كلمة التحرير
رسالتنا بين النظرية والتطبيق
* بقلم
رئيس التحريـر
المشهور أن أول ما خوطب به الرسول الكريم(صلى الله عليهوآله)قرآناًمبيناً ووحياً الهياً هي الآيات الكريمة :
(اقرأ باسم ربك الذي خلق
* خلق الانسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسان ما لم
يعلم)([1])
ولعلّ الحكمة في ذلك أن هذه الآيات الكريمة تدعو الرسول الكريم(صلى الله عليه
وآله)وكل أنسان سوي إلى التفكر وقراءة الكون والحياة والانسان ومعرفة مبدءها
ومسارها ومآلها . حيث لا يختلف أثنان في أن الانسان جُبل على التفكير ، وخُلق منطقياً
بالطبع في أول خطواته ، في هذه الحياة الدنيا ، ينطلق من رحاب الفطرة السليمة ،
فطرة اللّه التي فطر الناس عليها وتبدأ نفسه بالصيرورة والتكون ، إلاّ أنه ، ومنذ
البداية ، تبرز في طريقه مخاطر الانحراف. ونحن هنا لا نريد أن تخوض بسطورنا هذه في
مسارات حياة بني الانسان سمواً وانحطاطاً ، ونغور في أسباب الانحراف يميناً أو
شمالاً ، فلهذا حديث آخر ، إنّما الذي نريد أن نؤشر لههو أن عملية
التفكير ، لو قدّر لها أن تكون سليمة ومنطقية ، فليسبالضرورة أن
الترجمة العملية لها في ساحة الواقع ستكون علىالدوام سليمة وصحيحة .
صحيح أن المفكر يُفترض فيه عندما يبلور فكرته ويرسم خطى مسيرته أن يأخذ بنظر
الاعتبار الاركان الاساسية لأيةعملية تفكير وتخطيط سليمة . فيحدد الهدف
بوضوح أولاً، ويقرر مالابد منه للبداية بالمسير نحو الهدف
المحدد ثانياً ، ولايغفل ثالثاً عن تشخيص مراحل المسير وحدودها ، وما
تتطلبه منعوامل وضوابط ، وما تعرض عليه مسيرته من سنحات وأحوال ، وما
سيعترض طريقه من موانع وعقبات ، وكيف السبيل إلى تذليلهاوأجتيازها ؟
كل هذا لو أفترضنا حصوله في الذهن أو سُطّر علىالقرطاس ، ولكن الصعب
المستصعب أن يكون ـ كل هذا ـ علىأرض الواقع ممارسة متكاملة ، وحركة
فعّالة مستقيمة باتجاه الهدف ، فكم من نظريات وأفكار ، ومشاريع وخطط بقيت سجينة فيبطون
الكتب ، تراكم عليها التراب ، وأندرست في أعماق أرشيف التاريخ القديم .وقد تحصل البداية ، ويُشرَعُ في الحركة على أرض الواقع ،
ولكنلاتلبث هذه الحركة أن تقف ، لوعورة الطريق ، ووخز
الاشواك،فيكبو حصانها وتنهار العزائم ، وينفذ الصبر عن
مواصلة المسير .ولو قدّر لهذه المسيرة أن تستمر ، ولهذه الحركة أن تدوم ،
فهل حتماً سنظفر بمرامنا ، ونصل إلى هدفنا بسلامة وأستقامة ؟! لا غرابة إذا كان جوابنا
سلبياً ، ولعلّ السِّر في ذلك ، هو أن هناك ما يجب حسابه في مقومات المسيرة حساباً
جوهرياً ، ولا يمكن الاستغناء عنه في أية خطوة من خطواتها ، وفي أية مرحلة من
مراحلها ، ولعلّهُ يضاهي الصبر والأستمرار في المسيرة ، بل يتقدم عليه رتبة في
الأهمية والقيمة ، ذلك هو الحضور الدائم ، والذكر المستمر للهدف ـ بكل حقيقته
الناصعة وحدوده الواضحة ـ في وجدان السائرين ، وفي ضمير السالكين ، ألا تلاحظ
البنّاء أو المهندس الذي يريد أن يُشيّد داراً ، أو يعبّد طريقاً ، لو أغفل هدفه
وفقد حضوره للخارطة ، لتعرض بناءه للأنحراف وفقد الاستقامة ، ولو حصل ذلك بمقدار
مليمتر واحد لتضاعف عند النهاية ، ولأنهار البناء ، ولأنتهى الطريق إلى هاوية أو
يصطدم بجبل ، فما دام الهدف حاضراً بوضوح في أعماق وجدان العالمين ، وذكره سرمداً
في ضمير المؤمنين ، لن يحصل لديهم الانحراف لا في العقيدة ولا في المسيرة ،
ويمكنهم ـ حال سيرهم نحو أهدافهم ـ أن يضعوا أصابعهم ، بكل وضوح واطمئنان ، على
الخلل في المسيرة، ما هو ؟ وأين يكمن ؟ وما هي أسبابه ؟ومن هنا يتضح لنا قول الحكماء ، أن شروط قيام ونجاح أية
حركة حضارية رائدة في المجتمع هي :* وجود
النظرية السليمة الصالحة للتطبيق .* الايمان
الراسخ بها .
