دراسـات
مصطلح الفساد في القرآن الكريم
* الشيخ همام حموديمصطلح (الفساد) في القرآن الكريم لا
يدل على ماهو متعارف عليه في أذهان عامة الناس
، من أنّ كلمة الفساد تعني عدم الالتزام
الشرعي ، وبخاصة فيما يتعلق بموضوع الاحكام
الشرعية ، التي تتعلق بالسلوك الشخصي للانسان
، كشرب الخمر والزنى وعدم أداء الفرائض وسوء
الاخلاق وما شابه .
إن المعنى الذي يطرحه القرآن الكريم
لهذا المصطلح ، أوسع بكثير مما هو متعارف عليه
في أذهان عموم الناس .
الانسان وظاهرة الفساد
إن الانطباع الاول الذي تبادر عندالملائكة حينما خلق اللّه آدم ، وأخبرهم أنه
جاعل في الارض خليفة ، كان استفهاماً
استغرابياً عن إنشاء هذا المخلوق الجديد ،
وذلك قولهم : (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء) .
فهل كانت الارض مكاناً يسوده
الاطمئنان والسلام والهدوء ، لا فساد فيها
ولا خراب ، ولا تجاوز ولا تعدٍّ . حتى كان هذا
المخلوق المكرّم عند اللّه هو مبدأ الفساد
وسفك الدماء ؟ حيث عرّفته الملائكة بهذين
الامرين المستهجنين ، وكان من الرد الرباني
على هذا الاستغراب الملائكي : (إني أعلم ما لا
تعلمون) ، إشارة إلى سر في هذا المخلوق ، وحكمة
في وجوده على الارض وطبيعته ومسيرته وتكامله
فيها . ولعلّ في الجواب الالهي للملائكة
اقراراً بهذا الجانب في الظاهرة الانسانية ،
وكأنّ الفساد وسفك الدماء ملازمان لطبيعة
الانسان ، بما تملكه من قدرة على الاختيار
والارادة والتجاوز : (إنّا هديناه السبيل إمّا
شاكراً وإمّا كفوراً) .
وفي هذا المشهد القرآني الذي يقصّ
علينا خلق الانسان ، وموقف الملائكة فيه ،
يمكن أن نثبت عدة قضايا وأفكار وملاحظات
نجدها منتشرة في ثنايا آيات اللّه ، بشكل
مباشر أو إشارات أو تأكيدات ، وبهذا نجد
القرآن يفسر بعضه بعضاً ، ونجده نسيجاً
واحداً يتحدث عن حقائق مترابطة ومتكاملة في
منظومة خاصة .
بعد هذه المقدمة التي جعلناها مدخلاً
لبحثنا ، وخرجنا منها بحقيقة أن الفساد ظاهرة
انسانية ، تحكمها قوانين الانسان فرداً
ومجتمعاً ، وأن ما يقابل هذه الظاهرة هو
الصلاح والاصلاح ، وأن حركة التضاد الموجودة
بين هاتين الظاهرتين هي من العوامل التي تحكم
مسيرة الامم على الارض ، ومن ثم تحكم مسيرة
الانسان ونهاية الارض : (ولقد كتبنا في الزبور
من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون) .
المعنى اللغوي للفساد
لعلَّ من المفيد تناول المعنى اللغويللفساد من خلال معاجم اللغة ، لنقارن بينه
وبين استعمال القرآن لهذا المصطلح .
قال ابن منظور : «الفساد نقيض الصلاح ...
وتفاسد القوم : تدابروا وقطعوا الارحام ...
واستفسد السلطان قائده إذا أساء إليه حتى
استعصى عليه ، والمفسدة خلاف المصلحة ،
والاستفساد خلاف الاستصلاح »( 1 )
.
وعن الراغب : «الفساد خروج الشيء عن
الاعتدال ، قليلاً كان الخروج عنه أو كثيراً»( 2 ) ، ويضاده الصلاح
، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والاشياء
الخارجة عن الاستفادة .
وإذا حللنا ما أورده علماء اللغة يمكن
أن نخلص إلى أن الاشياء لها وظائف تؤديها ،
ومهامّ تقوم بها ، وأدوار متوقعة منها ، وهذا
هو صلاحها ، فعند وجود خلل أو نقص في أداء
الشيء لهذه الوظيفة أو المهمة أو الدور ، يمكن
أن نقول عنه إنه فسد ، وهذا الخلل ناتج من خروج
الشيء نفسه عن وضعه المتعارف عليه ، فهو خلل
أو خروج عن الاعتدال والاستقامة من داخله ، أي
إن لكل شيء مهمته المناسبة له ، ففساد الالة
بخرابها ، والجسم بمرضه وضعفه ، والثمرة
بفقدان طعمها ، والدولة بنكوصها عن أداء
مهماتها ، وذلك بعدم انسجام أعضاء مجتمعها ،
وتنافر مجاميعه ، وفقدان الامن والوحدة
الاجتماعية اللذين يحفظان تماسكه .
