دراسـات - تزکیة النفس من منظور الثقلین (6) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تزکیة النفس من منظور الثقلین (6) - نسخه متنی

السید کاظم الحائری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراسـات

تزكية النفس من منظور الثقلين

( 6 )

«العرفان الصحيح»

* السيد كاظم الحائري

قد اتضح بكل ما سردناه أن الفقه
والعرفان يشكّلان سدى ولحمة ثوب التقوى ، ومن
يفصل بينهما ويفترضهما مدرستين منفصلة
إحداهما عن الاخرى ، فلا يعرف شيئاً من الفقه
ولا العرفان .

وأُؤكد أنّني لا أقصد بفرض الظاهر
والباطن للاسلام تصحيح طريقة الباطنيين ،
الذين يُظهِرون للناس شيئاً ويُبطنون شيئاً
آخر ، بل أقصد أن للاسلام باطناً يشع من ظاهره
، وظاهراً شفّافاً يُري باطنه ، وظاهره
يتلالا نوراً ، وباطنه أصفى وأنقى ، وظاهره هو
الذي تكفّل به الفقه الذي يحدّد الاجزاء
وسقوط القضاء والاعادة لعامة الناس ، وباطنه
أيضاً يفهم من نفس الادلة الفقهية ، ويستفيد
منه علماً وعملاً الخلّص من عباد اللّه ، كلّ
بدرجته .

ولم يكن بالامكان تكليف عامة الناس
بتحصيل كل درجات الكمال للنفس ، فاكتفى
الاسلام بأقل الدرجات لعموم الناس ، مع فتح
باب الترقي والنمو والاقتراب الى اللّه
سبحانه وتعالى لمن أحبّ ذلك بقدر ما يهتمّ به .

ولتوضيح اكتفاء الاسلام باقل الدرجات
لعامة الناس ، مع ارشاده إلى مراتب أرقى من
ذلك ، نشير إلى عدد من المسائل الفقهية :

الاولى : لا إشكال فقهيّاً في حرمة :

1 ـ لبس الخاتم من الذهب للرجال .

2 ـ استعمال أواني الذهب والفضة .

بالتفصيل المذكور في علم الفقه ، ولكن
الفقه لم يحرّم على الانسان مطلق الاستفادة
من الاموال التي تكون فوائدها وهمية ، فصحيح
أن آنية الذهب والفضة لا تختلف في الفائدة عن
أوان أخرى ، إلاّ بالاعتزاز بكونها ذهباً أو
فضّة ، والتباهي بها ، وليس هذا إلاّ فائدة
وهمية . أما الفائدة الاستعمالية الحقيقية
فالاواني الاخرى مشتركة فيها مع أواني الذهب
والفضة ، وكذلك الخاتم من الذهب لا يختلف عند
الرجال عن غير الذهب إلاّ بالتباهي والاعتزاز
به ، وهو إنما يناسب حالة النساء ; لانهنّ
بحاجة حقيقية إلى الزينة والحلية ، وقد عبّر
اللّه تعالى عنهن بقوله : (أو من يُنشّأ في
الحلية وهو في الخصام غير مبين)( 1 )
.

وقال الشاعر :

وما تصنع بالسيف إذا لم تك قتالا
فكسّر حلية السيف وصغه لك خلخالا

ولكن مع ذلك لم يحرّم فقهياً على
الرجال لبس خاتم مصوغ من مجوهرات قد تكون أغلى
من الذهب ، ولم يحرّم على الناس استعمال أوان
مصوغة مما هو أغلى من الذهب والفضة .

إلاّ إنه وردت في نصوص الشريعة ما قد
يشير إلى قبح صرف المال ، في موارد المنافع
الوهمية من قبل المؤمنين ، وهذا ما يستفيد منه
الخلّص من عباد اللّه ، ولا يعتني به عامة
الناس ، ومن جملة تلك النصوص ما يلي :

1 ـ روي بسند تام عن موسى بن بكر عن أبي
الحسن موسى ، قال : «آنية الذهب والفضة متاع
الذين لا يوقنون»( 2 )
.

