رأي
منهجية الحوار في الاسلام
* جعفر عبد الرزاق (هولندا)
بدأ الحوار قبل وجود البشرية ، ففي اللحظة التي أعلنفيهاسبحانه وتعالى أنه سيخلق بشراً استفسرت الملائكة عن هذا المخلوق الجديد .
استجابت لأمر اللّه فسجدوا كلهم إلاّ إبليس رفض الانصياع للأمر الالهي ، وهنا بدأ
حوار آخر بين اللّه وإبليس . نقاش واحتجاج انتهى بتأجيل العقاب الالهي حتى يوم
القيامة .هنا يمكننا أن نقارن بين الإله الجبّار يبدو مستعداً للحوار
والجدال والمناظرة ، وبين هذا الإنسان العاجز الذي يرفض الحوار مع الآخر . القوي
مستعد للحوار والضعيف يرفضه ، وهذا بداية مسار البشرية الذي اختطه الأنبياء(عليهم
السلام) .ما هو هدف الحوار؟ هل هو مجرد إيصال الأفكار المختلف عليها
إلى رؤية واضحة ، من أجل إيجاد قناعة مشتركة حولها ، ثم توحيد المواقف تجاهها؟ أي
هل يقتصر الحوار على أداء الجانب الفكري أو العقائدي من القضية ؟ أم يتضمن جوانب
أخرى ؟ الحوار هو الإلتقاء بين طرفين لهما وجهات نظر مختلفة وقناعات متباينة . وقد
يحمل كل طرف عقدة تجاه الآخر بسبب الأجواء المشحونة بالتعصب والعداء . فالحوار
يجعل كلاًّ منهما يلتقي الآخر ، يحاوره ، يطرح أفكاره عليه ، ببذل جهوده لإقناعه.
هذه العملية تساهم في تقليص حدة التوتر والتعصب تجاه أحدهما للآخر حين يلتقون على
مفاهيم مشتركة تبعث مشاعر الود والطمأنينة .الحوار في الإسلام يحمل صفة تأسيسية تطغى على مجمل النشاطات
الفكرية والعقائدية . فالحوار أسلوب حضاري يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة وفي تغيير
القناعات الخاطئة باتجاه التكامل والحق. والحوار أسلوب عملي في حركة
الصراع في القضايا الفكرية والسياسية والإجتماعية لأنه أفضل وسيلة يستطيع الإنسان
بوساطتها التعبير عن أفكاره وآرائه في رفضه أو قبوله لأفكار الآخرين ، في موقع
الإختيار والحرية .والقرآن الكريم كتاب حوار ، ينفتح على المشركين والملحدين
والمنافقين وأهل الكتاب وكل (الآخر) المغاير لنا في الدين أو المذهب أو الاجتهاد .
لذلك يجب أن نعمل على ايجاد مجتمع الحوار الذي ينفتح فيه الإسلام على كل الأفكار
المضادة ، وينفتح المجتمع المسلم على المجتمعات الاُخرى . ولا بد من تحصين الحوار
بالضوابط التي تمنع استغلاله لأغراض أخرى ، فإن وجود المشاكل فيه لا يعني إلغاءه ،
بل يعني العمل على دارسة هذه المشاكل ، ليجتمع لنا الحوار والمسؤولية والحرية
المنضبطة في نطاق النظام العام للأمّة .إننا نواجه الكثير من الإتهامات التي تتحدى الصورة الحقيقية
للإسلام في عقلانيته وموضوعيته وقوته الفكرية في مواقع الحوار لترسم له صورة الدين
الذي يرفض العقل والمنطق . إن الحوار قادر على مواجهة الفكر المضاد والحركة
المضادة ، وهو الذي يقرر مصير المواجهة الفكرية والسياسية والفلسفية مع (الآخر) .إن غياب الحوار كممارسة أصيلة بين أبناء الأمة الواحدة ،
بين الحاكم والمحكومين ، أدى إلى نمو الإرهاب الفكري والإختناق السياسي لدى الشعوب
المسلمة . وغياب الحوار يعني استبداله بالعنف الذي تمارسه الحكومات ، ويؤدي إلى
عنف مضاد للتيارات السياسية والفكرية المحرومة من حق التعبير عن آرائها وأفكارها
وموافقها .إن الذي يرفض الحوار مع الآخر يعاني من ضعف فكري وعجز
أيديولوجي . فهو لا يملك الحجة القوية التي تؤكد رأيه أمام الخصم ، أو لا يملك
المنطق العقلاني الذي يدحض حجة الرأي المخالف له، فيضطر هذا الضعيف في فكره وحجته
، لتغطية ضعفه بالأساليب التهويلية بإثارة الإتهامات التي لا ترتكز على أساس ، أو
الإنفعالات العاطفية التي تثير الواقع الشعبي السطحي ، وتدفعه إلى اتخاذ المواقف
الغوغائية ضد الفكر الجديد .ولعل من مشاكل حركة الحوار في المجتمع ، تلك العصبية الحادة
التي يعيشها الناس في التزامهم بموروثاتهم الفكرية ، وعاداتهم التقليدية،
أو في مواقفهم الحادة في خطوطهم الإجتماعية أو السياسية بفعل العقلية الحادة التي
تواجه الفكر الآخر أو الموقف المضاد بطريقة انفعالية لا بطريقة عقلانية . وهذا ما
يعانيه الواقع الإسلامي من فقدان روحية الحوار داخل تنوعاته المذهبية ، في ما
يلتزمه هذا المذهب أو ذاك من المفردات المتصلة بتفاصيل العقيدة أو الشريعة ، لأن
ذلك قد يمثل انتقاصاً من حالة الثبات التي يريدها المذهبيون للخطوط الفكرية أو
الفقهية ، لأن الحوار قد يؤدي إلى نوع من الإهتزاز الذي يتهدد بالسقوط تحت تأثير
الحجة القاطعة التي قد تثبت بطلانها أو ابتعادها عن الحقيقة .الحوار والجدل
يمثل الحوار المعنى الأشمل للنقاش بين طرفين حول مختلف
القضايا. أما الجدل فيتضمن معنى الصراع الفكري والعقائدي . وردت مفردة
(الحوار) ثلاث مرات في القرآن بصيغة (يحاوره) (الكهف : 34 و37) ،
وبصيغة (تحاوركما) (المجادلة : 1) . أما مفردة (الجدل) فقد وردت 27 مرة . ويعود
ذلك إلى طبيعة الواقع الذي عاشه الاسلام ، فقد واجه التحديات الفكرية داخل الذات
الانسانية من شرك وكفر وضلال ونفاق . كما واجه التحديات الخارجية من القوى الدينية
والاجتماعية والسياسية التي كانت تسيطر على حياة الانسان في المجتمعات التي لم
