نظرة فی علم الأخلاق نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نظرة فی علم الأخلاق - نسخه متنی

السید هاشم الهاشمی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراســات

نظـرة في

علم الاخلاق

* السيد هاشم الهاشمي

نبحث في هذا المقال بإيجاز عن ميول الانسان ورغباته
،وطرق الاستجابة لها ، وبعض الاراء حولها .

وأهم النظريات في هذا المجال ثلاث :

النظرية الاُولى

تذهب إلى القضاء على الميول والرغبات النفسية
والفطرية وكبتها ، والدعوة للتنسك والتقشف دون أية استجابة لها ، وقد وجد في
الماضي والحاضر من يدعو لهذه النظرية .

وقد وجهت اعتراضات كثيرة لهذه النظرية نشير إلى بعضها
:

1 ـ إن هذه الميول الفطرية لم تخلق عبثا في الانسان ،
بل إنها كسائر القوى والاجهزة النفسية والبدنية ضرورية لسعادته وتكامله ، لذلك من
يحاول القضاء عليها أو عدم الاستجابة لها الاستجابة المشروعة المتوازنة سيسيىء إلى
سعادته ، كما لو قضى على جهاز أو عضو بدني ، كقطع يده .

والدليل على ضرورتها ، أنه تعالى لم يخلق رغبة فطرية
إلاّ وقد خلق ما يشبعها ، كالمرأة للرغبة الجنسية والماء للعطش والطعام للجوع ،
وبهذا الطريق يمكن الاستدلال على وجود اللّه والمعاد ، ففي الانسان رغبة فطرية
للتدين ، وتوجّه فطري لوجود اللّه ، يظهر خاصة في لحظات الخطر (كل مولود يولد على
الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه)([1]) .
وهو ما يدل على وجود اللّه تعالى الذي يستجيب لنداء
هذه الرغبة ، وكذلك للانسان رغبة في الخلود ، تعبر عنه محاولاته الكثيرة في بقائه وسلامته
. والكثير من المجالات التي تعبر عنها ، فلابد من وجود عالم خالد يستجيب لهذه
الرغبة ، وليس هو العالم الدنيوي الزائل .

2 ـ إن كبت أية رغبة فطرية ، نظير القضاء على قانون
في الطبيعة ، لا يترك بدون عقاب وجزاء ، فمن يخالف قانوناً طبيعياً سيلاقي عقابه
وجزاءه ، على شكل أمراض ، أو مخاطر ، والملاحظ أن الميول الفطرية لا تموت مهما
حاول الانسان القضاء عليها وكبتها لاجل فطريتها ، ولكنها قد تختفي ، وتنتقل من
عالم الشعور إلى عالم اللاشعور ، وتنفث من هناك ـ مطالباتها ، وعقوباتها على شكل
أمراض نفسية أو بدنية ـ حيث أنها تطالب بالاستجابة ، كشرط للحياة السوية المتوازنة
كالرغبة الجنسية ، فإذا لم يستجب لها وحاول كبتها ; فيفقد الانسان تلك الحياة
السوية المتوازنة .

3 ـ إن الحياة الفردية والاجتماعية ستتعطل لو تقشف
الناس جميعاً واعتزلوا وتجنبوا الاستجابة لبعض الغرائز ، كالقضاء على الرغبة الجنسية
حيث سيتعطل النسل ، وبالعزلة الشاملة في الكهوف ، سوف لا يتوفر المسكن والطعام
والبناء وغيرها من نشاطات الحياة .

4 ـ إن هذه النظرية لم يمكنها التخلص من الاستجابة
للميول النفسية ، فالعبادة والتقشف من الميول النفسية أيضاً ، وإنما تؤثر أثرها
الايجابي فيما لو استخدمها بصورة معقولة متوازنة ، وأما الاهتمام الزائد بها فسوف
يكون على حساب الغرائز والرغبات الاخرى ، وكل غريزة فطرية اهتم بها الانسان أكثر
من سائر غرائزه ، سوف يضر في سعادته لان شرط الحياة السعيدة المتوازنة الاستجابة
الصحيحة المعقولة العادلة لجميع الغرائز ، لا الاهتمام ببعضها دون البعض الاخر .

إذن .. فحرمان الانسان من لذائذ الحياة له أضراره
السيئة على الانسان .

والاسلام ـ كما ذكرنا ـ يعترف بمشروعية هذه الغرائز
والعلاقات الدنيوية ، حيث أن هذه الغرائز لم تخلق عبثا ، وإنما خلقت لانها ضرورية لسعادة
الانسان وكماله ، ولكن لو استخدمت في الحدود المشروعة لها ، فالدنيا غير مذمومة في
رأي الاسلام، وإنما الدنيا المذمومة هي المحرمة، وارتكاب ما يخالف أحكام اللّه ،
أو التي تتنكر للحياة الاُخروية ، وتحصر النظر على الدنيا ، حيث لا يلاحظ في
تصرفاته عالم الاخرة (أرضيتم بالحياة الدينا من
الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة إلاّ قليل)
، وكذلك يذم من يقدم هذه الرغبات والعلاقات على رضا اللّه ، والالتزام بأحكامه في
مجال التزاحم بينهما ، كما لو قدم حبه للحياة أو المال أو النساء على الجهاد في
سبيل اللّه ، وسائر الاحكام الاسلامية (قل إن
كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون
كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله) ، وفي الايات والاحاديث الشريفة ما يدل على مشروعية
هذه الرغبات واللذائذ والعلاقات الدنيوية والاستمتاع بها ، قال تعالى :
(وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من
الدنيا) (ومن
آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك
لايات لقوم يتفكرون) ، وإذا كانت محبة الزوجة مذمومة
لم تجعل آية ، فالامر الفطري لا يكون مذموما ، وإلاّ لم يخلق ، وقال تعالى :
(قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق)([2]) .
وعنه(عليه السلام)
: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لاخرتك كأنك تموت غدا» .