أفلا تستشفّ معي من هذا الحديث أنه
بيان لحكمة تحريم آنية الذهب والفضة ، لا
لنتيجة التحريم ، أي إنه ليس معنى هذا الحديث
أنه بعدما حرّمت الشريعة آنية الذهب والفضة ،
أصبحت تلك الاواني متاعاً للذين لا يوقنون ،
بل معناه أن الذي يوقن بعالم الاخرة ماذا يفعل
بالملاذّ الوهمية البحتة في هذه الدنيا ؟ وأن
كونها متاعاً للذين لا يوقنون كان حكمة
لتحريمها ، وهذه الحكمة موجودة في جميع
الملاذ الوهمية .

2 ـ قوله سبحانه وتعالى : (وإذا أردنا أن
نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)( 3 )
.

أفلا تستظهر معي من هذه الاية أن الترف
وصف يناسب الفاسقين لا المؤمنين ؟، ولئن كان
الترف عبارة عن التنعم بأنعم اللّه ، فما معنى
قوله سبحانه وتعالى : (قل من حرّم زينة اللّه
التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي
للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم
القيامة)( 4 )
؟ . أفلا تستظهر من ذلك ما أستظهره بفهمي
القاصر ـ واللّه أعلم بمراده ـ من أن التنعّم
الحقيقي بالنعم المحلّلة هو الشيء المقصود
بالاية الثانية ، والتنعّم الوهمي بالمتع
الوهمية ، أو بنفس النعم الحقيقية ولكن إلى
حدّ التخمة ، التي تخرج التنعّم من كونه
حقيقياً إلى كونه وهمياً ، هو الذي يسمّى
بالترف ويكون داخلاً في مفاد الاية الاولى ؟ .

الثانية : لا إشكال فقهياً في حرمة
الغناء والموسيقى ، وقد أُدرج في بعض
الروايات( 5 )
في اللغو الوارد في قوله تعالى : (وإذا مرّوا
باللغو مرّوا كراماً)( 6 )
، ولكن ألا تصدّقني في فهمي القاصر للقرآن
الكريم أن اللغو في هذه الاية الكريمة ، وفي
الاية الكريمة الاخرى ، وهي قوله تعالى : (بسم
اللّه الرحمن الرحيم * قد أفلح المؤمنون *
الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن
اللغو معرضون)( 7 )
، هو عبارة عن مطلق اللغو ؟ فقد جُعل التحرز عن
اللغو من صفات عباد الرحمان ، ومن صفات
المتقين ، إلاّ أن الحدّ الاوفى لهذا التحرز
الذي أوجبه الفقه على عامة الناس هو الغناء .

الثالثة : قد فسّر الفقهاء الاية
الشريفة : (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا لعلكم ترحمون)( 8 )
، بأن المقصود هو الاستماع والانصات لقراءة
القرآن من قبل إمام الجماعة ، وقد دل على ذلك
صحيح زرارة( 9 )
.

وهذا أيضاً مما يحدس أنه من باب
الاكتفاء بالاقل لعامة الناس ، وأن الاستماع
والانصات لقراءة القرآن مطلوبان على كل حال ،
ويلتزم به العارفون باللّه ، كما ورد التزام
سيد العارفين أمير المؤمنين(عليه السلام)بذلك
، حينما قرأ ابن الكوّا وهو خلف أمير المؤمنين(عليه
السلام)في صلاة الصبح : (ولقد أوحي إليك وإلى
الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطنّ عملك
ولتكوننّ من الخاسرين)( 10 )
، فأنصت عليّ(عليه السلام) تعظيماً للقرآن حتى
فرغ من الاية ، ثم عاد في قراءته ، ثم أعاد ابن
الكوا الاية فأنصت عليّ(عليه السلام) أيضاً ،
ثم قرأ فأعاد ابن الكوا فأنصت عليّ(عليه
السلام) ثم قال : (فاصبر إن وعد اللّه حق ولا
يستخفنّك الذين لا يوقنون)( 11 )
ثم أتم السورة ثم ركع( 12 )
.