تؤمن بالاسلام .وفي الوقت الذي يؤكد القرآن الكريم على أهمية الحوار ; يرفض
فيه الجدل على أساس كونه قائماً بذاته ، فيتحول محترفه إلى شخص جدلي ، لا هم له في
المجال الفكري إلاّ أن يتغلب على خصمه ، أو أن يبقى يلف ويدور لإشغال الفراغ بمجادلات
تضيع الوقت وتبتعد عن الهدف . فهذا النوع من الجدل هو المرفوض
(وقالوا أآلهتنا
خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلاّ جدلا بل هم قومٌ خصمون)([1]) .إن الحوار الذي يستهدفه الاسلام يتضمن جانبين :1 ـ الدفاع ضد الفهم السيء للاسلام كنتيجة طبيعية للممارسات
الفكرية أو السلوكية الخاطئة المحسوبة على الاسلام ، أو العرض الخاطئ . ونعاني
اليوم في الاعلام الغربي الكثير من هذا الفهم الخاطئ سواء كان مقصوداً أو عفويا .2 ـ الدفاع ضد التحديات والإشكالات التي يثيرها الآخرون ضد
الاسلام ومعالجته لمشاكل الحياة وقضايا الفكر والعقيدة .منهج الحوار والجدل
هناك عدة
أمور يجب مراعاتها في الحوار وهي :1 ـ الاتفاق على الفكرة أو الموضوع الذي يرغب الطرفان في
مناقشته ، سواء نفيه أو اثباته ، لأن الجهل بالفكرة وبتفاصيلها يحول الحوار إلى
اسلوب من الشتائم والمهاترات التي يُغطي بها كل طرف ضعفه وعجزه عن الوقوف موقف
المدافع عن فكرته . بينما تجعل المعرفة كلا منهما واعياً لما يطرح وما يستقبل من
فكر ومستعداً له ، ومهيئاً أدواته وأسلحته من حجج وإثباتات ونصوص وغيرها
(إن
الذين يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلاّ كبر ماهم ببالغيه
فاستعذ باللّه انه هو السميع البصير)([2]) .2 ـ الاسلوب السلمي والهادئ في العرض والنقد بعيداً عن
العنف والحدة. (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحاً وقال إنني
من المسلمين)([3])
.3 ـ الأدب في الكلام وتحاشي الكلمات التي تجرح الخصم وتسيء
إلى كرامته أو شرفه أو تسفّه عقيدته ، أو تؤدي إلى سبّه وشتمه
. (اُدع إلى سبيل
ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن
سبيله وهو أعلم بالمهتدين)([4])
.4 ـ عدم التقول على الطرف الآخر وطرح مفاهيم وآراء منسوبة
إليه وهو يرفضها أو استخدام نصوص وأحاديث يشك أنها ضعيفة وغير معتبرة في عقيدته أو
مذهبه أو تَوجُهِه السياسي .5 ـ عدم استخدام مصادر خصوم الطرف الآخر لأنها تتضمن آراء
غير حيادية بل عدائية في الغالب ، بل يجب استخدام مصادر الطرف الآخر مما يعتقد
أنها صحيحة وموثوقة لديه .6 ـ عدم احراج الخصم بشكل يضطر معها للعناد حفاظاً على
كرامته وموقعه ، بل محاولة اقناعه بيسر وسهولة ، ومنحه وقتاً كافياً للتفكير
والتأمل ، فلسنا معه في حلبة صراع بل مناقشة أفكار .7 ـ استخدام الأمثلة التي تقرّب الفكرة إلى ذهن الطرف الآخر
لتبسيط القضايا المعقدة .8 ـ لا يعني وجود طرفين في مناظرة أو حوار أن أحدهما يحملكل
الحقيقة والآخر لا يحمل شيئاً من الحق ، بل هناك حقائقيجب على الطرف
الآخر أن يسلّم بها لتكون قاسماً مشتركاً فيالمرحلة الأولى من الحوار
، ثم يناقشان ما اختلفا عليه بهدوءوصبر ولين .أمثلة من الواقع
لمّا كان حضور هذه الجلسة من المثقفين والجامعيين فقد
ارتأيت أن أعرض بعض الأمثلة في أساليب الحوار أو مناقشة فكر الآخر ونقده ، بما
تحمله تلك الأساليب من ايجابيات وسلبيات ، من خلال بعض المؤلفات التي عرضت فكر
الآخر أو انتقدته لتتبع مدى الدقة والموضوعية والمنهج العلمي الذي ندعو إليه .
أولاً : نقد النظريات
المادية
وأبرز المؤلفات في هذه المحاور هما كتابا الشهيد السيد محمدباقر الصدر(قدس سره) (اقتصادنا وفلسفتنا) حيث يعرض السيد في الأول المذاهب
الاقتصادية للرأسمالية والماركسية ثم يقارنها بالاُطروحة الاسلامية في الاقتصاد .
يتميز عرض السيد بالدقة والموضوعية معتمداً المصادر المعروفة لهذه النظريات ،
مثلاً قد اعتمد على الترجمة العربية للمؤلفات المتعلقة بالماركسية التي كانت
تصدرها دور النشر السوفييتية . كما أنه اعتمد على عدة ترجمات لكتاب رأس المال
(بعضها مترجم من الألمانية وهي اللغة الأصلية للكتاب) .لقد بلغت دقة السيد وموضوعيته في عرض الماركسية حتى أن
الكثير من الشيوعيين العراقيين كانوا يوصون أتباعهم بقراءة ما عرضه السيد
للماركسية في كتاب (اقتصادنا) دون قراءة الجزء المتعلق بالرد عليها . لأن الكثيرين
من الماركسيين لم يفهموا الماركسية بالدقة التي فهمها السيد الصدر(قدس سره) وعرضها
في كتابه . ثم يردّ السيد على جميع مفردات الماركسية ردّاً علمياً هادئاً ، يعترف
فيها أحياناً بالإنجاز العلمي لبعض المفكرين رغم أنه كان مشغولاً بهدمها ، لكنها
الأمانة العلمية . ويمتاز السيد بالتركيز على الطرح الاسلامي في تفنيد النظريات
المادية ، وتحاشي التميز المذهبي ، حتى أن بعض الاخوة المغاربة قد أخبرني أنه حينما
درس كتاب اقتصادنا لم يعرف مذهب الكاتب إلاّ بعد أن أطلع على مؤلفات أخرى .ولا يفوتني أن أذكر كتاب (قصّة الايمان) للشيخ نديم الجسر ،
وهو لبناني سني ، قد ناقش بهدوء وموضوعية الأفكار المادية . ولم يمنعنا انتماؤه
المذهبي للإستفادة من كتابه ، كما لم يمنع من دراسة مؤلفات غيرهِ من رواد الثقافة
الاسلامية .
