضع مسؤولوه لإرادتكم فإنّهم لا يقعون تحت طائلتكم .إنكم لا تمتلكون عليهم نقطة ضعف أو حجّة ، وهم لم يرتكبوا ما من شأنه إخافتكم لهم بكشف القناع عنه ، وثمّة علائق بينهم وبين شعبهم ، كما أن الشعب الإيراني أيضاً هو شعب قد خبر العزة والإسلام والثبات على العقيدة والحياة بإيمان راسخ ، وهو قد جرّب الاستقلال ، فهل يكون هذا الشعب قد ارتكب جرماً إذا لم يخضع لإرادتكم ؟ ! وإذا رفض شعب ما غطرستكم وقال إننا لا نخضع أساساً للاستكبار والتسلّط ، وثبت على مثل هذا الموقف الصريح ، فما هي حيلتكم للقضاء على هذا الشعب ؟ وأنّى لكم ذلك ؟ !
كذبة تبعث على الضحك ! :
إن القوى الكبرى دأبت على الإصرار بالتظاهر بأنها تستطيع أن تفعل كل ما تصبو إليه في هذا العالم، وقد يحدث هذا في مكان ما ، فلماذا ؟! لأن حكام تلك البلدان عملاء وضعفاء .إن القوى العظمى تزعم كاذبة أن بوسعها أن تفعل ما تشاء ; فالشعب الإيراني والحكومة الإسلامية وعلى امتداد عشرين عاماً من الثبات والتقدم ، ورغم إرادة وأنف أميركا ، قد أثبتوا أنه لا أميركا ولا أيّة قوة كبرى أخرى ولا حتى كافة القوى العظمى مجتمعة ستستطيع أن ترتكب حماقة في مواجهة شعب متيقّظ وباسل يعرف حقّه ويدافع عنه .إننا نقول بأن الإدارة الأميركية التي تعترف الآن بأنها ساندت الدكتاتورية على مدى خمسة وعشرين عاماً مازالت تساند تلك الدكتاتورية أيضاً ، ولكنها مساندة إعلامية ومؤذية ! لقد ذهب أولئك إلى الجحيم ولم يعودوا بيننا اليوم ، إلاّ أن أذنابهم وأذيالهم يعيشون تحت مظلّة الحماية الأميركية وهم يتمتعون بدعم الإدارة الأميركية حيثما كانوا ، حتى لو كانوا هنا أو هناك في بلادنا .فهذه الوزيرة الأميركية تطري وتشيد كاذبة بنظام الشاه في حديثها حتى الآن ، وتقول بأنه كان دكتاتورياً وسيئاً إلاّ أنه جعل الاقتصاد الإيراني مزدهراً !إن هذه أكبر كذبة تبعث على الضحك يتفوّه بها وزير خارجية في الظروف الراهنة ! فهل أولئك هم الذين جعلوا الاقتصاد الإيراني مزدهراً ؟ فليعلم الشباب بصفة خاصّة ـ لأن الكبار لمسوا حقائق تلك الفترة عن قرب ـ أن النظام البهلوي ارتكب خيانة عظمى لا بحقّ الاقتصاد الإيراني فحسب ، بل وحتى في حقّ الاُسس والقواعد الاقتصادية ، وهو ما ظل أثره باقياً على مدى سنوات فيما بعد !لقد حوّل إيران إلى مخازن للصادرات الغربية الرخيصة والتافهة، وجعلها سوقاً رائجة للبضائع الوفيرة وعديمة الفائدة ، مع ارتفاع أسعارها . كما قضى على الثروة الزراعية لهذا البلد الذي كان قد بلغ يوماً مرحلة الاكتفاء الذاتي ، ورغم مرور السنوات فإنّ زراعتنا لم تعد حتى الآن إلى ما كانت عليه في حالتها الأولى ، وذلك لأن تيار الهجرة الذي تدافع على المدن بتشجيع منهم لم يكن بالأمر الذي يمكن إيقافه بسهولة ويسر ; وبذلك جعلوا الشعب يعتمد على الأجنبي في زراعته .لقد كانت إيران في الحقبة الغابرة تستورد القمح من أميركا بينما كان الاتحاد السوفيتي يقوم ببناء مخازن الغلال ! أي التبعية للأجانب من حيث المحصول ومن حيث تخزينه .