ولنعد الان إلى ما كنّا فيه من الحديث
عن أن الاكتفاء بقشر ظاهري من الاسلام ، من
عبادة جافّة وطقوس باهتة ، غير صحيح ، فإنه ـ
وإن كان ذاك القشر أيضاً يتلالا نوراً ـ لو
نفذنا إلى روح الاسلام وباطنه الوضّاء ،
لرأينا نوراً أوسع وأكثر تلالؤاً وضياءً
وإشراقاً ، وهذا الباطن رغم وضوحه وبروزه من
شبكة القشر ونسيجه ، قد يخفى على أُناس عميت
بصائرهم لا أبصارهم ، فإنها (لا تعمى الابصار
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)( 13 )
.

وهذه الروح الوضّاءة لها جانبان :

أحدهما : ما أشرنا إليه حتى الان من
جانب العرفان ، أو قل : التوهّج بحب اللّه ،
والسعي إلى رضوان اللّه الذي هو أكبر من جنّات
عدن ، والاحتراق بنار الوجد والعشق للّه
سبحانه وتعالى .

وثانيهما : أن الاسلام دين مسيِّر
للحياة ، ونظام كامل شامل لادارتها بأحسن وجه
، كافل لسعادة البشر في الدنيا ، كما أنه كافل
لسعادته في الاخرة .

فربّ انسان يتعبّد بظاهر العبادات
الواردة في الشرع ، ولكنه يغفل عن حقيقة ادارة
الاسلام للحياة ، وأن تطبيقه يجعل المسلمين
سادة العالم ، ويمكّنهم من فتح كنوز الطبيعة
ونعمها وخيراتها وبركاتها : (ونريد أن نمنّ
على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة
ونجعلهم الوارثين * ونمكّن لهم في الارض ونري
فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)( 14 )
.

وإنّني آسف أن كثيراً من الذين
يتعمّقون في فهم روح الاسلام ، ويصبون للوصول
إليها والاتصاف بمتطلّباتها ، يلتفت إلى أحد
الجانبين ويغفل عن الجانب الاخر ، فالعرفاء
التفتوا إلى الجانب الاول ، وهو الجانب
الروحي ، ولكن كثيراً منهم غفلوا عن الجانب
الثاني ، وهو جانب ادارة الاسلام لنظام كامل
شامل يسعد البشرية في حياتها الدنيا ، ولزوم
العمل في هذا الحقل إلى أن يفتح الاسلام
العالم أجمع ، تحت راية إمام العصر حجة اللّه
على خلقه عجّل اللّه تعالى فرجه .

والمجاهدون الاسلاميون التفتوا إلى
الجانب الثاني ، وهو جانب اشتمال الاسلام على
نظام الحياة بالتمام والكمال ، ولكن كثيراً
منهم غفلوا عن الجانب الاول ، وابتلوا بالجدب
الروحي في عباداتهم وطقوسهم .

والمفروض للعرفاء والاسلاميين أن
يتبعوا الائمة المعصومين(عليهم السلام)، في
الاهتمام بالاسلام بكلا جانبيه قشره وروحه .

ومن أبرز من رأيناه في زماننا هذا ،
ممّن لم يغفل عن أحد الجانبين ، وأعطى كلَّ
جانب حقّه ، هو الامام الراحل آية اللّه
العظمى السيد روح اللّه الخميني رضوان اللّه
تعالى عليه ، وبهذا وذاك استطاع أن ينفذ في
قلوب المؤمنين ، إلى أن وُفّق لاقامة دولة
الاسلام على بقعة من بقاع الارض .

وما أقبح ما ينقله البعض من أن السيد
الامام رضوان اللّه عليه أراد أن يلتقي بأحد
هؤلاء المدعين للعرفان ، ولكنه لم يره أهلاً
لذلك فلم يشرّفه بهذا الشرف ! تعساً لذلك
المسمى بالعارف ، ولمن يتبع امثاله من غير
بصيرة وهدىً ، ولو كانت له سعادة أن يكون
تراباً لاقدام الامام الخميني(رحمه الله)
لكان ذلك شرفاً عظيماً له ، ولكن أنّى له هذه
السعادة وما يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم .

وإذا أردت مقايسة بين عرفانه المزيّف
وعرفان السيد الامام(رحمه الله)الحقيقي ،
فقارن بين كلام للامام(رحمه الله) وكلام مضى
سابقاً نقله عنه .

