دراســات
السعي في الحج والحياة
* الشيخ محمد مهدي الآصفي
بسم اللّه الرحمن الرحيم(إن الصفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّالبيت أو اعتمر فلاجناح عليه أن يطّوف بهما ومن تطوّع خيراً فان اللّه شاكرٌ عليم).الخلفية التاريخية للسعي :
السعي في الحج يرمز إلى قصة هاجر واسماعيل(عليهما السلام) ،
وقصتهما معروفة عندما تركهما ابراهيم(عليه السلام) بواد قفر غير ذي زرع وترك
عندهما قليلاً من الماء والطعام .فلما نفذ ما كان عندهما من الماء غلب الظمأ على اسماعيل
وخافت أمه هاجر عليه من الهلاك فبدأت تسعى جاهدة تبحث له عن ماء ، من الصفا إلى
المروة وبالعكس ، تنظر إلى الاُفق البعيد تبحث لرضيعها عن الماء ، حتى إذا كانت في
الشوط الأخير من سعيها بين الصفا والمروة ألقت من المروة نظرة إلى حيث يقع بئر زمزم
اليوم بالقرب من موقع المسجد الحرام ، وجدت الماء يتفجر من تحت قدم الطفل فتركت سعيها
، وهرولت نحو رضيعها تسقيه ، وتلملم الماء لئلاّ يذهب هدراً في الأرض القفر .وقد سجّل اللّه تعالى سعي هذه المرأة الصالحة ، أم اسماعيل
يومئذ إلى الماء لانقاذ رضيعها في ذاكرة التاريخ ، وجعل من سعيها منسكاً من مناسك
الحج .معنى السعي :
إذن (السعي) من الحج يرمز إلى مسألة أساسية في حياة
الانسان، وهي حركة الانسان سعياً من وراء الرزق .وسعي هاجر من هذا السعي ، وسعي المريض إلى الطبيب ،
والتلميذ إلى المعلم ، والعامل في العمل ، والفلاح في المزرعة ، والتاجر في السوق
، والسياسي للوصول إلى الحكم ، أو للمحافظة عليه وسعي الشباب إلى الزواج ... من
هذا السعي .وعلى نحو الاختصار (السعي) هو : كل حركة تؤمّن رزق الانسان
واستقراره وراحته ومستقبله وكرامته واحتياجاته ، وتمكّنه من أن يعيش في هذه الدنيا.وهو : حركة دائبة تستوعب مساحة واسعة وكبيرة من حياة الناس،
وأحياناً يستغرق كل جهد الانسان وحركته وتستغرق كل شخصية الانسان .كما يستغرق أوسع المساحات الزمنية من حياة الناس ، وهو
النهار ، حيث جعل اللّه تعالى النهار مساحة لسعي الانسان إلى المعاش ، يقول تعالى
: (وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً) .السعي الشطر الثاني من حركة الانسان
ويعتبر (السعي) الشطر الثاني من حركة الانسان في الدنيا ،
والشطر الأول هو كدح الانسان إلى اللّه. يقول تعالى :
(يا أيها الانسان إنك
كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه).إذن للانسان حركتان في الدنيا (كدح إلى اللّه) و (سعي إلى
المعاش) .ولكي يكدح الانسان إلى اللّه لابد له من السعي إلى المعاش ،
ليعيش في هذه الدنيا ، ومن دونه لا يتمكن من الكدح إلى اللّه.وقد روي «لولا الخبز لما عبدتم اللّه ولما صليتم» .ومن دون (السعي) لا يتمكن الانسان من الكدح إلى اللّه فإنّ
(الكدح) يتوقف على (السعي) .وقد يكون سعي الانسان إلى المعاش كدح إلى اللّه . إذا أَحسن
توظيف جهده ونيّته ، وأَتقى اللّه تعالى في حركته وعمله وكلامه ، والتزم بحدود
اللّه وحلاله وحرامه ، وتوكل على اللّه واستعان به عندئذ يكون سعيه إلى المعاش
