دور العصبیات فی اضعاف الکیان الاسلامی (عصر صدر الاسلام نموذجاً) (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

دور العصبیات فی اضعاف الکیان الاسلامی (عصر صدر الاسلام نموذجاً) (1) - نسخه متنی

عبدالکریم آل نجف

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراســات

دور العصبيات في اضعاف الكيان الاسلامي

«عصر صدر الاسلام نموذجاً»

(
1 )

* الشيخ
عبدالكريم آل نجف

توفي الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) في السنة الحادية
عشر من الهجرة مخلّفاً وراءه تجربة أجتماعية وسياسية لم تكتمل بعد ، وحضارة فتية
لا زالت في طور النشوء ، ورسالة سماوية قدّر لها أن تكون الرسالة الخاتمة ، وصاحبة
الحق في السيادة على الأرض ، فليس لغيرها حق في الظهور ، فضلاً عن الانتشار
والسيادة . وهذا الارث الثلاثي الضخم ـ تجربة ، حضارة ، رسالة ـ الذي خلّفه الرسول
يشق طريقاً للبشرية كانت التجربة النبوية بدايته ، ويكشف عن مسؤولية استثنائية
ومصيرية تبحث عمن يحملها وينهض بها . فيا ترى هل فكّر النبي(صلى الله عليه وآله)
بمستقبل هذا الارث ومصيره ؟ وهل أعدّ من يكون لائقاً بحمله وأداء المسؤوليات
الاستثنائية التي ينطوي عليها؟

يكاد يكون الجواب الايجابي على هذا التساؤل بديهياً . إذ لم
يُعهد من الانسان العادي ـ فضلاً عن القائد الكبير والرسول الخاتم ـ أن يخلف وراءه
أموراً معينة ـ فضلاً عن أن تكون هذه الاُمور تجربة وحضارة ورسالة سماوية خاتمة ـ
دون أن يفكّر في مصيرها ومستقبلها بَعده والفرد الذي سينهض بمسؤوليتها نيابة عنه .
وهذا من بديهيات الاُمور ، وما عداه سفه ولا أباليه يجلّ عنه الانسان العادي فكيف
بخاتم الرسول وسيد البشر وأعظم القادة في التاريخ(صلى الله عليه وآله)؟

والجواب الايجابي فيه أحتمالان :

الاحتمال الأول ـ أن يكون النبي(صلى الله عليه
وآله) واثقاً من أن الأمة التي أنشأها سوف تنهض بالمسؤولية المشار إليها بنحو جعله
مطمئناً إلى مصير ومستقبل الارث النبوي بمقوّماته الثلاثة ـ تجربة، حضارة ، رسالة
ـ .

الاحتمال الثاني ـ أن يكون النبي(صلى الله عليه وآله) قد
تدخّل تدخلاً مباشراً وأعدّ لمستقبل الارث النبوي الخطة الكافية التي تضمنه عبر
تعيين واعداد الفرد أو الأفراد الجديرين بتحمّل المسؤولية التأريخية من بعده ، لو
أن الباحث المنصف لم يتناول هذه المسألة من كل زواياها التأريخية والكلامية وأقتصر
على دراسة جانب واحد ، وهو أن المجتمع الذي فيه عدد كبير من المنافقين طبقاً
لشهادة القرآن ، وعدد كبير من الطلقاء ، ولا زالت ترسبات الجاهلية تنتاب أكثر
الصحابة المقرّبين من النبي(صلى الله عليه وآله) ، مثل هذا المجتمع كيف يؤمن على مستقبل
الرسالة والتجربة بحيث نقول : إن النبي اطمأن لمستقبل الاسلام على أساس الثقة
بسلامة هذا المجتمع وقدرته على انجاز المسؤولية السماوية والتأريخية المنوطة به ؟
وإذا اهملنا المنافقين والطلقاء ـ وهم عدد كبير وخطير يعتدّ به ويخشى منه ـ وركّزنا
النظر في سيرة الطليعة البارزة من الصحابة ممن برزت أسماؤهم في التجربة النبوية
وساد ذكرهم في التأريخ ; لعثرنا على الكثير من المواقف التي توجب الشك ـ على الأقل
ـ في كفاءتهم واخلاصهم بنحو يجعل الاحتمال الأول الذي بُنيت مدرسة الخلفاء عليه
وهماً من الأوهام ، من ذلك ما عُرف برزية يوم الخميس ، يوم كان النبي(صلى الله
عليه وآله) على فراش المرض وطلب ممن حوله من طليعة صحابته دواة وقرطاساً يكتب فيه
كتاباً لن تظل الأمة بعده ، فعرف الأصحاب غرض النبي(صلى الله عليه وآله) وتنازعوا
في الأمر بين قائل : اعطوه ، وقائل : لا تعطوه ، حتى غلب القول الثاني بنداء عمر
بن الخطاب : إن الرجل ليهجر ، حسبنا كتاب اللّه ، فأخرجهم النبي(صلى الله عليه
وآله) بقوله: اخرجوا لا ينبغي عند نبي نزاع([1]) . فمثل هذه
الحادثة تسلّط الضوء على شخصية أمثال هؤلاء الصحابة وتثبت عدم لياقتهم لتحمل
المسؤولية السماوية والتأريخية في خلافة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) كما هو
المفترض في الاحتمال الأول ، ومما يساعد على نسف هذا الاحتمال أن الحادثة جاءت في
الأيام الأخيرة من حياة النبي وكشفت عن عدم رضا النبي من أمثال هؤلاء الصحابة وعدم
اعتماده عليهم بشأن مستقبل الرسالة والاُمة . فإذا كان حال أمثال هؤلاء الصحابة
هكذا فماذا يكون حال المنافقين والطلقاء الذين أسلموا بعد الفتح ؟

