مـن تاريـخ أهـل البيـت(عليهم السلام)
الامام علي(عليه السلام)
والمعارضة السياسية ( 1 )
* صلاح
عبدالرزاق (هولندا)
مقدمة :
المعارضة ظاهرة اجتماعية ـ سياسية تنشأ في المجتمعاتبسببالاختلاف في الآراء والمواقف والفكر والسلوك . وقد مارس الأنبياء(عليهم السلام)
المعارضة الفكرية والعقائدية ضد الأوضاع السائدة في مجتمعاتهم ، رافضين الواقع
المنحرف ، داعين إلى المنهج السوي نحو التوحيد والحق والعدل المنسجم مع الفطرة
الانسانية السلمية . وتزعموا(عليهم السلام) المعارضة ضد الأنظمة الدكتاتورية ،
الفرعونية والنمرودية، التي كانت تستهين بعقل الانسان ، وكرامة الفرد ، وتنتهك
حريته ، وتستغله أسوء استغلال .وعارض الرسول(صلى الله عليه وآله) القيم والمعتقدات
الجاهلية ، معلناً رفضه لها ، ومتمسكاً بالهُدى ودين الحق ، داعياً إلى رفع أقنعة
الزيف والضلالة عن العقل ، مؤكداً موقفه الرافض لكل أنواع المساومة على دينه .
فكان رمزاً للثبات والاخلاص على العقيدة . وكان(صلى الله عليه وآله) يؤكد على
أهمية التغيير وبذل كل الجهود في سبيل ذلك . فقد قال(صلى الله عليه وآله) :
من
رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ،
وذلك أضعف الايمان . فشجع بذلك أهمية معارضة الانحراف في المجتمع الإسلامي ،
ومن أية جهة مصدره.والقرآن الكريم يرسخ مفهوم معارضة الباطل وكل صور الضلالة ،
فيدعو المسلمين إلى مواجهة المنكر بكل أنواعه . فهو يشمل كل ألوان الانحراف عن
المبادئ والقيم الانسانية والأحكام الشرعية ، وعلى كافة المستويات الأخلاقية
والاجتماعية والسياسية والاقتصادية . يقول تعالى : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى
الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)([1]) .المعارضة السياسية قبل
خلافة الإمام(عليه السلام) وبعدها :
نشأت الدولة الاسلامية في ظل نظام قبلي عشائري محكم ، وكان
الرسول(صلى الله عليه وآله) قد وظّف هذا الشعور وهذه الرابطة القوية من أجل خدمة
أهداف الإسلام العظيمة . فكانت الأحلاف والمعاهدات تتم مع القبائل بغرض توفير جو
سلمي يسمح للدعوة الاسلامية بالانتشار بهدوء . فكان(صلى الله عليه وآله) يحرص على
تفادي الحرب والقتال ـ قدر الإمكان ـ لأنها تؤدي إلى توتر الأجواء وتصاعد العصبيات
والثارات والغضب والانتقام ، فلا تبقى فسحة لمخاطبة العقل الذي يقود النفس البشرية
، بل تبقى العواطف والانفعالات هي التي تحدد ملامح الشخصية ، وتفرض نوع السلوك
الذي تتخذه .وقبل التعرف على الكيفية التي أدار بها الإمام علي(عليه
السلام) الصراعات السياسية ، وكيف واجه المعارضين له ، لابد من الحديث عن الفترة
السياسية التي سبقت وصوله للخلافة ، أي الفترة التي أعقبت وفاة الرسول(صلى الله
عليه وآله) ، حيث تولى الخلافة ثلاثة خلفاء . وتبلغ هذه الفترة حوالي ربع قرن (11
ـ 35 هـ) . ثم نتطرق إلى الفترة التي أعقبت شهادته(عليه السلام) ، أي بتولي معاوية
السلطة . وهي فترة دامت عشرين سنة .هذه المقارنة ضرورية لتسليط الأضواء على القيم والأعراف
السياسية السائدة في المجتمع الإسلامي في ذلك المقطع الزمني ، خاصة فيما يتعلق
بتعامل السلطة مع المعارضة السياسية . ولنتعرف على البون الشاسع بين السلوك السياسي
للخلافة العلوية ، وبين الممارسات السلطوية التي سبقته والتي تلته ، كي تتضح أبعاد
السمو الأخلاقي والالتزام الدقيق بالأحكام الاسلامية حتى في أحلك الساعات ، وفي
ذروة الصراعات . إذ لا يمكن إدراك ما تميزت به خلافة أميرالمؤمنين علي(عليه
السلام)من عدل وإنصاف ورحمة وانسانية رفيعة المستوى ، إلاّ بالتعرف على العصر الذي
عاشت فيه ، والأجواء التي أحاطت بها .
الحوار السياسي في السقيفة
:
لم تكن قيم التسامح والعفو والرحمة والمسالمة تطبع السلوكالسياسي للسلطة التي أعقبت وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) خاصة مع المعارضة
السياسية . ففي سقيفة بني ساعدة ، دار أول حوار سياسي حول استلام السلطة بعد
وفاته(صلى الله عليه وآله) . بدأ الحوار بمساومة بين المهاجرين الذين اقترحوا صيغة
(منا الأمراء ومنكم الوزراء)([2]) واقتراح
الأنصار (منا أمير ومنكم أمير)([3]) ، ثم
تفاخروا أيهم أحق بالأمر ، ثم انتهى الحوار والقوم يطأون زعيم الخزرج سعد بن عبادة
ـ وكان مريضاً ـ وهم يرددون (اقتلوا سعداً ، قتل اللّه سعداً) . وأخذ بعضهم
بلحية بعض ، وهدد بعضهم بعضاً بالقتل (أما واللّه حتى أرميكم بما في كنانتي من
نبلي ، وأخضب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي)([4])
.فلم تكن ذهنية الشورى حاضرة بل كانت قبائل تقتسم غنيمتها ،
وكل يريد نصيب الأسد من حصته . وكانت ذهنية العصبية القبلية هي التي تدير
المساومات ، وبعد ذلك تدير الصراع الذي تأجج بفعل إصرار الفريقين على أخذ نصيبه
كاملاً . وهكذا ما كاد الرسول(صلى الله عليه وآله) يغمض عينيه حتى أطلت عصبيات
الجاهلية برأسها ، وإن كانت تتشح بالاسلام قناعاً . فلم يتحدثوا بمنطق سلطان
الإسلام ، بل سلطان العرب وسلطان محمد وسلطان قريش . فقد اعترض عمر بن الخطاب على
الأنصار بقوله (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّ
مدل بباطل ، أو متجانف لإثم ومتورط في هلكة)([5]) .ولم يبايع أهل المدينة كلهم ، إذ بقي هناك رافضون للبيعة
منهم بنو هاشم إضافة إلى جماعة من المهاجرين والأنصار بقوا على عهدهم في بيعة
الغدير حين بايعوا علي بن أبي طالب(عليه السلام) على الخلافة في حجة الوداع .
وبدأت السلطة الجديدة عمليات المبايعة القسرية للناس بالتهديد والإكراه . وحين
علمت السلطة أن اجتماعاً يعقد في بيت فاطمة وعلي(عليهما السلام)، تم تطويق البيت
وهو ملاصق للمسجد النبوي ، وحاولوا إحراقه على من فيه من الصحابة .
