من غرر حكم أهل البيت(عليهم السلام)
الأمانة
*الشيخ عبداللطيف الأسدي
الأمانة في أقوال ورواياتأهل البيت(عليهم السلام)
يحمل تراث أهل البيت صلوات اللّه عليهم إلى جانب القرآن
والسنّة النبوية المطهّرة ثروة فكرية هائلة غنيّة بالقيم السامية والمبادي العالية
، قادرة على خلق وبناء الشخصية الواعية المؤمنة بربّها ، فسيرتهم(عليهم السلام)
خالدة وباقية وثابتة وصالحة لكل زمان ومكان لأنّها نابعة من واقع التشريع الالهي
والفطرة الانسانية السليمة ، (فطرة اللّه التي فطر الناس
عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيّم).وفي اطار النصوص الآتية تواجهنا الأمانة بكل اشراقاتها
وعطاءاتها لتمنحنا المعرفة بها وتطلعنا على أهميّة وقيمة هذه الركيزة التي عرضت
على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان لأنّه
خليفة اللّه في أرضه ، والوجود التطبيقي لشريعة السماء ، وهو مؤهل لحمل
هذه الأمانة بروح نقيّة ونفس مطمئنة ، ولكنه حينما يتنصل عن مسؤولية
حملها يصبح بذلك ظلوماً جهولاً ، وكل ما يرتبط بهذه الأمانة جاء مؤكداً عليه في
هذه النصوص الشريفة من الآيات والأحاديث والأقوال والروايات .فلم يرخّص الشارع في أن يفرّط الانسان في حقوق الآخرين لا
سيّما في حقّ الوالدين في برّه لهما حتى ولو كانا فاجرين ، فهو مأمور بالاحسان
إليهما والعطف عليهما ، وذلك من أعظم أنواع الأمانة التي يمارس الانسان دوره في
تأديتها ، ويكون الوفاء بالعهد مساوقاً للأمانة دائماً ، وتشترك النصوص كلّها في
توضيح هذا المعنى ، إذ تُعتبر الخيانة من أقبح أخلاق الانسان مقابل أفضل ايمانه
بأمانته ، إذ يقول الحديث : «أفضل الايمان الأمانة ، وأقبح الخلق الخيانة»([1])
ويتحقق الانتصار على الذات من خلال السير وفق ما أراد اللّه تعالى من الانسان أن
يكون عليه في هذا المجال ، وتسود المجتمع في ظل هذا السلوك العام المحبة والاحترام
المتبادل ، وتترسخ ثقة الانسان بالنفس في مقابل ثقة الآخرين له .ولم يجعل اللّه عزّ وجلّ لأحد رخصة في ثلاث : «أداء
الأمانة إلى البر والفاجر ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وبرّ الوالدين برّين
كانا أو فاجرين»([2])
. إذ يعتبر الاسلام الاهتمام بهذه الجوانب المشرقة من حياة الانسان سلوكاً
مستقيماً ، وركيزة أساسية تستند عليها مسيرته ، وهو يخطو على دربها خطى ثابتة
حاملاً ثقل هذه المسؤولية متوجهاً إلى ربّه يستمدّ منه العون والهداية ليواصل سيره
وكلّه ثقة وبصيرة من أمره.ويرمز الصدق في الحديث وأداء الأمانة ، والبر إلى الوالدين وإن
كانا فاجرين إلى وحدة الفكرة وتعميق الروابط بين أبناء الأمّة الواحدة . بحيث
يتوقف قبول أعمال الانسان العبادية من صلاة وصيام وحج وقيام ليل وزكاة وغيرها على
تطبيقه الصدق في حديثه، وأدائه لأمانته . وبرّه بوالديه وإن كانا فاجرين . فإذا
كذب وخان وفرّط في حقّ والديه خرج عن حدود استقامته ولو صلّى وصام وحجّ وزكّى
«لا
تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم . وكثرة الحجّ والمعروف ، وطنطنتهم بالليل ، ولكن انظروا
