نقاط الالتقاء أو التقارب في الاجتهاد و التقليد بين المذاهب
مركز البحوث و الدراسات لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية
المقدمة
لا ريب أنّ البحث في مسألة الاجتهاد والتقليد، من أهم الأبحاث الّتي يجب التداول فيهابين علماء المذاهب الإسلاميّة؛ وذلك لأهميّة الاجتهاد من نواح ثلاث : الأولى : تحقيق مصداقيّة خلود الإسلام و عالميّته : إنّ الإسلام دين الخلود والبقاء على
مرّ الزمن، ولم يكن الإسلام هكذا إلاّ بما فيه من المرونة الّتي تتلاءم مع تغير وتبدّل
الظروف ومقتضيات الزمن. ومعلوم أنّ هذه المرونة سوف تفقد حيويّتها ودورها إذا لم يكن
باب الاجتهاد مفتوحاً، حيث إنّ عمليّة الاجتهاد تؤدي إلى كشف مواطن هذه المرونة، والاستفادة
منها لاستنباط الأحكام الشرعيّة لا سيّما المستجدة منها. الثانية : تأثير البحث في الاجتهاد على سائر البحوث سعةً و ضيقاً : يعتبر الاجتهاد مفتاحاً
للدخول في البحوث الأخرى، و كنتيجة لهذا فالبحث فيه وتطبيقه عمليّاً بسعة او ضيق سوف
يؤثّر تأثيراً جذريّاً على المسائل الفقهيّة بل الأصوليّة. الثالثة : إن جرأة العلماء على القيام بالبحث الحرّ في مسألة الاجتهاد و قبول تغيير الرأي
فيها، اكثر بكثير منها في البحث عن سائر المسائل. وليس ذلك إلاّ لأنّ عمليّة الاجتهاد
تعتبر منهجاً لكشف الأحكام. ومعلوم أنّ المنهج من جانب يكون البحث عن الكثير
من عناصره
بحثا نظرياً بحتاً، و بديهيّ أنّ الجرأة في المسائل النظريّة البحتة أكثر من غيرها،
ومن جانب آخر إنّ الباحث بما أنّه يعرف ولو بصورة إجماليّة أنّ الخطأ في المنهج سوف
يفتح أمامه الأبواب إلى أخطاء كثيرة في مجالات الأحكام، تأخذه في البحث عن المنهج واختيار
نوعه حساسيّة شديدة، وهذه الحساسيّة تودّي به إلى الجرأة في البحث. و لذلك نرى أنّ العلماء قد اثبتوا من خلال أبحاثهم حول الاجتهاد، أنّهم في هذه المسألة
أكثر استعدادا لقبول التغيير، و لقد كان الشيخ شلتوت يبدي آراء بديعة في هذا المجال،
فهو مثلاً يقول : «نريد تخريج أئمة في اللغة و فروعها، و أئمة في الفقه و أصوله. نريده
تخريجاً اساسه النظر العميق والاجتهاد العملي الّذي يكوّن الشخصيّة الفقهيّة، والشخصيّة
اللغويّة العربيّة، لا نريده تخريجاً نلتزم فيه مخلفات الماضي من آراء ومذاهب، بل يجب
أن نجتهد وأن نؤمن بأنّ حاجة اليوم في الفقه واللغة وعقائد الدين غيرها بالأمس، وأن
نؤمن بأنّ فضل اللّه في كلّ ذلك لم يكن وقفا على الاولين»
(1) . ولا يخفى أن توفر عنصر الجرأة على ابداء الرأي في هذه المسألة جعلها اوسع ميدان للتقريب
. ومن هنا فقد ارتأينا في هذه المقالة ابراز نقاط الالتقاء او التقارب في العناوين الرئيسيّة
للاجتهاد والتقليد بين المذاهب، والبحث في موضوعاتها بما يبرز هذه النقاط . ومعلوم أنّ
هذا الأمر سوف لا تقتصر فائدته على موضوع الاجتهاد والتقليد خاصة، بل إنّ ذلك سوف ينجر
إلى التقريب في سائر الموضوعات الاخرى. ونود الاشارة إلى أنّ منهجنا في هذه المقالة
ـ اضافة إلى الاقتصار على ما اتّفق عليه أو كان لا اتّفاق فيه قريباً ـ هو الإيجاز،
إلاّ اذا تطلب البحث التوسع في ذلك. والّذي يدعونا إلى التوسع في بعض الموارد، ليس إلاّ
محاولة ابراز أنّ وراء العناوين والتعابير والأساليب المختلفة، معنى واحداً وغرضاً فارداً
.