سعياً وكدحاً معاً .السعي من منازل رحمة اللّه:
جعل اللّه تعالى لرحمته منازل ومواقع من حياة الناس ، فمن
كان يسعى إلى رحمة اللّه فعليه أن يطلبها في منازلها ، ولرحمة اللّه مفاتيح فمن
طلبها ـ فعليه أن يقصدها بمفاتيحها ، ومن أبوابها .وهذا باب واسع من أبواب المعرفة لا نريد أن ندخله الآن و(السعي)
من منازل رحمة اللّه .ولا شك أن الرازق هو اللّه تعالى ، ولكن (السعي) من أبواب
رزق اللّه تعالى ومنازل رحمته فمن أراد الرزق فعليه السعي في السوق ، ومن أراد
العلاج فعليه السعي إلى الأطبّاء ، ومن أراد العلم ، فعليه السعي إلى العلماء
والمدارس.أعراض السعي :
وكما أن السعي من منازل رحمة اللّه ... فإن للسعي في حياة
الناس أعراضاً على درجة كبيرة من الخطورة ، وذلك أن السعي يتطلّب الاحتكاك والتماس
مع (المال) ومع (الناس) .ولهذا التماس المزدوج مردودات سلبيّة ثلاثة في حياة الانسان
، يسقط عندها خلق كثير .وهذه المردودات الثلاثة :1 ـ في علاقة الانسان باللّه .
2 ـ وفي علاقة الانسان بالناس .
3 ـ في علاقة الانسان بالمال .
وإليك توضيحاً موجزاً لهذه المردودات الثلاثة :أ ـ في علاقة الانسان باللّه :
التعامل المباشر مع المادة من دون وجود ضمانات ومؤمّنات
تؤمّن وتضمن سلامة الانسان في علاقته باللّه تعالى يعرض علاقة الانسان باللّه
تعالى لأضرار وأخطار كبيرة .ذلك أن التعامل المباشر والمستمر مع (الأسباب) تضعّف علاقة
الانسان بـ (المسبّب) الحقيقي وهو اللّه تعالى ، وتضعّف احساس الانسان ووعيه
لسلطان اللّه تعالى وحوله وقوته التي يؤول إليها كل حول وقوة وسلطان .وهو أثر طبيعي للتعامل مع الأسباب المادية في السوق ، إذا
كان لا يقترن بذكر اللّه . وذكر اللّه تعالى هو المؤمّن والضمان الحقيقي للسلامة
من هذا الخطر .ويتدرّج الانسان على هذا الخط النازل في علاقته باللّه ،
فتقوى ثقته بالأسباب المادية التي يتعامل معها في الأسواق أو في ساحة السياسة
والاعلام أو في المختبرات العلمية أو في المزرعة ، وبقدر ما تقوى ثقته بها تضعف
ثقته باللّه من حيث يشعر أو لا يشعر .فتتحول ثقة الانسان بالتدريج من المسبّب إلى السبب . وهذا
هو بعض حدود الشرك ، وبعض أنواع الشرك الخفيّ الذي يتسلل إلى عقل الانسان وقلبه من
دون أن يشعر أحياناً .وإذا تحوّلت ثقة الانسان بالتدريج من المسبّب إلى الأسباب
تضعف استعانته باللّه وتوكّله على اللّه .وهو أحد شطري علاقة الانسان باللّه . فان علاقة الانسان
باللّه لا تتجاوز (خطّ العبادة) و (خطّ الاستعانة) ، وخط العبادة هو الخط الصاعد إلى
اللّه تعالى من ذكر وحمد وشكر وثناء وصيام وحج وانفاق وتبتل وتضرع وبكاء وخشية وشوق
وولاء وطاعة ... وهذا هو الخط الصاعد في علاقة الانسان باللّه وهو خط العبادة .والخط الثاني خط الاستعانة ، وهو الخط الذي يستنزل به العبد
رحمة اللّه تعالى ورزقه إليه ، مثل التوكل على اللّه والدعاء والاستعانة
والاستعاذة والتوبة والاستغفار والاستشفاء والاستخارة ، وكلما يستنزل رحمة اللّه
