من تاریخ أهل البیت (ع) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

من تاریخ أهل البیت (ع) - نسخه متنی

صلاح عبدالرزاق

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

مـن تاريـخ أهـل البيـت(عليهم السلام)

الامام علي(عليه السلام) والمعارضة السياسية

( 2 )

* صلاح
عبدالرزاق (هولندا)
مغادرة قاعدة الحكم :

لم تكن الاقامة في المدينة أمراً يحتمل في نفوس طلحة
والزبير . وكان الإمام علي(عليه السلام) يشك في ولائهما ووفائهما بعد انهيار
طموحاتهما وتبدد أحلامهما ، كان(عليه السلام) يتوقع أن يثيرا بوجهه القلاقل والاضطرابات
، وأنهما ربما سيلتحقان بمعاوية في الشام أو يتخذان من البصرة مقراً لحركتهما ضد السلطة
الشرعية . ولما جاءاه وطلبا الإذن منه بالسفر إلى مكة للعمرة ، فقال لهما : لعلكما
تريدان البصرة أو الشام ، فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة([1])
.

لم يكن أميرالمؤمنين(عليه السلام) بالذي يعاقب على الظن
والشبهة ، ولم يفرض اقامة اجبارية عليهما في المدينة تحت أي ذريعة . ولم يمنعهما
من السفر، إذ لم يدانا قضائياً أو يثبت عليها شيء يؤكد معارضتهما للسلطة أو نواياهما
بالخروج المسلح ضد الخليفة ، وقال(عليه السلام) :
واللّه ما أرادا العمرة ،
ولكنهما أرادا الغدرة([2])
. ومع ذلك تركهما(عليه السلام) وشأنهما ، فيثبت بذلك قمة في الالتزام الشديد بروح
الإسلام وتعاليمه وأحكام الشريعة الاسلامية . ولم يرض(عليه السلام) بظلم أحد حتى
في سبيل المصلحة الاسلامية . لم تكن السلطة همه ، والمحافظة عليها غايته ، بل
التمسك بالاسلام وما جاء به الرسول(صلى الله عليه وآله) من قيم ومثل وتعاليم .

لقد برهن(عليه السلام) أن الإسلام عظيم بقدرته على مواجهة
الحق للباطل ، وحرصه على عدم حرمان خصوم السلطة الشرعية من حرياتهم الشخصية
والسياسية . لقد أراد(عليه السلام) أن يعطي للبشرية دروساً في العفو والسماحة
والالتزام بالقانون الإسلامي نصاً وروحاً . فلم يمنع أحداً من التعبير عن رأيه ،
بل ومواجهته ، ومخالفته ، واتهامه بشتى الاتهامات . لقد كان قلباً كبيراً ، وصدراً
رحبا ، ونفساً سامية ... لقد استطاع أن يمتص نقمة الناقمين ، ويروض انفعالات
الرافضين ، ولكن بعض النفوس أبت إلاّ الخروج على الشرعية ، ومخالفة إمامها وولي
أمرها ، وليس بعد الحق إلاّ الباطل.

إجتماع مكة ، التخطيط
للعصيان :

إجتمعت
في مكة جماعات من المسلمين ، دوافعهم مختلفة ، وغايتهم واحدة ، هي الخروج على
الخليفة الشرعي الإمام علي(عليه السلام) . فكان طلحة والزبير وعائشة ، وآخرون من
بني أمية ممن فقدوا امتيازاتهم ومناصبهم في الخلافة الجديدة ، ومنهم مروان بن
الحكم ، وعبداللّه بن عامر والي البصرة في عهد عثمان ، ويعلى بن منبه وهو عامل
عثمان على اليمن . وبدأ الافتراء على الإمام علي(عليه السلام) بعد خروجهما من
المدينة ، فكان (الزبير وطلحة يقولان للناس : ليس لعلي في أعناقنا بيعة . وإنما
بايعناه مكرهين . فبلغ عليا(عليه السلام) قولهما ، فقال :
أبعدهما اللّه وأغرب
دارهما ! أما واللّه لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ، ويأتيان من وردا
عليه بأشأم يوم ، واللّه ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني بوجهي فاجرين ، ورجعا
بوجهي غادرين ناكثين ، واللّه لا يلقيانني بعد اليوم إلاّ في كتيبة خشناء ، يقتلان
فيها أنفسهما ، فبعدا لهما وسحقا)([3]) .

وفي مكة عقدت اجتماعات تداولية لوضع خطة التحرك القادم
وشراء ما يحتاجه التحرك المسلح من أسلحة وخيل وإبل ، ومنها الجمل الشهير لأم
المؤمنين المسمى (عسكر) . وكان رأيهم التوجه إلى الشام لأنها لم تبايع بعد ، وأن
فيها معاوية الذي يقف سياسياً مع توجهات هذه المعارضة ولكنه حتما يريد أن يتزعمهم أو
يكون له نصيب له في السلطة، وهذا يعني التفريط بالسلطة وإعطاءها لمعاوية ، وهو ضد
أصل التحرك والخروج من المدينة ، أي نزع السلطة عن علي(عليه السلام) واستلامها من
قبل طلحة والزبير . وهذا ما أوضحه عبداللّه بن عامر ، الوالي السابق للبصرة،
حين قال لهم : إن الشام لا يمكن أن تصبح قاعدة التحرك لأن معاوية (لا ينقاد إليكم
، ولا يطيعكم ، ولكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد) ، فأعطاهم مليون درهم ومائة من
الإبل([4])
ليستعدوا بها في حرب أميرالمؤمنين(عليه السلام) .

ويؤكد ذلك قول يعلى بن منبه الذي حضر الإجتماع فقال : أيها
الشيخان ، قدرا قبل أن ترحلا أن معاوية قد سبقكم إلى الشام وفيها الجماعة ، وأنتم
تقدمون عليه غدا في فرقة ، وهو ابن عم عثمان دونكم . أرأيتم إن دفعكم عن الشام ،
أو قال : اجعلها شورى ، ما أنتم صانعون . أتقاتلونه أم تجعلونها شورى فتخرجا منها
؟ وأقبح من ذلك أن تأتيا رجلا في يديه أمر قد سبقكما إليه ، وتريدا أن تخرجاه منه
؟ فقال القوم : فإلى أين ؟ قال : إلى البصرة([5]) .

لما وصل الخبر إلى الإمام علي(عليه السلام) سارع بمصارحة
جمهور المسلمين ، فهذه من عادته ، إذ كان علي(عليه السلام) لا يخفي الأمور العامة
عن المسلمين ، ويتخذ قراراته تحت الشمس ، دون التواء أو إخفاء ، بل الوضوح
والصراحة ، وتحميل الجميع مسؤولياتهم في مواجهة الأحداث. ألقى(عليه السلام)خطبة
قال :

«أيها الناس ، إن عائشة سارت إلى البصرة ،
ومعها طلحة والزبير ، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه . أما طلحة فابن عمها ،
وأما الزبير فختنها (زوج الإبنة) ، واللّه لو ظفروا بما
أرادوا ـ ولن ينالوا ذلك أبدا ـ ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد .
واللّه إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلاّ في معصية اللّه وسخطه
، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة ، أي واللّه ليقتلن ثلثهم ، وليهربن ثلثهم
، وليتوبن ثلثهم . وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب ، وأنهما ليعلمان أنهما مخطئان .
ورب عالم قتله جهله . وحسبنا اللّه ونعم الوكيل . فقد قامت الفتنة فيها الفئة
الباغية ، أين المحتسبون ؟ أين المؤمنون ؟ مالي ولقريش ! أما واللّه لقد قتلتهم
كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين ! وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا
. واللّه لأبقرن الباطل ، حتى يظهر الحق من خاصرته ، فقل لقريش فلتضج ضجيجها
.
ثم نزل([6])
.