مواطن الاتفاق أو التقارب في الاجتهاد
1ـ معنى الاجتهاد
عُرّف الاجتهاد اصطلاحاً بتعاريف قد تختلف من حيث بعض القيود والإضافات، ولكنّها تصبّفي مجرىً واحد يتضمن الأمور التالية : 1 ـ أنّ الإجتهاد هو بذل الوسع بحد الإمكان ويعبر عنه باستفراغ الجهد. 2 ـ أنّ بذل هذا الجهد تكون دائرته ضمن الأدلّة الشرعيّة. 3 ـ أنّ الهدف منه ـ أي استفراغ الجهد ـ الوصول إلى الأحكام الشرعيّة. نعم هناك نكات من التعريف قد يبدو منها الاختلاف، ولتوضيح الأمر نقول : اولاً : عبّر البعض بقول : العلم بالأحكام الشرعيّة، فيما عبّر الآخرون بالظنّ. وبما أنّه
ليس للعلم أو الظن خصوصية منظورة هنا، يمكن القول بأنّ التعبير عن الاجتهاد بأنّه استفراغ
الجهد لدرك الأحكام الشرعيّة كما فعل البعض (2) ، هو افضل من غيره، لشموله للعلم و الظن. ثانياً : عُرّف الاجتهاد في بعض التعاريف بأنّه ملكة تحصيل الحجج
(3) . ومعلوم أنّ الاجتهاد على أساس هذا التعريف حالة ترسخ في النفس، بينما المقصود من تعريفه
باستفراغ الجهد هو بيانه بما يرتبط بمقام العمل، فكأنّ القائل بأنّه ملكة أراد الفصل
بين حقيقة الاجتهاد وعمليّته، فاستفراغ الجهد هو عمليّة الاجتهاد، بينما الملكة هي نفس
حقيقة الاجتهاد. ثالثاً : أضاف بعض المحققين من الشيعة إلى الأحكام الشرعيّة قولهم : أو الوظائف العمليّة
. وهذا ينطلق ممّا وصل إليه فكرهم الأصوليّ اخيراً بالفصل بين الحكم و الوظيفة العمليّة،
الفكرة الّتي قد سببت حدوث تطورات هامّة في أصول الفقه عند الإماميّة. 2ـ فتح باب الاجتهاد المطلق
لإبراز الاتفاق بين المذاهب في هذا الجانب، نرى لزاماً علينا أن نشير إلى نبذة عن تاريخ
فتح الاجتهاد عند الإماميّة والسنّة. فالإماميّة بقي باب الاجتهاد عندهم مفتوحاً حتّى يومنا هذا، ومازالوا يمارسونه عملّياً
. أمّا السنّة فقد كان الأمر عندهم كذلك في زمن ائمة المذاهب، ولكن بعد ذلك مرّت عليهم
فترة من الزمن انسدّ فيها باب الاجتهاد واقتصر على التقليد، وقد اطلق البعض على هذه
الفترة الزمنيّة بأنّها (عهد التقليد). وما كان يُسمع فيها صوت ينادي بفتح باب الاجتهاد
إلا من قبل بعض الفقهاء (4) . أمّا المتأخرون من السنّة فإنّهم يرون وجوب فتح باب الاجتهاد . يقول الأستاذ المراغي
: «إنّي مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد أخالفهم في رأيهم وأقول : إنّ في
علماء المعاهد الدينيّة في مصر من توافرت فيه شروط الاجتهاد وحرم عليه التقليد» (5) . ومن هنا يمكن القول إنّ الرأي السائد حاليّاً عند المذاهب الإسلاميّة وجوب فتح باب الإجتهاد،
وإنّها تكاد تكون من المسلمات لاسيّما مع ازدياد الحاجة إليه بمرور الزمن. 3ـ المجتهد لو اخطأ فهو معذور
يكاد يحصل الاتّفاق بين جميع من قال بجواز الخطأ على المجتهد ـ أي المخطئة ـ على أنّ
المجتهد غير آثم في خطأه الاجتهادي، وهو معذور في ذلك. ولعل الّذي دفعهم إلى هذا القول
الرواية الّتي تلقتها الأمّة بالقبول ـ كما يقول صاحب الفصول (6) ـ وهي : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله اجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله اجر». و جدير بالذكر أنّ طائفة من المخطئة وإن ذهبت إلى عدم الاجر للمجتهد المخطئ غير أنّها
تتّفق مع سائر المخطئة على عدم الاثم، وهذا هو ما يعبر عنه بالمعذريّة. 4ـ لا اجتهاد مع النصّ