الإمام علي(عليه السلام)
في المعارضة :
لم تكن معارضة الإمام علي(عليه السلام) للخلفاء معارضة عنفأو شق الصف، بل معارضة سلمية ساكتة . فقد بقي(عليه السلام) معتزلاً التدخل بالشؤون
السياسية ستة أشهر ، إيماناً بحقه في الخلافة . ولم يبد موقفاً ايجابياً واضحاً في
معارضته في حياة أبي بكر وعمر ، وذلك أنه(عليه السلام) كان يريد أن تكون المعارضة
في إطارها الرسالي ، وأن ينعكس هذا الإطار على المسلمين ، وأن يفهموا أن المعارضة
ليست لنفسه ، وإنما هي للرسالة([6]).ولولا حدوث تطورات داخلية وخارجية لما تدخل الإمام علي(عليه
السلام) . ففي الجزيرة أشتد خطر أمر المتنبئين أمثال مسيلمة الكذاب وطلحة بن خويلد
وسجاح بنت الحرث . وفي داخل المدينة ، عاصمة الخلافة ، قوي وجود المنافقين . وعلى
حدود الدولة الاسلامية كان الروم والفرس يراقبون الأوضاع ويتطلعون إلى فرص مؤاتية
تعم فيها الفوضى وتفكك المجتمع الإسلامي الوليد . وقد أدت بيعة السقيفة إلى بروز
تكتلات سياسية وتطلعات شخصية إلى الزعامة بعد أن جرى خرق بيعة الغدير، وعدم
الالتزام بما أراده الرسول(صلى الله عليه وآله) .هذه وغيرها جعلت الإمام علي(عليه السلام) يضطر مكرهاً إلى
بيعة الخليفة أبي بكر حرصاً على حماية الإسلام والدولة الاسلامية من التفتت
والانهيار . وقد أوضح أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) موقفه هذا بقوله :«فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ،
يدعون إلى محق دين محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم . فخشيت إن لم أنصر الاسلام
وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ لأعظم من فوت ولايتكم
التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع
السحاب . فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه»([7])
.
عهد عمر بن الخطاب ، شدة
وغلظة :
لم تفارق الخشونة سلوك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فيحياته اليومية . فقد كان (أول من حمل الدرّة وضرب بها)([8]) الناس في
الأسواق أو من يجادله . فقد ضرب أبا هريرة لأنه لم يقتنع بشرعية الأموال التي
جمعها أبو هريرة أثناء توليته على البحرين . وأمر عمر بن الخطاب بحرق قصر سعد بن
أبي وقاص لأنه قد بلغه أن سعداً يحتجب عن الناس في قصره . في حين يُفترض به أن
يجري تحقيقاً بالأمر ، أو يرفع القضية إلى القضاء للبت فيها .وتبلغ الخشونة مداها لدى عمر حين يسأله ضبيع التميمي عن تفسير
بعض الآيات القرآنية . وبدل أن يجيبه أو يقول له لا أعرف ، يبادر إلى جلده ثم
يحبسه في السجن ، ويجلده مائة جلدة ، حتى إذا برئ منها أعاد جلده مرة أخرى ، ثم
نفاه إلى البصرة ، ومنع الناس من مجالسته أو يخطب في الناس حتى مات . وهي عقوبات
لا نص فيها كما أنها زادت حتى عن الحدود الشرعية . وقام عمر بنفي نصر بن حجاج إلى
البصرة لأنه كان جميلاً تتغزل به النساء .وبلغت به الشدة على أهل بيته أيضاً ، فقد ارتكب ولده
عبدالرحمن جريمة شرب الخمر في مصر ، وعاقبه عليها واليها عمرو بن العاص ، فحلق
رأسه وجلده الحد الشرعي بحضور أخيه عبداللّه بن عمر. ولما بلغ الأمر عمر ، أرسل
على ولده عبدالرحمن وجلده بالسوط ، رغم اعتراض عبدالرحمن بن عوف بأن الحد الشرعي قد
أقيم عليه ، ثم حبسه بعد الجلد شهراً فمات([9]) .وكان أغرب قراراته هو الحكم بالقتل على أي عضو من أعضاء
الشورى ، الذي عيّنه قبيل وفاته للبتّ في اختيار الخليفة من بعده ، إذا ما عارض
رأي الأكثرية . ووصل الأمر إلى الأمر بقتل أعضاء (مجلس الشورى) كلهم ! . فقد عين
أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري مشرفاً على تنفيذ قراراته التالية حين قال له :«إن رضي أربعة وخالف اثنان ، فاضرب عنق الاثنين ، وإن
رضي ثلاثة وخالف ثلاثة ، فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبدالرحمن ابن عوف . وإن
جازت الأيام الثلاثة ولم يتراضوا بأحد، فاضرب أعناقهم جميعاً»([10])
.فهذه الممارسات العنيفة لم يأت بها أحد قبله ، ولم يوص بها
قرآن أو حديث نبوي شريف ، ولم تكن من عادة العرب إذا ناقشوا أمراً واختلفوا فيه ،
بل هي من أفكار الخليفة عمر بن الخطاب . وهي أفكار بعيدة عن الرحمة والعدل ، فما
ذنب الصحابة أن يُقتلوا لأنهم لم يتفقوا على تسمية مرشح للخلافة .
عهد عثمان ، العنف يولّد
العنف :
أما في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان فقد بلغت الأمور مستوىفظيعاً من الارهاب السياسي والمعاقبة على الكلمة والرأي الصريح . فقد أحاط عثمان
بن عفان نفسه بطاقم أموي لادارة البلاد ، ولم يكونوا من الأكفاء ادارياً ، بل
عليهم شبهات أخلاقية وفساد مالي ، وغلظة في التعامل مع الناس.وكان الخليفة نفسه يتضايق من كلمة حق أو رأي معارض لرأيه . وتعرض
الكثير من الصحابة إلى أذاه فقد أمر بضرب عبد اللّه بن مسعود ومنع عطاءه . فحين
أمر عثمان بإحراق جميع المصاحف في الدولة الاسلامية . وكان ابن مسعود بالكوفة ،
رفض تسليم مصحفه ، فأمر عثمان والي الكوفة بإحضار ابن مسعود بالقوة . فلما
(دخل ابن
مسعود المسجد وعثمان يخطب ، قال عثمان : إنه قد قدمت عليكم دابة سوء . فكلمه ابن
مسعود بكلام غليظ ، فأمر به عثمان ، فجز برجله حتى كسر له ضلعان)([11])
. وبقي ابن مسعود غاضباً على عثمان حتى توفي .ومنع عثمان دفن الصحابي المقداد بن عمرو لأنه كان يرى أن علياً(عليه
السلام)أحق بالخلافة ، وغضب على عمار بن ياسر لأنه صلى على جثة المقداد .أما الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري فقد تعرض للأذى والنفي
إلى الشام لأنه عارض الانفاق الأموي المسرف من مال الدولة . وكان يردد قوله تعالى
: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم)([12])
، فأرسل عثمان أحد مواليه إليه قائلاً : أن انته عما بلغني عنك، فقال أبو ذر :
أو
ينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه تعالى ، وعيب من ترك أمر اللّه تعالى ! فو اللّه
لئن أرضي اللّه بسخط عثمان أحب إليّ وخير لي من أن أسخط اللّه برضا عثمان([13])
.وفي يوم اعترض أبو ذر على عثمان في مجلسه حين قال : أترون
بأسا أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أمورنا ونعطيكموه ؟
فقرر عثمان نفيه إلى الشام . ولم يتوقف أبو ذر عن نقد الأوضاع السياسية والإسراف
من بيت مال المسلمين . وكان يحدث أهل الشام : (ثم أن الولاة ، قد أحدثوا
أعمالاً قباحاً لا نعرفها . من سنة تطفأ ، وبدعة تحيى ، وقائل بحق مكذب ، واثرة
لغير تقى ، وأمين ـ مستأثر عليه ـ من الصالحين) . ولم يكن ذلك يريح معاوية
والي الشام فكتب رسالة إلى عثمان : إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع ، ولا آمن أن
يفسدهم عليك ، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك . فكتب إليه عثمان بحمله على
بعير عليه قتب يابس حتى أتوا به المدينة وقد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف([14]).