ويتأكد فشل الاحتمال الأول أكثر إذا التفتنا إلى أن فترة 23
سنة التي قضاها النبي(صلى الله عليه وآله) مع مجتمعه يمكن أن تكون كافية لاصلاح
المجتمع أصلاحاً آنياً يتناول المظاهر والجوانب العامة من المجتمع ، ولكنها ليست
كافية لاصلاح جذري يتناول عمق المجتمع وبواطنه الشعورية واللاشعورية كما هو مقتضى
الاحتمال الأول . فإن مجتمعاً كان بالأمس القريب ملوّثاً بكل أوساخ الجاهلية
ومصاباً بكل أمراضها لا يمكن أنقاذه منها ومن ترسباتها اللاشعورية الدفينة في
النفوس بفترة كهذه ، فحتى لو كانت سيرة عموم الصحابة سليمة ومستقيمة في حياة
النبي(صلى الله عليه وآله)وكان النبي(صلى الله عليه وآله) راضياً عنهم كما تؤكّد
مدرسة الخلفاء وتستشهد عليه بشواهد قرآنية ، إلاّ أن هذا لا يعني أن الاستقامة
المذكورة أصبحت ذاتية في شخصية كل صحابي ، وانها مضمونة حتّى بعد وفاة النبي(صلى
الله عليه وآله) ، فلعلّ شخصية النبي(صلى الله عليه وآله) وهيمنته الروحية على
أصحابه هي التي خلقت هذه الاستقامة بحيث يخشى كل فرد منهم مخالفة النبي لئلا يكون
شاذاً من بين أصحابه . وهناك شواهد تأريخية تشير إلى أن الصحابة كانوا يتحاشون
شؤون مخالفة النبي خشية أن يهبط الوحي بآية تذلهم وتكون عاراً في ذريتهم وقبيلتهم
، فالوحي من جهة وشخصية النبي وأثره الروحي في المجتمع من جهة أخرى عاملان من
شأنهما اضعاف الجرأة على مخالفة النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولذا ظهرت المخالفة
عندما أمن الصحابة من هذين العاملين وذلك في رزية يوم الخميس ، الأمر الذي يكشف عن
أن استقامة الصحابة استقامة ظاهرية يتقوم جانب منها بعوامل خارجية كشخصية
النبي(صلى الله عليه وآله) والوحي . ومن الممكن افتراض أن النبي(صلى الله عليه
وآله)كان راضياً عن هذا التغيير الذي أستطاع أن ينجزه في شخصية أصحابه بأعتبار أنه
على قدر يمكن تحقيقه من التغيير في أفراد من تلك البيئة الصعبة . فما تؤكده مدرسة
الخلفاء من أن الوحي والنبي(صلى الله عليه وآله) كانا راضين عن الصحابة يمكن أن
يكون بهذا المعنى لا بالمعنى المطلق الذي يستلزم تسليم التجربة النبوية والرسالة
السماوية إليهم ليكونوا قادتها من بعده ، فأين معطيات علم النفس وعلم الاجتماع
اضافة إلى التجارب الاجتماعية تؤكد على أن عمليات التغيير الاجتماعي يمكن أن تطال
الجانب الشعوري من الحياة الاجتماعية والثقافية ، فيما يبقى صندوق اللاشعور في
شخصية الانسان يختزن التجارب والعادات والأفكار والممارسات والمفاهيم القديمة
وينقلها إلى الأجيال القادمة ، وأن هذه التجارب والثقافات المختزنة تبقى حية تفعل
فعلها في السلوك كلما ضعف الشعور عن التأثير والتوجيه ، كحالات الغفلة والنسيان
والحدّة والانفعالات العصبية وحالات عدم وجود فكرة قوية تسيطر على شخصية الانسان ،
فهنا يظهر اللاشعور وتمارس الشخصية تلك الثقافة المختزنة فيه بشكل تلقائي ، ومع
حقيقة كهذه كيف يمكننا أن نصدق بأن النبي(صلى الله عليه وآله) قد عهد بدولته
وتجربته ورسالته السماوية إلى أنسان كان قبل سنوات قلائل يعبد الأصنام ويئد البنات
ويشرب الخمر ويرى في عصبيته القبلية نهاية وجوده ؟

وإذا ما طالعنا نصوص الكتاب والسنّة وجدنا فيهما ما يدل على
أن التشريع الاسلامي قد التفت إلى هذه الناحية واتخذ منها موقفاً أحترازياً شديداً
ففي القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى : (وإذا ابتلى ابراهيم ربّهُ بكلمات فأتمهنّ
قال إني جاعلك للناس اماماً قال ومن ذريتي قال لا ينالُ عهدي الظالمين)([2])
.

ففي هذا النص القرآني نلمس ثلاثة أبعاد مهمة هي :

1 ـ إن الامامة جعل رباني وتنصيب إلهي .

2 ـ إن هذا الجعل والتنصيب لا يتم إلاّ بعد أخضاع الفرد
المنتخب للامامة لامتحانات إلهية صعبة عديدة .

3 ـ وقبل وقوع هذه الامتحانات لابد من أحراز حسن سلوك الفرد
المنتخب إلهياً للامامة .

فمن سبق عنه الانحراف والظلم لا يصل قاعة امتحان الامامة
فعلاً عن الحضوة بها . ذاك انه (لا ينال عهدي الظالمين)
.

وهذه أبعاد أحترازية شديدة تبين مدى حساسية التشريع السماوي
من قضية الامامة فلا يحض بها أحد إلاّ بجعل سماوي وأبتلاء إلهي وعدم ثبوت سابقة
سيئة في سلوكه .