والفساد أمر مرفوض ومستهجن بالوجدان ،
وعند العقل العملي بشكل عام ، فإن النفس لا
تميل إليه ولا تسعى له ، كما هو حال كثير من
القضايا التي يُحسّنها العقل أو يقبّحها ،
بغض النظر عن مصاديقها ، وكذلك الحال في
الصلاح الذي هو أمر مرغوب ومقبول وتميل له
النفس ، ولذا نجد الانسان يرفض صفة الفساد في
الاشياء ، وينفر منها ويسعى إلى إصلاحها إن
أمكنه .
الاستعمال القرآني للفساد
من خلال تناول القرآن الكريم لهذاالمصطلح . إن القرآن الكريم لا يستعمل مصطلح
الفساد بمعناه الشرعي الخاص فقط ، فقد نقله
تارة عن لسان العصاة والظالمين في وصفهم
لحركة الانبياء والصالحين ، كما في وصف أتباع
فرعون لدعوة موسى وحركته الاصلاحية بقولهم : (أتذر
موسى وقومه ليفسدوا في الارض) ، أو وصف فرعون
لدعوة موسى بقوله : (ذروني أقتل موسى وليدع ربه
إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض
الفساد) ، أو قول بلقيس في وصف عمل الملوك : (إنّ
الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة
أهلها أذلة) .
وتارة يستعملها معبراً عن رأي السماء
والشريعة في وصف الطغاة أو الخارجين عن
الشريعة ، أو في التحذير من عمل يؤدي إلى
الفساد ، كقوله تعالى : (تلك الدار الاخرة
نجعلها للذين لا يريدون علواً في الارض ولا
فساداً)( 3 )
، وقوله : (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الارض
وفساد كبير)( 4 )
، وقوله : (وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها) .
فيمكن القول : إن مصطلح الفساد في
القرآن الكريم يصف حالة معينة عامة ، وينقل
تارة عن لسان المتشرعة ، وتارة عن عامة الناس
، وتارة عن المناوئين للرسالة . وقد يكون لكل
مدرسة واتجاه فلسفي أو سياسي تحديد خاص
لمضمون هذا المصطلح ، وتفسير لهذه الظواهر
وتقييم خاص لها ، وفهم لطريقة علاجها
والتعامل معها ، وقد يلاحظ الموضوع بزوايا
مختلفة حسب توجه الناظر وتقييمه وفق فهمه
ومصلحته .
الفساد في الارض
هناك شبه تلازم في القرآن الكريم بينمصطلح (الفساد) وبين كلمة (الارض) ، وإذا قمنا
بعملية إحصائية بسيطة ، فسوف نجد أن الكتاب
الحكيم استخدم كلمة (الفساد) وتصريفاتها
بحدود خمسين مرة ، وفي جميع هذه الاستخدامات
كان يرد اسم الارض أو اشارة اليها ، ما عدا
إحدى عشرة مرة لم يرد فيها ذكر الارض ; لان
الاستعمال كان في معرض وصف عمل المفسدين
وعاقبته : (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) ، أو
في معرض الدعاء: (قال ربي انصرني على القوم
المفسدين) ، أو في معرض بيان إحاطة العلم
الالهي : (وربك أعلم بالمفسدين) ، وتكرر هذا
المقطع اكثر من مرة ، فيكون الاستعمال الاكثر
تكراراً . وفي مختلف صور استعمال كلمة الفساد
جاءت مقترنة بكلمة الارض ، وهو الغالب في
الاستخدام القرآني ، وجاءت مرة مقترنة بذكر
البر والبحر ، ومرة أضيفت السموات إلى الارض .
وبذلك يمكن القول : إن الاستعمال الغالب الذي
به يمكن أن يشكل مصطلحاً قرآنياً ذا معنىً خاص
ومضمون محدود ، يمكن استكشافه من دراسة عموم
الايات وسياقها ، التي ورد فيها ذكر الفساد
مقترناً بكلمة الارض ، كما نلاحظ هذه
المجموعة من الايات : (ولا تبغ الفساد في الارض)
. (مفسدون في الارض) . (ولا تعثوا في الارض
مفسدين) . (أو أن يظهر في الارض الفساد) . (لتفسدن
في الارض مرتين) . (ولا تفسدوا في الارض) . (ما
جئنا لنفسد في الارض) . (ويسعون في الارض فسادا)
. (كالمفسدين في الارض) . (فساداً في الارض) . (لفسدت
الارض) .
نخلص من هذا الاستعراض أن ذكر الارض
إشارة إلى عموم وسعة ما يشمله موضوع الفساد ،
فظاهرة الفساد التي يشير إليها القرآن الكريم
ليست ظاهرة فردية أو شخصية ، أو محدودة بمجتمع
ضيق أو حالة معينة خاصة ، بل هي ظاهرة تعم
المجتمع الانساني بغالبيته ، فالمواضيع التي
يطلق عليها القرآن الكريم مصطلح الفساد ،
تشمل الظواهر الانسانية العامة والواسعة
التي يصح اطلاق (الفساد في الارض) عليها .
وقد نجد أن القرآن الكريم ينتقد أو
يحذّر من بعض الظواهر ويطلق عليها لفظ الفساد
، وهي لا تتصف بتلك السعة والشمولية ، لكن عمق
خطرها وأثرها السيء يؤدي إلى فساد المجتمع
كله ، أو الحضارة السائدة ، بحيث يمكن أن تدخل
تحت عنوان الفساد في الارض .