إلى صدق الحديث وأداء الأمانة»([3]) وما أكثر ما
يؤدّي أداء الأمانة إلى كثرة الغنى النفسي والمادّي
«الأمانة غنى»([4])
إذ تفضي بالحياة إلى السعادة الشاملة ، إلى الحياة الحرّة الكريمة ، وما ينال
المرء في ظلّها من المكانة السامية ، والدرجة الرفيعة حينما يكون موضع ثقة الناس
به ، ومحلّ تقديرهم له بصدق حديثه وأداء أمانته ، ومراعاته لعهده .. وما احتل
أميرالمؤمنين(عليه السلام) من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)خاصّة المرتبة
العالية إلاّ لكونه موضع تطبيق هذه الصفات
الكريمة التي مارسها في حياته الشريفة وهو عارف بها
«انظروا ما بلغ به
علي(عليه السلام) عند رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فالزمه فإنّ عليّاً(عليه
السلام) إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بصدق الحديث
وأداء الأمانة»([5]).اطلاق
وجوب أداء الأمانة :
يؤكّد حديث الامام الصادق(عليه السلام) على دور وخطورة
وأهميّة الأمانة إلى درجة أنّه يؤديها حتى لضارب علي بالسيف ، فلو أئتمنه ذلك
القاتل وبعد أن يقبله لا يمانع من أدائه إليه ، وحتى لو استنصحه واستشاره فلا يردّ
عليه تلك المشورة وذلك النصح : «إن ضارب عليّ وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني
ثم قبلت ذلك منه لأدّيت إليه الأمانة»([6]) .ويعتبر حديث الامام الصادق(عليه السلام) أداء الأمانة قمّة
التقوى ، إذ لا يكون المرء تقيّاً بالمعنى العام ما لم يكن ورعاً في المحافظة على
أداء أمانته حتى ولو إلى أشدّ الناس عداوة له إذا ائتمنه وقبل ذلك منه إذ يقول(عليه
السلام): «اتقوا اللّه وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم ، فلو أن قاتل أميرالمؤمنين(عليه
السلام)ائتمنني على أمانة لأديتها إليه»([7]) .وقال(عليه السلام) : «أدّوا الأمانة ولو إلى قاتل الحسين
بن علي(عليه السلام)»([8])
. ولطالما كان النبي(صلى الله عليه وآله) يؤكّد على دور الأمانة وخطرها في حياة
الأمّة ، ولنستمع في ذلك إلى ما ينقله الامام علي(عليه السلام) عنه(صلى الله عليه
وآله) : «أقسم لسمعت رسول للّه(صلى الله عليه وآله)يقول لي قبل وفاته بساعة
مراراً ثلاثاً : يا أبا الحسن ! أدِّ الأمانة إلى البر والفاجر فيما قلّ أو جلّ
حتى في الخيط والمخيط»([9])
بل ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ من التصريح ; وإنما يتجاوز الى أبعد من ذلك إذ
ينهى الحديث الشريف المرء أن يخون من ائتمنه حتى ولو خانه ، ثم ليكن إلى جانب هذ
كتوماً للسر فلا يذعه وإن ذاع من سرّه على سرّه
«لا تخن من ائتمنك وإن خانك ولا
تذع سرّه وإن أذاع سرّك»([10])
.ولم يبعث اللّه تعالى نبياً من أنبيائه إلاّ بصدق الحديث
وأداء الأمانة إلى البر والفاجر ، فقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الظاهرة الخطيرة
في حياة المجتمع من أهل الكتاب ، فذكر جانباً من ذلك :
«ومن أهل الكتاب مَن إن
تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلاّ ما دمت عليه