إحتلال البصرة غدرا :

سار القوم يحدوهم الأمل بالسيطرة على البصرة ، مستغلين
الأوضاع السياسية والأمنية التي لم تستقر. وبعد مواجهة مع واليها عثمان بن حنيف ،
عقدوا هدنة على تأجيل القتل حتى يصل أميرالمؤمنين. فلما هدأت الأمور قرروا استغلال
الفرصة والسيطرة على المدينة واتخاذها قاعدة لانطلاقهم ، فهاجموا الوالي في إحدى
الليالي ، وأخذوه أسيرا ، ثم عرضوه للتعذيب ، ونتفوا لحيته ، ذلا وإهانة . ولولا
خوفهم من أخيه سهل بن حنيف في المدينة ، واحتمال أن ينتقم من أهلهم هناك ، لما تركوه
حيا . وهجموا على بيت المال يريدون الاستيلاء عليه ، فواجههم الحرس ، فقتلوا سبعين
منهم ، خمسون منهم اعدموا قتلاً بالسيف بعد أسرهم([7]) . وبعد أن
سيطروا على الأمور ، تنازع طلحة والزبير أيهما يصلي بالناس ، حتى فات وقت الصلاة ،
فتدخلت عائشة واقترحت أن لا يصليا بالناس بل يتولى ابناهما ذلك (يصلي محمد بن طلحة
يوما وعبداللّه بن الزبير يوما)([8]) .

فلم تكن الصلاة تهمهم بل استلام منصب الإمام في الصلاة ،
لإرضاء نفوسهم ، وتحقيق جزء من أحلامهم وتطلعاتهم . ولم يكونوا حريصين على الإلتزام
بأحكام الشريعة الاسلامية ، بل كانوا على عجلة للسيطرة على بيت المال ، فارتكبوا
مذبحة وحشية بحق سبعين مسلما ، كانوا يؤدون واجبهم في حماية خزينة الدولة . وهكذا
تراكمت أخطاؤهم ومخالفاتهم الشرعية . فمن نكثهم البيعة ، إلى الخروج على الخليفة ،
إلى انتهاك حرمة الوالي وتعذيبه ، إلى سرقة بيت المال ، إلى الولوغ بدماء المسلمين
.

إن خروج طلحة والزبير وعائشة ضد السلطة الشرعية يعد بغياً
وفساداً في الأرض . ومن حق السلطة معاقبتهم وتنفيذ الأحكام الاسلامية فيهم . ولم
يكن بوسع أميرالمؤمنين(عليه السلام) إلاّ التحرك عسكريا لإطفاء هذه الفتنة التي
ستشق وحدة المسلمين ، خاصة أن الذي يتزعم الحركة بعض صحابة الرسول(صلى الله عليه
وآله) وزوجته أم المؤمنين عائشة . وبالفعل فقد حدثت الفتنة ، واختلت مقاييس الناس
، وارتبكت عليهم الأمور ، حتى أصابت الحيرة بعض الضعفاء ، مع من يقفون ، مع صحابة
الرسول(صلى الله عليه وآله) وزوجته ، أم مع ابن عمه وزوج ابنته ؟

سار الإمام علي(عليه السلام) بجيش من المدينة يضم أربعمائة
من المهاجرين والأنصار ، بينهم سبعون صحابياً شهدوا معركة بدر الكبرى . وانضم إليه
مقاتلون من بعض القبائل ، ومن الكوفة وحدها سبعة آلاف رجل يقودهم مالك الأشتر ،
فالتقى الجيشان في كانون الأول 656 م في البصرة .

قبل نشوب المعركة حاول الإمام علي(عليه السلام) تفادي إراقة
الدماء ، وعودة قادة المعسكر الآخر عن غيهم ، والاستمرار بخططهم التي ستؤدي إلى
نتائج سلبية ، ليس عليهم فحسب ، بل على كل صفحات التاريخ الإسلامي. وتكون
سنة سيئة أن يقتتل المسلمون بينهم . (وبعث إليهم من يناشدهم اللّه في الدماء ،
وقال : علام تقتلونني ؟ فأبوا إلاّ الحرب . فبعث إليهم رجلا من أصحابه يقال له
مسلم ، معه مصحف يدعوهم إلى اللّه ، فرموه بسهم فقتلوه)([9]) .

ولم يفقد الإمام علي(عليه السلام) أمله في إنقاذ الموقف ،
وتجنب سفك الدماء ، فطلب مقابلة الزبير بن العوام . فلما التقيا ذكره بحديث الرسول(صلى
الله عليه وآله)للزبير حين قال له : سستقاتله وأنت له ظالم . فقال الزبير : أستغفر
اللّه ، واللّه لو ذكرتها ما خرجت ، فقال له : يا زبير ارجع ، فقال : وكيف أرجع
الآن وقد التقت حلقتا البطان ؟ هذا واللّه العار الذي لا يغسل ، فقال :
يا زبير
ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار فرجع الزبير([10]) . وبعد
اعتزاله الحرب قتله عمرو بن جرموز وهو يصلي .

وبعد هذه الخطوة الناجحة ، طلب الإمام علي(عليه السلام)
لقاء طلحة ثم قال له : ما الذي أخرجك؟ قال : الطلب بدم عثمان ، قال علي :
قتل اللّه
أولانا بدم عثمان . أما سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) يقول : (اللّهم وال
من والاه ، وعاد من عاداه) وأنت أول من بايعني ثم نكثت . وقد قال اللّه عز وجل (ومن
نكث فإنما ينكث على نفسه) فقال طلحة : أستغفر اللّه ، ثم رجع . فقال مروان بن
الحكم : رجع الزبير ويرجع طلحة ، ما أبالي رميت ههنا أم ههنا ، فرماه في أكحله
(وريد في الذراع) فقتله([11])
.

حزن أميرالمؤمنين(عليه السلام) على مقتل طلحة ، فقد شاهد
جثته بعد المعركة فقال : إنا للّه وإنا إليه راجعون
. واللّه لقد كنت كارهاً لهذا
. ثم نزل ومسح الغبار عن جبينه ، وهو يتلو قوله تعالى
(وكان أمر اللّه قدراً
مقدورا)([12])
.

بعد اتضاح إصرار (حزب الجمل) على موقفهم ، وعنادهم ،
وتصميمهم على الحرب ، ومع ذلك لم يجد الإمام علي(عليه السلام) مبرراً لبدئهم
بالقتال ، بل أصدر أوامره بأن (لا يبدأوهم بقتال ، ولا يرموهم بسهم ، ولا يضربوهم
بسيف ، ولا يطعنوهم برمح) حتى جاء بعض الجنود بقتيلين من جيش علي ، أصيبا بسهمين ،
فقال علي(عليه السلام) اللّهم اشهد ، واعذروا القوم([13]) . نشبت المعركة
، فتشابكت الرماح والسيوف ، وقتل أكثر من ثلاثين ألف رجل من المسلمين وقيل أقل من
ذلك . وقتل سبعون رجلاً دفاعاً عن جمل عائشة .

بعد هزيمة معسكر حزب الجمل أمر الإمام علي(عليه السلام)
بالرفق بالأسرى ، وعدم ملاحقة الهاربين ، وعدم ضرب الفارين من الخلف ، ثم منح
الأمان لكل من ألقى سلاحه أو دخل بيته . ورفض قتل الأسرى وفيهم رؤوس الناكثين
أمثال مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان وموسى بن طلحة وعمرو بن سعيد بن العاص . وأمر
بإحضارهم واستتابتهم ، فتابوا وبايعوا ، فعفا عنهم جميعاً([14])
.أما عائشة فقد تعرضت لنقد الصحابة ولومهم على خروجها ومعصية الخليفة الشرعي . فقد
دخل عليها عبداللّه ابن عباس فقالت : أخطأت السنة يابن عباس مرتين ، دخلت بيتي
بغير إذني ، وجلست على متاعي بغير أمري . قال : نحن علمنا إياك السنة . إن هذا ليس
بيتك ، بيتك الذي خلفك رسول اللّه به ، وأمرك القرآن أن تقري فيه([15]).
وتحادث معها عمار بن ياسر وأخوها محمد بن أبي بكر وآخرون. وكانت تترقب أخبار
المعسكرين وتسأل عن بعض الرجال في هذا المعسكر وذاك ، كي تأخذ صورة واضحة عن
النتائج الفعلية للمعركة . يقول الطبري (وسألت عائشة يومئذ عن عدة من الناس ، منهم
من كان معها ، ومنهم من كان عليها ، وهي في دار عبداللّه بن خلف ، فكلما نعي لها منهم
واحد قالت : يرحمه اللّه)([16])
.

أما الإمام علي(عليه السلام) فقد أعد لها موكباً من سبعين امرأة
يرتدين ثياب الرجال ، لمرافقتها إلى المدينة معززة مكرمة .