ثانياً : الرد على أهل
الكتاب
سأختار كتابين في هذا الصدد : الأول لمؤلف شيعي هو كتاب(الرحلة المدرسية) للشيخ محمد جواد البلاغي الذي رد فيه على التوراة والإنجيل وما
ورد فيهما من تحريف وتناقضات . هذا الرجل لم ينقل من ردود جاهزة كما يفعل الكثيرون
بل تعلم اللغة العبرية وكان يجيد الفارسية والانجليزية ، ودرس كتب العهدين الجديد
والقديم ، وراجع عدّة طبعات وبمختلف اللغات كي يتجنب الفهم الخاطئ للنصوص
التوراتية والإنجيلية . يناقش الشيخ البلاغي العقائد اليهودية والمسيحية من خلال
حوار مصطنع بين (عمانوئيل) الشاب الذي يبحث عن قناعات جديدة لفهم المسيحية ووالده
(ابن اليعازر) وبين قسّ يأتي لزيارتهما . يتميز منهج البلاغي بالرد العلمي الهادئ
المستند على النصوص المسيحية واليهودية ، والأدب الجمّ في السؤال والجواب ، دون
تشويه أو إساءة ، مع طرح المسلّمات العقلية والحجج الجدلية في مناقشة القضية
المعروضة .والكتاب الآخر هو (المناظرة الحديثة) بين الشيخ أحمد ديدات
، وهو سني من جنوب أفريقيا ، والقسّ سواجارت المسيحي الأميركي . وفي هذه المناظرة
يحتج ديدات بالكتاب المقدس والطبعة الأكثر وثاقة والتي تدعى (نسخة الملك جيمس)
المطبوعة أصلاً عام 1611م . ثم يناقش المخطوطات القديمة للإنجيل والتي يعود تاريخها
إلى 300 سنة بعد المسيح ، حيث يوضح مدى التحريف والحذف الذي تعرضت له بعض عبارات
الإنجيل . وكان القسّ سواجارت قد أعلن أنه (إذا احتوى النص على كلمة محرفة أو كلمة
في غير موضعها ، فالواجب يقضي بإهمال الكتاب كله) وهذا ما لم يفعله رغم أن الشيخ
ديدات أورد له عدداً كبيراً من الكلمات المحرفة .يؤكد ديدات في مناظراته دائماً (أن هذا الإنجيل هو من
طباعتكم ، فلم نطبعه نحن أو ننشره ، كما أنه لم يطبعه اليهود) أي أن المصدر الذي يعتمد
عليه في مناظرته هو مصدر موثوق لدى الطرف الآخر . فحين يحتج على القسّ بما ورد في
الكتاب الموثوق لديه ، فإما أن يقتنع بما ورد فيه ثم يذعن للحق ، أو يدعي أن هذا
الكتاب غير صحيح أو غير موثوق لديه .
ثالثاً : الردود بين
السنّة والشيعة
وهذا الأمر ذو حساسية خاصة نظراً لثبوت القاسم المشترك بين المذاهبالاسلامية بالايمان بالتوحيد والنبوة والمعاد والقرآن والقبلة الواحدة ومصادر
التشريع والصوم والصلاة والحج والزكاة والخُمس ، رغم وجود اختلافات جزئية في
التفاصيل . وقد كان للصراعات الطائفية في العهود الماضية دور في تأليف الكثير من
كتب الردود المذهبية والكلامية التي تتميز بالحدة والعصبية والتسفيه والشتم وغيرها.
وللأسف جاءت الأجيال المعاصرة لتنظر إلى تلك المؤلفات بقدسية وأنها من التراث
الإسلامي العريق، ليس لمحتواها العلمي بل لقدمها وسمعة مؤلفيها التاريخية ، فصارت
جزءً من متبنيات المسلمين . وأخذ البعض يكرر ما ورد فيها ، وينتهج نفس الأساليب
الممجوجة التي تسخر من الآخر وتتهمه بشتى الاتهامات .سأتطرق لبعض المؤلفات المنصفة وغير المنصفة التي كتبها
السنّة عن الشيعة وبالعكس كي نتعرف على مكامن الخلل . ولا يسعنا عرض العديد من
المؤلفات ، فهذا غير يسير ، لذلك سأنتقي بعض المؤلفات التي توضّح الفكرة .1 ـ يعرض الدكتور فهمي الشناوي ، وهو مصري سني ، في كتابه
(الفكر السياسي عند الشيعة) لمفردات الفقه السياسي الشيعي في قضايا الحكم والحاكم
والامام والحكومة والمجلس التشريعي والدستور الاسلامي والانتخابات وغيرها . ويتميز
كتابه بالموضوعية والعرض الصحيح للفكر السياسي الشيعي من مصادره . ولا يخفي الكاتب
اعجابه بالموضوع حيث يعبر عن نفسه في نهاية بحثه وكما جاء في مقدمته (فأنا أشبه
بالمستشرق الذي يكتب عن الاسلام دون أن يكون من أهله مع اختلاف كبير ، هو أنني
عندما انتهيت من دراسة فكر الشيعة السياسي ، وجدت أنه هو الفكر السياسي الاسلامي ،
حتى أنني أقرر أنه من الظلم أن يحمل هذا الكتاب عنوان الفكر السياسي عند الشيعة ،
والأحق أن يكون اسمه الفكر السياسي الاسلامي) .2 ـ ألف السيد مرتضى العسكري مجموعة كتب تتطرق لقضايا
الخلافات المذهبية من وجهة نظر تاريخية وعقائدية ، ومن بين كتبه كتاب (عبداللّه بن
سبأ وأساطير اُخرى) أثبت فيه أن هذه الشخصية مجرد أسطورة ولا وجود تاريخياً لها ،
وأنها من مختلقات سيف بن عمر التميمي ، ثم يتابع مسيرة هذه الاُسطورة في كتب
التاريخ المعتبرة القديمة (الطبري ، ابن عساكر ، أبو الفداء ، الذهبي ، ابن الأثير،
ابن كثير وابن خلدون) أو المتأخرين (محمد فريد وجدي ، البساني ، أحمد أمين ، حسن
ابراهيم حسن) والمستشرقين (فان فلوتن ، نيكلسون ، دونالدسن، ولهاوزن ،
ودائرة المعارف الاسلامية) . وتبلغ الدقة العلمية عند السيد العسكري بأن يضع مخططا
يتابع فيه انتقال الرواية من مؤرخ إلى آخر ، وكيف ينقل أحدهم عن الآخر دون تمحص أو
روية ، حتى تنتهي الرواية بالطبري الذي يرويها عن سيف بن عمر ، ليستدل بها في