قائماً ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميّين سبيل»
. وحينما قرأ النبي (صلى
الله عليه وآله)هذه الآية قال : كذب أعداء اللّه ، ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ
هو تحت قدمي إلاّ الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر»([11])
.وتقترن التقوى بأداء الأمانة على اطلاقها ، فقد حثّت أحاديث
ائمتنا صلوات اللّه عليهم أجمعين على القيام بمراعاة هذه الركيزة الأساسية إلى
جانب صدق الحديث والوفاء بالوعد . «اتقوا اللّه وأدّوا الأمانات إلى الأبيض
والأسود وإن كان حرورياً أو شامياً»([12]) .لا
ايمان لمن لا أمانة له :
يُنفى الايمان من حياة الانسان إذا تخلى عن أداء أمانته ،
وخان وعد اللّه له فيها ، وتنصل عن الالتزام بقيودها وتطبيقاتها ، فبهذا يضع نفسه
في معرض الرد على اللّه سبحانه في عدم تنفيذ أمره بعد أن حملها وأشهده على ذلك
:
«لا ايمان لمن لا أمانة له ، من خان أمانته في الدنيا ولم يردّها إلى أهلها ثم أدركه
الموت مات على غير ملّتي ويلقى اللّه وهو عليه غضبان»([13])
. أية خسارة هذه يواجهها ذلك الذي ظلم نفسه بخيانة اللّه تعالى بعد أن خالفه إذ لم
يؤدّ ما ائتمن عليه ؟ثم يعتبر الاسلام استهلاك الأمانة إذا استودعها الانسان
باحتقاره لها فهو في هذا المجال لا يمتّ بأية صلة إلى الأئمّة الأطهار سلام اللّه
عليهم : «ليس منّا من يحقر الأمانة حتى يستهلكها إذا استودعها»([14])
. وهو بعيد عن ايمانه كل البعد إذا جهل حقّ أمانته فخانها :
«مَن لا ايمان له
لا أمانة له»([15])
في هذا المقطع من الحديث نوع آخر من التوضيح حول معرفة الذين يجب أن يتجنبهم الناس
فلا يودعوا عندهم آماناتهم وأسرارهم فهم يعيشون ظلمات الفسوق بابتعادهم عن ايمانهم
بربهم. فكيف يؤمّنون على مستودعاتهم ؟ . ويعتبر الاهمال للأمانة أو وضعها في مكان
غير أمين استهلاكاً لها، وفي هذا يكون المستودع ضامناً لها مسؤولاً عنها لأنه ألزم
نفسه بالقيام بشأنها والمحافظة عليها .آثار
الأمانة :
لم تشرّع أوامر السماء لمجرّد التشريع ، بل جاءت مؤكدة على
الالتزام بمضامينها ومحتوياتها وتطبيقاتها، والسير طبق مناهجها وأساليبها ووفق
نظرتها للحياة والكون والانسان . بل وتعتبر الخروج عن بعضها خروجاً عنها كلها ، إذ
لا عبرة من الأخذ ببعضها دون بعضها الآخر ، بل يعتبر الخروج عن خطّها تحدياً لحدود
اللّه تعالى وظلماً فاحشاً يرتكبه ذلك الخارج على تشريع السماء .وعلى ضوء مفردات الشريعة في أوامرها ونواهيها . تُرسم معالم
الطريق أمام الانسان السائر نحو آفاق الكمال الانساني ، فمن معطيات الأمانة التي
هي هدف من أهداف رسالة الاسلام أنّها تؤدّي إلى كثرة الصدق واشاعته بين الناس
كأنما لا يوجد صدق ما لم تتأكد الأمانة لدى أبناء الأمة
«الأمانة تؤدي إلى
الصدق»([16])
. «إذا قويت الأمانة ، كثر الصدق»([17])
«الأمانة
والوفاء صدق الأفعال»([18]) «الأمانة تجر الرزق ، والخيانة تجر الفقر»([19])
«الأمانة
تجلب الغنى ، والخيانة تجلب الفقر»([20]) .وقد أكدت كذلك وصايا الأنبياء(عليهم السلام) على الاهتمام