ولم يحتمل عثمان نقد أبي ذر ومعارضته لسلوكه وسلوك ولاته ،
ويذكر للناس ما غيّر وبدّل من سنن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) . وبدل أن يستمع
إلى آرائه ومتابعة انتقاداته ومعاقبة المخالفين من ولاته ، نظراً لكونه من الصحابة
الكبار ، وممن أسلموا في مكة قبل الفتح ، كان الخليفة عثمان يضيق ذرعاً به ، فقرر
نفيه إلى الربذة رغم أن أبا ذر قَبِلَ بالنفي لكنه عرض على الخليفة نفيه إلى مكة
أو البصرة أو الكوفة أو مصر وهي من الحواضر الاسلامية . ولم يكتف عثمان بالنفي بل
أصدر أمراً بمقاطعة أبي ذر وأن لا يكلمه أحد بهدف عزله عن الجماهير ، وعدم ذكر
السبب الحقيقي لنفيه . ولما علم أبو ذر بقرار عثمان بنفيه إلى البادية قال : أصير
بعد الهجرة أعرابياً ؟ فرفض الخليفة كل مقترحاته وأصر على نفيه إلى أبعد نقطة ، إلى
الربذة([15])
. فمات فيها وحيداً .ويذكر «أن المقداد وعماراً وطلحة والزبير وعدة من أصحاب
رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كتبوا كتاباً عددوا فيه أحداث عثمان ، وخوفوه به ،
وأعلموا أنهم مواثبوه إن لم يقلع . فأخذ عمار الكتاب، فأتاه به ، فقرأ منه صدراً ،
ثم قال عثمان له : أعلي تقدم من بينهم ! فقال عمار : لأني أنصحهم لك ، قال : كذبت
يابن سمية ! فقال : أنا واللّه ابن سمية ، وابن ياسر ! فأمر عثمان غلمانا له ،
فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه ـ وهي في الخفين ـ على مذاكيره ،
فأصابه الفتق ، وكان ضعيفاً كبيراً فغشي عليه»([16]) .وكان الخليفة عثمان بن عفان قد استمرأ سياسة النفي والإيذاء
والعزل . فقد عاقب مجموعة من الشخصيات البارزة في الكوفة منهم مالك بن الأشتر
النخعي وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وعدي بن حاتم ، بعد كلام جرى بينهم وبين واليه
على الكوفة سعيد بن العاص لأنهم عارضوا قوله (إنما السواد بستان لقريش ، ما
شئنا أخذنا منه ، وما شئنا تركناه) . فألقى عليهم القبض ونفاهم إلى الشام أولا
، ثم إلى حمص وكان العامل عليها هو عبدالرحمن بن خالد بن الوليد . وكان يغلظ لهم،
ويقول لهم : لا أهلاً بكم ولا سهلاً .. جزى اللّه عبد الرحمن إن لم يؤذكم([17]).وسارت سياسة عثمان سيراً تصاعدياً في الظلم والإنحراف عن
تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية ومخالفته لقرارات الرسول(صلى الله عليه وآله) في
ايوائه المطرودين . وكان ولاته على بقية الأقاليم الاسلامية يسيرون على نهجه حتى
تعالت أصوات الأمة ، فكانت تأتيه وفود منها تشتكي ولاته وظلمهم وتعسفهم . ولم يكن
يستجيب لهم ، بل على العكس كانت تصلهم أخبار تنكيله بالمعارضين . وقد أثار ذلك سخط
المسلمين لأن المعارضين كانوا من أجلاء الصحابة ، وأنهم يعبرون عن رأي المسلمين.ولم يكن بالمستطاع الصبر على هذه الأوضاع ففي عام 35 هـ /
655 م جاءت وفود عسكرية من مختلف الأقاليم الاسلامية إلى المدينة مطالبين بالعدل
وحسن السيرة . فقد وصل مالك الأشتر من الكوفة بصحبة مائتي رجل ، وحكيم بن جبلة من البصرة
بصحبة مائة رجل ، وعبدالرحمن بن عديس البلوي ومعه 600 رجل من أهل مصر وفيهم عمرو
بن الحمق الخزاعي وسعد بن حمران التجيبي ومحمد بن أبي الصديق
. فلما علم عثمان بقدومهم ; قام بتكليف
علي بن أبي طالب(عليه السلام) بالخروج إليهم وأن يضمن لهم عنه كل ما يريدون . فقام
علي(عليه السلام) بالمهمة ، واقتنعوا وعادوا منصرفين . وفي الطريق علموا أن عثمان
قد أرسل إلى واليه في مصر ابن أبي سرح يأمره بقطع أيدي بعضهم وقتل آخرين ، فعادوا
إلى المدينة ، وحاصروا عثمان في داره . وانتهت الأزمة بقتل عثمان بعد حصار دام 49
يوماً .وهكذا فقد جرت عليه سياسته وتنكيله بمعارضيه وعدم الاستجابة
إلى الأصوات المخلصة حتى أودت بحياته . وكانت فتنة سياسية عانت منها الأمة الاسلامية
طويلاً ، وبقيت آثارها حاضرة في الأحداث السياسية اللاحقة .
عهد معاوية ، مكيافيلية
عربية :
أما الفترة السياسية التي أعقبت خلافة أميرالمؤمنين(عليهالسلام) والتي دامت عشرين عاماً وهي التي تولى فيها معاوية السلطة ، فكانت فترة
عصيبة على المعارضين لسياسته . وإذا كان الخلفاء السابقون قد عاقبوا بعض الشخصيات
والأفراد المعارضين إلاّ أن حكم معاوية طال قطاعات واسعة من الأمة الاسلامية ، وصدرت
قرارات بعقوبات جماعية ، بل عاقب على الظنة والشبهة ، أي حتى لو لم تثبت إدانة
المتهم . وهذا خرق فاضح للأحكام الاسلامية .اتخذ معاوية قرارا بمعاقبة كل أنصار علي بن أبي طالب(عليه
السلام) في كل أنحاء الدولة الاسلامية ، فأصدر البيان التالي :«أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته»
. كما أصدر تعميماً ادارياً جاء فيه «انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً
وأهل بيته فامحوه من الديوان (السجلات الرسمية) وأسقطوا عطاءه (امنعوا عنه حقه
المالي) . ثم أصدر مرسوماً إلى الشرطة والقضاة جاء فيه
«من اتهمتموه بموالاة
هؤلاء القوم (علي وأهل بيته) فنكلوا به واهدموا داره» ، ومرسوماً آخر جاء فيه
«ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة»([18]) .فسادت أجواء الارهاب والرعب بين الشيعة ، وتعرضوا للقتل
والصلب والتعذيب والطرد ، حتى بات الرجل منهم يخاف أن يقول أنه شيعي . وسلط معاوية
ولاته في العراق ـ مهد التشيع ـ ففي الكوفة كان زياد بن سمية يلاحقهم وينكل بهم ،
وفي البصرة أسرف السفاح سمرة بن جندب حتى قتل ثمانية آلاف فقيل له : هل
تخاف أن تكون قتلت بريئاً ؟ فرد قائلاً : لو قتلت مثلهم ما خشيت .ويصف الإمام الباقر(عليه السلام) تلك الفترة العصيبة فيقول
: «وقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة . وكل من يذكر
بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد
ويزداد إلى زمان عبيداللّه بن زياد قاتل الحسين»([19]) .وارتكب معاوية أموراً لم يسبقها إليه أحد فهو أول من سنّ
سُنّة السبّ على المنابر ، فقد (أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ علي(عليه
السلام)والبراءة منه . وخطب بذلك على منابر الإسلام ، وصار ذلك سنّة في أيام بني
أمية إلى أن قام عمر بن عبدالعزيز (رض) فأزاله)([20]) . فأراد