وأمر(عليه السلام) بتقسيم الغنائم التي غنمها جيشه في معسكر
عائشة ، فطالب بعضهم بتقسيم نسائهم وأولادهم كعبيد ، فرفض موضحاً الحكم الشرعي في
الغنائم والأموال والنساء والذرية . فقالوا له : تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا
نساؤهم ؟ فقال : كذلك السيرة في أهل القبلة ، فخاصموه، قال :
فهاتوا سهامكم وأقرعوا
على عائشة فهي رأس الأمر وقائدهم ، فعرفوا فقالوا: نستغفر اللّه ، فخصمهم علي(عليه
السلام)([17])
.

تقييم الإمام علي(عليه
السلام) للموقف :

وفي البصرة التقى علي(عليه السلام) كعادته بالناس وناقش
معهم ظروف وملابسات المعركة ، موضحا الحكم الشرعي لكل أمر وقضية ، ثم أعطى تقييمه
للموقف ونتائج الأحداث فقال :

«انظروا رحمكم اللّه ما تؤمرون به فامضوا له ،
فإني حاملكم إن شاء اللّه إن أطعتموني على سبيل الجنة ، وإن كانت ذا مشقة شديدة
ومرارة عتيدة ، وأما عائشة فقد أدركها رأي النساء وشيء كان في نفسها عليّ يغلي في
جوفها كالمرجل ، ولو دعيت لتنال من غير ما أتت به إلي لم تفعل ، ولها بعد ذلك
حرمتها الأولى ، والحساب على اللّه يعفو عمن يشاء ، ويعذب من يشاء» .

فرضي بعد ذلك أصحابه ، وسلموا لأموره بعد اختلاط شديد ،
فقالوا : ياأمير المؤمنين حكمت واللّه فينا بحكم اللّه غير أنا جهلنا ، ومع جهلنا
لم نأت ما يكره أميرالمؤمنين . ثم قام إليه رجل فقال : يا أميرالمؤمنين ! أخبرنا
علام قتلت طلحة والزبير ؟ قال :

قاتلتهم على نقضهم بيعتي ، وقتلهم
شيعتي من
المؤمنين حكيم بن جبلة العبدي من عبد القيس ، والسبابجة والأساورة بلا حق استوجبوه
منهما ، ولا كان ذلك لهما دون الإمام . ولو أنهما فعلا ذلك بأبي بكر وعمر لقاتلاهما
. ولقد علم من ههنا من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) أن أبا بكر وعمر لم يرضيا
ممن امتنع من بيعة أبي بكر حتى بايع وهو كاره ، ولم يكونوا بايعوه بعد الأنصار فما
بالي ! وقد بايعاني طائعين غير مكرهين ، ولكنهما طمعا مني في ولاية البصرة واليمن
، فلم أولهما ، وجاءهما الذي غلب عليهما من حبهما للدنيا وحرصهما عليهما ، خفت أن
يتخذا عباد اللّه خولا ، ومال المسلمين لأنفسهما ، فلما زويت ذلك عنهما ، وذلك بعد
أن جربتهما واحتججت عليهما»([18]) .

معاوية ، الخلافة بأي ثمن
:

كان خط معاوية وأسلوبه السياسي ومنهجه في المواجهة يختلف عن
معارضة أصحاب الجمل ، سواء في التكتيك أم الستراتيجية . وقد خدمته ظروفه وبعد قاعدته
عن مركز الحكم في العاصمة ، المدينة أولا ، والكوفة ثانياً ، حيث لا توجد رقابة أو
متابعة على ما يفعله . وكانت له طريقة ميكافيلية في التعامل مع أهل الشام ، سواء
في استخدامه أساليب التطميع والإغراء بالمال أو بالشدة في معاقبة خصومه أو من يخرج
عن ارادته ، أو بالتضليل الاعلامي وتجهيل المسلمين عما يدور من أحداث في المدينة .
وقد ساعدته الظروف حيث تولى إمارة الشام أثناء خلافة عمر بن الخطاب عام 18 هـ /
639 م ، بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان . فقد أمضى سبعة عشر عاماً حتى تولى
الإمام علي(عليه السلام) الخلافة .

وفي عهد عثمان ، قريبه ، كان هناك اتفاق وتنسيق في مواجهة
الخصوم . فقد قام عثمان بنفي أبي ذر الغفاري إلى الشام ، بعد مجادلة مع عثمان .
ولم يسكت أبو ذر عن مطالبه بالعدالة ونبذ الإسراف من بيت مال المسلمين ، فذاق
معاوية به ذرعا ، فأعاده إلى المدينة مرة أخرى ، بعد مكاتبات مباشرة مع الخليفة .
لقد كان معاوية يرفض أي سلوك أو كلام لصحابي يزور الشام بما يكشف زيف إدعاءات
معاوية . لقد كان معاوية يؤمن بأهمية إبقاء مواطنيه أغبياء سذجاً لا يعلمون إلاّ
ما يريده معاوية أن يعلموه ، سواء كان خبرا أو منقبة لأحد أو حكماً شرعياً جاءت به
الشريعة الاسلامية .

وبقيت الشام خالصة الولاء لمعاوية وبني أمية ولم يكن
لعلي(عليه السلام) أي رصيد أو قاعدة شعبية في ذلك الاقليم على الاطلاق ... وعاش الإسلام
من منظار آل أبي سفيان ، ولم يسمع لعلي(عليه السلام) ، ولم يتفاعل مع الوجود الإسلامي
والعقائدي . ولم يكن الإمام علي(عليه السلام) يملك شعارا له رصيد أو قاعدة شعبية
في هذا المجتمع([19])
.

وكان لا يتوانى عن استخدام أي أسلوب أو طريقة توصله إلى
هدفه مهما كانت مخالفة للعرف السائد أو القانون الإسلامي . فقد مارس الكذب
والإفتراء والغدر ، وتعذيب معارضيه وقتل خصومه بصورة وحشية بلا رحمة أو ذنب
يستحقونه . وكان يرفع شعار (للّه جنود من عسل) . وهو أسلوب الغدر ودس السم
لمعارضيه كي يتفادى ـ أحيانا ـ الإتهام بقتلهم ، كما فعل مع الإمام الحسن بن
علي(عليهما السلام) .

وكان معاوية يخطط منذ أمد بعيد لاستلام السلطة ، مراقباً
تطورات الأوضاع في المدينة ، خاصة بعد مصرع عثمان . وحين أجمع المسلمون على بيعة علي(عليه
السلام) ; رفض البيعة ، وبقي خارجاً على السلطة المركزية . وكان يأمل أن يفعل حزب
الجمل شيئاً ، ولكن يأس من تغيير الأوضاع نحو ما يخدم هدفه .

محاولات الإمام علي(عليه
السلام) لرأب الصدع :

حاول أميرالمؤمنين(عليه السلام) تغيير موقف معاوية بشتى
السبل السلمية دون جدوى ، محاولا تفادي تردي الأوضاع بالاتجاه الذي أدى إلى حرب
الجمل ، وتكرارها مرة أخرى ، وسفك دماء المسلمين دون طائل . ويذكر المؤرخون
مراسلات كثيرة جرت بين الإمام علي(عليه السلام) ومعاوية ، تضمنت اتهامات ردها
علي(عليه السلام) وفندها واحدة بعد اخرى ومنها قضية معاقبة الذين قتلوا عثمان ،
وطلب منه أن يلجأ إلى القضاء ويشتكي من يتهمهم بقتل عثمان .

ولم يكتف أميرالمؤمنين بالرسائل بل أرسل بعض الوفود من
الصحابة ، ممن لهم علاقة طيبة مع معاوية أملاً في إنهاء الأزمة وحلها سلمياً ودون
إراقة دماء . فقد أرسل إليه مرة جرير بن عبداللّه البجلي . فلما دخل جرير على
معاوية قال له : أما بعد يا معاوية ، فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين ، وأهل
المصرين (الكوفة والبصرة) ، وأهل الحجاز ، وأهل اليمن ، وأهل مصر ، وأهل العروض
(عمان) وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلاّ هذه الحصون التي أنت فيها ، لو سال
عليها سيل من أوديته غرقها. وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة
هذا الرجل . ثم ناوله كتاب علي(عليه السلام) وفيه :

«أما بعد ، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام ، لأنه
بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، على ما بويعوا عليه . فلم يكن
للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، إذا
اجتمعوا على رجل فسموه إماما ، كان ذلك للّه رضا ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو
رغبة ردوه إلى ما خرج منه . فإن أبى قاتلوه على إتباع سبيل المؤمنين ، وولاه ما
تولى ، ويصليه جهنم وساءت مصيرا . وأن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، فكان
نقضهما كردتهما ، فجاهدتهما على ذلك ، حتى جاء الحق ، وظهر أمر اللّه وهم كارهون ،
فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أحب الأمور إلي فيك العافية ، إلاّ أن تتعرض
للبلاء ، فإن تعرضت له لقاتلتك ، واستعنت باللّه.

وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه
الناس ، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب اللّه ; فأما تلك التي تريدها
فخدعة الصبي عن اللبن ، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك ، لتجدني أبرأ قريش من دم
عثمان . واعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى .
وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبداللّه البجلي ، وهو من أهل الإيمان والهجرة
، فبايع ، ولا قوة إلاّ باللّه»([20]) .

لم يجب معاوية على كتاب علي ، وأصابه الغم والحزن ، وطلب
مهلة للتفكير فيما سيقوم به ، وبعد أيام استقر رأيه على خطة جديدة يواجه بها
الخلافة الشرعية ، وهي الإدعاء بأنه ولي عثمان ، مطالباً بدمه . وصعد المنبر وخطب
بأهل الشام : (أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة
أميرالمؤمنين عثمان بن عفان عليكم ، وأني لم أقم رجلاً منكم على خزاية قط ، وأني
ولي عثمان ، وقد قتل مظلوما ، واللّه تعالى يقول (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه
سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) ، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في
قتل عثمان .

فقام أهل الشام بأجمعهم ، فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان ،
وبايعوه على ذلك ، وأوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم ، حتى
يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم باللّه)([21]) . وكان عمرو
بن العاص أول من بايعه بالخلافة ، بعد الاتفاق المبرم بينهما . قد سبقت مبايعته
القيام بمشهد مسرحي يستدر تضامن الناس مع معاوية فأخذ (يبكي كما تبكي المرأة ، ويقول
: واعثماناه ، أنعى الحياء والدين) مع أنه كان حانقا على عثمان لأنه عزله من ولاية
مصر .

مساومات لكسب الوقت :

وبعد أن اطمئن معاوية إلى سير خطته بأحسن ما يرام ،
واستغلاله مصطلحا قرآنيا ، وإقناع الناس بأنه يمثل الجانب المظلوم في الصراع مع
السلطة الشرعية ، حتى بايعوه ، قام بارسال رسالة إلى عمرو بن العاص ليكون مستشاره
الأول في خطواته اللاحقة ، عارضاً عليه حكم مصر . وهكذا شكلا قيادة للمعارضة في
المرحلة القادمة .

بدأ معاوية بإقناع الرجال المتنفذين بسياسته وخططه متهماً
علياً(عليه السلام)بقتل عثمان ، وتأليب الناس ضده . فقد بعث على (شرحبيل بن السمط
رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها ، وتدسيس الرجال إليه يغرونه بعلي(عليه السلام)
ويشهدون عنده أنه قتل عثمان ، حتى ملأوا صدره وقلبه حقدا وترة وإحنة على علي(عليه
السلام)وأصحابه)([22])
. أما الوفد الذي بعثه الإمام علي(عليه السلام) برئاسة جرير بن عبداللّه البجلي
فقد أراد معاوية مساومة السلطة الشرعية وقبض ثمن سكوته مقدما دون أن يبايع الخليفة
. قام معاوية بزيارة جرير في منزله فقال له : يا جرير ، إني قد رأيت رأيا ، قال : هاته
، قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل
لأحد بعده في عنقي بيعة ، وأسلم له هذا الأمر ، وأكتب إليه بالخلافة . فقال جرير :
اكتب ما أردت أكتب معك . فكتب معاوية بذلك إلى علي(عليه السلام) ، فكتب علي(عليه
السلام)إلى جرير :

«أما بعد ، فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة ،
وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن يرثك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام . وإن
المغيرة بن شعبة قد كان أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام ، وأنا حينئذ
بالمدينة ، فأبيت ذلك ، ولم يكن اللّه ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فإن بايعك الرجل
، وإلاّ فأقبل والسلام»([23])
.

تأخر جرير في الجواب على أميرالمؤمنين(عليه السلام) حتى سرت
شائعات أنه قد التحق بحزب معاوية ، وكان الإمام علي(عليه السلام) قلقا من تأخره
حتى قال: قد وقت لجرير وقت لا يقيم فيه إلاّ مخدوعا أو عاصيا . لقد كان(عليه
السلام)يعلم أن معاوية يسعى للحصول على وقت لإستكمال خططه ، وأن الوقت ليس في صالح
علي(عليه السلام) . فكتب إلى جرير كتاباً يمنحه فيه صلاحيات إعلان الحرب أو السلم
بعد أخذ البيعة . جاء في كتابه : «إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ، ثم
خيره وخذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية ، فإن اختار الحرب فانبذ إليه ، وإن
اختار السلم فخذ بيعته . والسلام»([24]) .

محادثات الساعات الأخيرة :

بعد أن اطمئن معاوية إلى قوة موقفه سياسياً وعسكرياً ، وأن
هناك أملا في تحقيق خططه ، وأن الأجواء السياسية ممهدة للدخول في صراع مسلح مع
الخلافة الشرعية ، فأخذ في تصعيد لهجة المواجهة ، كما رفع من مستوى مطالبه ، حيث
بات يطالب بتشكيل شورى لانتخاب خليفة جديد غير علي(عليه السلام) ، وبعد أن يمهد
الجو بمعاقبة قاتلي عثمان . فأبلغ جريرا بأنه لن يبايع ، وأن الحرب هي الحل .
وأرسل جوابه مع جرير ، الذي عاد إلى العراق بعد أن يئس من تغيير موقف معاوية ، جاء
فيه([25])
:

من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب .

أما بعد ، فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من
دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان ، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين ، وخذلت عنه
الأنصار ، فأطاعك الجاهل ، وقوي بك الضعيف . قد أبى أهل الشام إلاّ قتالك ، حتى
تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين . ولعمري ليس حججك علىّ
كحججك على طلحة والزبير ، لأنهما بايعاك ولم أبايعك . وما حجتك على أهل الشام
كحجتك على أهل البصرة ، لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام . فأما شرفك في
الإسلام ، وقرابتك من النبي وموضعك من قريش ، فلست أدفعه . ثم كتب في آخر الكتاب
شعر كعب بن جعيل الذي أوله :

أرى الشام تكره أهل العراق***وأهل العراق لهم كارهونا

معاوية يعلن نفسه خليفة
وسياسة الأمر الواقع :

أعلن معاوية خلافته وأنه أصبح أميرا للمؤمنين فانشقت بذلك
الدولة الاسلامية إلى قسمين ، الأول يحكمه الإمام علي(عليه السلام) ومركزه الكوفة
، ويضم الحجاز والعراق وخراسان وما بعدها ; والآخر يحكمه معاوية ومركزه دمشق ،
ويضم سوريا وفلسطين والأردن ومصر وافريقيا . وهكذا باتت الدولة الاسلامية متفككة
متجزئة بعد أن كانت قبل سنوات أقوى دولة في العالم ، مستمرة في فتح البلدان وتوسيع
رقعتها .

أصبح الموقف حرجا أمام علي(عليه السلام) ، ولم يبق أمامه
إلاّ الحل العسكري ، وهذا يعني الخروج بجيش من العراق والتوجه إلى الشام . ولم تكن
الأوضاع الاجتماعية والداخلية تساعد على تصعيد الموقف . إذ لم تكن جراح العراقيين
قد اندملت بعد حرب الجمل حتى بات من الضروري الدخول في حرب جديدة . لقد فرض الأمر
الواقع على علي(عليه السلام) حتى «يطلب من العراقي أن يخرج من العراق ، تاركاً
أمنه ووحدته واستقراره ومعيشته ورخاءه ، ليحارب أناسا شاميين لم يلتق معهم بعداوة
سابقة ، وإنما فقط بفكرة أن هؤلاء انحرفوا ، ولابد من اعادة أرض الشام للمجتمع
الإسلامي والدولة الاسلامية . فكان موقف علي(عليه السلام) يتطلب ويفترض ويطرح قضية
الهجوم على أناس لا يملكون ـ في غالبيتهم ـ الوعي لخطورة تراخيهم على قمع هذا
الانحراف ، انطلاقاً من عدم استيعابهم لأبعاده»([26]) .