كما أنهم خرّبوا القرى يومذاك وأوقفوا تقدم صناعتنا الوطنية ، في الوقت الذي كان قد حان فيه أوان تطورها ، أي أن ما كان ينبغي من تطور للصناعة لم يتحقق ، وذلك حتى يظل الباب مفتوحاً أمام الواردات .لقد قضوا على الصناعات الوطنية الناشطة ، ولم يبقوا إلاّ على ما كان مرتبطاً بالخارج بقدر المنتوجات وربما أكثر .ثم إنهم أوقفوا المسيرة العلمية ، فمع كل هذه الدعايات التي أثاروها حول الجامعات والطلبة لم تحظَ جامعات البلاد إلاّ بالقليل من النشاطات العلمية على المستوى العلمي ، فكانوا يقمعون ذوي العقول النيّرة والكفاءات العالية الذين يريدون العمل داخل البلاد ، أو يضطرونهم إلى العمل في الخارج .لقد فرضوا سيطرة الشركات الأجنبية على أغلب المصادر الاقتصادية للبلاد وبدّدوا الفائضات النفطية بلا مقابل .وفي الواقع فإنّ أسعار النفط مازالت منخفضة حتى في الوقت الحاضر ، ولا تحصل الدول المصدّرة للنفط إلاّ على نحو عُشر ما ينبغي لها الحصول عليه .وإنّني أعلمكم الآن بأنّ ما تحصل عليه الدول المستوردة للنفط من ماليات وضرائب يفوق ما تحصل عليه الدول المصدّرة للنفط من مبيعاتها النفطية من أرباح ، وما زال الأمر على هذا المنوال ، سوى أنّه لا يمكن مقارنة اليوم بالأمس .إن قيمة البرميل الواحد من النفط كانت حتى أوائل الخمسينات وعلى مدى أعوام طويلة أقل من دولار واحد ; ومن أجل أن يستطيع الأوربيون والأميركيون تسويق بضائعهم بأسعار عالية فإنهم عمدوا إلى رفع أسعار النفط إلى ثمانية أو تسعة دولارات للبرميل الواحد ، حتى يتمكن هؤلاء من شراء تلك البضائع حيث لم تكن لديهم القدرة الشرائية المطلوبة ، وهكذا كان .لقد كانت الأموال الطائلة تودع في حساب الأميركيين في عصر تسلط الشاه على إيران حتى يستورد بها قطع غيار الطائرات وكافة المتطلبات الأخرى بالسعر الذي تريده أميركا ، ولم يكن ثمّة مجال أصلاً للتصنيع .إن الاقتصاد الإيراني في ذلك الزمن كان أسوأ اقتصاد بالنسبة للشعب الإيراني ، ولكنه كان على العكس من ذلك للناهبين . ثم تأتي تلك الوزيرة اليوم ، وبعد مرور الأعوام الطوال ، ومع كل أبحاث أحصائيي الاقتصاد الذين يعلمون كم من الويلات جرّها نظام الشاه على الاقتصاد الإيراني ، لتقول بأن ذلك النظام عمل على ازدهار الاقتصاد الإيراني ! فما الذي حدا بها لتصرّح بذلك الآن ؟! حتى يتصور الشباب الإيراني الذي قد يعاني من بعض الظروف الاقتصادية اليوم أن الوضع الاقتصادي كان جيّداً في عهد النظام السابق ! فسيادة تلك الوزيرة تطلق هذا التصريح الشيطاني هكذا بكلّ بساطة لتوحي إلى الأذهان بأن الاقتصاد الإيراني كان منتعشاً في السابق .إن تلك الفترة كانت أسوأ فترة بالنسبة للطبقات المحرومة ، وكانت أقسى فترة من حيث سلب ونهب الأجانب للمصادر الطبيعية في إيران ـ وخصوصاً على يد أميركا ـ ولكن تلك السيدة السياسية جاءت الآن لتقول بأن الاقتصاد الإيراني كان مزدهراً !
