دراسات
الزهراء (س) و دور المرأة في المجتمع الصالح
السيد محمد باقر الحكيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله سبحانه و تعالى في محكم كتابه الكريم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهلالبيت و يطهركم تطهيرا)
(1) . يتركز الحديث حول الواجبات و المسؤوليات التي يمكن للمرأة أن تضطلع بها في كل وقت، سواء
من ناحية الظروف التي تحيط بواقعنا الراهن، أو ناحية النصوص القرآنية وتلك التي وردت
في السنّة النبوية المطهرة، و التي يكاد يجمع على مضمونها المسلمون جميعا مع قطع النظر
عن تفاصيل تلك المضامين في هذا النص أو ذاك. في مجمل النصوص الواردة في موضوعنا هذا، نرى أن الإسلام أكد كثيرا على شخصية فاطمة الزهراء
(س) و دورها الكبير في الحياة الإسلامية، فمن خلال آية التطهير مثلت الزهراء (س) المحور
في هذه الآية الكريمة، فهي ابنة رسول الله (ص) و زوجة الإمام علي أمير المؤمنين (ع)،
و أم الحسنين (ع)، و هؤلاء الخمسة هم الذين نزلت فيهم آية التطهير هذه، و أكدها رسول
الله (ص) لأمته في تلاوته (ص) لها مرات عديدة على مسامع صحابته، حين كان يطرق باب فاطمة
الزهراء (س) في رواحه و مجيئه من المسجد أو في ذهابه و إيابه من السفر، أو في المناسبات
المختلفة، كان يطرق (ص) الباب على فاطمة الزهراء و هو يتلو (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا). هذا هو نوع من أنواع التأكيد على شخصية الزهراء (س) المباركة، و كان
الحال في آية المودة
و آية القربى، و سورة الدهر، و آية المباهلة، وغيرها من الآيات التي تتحدث عن أهل بيت
النبي (ص)، نجد فاطمة الزهراء (س) هي المحور لكل هذه المضامين، فعند ما نتحدث عن المودة
في قربى النبي (ص) نجد أن الزهراء (س) هي أقرب الناس إليه (ص)، وهكذا في جميع المناسبات
. و تأتي الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم (ص)، و التي رواها و أثبتها الفريقان
من الشيعة و السنة، تؤكد ذلك بحيث لايضاهيه تأكيد ورد عن الرسول (ص)، إلاّ ما ورد عنه
(ص) في التأكيد على منزلة و دور بعلها علي (ع)، و مكانة ابنيها الحسن و الحسين (ع)،
فنجد رسول الله (ص) يقول : «إن الله ليغضب لغضب الزهراء و يرضى لرضى الزهراء»، و «الزهراء
سيدة نساء العالمين»، «فاطمة مني يرضيني ما أرضاها و يغضبني ما أغضبها»، إلى غير ذلك
مما جاء عن رسول الله (ص) في مقام التأكيد على هذه الشخصية.
تأكيد الرسول (ص) على شخصية الزهراء (س)
هذا الأمر في الحقيقة يثير سؤالاً كبيرا هو : لما ذا قام رسول الله (ص) بهذا القدر الكبيرمن التأكيد على شخصية الزهراء (س)؟. قد يفهم الإنسان منذ البداية سبب التأكيد الوارد من رسول الله (ص) على شخصية الإمام
علي (ع)؛ باعتبار أن عليا (ع) أريد له أن يكون إماما للمسلمين، و أن يأخذ هذا الموقع
المتميّز بين المسلمين في هذه الرسالة الخاتمة رسالة الإسلام، التي امتازت بوجود منصب
الإمامة فيها. و كذلك يفهم تركيز و تأكيد الرسول الأكرم (ص) بخصوص الإمامين الحسن و الحسين (ع)، باعتبارهما