لقد حصل الاتفاق على حرمة الاجتهاد في حالة وجود نصّ في الكتاب والسنّة. وقد ذكر ابن
قيّم الجوزية قيام الإجماع على ذلك، وعقد لذلك فصلاً مستقلاً اثبت فيه ذلك
(7) ، وذكر فيه من جملة ما ذكر أنّ الشافعيّ قال : «لا قول لأحد مع سنّة رسول اللهّ (ص)»،
وقال : «أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول اللّه (ص) لم يكن له أن يدعها لقول
أحد من الناس»، وقال : «إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط». يقول السيد شرف الدين من الإماميّة مبرزاً لهذا الاتفاق : «إنّ من دين امّة محمد (ص)
التعبّد بظواهر الكتاب والسنّة، فضلاً عن نصوصها الصريحة، جروا في الأخذ بهما، والعمل
على مقتضاهما مجرى أهل العرف من أهل اللغات كلّها... فليس لمن يؤمن بهذه الآيات او يصدّق
نبوة النبيّ (ص) أن يحيد عن نصوصه قيد شعرة فما دونها» (8) . 5ـ شروط الاجتهاد
هناك شروط اتّفق عليها الشيعة والسنة ينبغي توافرها في المجتهد، ويمكن أن نذكر المهمّ
منها كما يأتي (9) . 1 ـ معرفة الكتاب و السنّة. 2 ـ العلم بفنون اللغة العربيّة. 3 ـ العلم بأصول الفقه. أما غيرها من الشروط التي ذكرها البعض، مثل : الانس بالمحاورات العرفيّة، وفهم الموضوعات
العرفيّة (10) ، و معرفة المنطق (11) ، والعلم بمواضع الخلاف والإجماع
(12) ، فهي شروط ثانويّة ولا تمثّل خلافاً جوهرياً مع الاتفاق على الشروط الأساسيّة، ولو كان
فيه اختلاف فهو على سبيل الاختلاف بين القبض و البسط. 6ـ حرمة تقليد المجتهد لغيره
اتفق جميع الفقهاء على أنّ المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنّه الحكم لم يجز له تقليد غيره (13) . يقول السيد الحكيم : «والذي يبدو ليـ في حدود ما رأيت ـ أنّ كلمة الأعلام تكاد تتفق
على حجّيةرأي المجتهد، ولزوم العمل به وعدم جواز رجوعه إلى الغير في الجملة» (14) . 7ـ انحصار صلاحيّة الإفتاء والقضايا بالمجتهد
اتفق الفقهاء على عدم جواز الإفتاء إلاّ لمجتهد (15) ، وأما القضاء لغير المجتهد فالأكثر على منعه (16) ؛ لأن غير المجتهد لم يحصل بعد على ملكة الاجتهاد اللازمة لاستنباط الأحكام الشرعيّة
.
مواطن الاتفاق أو التقارب في التقليد
1ـ معنى التقليد
عُرّف التقليد اصطلاحاً بتعاريف متعددة، منها : العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة (17) ، ومنها : قبول قول الغير من غير حجة (18) ، و منها : العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج، بلا حجة منها(19) . و يكاد يلتقي جميع ما ذكرنا من التعاريف حول محور واحد وروح واحدة ـ مع الإختلاف في التعبير
عن بعض التفاصيل ـ ويمكن إبراز ذلك في نقاط : 1ـ اتّفق الجميع على أنّ عمليّة التقليد هي : رجوع المقلّد ـ أي العامي ـ إلى العالم
المجتهد، حيث يجعل عمله مطابقاً لفتاوي المقلّد وعبّر عن ذلك بالقبول، ومنهم من عبّر
عنه بالعمل، وآخرون بالأخذ أو الالتزام وغير ذلك. 2 ـ اتّفق الجميع على أنّ التقليد يتم من دون مطالبة المقلّد بالدليل، والوجه في استنباط
الحكم الشرعي، بل يأخذه المقلّد اخذ المسلمات. وقد عبّر البعض عن هذا الأمر بقوله : «من
غير حجة»، فيما عبّر عنه آخرون بقولهم : «من غير معرفة دليله»، ومنهم من عبّر عنه بقوله