بالأمانة والحرص على القيام بها إلى أبعد الحدود إذ لا مناص للتخلي عنها بأي حال
من الأحوال . فهذا لقمان الحكيم يوصي ابنه بأداء الأمانة حتى تسلم له دنياه وآخرته
على حد سواء : «يا بني : أدّ الأمانة تسلم لك دنياك وآخرتك ، وكن أميناً تكن
غنيّاً»([21])
.لا
تأمنن هؤلاء :
تشدّد النصوص الشريفة المتعلقة بمواقع الأمانة على الابتعاد
عمّن لا يأمن الناس جانبهم ، فهؤلاء يمثّلون بتصرفاتهم الشائنة بسبب خيانتهم
منعطفاً حادّاً يجرّ الويلات على الانسانية . ويدخلها في متاهات شاسعة من الضياع
والفشل واللامبالاة وهدر كرامة الأمّة ، ولا ضمان على اللّه تعالى لخائن، وقد نهى
سبحانه عن ائتمان الخائن لأنه غير أمين حتى على أبسط قواعد الأخلاق مادام يمارس
دور الخيانة للأمانة في حياة الناس . «من ائتمن غير أمين فليس له على اللّه
ضمان لأنه قد نهي أن يأتمنه»([22]) عن
الصادق(عليه السلام) : «لا تأمنن ملولاً»([23]) .وليس من حقّ الانسن أن يتهم مَن قد ائتمنه ، وليس من حقّه
أيضاً أن يأمن الخائن وقد جرّبه . فإذا عرف ذلك ثم اطمأن إلى ظاهر الخائن وقد جرّب
عليه خيانته ، فواجهه ذلك الخائن بخيانته ، ليس من حقه هذا أن يلومه لأنه قد اشترك
معه فظاهره على خيانته له . «ليس لك أن تتهم مَن قد ائتمنته ، ولا تأمن الخائن
وقد جرّبته»([24]) «لم يخنك الأمين ولكن ائتمت الخائن»([25]) .ويبتلى الانسان بالخيانة إذ ائتمن خائناً ، وعرف من عبد
كذباً إذا حدّثه فركن إليه ، وفي هذا المحور لا يخلف اللّه عليه ولا يؤجره وكان حقاً
عليه أن يخذله «من عرف من عبد من عبيد اللّه كذباً إذا حدّث وخيانة إذا ائتمن
ثم ائتمنه على أمانة كان حقاً على اللّه عزّ وجلّ أن يبتليه فيها ، ثم لا يخلف
عليه ولا يؤجره»([26])
.ويشترك شارب الخمر مع خائن الأمانة ومحدّث الكذب في حقّ
الناس أن يتجنبوه ، فشارب الخمر لا يؤتمن على أمانة لأنها حرم اللّه تعالى . وقد
لعن شارب الخمر فليس له أن يكون أميناً وقد عصى اللّه في شربه الخمر . فلا يتورع
أذن أن يخون أمانته . «من ائتمن شارب الخمر على أمانة بعد علمه ; فليس له على
اللّه ضمان ولا أجر ولا خلف»([27])
«من
ائتمن غير مؤمن فلا حجّة له على اللّه عزّ وجلّ»([28]) .ويتساوى المضيّع للأمانة وخائنها فهما في الاثم سواء . وكلاهما
لا يوثق بهما ولا يؤتمنان على شيء بعد العلم بهما . فإذا تجرأ أحد على ائتمانهما
فلا حجّة له على اللّه عزّ وجلّ . «ما أبالي ائتمنت خائناً أو مضيّعاً»([29])
.الأمانة
الالهية :
الكتاب الكريم : (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض
والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انّه كان ظلوماً جهولاً)([30])
.ما أكثر ظلم الانسان لنفسه ، وجهله بما يضطلع به من ممارسات
خاطئة فكرية وعملية ! تقوده إلى المعصية وبالتالي إلى الانحراف والشذوذ والزيغ عن
طريق الحقّ والهدى ، ويكون مصدر تلويث فكري ونفسي لبيئته ومجتمعه وأبناء امته .
وإذا آل أمره إلى ذلك لا يبالي أن يخون أمانته أو يخلف وعده أو يكذب في حديثه .