يمثلان امتداد هذه الإمامة، و باعتبار الدور العظيم الذي يمكن أن يقوم به هذا الإمامان
في مستقبل الإسلام، كما قام فعلاً بهذا الدور الإمام الحسن (ع) و الإمام الحسين (ع)،
و هو من الأدوار المتميزة في حركة التاريخ الإسلامي. لكن قد يبدو هذا الأمر غريبا بالنسبة إلى التأكيد بخصوص الزهراء (س)، فهل هذه القصة
هي مجرد تعبير عاطفي أصيل؟ أم كان وراء هذا التأكيد أهداف أخرى مهمة و صالحة؟. السؤال السابق طرحته لنتبين الدور المتميز الذي يراه الإسلام للمرأة في الحياة الإنسانية
و المجتمع الصالح، و أراد النبي (ص) و من قبله القرآن الكريم، في
نصوصه الشريفة من التي
أكدت على شخصية الزهراء (س)، أن يجلي و يوضح هذا الدور في حياة المسلمين و الإنسانية
بصورة عامة؛ لأن المرأة قبل الإسلام و في كل الحضارات السابقة للإسلام، لم يكن لها مثل
هذا الدور المتميز الذي رسمه الإسلام لها، سواء في الحضارات الوضعية المادية، كالحضارة
الرومانية أو الحضارة الفارسية أو اليونانية، وغيرها من الحضارات التي شهدها التاريخ
البشري، أو فيما وصلنا من الرسالات الإلهية الأخرى ايضا، التي لا يبدو فيها هذا الدور
للمرأة بهذه الصورة و هذا الوضوح. القرآن الكريم مثلاً يتحدث عن دور متميز لنساء مهمات في التاريخ الإنساني، من قبيل دور
امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، و دور السيدة مريم بنت عمران (س)، التي تحدث عنها القرآن
الكريم بحديث الاصطفاء و التطهير و الموقع الخاص، ولكن يبقى هذا الحديث فيما عرضه القرآن
حديثا يرتبط بالسلوك الشخصي لمريم (س)، وتكاملاتها المعنوية الروحية، وكذلك في السلوك
الشخصي و الموقف الرسالي ذي الطابع الشخصي لآسية امرأة فرعون. أما الزهراء (س) فإن لوجودها و دورها ـ من خلال نظرة الإسلام و تأكيداته ـ أبعادا أوسع
بكثير من هذا البعد، الذي يمكن أن نراه في شخصية السيدة
مريم (س)، من خلال ما تحدث عنها
القرآن الكريم، أو نراه في شخصية آسية من خلال ما تحدث عنها القرآن كذلك. فالزهراء (س) حينما يصفها النبي (ص) بأنها سيدة نساء العالمين من الأولين و الآخرين،
على ما ورد عنه (ص)، يراد من ذلك إعطاء و تقديم الأبعاد المتعددة في هذه الشخصية، ومن
ثم أعطاء هذه الأدوار المتعددة في شخصية المرأة و حركتها في المجتمع و التاريخ، لأن
الزهراء هي المثال الصالح لذلك. و بصورة مختصرة أشير إلى مجموعة من هذه الأدوار و عناوينها الرئيسية في شخصية الزهراء
(س)، و أترك المجال للتفكير في المقارنة واستنباط الآفاق والتفاصيل، ليُكتشف في هذه
الأبعاد خصوصية الزهراء (س)، التي لا يمكن أن توجد في النساء التي سبقن الزهراء (س)،
ومن ثم معرفة سر كل هذا التأكيد الواسع من قبل رسول الله، وقبله تأكيد القرآن الكريم،
على شخصية الزهراء (س)؛ وذلك لرسم معالم الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها المرأة في الحياة
الإنسانية وفي المجتمع الصالح، من خلال تقديم هذا المثل الصالح، وهذه القدوة والأسوة
الطاهرة، وهذا النموذج الراقي و الكامل للمرأة وأدوارها في المجتمع.