«تعبّداً»، أو غير ذلك. 3 ـ اتّفق الجميع على أنّ اخذ قول النبيّ (ص) ليس تقليداً، فقوله (ص) هو حجة شرعيّة
برأسه، وقد اشارت بعض التعريفات إلى هذا الأمر فذكر البعض في التعريف قوله : «من ليس
قوله إحدى الحجج»، فيما عبّر آخرون بقولهم : «من يجوز عليه الخطأ»، وبهذا القيد خرج أخذ
قول النبيّ (ص) من التقليد. 2ـ مجال التقليد
يمكن القول بحصول الاتّفاق ـ عموماً
(20) ـ بين العلماء على أنّ مجال التقليد هو الأحكام الفرعيّة غير الضرورية. أما اصول العقائد
والأحكام الشرعيّة الضروريّة فلا يجوز التقليد فيها. 3ـ حكم التقليد
لو تتبعنا الأقوال في حكم التقليد لرأيناها عدة، ولكنها بالتحليل والتفصيل يمكن إرجاعها
إلى نقطة واحدة أو نقاط متقاربة. ولتوضيح الأمر نقول : إنّ هناك ثلاثة أقوال في حكم التقليد
هي : اولاً : الوجوب التعييني، بمعنى أنّه يجب على المكلف تعييناً التقليد. ثانياً : الحرمة، بمعنى أنّه ليس للمكلف أن يقلد أحداً. ثالثاً : الوجوب التخييري، أي إنّ المكلف له ان يسعى للاجتهاد ـ إن كان اهلاً لذلك ـ
أو أن يكون مقلداً. وقد ذكرت أقوال اخرى نشير إليها خلال البحث. أمّا الوجوب التخييري فعليه الأكثر من الإماميّة و السنة (21) ، كما يبدو من تتبع الأقوال. وقد عبّر عن الوجوب التخييري بمذهب التفصيل
(22) ، و المقصود منهما واحد، والمصطلح جاء ليكون مقابل القول الاول ـ أي الوجوب التعييني
ـ، بينما المصطلح الثاني يشير إلى أنّه تفصيل بين القولين الأولين. وقد عبّر البعض بالجواز بدلاً عن الوجوب، والظاهر أنّ مرادهم منه الجواز بالمعنى الأعم
في مقابل المنع لا الإباحة، أو مرادهم الإشارة إلى وجود الطرف الثاني من الواجب التخييري
وهو الاجتهاد (23) . و غير خفيّ أنّ التخيير قائم بين التقليد وتحصيل مقدمات الاجتهاد وإلا فلو بلغ المكلف
رتبة الاجتهاد لما بقي هذا التخيير في حقه، بل حرم عليه التقليد. أما القول الثاني، وهو حرمة التقليد فقد قال قوم من ابرزهم الشوكاني (24) ، وابن حزم (25) وابن قيّم الجوزية (26) ، ومعتزلة بغداد (27) ، وعلماء حلب من الإماميّة (28) ، وكذلك الأخباريون منهم (29) . بل يمكن القول إنّه ظاهر الائمة الأربعة حيث منعوا الناس من تقليدهم
(30) . ولو اردنا استقصاء اقوالهم لخرجنا بنتيجة مهمة، وهي أنّ كثيراً من اقوالهم يمكن أن ترد
إلى القول الثالث، أي الجواز، وإلا فيكفينا في الرد على قولهم بالاجتهاد العيني ـ إن
قصدوه ـ أنّه يلزم فيه العسر والحرج بل الخلل في نظام الحياة، بل إنّه مما يستحيل على
كثير من افراد المكلفين. وفيما يلي نذكر ما يمكن أن يحمل عليه مذهبهم بصدد التوفيق بينه وبين القول بالجواز : أما الشوكاني وابن قيّم الجوزية (31) ، فإنّهما منعا من التقليد من دون معرفة الدليل والوجه في الحكم الشرعي، الأمرالذي يجعل
المكلف عرضة لتقليد رأي المجتهد، وهذا الذي قصداه هو ما يسمى الاتباع وهو جائز، عكس
التقليد الذي هو حرام. وقد تبعهم بوجوب الاتباع جمع، منهم ابن عبدالبر، وابن خويز منداد، كما حكاه عنهم السيوطي (32) ، وهوالظاهر من كلام أحمد بل بقيّة ائمة المذاهب الأربعة (33) . وأما الأخباريون، فالظاهر أنّهم حصروا الاجتهاد فيمن يقتصر في إستنباطه على الكتاب والسنّة (34) . نعم كان الاوائل منهم يرون حرمة الاجتهاد و التقليد معاً