النهاية أنه الراوي الوحيد لها .بعد ذلك يخطو السيد العسكري خطوة أخرى حين يتتبع ترجمة سيف
بن عمر في كتب الرجال السنّية أمثال «لباب الأنساب» لابن الأثير ، و«الاشتقاق»
لابن دريد ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر العسقلاني وغيرها ، ثم يُقيّم أحاديث سيف
من وجهة نظر حديثية ، حيث يتابع ما قاله عنه مؤلفو الأسانيد والصحاحات والتواريخ
وكتب الرجال من المتقدمين من السنّة ، والتي يجمعون فيها على أن سيف بن عمر هو
كذاب ، متروك الحديث ، ليس بثقة ، ضعيف ، يروي الموضوعات وينسبها للثقاة ، اُتهم
بالزندقة ، إذن هذا الرجل بشهادة أهل السنّة وضاع للروايات والقصص .ثم يتابع السيد العسكري الروايات التي وضعها أو غَيّرها سيف
بن عمر والتي وردت في كتب الطبري وابن عساكر ، وقارن بينها وبين الروايات التي وردت
بطرق أخرى غير سيف بن عمر وبين ما فيها من وضع واختلاق واختلاف .وهكذا نجد السيد العسكري يلتزم بمنهج علمي صارم يتابع الحدث
التاريخي في بطون الكتب ، ويحقق في رواته ودرجاتهم في الجرح والتعديل ، كي يصل
بالنهاية إلى رد هذه الاُسطورة بشكل لم يجرؤ أحد على رده رغم مرور 45 عاماً على
صدور أول طبعة له . ويورد السيد العسكري في نهاية الجزء الأول بعض الردود العلمية
النزيهة التي جاءته ثم يرد عليها بهدوء وبنفس المنهج .3 ـ قام الدكتور حسن حنفي بتأليف كتاب قيم من خمسة مجلدات،
استغرق تأليفه عشر سنوات ، وهو سلسلة (من العقيدة إلى الثورة) يتطرق فيه إلى علوم
الكلام والتوحيد والفقه ، ومناهج الفِرق الاسلامية التي تناولت موضوعات العلم
والعقائد والنظريات الفلسفية ، ومفاهيم الوجود والعدم وصفات اللّه ، والتجسيم
والتنزيه والعدل والقضاء والقدر ودور العقل والقبيح والحسن ، والوحي والنبوة
والمعجزة ، واعجاز القرآن ، والمعاد والقيامة والروح ، واليوم الآخر والجنة والنار
، وقضايا الحكم والامامة وجوبها وثبوتها .والدكتور حنفي اُستاذ جامعي وله دراسات وندوات ومؤتمرات في
العالم . والكتاب جهد كبير بذله الكاتب في تتبع الآراء والنظريات للفِرق الاسلامية
أثناء استقصاءه لكل مفردة اسلامية . ورغم أنه اعتمد على مصادر كل فرقة اسلامية
كالأشاعرة والمعتزلة إلاّ أنه لم يعتمد على مصدر شيعي واحد ، رغم أنه غالباً ما
يورد آراء الشيعة في المسائل التي يتعرض لها في دراسته القيمة وينسب تلك الآراء
إلى الشيعة. لقد خالف الدكتور المنهج العلمي الذي يؤكد على الاستشهاد
بأقوال علماء المذاهب أنفسهم ومن خلال مؤلفاتهم الموثقة التي يؤمنون بها ، لكنه
اعتمد على كتب أعدائهم وخصومهم الذين ما فتئوا ينسبون إليهم كل شبهة أو ضلالة أو
كفر أو مروق عن الدين . ترى لماذا أنصف المعتزلة وهم فِرقة بائدة لا وجود لها
اليوم ولم ينصف الشيعة المعاصرين له . هل كان السبب عدم توفر المصادر الشيعية لدى
الكاتب ؟ فهذا بعيد عن الواقع لأن كتب الشيعة متوفرة في المكتبات في أنحاء العالم
. إن الكاتب كان متعمداً أن لا يعتمد على الكتب الشيعية في نقل آراء الشيعة لأنه
يذكر ذلك صراحة في نهاية الجزء الخامس ص 555 ما نصه (ولم نعتمد على العقائد
الشيعية ونصوصها لأنها لا توجد في وعينا القومي كجزء من التراث الحي ولغلبة
الاتجاهات الصوفية والفلسفية عليها) .إذن القضية قومية ، وهو ايحاء أن الشيعة ليسوا من العرب ،
كما أنه منهج اقصائي في تغييب الآخر المخالف مذهبياً حتى عن البحث العلمي
والأكاديمي ، وكيف يمكن أن تعبر عقائد المعتزلة عن (التراث الحي) وهي فِرقة منقرضة
، بينما لا يعبر المذهب الشيعي عن هذا التراث وهو المنتشر بين أكثر من 150 مليوناً
من البشر ، بين العرب وغير العرب ؟لقد التقيت الدكتور حسن حنفي في ندوة فكرية عقدت في 30 مايس
1997 في روتردام ، وقد طرحت عليه ذلك الإشكال وقلت له : كيف يمكنك وأنت رجل
أكاديمي أن تعتمد آراء الشيعة من كتب البغدادي والشهرستاني والأشعري وابن حزم وهم
خصوم الشيعة ؟ فأجابني بهذا الجواب الدبلوماسي : أنا كالنخلة ، فإذا وجدت فيّ
اعوجاجاً قوّمني . أكتب أنت الجزء السادس للسلسلة للرد على حسن حنفي . فقلت هذا لا
يبرر الخطأ الذي ارتكبته ، وكيف تقوّم النخلة المعوّجة . فغير الموضوع قائلاً :
أنا كتبت مقالاً خاصاً عن المفكر الاسلامي السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) ، وزرت
ايران .. .4 ـ هذا المنهج الخاطئ في عدم اعتماد كتب الطرف الآخر حين
مناقشته ، مازال باقياً للأسف بين الأكاديميين . فهذا اكاديمي سعودي اسمه ناصر بن
عبداللّه القفاري ، يؤلف رسالة دكتوراه تقدم بها إلى جامعة الامام محمد بن سعود
الاسلامية بعنوان (أصول مذهب الشيعة الامامية الإثني عشرية ، عرض ونقد) (الطبعة
الثانية 1994) . وقد عاهد الكاتب نفسه بالمنهج العلمي بقوله (قد عمدت في بداية
رحلتي مع الشيعة ألا أنظر في المصادر الناقلة عنهم ، وأن أتعامل مباشرة مع الكاتب
الشيعي حتى لا يتوجه البحث وجهة أخرى . وحاولت جهد طاقتي أن أكون موضوعياً ضمن