وهذا ما حذّرت منه كافّة الشرائع السماوية لا سيما شريعة الاسلام الحنيف ، فحينما
عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها لثقلها
وخطورة شأنها حملها الانسان باعتباره مؤهلاً للقيام بهذه المهمّة الربانية الشاقة
، ولكنه حينما تخلّى عن أداء دوره في هذا المجال الصعب كتب على نفسه الظلم والجهل
، وتحمّل مسؤولية هذا الظلم وذلك الجهل . بل كان ظلوماً جهولاً متفانياً في تفريطه
بعهده وابتعاده عن النهج السليم بعد أن خان أمانته .فقد ورد الحديث مؤكداً هذا المعنى : «ثم أداء الأمانة ،
فقد خاب مَن ليس مِن أهلها ، أنها عرضت على السماوات المبنية والأرضين المدحوّة
والجبال ذات الطول المنصوبة ، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ، ولو
امتنع شيء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لأمتنعن ، ولكن أشفقن من العقوبة وعقلن ما
جهل من هو أضعف منهن وهو الانسان ، انّه كان ظلوماً جهولاً»([31])
.في الحديث أن عليّاً إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل
ويتلون ، فيقال : ما لك يا أميرالمؤمنين ؟ فيقول :
«جاء وقت الصلاة ، وقت أمانة
اللّه على السماوات والأرض وأشفقن منها»([32]) .فاذا كان حضور وقت الصلاة أمانة اللّه تعالى عند الانسان
وهو يفرط فيها ; فما أكثر جهله وما أبعده عن هذا النظام الذي يستوعب الدنيا
بكاملها وتحت رقابة اللّه سبحانه ! (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم
خاشعون ) (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين) .ويترحم الامام الحسن(عليه السلام) على أقوام كانت الدنيا
عندهم وديعة فأدّوها إلى من ائتمنهم عليها ثم راحوا خفافاً حتى لا يحملوا أوزاراً
كما لو حملوها مع أوزارهم يوم القيامة على ظهورهم ، إذ لم يمضوا خفافاً بل ثقالاً
بما كانوا يكسبون ، (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنّهم عن
ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم انهم لصالوا الجحيم)([33]) .وكما للأمانة مصاديق ماديّة تنطبق عليها ; كذلك لها مصاديق
روحية ، فالدين أمانة والسر أمانة والوصية والفكرة أمانة ، وحمل الحديث والفقه ،
وعلوم أهل البيت سلام اللّه عليهم إلى الأمّة وتفسير آيات القرآن كلها من مفاهيم
الأمانة ومواضيعها الأساسية العامّة . فقد ودّع بعضهم رفيقه فقال :
«أودعك كما
ودعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : استودع اللّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك»([34])
.ولكن كما علمنا أن أداء الأمانة يتوقف على مقدار ما يعيه
المسلم ، ويتعامل معه في اطار ايمانه بخالقه وحرصه الشديد على كسب رضاه وطلب طاعته
بالالتزام بما أمر والنهي عما نهى عنه . فقد جاء عن موسى بن بكر الواسطي عن أبي
الحسن موسى(عليه السلام) قال: «إن أهل الأرض لمرحومون ما تحّابوا وأدّوا
الأمانة وعملوا الحقّ»([35])
. فالتحبب إلى الناس والتودد اليهم خلق رفيع يكسب المرء ثقة الناس به ويظل موضع
احترامهم له ، والعمل بالحقّ محور أساسي للتطبيق العملي لكل ما يدعو إليه الحقّ
ويؤكّد عليه .وإذا كانت التقوى رمزاً لمجموعة من الفضائل السامية والأخلاق
العالية ; فلا غرو أن يبذل الانسان أقصى ما يستطيع من أجل تطبيق هذه المفاهيم
والنصوص والقيم والمبادئ التي حفلت بها الشريعة الاسلامية الغراء .فعن معاوية بن عمّار عن أبي عبداللّه الصادق(عليه السلام)
قال : قال : «الأمانة غنى»([36]) . وقال(عليه
السلام): «اتقوا اللّه وأدوا الأمانة إلى الأبيض والأسود وإن كان حرورياً([37])
أو شامياً»([38])
.وكما تشمل الأمانة أعلى الأشياء قيمة كالأموال الضخمة أو