بذلك وضع حاجز نفسي من الخوف في قلوب الناس يمنعهم من ذكر علي(عليه السلام)أو
فضائله ومناقبه . هذا وعلي(عليه السلام) قد لقي ربه منذ سنوات ، والأمر مستوسق
لمعاوية ، لا ينافسه فيه أحد .واتبع معاوية سياسة الترحيل والتهجير لاضعاف المعارضة في
العراق. فقد قام بترحيل خمسين ألفاً من أهل الكوفة إلى خراسان . وهذا العقاب
الجماعي لخمسين ألفاً من المسلمين يعد انتهاكاً صارخاً لكل القيم الانسانية
والأحكام الاسلامية ، وإنما هي سياسة معاوية التي سنّها لمن بعده .ولعل واحدة من جرائم معاوية هي قتله الإمام الحسن(عليه
السلام) بعد أن تصالحا وأعطاه الأمان وقبل بشروط الصلح . ولم يكتف معاوية بذلك بل تتبع
الشخصيات الشيعية حتى التي لم تتحرك سياسياً ضده ، بل لأنهم لم يرضوا به ، فقتل
حجر بن عدي مع ستة من أصحابه ، فأمرهم معاوية أن يتبرأوا من علي(عليه السلام)
ولعنه وتولي عثمان ، لكنهم رفضوا فقتلوا صبراً([21]) . وأخذ
معاوية يلاحق أصحاب علي(عليه السلام) فقتل عمرو بن الحمق وعمره ثمانون عاماً ،
ورمى رأسه إلى زوجته السجينة في سجن الكوفة. وقتل رشيد الهجري بعد أن رفض البراءة
من علي(عليه السلام) ولعنه ، وقتل جويرية بن مسهر العبدي . وحبس كثيراً من الشيعة
في سجون معاوية ، وقطع أيدي وأرجل آخرين دون ذنب أو جرم ، إلاّ لأنهم يتولون
علياً(عليه السلام) . فهل هناك من يفخر بهذا التاريخ (الإسلامي) ، ويتحدث عن حقوق
الانسان في تراثنا وتاريخنا كله ؟فهذه نبذة سريعة من الأساليب والممارسات التي حكمت سياسة
الخلفاء في صدر الإسلام تجاه خصومهم ومعارضيهم . أما في العهد الأموي والعباسي فقد
تطورت وسائل التعذيب والقتل وأساليب التشهير والتشويه الاعلامي ، والطعن في عقائد
الخصوم وتكفيرهم قبل تنفيذ سياسة الاستئصال والإقصاء عن المسرح السياسي بل عن
الحياة .بيعة الإمام علي(عليه
السلام) حدث جماهيري :
لم تكن بيعة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) تقتصر على فئة
محدودة أو ولاية عهد من شخص إلى آخر أو قراراً اتخذه (أعضاء الشورى) بل كانت بيعة عامة
أجمع عليها المهاجرون والأنصار . فللّه دره، فلم يكن هناك شك في ولايته والنص على
إمامته ، حتى جاءت بيعته لتعبر عن قرار جماهيري ، وإجماع ساد الدولة الاسلامية ،
لتكون بيعته أصدق تعبير عن الشارع الإسلامي ، وأقواها شرعية في تمثيلها لرأي الأمة
. فجاءت ترشيحاً وانتخاباً حراً لم يسبقه إليها أحد ولم يلحقه أحد . فلم يجبر
أحداً على بيعته ، بل بايعه الناس مختارين ، وحتى الذين نكثوا بيعتهم فيما بعد ،
لم يدخلوا في البيعة مكرهين .يقول ابن أبي الحديد نقلاً من أبي مخنف في كتاب الجمل : إن
الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد الرسول(صلى الله عليه وآله) لينظروا من يولونه
أمرهم ، حتى غص المسجد بأهله ... ثم أجمعوا أمرهم على علي ، وقاموا كلهم فأتوا
علياً(عليه السلام) فاستخرجوه من داره ، وسألوه بسط يده ، فقبضها، فتداكو عليه
تداك الإبل إليهم على وردها ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً . فلما رأى منهم ما رأى ،
سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس . وقال : إن كرهني رجل واحد من الناس
لم أدخل في هذا الأمر([22])
.فلم يردها بيعة مؤامرة في الظلام أو بيعة فرض الأمر الواقع
بالعهد ، أو بيعة لا يرضى بها رجل واحد من المجتمع الإسلامي . يقول الطبري : «إن
علياً قال للمسلمين قبل بيعته : ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفيا ، ولا
تكون إلاّ عن رضا المسلمين([23]) . لقد أصر(عليه
السلام) على أن تكون في محل عام ، في المسجد النبوي ، وأن يرضى به كل الناس خليفة
. فبقي متريثاً([24])
. غير أن إصرار الأمة على مبايعته جعله يعرض شروطه عليهم ، فإن وافقوا عليها فسيقبل
البيعة وإلاّ فهو يبقى بمنزلة المشاور الناصح وليس الحاكم الآمر . لقد قال لهم بكل
وضوح وصراحة :«دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه
وألوان . لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول . وإن الآفاق قد أغامت (غطيت
بالغيم) والمحجة (الطريق المستقيم) قد تنكرت (تغيرت) . واعلموا أني إن أجبتكم ركبت
بكم ما أعلم . ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ،
ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيرا ، خير لكم مني أميراً»([25])
.لم يكن(عليه السلام) يتثاقل من مسؤولية الحكم ، بل يريده
وفقاً لما يجعله قيّما على المنهج وأميناً على الرسالة ، وعنواناً لدستور جديد ،
يختلف عن الوضع المنحرف القائم بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) .
«لأجل هذا
امتنع عن قبوله الخلافة أول الأمر ، فقال لهم فكروا في غيري ، واتركوني وزيراً لمن
تستخلفونه ، فأنا لكم وزيراً خير مني أميراً ، يعني على مستوى حياة الدعة والكسل ،
على مستوى الرخاء واليسر ، على مستوى الحياة الفارغة من المسؤولية . على مستوى هذه
الحياة أنا وزير خير من أمير ، لأني حينما أكون أميراً سوف أرهقكم ، سوف أتعبكم ،
سوف أفتح أمامكم أبواب مسؤوليات كبرى تجعل ليلكم نهاراً ، وتجعل نهاركم ليلاً .
هذه الهموم التي سوف تدفعكم إلى حمل السلاح ـ من دون حاجة مادية ـ لأجل تطهير
الأرض الاسلامية من الانحراف الذي قام عليها([26]) وبايعه الناس في المسجد . وكان أول من بايعه طلحة ثم الزبير
وبقية الصحابة ممن كان حاضراً في المدينة آنذاك . وبقي أميرالمؤمنين(عليه
السلام)ينتظر بيعة الأقاليم الاسلامية الأخرى بعد أن وصلها خبر مقتل عثمان وبيعه
علي(عليه السلام) معا . فلم تطمئن نفسه حتى علم بيعة الأمة كلها له ، عدا الشام ،
فقد صرح جرير بن عبداللّه البجلي بإجماع الأمة الاسلامية على بيعة علي أثناء
وساطته بين معاوية وعلي(عليه السلام) ، حين دخل على معاوية وقال :
أما بعد يا
معاوية ، فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين ، وأهل المصرين (الكوفة والبصرة) ، وأهل
الحجار ، وأهل اليمن ، وأهل مصر ، وأهل العروض (عمان) ، وأهل البحرين واليمامة([27])
.يصف الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود هذه البيعة فيقول :
(والشعب كله هو الذي ولاه بكل فئاته ، بكل أجناسه وألوانه ، بكل بقاعه وأوطانه ...