إن الرغبات الفطرية ، يمكن كبتها ، ويمكن إشباعها ،
ولاشباعها توجد طرق مشروعة ، وطرق غير مشروعة ، فالجنس والمال يمكن تحصيله وإشباعه
في مجالات غير مشروعة ، كالزنا والقمار والربا والسرقة ، ويمكن تحصيله من مجالات
مشروعة ، كالتجارة المحللة بأنواعها ، والزواج . والانسان السوي والمتوازن والمؤمن
هو الذي يختار المجالات المشروعة لاشباعها ، فإنه تعالى لم يخلق رغبة فطرية إلاّ
وبيّن الطرق المشروعة لاشباعها ، وحكمته تعالى اقتضت أن يختار الانسان طريق تكامله
وسعادته بصورة اختيارية ، بعد أن خلق فيه الارادة ، وبيّن له طريق السعادة والشقاء
.

النظرية الثانية

تذهب إلى الاستجابة التامة المطلقة لهذه الميول
والرغبات ، أي اطلاقها بلا ضوابط ولا حدود ، فالغريزة الجنسية مثلاً يجب اطلاقها
وإشباعها بلا حدود .

وهناك طائفة من الفلاسفة السابقين والمعاصرين ، ذهبوا
إلى عبادة اللذة ، والاستجابة بلا حدود لهذه الرغبات النفسية ، فليست الاخلاق
معيار السعادة والتكامل البشري فحسب ، بل هي مانعة منها ، ويزعمون أن الاخلاق ليست
لها فائدة إلاّ تحديد لذة البشر وحريته ، يقول أحد فلاسفة اليونان في القرن الرابع
قبل الميلاد (الخير عبارة عن اللذة والشر ليس إلاّ الالم ، وهدف البشر هو الاخذ من
لذائذ الدنيا) ويقول آخر (أجب نداء غرائزك حتى تحصل على اللذة ، ولا تقاوم ابرازها
، لان ذلك يورث الشقاء والالم ، والاخلاق كلها مجموعة من الاوهام الفارغة من
البرهان والدليل ، إن الاخلاق قيود يقيد بها الضعفاء أنفسهم تجاه الاقوياء)([3])ويقول
نيتشه من الفلاسفة المعاصرين (لابد أن توجه نظرك واهتمامك إلى نفسك فحسب ، ولابد
أن تعبد نفسك وتهمل الضعيف والعاجز حتى يفنى ويزول فالشخص الافضل هو الاقوى ، الذي
يحيى بقوة ويستجيب لميوله ولتسحق كل مانع في طريقك ولا تخف من الخطر والقتال والجدال)([4])
حيث يدعو نيتشه لبقاء الاقوى ، وعلى الانسان تحقيق ميوله الشخصية وإن قضى على
الاخلاق والقيم ، وإن الاخلاق والعفة والكرامة والشرف والعطف صفات الضعفاء ، وبذلك
مهد السبيل لظهور بعض المبادئ المدمرة كالفاشية والنازية . وكذلك فرويد عالم النفس
الشهير يدعو لاطلاق الغريزة الجنسية بكل حرية وبدون ضوابط وحدود ، وغيرهم كبعض
فلاسفة الوجودية كسارتر والعبثية واللامنتمية وأمثالهم ، ولعل بعض الفلاسفة
المعاصرين الذين ينظّرون لامثال هذه النظريات الاباحية والمدمرة من تخطيط
الصهيونية العالمية التي تحاول السيطرة على العالم ، من خلال إغراق الشعوب بالفجور
والشهوات ، حيث أن الغرق بالشهوات المحرمة والمخدرات وإطلاق الغرائز بلا حدود
وضوابط ، مما تدمر الفرد والمجتمع نفسياً ، ودينياً ، وشعورياً ، وتضعف روح
المقاومة والوعي فيه ، وبذلك يسهل السيطرة عليه ، وتدل على هذا التخطيط الجهنمي
بعض التصريحات ، كما يلاحظ ذلك في بروتوكولات حكماء صهيون ، ومن هذا الباب
التيارات التي تدعو لالغاء الدين ، أو عزله عن الحياة الاجتماعية والسلوك العملي
وحصره في القلب ، أما العمل فيتبع الانسان والاراء والقوانين البشرية ، أمثال ان
الدين أفيون الشعوب ، أو أن جوهر الدين هو التجربة الروحية ، وأما الشريعة فإنها
قشور تحافظ عليه ، ولا أهمية لتعاليم معينة وأمثالها من الاراء .

وقد وجهت اعتراضات عديدة لهذه النظرية نشير إلى بعضها
:

1 ـ يلزم من حرية الغرائز بلا حدود الفوضى في المجتمع
، لانه لاجل إرضائها ، لو لم يكن له رادع من وجدان ومبادئ وأحكام ، يفزع لاخطر
الجرائم ، فمن لم يحاول إشباع حبه للمال أو للجنس من خلال التجارة المشروعة أو
الزواج فسوف يتعرض لاموال الاخرين وشرفهم أو لاعراضهم ، فيقضي القوي على الضعيف ،
ويتجاوز على حقوق الاخرين، فيتعرض أساس الحضارات للخطر ، وسعادة المجتمع تتوقف على
أن كل فرد يحترم نفوس الاخرين وأعراضهم وأموالهم ولا يتعدى عليها ، ولعله يشير
إليه قول أمير المؤمنين(عليه السلام) «من غلب
هواه على عقله ظهرت عليه الفضائح» .