الإطار الذي يتطلبه موضوع له صلة وثيقة بالعقيدة كموضوعي هذا ... والموضوعية
الصادقة أن تنقل من كتبهم بأمانة ، وأن تختار المصادر المعتمدة عندهم ، وأن تعدل
في الحكم ، وأن تحرص على الروايات الموثقة عندهم أو المستفيضة في مصادرهم ما أمكن)
. إذن الزم المؤلف نفسه بنقل آراء الشيعة من مصادرهم ، فهل التزم بهذا الأمر في
كتابه؟ للأسف كلا . ففي موضوع (التجسيم) (ج 2 ص 527 ـ 528) ينقل
(الشيعة أربع ضلالات) ، 1 ـ الغلو في الإثبات وما يسمى بالتجسيم ، 2 ـ تعطيل الحق
جل شأنه من أسمائه وصفاته ، 3ـوصف الأئمة بأسماء اللّه
وصفاته ، 4 ـ تحريف الآيات بدافع عقيدة التعطيل للأسماء والصفات . ثم يبدأ بنقل
آراء منسوبة «للروافض» (والأجدر أن يقول الشيعة الامامية ولا يستخدم إسماً يلمز من
الطرف الآخر) ينقلها عن (منهاج السنة) لابن تيمية ، و (مقالات الاسلاميين) للأشعري
، و(الفَرق بين الفرق) لعبد القاهر البغدادي وكل من خصوم الشيعة . هكذا ولم يذكر
أي مصدر شيعي مع أنه يذكر في مقدمته أنه قرأ كتاب (الكافي) للكليني الذي يتضمن
الفصل الأول منه واسمه (كتاب التوحيد) الرد على المجسمة وإبطال الرؤية والنهي عن
الجسم والصورة وتفاصيل أخرى تبين موقف الشيعة بهذه القضايا .وهناك أمر آخر ينزلق إليه الكاتب وهو اجتزاء الرواية
الشيعية بالقدر الذي يخدم أهدافه . فلكي يثبت موضوعيته وأنه يأخذ من مصادر الشيعة
يورد سطراً واحداً من رواية جاءت في كتاب (التوحيد) للشيخ الصدوق حين سأل أحد
أصحاب الامام الصادق(عليه السلام)، اسمه أبو بصير : هل يرى المؤمنون اللّه عزوجل
يوم القيامة ؟ فقال(عليه السلام) : نعم . إلى هنا ينقل الأكاديمي هذه الرواية التي
يوحي هذا الجزء المقتضب منها بالرؤية العينية في حين أن بقية الرواية تشير إلى
الرؤية بالبصيرة والعقل. كل ذلك من أجل أن يثبت المؤلف أن الشيعة أيضاً وأئمتهم
يؤمنون بالرؤية البصرية للّه عزوجل . وهذا خلاف الأمانة العلمية والنقل الصحيح من
مصادرهم .5 ـ وقد نثير مشاعر البعض حين نتطرق إلى الكتب العدائية
المليئة بالحقد والتعصب الأعمى ، والتي تدعمها بعض الجماعات السنّية التي لا هم
لها إلاّ محاربة المذهب الشيعي ولو بالافتراء والكذب والبهتان . خذ مثلاً كتاب
(مختصر التحفة الإثني عشرية) الذي ألفه عبد العزيز غلام حكيم الدهلوي (الهندي)
واختصره السيد محمود شكري الآلوسي (العراقي) الذي قدمه هدية للسلطان عبد الحميد
الثاني . ومازال الكتاب يطبع ويوزع مجاناً في المساجد والمكتبات . في الباب الأول
(في ذكر فرق الشيعة وبيان أحوالهم وكيفية حدوثهم وتعداد مكايدهم) يذكر فيه ثلاثاً
وثلاثين فرقة شيعية ، كثير منها لم يسمع بها أحد كالسبئية والمفضلية والسريغية
والبزيغية والكاملية والجناحية والبيانية والمنصورية والغرابية والذبابية
والدَّمية والمقنعية بل وحتى البهائية . وبعضها مجرد رأي أو مقولة منسوبة إلى شخص
يدعى أنه شيعي ليصبح هذا الفرد فرقة شيعية لها أتباع وأنصار ومؤيدون !! وأما
الآراء التي ينسبها لهذه الفرق المختلقة فهي عقائد غريبة وقبيحة وفيها شرك وغلو
تجعل القارئ ينفر من كل ما له صلة بالشيعة ، فهذا هو الغرض الرئيسي للكتاب.ولا يكتفي الكاتب بنسبة تلك العقائد الباطلة إلى الشيعة بل
يفتري عليهم حين يتحدث عن (سورة الولاية) التي (يزعمون أنها سورة طويلة قد ذكر
فيها فضائل أهل البيت) ، بل وينشر صورة لهذه السورة المزعومة يقول أنها وردت في
كتاب (فصل الخطاب) للطبرسي وقد أخذها الدهلوي عن مجلة الفتح التي أخذتها عن المستشرق
دايفز براين والمستشرق الألماني نولدكه . وقد نقل هذه الصورة الكاتب محب الدين
الخطيب في كتابه (الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الامامية الإثني
عشرية) والذي ترجم إلى الانجليزية .ومن الكتّاب المتعصبين الباكستاني إحسان إلهي ظهير الذي ألف
كتاباً بعنوان (الشيعة والسنة) رداً على دعوات الوحدة الاسلامية ، تلك الدعوات التي
(كثر استعمالها حتى كاد أن ينخدع بها السذّج من المسلمين لو ما عرفوا ما وراءها من
كيد ودس ودهاء . فليست هذه الكلمة، إلاّ كلمة حق أريد بها باطل)
(المقدمة) . وفي الصفحة الأولى يطالعنا هذا الكاتب بمنهجه الذي يصف فيه الشيعة
بأنهم (ربيبة اليهود ، وفصيلتهم في بلاد الاسلام ... يريدون أن يترك المسلمون
عقائدهم ومعتقداتهم في اللّه وفي رسوله وأصحابه الذين جاهدوا تحت رايته ، وأزواجه
الطاهرات اللائي صاحبنه في معروف ، وفي الكتاب الذي أنزله اللّه عليه من اللوح
المحفوظ ، نعم يريدون أن يترك المسلمون كل هذا ، ويعتنقوا ما نسجته أيدي اليهودية
الأثيمة من الخرافات والترهات في اللّه) ص 6 . وهدف الكاتب كما يقول كاتبه : (وقد
أثبتنا في مختصرنا هذا أن الشيعة ليست إلاّ لعبة يهودية ، ناقمة على الاسلام ،
وحاقدة على المسلمين ، وعلى رأسهم رسول اللّه) ص14 .هذه هي الموضوعية ، وهذا هو الأدب الذي علّمناه القرآن