الفساد والكفر
مما سبق يمكن أن نقول : إن موضوع الفسادغير موضوع الكفر ، فالكفر مجاله الظلم والخطأ
في المعتقد ، والجحود باللّه وكفران نعمته ،
أمّا الفساد فموضوعه عمل الانسان وفعله
ونتاجه وعلاقاته وروابطه .
إن مما لا شك فيه أن المعتقد سواء كان
الايمان أو الكفر يلقي ظلاله على السلوك
والعمل ، ومجمل حياة الانسان وارتباطاته
المختلفة ، سواء مع الطبيعة أو مع الانسان ،
إلاّ أن ظاهرة الفساد كما تشير اكثر الايات
القرآنية تتعلق بسلوك الانسان وتجاوزاته
كظاهرة اجتماعية .
الفساد والظلم
يستعمل القرآن الكريم مصطلح (الظلم) فيموارد كثيرة واستعمالات متعددة ، فمصطلح (الظلم)
يشمل في القرآن الكريم ظلم الانسان نفسه
بالكفر والجحود والمعصية ، وظلمه أخاه بتعديه
على حقوقه ، وظلم الحاكم للمجتمع بقهره
واستعباده ، وظلم مجتمع لمجتمع بالعدوان عليه
، وظلم مجتمع أو قوم لنبي بتكذيبه ومحاربة
دعوته . ويبدو أن الفساد قد يشترك مع بعض أشكال
الظلم الذي يكون موضوعه المجتمع ، فيزعزع
استقراره وتماسكه وانسجامه ككل . وسوف نتناول
هذا الموضوع بشيء من التفصيل عند بحث مصطلح
الظلم في القرآن الكريم .
الفساد والاصلاح
لعلّ ما يقابل مصطلح (الفساد) فيالقرآن الكريم هو مصطلح (الاصلاح) ، وقد
اقترن كثير من الايات التي تذكر الفساد في
الارض بموضوع الاصلاح ، حيث ذُكر في اكثر من
مورد (بعد إصلاحها) ، أو (ينهون عن الفساد في
الارض) ، أو (يفسدون في الارض ولا يصلحون) ، وما شابه
من الموارد .
والسؤال الذي يطرح هنا هو إلى أي صلاح
تشير هذه الاية : (ولا تفسدوا في الارض
بعد إصلاحها) ؟ حيث يفهم أن هناك حالة صلاح ،
وما يعني من استقرار وسلام وتوازن وعدالة
واتساق في الموازين ، وأن هناك عملية افساد
وخراب لهذا الصلاح والاتساق والتوازن .
قد يكون الاصلاح الذي تشير إليه الاية
الكريمة هو الصلاح الطبيعي والفطري
والتكويني الذي خلق اللّه عليه الممكنات : (الذي
أحسن كل شيء خلقه) ، و (الذي خلق فهدى) ، أي
الاشارة إلى واقع الصلاح الذي يعم نظام الخلق
والكون .
والاحتمال الاخر الذي يمكن ذكره في
واقع الاصلاح هنا ، هو الاشارة إلى دور
الانبياء في حفظ الاعتدال والاستقامة في
المجتمعات الانسانية ، فقد كانوا(عليهم
السلام) سبباً في حفظ الوجود الانساني وكيانه
الاجتماعي واستمرار النظام الكوني .
ويمكن أن تكون الاشارة إلى الامرين
معاً ، الصلاح الفطري والتكويني ، والاصلاح
الارشادي التبليغي بفعل الرسل والانبياء
والاولياء والمصلحين ، الذين لولاهم لساخت
الارض بمن فيها .
من الفساد في الارض : التهديد لتماسك
المجتمع
إن هناك حاجات رئيسية وحقوقاً أساسيةيضمنها هذا الاجتماع ، ولولاها لا يمكن لهذا
التجمع أن يستمر نحو أهدافه ، وهي حاجات
طبيعية تفرضها حالة الانسان الطبيعية ، من
غذاء ، وسكن ، وأمن ، بغض النظر عن هويته
الفكرية والسياسية ، وتصاغ الانظمة
والقوانين والاعراف والمواثيق والعهود لتحفظ
أمن المجتمع وسلامته داخلياً وخارجياً من
جيرانه ، وكذلك لتأمين وضع اقتصادي يضمن سبل
المعيشة المناسبة وتطورها ، لافراد المجتمع
مأوىً أو سكناً مناسباً ، ويؤمن لهم
ولاولادهم حياة كريمة محترمة . جميع هذه
القضايا وما يشابهها تدخل في ضمن الامور
الحسبية ، التي تعد من بركات المجتمع
الانساني وعوامل وجود المجتمعات ، ولها الاثر
في حفظ استمرار المجتمع ، ولذا فهذه الحاجات
والضمانات (الامنية والاقتصادية والاجتماعية)
تعد حقوقاً أساسية في كل مجتمع ، وأي تهديد
لهذه الحاجات أو خلل في تلبيتها أو كفايتها ،
وذلك من خلال إضعاف عوامل وجوده ، وشلّ روابطه
التي تحفظ استمراره واستقراره ، وإحداث خلل
بالمواثيق والاتفاقات والعهود بين أفراده ،
يعدّ تعدّياً على تلك الحقوق .