الدور الأول ـ الهوية الإنسانية التكاملية
وهو ما يمكن أن نستنبطه من نصوص القرآن الكريم، و الأحاديث الشريفة التي وردت عن الرسولالأكرم (ص) بخصوص فاطمة الزهراء (س)، وهو جانب الكمال في الهوية الإنسانية. القرآن الكريم و الرسالة الإسلامية أرادا أن يعطيا هذه الصورة وهذا الفهم، حول هوية
المرأة في مضمونها وموقعها في مسيرة الحياة الإنسانية، فالقرآن الكريم و السنة النبوية
الشريفة تؤكدان أن المرأة من حيث هويتها الإنسانية، تحظى وتتصف بهوية كاملة في انسانيتها،
ولا يوجد فيها أي جانب من جوانب النقص في هذه الهوية، بحيث يعيق حركتها الإنسانية التكاملية
. و الله تبارك وتعالى اراد للإنسان في هذه الحياة أن يقوم بواجبات ومسؤوليات كثيرة،
و أعطى لهذا الإنسان حقوقا في هذه الحياة من أجل أن يوصل مسيره إلى الله سبحانه وتعالى
: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)
(2) ، ويبلغ في هذا المسير درجات الكمال الإنساني القريب من الله تعالى. هذه الصورة التي يتحدث عنها القرآن الكريم في هوية الإنسان، وفي شخصية الإنسان وفي مسيرته
واهداف هذه المسيرة، أريد لها أن تكون واضحة في شخصية المرأة كما أنها واضحة في شخصية
الرجل، فكما أن الرجل في هويته الإنسانية وفي شخصيته وواجباته العامة، وفي أهدافه ومواهبه
وإمكاناته للوصول إليها وحقوقه العامة، يتمتع بالهوية الإنسانية الكاملة، كذلك المرأة
فهي تتمتع وتتصف بهذا الجانب، ومن ثم يمكن أن نقول إن المرأة مساوية للرجل في هذه الهوية
. ولقد كان هذا التأكيد البالغ من القرآن الكريم و النبي الأعظم (ص) على شخصية الزهراء
(س)، قد أريد له فيما أريد توضيح هذا الجانب؛ لأن النظرة الجاهلية بكل اشكالها قبل الإسلام،
كانت تعتبر المرأة ناقصة في الهوية و الكمال، وتعيش في ظل الرجل، وتابعة في الهوية الشخصية
له. الإسلام أراد أن يوضح حقيقة من الحقائق الإنسانية ذات العلاقة بالوجود الإنساني، وهذه
الحقيقة هي أن المرأة في إنسانيتها كاملة، كما أن الرجل كامل في هذه الإنسانية، وبذلك
يمكن أن نفسر الحكمة الإلهية ـ و الله سبحانه و تعالى أعلم بذلك ـ أن
تكون ذرية رسول
الله (ص)، مع أنه سيد الأنبياء والمرسلين و خاتمهم، و قد كتب له البقاء و الاستمرار
من خلال ذريته إنسانيا و رساليا، فلم ينقطع في حركته الرسالية عن ذريته كما كتب ذلك
لنوح (ع)، أو عن ذريته كما كتب لعيسى (ع)، حيث لا توجد للسيد المسيح (ع) ذرية يستمر
من خلالها وجوده الإنساني أو الرسالي، وكما هو في النبي موسى (ع)، إذ لا توجد هناك ذرية
لموسى على ما هو معروف يستمر من خلالها في رسالته. أما ابراهيم (ع) فقد تميز عن كثير من الأنبياء الذين سبقوه ولحقوه، بأن الله سبحانه
وتعالى قدّر له أن يستمر في وجوده الإنساني و الرسالي معا من خلال ذريته ، من خلال إسماعيل
(ع) ومن خلال إسحاق (ع)، ثم من بعد إسحاق يعقوب ومن بعد يقعوب يوسف (ع)، وهكذا كما يحدثنا
القرآن الكريم بذلك. أما النبي (ص) فقد أراد الله عزّ وجل له ايضا الاستمرار في وجوده الإنساني، وفي وجوده
الرسالي من خلال ذريته، و قدّر الله تعالى أن تكون هذه الذرية متمثلة في امرأة هي ابنته