الكريم ، وهذه هي المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة . وهذا هو الحكم المسبق على
مذهب اسلامي عريق بأئمته(عليهم السلام) وتاريخه وعلمائه وفقهائه ومؤلفاته وتصانيفه
واجتهاداته ، والإدانة قبل المحاكمة ، والشتائم والسباب بدل النقد الهادئ المؤدب .ولا نريد أن ندخل في القضايا الخلافية في العقائد لكننا نشير
إلى قضية تأريخية واضحة ينكرها إلهي ظهير حيث يدعي أن (أكثر أهل فارس في الشيعية
لما يجدون فيها التسلية بالسباب على الصحابة ، عمر وعثمان ، فاتحي ايران ومطفئي
نار المجوسية فيها) ص 56 ، ناسياً أن ايران بقيت لأكثر من ألف سنة سنّية المذهب ،
وبرز فيها كبار فقهاء وعلماء السنة الذين يرجع إليهم الكاتب أمثال البخاري ومسلم
النيسابوري وأبو داود السجستاني ومحمد بن عيسى الترمذي وأبو عبداللّه النسائي وابن
ماجة القزويني وأبو حنيفة النعمان والطبري والرازي المفسر وغيرهم ، مما لا يسع
المجال لذكرهم ، ولم تدخل ايران مذهب التشيع إلاّ في القرن السادس عشر الميلادي
بعد وصول الصفويين إلى السلطة .إذن كانت ايران أكثر من ثلثي تاريخها سنّية المذهب . بينما
يتصور إلهي ظهير أنها دخلت التشيع منذ صدر الاسلام ، ويبني على هذا الرأي الخاطئ
استنتاجاته وتأويلاته التي ينقلها من المستشرق الانجليزي جورج براون ص57.6 ـ قبل تسعين عاماً سافر السيد عبد الحسين شرف الدين
العاملي إلى مصر والتقى شيخ الأزهر آنذاك سليم البشري ، وتداولا أمور الأمة
الاسلامية والخلافات المذهبية ، وأنه لا داعي لتلك الخصومة المستمرة . واتفقا على
معالجة الخلاف باُسلوب علمي رصين من خلال أسئلة خطيّة يطرحها الشيخ البشري ويجيب
عليها خطياً السيد شرف الدين على أن يدعم أجوبته بالعقل وبالنقل الصحيح عند
الفريقين . تجمعت تلك القصاصات وسمي بالمراجعات وعددها 112 مراجعة ، والتي بدأت في
6 ذي القعدة 1329 (29 تشرين الأول / اكتوبر 1911) وانتهت في 2 جمادي الأولى 1330
(19 نيسان / ابريل 1912) .كشف العالمان الجليلان عن قمة في أدب الحوار وخلق المناظرة
الاسلامية ، فتتعجب من عبارات الإطراء والثناء كل واحد للآخر وهما يخوضان قضايا
تاريخية وعقائدية حساسة ، في رحلة مشتركة بحثاً عن الحقيقة . وهذه المناظرات تمثل
قدوة لكل من يريد خوض غمار الجدل مع الآخرين . ويتكامل منهج العالمين الجليلين
بالإحتجاج بالأدلة القوية من المصادر الموثوقة لدى الطرفين ، فلا اسفاف ولا تهريج
ولا كتمان حق ، ويبحر السيد شرف الدين برفيقه في بحار العقائد والتفاسير والتواريخ
وكتب الرجال وغيرها حتى يوصله إلى شاطئ الهداية . وفي الختام يُعبر الشيخ سليم
البشري عن إعجابه بالسيد وفضله عليه ، فيقول في المراجعة رقم 111 (أشهد أنكم في
الفروع والاصول ، على ما كان عليه الائمة من آل الرسول ، وقد أوضحت هذا الأمر
فجعلته جلياً ، وأظهرت ما كان خافياً ، فالشك فيه خبال ، والتشكيك تضليل ... وكنت
ـ قبل أن أتصل بسببك ـ على لبس فيكم لما كنت أسمعه من ارجاف المرجفين ، واجحاف
المجحفين ، فلما يسر اللّه اجتماعنا أويت منك إلى علم هدى ومصباح دجى ، وانصرفت
عنك مفلحاً منجحاً ، فما أعظم نعمة اللّه بك علي) !7 ـ انتشر كتاب المراجعات بصورة واسعة في العالم الاسلامي ،
واستبصر الكثيرون بعد قراءته ، لما تضمنه من منهج علمي وحوار هادئ يمس شغاف القلب
والعقل معاً . ولم يرق لبعض الدوائر التي تريد للتوتر أن يحدد مسار العلاقة بين
السنة والشيعة ، وللتعصب والحقد أن يحل بدلاً من الوحدة والتآلف أو على الأقل عدم
التعرض للآخر ، فقام أحدهم ، محمود الزعبي ، بتأليف كتاب يرد فيه على كتاب
المراجعات سماه (البينات في الرد على أباطيل المراجعات) عام 1986 . وجاء في مقدمته
التي تعبر عن نفسية حاقدة مريضة حيث يقول : (يعتبر كتاب المراجعات من أهم كتب
الرافضة التي عرض فيها مؤلفه عبدالحسين الموسوي مذهبه ـ مذهب الرفض ـ بصورة توهم
الكثير من أهل السنة بصدق ما جاء فيها ، لا سيما اولئك الذين لم يسبق لهم معرفة عقيدة
الرافضة وأساليبهم الماكرة، والتي تركز على الأدلة الكاذبة الموضوعة ، والتلاعب
بالأدلة الصحيحة سواء بالزيادة فيها أو الإنقاص منها ، أو بتحميلها من المعاني ما
لا تحتمله . كل هذا يفعلونه نصرة لمذهبهم ، وتأييداً لباطلهم) ص 5 .ويذهب الزعبي أكثر من ذلك حين يزرع الشك في حدوث هذه
المناظرات بين السيد شرف الدين والشيخ سليم البشري . فقد آلمه أن يؤيد شيخ الأزهر
هذه الحقائق ، وليس باستطاعته الطعن في علمية وكفاءة أحد شيوخ الأزهر الكبار ،
لذلك لجأ إلى هذا الادعاء دون أن يعرض أدلته ، كما أقلقه تأثر البعض من أهل السنة
واهتداؤهم إلى التشيع، حيث يقول : (ولما كانت هذه المراجعات لا أصل لها من الصحة ،
بل هي محض كذب وافتراء ، ولما مر على ظهور هذا الكتاب قرابة ثلاثين عاماً ولم نجد
أحداً من علماء السنة قد ردّ على هذه المراجعات المكذوبة جملة وتفصيلاً . ولما كان