على عبده من رزق وموهبة وشفاء وعلم وخير وعفو ومغفرة .وعلاقة الانسان باللّه تعالى كلها تتلخص في هذين الخطين :
الخط الصاعد (العبادة) والخط النازل (الاستعانة) . وإليها يشير قوله تعالى في سورة
الحمد (إياك نعبد وإياك نستعين) .والتوحيد الذي يدعو إليه القرآن توحيد في العبادة والاستعانة
معاً وهو : أن لا يشرك الانسان باللّه تعالى في العبادة والشكر والصلاة والصيام والذكر،
ولا يشرك به تعالى في الاستعانة مهما توقفت العلاقة بينه وبين الأسباب المادية من مال
واعلام وقوة وعلم . فيجب عليه أن أن يحذر كل الحذر من أن تحجبه هذه الأسباب عن المسبّب
الحقيقي والمبدأ الأول لكل سبب في هذا الكون وهو اللّه تعالى.وأساس التوحيد في الاستعانة البصيرة والمعرفة باللّه من
جانب والثقة باللّه تعالى من جانب آخر .فإذا ضعفت ثقته باللّه بسبب الاحتكاك الدائم والتعامل
المستمر مع الأسباب المادية في الحياة الدنيا ; ضعفت استعانته باللّه واختلط عنده
التوحيد بالشرك في واحد من اثنين من خطّي العلاقة باللّه .وتلك خسارة كبيرة في حياة الانسان لا يعوّضها بشيء ، مهما
استفاد الانسان من الأسباب المادية التي يتعامل معها.والضمان الذي يضمن سلامة التوحيد عند الانسان في علاقته باللّه
، ويؤمّنه له هو الذكر الدائم للّه تعالى ، فإن الذكر هو استحضار سلطان اللّه
تعالى وحوله وقوته ، والانتباه إلى صفات اللّه وأسمائه الحسنى والاحساس بها .فإذا امتلأ قلب الانسان وعقله بجلال اللّه وجماله وسلطانه
وحوله وقوّته لن تحجبه عندئذ الأسباب المادية عن اللّه ، ولن تؤدّي هذه الأسباب
مهما قويت علاقته بها إلى ضعف ثقته باللّه تعالى ، وتوكّله عليه عزّوجلّ .والقرآن لا ينهانا عن السعي والعمل في السوق ، والمزرعة ،
والسياسة ، والحياة الاجتماعية ، وحقول المعرفة المختلفة ، ولكن على أن يقترن ذلك
كله بذكر اللّه تعالى، والذكر يحمي الانسان ويحفظه ويحصّنه من شلل الشرك إلى نفسه
حيث يعلم أو لا يعلم .والخطر الثاني الذي يواجه الانسان في علاقته باللّه لدى
التعامل مع الأسباب الماديّة في الحياة هو السقوط في الاثم والذنب . فإن اغراءات
المال والسلطان والجنس الآخر من جانب ، وسلطان الهوى على الانسان من جانب آخر يسهل
انزلاق الانسان من شريعة اللّه وسقوطه في الحرام . والضمان الذي يؤمّن سلامة
الانسان من السقوط في الحرام هو (التقوى) .ب ـ في العلاقة بالدنيا :
كلما يزداد حظ الانسان من الدنيا يزداد حرصه فيها ، والدنيا
كماء البحر كلما شرب الانسان منه ازداد ظمؤه وهذه خصلة معروفة في الدنيا يعرفها
الناس .روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : «لو كان لابن
آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأجوف ابن آدم إلاّ التراب»(href="#_ftn4" name="_ftnref4" >[3]).وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : «لو كان لابن آدم
واديان من ذهب لابتغى ثالثاً ، ولا يملأجوف ابن آدم الا التراب»(href="#_ftn4" name="_ftnref4" >[4])
.وعن الامام الباقر(عليه السلام) : «مثل الحريص على
