كلمة التحرير
بقلم رئيس التحريـر
التطرف الاسباب
والعلاج
التطرف كما يجري في عالمالفكر يجري أيضاً في الحياة العملية ،
وخصوصاً في الواقع السياسي منها ، وفي عالم
السياسة هو اصطلاح يحمل في روحه المعنى
اللغوي الذي اشتق منه ، وهو ـ أي المعنى
اللغوي ـ "من تطرّف : صار طرفاً ، أي جاوز
حدّ الاعتدال ، ومنه تطرّف في آرائه فهو متطرف
أي جاوز حد الاعتدال فيها"(1)
.
ويقال أيضاً : "رجل طِرف
ومتطرف ومستطرف ، وهو الذي لا يثبت على أمر ،
ورجل طَرِف وامرأة طَرفة إذا كانا لا يثبتان
على عهد"(2) ، وهذا
يعني أن المتطرّف المتجاوز للحد قد بلغ ـ
رأياً أو عملاً ـ أحد الاطراف وهو جانب
الافراط ، وبذلك وصل حدّ النهاية واوشك على
السقوط والخروج من ذلك الجانب ، فهو غير ثابت
ولا مستقر ; إذ كل من يقف على طرف يوشك أن يسقط ;
بخلاف الامة الوسط فهي تكون ثابتة ومتوازنة ،
تلك هي أمة الاسلام : (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيداً)(3) .
ويتساءل الكثير من العاملين
في الحياة الثقافية والسياسية عن اسباب حصول
ظاهرة التطرف والتطرف المضاد في العمل
السياسي والثقافي ، وذلك بالانشداد مرةً إلى
أقصى اليمين ، ثم التحول بردِّ فعل معاكس إلى
أقصى الشمال مرةً اخرى ، ولا يحصل هذا في
الدوائر العامة للعمل الثقافي فحَسب ، بل قد
تجده حتى في اطار الدوائر الخاصة لحركة أو
جماعة معينة ، مهما كانت صغيرة ومحدودة ،
وتتعاظم خطورة هذه الظاهرة في حالتين رئيستين
:
الحالة الاولى : عندما يكون
المصاب بهذا المرض العضال من المتصدّين الذين
تبوّأوا منصباً أو موقعاً مؤثراً في الحياة
الثقافية والسياسية للامة ، الامر الذي سيؤدي
إلى تحرك الواقع المؤثر فيه باتجاه حركته
المتطرفة ، مرةً لهذا الجانب وأخرى للجانب
المعاكس ; لتبرز تبعاً لذلك حالات من التصادم
والخلاف الحاد ، فتصبح الجماعة الواحدة
جماعات ، والوجود الواحد وجودات متعارضة
متخالفة .
الحالة الثانية : عندما يكون
هذه المرض على شكل حالة اجتماعية نتجت بسبب
حدث استثنائي حاد ، كثورة عارمة عصفت بواقع
وسلبت وجوده من الحياة الثقافية والسياسية ;
لتبدأ حياة وجود جديد لمّا تظهر معالمه
الثقافية والسياسية في الواقع بعد ، وهنا
تبرز حالات كثيرة من التطرف في التعامل
والمواقف على الصعيد العام ، فمرة تظهر على
شكل آراء وشعارات حادّة ، أو فهم متطرف لها
باتجاه معين ثم لا تلبث بعد فترة أن تتحول إلى
اتجاه مضاد ، وهذا قد يحصل أيضاً في الوحدات
الحركية التي تتأثر كثيراً بالاحداث
الثقافية والسياسية الكبرى لمجتمعاتها ،
وغالباً ما تحدث هذه الظاهرة المرضيّة عند
فقدان القيادة المبدئية الحكيمة التي تمسك
بزمام الامور ، وتسير بالامة باتجاه الرشد
والتكامل الحركي في بناء حياتها الثقافية
والسياسية الجديدة ، ففرق كبير بين الثورة
الاسلامية في ايران ، والثورة في الجزائر ضد
الاستكبار الفرنسي ، التي فقدت قيادتها
الاسلامية الاولى وتحولت فيما بعد إلى واقع
لا اسلامي ، واظهر منها الثورة الفلسطينية ـ
قبل ظهور الحركات الاسلامية بعد انتصار
الثورة الاسلامية في ايران ، كحركة حماس
وامثالها ـ ، تلك الثورة التي بدأت اسلامية ثم
تحولت عن اسلاميتها وعاشت فصائلها أنواع
التطرف والتطرف المضاد ، عندما تجزأت على
اساس ذلك وغابت عنها قيادتها الاسلامية
الاولى ، فارتمى جزء منها في أحضان الشرق
والاخر في احضان الغرب ; فالثورة الاسلامية في
ايران سارت برشد قيادتها الاسلامية الفذّة ،
وتكاملت بفضل إمامها الحكيم الخميني الكبير(قدس
سره) . وواضح إن هذه الحالة تختلف عن سابقتها
بسعة شمولها للواقع الثقافي والسياسي ، وفي
بطء ظهور حالات التطرف المضاد فيها .