حفظ الأرواح من الازهاق و الأفكار من التحريف ; كذلك تشمل أبسط الأشياء وأتفهها
كالمخيط والخيط إذ لم تغادر شريعة السماء صغيرة ولا كبيرة إلاّ أعطتها حكماً خاصاً
بها ، واعتبرت حتى خائن هذه الأشياء التافهة انساناً غير مرغوب فيه . ووضعت لهذه
الغاية حدوداً لا يمكن تجاوزها . فعن أبي عبداللّه الصادق(عليه السلام) قال :
«أدوا
الأمانة ، فإن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كان يؤدّي الخيط والمخيط
([39])»([40])،
وهذان النوعان من الأمانة يأخذان صفة الأمانة كما لو كانت في قيمة الأشياء الكبرى
مع أنهما أحقر الأشياء إذا نسبت إلى غيرها أكثر أهميّة .وتشترك معان ثلاثة للخيانة في الاثم والنتيجة وأن صلّى
صاحبها وصام وحجّ وزكّى ، ويوصف بالنفاق إذا مارس مثل هذه التصرفات الخاطئة ، فعن الامام
الصادق(عليه السلام) : «ثلاث مَن كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام : من إذا
حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»([41]). ولو لم يكن
للأمانة وحدها هذا الدور في وصف الانسان بالخيانة إذا فرّط فيها لكفى ، فكيف بمن
يمارس الكذب إذا حدّث والاخلاف إذا وعد ؟ فلا شك أنّ ما يلحق الخائن للأمانة من
وزر واثم وخسران يلحق الكذوب في حديثه ومن لا يلتزم بالوعد فيخلفه ، ومصير هؤلاء
يوم القيامة أنهم في الدرك الأسفل من النار ، (إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار)([42])
. وقال الامام الصادق(عليه السلام) : «ما أبالي إلى مَن ائتمنت خائناً أو مضيّعاً»([43])
، فهما في الوزر سواء وفي الذنب متعادلان. ويُحرم المرء وهو لا يعبأ أن يكون
خائناً لأمانته أو خالفاً لوعده يحرم من ضمان اللّه له إذ لا يردّ عليه .وكفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة ، وماذا بعد هذا
كله سوى الخسران المبين والطرد عن رحمة اللّه تعالى ؟ وقد أعطى أبو جعفر
محمد بن علي(عليهما السلام) صورة جليّة شاملة لهويّة الانسان الشيعي باعتباره
حاملاً مذهب ومعتقدات أهل البيت صلوات اللّه عليهم فقال :
«ما شيعتنا إلاّ مَن اتقى
اللّه وأطاعه . وما كانوا يعرفون إلاّ بالتواضع والتخشع، وأداء الأمانة ، وكثرة
ذكر اللّه ، والصوم والصلاة ، والبر بالوالدين ، وتعهد الجيران من الفقراء وذوي
المسكنة ، والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكفّ الأذى عن
الناس إلاّ من خير ، وكانوا اُمناء عشائرهم في الأشياء»([44]) .يضم هذا المقطع من قول المعصوم(عليه السلام) مجموعة من
القيم والمبادئ الأساسية والركائز الفكرية المتحركة التي تفضي إلى سعادة المجتمع
وازدهار الخير في ربوع الأمّة وهي تمارس دور التطبيق في مجال وعيها لها .ولم يتسامح الامام الصادق(عليه السلام) في توضيح عدم جعل
اللّه تعالى التشريعي لأحد من الناس في ثلاث خصال رخصة :
«بر الوالدين برّين
كانا أو فاجرين ، ووفاء بالعهد للبر والفاجر ، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر»([45]).فلم يرخص الاسلام في هذه الخصال الثلاث لأي أحد من الناس ،
بل شدّد فيها فأبدى رغبته أن تكون حياة المجتمع يسودها الاستقرار.ويؤكّد الامام الصادق(عليه السلام) على الاهتمام بالورع والاجتهاد
إلى جانب الاهتمام بأداء الأمانة وغيرها من نظائرها الأخرى ، حيث يقول:
«عليكم
بالورع والاجتهاد ، وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً كان أو
فاجراً ، فلو أن قاتل علي بن أبي طالب(عليه السلام) ائتمنني على أمانة لأديتها
إليه»([46])
.وقد أوصى إلى المفضَّل([47]) بما ينقله
لنا حيث قال : «اوصيك بستّ خصال تبلغهن شيعتي ، فقلت : ما هنّ يا سيّدي ؟