وإطلاق الغرائز بلا حدود ، كما يؤدي للجرائم الخارجية
الاخلاقية ، كذلك ينتج الانحرافات النفسية كالتعصب والتكبر والعناد التي تمنع من
سعادة الانسان ، قال تعالى : (وإن كثيراً ليضلون
بأهوائهم بغير علم) ، بل إن بعض النصوص تدل على
أن الفساد الاخلاقي واتباع الاهواء المحرمة ، والتمادي فيها ، سوف يؤدي إلى
الانحراف العقائدي والخروج عن الدين ، وليس لمجرد الفسق قال تعالى :
(وكان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذّبوا بآيات اللّه) ، حيث ان النفس معها تكون أقل تقبلاً للمعتقدات
الصحيحة وأكثر تقبلاً للفاسدة ، لذلك يحاول أمثال هؤلاء الانكار أو التشكيك في المعتقدات
والتعاليم الاسلامية الصحيحة .

كما أنه يلزم من هذه الحرية الحيوانية والاباحية تفكك
الاُسرة ، حيث يرون الزواج تحديداً لها ، كما أن من يلهث وراء أعراض الاخرين ، ولا
يشبع ويطلب المزيد ، ولم يوجه نظره لزوجته واُسرته ، فإنه لا يمكنه ممارسة أعماله
العائلية ، بل وحياته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الانشطة الفاعلة ، حيث أن
اهتمامه كله موجه لاشباع غرائزه ، على العكس ممن لا يوجه كل اهتمامه لذلك ، وإنما
يوجه اهتمامه لزوجته والمجالات المشروعة ، فإن نشاطه واهتمامه سيتوجه أفضل لاعماله
ونشاطاته الفاعلة ، والنصوص والشواهد العديدة قديماً وحديثاً تدل على هذه الحقائق
والنتائج .

إن الاخلاق تجعل من الفرد إنساناً اجتماعياً متوازناً
ومحترما ، يستطيع أن يعيش بكل احترام مع الاخرين من خلال تحديد غرائزه وعدم تجاوزه
على حقوقهم ، فمن يتعدى على الاخرين يفقد احترامه ولا يكون مقبولاً عندهم ، عن
الامام أميرالمؤمنين(عليه السلام) : «من أحب
المكارم اجتنب المحارم» وعنه(عليه السلام) «كم
من لذة دنية منعت من سنيّ الدرجات» ، والاسلام في تعاليمه يحاول توفير الارضية
الصالحة لسعادة الفرد والمجتمع وتكامله وقربه من اللّه ، لذلك منع من الممارسات
التي تمنع من ذلك كإشاعة الفحشاء والتجاهر بها وحدّدها ضمن حدود وضوابط متوازنة ،
لذلك لم يعترف بالحرية بمفهومها الغربي ، واللّه تعالى بعلمه المحيط يعلم بالمصالح
والمفاسد الواقعية والاحكام الملائمة لها ، ثابتة أو متغيرة ، فيعرف الحدود
الصالحة لارضاء هذه الغرائز ، ويبينها من خلال شريعته ، لطفا منه تعالى على البشر
، أما اولئك الذين لا يدركون المصالح والمفاسد الواقعية ، ثوابتها ومتغيراتها ،
كيف يمكنهم تشريع الاحكام على وفق هذا القصور ؟ ثم كيف يمكنهم تغيير أو الغاء
الاحكام الاسلامية الثابتة كالحجاب والحدود والديات اعتماداً على بعض الظنون
والاهواء ومجرد تغير الزمان والمكان ؟ ثم ماهي الاحكام البديلة لها ؟ لضرورة وجود قوانين
لتوقف النظام عليها ، مع ما يلاحظ من تغير الاراء والقوانين البشرية .

2 ـ إن الانسان ـ كما ذكرنا ـ يمتلك غرائز وميولاً
عديدة ، والانسان السوي السعيد من أشبع جميع الميول بصورة متوازنة وعادلة ، لا أنه
يشبع بعضها ويهمل الاخرى ، أو على حسابها ، فهو يميل للجنس ويميل أيضاً لحفظ الذات
والسلامة والصحة ، والحياة المعيشية السوية ، فإذا حاول ارضاء رغبته الجنسية بلا
حدود ، فإن هذا سيسيء إلى ميله الغريزي للصحة والسلامة ، وإلى حالته المعيشية
الاقتصادية السوية ، إذ لا شك بأن ذلك يسيىء إلى سلامته وأمواله ، فلابد إذن من
ارضاء الجميع بصورة مشروعة ، حتى لا يسيء للميول الاخرى لان سعادته متوقفة على
إرضاء جميع الميول لا إشباع بعضها دون الاخرى .

3 ـ يوجد في الانسان الضمير أو الوجدان الاخلاقي ،
وهو يؤنب الانسان ويعاقبه على ارتكاب ما يخالفه ، وليس القلق إلاّ عقاب الضمير على
ارتكاب ما يخالف مقرراته الوجدانية ، والضمير هو أمر فطري غريزي ، وليس اكتسابياً
، أو عادة ، والدليل على فطريته ، وجوده منذ القدم حتى عصرنا الحاضر وفي كل زمان و
مكان .