(35) . و أما الظاهر من علماء حلب فهو أنّ مرادهم من وجوب الاجتهاد وتحريم التقليد، هو الوجوب
والتحريم على من اتصف بشرائط الاجتهاد وامكنه القيام به، و إلاّ فالأغلب من الناس لو
بذل عمره واعطى اضعافه لما حصل له الترقي إلى درجة الاجتهاد (36) . أما ابن حزم فالظاهر منعه عن التقليد بقدر ما يمكن للمكلف من الاجتهاد
(37) . وبهذا يتبيّن أن قول البعض ممّن قال بالمنع يلتقي مع القول بالجوازكمايبدو من ابن حزم
وعلماء حلب، فيما يرجع قول البعض الآخرإلى الجواز مع اضافة قيد إما إلى نفس التقليد،
كقول الشوكاني وابن قيّم الجوزية اللذين عبّرا عنه بالاتباع، أوإلى المجتهد الذي يجوز
تقليده كما هو قول الأخباريين الإماميّة. ولعل التشديد عند هؤلاء في امر التقليد وعدم اطلاق القول بالجواز هو تمسك جماعات من
المسلمين بمجتهد معين وتفويضهم إيّاه أمر دينهم، والتزامهم العمل بمذهبه فيما دقّ وجلّ،
وتقديمهم ما جاء عنه على بعض الأحاديث الّتي صحت عند غيرهم، وعدم بحثهم عن صحتها بمجرد
ترك الإمام لها، ظناً بأنّ عدم اخذهم بها دليل على ضعفها، وتصدّر اناس من اصحاب المذاهب
للفتوى ممّن لا فرق بينهم وبين العامة إلا قليلاً، والتلاعب بالفتوى من بعض هؤلاء، كلّ
هذا من غير أن يبحثوا ومن غير أن ينظروا في آراء غيرهم من العلماء بعين الاعتبار (38) . بقي القول الاول، أي الوجوب التعييني، وهو قول الحشويّة والتعليميّة، وكذلك ما حصل في
عهود التقليد عند السنّة الّتي أُعلن فيها غلق باب الاجتهاد
(39) . و الظاهر شذوذ هذا القول عن جمهور الأمة، ولا يقول به الآن أحد. ومن خلال ما ذكرنا من البحث يتبيّن لنا أنّ القول الثالث، أي الوجوب التخييري، هو قول
اكثرية الأمة. 3ـ أدلة التقليد
ذكر العلماء لجواز التقليد أدلة سمعيّة وعقليّة، ونحن نذكر بعض ما اتفقوا عليه من هذه
الأدلة : 1 ـ الكتاب الكريم : لعلّ ابرز آية استدل بها على جواز التقليد هي قوله تعالى : (فاسأَلوا
أهلَ الذكرِ إنْ كنتمْ لا تَعلمون) (40) . وقد ذكرها الكثير من العلماء (41) ، مستدلين بها على جواز رجوع العامي إلى المفتي. 2ـ الاجماع : ذكر الاكثرون (42) من علماء الامة أن الاجماع قام على جواز رجوع العامي إلى المجتهد. والظاهر منهم أنه
اجماع سكوتيّ حصل من عدم وجود تناكر لما اعتاده العوام من الرجوع إلى المفتين. 3ـ العقل : هناك صياغتان لدليل العقل : الأولى : ذكرها اغلب العلماء، وهي أنّه لو وجب على العامي النظر في ادلّة الفقه لزم الضرر
بأمر المعاش المضطر إليه، بل اختلال النظم وانقطاع الحرث والنسل
(43) ، فلا بد له من تقليد المجتهد في احراز امتثال التكاليف الالزاميّة الشرعيّة. الثانيّة : انفرد بها بعض الإماميّة، وسموها دليل الانسداد، وخلاصتها أنّ التقليد إذا
لم يكن جائزاً يلزم سدّ باب العلم على العامي؛ لعجزه غالباً عن استنباط الأحكام الشرعيّة (44) . و هناك نقاط اخرى من الاتفاق او التقارب في مسألتي الاجتهاد والتقليد تركناها حذراً من
الإطالة. و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين
(1) رسالة الإسلام 14 : 215. (2) انظر : نهاية السول للاسنوي 2 : 524، وتقريب الأصول لابن جزّي : 151، وقواعد الأصول
لصفي الدين الحنبلي : 43، وشرح طلعة الشمس للسالمي 2 : 274، ومعارج الأصول للمحقق الحلي
: 179، والقول المفيد للشوكاني : 95، وشرح تنقيح الفصول للقرافي : 429، ومرآة الأصول للاستانبولي