الزهراء (س)، وكان يمكن أن يكون الاستمرار لرسول الله (ص) في ذريته من خلال أولاد ذكور،
كما استمر إبراهيم الخليل (ع) في وجوده من خلال هؤلاء الذكور. رسول الله (ص) أريد له أن
يبقى ويستمر من خلال ذريته من الزهراء (س)، وهي قضية تعبر
في الواقع عن أن هذه المرأة في قيمتها الإنسانية قيمة كاملة، يمكن أن تتحول إلى وجود
يستمر به أقدس الأشياء في هذه الحياة الإنسانية، وهي خط النبوة و الإمامة في الحركة
الاجتماعية التكاملية. ويمكن أن نفهم هذا المعنى الذي جسدته الأحاديث الشريفة الواردة
عن رسول الله (ص) عند ما يقول : «فاطمة سيدة نساء العالمين»، أو كما تحدث عن الحسنين
(ع) بقوله : «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة»، و عن الزهراء أن الله تعالى يغضب
لغضبها ويرضى لرضاها. إذاً المرأة في شخصيتها وفي هويتها هي شخصية كاملة و جسدت هذا الكمال وعبّرت عنه. وانطلاقا
من هذا الفهم لشخصية المرأة في الحياة الإنسانية، يمكن أن نقول بأن المرأة تتحمل المسؤوليات
العامة في المجتمع الإنساني، كما يتحملها الرجل على حدٍ سواء. وقد يختلف الحال في تقسيم
الأدوار، فيكون لشخص ما دور ما و لشخص آخر دور آخر وهكذا، لكن من حيث الأساس في حركة
المجتمع تكون الواجبات واجبات مشتركة، ولذلك كانت الواجبات العامة، كالصلاة و الصوم
و الحج والزكاة وغيرها من الواجبات العامة، التي يؤكد الحديث الشريف على أنها أركان
الإسلام،
ومما قام عليها الإسلام، يتساوى فيها كل من الرجل و المرأة، فكما تجب الصلاة
على الرجل تجب على المرأة ايضا، وكما وجبت الزكاة على الرجل وجبت على المرأة.
الدور الثاني ـ حركة التكامل الفردي
وهو من الأدوار المهمة التي يمكن أن نجد معالمها في شخصية الزهراء (س) بصورتها الكاملة،ونفهم من خلاله جانبا آخر من أدوار المرأة في الحياة الإنسانية، هو دور التكامل الفردي
في الحركة نحو الله سبحانه وتعالى. لقد أراد الله تبارك وتعالى لهذا الإنسان أن يتحرك باتجاه الكمالات المطلقة، التي يتصف
بها الله سبحانه وتعالى. وبطبيعة الحال لا يمكن للإنسان أن يصل إلى ذلك الكمال المطلق،
وإنما أريد له أن يتحرك باتجاه ذلك الكمال، باتجاه العلم لأجل أن يكون في صراط العلم
الإلهي الكامل، و أريد له أن يتحرك باتجاه الجود وفي طريق الإحسان و الخير، وباتجاه
كل ما يوصله للكمالات الإلهية من خلال الخلوص في العبودية لله سبحانه وتعالى، كما يبيّن
ذلك القرآن الكريم : (و ما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء و يقيموا
الصلاة و يؤتوا الزكاة و ذلك دين القيّمة)
(3) . هذا الأمر هو الذي يعبر عن هذه المسيرة في حركة الإنسان نحو التكامل، و عند ما نأتي
إلى الزهراء (س) نجد فيما نجد من صفاتها هذه الخصيصة، وهذا الأمر الذي أكدت عليه الآيات
الشريفة التي وردت في سورة الدهر، عندما تحدّثت عن أولئك العباد الأبرار الذين وصلوا
إلى أعلى درجات التكامل، في حركة العبودية لله تعالى، و التقوى و الارتباط بالله سبحانه
وتعالى، فالزهراء (س) مثلت أيضا المحور في هذه الحركة التي تحدث عنها القرآن الكريم
. هذا التحرك في طريق التكامل هو من الأمور ذات العلاقة بدور المرأة في الحياة ، فكما