والبعد الثالث وهو أوضح الأبعاد ارتباطاً بما نحن فيه فقوله
تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) يُشير
إلى الحقيقة التي أتضحت قبل قليل حول خطورة اللاشعور الكامن في شخصية الانسان
والمؤثر فيها بوصفه حالة سلبية لا تزول إلاّ بصعوبة وبطء ، فالسابقة السيئة تترك
أثرها على المرحلة التالية التي صمم الانسان فيها على الاستقامة ، وحينئذ فمثل هذا
الفرد يمكننا أن نقبله فرداً في المجتمع ولكن يصعب علينا القبول به مسؤولاً
ومتصدياً لشؤون هذا المجتمع ، ولما كانت خلافة الرسول(صلى الله عليه وآله)أمراً
أكبر من أدارة شؤون المجتمع ، بل هي أمر يمسّ مصير التجربة النبوية التي يُراد لها
سماوياً أن تكون انطلاقة جديدة للبشرية كلها ، وأمر يمس مصير الرسالة الاسلامية
الخاتمة التي لا رسالة سماوية بعدها ، فكان من الطبيعي أن يبلغ الاحتياط غايته
والأحتراز السماوي نهاية مداه، فلا تعطى إلاّ بجعل الهي لفرد شهد كل الإختبارات
وفاز في كل الصعاب ، ولم يمارس في حياته أي ممارسة جاهلية . وهو علي بن أبي
طالب(عليه السلام) .

وفي سيرة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) نقرأ ما يشير
إلى أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يتوقع ظهور ممارسات جاهلية من قبل العديد من
أصحابه ناشئة من رواسب الماضي القريب والبيئة الاجتماعية الضاغطة في بواطن اللاشعور
، وأنه كان يحتزر منها ويعمل على عدم استفزازها ، لكي لا تتلوث التجربة بمظاهر
شاذة ، وأشدّ أحترازه كان من مرض العصبية الذي كان محور المجتمع الجاهلي ، وقد
أبرز الرسول(صلى الله عليه وآله)أحترازه هذا في قضية خطيرة هي قضية الامامة .

فقد نقل صاحب الغدير([3]) عن مجمع
البيان والحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل بإسناده عن ابن عباس وجابر الأنصاري ،
أنّ اللّه سبحانه وتعالى لما أمر نبيّه أن ينصّب علياً للناس ويخبرهم بولايته
عليهم ، تخوّف النبي(صلى الله عليه وآله) أن يقولوا : حابى ابن عمّه ، وان يطعنوا في
ذلك عليه ، فأوحى اللّه سبحانه وتعالى : (يا أيها الرسول بلّغ ما اُنزل إليه من
ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته واللّه يعصمك من الناس)([4])
.

ونقل أيضاً عن ابن مردويه بإسناده عن ابن عباس ، قال : لما
أمر اللّه رسوله(صلى الله عليه وآله) أن يقوم بعليّ فيقول له : ما قال ، فقال : يارب
إن قومي حديثوا عهد بجاهلية ، ثم مضى بحجّه ، فلما أقبل راجعاً ونزل بغدير خم أنزل
اللّه عليه ، (يا أيها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربك ...)
الآية . فأخذ بعضد
علي ثم خرج إلى الناس ، فقال : أيها الناس الست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى
يا رسول اللّه ، قال : اللّهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه ....

([5])
.

إن هذه الحادثة تضعنا أمام استفهامات كبيرة : فالرسول
العظيم الذي لم يعرف قلبه الخوف يوم جابه سلطان قريش وجبروتها نراه يتخوّف من أن
يصدر اعلاناً رسمياً عاماً سافراً يعيّن من خلاله علياً(عليه السلام)خليفة من بعده
خشية أن يكون ذلك الاعلان استفزازاً لعصبية قريش التي يعرف النبي مدى غطرستها
وعنجهيتها ..!!

والرسول العظيم الذي لم يتردّد يوماً في انجاز أمر سماوي حتّى
الأوامر الجزئية والصغيرة . ولم يعرف عنه أنه أرجأ ابلاغ حكم من أحكام السماء مهما
كان عاديّاً وجزئياً ، كيف تردد في تنفيذ هذا الاعلان الرسالي المصيري الحاكم ؟
وكيف تأخر عنه ؟

والأهم من ذلك ، لماذا كانت السماء مصرّة على استنجاز ذلك
في الوقت المحدّد له ؟ وما معنى طمأنة اللّه سبحانه للنبي(صلى الله عليه وآله)
بقوله : واللّه يعصمك من الناس ؟ ألا يعني ذلك أن الخطر كان بدرجة بالغة بحيث لم
يكن النبي(صلى الله عليه وآله)قادراً بنفسه على تجاوزه ، إلاّ أن يعضمه اللّه منه؟
أيّ خطر هذا؟ ومن أي نوع يكون ؟

إن هذه الاستفهامات تحكي خصائص وأبعاد خطر واحد لم تكن
التجربة النبوية مهدّدة بأكبر منه ، وهو العصبية القرشية .

إن العصبية هي الخطر الكبير الذي تحدى النبوات السابقة
وتغلّبت عليه نبوة الاسلام ، لكنه بعد وفاة الرسول عاد وتغلّب على واقع الأمة
واختط لها خط الخلافة القبلية المتعصبة الذي ساد في التأريخ الاسلامي عبر حلقاته
الاموية والعباسية ، فلم يجد خط الامامة الشرعية العلوية الأصيلة بدّاً من التركيز
على حفظ الرسالة وتزويد الأمة بما تحتاج إليه من العلم والوعي وروح الفضيلة التي
تمثل جوهر الحضارة الاسلامية .

لقد أستطاع الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) أن يتغلّب
على محور المجتمع الجاهلي المتمثل بالعصبية، ولكن وليس بوسعنا أن نتوقع منه أن
يجتثّ هذا المحور من جذوره ، لأن هذا الهدف يتطلب زمناً طويلاً ومرور أجيال عديدة
، ولذا أستطاع هذا المحور من معاودة الظهور من جديد قبيل وفاة الرسول(صلى الله
عليه وآله) ، فأسفرت عنه مكامن النفوس وكشفته مخابيء اللاشعور . فالنبوات الكاذبة
وحركات الردّة ، والمؤامرة القرشية على الامام علي(عليه السلام)مظاهر ثلاثة
لعصبيات قبلية موتورة ارادت الانتصار لنفسها ، فنجد بعض القبائل العربية ترتد عن
الاسلام قبيل وفاته(صلى الله عليه وآله) ويدعي النبوّة عدد من الأشخاص المنتمين
لقبائل من غير قريش وأبرزهم مسيلمة الذي طالب بأن تكون نصف الأرض لقومه بني حنيفة
، والنصف الآخر لقريش، والتف حوله أربعون ألفاً لا لشيء سوى شعورهم
القبلي الخائب ازاء ما اعتبروه مجداً قبلياً لقريش التي تزعّمت الاسلام نبوة
وخلافة . فالمسألة ليست مسألة الاسلام وإنما هي بنظر هؤلاء مسألة الزعامة القرشية
للعرب والجزيرة .