2 : 313. (3) الأصول العامة للفقه المقارن لمحمد تقي الحكيم : 563. (4) لقد كان يظهر من حين لآخر بعض علماء المذاهب الذين ينادون بفتح باب الاجتهاد، والاعتماد
على الكتاب والسنّة والادلة الاخرى، حتى لو ادى ذلك إلى مخالفة آراء ائمة، ولعل اكثرهم
كانوا من فقهاء الحنابلة، حيث إنهم يرون عدم خلو عصر من العصور من وجود مجتهد، انظر
: المدخل إلى مذهب احمد بن حنبل لابن بدران : 192. (5) رسالة الاسلام 1 : 351. (6) الفصول في الأصول للاصفهاني : 403. (7) اعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 2 : 199. (8) الاجتهاد في مقابل النص للسيد شريف الدين : 84 ـ 85. (9) الرسائل للامام الخميني 2 1 : 97 ـ 98، واصول الفقه لابي زهرة : 380. (10) الرسائل للامام الخميني 2 1 : 96. (11) الاجتهاد والتقليد لرضا الصدر : 32، والاجتهاد لمحمد موسى : 173. (12) المدخل إلى مذهب
احمد لابن بدران : 182. (13) روضة الناظر، لابن قدامة : 202. (14) الأصول العامة للفقه المقارن لمحمد تقي الحكيم : 609. (15) راجع موسوعة الفقه الاسلامي 17 : 284، ومستمسك العروة الوثقى 1 : .69 والظاهر من المذاهب
الاربعة عدم اشتراط كونه مجتهداً مطلقاً. (16) مواهب الجليل 6 : 88، وجواهر الكلام 40 : 15، والمغني لابن قدامة 11 : 382. (17) الأحكام للآمدي 4 : 445. (18) معارج الأصول للمحقق الحلي : 199، وروضة الناظر : 205. (19) تيسير التحرير لابن الهمام 4 : 241 ـ 242. (20) شذّ الحشويّة والتعليمية في ذلك، حيث جوّزوا بل اوجبوا التقليد حتى في الأصول.
الأحكام للآمدي 4 : 446. (21) الأصول العامة للفقه المقارن لمحمد تقي الحكيم : 641. (22) اصول الفقه للزحيلي 2 : 1127، وارشاد الفحول ي : 267. (23) ذكر المتأخرون من الامامية طرفاً ثالثاً في التخيير وهو الأحتياط. العروة الوثقى
1 : 4. (24) ارشاد الفحول للشوكاني : 267. (25) الأحكام لابن حزم 6 : 227. (26) اعلام الموقعين 2 : 192. (27) مبادئ الوصول : 247، ومفاتيح الأصول : 589. (28) مفاتيح الأصول : 589،لة للحكيم : 642. (29) الفوائد المدنية : 40. (30) ارشاد الفحول للشوكاني : 267،
والاجتهاد في الاسلام للمراغي : 32. (31) اعلام الموقعين 2 : 190، والقول المفيد للشوكاني : 69. (32) الرد على من اخلد إلى الارض للسيوطي : 44 و 46. (33) الاجتهاد في الاسلام للمراغي : 37. (34) الدرر النجفية للبحراني : 256. (35)الفوائد المدنية. (36) منبع الحياة للجزائري : 14. (37) الأحكام لابن حزم 6 : 296. (38) الاجتهاد لمحمد موسى : 574. (39) الأصول العامة للحكيم : 641. (40) النحل : 43. (41) تيسير التحرير 4 : 246 ـ 247، ومقالات الأصول للعراقي 2 : 207، ومنتهى الأصول والأمل
: 220، الأحكام للآمدي 4 : 450 و 452، وروضة الناظر : 206. (42) المحصول 2 : 527، والذريعة للمرتضى : 796، وتيسير التحرير 4 : 247، ومنتهى الأصول والأمل
: 220، وشرح الكوكب المنير : .411 وشرح الازهار للمرتضى 1 : 5. (43) المعارج : 197، وحقائق الايمان : 199، وصفة الفتوى والمفتي : 53، وروضة الناظر : 206،
ومنتهى الأصول والأمل : 202، وأحكام الفصول : 726 ـ 728، والتبصرة : 414، والأحكام للآمدي
4 : 450، ولم يذكره الأحناف. (44) الرأي السديد للسيد الخوئي 1 : .25