قال(عليه السلام) : أداء الأمانة إلى من ائتمنك ، وأن ترضى لأخيك ما ترضاه
لنفسك ، واعلم أن للأمور أواخر فاحذر العواقب ، وأن للأمور بغتات([48])
فكن على حذر ، وإيّاك ومرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر([49])
وعراً ، ولا تعدن أخاك وعداً ليس بمقدورك وفاؤه»([50]) .وأكتفي هنا بتوضيح خصلة النهي عن المرتقى للجبل السهل إذا
كان منحدره وعراً تاركاً بقية الخصال للقارئ لمتابعة ما تضمنته بقية تلك الخصال من
توجيه رشيد وتهيئة ذهنية واعية يعيش المرء في ظلالها الوارفة خدر رسالة السماء
وطهارة هذا الدين القيّم . ففي هذا المقطع من النص الشريف نهي عن الدخول في امور
لا تعني المرء ، فدخوله فيها تقحمه في خوضها وهو لا يعلم منها شيئاً ، وبالتالي يصعب
الخروج عليه منها كما دخلها من باب سهل فمن أراد السير في طريق عليه معرفة أخطار
هذا الطريق ، ومن أراد أن يخوض فكرة عليه دراستها أولاً قبل الدخول فيها لئلا
تنغلق عليه أبوابها ويعرض نفسه للأخطار التي تحدق بهذه الفكرة ، فلابد والحالة هذه
أن يكون الانسان واعياً يتصرف بحزم ويفكر جيداً يتجنب البساطة والسذاجة في تصرفاته
وحركاته وكافة أعماله .هكذا يحذرنا أئمتنا صلوات اللّه عليهم ، فهم القدوة الصالحة
والمثل الاعلى في التربية والتوجيه وعلينا السير على ضوء ما يريدون حتى نكون عند
حسن ظنهم بنا لا نتخذ عنهم بدلاً ولا نحيد عن نهجهم قيد أنملة .ولنستمع بعد ذلك إلى قول أميرالمؤمنين(عليه السلام) حيث يضع
في حديث له نصب أعيننا حقيقة الرجال على ضوء ما يتصفون به فهم ثلاثة : عاقل يزن
الأمور بميزان الحكمة ويتصرف عن وعي والتزام وهدف ، فلا يشذ ولا يساوم ولا يماري
بل هو وحده أُمّة تحمل هدف السماء وداعياً يؤدّي رسالته بكل حزم وثقة وثبات وهدى
وبصيرة ، ورجل أحمق لا يعرف ما حوله إلاّ من منظار ضيّق يزن الأمور بجهله ، ويقدر
النتائج ويفهم الآخرين طبقاً لأهوائه ، فقلبه بلسانه ولا ينطلق إلاّ مستهزئاً بمن حوله
من الناس متلصصاً يسرق الفكرة ويعبث بكرامة الأشخاص ولا موقف له .ورجل فاجر يتجاوز حدود اللّه تعالى يشين الزين ويعتدي على
الناس بفجوره وعناده ونفاقه ، فالشيطان قرينه والهوى مركبه لا يثق بأحد ولا يكون
إلاّ متناقضاً أنانياً يحمل الحقد وينشر الشر ويكفر بنعمة اللّه .فهو عليه السلام يقول : «الرجال ثلاثة ، عاقل وأحمق
وفاجر. فالعاقل : الدين شريعته والحلم طبيعته والرأي سجيته ، وان سئل أجاب وإن
تكلّم أصاب وإن سمع وعى وإن تحدّث صدق وإن اطمأنّ إليه أحد وفى ، والأحمق : إن
استنبه بجميل غفل وإن استنزل عن حسن نزل وإن حمل على جهل جهل وإن حدّث كذب وإن فقه
لم يتفقه ، والفاجر : إن ائتمنته خانك وإن صاحبته شانك وإن وثقت به لم ينصحك»([51])
.وآخر مطافنا في بحر هذه الدرر بل في بحورها نختم حديثنا
بهذا النص للامام علي(عليه السلام) ، حيث يقول : «ألا
أنبئكم بما يزيد الرزق ؟ قالوا
: بلى يا أميرالمؤمنين ، فقال : الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق ، والتعقيب بعد
الغداة وبعد العصر يزيد في الرزق ، وصلة الرحم يزيد في الرزق ، وكسح([52])
الفناء يزيد في الرزق ، ومواساة الأخ في اللّه يزيد في الرزق، والبكور
([53])
في طلب الرزق يزيد في الرزق ، والاستغفار يزيد في الرزق ، واستعمال الأمانة يزيد
في الرزق ، وقول الحق يزيد في الرزق ، واجابة المؤذّن يزيد في الرزق ، وترك الكلام
في الخلاء يزيد في الرزق، وترك الحرص يزيد في الرزق ، والوضوء قبل الطعام يزيد في
الرزق ، وأكل ما يسقط من الخوان([54])يزيد في
الرزق ، ومن سبّح اللّه كل يوم ثلاثين مرة دفع اللّه عنه سبعين نوعاً من البلاء
أيسرها الفقر»([55])
.