ولو كان اكتسابياً أو من العادات والتقاليد ; لم يكن
موجوداً في كل زمان ومكان ، كما ذكروه في تعريف الفطري ، وفرقه عن التقاليد
والعادات حيث أنها مؤقتة ومحدودة ، وغير دائمة أو عامة مشتركة بين جميع الافراد ،
لذلك ننكر نسبية الاخلاق وتغيرها حسب الافراد والظروف ، كما تذهب إليه بعض
التيارات ، وتوضيح هذه النظرية ونقدها في محله ، ولعل ندم ابن آدم على قتله لاخيه
دليل على وجود الضمير منذ القدم وفطريته ، بل حتى اولئك الذين يعيشون التربية
السيئة وفي محيط يشجع على الرذائل ، أو الجرائم ، يشعرون في أعماق نفوسهم بتأنيب
الضمير حين ارتكابها ، فالمجرم والسارق ومرتكب الرذيلة يشعر بتأنيب الضمير من عمله
، ويمدح الفضيلة والعامل بها ، وهذا دليل على عدم كون الضمير اكتسابياً وإنما هو
أمر فطري ، فإن الامور الفطرية تتصف بالشمولية والدوام خلافا للاُمور المكتسبة
والعادات والتقاليد .

وهناك بحوث طويلة حول الضمير .

وهذا الضمير يؤنب الانسان شعورياً أو لا شعورياً على
خطاياه ، وتجاوزاته على حقوق الاخرين ، وعلى ارتكاب الشرور والذنوب والجرائم ،
وربما لا يشعر بهذا التأنيب ، ولكنه موجود في أعماقه لا شعورياً ، وتظهر أعراضه
على سلوكه ، بشكل أمراض نفسية وقلق وتوتر ، بل ربما نشأ من ذلك أمراض بدنية أيضاً
كما أقر بذلك العلم الحديث ، فالمجرم يتوهم أنه وصل لسعادته وأنه بعيد عن عقاب
الضمير أو القانون ، ولكن هذا غير صحيح ، أن من يقتل أو يسرق أو يتجاوز على
الاعراض والاموال والنفوس يتوهم الوصول إلى السعادة من خلال ذلك، ولكن عبثاً ، فإن
ضميره يؤنبه ، يطارده ، أين ما ذهب ، في يقظته ونومه ، في عزلته واجتماعته ، في
صمته وحديثه ، في كل حالة ، ويسمي القرآن الكريم الضمير (بالنفس اللوامة)
(ولا أقسم بالنفس اللوامة)
.

يقول أحد علماء النفس (إن متابعة الضمير كما يؤدي
للاستقرار الاجتماعي يؤدي للاستقرار النفسي ، وإن تعذيب الضمير نتيجة اقتراف ما
يخالفه ، ربما أدى إلى الكثير من الامراض الروحية والبدنية)([5])
.
فالفتاة التي أسلمت نفسها في لحظة طائشة باختيارها
ربما كان في الخفاء ، لا يعلم بها أحد ، ولكن لا تستطيع الفرار من عذاب الضمير
والندم.

والسارق وإن أمكنه الفرار من البوليس والناس ، ولكن
لا يستطيع الفرار من عذاب الضمير .

وابن آدم ندم على قتله لاخيه .

وإذ كثرت أعمال الشر ، وتراكمت التأنيبات ; فربما
اصيب الانسان بالقلق والانهيار النفسي وربما الامراض البدنية .

فعمر بن سعد بعد واقعة كربلاء ، أمر أن يمد فراشه
طوال الليل والنهار ، فكان يستلقي تارة ويتمشى في البيت أخرى ، ويتخطى في الازقة
مذهولاً ثالثة .

وبسر بن أرطاه الذي أرسله معاوية ففتك وفجر وارتكب
أبشع الجرائم في مكة والمدينة واليمن فقد عقله آخر عمره ومات مجنوناً([6])
.
وهؤلاء يحاولون الفرار من واقعهم المتحطم وتأنيب
الضمير ، والقلق، إلى الخمرة والجنس والمخدرات وغيرها من التصرفات الطائشة، ولكن
هذه المخدرات والغيبوبة لا تقضي على القلق والمشكلة ، بل تزيدها اشتعالاً ، وتضعف
من إرادتهم وعزيمتهم على معالجة تحديات الحياة ، وممارسة سائر الذنوب ، لان
المشكلة لا يقضي عليها إلاّ مواجهتها وعلاجها ، وهذه الاساليب كما لا تقضي على هذه
المشكلة ومضاعفات الجريمة ، فإنها كذلك تزيدها تأنيباً ، وتضعف من الارادة
والعزيمة على مواجهتها ، وسائر المشاكل وتحديات الحياة ونشاطاتها الفاعلة .

ولا علاج لهذه الحالة إلاّ بالتوبة ، والعودة إلى
رحاب الايمان والالتزام بنداء الضمير وقانون السماء
(ألا
بذكر اللّه تطمئن القلوب) ، فإن ممارسة الفضائل
والعمل بنداءات الضمير وقانون السماء كما يؤدي للاستقرار النفسي كذلك يؤدي إلى قوة
الارادة والعزيمة على مواجهة تحديات الحياة ومشاكلها والذنوب والخطايا ، وممارسة
النشاطات الفاعلة ، والتمكن من الحياة السوية والناجحة للفرد والمجتمع .