فالسيد الامام(رحمه الله) ، الذي قام
بأكبر خدمة للاسلام والمسلمين ، وهي إقامة
الحكم الاسلامي في قطعة من الارض هي أرض ايران
، ولا شك في إخلاصه الذي يندر لغير
المعصوم الوصول إلى مستواه ، يقول فيما كتبه
في إهداء كتابه المسمى بآداب الصلاة ، إلى
زوجة ابنه السيد أحمد المسمّاة بفاطمة ،
والمطبوع في مقدمة هذا الكتاب الصادر عن
مؤسسة تنظيم آثار الامام الخميني ونشرها : «أهديت
إلى بنتي العزيزة فاطمة جعلها اللّه من
المصلين كتاب آداب الصلاة ، الذي ألّفته قبل
أكثر من أربعين سنة ، وقبله بسنوات كتبت كتاب
سرّ الصلاة ، وأنا لم أحصّل بعد مضيّ اكثر من
اربعين سنة شيئاً من أسرار الصلاة ، ولم
أتأدّب بآدابها ، فإن تحصيل أمر ما شيء ،
ومجرد نسج الحديث عنه شيء آخر ، وهذه الكتب
حجة عليّ أمام اللّه ، وأعوذ باللّه من أن
أكون مشمولاً لهذه الاية الشريفة القاصمة
للظهر : (لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً
عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون) . ولا ملجأ
لي عدا رحمته الواسعة » .

أقول : قايس بين هذا الكلام الذي يشبه
كلمات المعصومين في مناجاتهم وتضرّعاتهم
واعتذارهم إلى اللّه سبحانه وتعالى ، والكلام
الذي مضى عن ذلك المدعي للعرفان الذي اغترّ
بعرفانه المزيّف فقال : «إن المرحوم الانصاري
إنما كان يزور قبر الشيخ محمد البهاري من أجل
أن يشتم رائحتي ، باعتباري أني سأمرّ في
المستقبل بهذا المكان» . قايس بين هذين
الكلامين كي تتذكر المثل المعروف «أين التراب
من رب الارباب » .

ثم إن فهم الاسلام بهذا الشكل الذي
اشرنا إليه ، وطرحه بهذا الاسلوب ، والتوجه
إلى مغزاه المشتمل على الجانبين اللذين أشرنا
إليهما ، ومنهما روحه وواقعه النابض بالحياة
، أمور لها تأثير كبير على إبعاد الانسان عن
المعصية ، الذي لا يكفي فيه مجرد التذكير
بالجنة والنار .

وتوضيح المقصود أن الانسان ميّال بسبب
العامل الداخلي ، وهو شهوات النفس ، والعامل
الخارجي ، وهو المغريات ، الى المعاصي
والمخالفات ، وللاسلام علاج عملي لذلك لسنا
هنا بصدد شرحه ، وإجماله أن الاسلام جُعل دين
فطرة ، ونظاماً يلبّي الحاجات الحقيقية
للانسان ، ويؤمن ـ لو طبّق تطبيقاً حقيقياً في
الحياة خارجاً ـ كل حاجات الانسان الواقعية ،
ولا يحدد الانسان إلاّ من ناحية ميوله
الشرّيرة غير الراجعة إلى الحاجات الحقيقية ،
كالحسد وحبّ الايذاء مثلاً ، وكذلك من ناحية
السرف في تلبية الحاجات الحقيقية ، التي ترجع
غالباً أو دائماً إلى ما يخرج من دائرة
الحاجات الحقيقية . أما في دائرة تلك الحاجات
الفطرية الطبيعية فليس للاسلام إلاّ تنظيم
وتهذيب طريقة تلبيتها وإشباعها ، لا رفض ذلك .
وما نراه خارجاً من فقر الفقر أو عوز المعوزين
لكثير مما يحتاجون إليه من وسائل الراحة
والرفاه، إن هو ـ عادة ـ إلاّ بسبب عدم تطبيق
البشرية لنظام الاسلام بشكله الكامل : (ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات
من السماء والارض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما
كانوا يكسبون)( 15 )
. (ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما
أُنزل إليهم من ربّهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت
أرجلهم منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما
يعملون)( 16 )
. (وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم
ماءً غدقاً)( 17 )
، فقتر النعمة وضيقها يعود في الحقيقة إلى ظلم
الانسان ، لا إلى فقر أودعه اللّه في الطبيعة :
(اللّه الذي خلق السماوات والارض وأنزل من
السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم
وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر
لكم الانهار * وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين
وسخّر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما
سألتموه وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها إن
الانسان لظلوم كفّار)( 18 ).