بيعة عامة ، توفرت لها جواب العمومية ، وأجمع عليها المهاجرون والأنصار والقرشيون
، والقبائل الأخرى ، والرعاة والعبدان ، وأهل الأمصار ، بل هي كانت ، فوق هذا كله
، ترجمة صادقة أمينة عن التطور الفكري والارادة الشعبية الحرة ، والتغيرات
الاجتماعية في بنية الوطن الإسلامي على اتساع رقعة أراضيه ، تمثلت في أهل المدينة
وأهل المياه ووفود مصر والكوفة والبصرة الذين أمروا عليهم بمحض اختيارهم ورغبتهم ،
وبغير عهد ولا دعوة ولا توجيه ، رجلا لم يعرض نفسه ، ولم يسع إليهم ، لأنهم رأوا
فيه وحده من دون الناس أجمعين المثل الكامل للحاكم الذي ترنو إليه مبادئ ثورتهم
السياسية النازعة إلى شعبية الحكم بغير تمييز عنصر على عنصر ، وثورتهم الاجتماعية
الهادفة إلى وحدة العدل وجماعيته بغير تفضيل طبقة على طبقة)([28])
.تعامله(عليه السلام) مع الممتنعين
عن بيعته
بايعت قريش إلاّ ثلاثة أشخاص وهم مروان بن الحكم وسعيد بن
العاص والوليد بن عقبة ، وهم من ولاة عثمان وأقاربه([29]) . وتحدث
الوليد ابن عقبة ـ الذي نزلت فيه آية (إذا جاءكم فاسق بنبأ ...) ـ فقال
علي(عليه السلام) : يا هذا (لم يخاطبه بأمير المؤمنين) إنك قد وترتنا جميعاً . أما
أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وأما مروان فشتمت
أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه . فتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا (عفو عن
العقوبات) وتعفي لنا عما في أيدينا (تترك الأموال التي سرقناها) وتقتل قتلة صاحبنا
(عثمان)([30])
.هكذا يخاطبون الخليفة بكل جرأة ويطمعون بفرض شروطهم ، بل
ويطالبون بالعفو وترك الأموال التي نهبوها من بين المال . ترى ماذا سيكون موقف
الإمام علي(عليه السلام) ؟ هل يتعامل معهم كما تعامل صاحبهم عثمان بالتنكيل
بمعارضيه أو نفيهم أو سجنهم بتهمة التطاول على الخليفة ؟ كلا ، إنه
أميرالمؤمنين(عليه السلام) ، لم يكن يلحق الأذى بإنسان قط دون حق ، بل رفض أن يسلب
نملة حبة شعير .لقد غضب الإمام علي(عليه السلام) من قول الوليد ، ولكن لم
يسكته أو يأمر بضربه أو غيره ، بل بادر إلى إجابته على ما ذكر ومحاججته ودحض رأيه
، فقال له :«أما ما ذكرت من وتري إياكم ، فالحق وتركم . وأما وضعي
عنكم ما أصبتم ، فليس لي أن أضع حق اللّه تعالى ، وأما إعفائي عما في أيديكم فما
كان للّه وللمسلمين فالعدل يسعكم . وأما قتلي قتلة عثمان ، فلو لزمني قتلهم اليوم
لزمني قتالهم غدا ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب اللّه وسنّة نبيه . فمن ضاق عليه
الحق ، فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم» ، فقال مروان : بل
نبايعك ، ونقيم معك ، فترى ونرى([31]).وهذه هي مبدئية الإمام علي(عليه السلام) والتزامه الشديد
بأحكام الشريعة الاسلامية ، ورفضه كل اشكال التنازلات والمساومات . وحدد منذ
البداية أنه ماض في سياسة إحقاق الحق وارساء العدل .ولم يكن يجبر أحداً على بيعته لكن بعض المسلمين هربوا من
المدينة لأنهم لم يكونوا يطيقون علياً(عليه السلام) وعدله وحزمه . فقد غادرت أم
المؤمنين عائشة المدينة وذهبت إلى مكة وهي تقول :
لا أدخل المدينة ولعلي فيها
سلطان([32])
.ومن الطبيعي أن يتخلف أعمدة الحزب الأموي أو من يسميهم
المؤرخون (العثمانية) نسبة الى عثمان بن عفان ، لأنهم يعتقدون أن الخلافة خرجت
منهم وذهبت إلى خصومهم التاريخيين ، بني هاشم ، فأولئك المسلمون كانوا يفكرون
بذهنية قبلية لم يشذبها الإسلام ، وإنما ـ حسب رأيهم ـ تنازع بين القبائل على
السلطة . يقول الطبري (لما قتل عثمان (رض) بايعت الأنصار علياً إلاّ نفراً يسيرا ،
منهم حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن
مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وفضالة ابن عبيد ، وكعب
بن عجرة ، كانوا عثمانية)([33])
.«وتخلف عن بيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) في المدينة محمد
بن مسلمة وعبداللّه بن عمر وأسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وكعب بن مالك وحسان بن
ثابت وعبداللّه بن سلام . فأراد علي(عليه السلام) أن يعرف طبيعة مواقفهم وأسباب
عدم مبايعتهم ، فأمر بإحضار عبداللّه بن عمر ، فقال له: بايع ، قال : لا أبايع حتى
يبايع جميع الناس . فقال له(عليه السلام) : فأعطني حميلا (كفيلا) ألا تبرح (تغادر
المدينة) ، قال : ولا أعطيك حميلا . فغضب مالك الأشتر على جرأة عبداللّه بن عمر
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هذا قد أمن سوطك ، فدعني أضرب عنقه ، فقال علي(عليه
السلام) : لست أريد ذلك منه على كره ، خلوا سبيله ، فلما انصرف قال أمير المؤمنين
: لقد كان صغيراً سيىء الخلق ، وهو في كبره أسوأ خلقاً»([34])
.ويبدو أن عبداللّه بن عمر أراد أن يبرر موقفه الرافض لبيعة
الإمام ، وأنه قد شذ مع بعض القلائل عن إجماع المسلمين ، فأراد التشكيك ببيعة علي(عليه
السلام) ، وعرض عليه مقترحاً بإلغاء البيعة ، وأن يتم اختيار الخليفة عبر صيغة
الشورى ، لكن علياً(عليه السلام) عرف أنها فتنة جديدة تهدف إلى شق وحدة الصف الإسلامي
فكان موقفه حازماً تجاهه .يرى ابن أبي الحديد أنه «لما بايع الناس علياً(عليه السلام)
، وتخلف عبداللّه بن عمر ، وكلمه علي(عليه السلام) في البيعة فامتنع عليه ، أتاه
في اليوم الثاني ، فقال : إني لك ناصح ، إن بيعتك لم يرض بها كلهم ، فلو نظرت لدينك
ورددت الأمر شورى بين المسلمين . فقال علي(عليه السلام) ويحك ! وهل ما كان عن طلب
مني له ! ألم يبلغك صنيعهم ؟ قم عني يا أحمق ، ما أنت وهذا الكلام!»([35])
.فقد أراد ابن عمر أن يصور الأمر وكأن الإمام(عليه السلام) يسعى
للخلافة ويتهالك عليها مثل بقية الطامعين ، فأراد(عليه السلام) أن يذكره بما جرى
من المسلمين وإصرارهم على ترشيحه ومبايعته . ووصفه بالحمق ليس بجديد فقد رفض
الخليفة الثاني عمر بن الخطاب تسمية ولده عبد اللّه ضمن أعضاء الشورى قائلاً :
كيف
أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته([36]). لم يستطع
عبداللّه البقاء في المدينة فخرج منها في اليوم الثالث ، ورفض أميرالمؤمنين(عليه
السلام) ملاحقته وإحضاره بل قال : دعوه وما أراد .وأراد أمير المؤمنين أن يستكشف أسباب تقاعس الآخرين عن
بيعته وما سيفعلونه ، وحينما يعرف رأيهم يتركهم وشأنهم ، دون تهديد أو وعيد أو قطع
العطاء أو هدم الدور أو إحراقها . فأتى(عليه السلام) بسعد بن أبي وقاص ، وقال له :
بايع ، فقال : يا أبا الحسن خلني ، فإذا لم يبق غيري بايعتك، فو اللّه لا يأتيك من
قبلي أمر تكرهه أبداً . فقال(عليه السلام) : صدق ، خلوا سبيله
.ثم بعث إلى محمد بن مسلمة ، فلما أتاه قال له : بايع ، قال
: إن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أمرني إذا اختلف الناس وصاروا هكذا ـ وشبك
على أصابعه ـ أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد ، فإذا تقطع أتيت منزلي ، فكنت فيه
لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية ، أو منية قاضية . فقال له(عليه السلام) :
فانطلق
إذاً ، فكن كما أمرت به .ثم بعث إلى أسامة بن زيد ، فلما جاء قال له : بايع ، فقال :
إني مولاك ولا خلاف مني عليك ، وستأتيك بيعتي إذا سكن الناس . فأمره بالانصراف ،
ولم يبعث إلى أحد غيره . وقيل له : ألا تبعث إلى حسان بن ثابت ، وكعب ابن مالك ،