القرآن الكريم يسمي التهديد لهذه
الحاجات الاساسية ، والاخلال بهذه المواثيق
والروابط التي تحفظ تماسك المجتمع ، والتي
تشكل البنية التحتية لاي مجتمع مدني ،
بالافساد في الارض ، وهي عملية مستهجنة
ويقدّر عموم أفراد المجتمع خطرها وآثارها
المدمرة ، ولذا اعتبر الحفاظ على هذه الوحدة
الاجتماعية المستندة لهذا العامل أمراً
مطلوباً من الجميع ; لانها تمس حياتهم جميعاً .
ويتعرّض القرآن بشكل مفصّل تحت عنوان الافساد
في الارض إلى ضمانات الامن الاجتماعي ،
وخصوصاً الداخلي منه ، وكذلك يتعرض إلى
الحاجات الاقتصادية وسلامتها ، كما يتعرض إلى
المواثيق والعهود والروابط التي تحفظ
المجتمع ، وإلى خطر تجاوز العهود وانحلال
الروابط .
وهناك جانب آخر من حفظ المجتمع
واستمراره وتكامله يرتبط بنوع المثل الاعلى
لذلك المجتمع ، والروح الثقافية التي تبلور
شخصية ووجود هذا الكيان الاجتماعي ، واثر ذلك
على استمرار المجتمع وتكامله ، والخلل في
نوعية المثل الاعلى الذي يشكل هوية كل مجتمع
والتي تنعكس آثاره على تماسكه ، فنوع المنهج
والنظام السياسي السائد ، ومدى ارتباطه
باللّه وسيادته ومولويته على كل جوانب الحياة
، وتفاعل المجتمع معها بالطاعة والقرب
والحركة التكاملية باتجاه اللّه وصفاته ،
ينعكس ذلك على آثار هذا القرب من الحق على
سعادة هذا المجتمع ورقيه وتماسكه( 5 )
: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) .
إن عملية الهداية والارشاد التي يقوم
بها الانبياء والاولياء والصالحون ، والتي
تستهدف نقل المجتمع من حالة إلى حالة أرقى
وأكثر كمالاً ، قد تؤدي في آثارها إلى تغيرات
في الروابط الاجتماعية والمواقع والادوار ،
مما تنعكس آثارها على الاتفاقات والاعراف
والقيم السائدة والتي كان لها أثر في استمرار
المجتمع وبقائه ، فتبدو وكأنها تهدد وحدة
الكيان السائد فعلاً ، ولذا يحاول الفراعنة
على طول التاريخ أن يموهوا على الامة ويخلطوا
بين العامل الاول (الحاجات الاساسية وتلبيتها)
، والعامل الثاني (نوعية المثل الاعلى) ، من
أجل كسب عامة الناس وبسطائهم لدعم مواقع
الفراعنة وأصحاب المصالح والملا المرتبطين
بهذا النظام ومؤسساته ، كي تستمر الحالة
السائدة .
ويصفون عملية الهداية بأنها تهديد
للمجتمع ، ومس بحاجاته المختلفة ووحدته
وروابطه ، ويرون أن الانبياء والاولياء
وأتباعهم يفرّقون بين الاب وابنه ، وأنهم
إرهابيون يثيرون الفتن والمشاكل .
وإذا لاحظنا اتهامات فرعون لموسى ،
وهي اتهامات كل الفراعنة ـ بغض النظر عن
الزمان والمكان ـ للرسل وأصحابهم وأتباعهم
نجد أنها كانت تمثل في جوهرها عملية خلط
وتمويه بين العامل الاول والعامل الثاني ، إذ
حاول أن يدرج العامل الثاني ضمن الاول الذي هو
تهديد وحدة المجتمع واستقراره (الفساد في
الارض) : (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدعُ
ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في
الارض الفساد) . (وقال الملا من قوم فرعون أتذر
موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وآلهتك) .
نوع الانظمة السياسية والفساد في
الارض
القرآن الكريم يشير إلى مسألة النظامالسياسي بالخصوص ، وأثره في تمزيق المجتمع
وتفتيت وحدته وتهديد كيانه ، التي هي
بمجموعها عملية إفساد للمجتمع وإفساد في
الارض .
والقرآن الكريم تارة يطرح مسألة
الحاكم ، وتارة طبيعة الحكم ، ويشير بالخصوص
إلى ظاهرة الطغيان ، والاسراف ، والتعالي ،
والتكبّر واحتقار الاخرين ، التي تبدو عادة
من الحكام ضمن الانظمة السياسية المستبدة ،
التي تكون فيها أجهزة الحكم والسلطة وقدرتها
في خدمة شخص الحاكم لا الامة ، وتسحق فيها
مصالح الامة وكرامتها لتحقيق مصالح شخص
الحاكم وكرامته ، وتعتبر نزوات الحاكم قرارات
، وشهواته مصالح أمة ، بل تصبح الامة بكل
جهودها وقيمها أسيرة ما يضفيه الحاكم عليها
من وجود وقيم .