الدنيا كمثل دود القز ، كلّما ازدادت من القز لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت»(href="#_ftn5" name="_ftnref5" >[5]).وشكا رجل إلى أبي عبداللّه الصادق(عليه السلام)
: أنه
يطلب فيصيب ، وتنازعه إلى ماهو أكثر، فقال : علّمني شيئاً أنتفع به.فقال(عليه السلام) : «إن كان ما يكفيك يغنيك فأدى ما
فيها يغنيك ، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك»([6]).وعن خصائص الحرص : أن يطول أمل الانسان في الدنيا ، وطول
الأمل ينسي الانسان الموت ، ونسيان الموت مصدر كثير من شقاء الانسان ، ومن خصائص
الحرص أن الدنيا تستغرق هموم صاحبها وشخصيته ، فلا يكون للحريص هم إلاّ الدنيا ، وتكون
الدنيا كل هم الحريص وأمنيته ، فيفقد بذلك حالة التوازن بين الدنيا والآخرة .واختلال التوازن بين الدنيا والآخرة في حياة الانسان مصدر
عذاب وشقاء كثير للانسان .وعلاج هذه الحالة في علاقة الانسان بالدنيا تقصير الأمل بالدنيا
، وذكر الموت والتجمّل في طلب الرزق .جـ ـ في العلاقة بالناس :
السعي إلى الرزق يتم ـ عادة ـ في أجواء من الاحتكاك والتماس
بالآخرين والمنافسة معهم على مصادر المعيشة . وهذا الاحتكاك والتماس يؤديان إلى
مجموعة من الأعراض المرضية في أخلاق الناس وعلاقاتهم ، مثل الحسد ، وسوء الظن ،
والبخل ، والشح ، والاستئثار ، والاختلاف ، والعدوان ، والمكر ، والكيد بالآخرين ،
وما يتصل بذلك من سوء الاخلاق في العلاقات الاجتماعية .إن المال يفسد أخلاق الناس ويفرّق شملهم ، ويفسد علاقاتهم
ويثير بينهم الحسد والبغضاء والعدوان .وعلاج ذلك الزهد في الدنيا ، ومكافحة حال التعلق بالدنيا
حتى يكون المال تحت سلطان صاحبه ، ولا يكون صاحب المال تحت سلطان المال . عندئذ
تنتفي الآثار السلبية التي يتركها (المال) و(الموقع) في علاقات الناس الاجتماعية .العلاقة بين المسجد والسوق:
إنّ ساحةالحياة تنشطر إلى شطرين :شطر في علاقة الناس باللّه ، في صلاتهم ، وصيامهم ، وحجّهم
، وذكرهم للّه ، وفي التقوى ، والطاعة ، والولاية للّه ، وشطر في حركتهم في السوق
، والزراعة ، والسياسة ، والاعلام ، وحقول المعرفة ، والعلاقات الاجتماعية ، والحياة الزوجية ، وما
يؤمّن معيشة الانسان ، وعلاقاته الاجتماعية والعائلية .ونرمز إلى ساحة عمل الناس في الشطر الأول (بالمسجد) ونرمز
إلى ساحة عمل الناس في الشطر الثاني من الحياة (بالسوق) . فإن المسجد أكثر المواقع
التي يجمع ويضمّ اهتمامات الانسان ، وأعماله من الشطر الأول ، والسوق أبرز المواقع
التي تستقطب اهتمامات الانسان من الشطر الثاني .والمقارنة بين هاتين البؤرتين في حياة الانسان تؤدّي إلى
نتائج غريبة .أ ـ ان المسجد يُصْلِح نفوس الناس ويهذّبهم ، والسوق يفسد
نفوس الناس وأخلاقهم.
ب ـ المسجد يقرّب الانسان إلى اللّه والسوق يبعد الانسان عن
اللّه .
جـ ـ المسجد يلطّف العلاقات الاجتماعية فيما بين الناس ، على
أساس المحبة والتعاون وحسن الظن والنصيحة ، وفي السوق يتعامل الناس مع بعض على
أساس الحسد وسوء الظن والاستئثار والاستغلال والبغضاء والمكر .