* التطبيق
الصالح لها .
*
الاستقامة عليها بالحضور الدائم لها وعدم الغفلة عنها .
*
الاستمرار بالمسيرة ، والصبر عليها حتى النهاية .
وهذا يعني أن من الشروط الاساسية لأستقامة أية مسيرة
ودوامها باتجاه اهدافها هي : المراقبة والنقد ، التسديد والترشيد ، التواصي بالصبر
، فيما بين رجالها ، رجال المسيرة الواحدة ، والطريق الواحد ، ولا يمكن لفرد ، مهما
أوتي من قُدرات ـ إلاّ من تلطف اللّه عليهم بالعصمة من الانبياء والاوصياء ـ أن
ينهض باعباء المهمة منفرداً ، وهكذا هي سنّة اللّه في خلقه :(بسم اللّه الرحمن الرحيم)(والعصر) ، وانه لقسم لو
تعلمون عظيم .(ان الانسان لفي خسر) ، تلك
حقيقة ثابتة بحق كل فرد من بني الانسان.(إلاّ الذين آمنوا) ، أستثناء
، ولكنه لجماعة بني الانسان ، بما هم جماعة وعصبة مؤمنة باللّه ورسله ورسالاته ،
وهذا أول شروط الاستثناء .(وعملوا الصالحات) ، تطبيقاً لما آمنوا
به وتصديقاً له ، وهو الشرط الثاني .(وتواصوا بالحق) ، الذي آمنوا به ،
فبالتواصي بالحق تُضمن أستقامة المسيرة ، ولا يتم ذلك إلاّ بالعصبة اولي القوة ،
التي يشدّ بعضها أزر بعض ، ويثبت بعضها البعض الآخر ، بذكر الحق وقول الصدق ، وهذا
هو الشرط الثالث .(وتواصوا بالصبر) ، على ما يعانونه من
محنة المسيرة ، وبه ـ بالتواصي بالصبر ـ تضمن مواصلة المسيرة ويتم الشرط الأخير .تلك هي شروط المسيرة الصالحة ، وبها يصل السائرون إلى النصر
والفوز المبين .وتتميز مسيرتنا الاسلامية بأنها تسير نحو الكمال المطلق ،
ومن ضروراتها الاستقامة التامة ، والحفظ الدائم من الانحراف كنظرية وهدف ، وكحركة وسلوك
، تحقيقاً للحجة البالغة على الناس ، ولطفاً بهم ، ولا يتأتى ذلك إلاّ بتوفير عامل
جوهري من فيض الهدف المطلق يُصطفى حافظاً للرسالة ، ورقيباً على المسيرة ، وقيّماً
على السائرين نحو اللّه تبارك وتعالى ، وهو حجة اللّه في الخلق .ومن هذا ندرك لماذا جعل اللّه تعالى آدم(عليه السلام) أول
أنسان خلقه نبياًبالضرورة ؟ وذلك لضرورة العصمة تحقيقاً للحجة البالغة
للّه على خلقه.ومن هذا القانون الالهي نستل الحقيقة العقلية الناصعة ، من
المقولة الشريفة : (ان الأرض لا تخلو من حجة) ، حجة لها قيمومة رسالية على
المسيرة ، بما تملك من علم اليقين وعينه ، وسمو الايمان وعمقه ، وبما تتحلى من
استقامة وصبر في المسير ، ووضوح وحفظ للهدف ، لو كشف لها الغطاء ما أزدادت يقيناً
، ذالكم هم أنبياء اللّه ورسله ، والأوصياء الأمناء من بعدهم .وبنفس الملاك ، مع اختلاف في الرتبة والدرجة ، تكون
القيمومة والولاية للفقهاء الربانيين ، والعلماء المجاهدين ، اولئك الذين وصلوا
إلىمشارف اليقين الرباني ، وكرعوا كأس المعرفة الالهية ، وأعتركوامع
نفوسهم بالجهاد فأنتصروا ، فكانوا في ساحات الوغى أعظم وأقدر .والعاقبة
للمتقين والحمد للّه رب العالمين.
([1])
العلق : 1 ـ 5 .