([1])
الامام علي(ع)، غرر الحكم.
([2])
الامام الباقر(ع)، بحار الأنوار 74: 176 ، 75:117.
([2])
الرسول(ص) بحار الأنوار 75:114 . الامام الكاظم(ع) 2:105«ي فظ».
([3])
الرسول (ص) كنز العمال 3:63 . تنبيه الخواطر: 10.
([4])
الامام الصادق(ع) الكافي (الاُصول والفروع) 2:104.
([5])
الامام الصادق(ع) تنبيه الخواطر : 10.
([6])
الامام الصادق بحار الأنور 75:114.
([7])
الامام علي(ع) بحار الأنوار 75: 115.
([8])
بحار الأنوار 77:273 . مستدرك الوسائل 2: 505 «ق».
([9])
بحار الأنوار 77:273 . مستدرك الوسائل 2: 505 «ق».
([10])
الامام الباقر(ع) تفسير نور الثقلين 1 : 356 مجمع.
([11])
الامام الصادق تنبيه الخواطر : 10 .
([12])
الرسول(ص) بحار الأنوار 72:198 ، 75:116. تفسير نور الثقلين 84:252.
([13])
الرسول (ص) بحار الأنوار 75 : 172.
([14])
الامام علي(ع)، غرر الحكم .
([15])
م . ن .
([16])
م . ن .
([17])
م . ن .
([18])
الامام علي(ع)، بحار الأنوار 78 60، 75 : 172. كنز العمال 3:62.
([19])
الامام علي(ع)، بحار الأنوار 78 60، 75 : 172. كنز العمال 3:62.
([20])
لقمان (ع) بحار الأنوار 74:176، 75:117.
([21])
الرسول (ص) بحار الأنوار 103:179، 78:242 عن الامام الصادق(ع).
([22])
الامام علي(ع)، بحار الأنوار 78:11.
([23])
الرسول(ص) بحار الأنوار 75:194. 78:247.
([24])
الامام الباقر(ع)، تنبيه الخواطر: 254.
([25])
الامام الصادق(ع)، بحار الأنوار 78:320. الرسول (ص)، تنبيه الخواطر: 254.
([26])
الرسول (ص) وسائل الشيعة 13:234.
([27])
م . ن .
([28])
م . ن .
([29])
الاحزاب : 72 .
([30])
الامام علي(ع) بحار الأنوار 75 : 116، نهج البلاغة خطبة 197.
([31])
تفسير نور الثقلين 4 : 313.
([32])
المطففين:14ـ 16.
([33])
تنبيه الخواطر : 42.
([34])
م . ن : 20 .
([35])
م . ن : 20 .
([36])
تنبيه الخواطر:20.
([37])
تنبيه الخواطر:20.
([38])
تحف العقول:316.
([39])
النساء : 145.
([40])
وسائل الشيعة 13:234.
([41])
تحف العقول: 295.
([42])
تحف العقول:316.
([43])
تحف العقول: 299.
([44])
تحف العقول: 367.
([45])
المواعظ العددية:160.
([46])
بحار الأنوار 69:314.