وقد صرّح بعض اتباع مسيلمة الكذّاب قائلين : «نشهد أن
مسيلمة كذّاب وأن محمداً صادق ولكن كذّاب حنيفة أحبُّ إلينا من صادق مضر»([6])
.

إلاّ أن عصبية المرتدين لم تكن هي الخطر الكبير على الاسلام
بقدر ما كانت العصبية القرشية هي الخطر الكبير ، لأنها هي التي قرّرت تنحية الامام
علي(عليه السلام) عن الخلافة وتنصيب غيره خليفة للمسلمين وأثارت بذلك فتنة الامامة
والخلافة التي اشعلت نيران حروب وثورات ، وتم في ضوئها تأسيس نظام الخلافة وأرساء
دعائم مذاهب ومدارس كلامية وفقهية ، ولنستمع إلى التأريخ وهو يحدثنا عن حيثية هذين
القرارين ودور العصبية في صدورهما :

دور العصبية في تنحية الامام علي(عليه السلام)

وهنا شواهد تأريخية كثيرة فلنطالعها معاً . فقد ورد أن عمر
بن الخطاب سأل عبداللّه بن العباس : أتدري ما منع منكم بعد محمد ؟ فأجابه ابن عباس
: إن لم أكن أدري فأميرالمؤمنين يدريني . فردّ عمر بن الخطاب بقوله : كرهوا أن يجمعوا
لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً فاختارت قريش لنفسها([7])
. فالمسألة مسألة التعصب القرشي ضد بني هاشم فحسب .

وقد صرّح عمر بن الخطاب في حوار جرى له مع عبداللّه بن عباس
بأن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يبالغ في تأييده لعليّ بن أبي طالب ولا يُربع
في أمره وقتاً ما ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك»([8])
.

وقال عثمان بن عفان يوماً للامام علي(عليه السلام) «ما أصنع
إن كانت قريش لا تحبّكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين رجلاً كأنّ وجوههم شنوف
الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم»([9])
.

وقال له مرة أخرى مفصحاً عن عصبية مدبّرة «واللّه لا تصل
إليك ولا إلى أحد من ولدك»([10])
.

ويروي اليعقوبي حواراً طويلاً دار بين عبداللّه بن عباس
وعمر بن الخطاب في أيام خلافته كان في نهايته أن قال عمر لابن عباس : واللّه يابن
عباس إن علياً ابن عمك لأحق الناس بها ولكنّ قريشاً لا تحتمله ، ولئن وليهم
ليأخذنّهم بمرّ الحق .

وقد روي عن الامام السجاد(عليه السلام) أنه سُئل : ما بال
قريش لا تحب علياً ؟ فأجابه(عليه السلام) : «لأنه اورد أوّلهم النار والزم
آخرهم العار»([11])
، وأيد الامام الكاظم(عليه السلام)هذا الجواب([12]) .

وورد في الاحتجاج عن سليم بن قيس أن الامام عليّاً دخل مسجد
الرسول(صلى الله عليه وآله) في أيام خلافة عثمان فوجد فيه جماعة من الأنصار
والمهاجرين ، فأخذ يناشدهم ويحتجّ عليهم بما يدلّ على أحقّيته بالخلافة، وكان
بعضهم يصدّق ما يقوله والبعض الآخر يسكت ، فقال للساكتين : ما لكم سكتم ؟ فقال
طلحة بن عبداللّه ـ وكان يقال له داهية قريش ـ : فكيف نصنع بما ادعى أبو بكر
وأصحابه الذين صدّقوا وشهدوا على مقالته يوم أتوه بك بعقل وفي عنقك بحبل فقالوا لك
: بايع فاحتججت بما احتججت به ، فصدقوك جميعاً ، ثم ادعى انه سمع رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله)يقول : أبى اللّه أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة ، فصدّقه
بذلك عمر وأبو عبيدة وسالم ومعاذ ، ثم قال طلحة : كل الذي قلت وادعيت واحتججت به
من السابقة والفضل حق نقرّ به ونعرفه ، وأما الخلافة فقد شهد اولئك الأربعة بما
سمعت ، فقام علي عند ذلك وغضب من مقالته فأخرج شيئاً قد كان يكتمه وأقبل على طلحة
والناس يسمعون فقال : «واللّه يا طلحة ما صحيفة ألقى اللّه بها يوم القيامة
أحبّ إليّ من صحيفة الأربعة الذين تعاهدوا على الوفاء بها في الكعبة : إن قتل
اللّه محمداً أو توفّاه أن يتوازروا دون علي ويتظاهروا فلا تصل إليّ الخلافة ..»([13])
.

وفي الاحتجاج أيضاً أنه لما جيء بالامام علي(عليه السلام) إلى
أبي بكر ومن حوله للمبايعة أخذ الامام يستشهدهم على حقه حتّى قال : «لشدّما
وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاهدتم عليها في الكعبة : إن قتل اللّه محمداً أو
أماته أن تزووا هذا الأمر عنا أهل البيت»([14]) .

وفي خبر عن الامام الصادق(عليه السلام) أنه قال : «بلغ رسول
اللّه(صلى الله عليه وآله) عن قوم من قريش أنهم قالوا : أيرى محمد أنه قد احكم
الأمر في أهل بيته ، ولئن مات لنعزلنّها عنهم ولنجعلها في سواهم ، فخرج رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) حتّى قام في مجمعهم ثم قال : يا معشر قريش كيف بكم وقد كفرتم
بعدي ثم رأيتموني في كتيبة من أصحابي أضرب وجوهكم ورقابكم بالسيف»([15]).