الاسباب
ولو أمعنا النظر في هذهالظاهرة وبحثنا عن جذورها واسبابها ، فإننا
نجدها لا تعدو الاسباب التالية متفرقةً
أحياناً ومجتمعةً أحياناً أخرى :
الاول : الجهل ، ولا نقصد به
هنا الجهل البسيط فإن أمره هيّن يسير ; إذ يكفي
فيه التنبيه على موارد الجهل والتصدّي
لبيانها وتعليم الجاهل بها ، وهذا شأن أغلب
سواد الامة ومن هو على سبيل النجاة ، وإنما
نقصد بالجهل هنا الجهل المركب الذي تصوّر
صاحبه أنه يعلم ، وهو يجهل أنه يجهل ، وهذا
السبب هو اقوى الاسباب واخطرها ; إذ منه يحصل
الانحراف المبدئي ، وفي باحته تحطّ رحال
البدع والضلالات ، ومنه تتشكل قوة المعارضة
الجاهلية لخط الاسلام الاصيل ، حين تبرز
ظواهر التطرف شيئاً فشيئاً ، حتى تسفر عن
وجهها الطالح في صور من العداء الذي قد يأخذ
صوراً من المواجهة العملية تخرجهم عن اصل
الدين ، كما هو شأن كثير من الفرق الاسلامية
المنحرفة ، كالخوارج ومن على شاكلتهم .
وفي مرحلتنا المعاصرة نجد أن
الجهل هو الذي مكّن الدعوات الاستعمارية بعد
الاحتلال العسكري المباشر ، وتقسيم بلاد
المسلمين بين دول الاستكبار ، من تغذية حالة
التطرف السلبية تجاه بعض مظاهر الدين في
الامة ، كالحجاب مثلاً ، وأن يزرع الوجودات
الثقافية والسياسية التي تتطرف نحو العرقية
والقومية ، مقوّماً انتماءها الديني على
اساسها ، فأصبحت الامة الاسلامية قوميات
متطرفة ، منها للعروبة واخرى للفارسية وثالثة
للتركية وهكذا .
وحتى بعد قيام الثورة
الاسلامية في ايران ، وبروز ظاهرة الصحوة
الاسلامية بين المسلمين ، نجد أن البعض من
الفئات والخطوط السياسية الاسلامية كابرت
واتخذت موقفاً سلبياً من الثورة الاسلامية ،
وذلك لان اجواء التطرف القائم على الجهل
المركب جعلها في شباك المخططات الاستكبارية
بشكل مباشر أو غير مباشر ، راكبة مركب العداء
السافر والمبطن من خلال ذلك . وصدق أمير
المؤمنين علي(عليه السلام) عندما قال : "...
فمن جهل شيئاً عاداه ، فأنزل اللّه (بل كذّبوا
بما لم يحيطوا بعلمه) "(4)
.