د ـ المسجد يجمع شمل الناس ويوحّدهم والسوق يفرّقهم
ويشتّتهم .
وهكذا نجد أن هاتين البؤرتين اللتين تجمعان وتستقطبان اهتمامات
الناس وأعمالهم وجهدهم تقعان في قطبين ومختلفين .وليس ما ذكرنا . من المقارنة في خصائص كل من (المسجد)
و(السوق) قاعدة رياضية لا تختلف ولا تتخلّف ولكنها هي الطابع الغالب والصبغة
الغالبة لكل من المسجد والسوق .وقد ذكرنا أنا نقصد بالسوق الرمز إلى المواقع التي تستقطب
كل اهتمامات الانسان للحياة الدنيا ، ونقصد بالمسجد الرمز إلى المواقع التي تستقطب
اهتمامات الانسان إلى اللّه تعالى . فلا نعيد .ولا غنى عن الانسان عن السوق ، كما لا غنى له عن المسجد .
بل لا يتمكن الانسان من أن يرقى من المسجد إلى اللّه ، إلاّ أن يكون السوق هو الذي
يمكّنه من دخول المسجد ، فمن السوق يرقى الانسان إلى المسجد ، ومن المسجد يرقى إلى
اللّه ... وهذا هو سرّ اهتمام الاسلام بعمارة الحياة الدنيا والاهتمام بها ،
والتصريح بأن الدنيا مزرعة الآخرة .وان الدنيا متجر أحبّاء اللّه ، والأمر بالعمل والسعي في الدنيا
والنهي عن العطالة والرهبانية والتحذير عن الفراغ والكسل .تهذيب السوق :
إذن لابد من الدخول في السوق ولا غنى للانسان من السوق ،
رغم كل السلبيات والأعراض المترتبة على السوق .وإلى جانب ذلك لابد من عمل واسع لتوجيه (السوق) وتهذيبه في
حياة الانسان . ويتلخص برنامج الاسلام في توجيه السوق ، وتهذيب حركة الانسان وسعيه
في السوق في نقطتين :النقطة الاولى : الاستعانة باللّه والتوكل على اللّه في
السعي والايمان بأن اللّه تعالى مبدأ كل سبب ، ومصدر كل حول وقوة ، ولا حول ولا
قوة في هذا الكون بغير اللّه ، ومن دون إذن اللّه فلا يحقّق الانسان بسعيه أمراً
من غير إذن اللّه ، ولا يستغني الانسان بسعيه وجهده وماله وسلطانه ، ـ مهما بلغ ـ
عن الاستعانة باللّه تعالى ، ولا يغنيه أحد عن اللّه ، ولا يكفيه شيء من غير اللّه
، ولا تصحّ الاستعانة بغير اللّه ، إلاّ باذن اللّه فلا يستقل شيء في الكون في
الفعل والتأثير عن اللّه. فهو سبحانه مبدأ ، كل شيء ، والمهيمن على كل شيء .وبهذا البيان تدخل الاستعانة باللّه تحت مقولة التوحيد ،
وتكون ـ كما ذكرنا من قبل ـ أحد شطري التوحيد . فإذا آمن الانسان بهذه الحقيقة الكونية
الكبرى ، وآتاه اللّه مثل هذا الوعي والبصيرة لا يستقل في سعيه عن ذكر اللّه
والدعاء والتوكل ، ويقترن سعيه في السوق بذكر اللّه والاستعانة به ، وهذا الارتباط
باللّه في السعي يعدّل السعي ويلطّفه ، ويهذّبه ويزيل عنه الأعراض السلبيّة التي
تجتمع حول السعي في علاقة الانسان باللّه وبالناس وبالدنيا .وبهذه الصورة يخرج السعي عن حالة التقاطع مع الذكر والعبادة
، ويقع في امتدادها.وحدة الحالة تلطّف سعي الانسان في السوق وساحات الحياة
لأمور المعيشة إلى درجة كبيرة .النقطة الثانية في تعديل حالة الانسان في السوق هي التقوى والالتزام
بحدود اللّه وحلاله وحرامه .وهذا الالتزام بالحدود الالهية يعدّل حالة الانسان في السوق
وساحات المعيشة بشكل كامل . والتقوى هي الالتزام بطاعة اللّه تعالى في الحلال
والحرام . وبالتقوى يقع السعي تحت هيمنة العبادة والذكر، ولا يقاطعها .وعلى هذا النهج يدخل (السعي) في امتداد (العبادة والذكر)