(يا
أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية)
، لذلك اعتبر الايمان والتدين من العوامل الفاعلة في علاج الكثير من الامراض
النفسية بل البدنية أيضاً .

كما يدل على ذلك الكثير تصريحات العلماء في مجال الطب
وعلم النفس والاجتماع وغيرها .

4 ـ إن ارضاء الشهوات والميول جميعاً بلا حدود ، ليس
متيسراً وممكناً للبشر ، فهناك الكثير من الاشياء يميل إليها الانسان ولا يستطيع
الحصول عليها فيما لو لم يجعل من نفسه رادعاً عن الميل إليها أو العمل بها ،
كزوجات الاخرين وأموالهم ، حيث لا يمكن إلاّ بالتعدي على النفوس والاعراض والاموال
، ولا يمكن ذلك دائماً .

وهناك بعض الغرائز تطمح بالمزيد ، ولا يشبع الانسان
ومنها الرغبة بالجنس والمال ، فكلما أشبعها اكثر ازدادت اشتعالاً وطمعاً ، كالنار
حين يلقى فيها الحطب تزداد اشتعالاً ولهباً ، ومن ليس له رادع
يردعه عن التفكير بالشهوات المحرمة ، أو
التي لا يستطيع التوصل إليها ; فهو دائماً يريد ويرغب ولكنه يحرم منه ، فيشعر
بالحرمان دائماً ، ويتراكم الحرمان في نفسه ، بالاضافة لتأنيبات الضمير وآثار
الذنوب ، وبذلك سيصاب بالاضرار النفسية والبدنية . وقد اختلط الامر على البعض ،
حيث توهم بأن إرضاء الغريزة الجنسية وإشباعها يتم بإطلاقها بلا حدود ، مع أن
الاطلاق لها ، يزيد من عطشها ولا يشبعها . لان هذا النهم وعدم الاشباع من خصائص
هذه الغريزة .

قال الامام الصادق(عليه
السلام) «لا تدع النفس وهواها فإن هواها رداها»([7]) . وقال(عليه السلام)«من أطاع نفسه في شهواتها فقد أعانها على
هلكتها» .

ولاجل ذلك تنقل لنا كثير من الاخبار عن الوضع النفسي
المنهار للغرب بل والشرق المنحرف ، وأن القلق مرض العصر ، وعن الانتحار والمخدرات
والتيارات الطائشة وغيرها من التصرفات .

واتبّاع الشهوات والتشجيع عليها بلا حدود ، مما يشجع
عليه الطغاة والاستعمار وعملاؤه ، لانه يخدّر الشعوب ، ويقتل روح الدين ، بل روح
الفتوة والشجاعة والثورة والجرأة والمقاومة ، بل الوعي بما يدور حولهم من أحداث
وتجاوزات ، ولعل الغرب لاجل ذلك يعيش مؤامرة كبرى تحيط بكلّ شعوبه ، من أجل أن لا
يشعر بما يفعله الطغاة والحكام . وتحجبه هذه الغيبوبة عن النظر إلى القيم أو
المبدأ والدين الحق . والتاريخ ينقل لنا الكثير حول الشعوب والحضارات التي كانت
قوية فبادت بفعل هذه الممارسات والاساليب المتحللة ، ولعل ذلك كان بتخطيط من
أعدائها أو حكامها ليرتكبوا ما شاءوا من الرذائل دون أن يشعروا بالوعي أو المقاومة
من شعوبهم .

والقرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى :
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها
فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)([8])
، حيث إن الدمار نتيجة طبيعية للشعوب والحضارات التي تغرق بالفسق والفجور، وقد ذكر
القرآن الكريم أساليب فرعون بل الفراعنة لاستعباد الشعوب والسيطرة عليها :
(إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة
منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين)([9])
، حيث أشار إلى أساليب فرعون كرمز للطغاة المتجبرين في استعباد الشعوب ، وهي
التفرقة (جعل أهلها شيعا) وهذا مضمون الشعار الاستعماري (فرق تسد) والارهاب
(يذبح أبناءهم) ،
والفساد الاخلاقي (يستحيي نساءهم) ، ومن عوامل سقوط الاندلس وخروجها من أيدي المسلمين
; اشتغال الامراء والكثير من المسلمين فيها باللهو والعبث والشهوات والخمرة
والنساء والتفرقة .

وتدل بعض الشواهد التاريخية على أن أعداء الاسلام
خططوا لاسترجاع الاندلس والسيطرة عليها ، فتوصلوا إلى أن خير طريق لذلك ; اشغال
المسلمين بالفساد الاخلاقي والتفرقة لذلك أكثروا من مراكز الفساد والعبث في
الاندلس ، وبذلك ماتت فيهم روح الفتوة والشجاعة والوعي السياسي والديني ، ودبت
التفرقة بينهم ، وبذلك أمكن السيطرة عليهم بسهولة([10]) .

إن عبّاد اللذة ، ومخالفي القيم والمبادئ الاخلاقية
الفاضلة ، يتوهمون بأن حرية الشهوات وسحق الاخلاق والاستجابة غير المحدودة للرغبات
النفسية ، تؤدي إلى السعادة والحرية الحقيقية ولكن في الواقع أن السعادة والحرية
ليست في الاستجابة للميول بلا حدود بل هي عبودية ، وتقييد للانسان ، فهو عبد
لشهواته ، قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) «مغلوب
الشهوة أذل من مملوك الرق»([11])
إنها الاغلال التي تشد الانسان عن السمو والتعالي والحياة السوية الملتزمة
والفاعلة ، والاديان الالهية بعثت لاجل إنقاذ الانسان من هذه الاغلال
(ويضع عنهم إصرهم والاغلال)
.