الثاني : الشبهات والرواسب
الفكرية المنحرفة ، وهذا السبب وإن كان يلتقي
بسابقه من حيث أنه نوع من انواع الجهل المركب
، ولكن صورته تختلف من جهة أن لتاريخ هذا
الشخص المتطرف أو الجماعة المتطرفة مضامين
وركائز فكرية أثرت على مسار تفكير كل منهما ،
وشابته بشوائب خلقت له سلوكاً ومنهجاً
متطرفاً بالنسبة إلى منهج الاسلام المستقيم
والتفكير السليم .
(1)
غافر : 83 .
والتاريخ بكافة فتراته
الغابرة والقريبة يحكي لنا صوراً كثيرةً عن
هذه الحالة ، فغني عن التعريف الرواسب
الجاهلية التي ضلّت عالقة في اعماق الكثيرين
ممن أعلن اسلامه ، سواء كان قبل فتح مكة أو
بعدها ، والتي برزت آثارها شيئاً فشيئاً منذ
حياة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى
المرحلة التي اعقبت وفاته ، والتي تجسدت فيما
بعد بشكل واضح وجلي في جاهلية وانحراف دولة
بني أمية ومن لحقها من دول البدع والضلال ،
وفي تاريخنا القريب شيء كثير من ذلك تجده في
واقع الامة والعديد من رجالاتها ، ولعل أبرز
تلك الرواسب هي رواسب العصبيّة الاقليمية
والعرقية التي زرعها وغذّاها الاستكبار خلال
عشرات السنين من احتلاله للبلاد الاسلامية ،
تلك الرواسب التي وقفت عقبة كؤوداً دون تفاعل
الامة وذوبانها الفعلي في الاسلام ، وهكذا
بالنسبة لسائر موروثات الفترة الاستكبارية
التي حجبت النور والصحوة عن الامة طيلة سنين
مضت ، تركت آثارها على طريقة تفكيرها ،
وخصوصاً على طبقاتها المثقفة ، التي أُسرت
بالمنهج الغربي على كافة الاصعدة ، حتى إنهم
راحوا يقيسون مدى نجاح مجتمعهم الاسلامي على
ضوء ما يحاكيه من صور التقدم المدني والتقنين
الاجتماعي والثقافي والسياسي للغرب ،
واكتفوا من اسلامهم باسمه ومن قرآنهم برسمه ،
وقد اشار القرآن إلى ذلك بقوله عزّ من قائل : (قل
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا
تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلّوا
كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل)(5)
، كما وصف حالهم قائلاً : (فلما جاءتهم رسلهم
بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم
ماكانوا به يستهزئون)(6)
.
ومثال على ذلك من تاريخنا
المعاصر ما اعلنه الكثير من العلماء في
العراق ، وخصوصاً في النجف الاشرف في الفترة
ما بعد اعلان ما سميت في حينه بالحكومة
الوطنية ـ أي حكومة الانتداب الانجليزي ـ عن
تعهدهم بعدم التدخل في الشؤون السياسية
للبلاد ، ولعل الهدف الرئيسي من ذلك كان لاجل
حماية الجامعة العلمية الاسلامية في النجف
الاشرف وكربلاء ، لئلا يُمعَن في تصفية
وجودها ، وهي الحصن العلمي الحصين للاسلام
والمسلمين ، خصوصاً بعد الموقف الثوري من
دخول الانجليز العراق عام 1917 م ، واعلان
الثورة في عام 1920 م من قبل علماء الاسلام في
النجف الاشرف وكربلاء . هذا التعهد أوحى بموقف
سلبي من التدخل في الشؤون السياسية ، وأنها
ليست من الدين الاسلامي ، الامر الذي خلق حالة
متطرفة تجاه أي تحرك سياسي اسلامي ظهر فيما
بعد ، وقد عاشت المرجعية الاسلامية الرشيدة
وحركتها المجاهدة ، خصوصاً عند بروز المفكر
العملاق آية اللّه العظمى الشهيد السيد محمد
باقر الصدر(قدس سره) ، حالة من العداء
والتشويه من قبل المتطرفين ضد العمل السياسي
، ولعبت الرواسب والشبهات الفكرية لتلك
الفترة دورها في الموقف العدائي من السيد
الصدر ، ومقاومة دوره الرسالي في التوعية
السياسية للامة ، ووضعها في موقعها الاسلامي
المطلوب ضمن عملية الصراع بين الاسلام والكفر
.