أولاً ، ويقع تحت هيمنته ثانياً .وبهذه الصورة يتم تأمين وضمان الشطر الثاني من حركة الانسان
وهو شطر السعي ، فيواصل الانسان عمله سعياً للرزق في الدنيا بصورة أمينة ، دون أن
تتعرض علاقته باللّه وبالناس وبالدنيا للخطر والأذى .وقد ذكرنا من قبل أن حياة الانسان شطران ، شطر يختص بالكدح
إلى اللّه (إنك كادح إلى ربك كدحاً) وشطر آخر يختص بسعي الانسان للحياة الدنيا ،
وأكثر مصائب الانسان ومحنه نابع من الشطر الثاني ، فهو سلّم الانسان الذي يرقى منه
إلى الشطر الأول ، ولابد له من السعي ، كما لابد له من الكدح إلى اللّه .نظرية الاسلام في السعي :
عوداً على بدء نعود إلى الحديث مرة أخرى من مجمل الشعور الذي
يقدّمه الاسلام عن (السعي) لنختم به هذا المقال.وأهمّ النقاط التي تدخل في تكوين النظرية الاسلامية في
(السعي) هي :1 ـ الدعوة إلى السعي ، واقراره والتأكيد عليه ، والدعوة إلى
عمارة الأرض من خلال السعي ، يقول تعالى : (فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض
وابتغوا من فضل اللّه)([7]).2 ـ تعميق من أن الرزق من عند اللّه تعالى فقط ، يقول تعالى
: (وان اللّه هو الرزاق ذو القوّة المتين) ، ويقول تعالى :
(قل من يرزقكم من السماوات
والأرض قل اللّه)([8]).
ويقول تعالى : (واللّه يرزق من يشاء بغير حساب)([9]) ويقول تعالى
. (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً)([10]).وهذا مبدأ هامّ في الاسلام وشعبة من شعب التوحيد وهو توحيد
اللّه تعالى في الرزق .3 ـ وسعي الانسان في طلب الرزق لايزيد على أن يكون ابتغاءً
من فضل اللّه ورحمته وطلباً لرزقه .وفرق شاسع بين المفهومين :أن يكون الانسان هو الذي يحقّق رزقه الذي يصنعه بيده أو أن
يطلب رزق اللّه وفضله الذي قدّره تعالى له .والأول من الشرك والثاني من التوحيد .والقرآن يؤكد بشكل عجيب على تثبيت أن الرزق من عند اللّه
وأن سعي الانسان في طلب الرزق لا يزيد على أن يكون ابتغاء فضل اللّه ورحمته .وهذه النقطة ثاني نتيجة للنقطة المتقدمة . فإن الرزق إذا
كان من عند اللّه تعالى خالصاً ، فلا محالة أن يكون دور الانسان في السعي إلى الرزق
هو ابتغاء فضل اللّه.ففي آية سورة الجمعة التي ذكرناها قبل قليل (وابتغوا من فضل
اللّه)، ويقول تعالى (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله)([11])
ويقول تعالى : (وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)([12])
. ويقول تعالى (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله)([13])،
ويقول تعالى : (اللّه الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله)([14]).وهذا أيضاً من المبادئ الهامّة في القرآن ، وعلى الانسان أن
يجعل وجهه دائماً في ابتغاء الرزق إلى اللّه ، وكما يُسلم الانسان ويعطي وجهه للّه
تعالى في العبادة ، كذلك عليه أن يُسْلم وجهه للّه عند السعي في طلب الرزق ، فإن
السعي : هو ابتغاء فضل اللّه ورحمته .4 ـ والتجمل في طلب الرزق وينهى الاسلام عن الحرص والجشع في
طلب الرزق ويأمر بالتجمل في السعي ، وينهانا من أن نمدّ عيوننا إلى ما متّع اللّه