شعر الإمام علي(عليه السلام) بخطورة الموقف ، وأن معاوية
يريد استدراجه إلى حلول أحلاها مر . فلم يكن من الممكن إبقاؤه واليا على الشام ،
لأن ذلك سيفسر تأييداً له ، واعترافاً بشرعية مطاليبه . كما أن قضية محاكمة قتلة
عثمان ليست بالقضية اليسيرة التي لا تثير فتنة أخرى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر
وجد أن الدخول في معركة ضارية مع معاوية وأهل الشام ستزيد من حجم الفجوة بين
العراقيين والشاميين ، وتصاعد الكراهية والحقد بين الفريقين ، وترسيخ نزعات الثأر
والانتقام . إذ ستسفك في الحرب دماء الفريقين . وكل ذلك ليس في صالح الدولة
الاسلامية ، بل على العكس سيعزز الانشقاق والتمييز فكرياً وسياسياً وعقائدياً .
وهذا ما حدث بالفعل بعد صفين .

أراد الإمام علي(عليه السلام) أن يضع معاوية أمام مسؤوليته
بنصحه بالرجوع عما يبتغيه قبل أن تصل الأمور إلى حافة الهاوية . كتب(عليه السلام)
كتاباً رد فيه على مزاعم معاوية بأنه ولي دم عثمان ، وعرض عليه أن يبايعه لأن
بيعته تلزم جميع المسلمين في كل أقاليم الدولة الاسلامية ، وأن من حقه تقديم
المتهمين بقتل عثمان إلى القضاء الإسلامي ، ولا يشك مسلم في قضاء علي وعدله . فكتب
إليه رداً جاء فيه :

من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر بن حرب
.

«أما بعد : فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له
بصر يهديه ، ولا قائد يرشده . دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه . زعمت أنك
إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان . ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين ،
أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا . وما كان اللّه ليجمعهم على الضلال ، ولا
ليضربهم بالعمى» .

وبعد ، فما أنت وعثمان ! إنما أنت رجل من بني
أمية ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه. فإن زعمت
أنك أقوى على ذلك ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلي . وأما
تمييزك بينك وبين طلحة والزبير ، وبين أهل الشام وأهل البصرة ، فلعمري ما الأمر
فيما هناك إلاّ سواء ; لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار ، ولا يستأنف فيها
النظر . وأما شرفي في الاسلام وقرابتي من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وموضعي
من قريش ، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته»([27]).

الوضع العسكري ـ السياسي
لطرفي الصراع :

عسكريا ، كان موقف معاوية جيدا ، فهو يحارب في بلده ، وغير
مضطر لمغادرته ، وإمداداته اللوجستيكية مأمونة السبيل .

هذا الموقف يخدم الحالة النفسية والاجتماعية لدى أهل الشام
، فهم يشعرون أنهم في حالة دفاع عن بلدهم وقناعاتهم وخليفتهم ، فيقاتلون بحماس
وهمة . سياسياً ، كانت شعارات معاوية ومطالبته الثأر من قتلة عثمان لها رصيد في
المجتمع الشامي . كما أن معاوية «اكتفى في تلك المرحلة بالمحافظة على وجوده في
الشام ، ولم يكن يفكر (مادام أميرالمؤمنين) أن يهاجم أميرالمؤمنين ، وأن يحارب
العراق ويضم العراق إلى مملكته ... فمعاوية لم يكن يقول للشامي ، اترك استقرارك
ووحدتك ، واذهب إلى العراق محارباً ، لأن هذا الشخص خارج عن طاعتي ، ولكن كان
علي(عليه السلام) يقول هذا للعراقي ، لأن علياً(عليه السلام) كان يحمل بيده مسؤولية
الأمة ، ومسؤولية إعادة وحدة المجتمع الإسلامي ، بينما كان كل مكسب معاوية وهمه أو
قصارى أمله ، أن يحافظ على هذا الانشقاق ، ويحافظ على هذه التجزئة التي أوجدها في
جسم المجتمع الإسلامي . وشتان بين قضية الهجوم حينما تطرح وقضية الدفاع»([28]) .

ونظرة دقيقة في طبيعة ردود الأفعال لدى المجتمعين الشامي
والعراقي توضح مدى المعاناة الداخلية التي كان الإمام علي(عليه السلام) يواجهها.
فحين أرسل الإمام علي(عليه السلام) رجلا إلى الشام ، وأوصاه أن يجعل الناس يرونه
غريباً ليسألوه ، فيخبرهم بأن علياً(عليه السلام) قد أعد أهل العراق ليهاجمكم .
فعلم معاوية بخبر الرجل ، فجمع الناس في المسجد وأعاد عليهم ما ذكره مبعوث
علي(عليه السلام) ، فسكتوا ، حتى قام ذو الكلاع الحميري فقال : عليك أم رأي وعلينا
أم فعال . أي أنت الذي تقرر وتأمر ، وعلينا الطاعة والتنفيذ([29]) . ثم خرجوا إلى المعسكر .

أما في المجتمع العراقي فقد اختلط الأمر ، كل واحد يرى رأيا
. فقد عاد المبعوث إلى الإمام علي(عليه السلام) فأخبره بما جرى في الشام ، فنادى :
الصلاة جامعة ، ثم خطب الناس ، فأخبرهم بتطور الأوضاع ، وأن معاوية قد جندأهل الشام
لقتالهم . ثم طلب(عليه السلام) رأيهم . فاضطرب أهل المسجد ، هذا يقول: الرأي
كذا ، وهذا يقول : الرأي كذا ، وكثر اللغط ، فلم يفهم الإمام علي(عليه السلام)من
كلامهم شيئا ، ولم يدر المصيب من المخطئ ، فنزل عن المنبر ، وهو يقول : إنا للّه
وإنا إليه راجعون ! ذهب بها ابن آكلة الأكباد ـ يعني معاوية([30]) .

صفين ، حرب لابد منها :

بعد أن استنفد كل الوسائل السلمية ، أعلن أميرالمؤمنين(عليه
السلام) الجهاد والخروج إلى حرب البغاة الخارجين على السلطة . ورغم وضوح شرعية موقفه
، وشرعية دعوته للجهاد ، إلاّ أن الوضع الداخلي للمجتمع العراقي لم يكن بالحماس
الذي يريده الإمام علي(عليه السلام) . وجهز جيشه في النخيلة ، خارج الكوفة ، وألقى
بالناس خطبة بليغة يحثهم فيها لمواصلة المسير حتى يسود الأمن والعدل في الدولة .
وسار الجيش ، فمر بالمدائن ، فالتحق به أهلها . ووصل الأنبار فقدموا له الهدايا
والطعام فرفض أخذها إلاّ بثمن ، رغم إصرارهم . ثم وصل مدينة الرقة ، وأهلها موالون
لعثمان ومعاوية ، فأغلقوا أبوابها دونه وتحصنوا ، فلم يدخلها بل عسكر بجانب الفرات
. ثم استمر بطريقه فعبر نهر الفرات على جسر منبج حتى وصل صفين . ولما علم معاوية
باقتراب جيش علي ودخوله أرض الشام ، خرج إليه في جيش عقد لواءه لعمرو بن العاص([31]).

وقبل أن يتم تصعيد الموقف إلى خط اللاعودة ، سعى الإمام
علي(عليه السلام)لبذل محاولة أخرى عسى أن يعود معاوية إلى رشده ، فبعث إليه بوفد
تألف من بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي
، وقال لهم : إذهبوا إلى هذا الرجل ـ يعني معاوية ـ وادعوه إلى اللّه تعالى وإلى
الطاعة والجماعة لعل اللّه تعالى أن يهديه ويلتئم شمل هذه الأمة . فلما دخلوا على
معاوية وأبلغوه الرسالة ، أجابهم : ليس عندي إلاّ السيف([32]) .