ليست السعادة والنجاح في الاستجابة لهوى النفس بلا
حدود ، بل لابد للانسان من الكدح والمشقة ليصل إليها ، لابد للطالب من مجاهدة هوى
النفس والتعب ليصل للنجاح ، والفلاح لابد أن يكدح ليصل للحصاد وهكذا .

لذلك جعل القرآن الكريم البشارة والفلاح دائماً بعد
الصبر على الشدائد وتحديات الحياة ، وما يوجبه الايمان والالتزام بالمبدأ الحق من
المواجهة للكثير من الابتلاءات ، والصبر على مجاهدتها
(ولنبلونكم
بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين ، إن الذين
قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) والصبر بمفهومه الاسلامي ، ليس ذلك المعنى السلبي ،
أي العزلة ، بل بمعناه الايجابي أي خوض شدائد الحياة وابتلاءاتها وتحدياتها ثم
الصبر عليها، والفلاح دائماً يعقب هذا الصبر في المنطق القرآني .

النظرية الاسلامية في الاخلاق

وتتمثل في الاستجابة المحدودة والعادلة والمعقولة
لهذه الميول والغرائز، لا إفراط ولا تفريط ، ولا كبت ولا إطلاق بلا حدود ، ومن هنا
كان الاسلام الصراط المستقيم ، والمسلمون اُمة وسطاً لانه ـ كما ذكرنا ـ إن في
الانسان ميولاً فطرية ضرورية لكماله وسعادته في الدنيا والاخرة ، إذ لم تخلق عبثاً
، كأعضائه وأجهزته البدنية، فرغبته للثروة والدين والمحبوبية الاجتماعية والمعرفة
وتشكيل الاسرة والجنس والجمال وغيرها من الميول الفطرية ، لا يوجد صراع فيما
بينها، وكل منها لها نصيب وحدود معينة ، وإذا اُعطي لكل واحدة منها نصيبها بعدالة
، حصل التوازن والاستقرار ، وأدى ذلك لتكامل الانسان وسعادته، وإنما يبدأ القلق
والصراع فيما لو اُعطي لبعضها نصيباً أكثر على حساب الميول الاخرى فيشبعها ويطلقها
أكثر من حدّها المفروض أو يكبتها.

وليست العدالة المساواة بين الافراد وإرضاء الميول ،
بل إعطاء كل فرد وميل نصيبه المشروع والمعقول ، المؤثر في كماله وسعادته ، والشارع
المقدس ، لطف على البشر من خلال تعاليمه وأحكام شريعته بيّن الحدود المشروعة
والعادلة لكل الافراد والميول ، وأما البشر لقصوره ـ كما ذكرنا عوامل قصوره في بحث
آخر فهو عاجز عن تحديدها بكل دقة ، عن أمير المؤمنين(عليه
السلام) «من عمل بغير علم كان ; ما يفسد أكثر ما يصلح» ، فللاحكام
والتعاليم الدينية حدود لارضاء هذه الميول والغرائز، ومن هنا أطلق على الاحكام
الاسلامية بصورة عامة (بالحدود)، في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة
(تلك حدود الله فلا تعتدوها)
فلابد من الالتزام بهذه الحدود ، فلا كبت ولا اطلاق للحدود ، وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) «من حصر شهوته فقد صان قدره» .

ومن مميزات الاسلام ، أنه اعترف بمشروعية جميع
الغرائز البشرية ، فلا رهبانية في الاسلام (ورهبانية
ابتدعوها) ولا حرية حيوانية (اولئك كالانعام بل أضل سبيلا)
، كبعض المبادئ التي التزمت بأحد هذين الاتجاهين ، فهناك حدود عمل هذه الغرائز ،
فالرغبة الجنسية حددّها الاسلام بالزواج ، وحب الثروة بالتجارة المشروعة .

وليس مقياس السعادة في رأي الاسلام عدم الاضرار
بالاخرين فحسب ، بل عدم الاضرار بالنفس أيضا ، فشارب الخمر والمقامر ربما يشرب أو
يلعب بصورة لا تضر بالاخرين ، ولكنها تضر بنفسه ، ومن هنا وردت النصوص الشرعية في
عدم إلحاق الضرر بالنفس وبالاخرين، عن النبي(صلى
الله عليه وآله) «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام» ، وقال تعالى
(ماجعل عليكم في الدين من حرج) ، الذي يعني ان الاسلام لا يصدر منه حكم يجيز إلحاق
الضرر أو الحرج والمشقة بالنفس أو بالعرض أو المال لنفسه وللاخرين .

إن الاسلام لاجل صيانة الذات وتوفير سعادة الفرد
والمجتمع أودع هذه الغرائز والميول في الانسان ، فوجود كل واحدة ضرورية لحياته
المتوازنة السعيدة ، ولكن يشترط التعديل في الاستجابة لها ، والحياة السعيدة
الناجحة متوقفة على تعديل الغرائز حتى لو لم يكندين، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) «لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا
ثواباً ولاعقاباً لكان ينبغي لنا أن نطالب بمكارم الاخلاق ، فإنها مما
تدل على سبيل النجاح»([12])
.
ونحن نعلم أن الغرائز والرغبات الفطرية على قسمين :

الغرائز غير الاختيارية : كرغبة الطعام والشراب ،
فسواء أراد الانسان أو لم يرد ، تعرض للمثير أو لم يتعرض ، فإن نفسه ترغب بالطعام
والشراب تلقائياً ، بحيث إذا لم يستجب لها سيهلك .