وعبداللّه بن سلام ، فقال(عليه السلام) : لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا([37])
.ويناقش ابن أبي الحديد هذه الأخبار التي تتحدث عن وجود بعض الرافضين
لبيعة الإمام علي(عليه السلام) ، وأن ذلك قد يخالف ما روي عنه :
إن كرهني رجل واحد
من الناس لم أدخل في هذا الأمر، فيقول : إنما مراده(عليه السلام) أنه متى وقع
الاختلاف قبل البيعة نفضت يدي عن الأمر ولم أدخل فيه ، فأما إذا بويع ثم خالف ناس
بعد البيعة ، فلا يجوز له أن يرجع عن الأمر ويتركه ، لأن الإمامة تثبت بالبيعة ،
وإذا ثبتت لم يجز له تركها([38])
.ويؤيد هذا التحليل ما رواه الطبري أن : «عبداللّه بن عباس
قال : فلقد كرهت أن يأتي (علي) المسجد (قبل البيعة) مخافة أن يشغب عليه (فيمتنع عن
البيعة)([39])
.وكان عمرو بن العاص في فلسطين يوم مصرع عثمان فأرسل رسالة إلى
سعد بن أبي وقاص في المدينة يستطلع منه الأخبار ويسأله عن قتل عثمان ، ومن قتله ،
ومن تولى كبره ؟ فكتب إليه سعد : إنك سألتني من قتل عثمان ؟ وإني أخبرك أنه قتل
بسيف سلته عائشة ، وصقله طلحة ، وسمه ابن أبي طالب ، وسكت الزبير وأشار بيده ،
وأمسكنا نحن . ولو شئنا دفعنا عنه ، ولكن عثمان غيّر وتغيّر ، وأحسن وأساء ، فإن
كنا أحسنا فقد أحسنا ، وإن كنا أسأنا فنستغفر اللّه . وأخبرك أن الزبير مغلوب بغلبة
أهله وبطلبه بذنبه ، وطلحة لو يجد أن يشق بطنه من حب الإمارة لشقة([40])
.أما موقف معاوية فقد رفض التنازل عن سلطانه وإمارة الشام ،
إذ أنه يعلم أن علياً سيعزله عنها ، وبذلك تضيع جهود سنين من الاعداد لاستلام السلطة
، وتذهب بذلك ثرواته وامتيازاته . لذلك امتنع عن البيعة ولم يجب كتاب
أميرالمؤمنين(عليه السلام) بالبيعة والقدوم إلى المدينة . فقد أرسل علي(عليه
السلام) إليه كتاباً جاء فيه :من عبداللّه علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان :«أما بعد ، فقد علمت إعذاري فيكم ، وإعراضي عنكم ، حتى
كان ما لابد منه ولا دفع له; والحديث طويل ، والكلام كثير . وقد أدبر ما أدبر ،
وأقبل ما أقبل . فبايع من قبلك ، وأقبل إلي في وفد من أصحابك ، والسلام»([41])
.رفض معاوية البيعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، وأجمعوا
رأيهم على خلافة علي(عليه السلام)، وكان أميرالمؤمنين(عليه السلام) قد رفض إبقاءه
في منصبه واليا على الشام . وقد نصحه بعضهم بذلك ، منهم المغيرة بن شعبة الذي عرض عليه
أن يبقي الولاة الذين عينهم عثمان عاماً واحدا ، فإذا بايعوا أقالهم من مناصبهم
دون مشاكل ، لكنه(عليه السلام) رفض قائلاً : واللّه لا أدهن في ديني ولا أعطي
الدني في أمري . أما بالنسبة لمعاوية فقد قال له : فإن كنت قد أبيت علي فانزع من
شئت واترك معاوية ، فإن لمعاوية جرأة ، وهو في أهل الشام يسمع منه ، ولك حجة في
إثباته ; كان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام كلها . فقال علي(عليه السلام) لا واللّه
، لا أستعمل معاوية يومين أبدا([42]) .كما أشار عليه عبداللّه بن عباس بنفس المشورة قائلا : وأنا
أشير عليك بأن تثبت معاوية ، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله . قال علي : لا واللّه
، لا أعطيه إلاّ السيف([43])
.أما معاوية فقد كان رده يتضمن ارسال رسالة مختومة خالية من
الكتابة ، وحمل رسوله رسالة شفوية لاثارة الانتباه وبذور الشكوك ، واتهام
أميرالمؤمنين بمقتل عثمان . دخل رسول معاوية فقال له علي(عليه السلام): ما
وراءك ،
قال : آمن ، قال : نعم ، إن الرسول لا يقتل . قال : إني تركت ورائي أقواماً يقولون
لا نرضى إلاّ بالقود ، قال : ممن ؟ قال : يقولون من خيط رقبة علي . وتركت ستين ألف
شيخ يبكي تحت قميص عثمان ، وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر مسجد دمشق ، وأصابع زوجته
معلقة فيه ؟ فقال علي(عليه السلام) : أمني يطلبون دم عثمان ؟ اللّهم إني أبرأ إليك
من دم عثمان ، ما نجا واللّه قتلة عثمان إلاّ أن
يشاء اللّه ، فإنه إذا أراد أمراً
بلغه ، اخرج . قال وأنا آمن ؟ قال : وأنت آمن ([44]).المعارضة المسلحة
لم تكن المعارضة السياسية التي واجهها أميرالمؤمنين(عليه
السلام) معارضة قادرة على إقناع نفسها أولاً وجمهورها بشرعية مطالبها وصدق
أهدافها، وتناقضها في المواقف بين يوم وليلة ثانياً . وبما أنها كانت تفتقد أسلوب
الحوار والمحاججة مع الإمام علي(عليه السلام) ، وبسبب تكاثر أخطائها ومخالفاتها
الشرعية مثل نكث البيعة أو عدم طاعة ولي الأمر أو الانزلاق في منزلق البغي والقتل
وقطع الطرق ومهاجمة القرى الآمنة وسرقة الأموال ، وجدت نفسها أنها أقرب للعصيان
المسلح وخلق الاضطرابات السياسية والأمنية في بعض أنحاء الدولة الاسلامية وسيلة
ضغط على السلطة المركزية والخلافة من أجل الحصول على مكاسب آنية .ولغرض تحليل الأحداث التي واجهها أميرالمؤمنين(عليه السلام)
والتي أدت إلى ثلاث حروب طاحنة بين المسلمين أنفسهم ، سنحاول تسليط الأضواء على
أهداف ومواقف المعارضة التي وقفت ضد الإمام علي(عليه السلام) .
حرب الجمل ، معارضة تقودها
امرأة
وقد تزعم حركة المعارضة في أول برهة ثلاث شخصيات من الصحابة، رجلان وامرأة . أما الرجلان فهما الزبير بن العوام بن خويلد وأمه صفية بنت عبد
المطلب ، عمة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ; وطلحة بن عبيد اللّه ، أبوه ابن عم
أبي بكر ; والمرأة هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر .كان الزبير وطلحة من أشد الناقمين على سياسة عثمان . وقد
ذكرنا رسالة سعد بن أبي وقاص إلى معاوية التي يتهم فيها طلحة بتأجيج الناس ضد
عثمان . وقد قاد الحصار حول قصر عثمان ، ومنع عنه الماء . وكان عثمان يخاطبه من
أعلى القصر طالباً فك الحصار فرفض طلحة([45]) . وعندما
تدخل الإمام علي(عليه السلام) لرد الناس عن عثمان قال طلحة (لا واللّه ، حتى
تعطيني بنو أمية الحق من نفسها) ، أي ينصاع بنو أمية وهم أقرباء الخليفة لمطالب
المسلمين الذين طالبوا بإعادة ما نهبه بنو أمية منهم بالظلم والجور([46])
.يذكر اليعقوبي (وكان أكثر من يؤلب عليه «على عثمان» طلحة
والزبير وعائشة)([47])
. وكان الزبير يقول للناس : اقتلوا عثمان فقد بدل دينكم ، فقالوا له : إن ابنك
يحامي عنه بالباب ـ وكان ذلك أثناء الحصار الذي فرضه الثائرون على بيت عثمان ـ
فقال الزبير : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني . إن عثمان جيفة على الصراط
غدا([48])
.أما عائشة فلم تخف كرهها لعثمان ونقمتها على سياسته . وكانت
ذا تأثير جماهيري حيث كان الرواة والناس يتناقلون أقوالها ضده . وقد استخدمت وسائل
دعائية تثير في النفوس الحقد ضد الخليفة. فبعد تعرض عمار بن ياسر للاهانة والضرب
في مجلس الخليفة عثمان ، «غضبت عائشة وأخرجت شعراً من شعر رسول اللّه(صلى الله
عليه وآله) وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ، فأثارت بذلك مشاعر المسلمين ،
وأهاجت حنينهم لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، ثم قالت : ما أسرع ما تركتم سنة
نبيكم ! وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد . فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درى
ما يقول . وينقل اليعقوبي أنه قال : رب اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم([49]).