لم يفسر معاوية صبر الإمام(عليه السلام) وحلمه وعرضه السلم
قوة مبدئية ، بل رآه عجزا وهرباً من المعركة . فهو لم يفهم اصرار الإمام علي حقن
دماء المسلمين حفاظا على أرواحهم ، بل دعاه ذلك إلى التمادي في تصعيد الموقف
والتلويح بالسيف عنادا وتكبرا .

نشبت المعركة في تموز 657م ، وتقاتل فيها الجيشان قتالا
شرسا دام اسبوعين ; حيث (اختلط الناس ، وبطل النبل ، واستعملت السيوف ، وجنهم
الليل ، وتنادوا بالأشعار ، وتقصفت الرماح ، وتكادم القوم ، وكاد يعتنق الفارس
الفارس ويقعان جميعا إلى الأرض عن فرسيهما ... وارتفع الغبار ، وتقطعت الألوية
والرايات ، ولم يعرفوا مواقيت الصلاة)([33]) . وقتل في
صفين ستة وثلاثون ألفاً من المسلمين .

وواجه الإمام علي(عليه السلام) في المعركة مأزقا عسكريا ،
لكنه وهو في ذروة القتال لم يمنعه من التفكير بالحل السلمي لمواجهة الموقف . فقد
وجد جيشه معزولا عن الفرات حيث كان فيلق من أهل الشام قد استقر على الضفة ومنع جيش
علي(عليه السلام) من الوصول إلى الماء . فأرسل علي(عليه السلام) إلى معاوية : إن الذي
جئنا له غير الماء ، ولو سبقناك إليه لم نحل بينك وبينه ، فإن شئت خليت عن الماء ،
وإن شئت تناجزنا عليه وتركنا ما جئنا له . رفض معاوية السماح لجيش العراق بالتزود
بالماء ، مما جعل عليا(عليه السلام) يفكر باستخدام القوة ، فأرسل الأشعث بن قيس
على رأس قوة عسكرية ، فالتحمت مع الفيلقالشامي وهزمته . سيطر
الإمام علي(عليه السلام) على الماء ، لكن نبله وشهامته وسمو أخلاقه منعته من المقابلة
بالمثل وحرمان جيش الشام من الماء . فهو الحريص على دمائهم وأرواحهم ، الرؤوف
بكبيرهم وصغيرهم ، فكيف يمنع عنهم الماء ، فهذا ما تأباه القيم الانسانية التي
يمثل علي قمتها.

وساطة فاشلة :

وحاول بعض الصحابة إصلاح ذات البين ، فقد ذهب أبو هريرة
وأبو الدرداء إلى معاوية وهو في صفين ، قائلين له أن عليا أحق بالأمر منه ، فقال :
لست أزعم أني أولى بهذا الأمر من علي ، ولكني أقاتله حتى يدفع إلي قتلة عثمان .
فقالا : إذا دفعهم إليك ماذا يكون ؟ قال : أكون رجلا من المسلمين ، فاتيا عليا ،
فإن دفع إليكما قتلة عثمان جعلتها شورى . فذهبا إلى علي(عليه السلام) وطلبا تسليم
قتلة عثمان ، فسألهما : أتعرفانهم ؟ قالا : نعم ، قال: فخذاهم . فأتيا محمد بن أبي
بكر، وعمار بن ياسر ، ومالك الأشتر . فقالا : أنتم من قتل عثمان ، وقد أمرنا
بأخذكم ، فخرج إليهما أكثر من عشرة آلاف رجل ، فقالوا : نحن قتلنا عثمان . فقالا :
نرى أمراً شديداً ، ألبس علينا الرجل، فعادا إلى منزلهما في مدينة حمص([34]).

سارت المعركة باتجاه النصر لعلي(عليه السلام) وجيشه رغم
خسارته بشهادة بعض أصحابه أمثال عمار بن ياسر وهاشم المرقال وعبد اللّه ابن الحارث
النخعي أخي الأشتر ، وصفوان وسعد ابني حذيفة بن اليمان وغيرهم .

رفع المصاحف ، الشعار
المضلل :

ولما رأى معاوية أن سير المعركة لا يسير لصالحه فطلب من
عمرو ابن العاص أن يجد له مهربا ، فقال: واللّه لأدعونهم إن شئت إلى أمر أفرق به
جمعهم ، ويزداد جمعك إليك اجتماعا ، إن أعطوكه اختلفوا، وإن منعوكه اختلفوا ، قال
معاوية : وما ذلك ؟ قال عمرو : تأمر بالمصاحف فترفع ثم تدعوهم إلى ما فيها ، فو
اللّه لئن قبله لتفترقن عنه جماعته ، ولئن رده ليكفرنه أصحابه([35]).

نجحت خدعة عمرو نجاحا كبيرا ، إذ سرعان ما استجاب غالبية
جيش العراق ، فرغب بعضهم بالموادعة والاستراحة من الحرب التي طالت ، وقال آخرون :
نجيب إلى كتاب اللّه وننيب إليه . وحدث خلاف في معسكر علي بين راغب بوقف الحرب
وعلى رأسهم الأشعث بن قيس ، وبين راغب بالمواصلة وعلى رأسهم مالك الأشتر ، ولما
رأى الإمام علي(عليه السلام) ما سببه رفع المصاحف خطب بجيشه قائلاً :

«عباد اللّه ، امضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم ، فإن
معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن سلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ،
ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالا ، وصحبتهم
رجالا ، فكانوا شر أطفال وشر رجال . ويحكم ! إنهم ما رفعوها ، ثم لا يرفعونها ولا
يعلمون بما فيها ، وما رفعوها لكم إلاّ خديعة ودهنا ومكيدة . فقالوا : ما يسعنا أن
ندعى إلى كتاب اللّه عزوجل فنأبى أن نقبله . فقال لهم : فإني إنما قاتلتهم ليدينوا
بحكم هذا الكتاب ، فإنهم قد عصوا اللّه عزوجل فيما أمرهم ونسوا وعده ونبذوا كتابه
. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي ، في عصابة معهما من
القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك : يا علي ، أجب إلى كتاب اللّه عزوجل إذ دعيت
إليه ، وإلاّ ندفعك برمتك إلى القوم ...([36])

خدعة التحكيم :

بعد أن كانت المعارضة في المعسكر المقابل ، أصبحت داخل
معسكره مما اضطر أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) إلى قبول رأي الراغبين بوقف القتال
، فبعث الأشعث بن قيس إلى معاوية يسأله ما يريد ، فقال معاوية : نرجع نحن وأنتم
إلى كتاب اللّه ، وإلى ما أمر به في كتابه : تبعثون منكم رجلا ترضونه وتختارونه ،
ونبعث برجل ، ونأخذ عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في كتاب اللّه ولا يخرجا عنه
، وننقاد جميعاً إلى ما اتفقا من حكم اللّه . وبقي معسكر علي(عليه السلام) يعيش
حالة الفرقة والجدل وعدم الانضباط ، إذ سرعان ما ظهر خلاف حول من يمثل جيش العراق ليكون
حكما . فقد رأى أكثر الجيش أن أبا موسى الأشعري هو المرشح المناسب ، لكن عليا(عليه
السلام) اعترض عليه ، وقال بأنه ليس بثقة . فأصروا على رأيهم ، فرشح لهم عبداللّه
بن عباس فرفضوا ، ثم مالك الأشتر ، فقالوا وهل هاج الأمر إلاّ الأشتر . فقال لهم :
فاصنعوا الآن ما أردتم ، وافعلوا
ما بدا لكم أن تفعلوه([37]).

يصف المسعودي حالة جيش الإمام علي(عليه السلام) بعد موافقته
على التحكيم فيقول (ولما وقع التحكيم تباغض القوم جميعا وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض
: يتبرأ الأخ من أخيه ، والإبن من أبيه ، وأمر علي(عليه السلام)بالرحيل لعلمه
باختلاف الكلمة ، وتفاوت الرأي ، وعدم النظام لأمورهم ، وما لحقه من الخلاف منهم ،
وكثر التحكيم في جيش أهل العراق ، وتضارب القوم بالمقارع ونعال السيوف ، وتسابوا ،
ولام كل فريق منهم الآخر في رأيه . وسار علي يؤم جنده إلى الكوفة ، ولحق معاوية
بدمشق)([38])
.