الغرائز والرغبات الاختيارية : كالرغبة الجنسية فليست
هي كرغبة الطعام والشراب ، فإنها تابعة للتفكير والتعرض للمثير ، وتحتاج لما
يحركها من الخارج ، فلابد من وجود عوامل تؤدي لظهورها أو زيادتها ، أو ضعفها وهو
التعرض للمثيرات وعدم وجود المرض ، لذلك يمكن للانسان التحكم فيها وتوجيهها .

ولذلك ومن أجل أن تؤثر هذه الرغبات في
سعادته وكماله وتبعد الضرر عن الفرد أو
المجتمع ; فلابد من ضبطها في تلك الحدود ، وقد ذكرنا أن الغرائز توجد لها مجالات
مشروعة وغير مشروعة وعلى المسلم المتوازن استخدامها في المجالات المشروعة . لذلك
يجدر بنا أن نتكلم حول أساليب الاسلام في علاج الغريزة الجنسية لاهميتها وخطورتها
.

وهناك أساليب ذكرها الاسلام وتعرضت لها النصوص
الاسلامية لعلاج الغريزة الجنسية وتعديلها .

ففي المرحلة الاولى يدعو الاسلام إلى الزواج ، لذلك
يشجع على الزواج المبكر من أجل عدم الوقوع في انحرافات الغريزة الجنسية ومزالقها ،
وتدل على ذلك آيات وأحاديث كثيرة .

قال تعالى : (وأنكحوا
الايامى منكم والصالحين من عبادكم) . وعن الرسول(صلى الله عليه وآله)«النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي
فليس مني»([13])
.

وأما إذا لم يقدر على الزواج لبعض الموانع ، فعليه
الاستعفاف أي الاصطبار (وليستعفف الذين لا يجدون
نكاحاً حتى يغنيهم اللّه من فضله) وإنما يتم ذلك
بترك التعرض للمثيرات والمهيجات لهذه الغريزة ، لما ذكرناه أن هذه الغريزة لا تلح
على الانسان لارتكاب الحرام إلاّ بالتعرض للمثيرات بعكس الطعام والشراب ، لذلك
عليه ترك النظر المحرم والاختلاء بالاجنبية ، فإن أقوى الاسباب المهيجة لها النظر
والخلوة ، ويجدر به أيضاً قلة التخيل والتفكير في الجنس وعدم التعرض لمثيراته من
القراءة والمشاهدات المثيرة ، لان المعصية عادة ما تبدأ من التفكير ، وليست أعمال
الانسان إلاّ انعكاساً لما يفكر فيه ، عن أمير المؤمنين(عليه
السلام) : «من كثر فكره في المعاصي دعته إليها» .

ولا يعني الاستعفاف في الاية الشريفة استقذار الدافع
الجنسي ، بل توقيته (حتى يغنيهم اللّه) ، أي حتى يتمكنوا من الزواج فليس هذا من الكبت ، لان
الكبت بمعنى استقذار الدافع الفطري ، ولا يجوز استقذاره بالنسبة للمسلم .

وهناك طريقة (التسامي) أي التصعيد ، أي صرف هذه
الطاقة في مجالات فاعلة ومفيدة تجعل الانسان لا يتأثر كثيراً بمضاعفات هذا الدافع
، كما لو أغرق نفسه في النشاطات والاعمال الفنية أو الرياضة وأمثالها ، وعن الرسول(صلى الله عليه وآله) : «يا معشر الشباب : من استطاع
منكم الباءة ; فليتزوج فإنه أعفّ للبطن والفرج فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له
وجاء»([14])
والباءة مؤؤنة الزواج ، والوجاء كسر الشهوة وتخفيفها ، ولا شك في تأثير الصوم في
ذلك .

بل يمكن القول بأنه حتى المتزوجين ، إذا لم يتحكموا
ولم يضبطوا غريزتهم الجنسية ضمن الحدود المشروعة وأطلقوها بلا حدود من النظر
والتخيل والخلوة والتعرض للمثيرات والمشاهدات فسوف لا يجدي زواجهم في منعهم عن
الوقوع في الانحرافات والمزالق .

قال تعالى : (قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم)وهو
خطاب عام ، أي أطهر لهم ولمجتمعهم ، وأبعد لهم من المتاعب النفسية والانحرافات ،
حيث يكون الفرد والمجتمع أكثر فاعلية وتوازناً ، لما ذكرناه ان الاسلام يسعى
دائماً في توفير الارضية الصالحة للتكامل والسعادة وقال تعالى :
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا
هم مبصرون) أي يواجهها بالموقف الاسلامي المشروع
.

إذن ... فالشعور الجنسي لا يثور إلاّ إذا وجد ما
يحركه ، فيطلب الاشباع، ولا يوجد كبت إذا لم يثر ، ولكن لو تعرض للمثيرات يكون
خطراً، ولا خطورة لو لم يتعرض لها ، وحين يستثار الجنس بغير طرقه المشروعة ينتهي
إلى مفاسد يوجبها الانطلاق أو عقد يوجبها الحرمان والكبت .