وورد في تفسير آية (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له
دافع من اللّه ذي المعارج) انها نزلت في الحرث بن النعمان الفهري أنه قدم
المدينة بعد واقعة الغدير وأناخ راحلته عند باب المسجد فدخل والنبي(صلى الله عليه
وآله) جالس وحوله أصحابه فجاء حتى جثا بين يديه ثم قال : يا محمد أنك أمرتنا أن
نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنك لرسول اللّه فقبلنا ذلك منك وأنك أمرتنا أن نصلي
في اليوم والليلة خمس صلوات ونصوم شهر رمضان ونزكي أموالنا ونحج البيت فقبلنا ذلك
منك ثم لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضَبعىّ ابن عمك ففضّلته وقلت : من كنت مولاه فعلي
مولاه فهذا شيء من اللّه أو منك ؟ . فأحمرّت عينا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وقال
: واللّه الذي لا إله إلاّ هو انه من اللّه وليس مني
قالها ثلاثاً ، فقام الحرث
وهو يقول : اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، وفي رواية : اللّهم إن كان ما
يقول محمد حقاً فأرسل علينا بحجارة من السماء أو أئتنا بعذاب اليم فو اللّه ما بلغ
باب المسجد حتى رماه اللّه بحجر من السماء فوقع على رأسه وخرج من دبره فمات وأنزل
اللّه تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع ...)([16]) .

ولذا تجد خطب الامام علي(عليه السلام) وكتبه مليئة بالشكوى
والتبرّم من العصبية القرشية التي حرّفت مسيرة الخلافة والامامة . فقال ذات مرّة:
«اللّهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم فانهم اقطعوا رحمي وصغّروا عظيم
منزلتي واجمعوا على منازعتي أمراً هَو لي»([17]) ، وقال في
كتاب إلى أخيه عقيل : «.. فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في
الشقاق وجماحهم في التية ، فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) قبلي ، فجزّت قريشاً عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان
ابن امّي»([18])
.

وقال في أحد كتبه إلى أهل مصر : «... فواللّه ما كان
يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده(صلى الله عليه وآله)
عن أهل بيته ، ولا انهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان
يبايعونه ، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ...»([19])
وقال أيضاً : «مالي ولقريش ، واللّه لقد قاتلتهم كافرين ولاُقاتلنهم مفتونين ،
واني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم ، واللّه ما تنقم منّا قريش إلاّ أن
اللّه اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا»([20]) .

وهكذا فالعصبية القرشية الموتورة التي فقدت موقعها المركزي
والمحوري الذي كانت تتمتع به في أيام جاهليتها عادت تلملم أطرافها وتلعق جراحها
وتهيّء نفسها لمحورية جديدة تمررّها تحت غطاء الاسلام. فتنتقم من واتريها وتصادر
الاسلام في محتواه الاجتماعي والأخلاقي ولا تبقي منه سوى ما تتلفّع به من الشكل
والمظهر الخارجي حتّى : «رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق
دين محمد(صلى الله عليه وآله)فخشيت إن لم انصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو
هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم» .

إن العصبية التي حاربها الإمام علي(عليه السلام) يوم كانت
تدفع بقريش نحو الشرك أخذت تنتقم لنفسها من ا لامام والرسول(صلى الله عليه وآله)
باسم الإسلام وتحت غطائه وتدفع بقريش نحو تحريف مسيرة الإسلام ومصادرة مضمونه
الحقيقي ، حتىَّ انتهى الأمر بالأمام إلى ان يخشى من أنتكاس حركة الإسلام ، وهكذا
فالمعركة دائماً هي معركة الإسلام والعصبية في مرحلتي النبوة والإمامة معاً([21])
.

دور العصبية في سقيفة بني ساعدة

التأريخ ينطوي على شواهد تاريخية كثيرة تؤكد لنا أن للعصبية
دوراً بارزاً لا جدال فيه في ما حصل في سقيفة بني ساعدة فلنستمع الى المؤرّخين وهم
يحدثوننا عن الكيفية التي جرت بها الاُمور وتمخضت عن تعيين الخليفة الأول .

فقد ذكر المؤرخون ان أوّل مبادرة ظهرت بعد وفاة رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله)هي مبادرة الأنصار حينما اجتمعوا وتداولوا في الامر ، فقال زعيمهم
سعد بن عبادة : «يا معشر الأنصار ان لكم سابقة في الدين وفضيلة في الاسلام ليست
لقبيلة من العرب ، ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لبث في قومه بضع عشرة سنة ...
فما آمن به من قومه الا قليل ، واللّه ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسوله اللّه(صلى
الله عليه وآله) ولا يعرفوا دينه ولا يدفعوا عن أنفسهم حتى أراد الله لكم الفضيلة
... فشدّوا أيديكم بهذا الامر ، فأنكم احق الناس وأولاهمبه» .

وهذه المبادرة تكشف عن عصبية الأنصار وخوفهم من قريش
ورغبتهم في الاستئثار بالسلطة ، على أساس ان الاسلام ما اشتد إلاّ بسيوف الأنصار .
فلما وصل الخبر الى المهاجرين وعلى رأسهم أبو بكر ، فزع اشد الفزع وخرج مسرعاً ومعه عمر بن الخطاب ولقيا في الطريق
ابا عبيدة بن الجراح وأنطلقوا جميعاً نحو سقيفة بني ساعدة التي كانت محل اجتماع
الأنصار ومؤتمرهم . وما ان وصلوا حتى خطب أبو بكر قائلاً : «
..كنا معشر
المهاجرين أول الناس اسلاماً ، والناس لنا فيه تبع» يعني ان الأنصار تبعونا
على هذا الامر الذي نحن زعماؤه وهذا الملاك الاول ، «ونحن عشيرة رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله)» !! وهذا الملاك الثاني ؟؟ «ونحن مع ذلك أوسط العرب
أنساباً ليست قبيلة من قبائل العرب إلاّ ولقريش فيها ولادة» وهذا هو الملاك
الثالث ؟؟