أن الرجل لابد له أن يتحول في حركته إلى عبد صالح مخلص في عبوديته لله سبحانه وتعالى،
وأن يتصف بالدرجات الكمالية العالية من التقوى والصلاح و العلم و التواضع و الصبر و
الإحسان و الجود و البذل و العطاء، إلى غير ذلك من الدرجات العالية التي دعا إليها الإسلام
في مسيرة كمالات الإنسان، وجهاد النفس و الرقي نحو الله تعالى، كذلك أريد للمرأة في
أدوارها أن تسلك هذا الطريق و أن تتكامل في هذا الجانب، لأن قابليتها في الرقي و الكمال
و الوصول إلى الله تعالى قابلية كاملة، ومؤهلاتها في ذلك مؤهلات كاملة. و لعل
تركيز القرآن الكريم في هذا الجانب فيما يتعلق بالسيدة الصديقة فاطمة الزهراء
(س)، وكذلك بالنسبة إلى السيدة مريم (س) عندما يخاطبها القرآن : (يا مريم اقنتي لربك
و اسجدي و اركعي مع الراكعين)
(4) ، رغم أنها (س) كانت من القانتين و الساجدين و الراكعين و كذلك الحال مع السيدة آسية
زوجة فرعون في إخلاصها و إقبالها على الله تعالى، وفي نظرتها إلى الحياة الآخرة، وطلبها
في أن يبني الله لها بيتا في الجنة، وينجيها من غرور السلطان وزخارف هذه الدنيا التي
كانت تحيط بها من كل جانب ومكان، باعتبارها امرأة أعظم ملوك العالم فرعون الذي كان يملك
الدنيا، مع كل ذلك تنازلت عن هذه الزخارف و البهارج وجميع اللذات وجعلت هدفها ينحصر
في أن يكون لها بيت في الجنة وأن ينجيها الله من فرعون وعمله. هذا الأمر حينما يركز عليه القرآن الكريم، يركز عليه ليعطي للمرأة هذا الدور أي الاهتمام
بهذا الجانب في حركتها الإنسانية، إذ إن المرأة في حركتها الإنسانية يمكنها ـ كما يمكن
للرجل ـ أن تأخذ من شهوات هذه الدنيا وزينتها ما تشاء في الحدود الشرعية : (قل من حرّم
زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا
خالصة يوم القيمة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون)
(5) ، و هو أمر أحله الله تبارك وتعالى لعباده من الرجال و النساء، ولكن الاستغراق في هذه
اللذات وهذه الشهوات، و الاستغراق في زينة الحياة الدنيا، بحيث يمثّل ذلك الهموم الاجتماعية
العامة للوسط النسوي، هو مما لا يريده الله تعالى لهذه المرأة. ومن الطبيعي أن نحفظ في حركة المرأة التوازن بين إشباع هذه الحاجات والرغبات، بما يحفظ
للمجتمع حيويته وقدرته على الحركة، و الحذر من السقوط في مستنقع هذه الشهوات و الرغبات،
و الاستغراق في الزينات بحيث تتحول ـ في حالة السقوط ـ كل هذه القضايا إلى هموم في أوساطنا
الاجتماعية و الفردية و أوساط المرأة. ونجد في مجتمعاتنا الحاضرة ـ مع الأسف ـ الكثير
من الرجال الذين وقعوا في هذا المستنقع، كما وقعت فيه الكثير من النساء بحيث صارت قضية
الزينة و الزخارف الدنيوية هي القضية الأولى التي تتحدث عنها النساء، وتتداولها المجتمعات
الخاصة بهن مثلاً، أو ما يشبه ذلك من الإسراف في مجالس الاستقبال أو حفلات الزواج. و الشي ء المهم الذي لابد أن ننتبه إليه، وتنتبه إليه المرأة في موضوع دورها الكبير
في هذا المجال، هو أن النصوص الشريفة التي وردت تتحدث عن الزهراء (س) في حياتها الخاصة
الفردية،
وفي لبسها و أكلها وشربها، وفي زهدها بهذه الأمور و الزينات، أريد منها إعطاء
هذا التوجيه الخاص في حركة المرأة ودورها في الحياة.