به الناس من زهرة الحياة الدنيا ، يقول تعالى :
(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به
أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا ، لنتفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى)([15]).ويزهّدنا اللّه في متاع الحياة الدنيا ويرغبّنا في متاع الآخرة
، يقول تعالى : (وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي
الحيوان لو كانوا يعلمون)([16]).ويأمرنا اللّه تعالى أن نعرض عن اولئك الذي تستغرق الحياة
الدنيا كل اهتمامهم وطموحهم ، يقول تعالى : (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلاّ
الحياة الدنيا)([17]).وينهانا الاسلام عن الحرص في طلب الحياة الدنيا ، يقول
أميرالمؤمنين(عليه السلام) في وصف الدنيا : «من ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها واتته»(href="#_ftn18" name="_ftnref18" >[18]).يعني من بذل كل اهتمامه وجهده في طلب الدنيا فاتته ، ومن
تجمل في طلب الرزق واتته الدنيا .والنصوص في التجمل في طلب الرزق كثيرة تطلب من مواضعها .5 ـ ونهي اللّه تعالى عن طلب الرزق من غير الموارد التي
حلّلها اللّه تعالى ، وقد حدّد اللّه حدوداً للسعي إلى الرزق وحرّم تجاوز هذه
الحدود . وحرّم أكل المال بالباطل .يقول تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)(href="#_ftn19" name="_ftnref19" >[19])
، ويقول تعالى : (ان كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل)(href="#_ftn20" name="_ftnref20" >[20]).6 ـ ويأمرنا اللّه تعالى في ابتغاء فضل اللّه والسعي إلى
الرزق ، والموازنة بين الدنيا والآخرة ، فلا ينصرف الانسان إلى الدنيا كل الانصراف
فتنسيه الدنيا الآخرة ، ولا يعرض عن الدنيا وعمّا يؤتي اللّه تعالى عباده فيها كل
الأعراض، ولا يقبض يده كل القبض ، ولا يبسطها كل البسط ، وإنما يسعى للموازنة بين
الدنيا والآخرة في سعيه وجهده .يقول تعالى : (وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة ولا تنسَ
نصيبك من الدنيا).ويقول تعالى فيما يعلّم عباده من الدعاء ،
(ربنا آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).بهذه خلاصة من المنهج الاسلامي لتهذيب (السعي) في الحياة
الدنيا ، وهي جميعاً كما يتّضح من خلال قراءة سريعة توجّه سعي الانسان إلى الحالة
الربانية واضفاء الصبغة الالهية على سعي الانسان في الدنيا . نسأل اللّه تعالى أن
يرزقنا ابتغاءَ وجهه الكريم في أحوالنا جميعاً ، في كدحنا وسعينا والحمد للّه رب
العالمين .
_______________________
([1])
البقرة : 158.
([2])
النبأ : 11 .
([3])
مجموعة الورام:163.
([4])
الجامع الصغير للسيوطي.
([5])
بحار الأنوار 73:23.
([6])
اصول الكافي 2 : 135 .
([7])
الجمعة : 10 .
([8])
السبأ : 24 .
([9])
النور : 38 .
([10])
الاسراء : 3 .
([11])
الروم : 23 .
([12])
النحل : 14 .
([13])
الاسراء : 66 .
([14])
الجاثية : 12 .
([15])
طه : 131 .
([16])
العنكبوت : 64 .
([17])
النجم : 29 .
name="_ftn18" >([18])
نهج البلاغة، خطبة رقم 82 .
name="_ftn19" >([19])
البقرة : 188 .
([20])
التوبة : 34 .