القرآن يطرح قضية فرعون وهامان
نموذجاً للانظمة المستبدة التي أفسدت في
الارض :
(لا أراكم إلاّ ما أرى) . (إنّ فرعون
لعال في الارض وإنه لمن المسرفين) . (إنّ فرعون
علا في الارض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة
منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان
من المفسدين) .
هذه الاية تشير إلى أثر الانظمة
المستبدة والفردية في تمزيق المجتمع (جعل
أهلها شيعاً) ، وعدم تماسكه وشيوع الاختلافات
الواسعة فيه ، وإلى منهج هذه الانظمة الظالمة
والمفسدة في الاعتماد على طائفة في ضرب
الطائفة الاخرى ; كي يبقى الحاكم فوق الجميع ،
فهناك في مجتمع الفراعنة الملا ، أعوان
الظلمة المتحكمون ، والطائفة الاوسع التي يقع
عليها الحيف والظلم والتجاوز والارهاب
والطغيان ، ولعلّ هذا من أوضح عمليات الافساد
والتخريب التي تقوم بها الانظمة والحكام
المفسدون والفاسقون .
القرآن الكريم أشار إلى حقيقة
اجتماعية وسياسية مهمة ، ولفت الاذهان
والانظار إلى أثر الانظمة السياسية الظالمة
في تخريب وحدة المجتمعات وسقوطها ، وضعف
روابطها وتمزيقها . القرآن الكريم يقول صراحة
إن سبب فساد المجتمعات بالمعنى الذي اشرنا
إليه ، هو الانظمة السياسية المستبدة وطغيان
الحكام : (الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها
الفساد) . (إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض) .(وإذا
تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث
والنسل) .
ويجعل الخلاص من الحكام الفاسقين
طريقاً إلى سعادة المجتمع واستقراره ، وإن
الحكام الظلمة هم سبب خراب العباد والبلاد .
نماذج قرآنية للفساد في الارض
الجنسية المثلية :
يذكر القرآن الكريم مصداقاً للفساد فيالارض ضمن دعوات قوم لوط وقوم شعيب ، فالقرآن
يعتبر أن عمل قوم لوط من مصاديق الافساد في
الارض ، وهذا العمل الشائن يؤدي بالاضافة إلى
الامراض المختلفة ، إلى تهديد النسل واستمرار
الوجود البشري بما لا يحتاج إلى بيان .
والموضوع يطرح في عنوانه الكبير تحت
عنوان «المشكلة الجنسية»، التي أصبحت في
حضارة اليوم معلماً بارزاً وسيئاً وخطيراً ،
ولا سيما في الحضارة الغربية التي تحكم
العالم اليوم ، والجنسية المثلية التي يريد
الغرب أن يقننها كظاهرة انسانية مقبولة ،
يعتبرها القرآن من مصاديق ونماذج «الافساد في
الارض» ، وآثار هذه الظاهرة وخرابها الان يعم
كل الارض بما أفرزته من أمراض عجيبة ، ولعلّ
هذه المشكلة وشيوعها وتعقدّها تعتبر معلماً
مهماً في حساب درجة الافساد في الارض ، وما
تعيشه حضارة الغرب التي تريد أن تلقي بظلالها
السيئة على كل العالم ، نموذج جلي لانهيار
المجتمع وفساده وتفككه . والاحصائيات العديدة
لاثار هذه الظاهرة السيئة تملء الصحف .
الغش وغياب الامانة السوقية :
من المصاديق التي يتعرض لها القرآنالكريم نموذج غياب الامانة في الاسواق ،
كظاهرة الغش في الانتاج (سوء الانتاج) ،
والسرقة في البيع وعدم الصدق في العقود . إن
المعاملة الاقتصادية من بيع وشراء وإيجار
ومضاربة وماشابه من ألوان التعامل السوقي ،
التي هي عقود بين طرفين أو أكثر ، إذا حكمها
الصدق في التعامل ، وعدم التجاوز على حقوق
الاخرين ، والتزام كل طرف بما يقضيه العقد ،
فإن التعامل الاقتصادي والتجاري سوف يكون
ناشطاً وفاعلاً وبعيداً عن الخداع والاعتداء
والغبن والتدليس ، وما شابه من ألوان التعامل
غير الامين ، مما يعود على السوق بمزيد من
الاموال والقدرة المالية وزيادة الانتاج ،
والتداول في نوعية الانتاج الجيّد والتنافس
في هذا الاداء ، وينعكس ذلك على شيوع قيم
الثقة والصدق في المجتمع ، مقابل قيم الجشع
والظلم والاعتداء وعدم الثقة بين أفراد
المجتمع ، وهي من المسائل المهمة في حفظ
المجتمع واستقراره ، في مقابل قيم الظلم
والغش التي تؤدي إلى زعزعة الروابط
الاجتماعية وتماسك المجتمع ، ويهدد استقراره
، وهو أوضح صور الفساد في الارض .
فقدان الامن :
إن الشعور بالحماية والامن والشعوربالاطمئنان من الحاجات الاساسية في أي مجتمع
، وفقدانها بأي صورة تحول المجتمع إلى مجموعة
كيانات متشرنقة حول نفسها ، تسعى لحماية
نفسها والدفاع عن مصالحها.