الثالث : التعصب العاطفي ،
ونقصد به عدم قبول الحق عند ظهور الدليل
والبرهان ، بسبب ميل إلى جانب أو تعاطف مع جهة
، ولهذا تشير الاية الكريمة : (وقالوا قلوبنا
في أكنّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن
بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون)(7)
، وقوله عزّ من قائل : (وإن تدعوهم إلى الهدى لا
يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون)(8)
.
ولعل هذا الداء من أكبر
الادواء واكثرها شيوعاً بين العاملين ، وهو
يشكل نقطة ضعف اساسية على صعيد الفرد
والجماعة ، ومنها تنشأ ظواهر المحورية على
مستوى الجماعات ، وظواهر الذاتية الانانية
على مستوى الافراد .
وقد لا يقف حد التعصب هذا عند
حدود الموقف السلبي من قبول الحق ، وإنما قد
يتخذ صوراً من الفعل الايجابي ، كالتخطيط
لتكريس حالة ذاتية أو محورية قائمة على اساس
التعصب العاطفي ، وتتجسد الخطورة لا بالتجسيد
الظاهري لهذه الحالة فقط ، وإنما تكمن أيضاً ،
وبصورة خفية ، في زوايا الممارسات والمواقف ،
ومقدمات الاعمال ، والاعداد في ما وراء
الستار . إن مثل هذا التعصب المخطط هو الذي
يصادر جهود المجاهدين ، وثمرات العاملين
الرساليين ، ويهدد مصير حركتهم بالاُفول
والانحراف عن سبيل اللّه المستقيم . وتاريخنا
الاسلامي مملوء بمصاديق تحكي هذه الانتكاسات
، سواء في حياة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)
أو ما بعد وفاته ، بل طيلة حياة الائمة(عليهم
السلام) إلى يومنا هذا ، فكثير من العقبات
التي ظهرت في طريق الثورة الاسلامية المعاصرة
، وخصوصاً في ايران الاسلامية ، كان بفعل
العناصر التي تتحرك على اساس التعصب المحوري
والذاتية الانانية ، وكثيراً ما انبرى امام
الامة الخميني الكبير(قدس سره) ، ومن بعده
ربيبه آية اللّه العظمى السيد علي الخامنئي (دام
ظله) ، بحكمتهما ونفاذ بصيرتهما ليُشخّصا
مواطن هذا المرض الخبيث ، ويعرضا لاسبابه ،
والموقف المناسب منه ، معبرين في ذلك عن حقيقة
قول الامام علي(عليه السلام) : "غير منتفع
بالحكمة عقل مغلول بالغضب والشهوة"(9)
.
الرابع : ضعف التجربة والتخلف
الحركي ، فقد يتصور البعض أن الاحاطة النظرية
بالعلوم والمعارف كافية في تأهيل المرء لخوض
معترك العمل الثقافي والسياسي ، والانطلاق في
حركته نحو هدفه الكبير ، متغافلين عن أن الجزء
الاساسي الاخر لنضج القدرة العلمية والكفاءة
الحركية للعاملين السياسيين ، هو رسوخ وتكامل
التجربة من خلال تدرج طبيعي في سلّم العمل
والحركة الثقافية والسياسية الهادفة ، لذا
قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) : "رأي
الرجل على قدر تجربته"(10)
، وقال أيضاً : "العقل غريزة يزيد بالعلم
والتجارب"(11) ،
وهذا لا يعني أن يؤخذ الزمن مجرداً عن مستوى
التجربة وسعتها ، بل إن الزمن بما هو ظرف
يستوعب في أجزائه تلك التجارب المتواصلة
والمتراكمة والمتكاملة ، "فالايام تفيد
التجارب"(12) كما
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) ، ويقول
أيضاً : "لولا التجارب عميت المذاهب ، وفي
التجارب علم مستأنف"(13)
.