اجتمع الحكمان ، عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري ، وكان
الأخير ساذجا فوقع في شراك عمرو بسهولة . فبدل أن يتحادثا حول سبب الحرب ، وكيفية
التوصل إلى حل الخلاف ، أقنع عمرو أبا موسى بأن يخلع كل واحد منهما صاحبه ، فاقتنع
بها . ولما أعلن موسى خلعه للامام علي(عليه السلام) ، قام عمرو فأعلن خلعه لعلي(عليه
السلام) وتثبيت معاوية([39])
.

تقييم الإمام علي(عليه
السلام) للتحكيم :

لما علم الإمام علي(عليه السلام) بما جرى من أمر الحكمين
غضب ، لام الذين اصروا على التحكيم ، وأوضح لهم نتائج عنادهم ، وأمرهم بالاستعداد
لمواجهة الموقف ، قال(عليه السلام) : إني كنت تقدمت إليكم في هذه الحكومة
ونهيتكم عنها ، فأبيتم إلاّ عصياني . فكيف رأيتم عاقبة أمركم إذ أبيتم علىّ ؟
واللّه إني لأعرف من حملكم على خلافي والترك لأمري ، ولو أشاء أخذه لفعلت ، ولكن
اللّه من ورائه ـ يريد بذلك الأشعث بن قيس واللّه العالم ـ
وكنت
فيما أمرت به كما قال أخو بني خثعم :

أمرتهم
أمري بمنعرج اللوى***فلم يستبينوا الرشد إلاّ ضحىالغد

ألا أن هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد
تركا حكم اللّه ، وحكما بهوى أنفسهما بغير حجة ولا حق معروف ، فأماتا ما أحيا
القرآن ، وأحييا ما أماته ، واختلف في حكمهما كلامهما ، ولم يرشدهما اللّه ولم
يوفقهما ، فبرئ اللّه منهما ورسوله وصالح المؤمنين . فتأهبوا للجهاد واستعدوا
للمسير ، وأصبحوا في عساكركم إن شاء اللّه تعالى([40]) .

الخوارج ، التمسك بالضلال
:

ظهرت فرقة الخوارج كنتيجة عرضية لقضية التحكيم التي انتهت إليها
حرب صفين . فقد تزعموا حركة الصلح مع جيش معاوية وأجبروا الإمام علياً(عليه
السلام) على قبول التحكيم . وكانوا يرفعون شعار
(لا حكم إلاّ للّه) . وقد رفضوا
الوضع السياسي .

اجتمعوا في قرية حروراء ، قرب الكوفة ، فبايعوا عبداللّه بن
وهب الراسبي ، وعينوا شبث بن ربعي قائداً لهم ، وعبداللّه بن الكوا إماما للصلاة .
وزعموا أن عليا(عليه السلام) كان إماما إلى أن حكم الحكمان . فشك في دينه وحار في
أمره ، وانه الحيران الذي ذكره اللّه في القرآن بقوله تعالى :
(له أصحاب يدعونه
إلى الهدى) . وكان أميرالمؤمنين(عليه السلام) يستعد للتوجه إلى الشام لمقاتلة
معاوية وجنده ، حتى قيل له بأمر الخوارج . ولما سمع علي ابن أبي طالب(عليه السلام)
بموقفهم بعث إليهم عبداللّه بن عباس وقال له : لا تعجل في جوابهم وخصومتهم حتى
آتيك فإني في أثرك([41])
.

لقد علم الإمام علي(عليه السلام) أن معاملة هذه الفئة يجب
أن تختلف عن غيرهم من المعارضين الذين واجههم . فقد التبس الأمر عليهم ، وأن لديهم
شبهات عقائدية تحتاج إلى منطق سليم ، وحجة قوية كي يخرجوا مما هم فيه من ضلالة ، فمن
طلب الحق وأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه . ولذلك طلب من أبن عباس أن لا يدخل
معهم في مناظرة كلامية أو خصومة تشنج الأجواء ، وتشحن النفوس ضد كلمة الحق .
ولكنهم استفزوا ابن عباس بشبهاتهم واتهاماتهم لعلي(عليه السلام) فلم يصبر ، فدخل
معهم في جدل وحوار ، حتى وصل الموقف إلى النزاع والخصومة ، فوصل علي(عليه
السلام)إليهم وبدأ يحاججهم([42])
.

تمكن أمير المؤمنين من إقناع ألفين منهم والعودة عما كانوا
يقولون به ، وبقي أربعة آلاف مصرين على موقفهم رغم أنه(عليه السلام) قد فند كل
حججهم وشبهاتهم ، لكنهم على ما يبدو استمروا العناد والعصيان .

ولو اكتفوا بالعناد ورفض الطاعة لتركهم علي(عليه السلام)
وشأنهم ، لكنهم أخذوا يعيثون الفساد ، وينشرون الرعب في القرى . فقد بايعوا
عبداللّه ابن وهب الراسبي ، وسيطروا على المدائن ، وقتلوا واليها عبداللّه بن خباب
، ذبحوه ذبحا ، وبقروا بطن امرأته وكانت حاملا ، وقتلوا غيرها من النساء([43]) .

فقرر الإمام علي(عليه السلام) مواجة الأمر بحزم وشدة ، فجهز
جيشه متوجها إليهم حتى وصل النهروان . حاول(عليه السلام) كعادته حل النزاع بالتي
هي أحسن، ودون سفك الدماء ، فأرسل لهم الحارث بن مرة العبدي يدعوهم إلى الرجوع
فقتلوه ، وبعثوا إلى علي : إن تبت من حكومتك (التحكيم) وشهدت على نفسك بالكفر ، بايعناك
، وإن أبيت فاعتزلنا حتى نختار لأنفسنا إماما، فإنا منك براء . فبعث إليهم
علي(عليه السلام) : أن ابعثوا إلي بقتلة إخواني فأقتلهم ثم أتارككم إلى أن أفرغ من
قتال أهل المغرب (الشام) ، ولعل اللّه يقلب قلوبكم .
فبعثوا له ، كلنا قتلة أصحابك
، وكلنا مستحل لدمائهم ، مشتركون في قتلهم([44]) .

لم يكن هناك بد من مواجهتهم بالقوة ، فلحق بهم
أميرالمؤمنين(عليه السلام) ، وعرض عليهم التوبة والرجوع ، قبل تطور الموقف ،
فرفضوا وأجابوه بالسهام ، وهو يكرر نداءه ثلاث مرات ، حتى جيء برجل مضرج بدمه ،
عند ذلك أعطى أمره بالقتال . وكانت نتيجة المعركة كما توقعها الإمام علي(عليه
السلام) ، لا يفلت منهم إلاّ عشرة ، ولا يقتل من جيش علي(عليه السلام) سوى عشرة.
فأبيد جيش الخوارج برمته ، وكان قد بلغ عددهم أربعة آلاف رجل([45]) .

الاستنتاجات :

تميزت سياسة أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) تجاه معارضيه بميزات
فريدة لم تكن تكتيكا أو مناورة ، بل كان(عليه السلام) يؤمن بها إيمانا حقيقيا ،
وملتزما بها باعتبارها تمثل الإسلام نصا وروحا . وكان يرفض مخالفتها وهو القائل (أتريدونني
أن أطلب النصر بالجور .. هيهات أن أبيع ديني بدنياكم) . هذه الميزات هي :

1 ـ الالتزام الشديد بحقيقة الإسلام وقيمه وتعاليمه . فلم
يحد قيد شعرة عن الحكم الإسلامي في جميع الوقائع والأحداث التي مرت به . ولم يحاول
التنصل من حكم الشريعة الاسلامية تحت أي تبرير أو حجة . كما لم يضطر لمخالفة الحكم
الشرعي حتى بدواعي المصلحة الاسلامية العامة . فضرب بذلك مثالا في قوة الالتزام
بالمبادئ الاسلامية .

2 ـ الرحمة والحلم والعفو تجاه المعارضين له ، والناقمين
على سياسته ، بل وحتى الكارهين لشخصه . فلم يمارس الانتقام الشخصي ، والثأر للذات
، رغم أن الأجواء كانت تساعد على ذلك ، لكنه(عليه السلام) تجرد من كل مطامع وأهواء
شخصية . فكانت حركاته ، وأقواله ، وأفعاله ، كلها في سبيل اللّه وفي سبيل رفعة
الإسلام . فلم يتعرض لأهل وأزواج وذرية معارضيه ممن كان يرفع السلاح بوجهه .