ومن عوامل انحرافات الفطرة والميول الفطرية ، التوجيه
السيء للدوافع الفطرية أو عدم توجيهها وإهمالها ، والشرائع الالهية بعثت لتوجيه
الميول الفطرية توجيها سليما سويا ، وذلك لاحتياج هذه الميول لمن يوجهها التوجيه
الصحيح ، ومن هنا يظهر تأثير تربية الابوين والمحيط في توجيه الغرائز ، حيث يؤثر
هذان العاملان في تشكيل نفسية الفرد (قل كل يعمل
على شاكلته) أي نفسيته التي صنعت بفعل التربية
الفاسدة والمعاصي ، وإذا وجّه الانسان في صغره الوجهة الصحيحة كان سعيداً في كبره
وإلاّ كان شقيا ، فالدور المهم في انحراف الابناء ناشيء من مسامحة الاباء في هداية
غرائزهم وميولهم ومن تأثير المحيط، بالاضافة إلى أفعال الانسان نفسه وتأثيرها في
تشكيل نفسه وصفاته النفسية ، فالافعال المنحرفة تخلق حالة نفسية منحرفة تدعو
للمعصية .

ولكن كل هذه العوامل ليس لها التأثير الجبري في نفسية
الانسان ، بل لها تأثير استعدادي واقتضائي ، فحتى لو نشأ في بيئة فاسدة أو كان
منحرفاً ومرتكباً للمعاصي وتغيرت نفسيته حسب هذه العوامل ولكنه في المستقبل يمكنه
تغيير نفسيته إلى طريق الصلاح والهداية ، وإن كانت معاناته أكثر من ذلك الفرد الذي
نشأ في بيئة صالحة أو كان ملتزماً منذ صغره ، حيث تكون مخالفته للمعصية أكثر
عناءاً أو مشقة ، ولمجاهدة النفس والتعود على الملكات الفاضلة ، وترك الرذائل
والاخلاق والاعمال الفاسدة الاثر الكبير في تغيير نفسه ، لان نفس الانسان ملائمة لاعماله
، لتأثير الاعمال الخارجية على شكل نفسيته وشاكلته ، للتأثير المتبادل بين النفس
والبدن ، والاعمال البدنية والصفات النفسية .

ومن هنا عليه مجاهدة النفس ، والتعود على الاعمال
الصالحة وترك الرذائل ، فعن الرسول(صلى الله عليه وآله)
«الخير عادة» من خلال ما ذكرناه من عدم التعرض للمثيرات المحرمة والاستجابة
لغرائزه من خلال الحدود المشروعة ، تطهر نفسيته وصفاته النفسية ، ولا تنطلق منها
إلاّ الايحاءات الطاهرة .

وعليه أن يحذر من التمادي في المعصية والرذيلة
والجريمة لئلا تصل نفسه من خلال هذا التمادي إلى حالة القسوة والرين بالمصطلح
القرآني ، بحيث لا يوفق للتوبة بعد ذلك أبداً . بل ربما أدى به هذا التمادي إلى
حالة الجحود العقائدي أيضاً فضلاً عن الفسق العملي كما ذكرنا ، فإن بعض النصوص تدل
على أن ارتكاب الذنوب كثيراً، وتكرارها ، ربما ادى إلى حالة تحجر القلب وقسوته ،
بحيث لا تخطر التوبة فيه بعد ذلك ، وتصبح المعصية ملكة نفسية راسخة ، تشد الانسان إليها
، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحالة بتعبيرات عديدة ، منها القسوة
(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)
(ولكن قست قلوبهم
وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه) ومنها الختم
(ختم
اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهمعذاب عظيم)(والطبع (وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون)
(اولئك الذينطبعاللّه
على قلوبهم واتبعوا أهواءهم) (كذلك يطبع اللّه على كل قلبمتكبرجبار)
(وطبع على قلوبهم
فهم لا يفقهون) والرين (كلا
بل ران علىقلوبهمماكانوا يكسبون)، وعن الامام الصادق(عليه
السلام) «إذا أذنب الرجلخرجت فيقلبه نكتة سوداء
فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح أبداً»([15])
.
لذلك ، قبل أن يصل الانسان في نفسه لهذه المرحلة عليه
إصلاحها وتوجيهها في طريق النور والهداية ، وهي تحصل من التعرف على الثقافة
الاسلامية والعقائدية الصحيحة ، والتعود على ممارسة الاعمال الصالحة ، والاجواء
الاسلامية ، وترك الاعمال المنحرفة والاجواء المثيرة للانحراف وأمثالها من
الاساليب .

([1]) البحار 2 : 88 .

([2]) الاعراف : 32 .

([3])
لذات فلسفة : 101 (بالفارسية) .

([4]) سير حكمت در اوربا 3 : 27 (بالفارسية) .

([5]) عن كتاب الطفل للشيخ الفلسفي 1 : 348، وقد استفدت في بعض مواضع هذا المقال من هذا
الكتاب ، وكتاب الاخلاق له أيضاً، وكذلك من كتاب (الحجاب) للشيخ المطهري .

([6]) سفينة البحار 1 : 82 .

([7]) الكافي 1 : 336 .

([8]) الاسراء : 16 .

([9]) القصص : 42 .

([10]) تفسير الطنطاوي 21 : 180 .

([11]) غرر الحكم : 188 .

([12]) آداب النفس 1 : 26 .

([13]) البحار 100 : 220 .

([14]) مستدرك الوسائل 14 : 153 .

([15]) وسائل الشيعة 11 : 239 .

/ 1