إن شيوع ظاهرة الاعتداء والتجاوز
والقتل تجعل المجتمع في رعب دائم ، وخوف على
الحاضر والمستقبل ، مما يجعل الحياة بدون أمل
، وغير قابلة للتطور .
نقض العهود والمواثيق والعقود :
القرآن الكريم يعطي للعهود والعقوداحكاماً خاصة ، تكشف عن حرص القرآن الكريم على
إنفاذ العقود ، والايفاء بها والالتزام
بمضمونها وتحمّل آثارها وتبعاتها .
العقود والعهود ظاهرة اجتماعية
ملازمة للانسان ، يحفظ بها الانسان وجوده ،
ويحتمي بها لتدبير معاشه وأمنه ووجوده ، ولذا
فالاسلام أعطاها موقعية خاصة .
العقود والعهود تارة تكون بين الافراد
لشؤون شخصية وفردية ، وتارة تكون بين أمم ودول
وتخص مصالحها وآثارها مجموع الامة ككل وليس
فرداً فرداً ، وثالثة تكون بين الامة كقانون
وعرف وعقد اجتماعي يلزم الجميع به . ويسمي
القرآن كذلك العلاقة بين الانسان واللّه ،
والرابطة التي تحكم التزام الفرد به سبحانه
بالعهد والميثاق .
أما ما يتعلق بموضوع بحثنا وهو (الفساد
في الارض) ، وارتباطه مع موضوع نقض العقود
والعهود ، سواء كانت فردية أو أممية أو
اجتماعية ، فيمكن القول إن القرآن قد قرن في
مواضع كثيرة في الكتاب العزيز بين الفساد
وبين نقض العهود ، بغض النظر عن نوعية هذا
الاقتران ، هل هو من باب التلازم أو التضمن ،
وعلى أي شكل كان . المهم في الموضوع أن
نجد في نقض العهود والعقود فساداً في الارض
.
ومعنى الفساد الذي أشرنا إليه في
مضامينه هو حالة الخراب والتفكك وضعف
الارتباط التي تسود المجتمع ، والتجاوز على
حقوق الاخرين ، التي من مجموعها نجد فيها
نقضاً لعهد وعقد ، سواء كان هذا النقض مع
اللّه أو مع الامة أو بين الناس أو بين
الافراد .
من هنا يمكن القول إن نقض العهود
والعقود بأي شكل كان هو فساد في الارض ، وخراب
لذلك المجتمع أو المؤسسة أو الدولة ، ويمكن
لنا أن نستشف مستقبل ومصير أي تجمع من خلال
هذه الظاهرة المريضة (عدم الايفاء بالعقود)
لنحكم على نهايته ومآله .
إن القرآن الكريم يعطي لليهود صفة نقض
العهد ، وصفة الافساد ، وفي ذلك اشارة إلى
سجية اليهود كأمة في تعاملها مع باقي الامم
ونقضهم للمواثيق ، وما يستلزم ذلك من اعتداء
وتعدي وحروب ، فيكونون بذلك اهل لصفة الفساد
والافساد في الارض .
وفي مقابل ذلك نجد أن القرآن الكريم
يفرض على المجتمع المسلم والدولة الالتزام
بالعهود التي تبرمها مع الاخرين ، وحتى في
الاحكام الفردية تؤكد الشريعة على الالتزام
بهذه العقود ، حتى مع الافراد المخالفين
بالعقيدة ، وحتى مع الدولة المخالفة ; لان
الالتزام بالعهود يضمن استمرار المجتمع ،
ويحفظ الحقوق ويعطي للحياة البشرية
استقراراً ونمواً وتكاملاً .
ولذا كان نقض المواثيق والعهود يحتاج
إلى موقف واضح وبين لتحمل نتائجه وآثاره ،
ولبيان الموقف الجديد ، ولعلّ خصوصية سورة
براءة التي فصمت عقداً بين المسلمين
والمشركين ، بعد أن تجاوزها المشركون ونكصوا
عن التزاماتها ، مما يكشف عن أهمية وخطر نقض
العهود بين الامم .
الفساد الكبير هو نقض المعاهدات
والمواثيق الدولية
(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصرإلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق واللّه بما
يعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أولياء بعض
إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير) .
يثبت القرآن الكريم قانون وتشريع
النصرة في الدين ، ومن أجل الدين وبسبب الدين
، هذا التشريع الذي يفرض على الجماعة المؤمنة
المتمكنة ، وبالتحقيق الدولة الاسلامية ،
نصرة من ينتمي إلى الدين في أي مكان كان ، وفي
أي تجمع كان يعيش ، وبذلك يسن القرآن أنه في
عالم الاسلام يكون للفرد المسلم الذي يعيش
خارج دولة الاسلام نوع ارتباط وانتماء ، وحق
على الدولة في نصرته والدفاع عنه ، عندما
يتعلق الامر بمعتقد المسلم وممارسته الدينية
، أي عندما يُضيّق عليه بسبب انتمائه
الاسلامي ، أو يُحارب ويمنع من حقوقه بسبب
انتمائه الديني . هنا تكون الدولة الاسلامية
ملزمة بالنصرة والدفاع ، إن طُلب منها النصر
والمساعدة في الدفاع ، عن المسلمين الذين
يعيشون خارج رقعة الدولة الاسلامية .