هذا الكتاب قد أثر في بسطاء المسلمين وعامتهم ، جهلاً منهم بعقيدة الرافضة ،
واُصولهم المخالفة لاُصول الاسلام الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة ، وظناً منهم
بصدق هذه المراجعات غير مدركين تدليس وكذب صاحبها حيث أظهر موافقة شيخ الأزهر على
كل ما عرضه من أدلة مكذوبة وفي الوقت نفسه لم يجدوا من يكشف لهم كذب هذه المراجعات
ويبين لهم ما أشتملت عليه من زيغ وضلال . ولما كان تحذير المسلمين من عدوهم وفضح
كل الطوائف والفرق الخارجة عن الاسلام أمراً واجباً على كل داعية ، بل هو من أعظم
القربات إلى اللّه حيث يميزون الخبيث من الطيب ويبينون سبيل المجرمين) ص 6 .فالدافع والهدف واضحان وهما تكذيب ما ورد في المناظرات ،
وتكفير الشيعة باعتبارهم خارجين عن الاسلام . وبذلك نخلق حاجزاً نفسياً وعاطفياً
وعقائدياً جديداً بين المسلمين ، ولتواصل حملات العداء والكراهية والتفرقة والبغض
.واعتمد الكاتب أسلوب عرض أصل الكتاب أي المراجعات ثم يعلق
على بعض القضايا والاُمور في الهامش . ويفتقد الكتاب للمنهج العلمي في الرد والنقد
بل يعتمد أسلوب التقول ، وأن السيد يقصد كذا وكذا . فرغم أن السيد يذكر في
المراجعة رقم 4 أنه (لا يرتاب في اجتهاد أئمة المذاهب الأربعة ، ولا بعدالتهم
وأمانتهم ونزاهتهم وجلالتهم علماً وعملاً) ، لكن الزعبي يقول (كلام المؤلف في هذه
المراجعة يوحي (لاحظ استخدامه كلمة يوحي) بأن أئمة المذاهب الأربعة يناصبون أئمة
أهل البيت العداء ، ويسيرون على غير مذهبهم ، وهذا غير مسلّم) ص 24 .وفي مكان آخر يقول الزعبي رداً على عبارة لشرف الدين (وفي
قوله اشارة واضحة إلى أن الجمهور (وهم أهل السنة) قد خالفوا الائمة من آل محمد !
ولم يتمكنوا من تحصيل نية القربة للّه في عملهم على مذهبهم ! يا للّه ! ما هذه
الجرأة التي جعلته يجازف بهذا الحكم ، فيحرم أهل السنة ومجتهديهم حتى من أجر
النية) ص 25 .ويستمر في هذا النهج الذي يحاول اكتشاف ما في نفس وذهن
الطرف الآخر ، وليس على ما يرد لسانه أو ما يخطّه قلمه . إنه يجتهد في ترصد الخصم
من أجل صيد كلمة أو عبارة يحاول تأويلها وتفسيرها في الاتجاه الذي يريده هو بعيداً
عن المعنى المقصود منها . فينتقي ما يشاء من القضايا المطروحة ويترك ما يشاء .
مثلاً يهرب الزعبي من الحديث عن فتح باب الاجتهاد لدى السنة فيدفع بها إلى التاريخ
، ويكتفي بالقول (وهي قضية خلافية ليس بين السنة والشيعة، بل بين أهل
السنة أنفسهم، ولكل من مؤيدي فتح باب الاجتهاد ، أو اغلاقه ، آراؤه وأدلته ، وكلا
الطرفين لا يقولون برأي من غير تمحيص ، بل القضية مبحوثة ومتكلّم فيها في كتب
الأصول قديماً وحديثاً) ص 31 .ويحاول الزعبي بشتى الوسائل تكذيب أدلة السيد شرف الدين
فتراه يكذب صحة نسبة كتاب نهج البلاغة للامام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بل
يدعي أن الشريف الرضي هو الذي ألفه ص 36 . هكذا فالأمر ميسور هو إنكار كل ما يدعم
أدلة الخصم دون أن يأتي سوى بدليل من فرقته حيث يعتمد على ما ذكره كتاب (ميزان
الإعتدال) ، وكتاب (المنتقى من منهاج الإعتدال) لمحب الدين الخطيب ، و (الفتاوى
الكبرى) لابن تيمية .ويقوده منهج الإنكار إلى نفي الروايات الواردة عن أئمة أهل
البيت(عليهم السلام)، فتراه يتهم السيد شرف الدين ، العلامة الفقيه
المحقق بوضع روايات منسوبة للامامين الباقر والصادق(عليهما السلام) . ففي معرض تفسير
شرف الدين لآية (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)
وآية (ولا تتبعوا
السبل فتفرق بكم عن سبيله) ، حيث يذكر أن الباقر والصادق(عليهما السلام)
يقولان : الصراط المستقيم هنا هو الإمام ، ولا تتبعوا السبل أي أئمة الضلال ،
فتفرق بكم عن سبيله ونحن سبيله . وهنا يحتج الزعبي بنفس أسلوب الإنكار فيقول : (من
أين الدليل على أن قول الباقر والصادق هنا صحيح ؟ وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن
هذا من الكذب على الباقر والصادق رضي اللّه عنهما . وحبذا لو ذكر المؤلف سند هذه
الرواية ، لكنه يعلم أنها غير مقبولة فلعله أسقطها أو أن الكلام مجرد تفسير بالهوى
منسوب زوراً للباقر والصادق !) ص 88 لقد كان بإمكانه الاكتفاء بالمطالبة بسند
الرواية وهذا أمر لا غبار عليه ، ولكن اتهام السيد شرف الدين بأنه أسقط السند
لأنها غير مقبولة أو يتهمه بنسبة الرواية لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) زوراً،
فهذا غير لائق ، كما لا دليل عليه أيضاً إلاّ سوء النية التي على الباحث أن يتجرد
منها ليحافظ على موضوعيته وحياده وأمانته . هذا اضافة إلى أن السيد شرف الدين
غالباً ما يحيل سند الرواية في الهامش إلى الكتب المعتبرة ، لتجنب الإطالة في
المراجعة .ورغم منهجه الباطل في التهميش والحواشي فقد أحسن الكاتب إذ
طبع لنا كتاب المراجعات كله ليطلع ذوي العقول على منهج السيد شرف الدين وأدلته