فحدثت ضجة في المسجد ، وقال الناس : سبحان اللّه ، سبحان اللّه([50])
.وفي مشهد آخر ، عندما اشتد الحصار على عثمان ، عزمت على
الخروج من المدينة إلى الحج ، فجاءها مروان بن الحكم يطلب منها التدخل لفك الحصار
ورد الجماهير عن قصره ، لما لها من تأثير عليهم ، فرفضت معلنة أنها تود حمل جثة
عثمان وتلقيها في البحر ! . قال مروان : ياأم المؤمنين ! لو قمت فأصلحت بين هذا
الرجل وبين الناس ؟ قالت : قد فرغت من جهازي ، وأنا أريد الحج . قال: فيدفع إليك
بكل درهم أنفقته درهمين . قالت : لعلك ترى أني في شك من صاحبك ؟ أم واللّه لو وددت
أنه مقطع في غرارة من غرائري ، وإني أطيق حمله ، فأطرحه في البحر([51])
.وفي مواجهة ساخنة بين عائشة وعثمان وفيها تحريض واضح لقتله حيث
قالت له : أي عثمان ! خصصت بيت مال المسلمين لنفسك ، وأطلقت أيدي بني أمية على
أموال المسلمين ، ووليتهم البلاد، وتركت أمة محمد في ضيق وعسر ، قطع اللّه عنك
بركات السماء وحرمك خيرات الأرض . ولولا أنك تصلي الخمس ، لنحروك كما تنحر الإبل
.
فقرأ عليها عثمان قوله تعالى : (ضرب اللّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط
كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من اللّه شيئا وقيل
ادخلا النار مع الداخلين)([52])
(التحريم : 10) .آثار ذلك التحريض غضب عائشة ، فزادت نقمتها عليه حتى أطلقت
شعارها الشهير (اقتلوا نعثلاً فقد كفر) . وتشير كلمة (نعثل) إلى عدة معاني سيئة
منها الذكر من الضباع ، والشيخ الأحمق ، ويهودي كان بالمدينة([53])
.ولم يبق غضب عائشة على عثمان مستمراً بل أن موقفها قد تغير
بين ليلة وضحاها تجاه عثمان بعد مقتله . ففي الفترة التي سبقت مقتله ، لعبت عائشة
دوراً تحريضياً ضده ، ولكنها بمجرد علمها أن الخليفة الجديد هو علي بن أبي
طالب(عليه السلام) ، خصمها اللدود ، حتى باتت تطالب بدم عثمان ومعاقبة قتلته .
يروي الطبري (خرجت عائشة (رض) نحو المدينة من مكة بعد مقتل عثمان ، فلقيها رجل من
أخوالها ، فقالت : ما وراءك ؟ قال : قتل عثمان ، واجتمع الناس على علي ، والأمر
غوغاء. فقالت : ما أظن ذلك تاما، ردوني ، فانصرفت راجعة إلى مكة ، حتى إذا دخلتها
أتاها عبداللّه بن عامر الحضرمي ـ وكان أمير عثمان عليها ـ فقال : ما ردك يا أم
المؤمنين؟ قالت : ردني أن عثمان قتل مظلوماً ، والأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر
، فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام . فكان أول من أجابها عبداللّه بن عامر الحضرمي
، وذلك أول ما تكلمت بنو أمية بالحجاز ورفعوا رؤوسهم ، وقام معهم سعيد بن العاص ،
والوليد بن عقبة ، وسائر بني أمية)([54]) .
السيدة عائشة ، طموحات
للزعامة
تعتبر أم المؤمنين عائشة من مشاهير النساء في التاريخالإسلامي اللائي لعبن دوراً كبيراً في مجريات الأحداث في عصر صدر الإسلام . فقد
شاركت في الحياة السياسية من بابها الواسع ، ولم تتحفظ في نشاطاتها وخطاباتها
ولقاءاتها بالمجتمع الرجالي في تلك البيئة المحافظة التي لم تكن تسمح للمرأة إلاّ
بدور محدود في المجتمع . كما لم يمنعها ذلك من المشاركة في التخطيط والتنفيذ لتزعم
الحركة المعارضة للخلافة الشرعية التي أمرت بطاعتها . وكانت لا تتحرج من حضور
الاجتماعات واللقاءات بالرجال ومناقشة الكثير من القضايا والشؤون السياسية
والعسكرية . وكانت تبعث على الرجال وتعطيهم أوامرها ، كما ترسل الرسائل إلى كبار
الصحابة تخبرهم بآرائها ومواقفها تجاه الأحداث ، وكانت تأمر وتنهى([55])
. ولو كانت الأعراف السائدة آنذاك تسمح بتولي المرأة لما توانت عن المطالبة
بالخلافة لنفسها . فهي امرأة ذات طموحات عالية .لقد كانت عائشة العقل المدبر للعديد من الأحداث ، فهي أول
من رفع شعار المطالبة بدم عثمان ومعاقبة قتلته ـ كما رأينا فيما رواه الطبري آنفا
ـ لتثير بذلك جواً من التوتر والتشكيك والاتهام للخليفة الجديد . كما أنها فتحت
باباً أمام أقارب عثمان وبني أمية وبقية الناقمين والموتورين من الإمام علي(عليه
السلام) .ولكونها قريبة من الرسول(صلى الله عليه وآله) باعتبارها
زوجته فقد كانت تحظى باحترام وتقديس كبيرين لدى عامة المسلمين . وقد استغلت هذه
الميزة في التأثير على أفكار ومواقف جمهور المسلمين، وتجنيدهم لصالح شركائها من
المعارضين ، مستخدمة أساليب نفسية واجتماعية من أجل إقناع الناس بمواقفها ، وتخطئة
موقف الخليفة علي(عليه السلام) . وكانت ذا قدرة على الخطابة ومواجهة جمهور
المسلمين وإلقاء الخطب السياسية التي تلهب مشاعرهم ، فقد ألقت خطبة في أهل البصرة
قبل معركة الجمل ، مدافعة عن موقف عثمان وأنه قتل مظلوما ، وأن علياً بويع
بالخلافة دون مشورة من الجماعة ابتزازاً وغصباً ، ثم طالبت الجماهير بالمطالبة
بقتلة عثمان وقتلهم . ولم تنس أن تطرح مشروعها السياسي البديل ، حيث قالت :
(فإذا
ظفرتم بهم فاقتلوهم ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان)([56]) أي علي(عليه
السلام) . ففي معركة الجمل أصبحت هي قائدة الجيش بعد اعتزال الزبير ومصرع طلحة قبل
بدء المعركة ، وكان جنود معسكرها يتفانون في الدفاع عن جملها حتى قتل سبعون رجلاً
تحت بعيرها .وكان للسيدة عائشة دور كبير في الحملة الاعلامية التي شنتها
السلطات الأموية ضد علي(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام) ، حيث باتت عائشة
مصدراً قوياً للأحاديث المنسوبة إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) . وما يزال
اسمها يرد في كتب الصحاح والحديث ، وفي خطب الجمعة وعلى المنابر والمناقشات
الدينية والثقافية في العالم الإسلامي اليوم .
طلحة والزبير ، آمال تبددت
وكان الزبير وطلحة يتطلعان إلى الخلافة ولكنهما وجدا أنأنظار المسلمين تتطلع إلى علي(عليه السلام) خليفة بعد عثمان . لم يكن بإمكانهما
ترشيح أحدهما لينافس علياً ، لذلك تغير موقفهما بسرعة ، فحرصا على أن يكونا أول المبايعين
لعلي(عليه السلام) ، كي يقدر جهودهما وتزعمهما حركة المطالبة بانتخابه خليفة ،
ويرد ما فعلاه من أجله ، أي تولي مناصب ادارية كولاة في الأقطار الاسلامية ومنحهما
امتيازات تليق بوزنهما وسوابقهما ، خاصة وأنهما لم يستفيدا كثيراً في عهود الخلفاء
الثلاثة . لكن أميرالمؤمنين(عليه السلام) لم يكن بالذي يساوم من أجل مصالح ذاتية ،
فلم يعطهما أي منصب ، بل أرادهما بجانبه . يذكر اليعقوبي (وأتاه طلحة والزبير ،
فقالا : إنه قد نالتنا بعد رسول اللّه جفوة ، فاشركنا في أمرك ! فقال : أنتما
شريكاي في القوة والاستقامة ، وعوناي على العجز والأود)([57]) .(وكان الزبير لا يشك في ولاية العراق ، وطلحة في اليمن ،
فلما استبان لهما أن علياً غير موليهما شيئا ، أظهرا الشكاة ، فتكلم الزبير في ملأ
من قريش ، فقال : هذا جزاؤنا من علي ، قمنا له في أمر عثمان ، حتى أثبتنا عليه
الذنب ، وسببنا له القتل ، وهو جالس في بيته وكفي الأمر . فلما نال ما أراد جعل
دوننا غيرنا . فقال طلحة : ما للوم إلاّ إنا كنا ثلاثة من أهل الشورى ، كرهه أحدنا
وبايعناه ، وأعطيناه ما في أيدينا ، ومنعنا ما في يده ، فأصبحنا قد أخطأنا ما
رجونا)([58])
.ويضيف اليعقوبي أن هناك من يقول (أنه ولى طلحة اليمن ،
والزبير اليمامة والبحرين ، فلما دفع إليهما عهديهما قالا له : وصلتك الرحم ! قال
: وإنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين . واسترد العهد منهما ، فعتبا من ذلك ،
وقالا : آثرت علينا ! فقال : لولا ما ظهر من حرصكما ، لقد كان لي فيكما رأي)([59])
.من المرجح أنه لم يكتب شيئاً لهما ويتراجع بل كانت نصيحة من
أحد مقربيه بتولية بعض الشخصيات التي ربما تثير الشغب وتسبب صعوبات ومشاكل سياسية
وأمنية لخلافة أمير المؤمنين ، وهي في بداية عهدها . فتأتي توليتهم بعض المناصب
لتفادي اضطراب الأوضاع . ويمكن بعد ذلك عزلهم بسهولة بعدما يترسخ الحكم ويثبت .