فقال الأنصار «واللّه ما نحسدكم على خير ساقه اللّه
إليكم ... ولكن نشفق مما بعد اليوم ، ونحذر ان يغلب على هذا الامر من ليس منا ولا
منكم فلو جعلتم اليوم رجلاً منا ورجلاً منكم» يقصدون الطلقاء من قريش الذين لا
زالوا يضمرون الاحقاد في نفوسهم على واتريهم من المهاجرين والأنصار ، فقام عمر بن
الخطاب مفصحاً عن عصبية قرشية جامحة قائلاً : «هيهات لا يجتمع سيفان
في غمد واحد ، واِنه واللّه لا ترضى
العرب ان تؤّمركم ونبيّها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي ان تولّي هذا العرب ان
تؤّمركم ونبيّها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي ان تولّي هذا الامر الا من كانت
النبوة فيهم ، واولوا الامر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب
الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه
وعشيرته»([22])
.

وكلام عمر هذا يناقض ما ادّعاه سابقاً من أن الرسول(صلى
الله عليه وآله) قال : ابى اللّه ان يجمع لنا اهل البيت النبوة والخلافة ، فكيف
يجتمعان في قبيلة واحدة ولا يجتمعان في بيت واحد؟ والصحيح ان عصبية قريش الموتورة
من النبي وعلي(عليهما السلام) هي التي كرهت ذلك لأهل البيت كما في محاورة عمر مع
عبداللّه بن عباس الآنفة ، وهي التي كرهت أن يتمتع الأنصار بشيء من الأمر .

وكان مما قاله ابو بكر في السقيفة «انّ هذا الامر اذا
تولته الخزرج أثار أحقاد الاوس ، واذا تولته الاوس عضبت عليهم الخزرج»([23])
، فأوغر بذلك صدور الطرفين ، وذكّرهم بالمنافسة التي كانوا عليها قبل الاسلام ،
فقام بشير بن سعد الخزرجي ناقضاً عهد الأنصار مع سعد بن عبادة قائلاً : «ان
محمد(صلى الله عليه وآله) رجل من قريش وقومه احق بميراثه وتولي سلطانه»([24])
، فانخذل بذلك زعيم الانصار ، ثم قام ابو بكر فرشّح للخلافة عمراً وابا عبيدة بن
الجراح ، فردّ عليه عمر الترشيح قائلاً : انت أحقنا بهذا الامر ... ابسط يدك
ابايعك . فلما ذهبا يبايعانه سبقهما اليه بشير الخزرجي فناداه الحباب بن المنذر
وهو من زعماء الانصار : يا بشير بن سعد عقّك عقاق ما اضطرك الى ما صنعت ؟ حسدت ابن
عمك على الأماره ؟ فلما رأت الاوس ذلك قال بعضهم لبعض وفيهم أُسيد بن خضير : لئن
وليتموها سعداً عليكم مرّة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ، ولا جعلوا لكم
نصيباً فيها ابداً فقوموا فبايعوا أبا بكر([25]) ؟

فالمسألة مسألة أوس وخزرج ، ثم في دائرة أوسع مسألة قريش
والأنصار ، وهذا المعنى تجمع عليه كل المصادر التأريخية ، وتجمع ايضاً على أنّ الغلبة
كانت لقريش التي وترتها النبوّة فانتصرت لنفسها بالخلافة ، وحاربت
بلا هوادة من أجل ان لا تكون الخلافة في
علي(عليه السلام)، لأن ذلك سيعني انقراض عصبية قريش وبلوغ الاسلام
مداه الاخلاقي والاجتماعي والسياسي الاخير ، فحاربت الامام علياً(عليه السلام)وجاءت
بأبي بكر ، من أجل ان يبقى الاسلام شعاراً لقريش وعلما لعصبيتها ، وهذا ما ستوكده
الحقائق الاتية .

دور العصبية في عهد الخليفة الثاني

خرجت قريش من تجربة السقيفة وهي ترى نفسها صاحبة الحق
الطبيعي في الحكم ، والممثل الوحيد للاسلام والمسلمين ، وكانت تلك المرقاة الاولى
في هذا الإتجاه ، وقد أردفها الخليفة الثاني في ايام خلافته بخطوة جديدة ، فبعد ما
تم حصر الشرعية والسيادة بقريش مُنحت في عهد هذه الخلافة الامتيازات الاقتصادية
وجُعلت أعلى طبقة اقتصادية ، وذلك حينما فُضّل في العطاء السيّد على المولى والعرب
على العجم ، والمهاجرين على الأنصار ، والمهاجرين من قريش على من سواهم ، والسابقين
من المهاجرين القرشيين على اللاحقين بهم ، وفي دائرة الأنصار فضّل الأوس على
الخزرج وفي دائرة العرب فضّل مضر على ربيعة([26]) .

ومن الطبيعي أن يفرز هذا المبدأ الغريب عصبيات قبلية وقومية
متهيّجة تعود بالمجتمع إلى ما كان عليه في جاهليته ، ويُرسي دعائم صراعات داخلية
مستفحلة ومتعددة الجبهات حتى قال ابن شاذان في ذلك : «.. فلم تزل العصبية ثابتة
في الناس منذ ذلك إلى يومنا هذا»([27]) وقد التفت
الخليفة الثاني الى هذه النتيجة فخاطب بعض جلسائه يوماً : «بلغني انكم تتخذون
مجالس لا يجلس اثنان معاً حتى يقال : من صحابة فلان من جلساء فلان ، حتى تحوميت
المجالس ، وأيم اللّه أن هذا لسريع في دينكم سريع في شرفكم سريع في ذات بينكم ،
ولكأني بمن يأتي بعدكم يقول : هذا رأي فلان قد قسّموا الاسلام أقساماً»([28])
.