ويستثني القرآن وجوب تلبية طلب النصرة
مع الدول والاقوام والامم ، التي بينها وبين
الدولة الاسلامية تعاهد وميثاق بالصلح
ومعاهدة سلام .
وغير مجهولة قصة ذاك المسلم الذي طلب
النصرة للخلاص من تعذيب قريش ، بعد معاهدة
وصلح الحديبية ، ووقوف الرسول مكتوف اليد عن
نصرته بسبب هذه المعاهدة والميثاق .
إن الخروج على المواثيق والمعاهدات
بين الدول والامم ، سوف يؤدي إلى اضطراب في
الارض ، وغياب القواعد والثقة في التعامل
الدولي ، مما يمنع أي فرصة لبناء علاقة تحفظ
قيام مواثيق الصلح والسلام .
القرآن يعتبر الخروج على المواثيق
فتنة وفساداً كبيراً . وما نشاهده اليوم في
غياب الالتزام الحقيقي للمواثيق والعهود ،
تحت ذريعة قيام النظام العالمي الجديد ،
بداية لفساد كبير في الارض ، نجد مفرداتها
واضحة بالحروب وعدم الاستقرار والاعتداءات
وتجاوز الحقوق .
إننا فعلاً في عصر نعيش فيه الفتنة
والفساد الكبير .
هناك آيات كثيرة في كتاب اللّه المجيد
تؤكد على الوفاء بالمواثيق والالتزام
بالعهود ، وكذلك تؤكد الاحاديث هذا السياق .
(اليهود) نموذج الامة الفاسدة
والمفسدة في الارض
(وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلتأيديهم ولعنوا بما قالوا ... وألقينا بينهم
العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما
أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه ويسعون في
الارض فساداً واللّه لا يحب المفسدين)( 6 )
.
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب
لتفسدن في الارض مرتين ولتعلُنّ علواً كبيراً)
.
الامة اليهودية من الامم الباقية إلى
يوم القيامة ، كما أشار القرآن الكريم ، ويلحظ
في هذه الامة أنها أمة متمزقة مشحونة
بالعداوات والبغضاء ، وما يستتبع ذلك من
أحقاد وتآمر فيما بينهم . هذا هو الذي يقرره
القرآن بحق هذه الامة ، فإذا وجدنا حالة من
التماسك والانسجام فيها ، فإنها تمثل حالة
طارئة سرعان ما سوف ترجع إلى حالة العداوة
والبغضاء .
هذه الامة التي تعيش حالة العداوة
فيما بينها ، تعيش مع الاخرين حالة العدوان
والحرب وتجاوز الحقوق والحدود ، فهم يسعون
للاعتداء ويؤججون نار الحرب ، ويقرعون طبولها
، لكنهم غير قادرين على الاستمرار لنهايتها ،
وينكصون في نصف الطريق ، وقد تكون هذه العداوة
والبغضاء سبباً لانطفاء نار تأجيجهم للحروب .
هذه الامة بهذه المواصفات أمة متمزقة
تسود العداوة والبغضاء ما بين أبنائها . أمة
نزاعة للحرب والاعتداء على الاخرين . هذه
الامة لا يمكن أن تكون إلاّ أمة فاسدة ومفسدة
في الارض . أمة تثير الحروب وتمزق الروابط
وتعتدي على الحقوق ولا تلتزم بالمواثيق . أمة
متآمرة حاقدة . هذه الامة المفسدة ستتمكن من
القدرة ، وسينال فسادها وإيذائها الاخرين .
ستعلو وستحول الارض إلى صراعات وحروب وتآمر .
وشاء اللّه أن تكون هذه الامة المفسدة
المملؤة عداوة وبغضاء ، والساعية إلى التدمير
والاعتداء ، هي التي تواجه الامة الناجية
والصالحة ، وتناصبها العداء ، وتحوك ضدها
المؤامرات ، وتسعى لنقض عهودها معها. هذه
الامة هي التي ستقف لصد نور الحق والعدل
والصلاح على الارض ما دام وجودها
قائماً .
أمة اليهود أمة فاسدة ومفسدة في الارض
، واللّه لا يحب المفسدين ، فلا يكتب لها
النجاح في فسادها ، ولا توفق في تحقيق أهدافها
، ولن تفلح في الوصول إلى مراميها ;
لانها ليست مع الفطرة ولا مع السنة الالهية ،
ولانها عقبة في طريق التكامل ، فلابد أن يتم
تجاوزها فاللّه لا يحب المفسدين .
والنتيجة التي نخلص إليها بهذا الصدد
هي أن الفساد في الارض المنسوب إلى اليهود ،
الذي تشير إليه هاتان الايتان ، ينسجم في
معناه مع الاتجاه العام الذي يتضمنه معنى
الفساد في الارض ، من مجمل آيات الكتاب الكريم
. إنه نقض العهود والمواثيق ، والاعتداء على
حقوق الاخرين ومصالحهم . إنه إضعاف لروابط
الناس بعضهم ببعض ، وتخريب للاواصر التي تحفظ
وحدة المجتمع وتماسكه . إنه إشاعة لكل
الافات والسبل التي تزرع في المجتمع العداوة
والبغضاء والحقد والمشاحنات . إنه
تأجيج للحروب والاعتداء والقتل بغير
الحق . إنه تخريب للانسان من داخله ،
وتخريب لمجتمع الانسان ككل .