وهناك أخبار كثيرة تتحدث عن نصح بعضهم بتولية معاوية الشام ، وطلحة اليمن ،
والزبير البحرين ، لكن علياً(عليه السلام) رفضها جميعاً .
([1])
آل عمران : 104 .([2])
تاريخ اليعقوبي 2 : 123 .([3])
تاريخ الطبري 2 : 235 .([4])
تاريخ الطبري 2 : 244 .([5])
تاريخ الطبري 2 : 243 .([6])
محمد باقر الصدر ، أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف : 62 .([7])
نهج البلاغة، من كتاب له إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها .([8])
تاريخ الطبري 2 : 570 .([9])
شرف الدين ، النص والاجتهاد : 288 ومابعدها .([10])
تاريخ الطبري 2 : 581 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 160 .([11])
تاريخ اليعقوبي 2 : 170 .([12])
التوبة : 34 .([13])
ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 4 : 375 .([14])
المسعودي ، مروج الذهب 2 : 357 .([15])
ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 4 : 378 .([16])
ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 37 ـ 38، بعد أن يورد عدة روايات عن ضرب عثمان
لعمار يقول : فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة ، وإنما اختلفوا في
سببه .([17])
محمد جواد آل الفقيه ، أبو ذر الغفاري : 91 نقلاً عن الغدير للشيخ الأميني .([18])
محمد مهدي شمس الدين ، ثورة الحسين : ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية : 70 ـ
71 .([19])
محمد مهدي شمس الدين ، ثورة الحسين : ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية : 72 .([20])
ابن أبي الحديد 2 : 278 .([21])
محمد جواد مغنية ، الشيعة والحاكمون : 79 .([22])
ابن أبي الحديد ،شرح نهج البلاغة 2 : 246 .([23])
تاريخ الطبري 2 : 696 .([24])
يصف أمير المؤمنين وضع الناس ذلك اليوم ، وما أهمه من الأمر فيقول : (وقد قلبت هذا
الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم ، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما
جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله ، فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب
، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة) ، شرح نهج البلاغة 2 : 244
([25])
نهج البلاغة ، النص رقم 92 (من كلامه (ع) لما أراده الناس على البيعة بعد مقتل
عثمان) .([26])
محمد باقر الصدر ، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف : 103 .([27])
شرح نهج البلاغة 2 : 55 .([28])
محمد باقر الناصري ، دراسات في التاريخ الاسلامي : 143 ـ 144 .([29])
اقارب عثمان ممن ولاهم السلطة في عهده منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو
عثمان لأمه . (وكان الوليد مذموماً معيباً عند رسول اللّه (ص) يشنؤه ويعرض عنه.
وكان الوليد يبغض رسول اللّه ويشنؤه. وأبوه عقبة بن أبي معيط هو العدو الأزرق بمكة،
والذي كان يؤذي رسول اللّه (ص) في نفسه وأهله. وأخباره في ذلك مشهورة، فلما ظفر به
يوم بدر ضرب عنقه. وورث ابنه الوليد الشنآن والبغضة لمحمد وأهله، فلم يزل عليهما
إلى أن مات. وهو أحد الصبية الذين قال أبو عقبة فيهم. وقد قدم ليضرب عنقه : من
للصبية يا محمد؟ فقال: النار، اضربوا عنقه، شرح نهج البلاغة 2 : 295.
والحكم بن أبي العاص بن أمية، وهم عم الخليفة عثمان. وكان
أشد الناس أذى لرسول اللّه في الاسلام. كان يتطلع على بعض حجرات النبي (ص) فطرده
هو وأولاده من المدينة إلى الطائف. ورفض أبو بكر إعادته بعد وفاة الرسول. كما رفض
عمر بن الخطاب طلبه بالعودة. فلما صار عثمان خليفة أعادهم إلى المدينة. سيرة رسول
اللّه وأهل بيته 1 : 549.
ومروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وقد طرده رسول اللّه
(ص) مع أبيه. وفي عهد عثمان أرسله إلى افريقيا فلما فتحها جيش المسلمين أعطاه
عثمان خمس تلك الغنائم، مما أثار استياء المسلمين. كما وهبه عثمان منطقة فدك التي
منعها أبو بكر عن فاطمة الزهراء (ع).
وعبداللّه بن سعد بن أبي سرح العامري، وهو ابن خالة عثمان
وأخوه من الرضاعة. كان كاتباً لررول اللّه فظهرت خيانته في الكتابة، فطرده الرسول
(ص) فارتد عن الاسلام وذهب إلى مكة يتحدث بأنه كان يغير في القرآن، فأهدر الرسول
(ص) دمه. وبعد فتح مكة استأمن له عثمان من النبي (ص).([30])
تاريخ اليعقوبي 2 : 178 .([31])
تاريخ اليعقوبي 2 : 178 ـ 179 .([32])
ابن قتيبة الدينوري ، الامامة والسياسة 1 : 66 .([33])
تاريخ الطبري 2 : 698 .([34])
ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 2 : 246. يذكر أن عبداللّه بن عمر بايع يزيد بن
معاوية بعد ذلك، وبايع الحجاج بن يوسف الثقفي لعبد الملك بن مروان .([35])
ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 2 : 247 .([36])
تاريخ الطبري 2 : 580 .([37])
ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 247 .([38])
ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 : 247 .([39])
تاريخ الطبري 2 : 696 .([40])
ابن قتيبة الدينوري ، الامامة والسياسة 1 : 67 .([41])
نهج البلاغة، النص رقم 75 (من كتاب له (ع) إلى معاوية في أول ما بويع له) .([42])
ابن قتيبة الدينوري ، الامامة والسياسة 1 : 69 .([43])
تاريخ الطبري 2 : 704، وانظر ابن الصباع ، الفصول المهمة : 63 ـ 64 .([44])
ابن الصباغ المالكي ، الفصول المهمة : 65 .([45])
ابن قتيبة الدينوري ، الإمامة والسياسة 1 : 57 .([46])
سيرة رسول اللّه واهل بيته 1 : 564 .([47])
تاريخ اليعقوبي 2 : 175 .([48])
سيرة رسول اللّه وأهل بيته 1 : 563 .([49])
تاريخ اليعقوبي 2 : 175 .([50])
مرتضى العسكري ، أحاديث أم المؤمنين عائشة 1 : 134 .([51])
تاريخ اليعقوبي 2 : 175 ـ 176 .([52])
سيرة رسول اللّه وأهل بيته 1 : 565 .([53])
سيرة رسول اللّه وأهل بيته 1 : 565 .([54])
تاريخ الطبري 3 : 7 .([55])
راجع على سبيل المثال ، شرف الدين ، النص والاجتهاد : 333 وما بعدها ولقاءات عائشة
مع أبو الأسود الدؤلي ، زيد بن صوحان ، جارية بن قدامة ، الأحنف بن قيس ، وغيرهم .([56])
شرف الدين ، النص والإجتهاد : 337 .([57])
تاريخ اليعقوبي 2 : 180 .([58])
ابن قتيبة الدينوري ، الامامة والسياسة 1 : 71 .([59])
تاريخ اليعقوبي 2 : 180 .