شعبنا ينظر إلى أميركا بعين العداء :
إن هؤلاء الأعداء الأجانب لا يهدفون بذلك إلاّ إلى زعزعة الأمن وبثّ الخلافات ، وإشاعة الرّيب والشكوك ، فإذا كان الشعب الإيراني والمسؤولون ينظرون بعين العداء لأميركا اليوم ; فإنّ هذا لا يأتي من فراغ . لقد قالوا تعالوا بنا لنزيل حواجز انعدام الثقة ، فهذا ما قالته تلك المسؤولة هناك .وهنا هبّ بعض حملة الأقلام عندنا ـ والذين من الممكن أن يكون بعضهم على ارتباط بتلك المراكز ـ فتلقّفوا هذا الهراء وقاموا فوراً بمتابعة تلك القضية .إن الموضوع ليس موضوع ثقة وعدم ثقة ، وإنّما الموضوع هو أن الشعب الإيراني عندما ينظر إلى ماضيه مع الحكومة الأميركية حتى بداية الثورة ; يجده مشحوناً بالعداء الذي تكنّه له تلك الحكومة ، وهكذا بنار العداء للشعب الإيراني ومصالحه الوطنية وحكومته التي يحبّها .إنّهم مازالوا ينكرون بعض هذا العداء حتى اليوم ، سوى أنّهم يعترفون بالبعض الآخر لقد اعترفوا بمساندة صدام ، وسيعترفون في المستقبل القريب بالتأكيد بالطريقة التي وضعوا بها القنابل الكيميائية في حوزة الحكومة العراقية ، وكلّ ما لدينا من جرحى الحرب الكيميائية ومن المعوقين مردّه إلى ذلك الأمر ، وهكذا ما لحق بنا من أضرار . فالشعب الإيراني ينظر إليهم من خلال كلّ هذه الممارسات ، حيث ما زالت وسائلهم الإعلامية تبثّ دعاياتها ضدّ إيران حتى اليوم ، كما أنّهم حشّدوا طاقاتهم السياسية ضد إيران ، وخصّصوا جزءاً من الميزانية للعداء الأمني وهو ضد إيران ، وها هم يبذلون شتّى مساعيهم في السياسة الخارجية دائماً ضد إيران ; فحيثما نظر الشعب الإيراني ; وجد عدوّاً يترصّده هناك .ولهذا فإنّ شعبنا لا ينظر إلى الحكومة الأميركية من زاوية الثقة أو عدم الثقة ، بل ينظر إليها بعين العداء .إنّ ما يدعون إليه من المحادثات مع إيران ليس هو الآخر سوى تمهيد لتكريس العداء ضدّنا ، فهذه خدعة ثانية . ولا ينبغي للبعض القول : فلنذهب للتباحث مع أميركا لإزالة هذا العداء . كلاّ ، فالعداء الأميركي لا يزول بالتباحث .إن أميركا تبحث عن مصالحها في إيران ، ولو كانت لهم هنا حكومة عميلة كحكومة الشاه ، لوجهوا ضربة أخرى للشعب الإيراني على غرار سابقتها . فإذا كانت الحكومة هنا مستقلّة ; فإنّهم يمارسون العداء كما هو شأنهم الآن .إننا لو قمنا بالمقارنة لوجدنا أن الضرر الذي تلحقه بنا أميركا ـ ونحن مستقلّون ـ أقل كثيراً من ذلك الضرر الذي سنُمنَى به جراء الاستسلام للغطرسة الأميركية .وبهذه النتيجة فإنّ الشعب الإيراني سيقف بعزّته وشجاعته وتضحياته في مواجهة الخدع والمؤامرات ، وفي مواجهة محاولات زعزعة الأمن بالممارسات العدائية ، متّكئاً على قوته الذاتية ، وواثقاً بأنه سيستطيع أن يجعل كافّة أعدائه يندمون على عدائهم له ، وذلك كما حدث مع بعض أعداء الأمس ، الذين ما لبثوا أن طبّعوا علاقاتهم معه ، وإنّ أميركا لن تشذّ عن هذه القاعدة .اللّهم إنّا نسألك وندعوك بحق محمد وآل محمد أن تمنّ على هذا الشعب بالوصول إلى أهدافه الكبرى التي رسمها لنفسه ، وأن تتفضّل عليه بالتوفيق والنصر .اللّهم واهلك أعداء هذا الشعب وأنزل بلاءك على كلّ من يتآمر عليه ويتربّص به الدوائر .. واجعل دفاعه المستميت عن كرامته واستقلاله ودينه وهويته جهاداً يقرّبه إليه .اللّهم واحفظ شبابنا ، وأنِر قلوبهم بنورك ، وعجّل برفع مصائب شعبنا ، وكن عوناً لمسؤوليه ، واقهر بغضبك الخائنين له ، وأرضِ عنّا قلب وليّ العصر أرواحنا فداه ، وارحم إمامنا وأدخل على روحه الطاهرة الفرح والسرور ، واغفر لشهدائنا الأبرار وأرضهم عنّا.إنك سميع الدعاء