موانع الفساد التدافع بين الامم :
(فهزموهم فإذن اللّه وقتل داود جالوتوآتاه اللّه الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء
ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت
الارض ولكن اللّه ذو فضل على العالمين)( 7 )
.
(أُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإن
اللّه على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من
ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربّنا اللّه
ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدّمت
صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم
اللّه كثيراً ولينصرنّ اللّه من ينصره إنّ
اللّه لقوي عزيز)( 8 )
. جاءت هذه الاية بعد آية الجهاد التي أذن فيها
للمسلمين بقتال الكافرين ، فهي في معرض تفسير
وإيجاد إطار وخلفية لهذا الاذن ، وبيان
ملاكات الحكم بالجهاد والقتال .
فهي إذن متعلقة بالجهاد والصراع
والقتال بين أهل الارض ، وبعبارة أدق بين أهل
الايمان والكفر ، ولولا هذا الاذن بالجهاد
ورد أهل الكفر ، لكانت نتيجته أن هدّمت مواطن
العبادة والحق والخير في الارض ، فهو إذنٌ عام
لكل أهل اللّه ومسيرة الايمان أن يواجهوا
بقتال وسلاح أهل الكفر ، الذين تعدوا الحقوق
وطردوا المؤمنين وهجّروا أهل الخير وأخرجوهم
من بلادهم.
إن اللّه تعالى أذن للجماعة المؤمنة
أن ترد الظلم والاعتداء . هذا الاذن ملاكه أنه
من أجل حفظ التوحيد والحق والعدالة في الارض .
إنه منع للفساد في الارض . إنه لصالح الانسان
ولخيره ، ولولا هذا الاذن بالتدافع لفسدت
الارض وحل الظلم والخراب فيها .
الدفع هنا معناه اللغوي واضح ، وهو دفع
أهل الايمان لاهل الباطل وإبعادهم عن ايذاء
المؤمنين ، ودفعهم عن منعهم لان يمارسوا
حقّهم في العبادة ، وحقّهم في التوجه
لاهدافهم ومراميهم ومقاصدهم ودفعهم عن تهديد
وجود الامة وبيضتها ومصالحها .
الدفع هو الابعاد (دفع اللّه) يشير فيه
إلى السنّة والفطرة والقانون الالهي الجاري
بين الناس والامم . (بعضهم ببعض) أي التدافع
الموجود بين البشر عموماً (ما يسمى صراع
الارادات ، وصراع المصالح ، وصراع الحق
والباطل) . لولا هذا الصراع ، أو لولا هذا
الاذن بالصراع الجهادي المسلح ـ لان
الصراع الفكري كان موجوداً وجارياً فعلاً في
مكة منذ أول بزوغ الدعوة ـ لعم الفساد
في الارض ، ولم ترتفع راية الحق ، ولساد الظلم
على الجميع .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً . الاية
الاولى تقول : (لولا دفع اللّه الناس بعضهم
ببعض لفسدت الارض) ، والاية الثانية تقول : (لولا
دفع اللّه بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع
وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا) ،
وبالجمع بين الايتين نصل إلى أن الفساد في
الارض يساوي انهدام مراكز ذكر اللّه ، ويساوي
انحلال مواقع الداعية لاقامة الخير ، ويعادل
غياب المؤسسات الداعية إلى الحق والصلاح ،
ويماثل غياب الصوت الداعي إلى الاصلاح
والصلاح في الارض .
فلابد إذن ، عند الاقتضاء من الكفاح
المسلح والقتال والجهاد ، وما يستلزمه ذلك من
تضحية ودماء وآلام ومعاناة وتشريد وهجرة ;
لابقاء الارض صالحة ، ولمنع فسادها وخرابها .
وهذه هي سنّة اللّه في الارض ، وحكمته التي
أجراها فيها وفي عباده وبين الناس .
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون
الدين للّه) .
ولعل في جواب اللّه على تساؤلات
الملائكة بـ (إني أعلم ما لا تعلمون) ، إشارة
إلى هذه الحكمة والسنّة ، ولعلّ الملائكة
الذين استغربوا ذلك الجعل بقولهم : (أتجعل
فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) ، غاب عنهم أن
قسماً من الدماء التي تجري في الارض من
مستلزمات بقاء الارض والحياة والخير ، وأنه
لولا هذه الدماء لفسدت الارض ، ولعمّ فيها
الخراب والظلم والظلام .
واللّه أعلم . (إني أعلم ما لا تعلمون) .
(1)
لسان العرب 3:335.
(2)
معاني القرآن: 379.
(3)
القصص : 83.
(4)
الانفال : 73.
(5)
راجع الشهيد الصدر في محاضراته القرآنية وفي
آثار العبادة على المجتمع.
(6)
المائدة : 64 .
(7)
البقرة: 251.
(8)
الحج: 39 ـ 40.