وبلغ عطفه على الآخرين أنه كان يتأسف على مصرع بعض خصومه،
لما لقوه من عاقبة سيئة ، بعد أن أمضوا عمرا في الجهاد والحق . وكان يصلي عليهم
ويدفنهم بصورة لائقة كمسلمين . وكان يوصي(عليه السلام)جنوده بالرفق بالجرحى والأسرى
، وعدم ملاحقة الفارين ، وعدم طعن الهاربين من الخلف ، وعدم التعرض للنساء
والأطفال بسوء ، وحتى قائدة جيش الجمل .

3 ـ لم يجبر أحداً على بيعته . وكان يقول (إن كرهني رجل
واحد من الناس لم أدخل في الأمر) .

4 ـ لم يمارس الغدر والدسائس أو السلوكيات اللاأخلاقية ضد
خصومه ، وتشويه سمعتهم من أجل فض الناس عنهم . صحيح أنه كان يذم أخلاقهم وانتهاكهم
القيم والتعاليم الاسلامية ، لكنه لم يبالغ أو يزيف الحقائق مطلقا . ولم تضطره صعوبة
المشاكل إلى النفاق أو الازدواجية حتى من أجل تدعيم سلطته الشرعية .

5 ـ عدم حرمان المعارضين من حقوقهم الأساسية في الأمن والعطاء،
وحرية التنقل ، وحرية الاجتماع وتداول الآراء ، وحرية التعبير السياسي ، والإعلان
عن عدم رضاهم لتوليه السلطة . كما لم يهاجم مساجدهم أو أماكن نشاطاتهم واجتماعاتهم
. الخلاصة أنه لم يمنع أحدا من ممارسة حقوقه السياسية مادام لم يخل بالأمن والنظام
. فإذا وصل الأمر إلى العصيان المسلح ، اضطر(عليه السلام) للتدخل .

6 ـ لم يقطع الاتصال بالمعارضة في جميع مراحل الصراع ، وحتى
في الحروب . فقد كان يأمل في تفادي إراقة دماء المسلمين قدر المستطاع . وكان لا
يأنف من مخاطبة المعارضين أو مكاتبتهم مهما كانوا على درجة من سوء الخلق ، أو
المستوى الفكري ، أو الماضي السيء . إذ كان لديه أمل كبير في إصلاحهم وإرشادهم إلى
طريق الحق .

7 ـ لم ينخدع بشعاراتهم السياسية لأنه كان يعلم الدوافع
الحقيقية ولم يقابلهم بالمثل برفع شعارات غير صحيحة بل كان همه أن يوضح للناس
خلفية خصومهم وأهدافهم الحقيقية .

8 ـ بقي(عليه السلام) ملتصقاً بالجماهير التي أعتبرها
القاعدة الحقيقية للحكم ، فأشركها في تحمل مسؤولياتها في مواجهة الأحداث ، فكان
يطرح رأيه عليها ، ويستشير الناس فيما يريد أن يقدم عليه ، ويسمع لرأيهم إن كان
صوابا ، ويرشدهم برفق إذا أخطأوا . ولم يكن مصرا على رأيه بل يأخذ برأي الأكثرية
ويحملهم نتائج قراراتهم . وكان يوضح للناس ما سيقوم به ، ويشرح لهم مجريات ما حدث
من أحداث ، كي يكونوا على علم ووعي بما يجري ، ولا يلتبس الأمر عليهم ، أو تشوش
عليهم الشعارات والإشاعات .

9 ـ كان مستعدا لسماع أي نقد ضده ، أو اتهام أو رأي مخالف .
ويناقش آراء خصومه دون انفعال إلاّ ما اقتضت طبيعة الأحداث ، ونوعية الشخصية
المخاطبة ، وموضوع الحديث . ويدفع عن نفسه الاتهامات ، ويوضح ما التبس من الأمور
بكل صراحة .

مصادر البحث :

ابن أبي الحديد المعتزلي ، شرح نهج
البلاغة ، عشرون جزءا في عشرة مجلدات، ج : تعني مجلد مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ،
الطبعة الأولى المصححة، بيروت : 1995 .
ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة في
معرفة أحوال الأئمة / دار الأضواء ، الطبعة الثانية ، بيروت : 1988 .
ابن قتيبة الدينوري / الإمامة والسياسة /
جزءان ، انتشارات الشريف الرضي ، الطبعة الأولى ، قم : 1992 .
المسعودي / مروج الذهب ومعادن الجوهر /
أربعة أجزاء ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، الطبعة الأولى المحققة ، بيروت : 1991 .
الطبري / تاريخ الطبري (تاريخ الأمم
والملوك) / ستة مجلدات / دار الكتب العلمية ، الطبعة الثانية ، بيروت : 1988 .
اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي / جزءان ،
منشورات الشريف الرضي ، الطبعة الأولى ، قم : 1994 .
محمد باقر الصدر / أهل البيت ، تنوع أدوار
ووحدة هدف / دار التعارف للمطبوعات ، بيروت .
محمد باقر الناصري / دراسات في التاريخ
الإسلامي / مؤسسة أهل البيت(عليهم السلام) ، الطبعة الثانية ، بيروت : 1981 .
محمد جواد مغنية / الشيعة والحاكمون / دار
ومكتبة الهلال ودار الجواد، الطبعة الخامسة ، بيروت : 1981 .
عبد الحسين شرف الدين / النص والإجتهاد /
منشورات الإمام الحسين(عليه السلام) للتبليغ والإرشاد ، الطبعة الأولى ، قم : 1994
.
مرتضى العسكري / أحاديث أم المؤمنين عائشة
/ جزء واحد / التوحيد للنشر ، الطبعة الخامسة ، ايران : 1994 .
محمد مهدي شمس الدين / ثورة الحسين ،
ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية / دار المثقف المسلم ، الطبعة الخامسة ، قم :
1978 .
محمد جواد آل الفقيه / أبو ذر الغفاري /
منشورات دار الفنون ، الطبعة الأولى ، بيروت : 1980 .
لجنة
التأليف ـ مؤسسة البلاغ / سيرة رسول اللّه وأهل بيته / جزءان، المعاونية الثقافية
للمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) .

([1]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 374 .

([2]) تاريخ اليعقوبي 2 : 180 .

([3]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 1 : 176 .

([4]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 374 .

([5]) ابن قتيبة الدينوري ، الامامة والسياسة 1 : 79 .

([6])ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 1 : 176 ـ 177 .

([7]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 375 .

([8]) تاريخ اليعقوبي 2 : 181 .

([9]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 378 .

([10]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 378 .

([11]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 372 .

([12]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 278 .

([13]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 378 .

([14]) ابن قتيبة الدينوري ، الامامة والسياسة 1 : 97 .

([15]) تاريخ اليعقوبي 2 : 183 .

([16]) تاريخ الطبري 3 : 57 .

([17]) مرتضى العسكري ، أحاديث أم المؤمنين عائشة 1 : 244 .

([18]) العسكري، أحاديث أم المؤمنين عائشة 1 : 245 ـ 247 .

([19]) محمد باقر الصدر ، أهل البيت : 104 .

([20]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 56 .

([21]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 57 .

([22]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 58 .

([23])ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 61 .

([24]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 63 .

([25]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 64 .

([26]) محمد باقر الصدر ، أهل البيت : 105 .

([27]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 65 .

([28]) محمد باقر الصدر ، أهل البيت : 105 .

([29]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 2 : 69 .

([30]) م . ن .

([31]) ابن الصباغ ، الفصول المهمة : 83 .

([32]) م . ن .

([33]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 408 .

([34]) ابن قتيبة الدينوري ، الامامة والسياسة 1 : 128 .

([35]) ابن قتيبة، الامامة والسياسة 1 : 135، مروج الذهب 2 : 408، الفصول المهمة : 90 .

([36]) تاريخ الطبري 3 : 101 .

([37]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 410 .

([38]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 413 .

([39]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 417 .

([40]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 421 .

([41]) ابن الصباغ ، الفصول المهمة : 96 .

([42]) م . ن .

([43]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 423 .

([44]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 424 .

([45]) المسعودي ، مروج الذهب 2 : 425 . تاريخ اليعقوبي 2 : 193 . الفصول المهمة : 104 .

/ 1