الدور الثالث ـ الدور السياسي للمرأة
الدور السياسي الخاص الذي يمكن أن تقوم به المرأة في المجتمع الإسلامي، فلقد أريد منالمرأة أن تدخل العمل السياسي، وتمارس هذا الدور المهم في الأعمال السياسية وفي المجتمعات
الإنسانية. المرأة في هذا المجال كالرجل، تتحمل المسؤوليات الخاصة في خدمة المجتمع و
التضحية من أجله، و الجهاد في سبيل الله تعالى و في البذل و العطاء إلى حد الاستشهاد
في سبيل الله تعالى، فلا بد للمرأة أن تقوم بهذا الدور أداءا للواجب و التكليف، حسب
القانون الإلهي والأحكام الشرعية التي وضعها الشارع المقدس لها، وهو من الأدوار التي
فتحت أمام المرأة في حركتها. إن تضحية الزهراء (س) كانت من أجل نصرة إمامة الإمام علي (ع)، وترسيخ مبدأ الولاية،
و الدفاع عن هذا الحق الذي أريد له أن يثبت في التاريخ ويستمر، وإن لم يحصل (ع) على
موقعه المطلوب منذ اليوم الأول، فنجد الزهراء (س) تبادر إلى هذا الدور، وتنهض به بأفضل
ما يمكن أن يؤديه الإنسان، في ظرف حساس يمكن لنا أن نقول إنه لم يكن من الممكن لغير
الزهراء (س) أن يقوم فيه. ومع وقفة عند هذه النصوص الواردة عن النبي (ص) في الزهراء، مثل قوله : «إن الله يغضب
لغضب فاطمة»، يتبين لنا أن الله سبحانه
وتعالى قدّر في قضائه وقدره، أن فاطمة الزهراء
(س) سوف تمر بأوضاع سياسية واجتماعية تثار فيها الزهراء، وتغضب لله تعالى لا لنفسها،
ولذلك يغضب الله تعالى لغضبها ويرضى سبحانه وتعالى لرضاها (س). وعلى خطى الزهراء (س) كان دور المرأة في الثورة الحسينية، باعتبار أن الثورة الحسينية
ـ كما هو معروف ـ مثلت القمة في التضحية و الفداء و البذل والعطاء في حركة الإنسان السياسية
و الاجتماعية. وقد شاركت المرأة الرجل مشاركة فعالة في كل الأدوار التي قام بها في الثورة
الحسينية، وكان لهذا الدور خمسة أبعاد هي : البعد القتالي، و البعد السياسي، و البعد
الإعلامي، و البعد الإنساني، و البعد الأخلاقي و المعنوي العام، وهي ابعاد رئيسية ومهمة
نهضت بها المرأة في هذه الثورة الخالدة. إذن المرأة يمكنها في تفاصيل حياتنا الفعلية الحاضرة أن تقوم بالكثير من الأدوار الهامة،
في هذه المعركة الجهادية وفي صراعنا الذي نخوضه كمسلمين ضد الطغيان و الكفر العالمي،
وضد الاستكبار و الاستبداد. فيمكن للمرأة أن تساهم مساهمة فعالة وحقيقية في الفعاليات الجهادية طبقا للأحكام الشرعية،
وضمن المواصفات الشرعية التي حددتها الشريعة الإسلامية المقدسة، مع
ملاحظة أن قسما من
هذه الأعمال يتحملها الرجل وحده، في حين أن هناك اعمالاً تتحملها المرأة وحدها، و أعمال
أخرى يتحملها الاثنان.
الدور الرابع ـ دور المرأة في الأسرة
إن النظرية الإسلامية في فهمها للمجتمع الإنساني ورؤيتها لتركيبته العامة، ترى أن اللبنةالأساسية في هذا البناء الاجتماعي و التي تشكل الوحدة المركزية فيه هي الأسرة. النظرية الإسلامية ترى أن الأسرة تمثل وحدة رئيسية ومركزية في بناء المجتمع، ولا يمكن
أن يبنى المجتمع الصالح ويتكامل دون أن الصالحة، ومن هنا نجد أن الإسلام طالما أكد على
أهمية دور الأسرة في المجتمع، على خلاف رؤية المجتمعات والحضارة الغربية، التي لا ترى
للاسرة مثل هذا الدور المهم في بناء المجتمع وقوته وتكامله. فالإسلام يرى أن قوة الأسرة وصلاح الأسرة وتماسكها وتكاملها واتصافها بالمواصفات المطلوبة،
هي التي تمكنها من أن تحول المجتمع إلى مجتمع صالح متكامل. و لا شك أن الزوجة الأم تمثل
الركن الرئيس في الأسرة وبنائها، إن لم نقل الركن الأهم في هذا البناء من الناحية الداخلية