ومن موارد ضعف التجربة
وضآلتها هو الانغلاق على الذات والاستغناء
بتجاربها عن تجارب الاخرين ، في حين أن نظرية
تراكم التجارب وتكاملها تقوم على اساس اكتساب
تجارب الاخرين ، واضافتها إلى التجارب
الذاتية ، والاستفادة منها ، وإثراء الحركة
الهادفة بها ، ففيما اوصى به أمير المؤمنين(عليه
السلام) ابنه الحسن(عليه السلام) : "ولتستقبل
بجدّ رأيك من الامر ما قد كفاك اهل التجارب
بُغيته وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب
وعوفيت من علاج التجربة"(14)
. وضعف التجربة هذا سيفرز بطبيعته تخلفاً
حركياً لا لدى الافراد العاملين بما هم افراد
وحسب ، بل إن ذلك سيلازم العمل الحركي ككل ،
فتراه يسير وراء الاحداث وكأنه ليس في خضمّها
، وتراه يتأخر عن مسيرة الامة وكأنه ليس منها
، وبمرور الزمن لن تجد رجاله إلاّ ركاماً من
المتقاعدين والمتقاعسين ، ليس لهم إلاّ أن
يجلسوا على قارعة المسيرة يلسعون العاملين
الدائبين في جهادهم بالسنتهم الحداد ،
ويخرمون الهمم بتثبيطها وتوهينها ، فيحق فيهم
قول صادق اهل البيت(عليهم السلام) : "لا
يطمعنّ ... القليل التجربة المحجب برأيه في
رئاسته"(15) .
الخامس : ضعف التقوى وغلبة
الهوى ، فالمعروف أن هناك عاملان اساسيان
شهيران يحقّقان الاستقامة في المسيرة في
دائرة الفرد وفي دائرة الجماعة وهما العلم
والعدالة ، وقد أشرنا في سياق ذكر اسباب
التطرف إلى عامل الجهل بما يؤشر إلى ضرورة
العدالة في التخلص من حالات التطرف والشذوذ ،
فقد أكد علماء الاخلاق أن التوازن والحكمة
والعلم تفتقر في حصولها وفي ثباتها ورسوخها
إلى مدى نقاء النفس وطهارتها بالورع والتقوى
عن كل ما يخالف احكام اللّه ، وما يخرق نظام
الاسلام المقدس ، وقد أكد القرآن الكريم هذه
الحقيقة بقوله عزّ من قائل : (واتقوا اللّه
ويعلمكم اللّه واللّه بكل شيء عليم)(16)
، وقوله : (ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة)(17)
، فقدّم التقوى والتزكية على العلم والتعليم
، وفي قوله التالي أيضاً دلالةً على المراد : (يا
أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله
يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون
به)(18) . أما كيف يكون
من نتائج ضعف التقوى وغلبة الهوى ظهور حالات
التطرف ، فهذا ما تكفينا الاشارة فيه إلى بعض
تلك الحالات ، فمنها حالة النفاق في حمل
الشعارات ، والمزايدة من خلالها ، والغلو في
تحميلها مفاهيم وتفسيرات تبعدها عن روحها
الحقيقية وحدودها الواقعية ، مما يحصر الواقع
في زاوية هذه التحميلات الضيقة ، لتكون وسيلة
للسبق الثقافي والسياسي والامتياز الشكلي
على اخوة الدين والمصير ، ثم لا تلبث في ظرف
معاكس أن تنقلب الاية ، وبتطرف يصبح ما كان
تهمة وشيناً امتيازاً وزيناً ، وما كان
ضرورةً ووعياً انحرافاً وتخلفاً ، فلو كانت
التقوى في البين ، والخلق الاسلامي ضابطاً
حقيقياً للعمل الثقافي والسياسي ، لما لاح كل
ذلك في افق العاملين ، ولوجدت العقل إماماً
يُحتكم إليه ، "ومن لم يُهذّب نفسه لم ينتفع
بالعقل"(19) .