وأعلن في أواخر حياته أنه كان قد تألف الناس بتفضيل بعضهم
على بعض وانه ان عاش هذه السنة من حياته يساوي بينهم فلا يفضّل عربياً على أعجمي
ولا أحمر على أسود ، ويصنع ما صنع الرسول(صلى الله عليه وآله) وأبو بكر([29])
، غير أن العصبية لم تكن أمراً قابلاً للتغير في شخصية كشخصية عمر . فلقد عُرفت
سيرته السياسية اضافة إلى تفضيل قريش ، بالتعصب للعرب والتعصب ضد غيرهم أيضاً .

فمن تعصبه للعرب انه كان يخصّ عبيدهم بالعتق ، ويكره سبيهم
، ومن كلماته المأثورة «ليس على عربي ملك»([30]) .

ومن تعصّبه ضد الاعاجم والموالي انه منع العجم من دخول
المدينة . ورفع القوَد عن العربي إذا ثبتت عليه ديّة لغير العربي ، وأوصى العربي
إذا احتاج أن يبيع جاره النبطي . وأجرى تعصبه هذا في نساء النبي(صلى الله عليه
وآله) ، فقد أعطى جويرية نصف ما أعطى لعائشة قائلاً :
لا أجعل سبيّة كابنة أبي
بكر الصديق .

كما نهى تزويج العجم من العربيات قائلاً : «لامنعنّ
فروجهن إلاّ من الاكفّاء» وحاول استئصال الموالي في البصرة إلاّ انه لم يفلح
في ذلك ، وأبى أن يورّث أحداً من الأعاجم إلاّ من ولد في العرب([31])،
وفسّر آية (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً
وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم) بأنها خاصة بالعرب مستدلاً على
ذلك بأن الموالي لم تعرف لهم شعوب وقبائل([32]) ، بما يعني
أن المساواة أمر منحصر بالدائرة العربية فتنعدم خارجها ، فلا مساواة بين العرب
والموالي .

دور العصبية في عهد الخليفة الثالث

وفي زمن الخليفة الثالث أشتدت العصبية وظهر استفحالها أكثر
من ذي قبل ، ولما كانت هي الملاك والأساس في الخلافة ، فمن الطبيعي أن تصل الخلافة
إلى العصبة القوية الغالبة المتجبّرة ، وهم بنو أمية، وقد تجسّد هذا المعنى في
محادثات الشورى إذ كان هوى قريش في عثمان ، حيث هتف عبداللّه بن أبي سرح الأموي
أخو عثمان من الرضاعة قائلاً : «إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها فبايعوا
عثمان» .

فردّ عليه عمار بن ياسر : «إن أردتم ألا يختلف المسلمون
فيما بينهم فبايعوا علياً» وقال عبداللّه بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي: «إنكم
إن بايعتم عثمان سمعنا واطعنا وإن بايعتم علياً سمعنا وعصينا»، فقال له
المقداد : «يا عدو اللّه وعدو رسوله وعدو كتابه ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون»
، فقال له عبداللّه : «يا ابن الحليف العسيف ومتى كان مثلك يجتريء على الدخول
في أمر قريش»([33]).

وفي أثناء المفاوضات عرض عبدالرحمن بن عوف على الامام
علي(عليه السلام)أن يبايعه على كتاب اللّه وسنّة نبيه وسيرة الشيخين . فردّ عليه
الامام : «بل على كتاب اللّه وسنّة رسوله واجتهاد رأيي». فما هو المقصود من
سيرة الشيخين ؟ فإن أبرز عنصر في سيرة الشيخين هو حصر الامتيازات السياسية
والاقتصادية بيد قريش وتفضيلها على سائر المسلمين ، وهو العنصر الوحيد الذي تخشى
قريش ضياعه على يد عليّ(عليه السلام) فأرادت أن تضمنه من خلال هذا الشرط الذي رفضه
الامام ليؤكّد بأنه لا يمكنه المساومة على مبدأ من مبادي الاسلام ، والعالمية من أعظم
مبادي الاسلام وأشدها التصاقاً بروحه التوحيدية والأخلاقية .

إنه منطق مشابه تماماً لمنطق السقيفة القبلي المتعصب الذي
أمتحنت به الامامة العلوية ، فالمسألة مسألة قريش وقضيتها ، والحكم حكمهم ، ولا
شأن لاحد فيه ، وكان رأي قريش مع عثمان ، وقد ورد ان عمر بن الخطاب لما عيّن
الشورى بأفرادها الستة اخذ يسأل الناس ويستطلع آراءهم ، وكان يقول: ما سألت قرشياً
إلاّ وقال : عثمان ، ما سألتُ عربياً ـ يعني من غير قريش ـ إلاّ وقال : علي، وقد
فسّر الامام علي(عليه السلام) هذه
الحالة بقوله : «ان الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر في صلاح شأنها فتقول ان
ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش»([34]).

والسبب هو ان أمية هي أقوى العصبيات القرشية آنذاك ، وقد
كان أبو سفيان يرى من خلال مقياسه القبلي المتعصب ان خلافة أبى بكر غير صحيحة ،
لذا خرج وهو يقول : «إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم، يا آل عبد
مناف فيم أبو بكر من أموركم ؟ أين المستضعفان ؟ اين الاذلان علي والعباس ؟ ما بال
هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟»، ثم قال لعلي «ابسط يدك اُبايعك فو اللّه
لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً» فأبى علي(عليه السلام)وقال :
«واللّه
إنك ما اردت إلاّ الفتنة وإنك واللّه طالما بغيت للاسلام شراً»([35])
ولولا كونه من مسلمة الفتح ، وائمة الكفر الذين ما رُفعت راية ضد رسول اللّه قبل
فتح مكة إلاّ وكان أبو سفيان صحابها ، وان خط الخلافة التعصبية يترسم خطاه
الانحرافية الاُولى لتمكّن من أن يكون الخليفة الأول ، لأن ذلك من مقتضيات المنطق
القبلي الذي بنيت الخلافة عليه .