القوية من القرآن والسنّة ، فيكون بذلك قد أسدى خدمة للتشيع دون أن يعلم .8 ـ يميل بعض الغربيين إلى اعتناق الاسلام ، وخاصة في السنوات
العشر الأخيرة ، لما فيه من ميزات وصفات ينفرد بها عن الديانات الأخرى ، ويدخل
هؤلاء الاسلام من خلال الباب المذهبي الذي فتح أمامهم ، فلو كان من أقنعهم
بالاسلام سنياً أصبح الغربي مسلماً سنياً ، وإن كان من أقنعه بالاسلام شيعياً صار
هو شيعياً أيضاً ، لأن المسلم الغربي الجديد لا يملك فكرة ، في الوهلة الأولى ، عن
المذاهب الاسلامية أو ليست من اهتماماته في تلك المرحلة المبكرة . ولكن ما أن يبدأ
تعلم الاسلام عقيدة وأحكاماً وتاريخاً يبدأ بتلقي الفوارق والاختلافات بين المذاهب
. وتعتمد نظرته للمذاهب الأخرى ، عدا مذهبه ، حسب المعلومات التي تلقاها من مشايخ
مذهبه . فإذا كانت معلومات متوازنة وموضوعية، عاش حالة التوازن والوعي الحقيقي ،
وأما إذا تلقاها باُسلوب التكفير والتفسيق والاتهام بالضلالة، فستعتبر
كل ما تلقاه صحيحاً تجاه الآخرين ، على الأقل في الفترة الاولى من تلقيه تلك
المعلومات . بالطبع قد يملك هذا المسلم الغربي عقلاً نيراً ووعياً يجعلانه يبحث عن
تلك المذاهب بطرق غير التي قيلت له أو وصلت عبرها معلوماته عن تلك المذاهب
الاسلامية . وهذه حالة نادرة إلاّ إذا تهيأت له فرصة جيدة وامكانات قوية.على أية حال يبقى هؤلاء المسلمون الجدد متأثرين بمشايخ وكتب
مذهبهم الاسلامي ، وينظرون للآخرين من خلال مواقف هؤلاء المشايخ أو مؤلفات المذهب
. وهذا الأمر بحاجة إلى دراسة مستفيضة لكنني أشير إلى قضية واحدة :مراد هوفمان سفير ألمانيا في المغرب ، اعتنق الاسلام ،
ودافع عنه ، وانتقد الحضارة الغربية ، ألف عدة كتب منها مذكراته التي يذكر فيها كيفية
اسلامه ، ومنها كتابه الشهير (الاسلام هو البديل) الصادر في 1993 . يبدأ الكاتب
مقدمته بقول لأميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول فيه :
«الانسان عدو ما يجهله» .يتناول الكتاب عدة قضايا فكرية وعقائدية وقانونية واجتماعية
. وفي فصل (جمهورية أم ملكية ؟ ـ سنّة مقابل شيعة) يقع الكاتب فيما حاول أن يحترس
منه ، ألا وهو الجهل ! ورغم أنه يؤمن بأن (علياً كان بلا شك أقرب الناس إلى شخصية
الانسان الكامل) وأنه المرشح الأفضل للخلافة بعد النبي(صلى الله عليه وآله) حيث
يقول (فلو كان لعلي أن يكون أول خليفة للمسلمين ، لكان له كثير من الأسباب الجلية
التي تثبت شريعة خلافته ، بما فيها الأقدمية في الاسلام والفضل والمناقب) لكنه مع
ذلك يعتقد (أن انتخابه كان سيؤسس للمبدأ «الملكي» في الاسلام) ص130.ويعتقد بأن (الرسول(صلى الله عليه وآله) لم ينصح أمته
بخليفة محدد له ، وذلك لتجنب عدم تكافؤ الفرص بين المرشحين لذلك المنصب) ص 133 .
وانطلاقاً من الديمقراطية التي يعيشها مراد هوفمان ، لا يستطيع تفادي اسقاطاتها
على فكره ووعيه ، لذلك يقول : (فقد حافظ الاسلام السني ، وذلك بفضل اختيار أبي بكر
وعمر وعثمان للخلافة ، على قدرته على إحياء المبدأ الديمقراطي الشمولي وتثبيته) ص
131 . وهذا يعكس سطحية في التفكير وكيفية قراءة التاريخ ، بل ويناقض الواقع
التاريخي لأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب استلم الخلافة عبر ولاية العهد حيث
أوصى له بها الخليفة الأول أبو بكر الصديق والذي
(كانت بيعته فلتة وقى اللّه
المسلمين شرها) . ورغم انتقاده لعشيرة بني أمية الارستقراطية التي كانت من أكثر
القبائل التي حاربت محمداً(صلى الله عليه وآله)وأكثرت في أذيته ص 134 ، لكن مراد
هوفمان يعتقد أن مطالبة علي(عليه السلام) بالخلافة كانت تعني تكريساً وتثبيتاً
للحكم الملكي الوراثي . ثم يضيف (وقد أضفى الشيعة على أئمتهم طابع العصمة المطلقة
أخلاقياً وعقائدياً ، وهم يكونون بذلك قد رفعوهم منزلة تعلو منزلة الرسول(صلى الله
عليه وآله) نفسه . ص 135 .هكذا ينسب الرأي دون وعي أو مصدر يعتمد عليه بل هو مما تعلمه
أو قرأه في مصادر خصوم الشيعة . ويمضي هذا الدبلوماسي المثقف في تشنيعه على الشيعة
، لا لهدف إلاّ ارضاءً لنزعة العداء التي تعلمها ، وقد يعتقد أنه يتقرب إلى اللّه
تعالى بسب الشيعة والنيل منهم، فيقول (لقد نشأت لدى الشيعة في هذا السياق العقيدة
العجيبة ، إن لم نقل الدهشة ، عما يسمى بالامام الثاني عشر (المستتر) الذي غاب عن
الأنظار عام 873 م ص 135 . ويقول أيضاً (يعتقد الشيعة بأن لعلماء الدين أو الفقهاء
أن يقرروا الأخذ بظاهر القرآن أو الأخذ بباطنه . وهذا ما قد يشجع على انتشار الفهم
النخبوي المتخم بالسرية والصوفية للقرآن ، ويساعد على نشوء رجال دين يذكروننا
بالمزدكية) ص 136. هكذا يطرح آراءه دون دليل أو مصدر أو حديث أو تفسير
، بل مجرد سماع من بعض المشايخ أو ترديد لكتب الخلافات الطائفيه .
([1])
الزخرف : 58 .([2])
المؤمن : 56 .([3])
فصلت : 33 .([4])
النحل : 125 .