وحالات اخرى لا نستطيع في هذه
الكلمة المقتضبة التفصيل فيها ، ولكننا نشير
إليها على سبيل التذكرة ، كالدعوة إلى
العناوين الثانوية بتطرف ينسي صاحبه عنوان
دعوته الاول ، وهو اللّه وسبيله الوحيد
الاسلام العظيم ، حتى تجده في نهاية المطاف قد
استغرق في عالم الدعوة إلى الذات الفردية أو
الفئوية من حيث يشعر أو لا يشعر ، عندها يكون
مصداقاً لقول امير المؤمنين علي(عليه السلام)
: "... الهوى شريك العمى "(20)
، فيصاب بهوى الذات ، وتعمى بصيرته عن هدفه
الاساسي وهو اللّه والاسلام ، ومنها أيضاً
غلبة الجانب الذاتي في العمل الثقافي
والسياسي على الجانب الموضوعي ، فهو لا يرى
مصلحةً للعمل إلاّ من خلال نظرته الذاتية
للواقع ، وأفقه الخاص في العمل ، ولا مصلحة
عليا فوق كل ذلك ، ولا وجود للاخرين إلى جنبه
من اخوة الدين والطريق يشاطرونه الهم
والاجتهاد في تحقيق الاهداف العليا لمسيرة
العاملين كل العاملين ، بحيث تجدهم يُنكرون
ذواتهم في سبيل المصلحة العليا والهدف الكبير
، فيجعلونها في خدمتها ومن اجلها ، وليس العكس
، وهو أن تتكبّر نفسه ، وتتعاظم ذاته ، فيصبح
كالذين حكت عنهم الاية الكريمة : (إن الذين
يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم إن في
صدورهم إلاّ كِبر ماهم ببالغيه فاستعذ باللّه
إنه هو السميع البصير)(21)
.
العلاج
بقي الحديث فيما يحدّ هذاالتطرف ويعالج امره . قد يقول قائل إن الجواب
واضح من خلال ما تمّ عرضه من اسباب حصوله
وعوامل سريانه ، لكننا نقول إن الوقاية منه
شيء ـ وذلك بالاقلاع عن مقدماته واسبابه ـ
وعلاجه شيء آخر ، وفي الجواب على ذلك نميز بين
أمرين :
الاول : الجواب على ماهو
العلاج ؟ ، والثاني الجواب على ما الذي يحدُّ
سريانه؟
وهذان الامران يترتب احدهما
على الاخر ، فلو لم ينفع العلاج لاصل الداء ،
وجب الحدّ من السريان ، مَثَله بالضبط كمثل
المصاب بالتعفن في عضو من أعضائِهِ الحسّاسة
، فإن لم ينفع معها العلاج المبرئ من الداء ،
وجب ايقاف سريان العفونة ببتر الجزء المتعفّن
حفاظاً على باقي أجزاء الجسم واعضائه ، وهكذا
ما نحن فيه ; فعلاج التطرف يكمن في إرشاد
العناصر المصابة به إلى خطر ما هم فيه ، وإلى
ضرورة اخضاع العقل والنفس إلى عملية تطهير
وخلق جديد ، وإلى مراجعة نقدية شاملة لكل
المواقف والتصرفات ، في ظرف مناخ يضفي على
عملية التطهير والخلق هذه جواً من الفعل
والانفعال والشد والتحريك باتجاه التوازن
والحكمة في الفكر والعمل . ومما نقل عن الامام
علي(عليه السلام) في هذا المجال قوله : "ولا
تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ، ولا التماس
إعظام لنفسي ; فإنه من استثقل الحق أن يقال له
أو العدل أن يُعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل
عليه ، فلا تكفّوا عن مقالة بحق ، أو مشورةً
بعدل"(22) ، على أن
يتم ذلك في اجواء اجتماعية تعكس واقع هذا
السلوك التغييري نحو الحق والعدل ، وتحكيه
صورة حيّة ناصعةً ، وهذا المعنى نلمسه في
ارشادات الامام الكاظم(عليه السلام) لهشام بن
الحكم قائلاً له: "... يا هشام ، مجالسة اهل
الدين شرف الدنيا والاخرة ، ومشاورة العاقل
الناصح يُمنٌ وبركة ورشد وتوفيق من اللّه ،
فإذا أشار عليك العاقل فإيّاك والخلاف ; فإن
في ذلك العطب"(23) .