وبعد ما تم انتخاب عثمان خليفة ; أقبل إليه بنو اُمية حتى
امتلأت بهم الدار ثم اغلقوها فقال أبو سفيان : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا ،
قال : يا بني اُمية تلقفوها تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب
ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة . وفي رواية اُخرى انه قال : فانما هو الملك([36])
، ثم أقبل نحو قبر الحمزة عم الرسول فركله برجله ثم قال : يا حمزة ان الأمر الذي
كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم وكنا أحق به من تميم وعدي([37])
، يعني أبا بكر وعمر بن الخطاب .

وقد انعكست هذه العصبية المتهيجة على سياسية عثمان حيث خص
قرابته وذويه بالولايات والمناصب والأموال ; مبرراً ذلك بصلة الرحم ، تارة وبتحريف
سيرة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) تارة أخرى ، فذات مرة دعا عثمان جماعة من
الصحابة فيهم عمار بن ياسر فقال : «اني سائلكم وان أحب ان تصدقوني ، نشدتكم
اللّه أتعلمون ان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كان يؤثر قريشاً على سائر الناس
، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟ فسكت القوم ، فقال عثمان
لو أن بيدي
مفاتيح الجنة لأعطيتها بني اُمية حتى يدخلوا من عند آخرهم»([38])
وقد قال يوماً : «لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفي وان رغمت انوف أقوام» ومن
الطبيعي ان تسري هذه الروح وتتجسد بدرجة أكبر في ولاته ، فيجد سعيد بن العاص واليه
على الكوفة يعتبر العراق «بستان قريش ما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركناه»
فاعترضه المسلمون من غير قريش فردّ عليهم بالنفي إلى الشام ، وهناك ناظرهم معاوية
وحاول ان يثبت لهم فضل قريش على سائر المسلمين ، ولكنهم انكروا ذلك فنفاهم إلى
الجزيرة حيث عاملهم أميرها عبداللّه بن خالد بن الوليد المخزومي بالاذلال
والاحتقار ، وعلى هذا النهج سار بقية ولاة عثمان ، والأمر أشهر من ان يستشهد له
ويستدل عليه بأرقام وشواهد تاريخية . فقد اطبق المؤرخون على عصبية الخليفة الثالث
لبني اُمية ، واستئثار بني اُمية في عهده بالأموال والمناصب حتى بلغت أملاكهم
أرقاماً قياسية بالنسبة إلى ذلك الزمان([39]) .


([1])
المراجعات : 446 ، الهامش 848 من تحقيقات الشيخ حسين الراضي خاص بمصادر هذه
الحادثة التي اطلق عليها ابن عباس تسمية رزية يوم الخميس، وقد ذكر المحقق في هذا
الهامش عشرات المصادر التأريخية التي أوردتها.

([2])
البقرة : 124 .

([3])
الغدير 1 : 219 .

([4])
المائدة : 67 .

([5])
الغدير 1 : 217، أنظر كذلك كشف الغمة 1 : 318.

([6])
الدولة العربية الاسلامية : 65 .

([7])
السقيفة : 86 ـ 87 نقلاً عن الطبري 5 : 31 وابن الأثير 3 : 31 وشرح النهج 2 : 18 .

([8])
شرح النهج 3 : 41 .

([9])
حياة الامام الحسين 1 : 235 نقلاً عن شرح النهج 9 : 22 .

([10])
شرح النهج 1 : 339.

([11])
م . ن ، نقلاً عن معجم ابن الأعرابي 4 : 16 .

([12])
علل الشرائع 1 : 140 .

([13])
الاحتجاج 1 : 218، انظر كذلك : بحار الأنوار ج 36 باب 39 رواية 136.

([14])
الاحتجاج 1 : 110 .

([15])
أمالي المفيد : 112 .

([16])
السيرة الحلبية 3:275، انظر مصادر هذه الحادثة في المراجعات للسيد شرف الدين ملحق
الهوامش التحقيقية للشيخ حسين الراضي. الهامش 91 طبع المجمع العالمي لأهل البيت.

([17])
نهج البلاغة : 246، 336.

([18])
م . ن : 409 .

([19])
م . ن : 451 .

([20])
م . ن : 77 .

([21])
تناول السيد عبدالحسين شرف الدين في المراجعات، المراجعة رقم 84 الأسباب التي دعت
الصحابة إلى تنحية الامام(ع) ومخالفة نص النبي(ص) الصريح عليه باسلوب تحليلي شيّق.

([22])
الامامة والسياسة 1 : 5 ـ 8 .

([23])
حياة الامام الحسين 1 : 245 .

([24])
الامامة والسياسة 1 : 8 .

([25])
م . ن : 9 .

([26])
ثورة الحسين : 28، نقلاً عن شرح نهج البلاغة 8 : 111; تاريخ اليعقوبي 2:106.

([27])
سلمان الفارسي في مواجهة التحدي: 133 نقلاً عن الايضاح : 252.

([28])
تاريخ الطبري 5 : 25.

([29])
تاريخ اليعقوبي 2 : 107 ; فتوح البلدان : 437 .

([30])
سلمان الفارسي في مواجهة التحدي: 128 ـ 129 نقلاً عن مصادر كثيرة ذكرها في الهامش.

([31])
م . ن : 131 ـ 142 نقلاً عن مصادر كثيرة متنوعة ذكرها في الهامش.

([32])
الدر المنثور 6 : 98 .

([33])
شرح النهج 9 : 52 .

([34])
شرح النهج 1 : 194.

([35])
الكامل في التاريخ 2:326; انظر كذلك: النزاع والتخاصم: 55 .

([36])
شرح النهج 9 : 53 ; انظر كذلك : النزاع والتخاصم : 56 ; مروج الذهب 2:343; الغدير
8 : 278 نقلاً عن مصادر اخرى.

([37])
النزاع والتخاصم : 84 .

([38])
الغدير، 8 : 291 نقلاً عن مسند أحمد 1 : 62 .

([39])
انظر: ثورة الحسين: 38 ، وكذلك حياة الامام الحسين 1 : 354 ـ 363.

/ 1