و الذاتية. ولعل هذا هو السر في التركيز الخاص على شخصية الزهراء (س) في تفاصيل دورها
في الأسرة. وفي هذا المجال أود أن أنبّه لنقطة مهمة جدا في شخصية الزهراء (س)، لم توجد في غيرها
من النساء الصالحات اللاتي تحدث عنهن القرآن الكريم، وتحدث عنهن الرسول الأكرم (ص)،
من قبيل آسية
ومريم بنت عمران (س) التي لم تحصل لها ظروف أسرة كاملة، كما لم تحصل لآسيا
زوجة فرعون ظروف أسرة كاملة وصالحة في حركتها، حيث كانت زوجة لكن لم يكن لها أولاد،
وكانت زوجة لكنها زوجة لطاغية، ولم تكن قادرة على أن تعبر عن تلك العلاقة القوية في
إحكام الأسرة وعلاقات الأسرة وبنائها. وأما خديجة (س) فقد كان لها دور الأسرة، فهي زوجة لرسول الله (ص) وأم لذريته؛ لأنها
أم الزهراء (س) فهي تشبهها من هذه الناحية، ولكن الزهراء (س) امتازت على أمها خديجة
بالأدوار الأخرى التي مارستها في حياتها، و التي استطاعت أن تحفظ في شخصيتها قضية الموازنة
بين هذه الأدوار، و الموازنة غاية في الأهمية بالنسبة لحركة المرأة. فبعض النسوة قد يوفقن لأن ينهضن بدور مهم في الجانب الأول، أو في الجانب الثاني في العبادة
وفي جهاد النفس و القيام بالأعمال الصالحة، ثم الوصول إلى الكمالات العالية، وقد يكون
لهن دور مهم في الجانب الثالث، في الرعاية المنزلية وفي ترتيب وضع الأسرة وجعلها أسرة
قوية صالحة، و البعض منهن يكون دورهن الكبير في موضوع التضحية و الفداء، لكن الجمع بين
كل هذه الأدوار، و إيجاد حالة الموازنة بين هذه الأعمال وهذه الأدوار هي قضية
هامة جدا،
لكامل للمرأة أنه كلما تمكنت المرأة من أن تقترب في صورتها النموذجية، التي تكون الزهراء
(س) فيها قدوتها و أسوة لها في هذه الحركة التكاملية، تمكنت من أن تقترب من حالة المحافظة
على هذه الموازنة، بمعنى أن تكون لها مساهمة فعالة في كل هذه الأدوار، وتكون المرأة
في صورتها أقرب إلى الكمال نحو الزهراء (س)، وكلما ابتعدت عن هذه الموازنة كانت بعيدة
عن حالة الكمال. أقول ربما لا تتهيأ للمرأة فرص أن تمارس الدور الرابع (دور الأسرة)، لأن هذا الدور من
الأمور التي لا تكون دائما في اختيار المرأة، فربما لا تتزوج المرأة، أو تتزوج و لا
يكون لها أولاد، وربما لسبب ما لا يكون الزواج ناجحا، وغير ذلك مما يمكن ألاّ يكون في
اختيار المرأة وقدرتها، ولذلك فأنا أشير إلى الحالة الغالبة، وهي أن المرأة عندما تكون
في دور الأسرة، يكون أمامها فرص أخرى مهيأة، كما كان الأمر بالنسبة للزهراء (س)، فهي
ربة بيت تطحن الحنطة في بيتها وتنظف البيت، وهي في نفس الوقت المرأة العالمة الفاضلة
التي ليم الناس، فلم تطلب مثلاً جارية لتدبير أمور المنزل، لتقول مثلاً أريد أن أتفرغ
للعلم و التعليم، وإنما عبرت عن هذا الجانب في كمالها في حفظ
الموازنة بين إدارة البيت
و العلم، وكما عبرت عن ذلك في عبادتها وزهدها وتواضعها، وفي مساهماتها في العمل الاجتماعي
و السياسي العام. ربما لا تتهيأ فرصة للعمل الاجتماعي لبعض النساء، أو لا تتهيأ لها فرصة للعمل الجهادي،
فيكون الاهتمام في الجانب الاجتماعي أو في العمل الثقافي أو العمل العبادي حسب الفرص
المتاحة لها. المهم للمرأة أن تسعى لاستثمار الفرصة الحاصلة من خلال الامكانات الموجودة،
وأن تواكب في حركتها التكاملية هذه الفرص، وتوازن بين هذه الأدوار الأربعة التي ذكرتها؛
لأجل أن تكون امرأة كاملة في هذه الحركة.
(1) الأحزاب : 33.(2) الانشقاق : 6.(4) آل عمران : 43.(5) الأعراف : .32