ويجب أن يكون علاجنا هذا
كعلاج الطبيب للمريض مليئاً بالعطف ، صبوراً
على ما يصدر منه ، حسناً كان أو قبيحاً ، ولا
يكلّ من المضي بالعلاج حتى مراحله النهائية ،
وفي قول الامام علي(عليه السلام) إشارة إلى
ذلك : "المسلم مرآة أخيه ، فإذا رأيتم من
أخيكم هفوة فلا تكونوا عليه إلباً ، وكونوا له
كنفسه ، وأرشدوه ، وأوضحوا ، وترفقوا به"(24)
، حتى إذا رأينا أن الداء بلغ مداه وعوامل
العلاج قد استنفدت اغراضها ، ولا ثمرة محسوسة
منه ، فهنا لا مناص من حماية الجماعة والامة
من خطر هذا المنحرف وتخريبه ، وذلك بالحجر
عليه وقطع كل سبيل له على الامة ، ومقاطعته
حتى يعود إلى رشده أو يكون عبرةً لمن اعتبر ،
ليمتاز الخبيث من الطيب والمصلح عن المفسد ،
وصدق رسول اللّه ومرشد الانسانية النبي محمد(صلى
الله عليه وآله) فيما قال : "لا تجلسوا عند
كلِّ داع مُدّع يدعوكم من اليقين إلى الشك ،
ومن الاخلاص إلى الرياء ، ومن التواضع إلى
الكبر ، ومن النصيحة إلى العداوة ، ومن الزهد
إلى الرغبة ، وتقربوا إلى عالم يدعوكم من
الكبر إلى التواضع ، ومن الرياء إلى الاخلاص ،
ومن الشك إلى اليقين ، ومن الرغبة إلى الزهد ،
ومن العداوة إلى النصيحة ، ولا يصلح لموعظة
الخالق إلاّ من خاف هذه الافات بصدقه ، واشرف
على عيوب الكلام ، عرف الصحيح من السقيم ،
وعِلل الخواطر ، وفِتن النفس والهوى"(25)
.
أما حالات التطرف العامة التي
تظهر على الامة أو بعض فئاتها وفصائلها ، فلا
يختلف علاجها في الجوهر عن علاج الحالات
الفردية ، من ضرورة الترشيد الاجتماعي إلى
المدى الذي لابد فيه من الحجر وقطع دابر الجزء
الفاسد منه ، ويبرز هنا بشكل اساسي دور
القيادة الرشيدة في العلاج وحسم الموقف ،
وادارة دفة الواقع باتجاه التكامل على صعيدي
الوعي والرشد التطبيقي للرسالة . وتبقى
الحقيقة القرآنية الخالدة درساً وضابطاً
لعملية الهدم والبناء في منهج التغيير للامة :
(واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة
واعلموا أنّ اللّه شديد العقاب)(26)
.
ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه
العلي العظيم والحمد للّه رب العالمين
* * *
(1) المنجد،
حرف الطاء، كلمة طرف .
(2) لسان
العرب، حرف الفاء كلمة طرف .
(3) البقرة :
143 .
(4) البحار
104 : 370 .
(5) المائده
: 77 .
(6) غافر : 83 .
(7) فصلت : 5 .
(8) الاعراف
: 198 .
(9) غرر
الحكم : 223 .
(10) م . ن .
(11) م . ن .
(12) م . ن .
(13) البحار
71 : 342 .
(14) البحار
77 : 201 ـ 221 .
(15) البحار
78 : 195 .
(16) البقرة
: 282 .
(17) الجمعة
: 2 .
(18) الحديد
: 28 .
(19) غرر
الحكم : 293 .
(20) نهج
البلاغة، كتاب 31 .
(21) غافر :
56 .
(22) نهج
البلاغه ، خ 216 .
(23) تحف
العقول : 293.
(24) البحار
10 : 97.
(25) البحار
2 : 52 .
(26)
الانفال : 25 .