وعلاوة على ذلك زوّد اللّه تبارك
وتعالى الانسان بالقوة المميّزة للخير
والشرّ ، وهي العقل ، والعقل يقتضي بطبيعة
الحال في الانسان أن يضحّي دائماً بمصلحته
المهمة في سبيل مصلحته الاهم ، فالانسان
المعتقد باللّه وبالجزاء ـ بعد فرض غضّ النظر
عن الروحيات العرفانية ، والمُثل العليا ،
والعقل العملي ، والمصالح العامة ، وفرض حصر
تفكيره ودوافعه في مصالحه الشخصية ـ يكفيه أن
يقارن بين لذة مؤقتة ضعيفة محرمة ، ومصالحه
الاُخروية ، اعني النجاة من النار والفوز
بالجنة ، فيستعد للتضحية بتلك اللذة الضعيفة
المؤقتة في سبيل مصلحته العليا الدائمة .

ولكن الذي نراه عملاً هو أن كثيراً من
الناس المعتقدين بالمبدأ والمعاد ، لم يكفهم
هذا الرادع للارتداع عن المعصية ، وكأن السبب
في ذلك أن الدنيا نقد حاضر ، والاخرة أمر
مستقبلي مؤجّل ، وتوجد في الانسان حالة الميل
إلى الحاضر في قبال الامر المؤجّل الاستقبالي
. وهذا نقص في طبيعة غالبية البشر .

ولعله يشير إلى هذه الحالة قوله
سبحانه وتعالى : (إن هؤلاء يحبّون العاجلة
ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً)( 19 )
، وقوله تعالى : (كلاّ بل تحبّون العاجلة *
وتذرون الاخرة)( 20 )
.

فلابد لهذا النقص من علاج ، وقد ينجح
ولو إلى حدّ ما علاج ذلك بأصل التذكير
بالتزاحم بين المصلحتين ، ولزوم التضحية
بالمهم في سبيل الاهم من ناحية ، وتوضيح مدى
أهمية مصلحة الاخرة من ناحية أخرى ، من قبيل
بيان أن الثواب جنّة عرضها السماوات والارض ،
والعقاب عقاب لا تقوم له السماوات والارض .

ولكننا نرى عملاً أن هذا أيضاً غير كاف
في كثير من النفوس .

وهنا مكمّل آخر لو أضيف إلى ذلك لنجح
كثيراً ، إلاّ في من غلب عليه الشقاء أو الخبث
، وهو أن تكشف له حقيقة الاسلام بشكله النابض
بالحياة ، وبروحه الشفافة الخلاّبة التي
أشرنا إليها ضمن جانبين ، فمن عرف روح الاسلام
وتذوّقه ينال من ذلك لذة لا تدانيها لذة ،
وينسى كل اللذائذ الدنيوية والشهوات النفسية
المهلكة .

ويضاف أيضاً إلى جانب لذة العرفان ،
التي نعني بها التلذذ برضوان اللّه ، وتذوّق
حب اللّه إلى حد الشغف والتيم وتحصيل اللقاء
المعنوي باللّه تعالى ، مكمّل آخر للابتعاد
عن المعاصي ، وهو أن يسعى االانسان في سبيل
تفتيح منابع الخير المودعة من قبل اللّه في
نفسه عادة ، من قبيل حبّ الايثار وحبّ الوفاء
والصدق وما إلى ذلك ، فإن هذه الغرائز أيضاً
موجودة في الانسان العادي إلى جنب الغرائز
الشهوية الحيوانية ، ولعل هذا أحد معاني قوله
تعالى : (وهديناه النجدين)( 21 )
، فكما يمكن للانسان أن ينمّي غرائزه
الحيوانية ، كذلك يمكنه أن ينمّي الغرائز
الخيّرة في نفسه . وبإمكانك أن تحسب هذا
الجانب ايضاً جزءاً من العرفان الاسلامي
الصحيح ، فيكون تذوّق حب اللّه ، والالتذاذ
بالوصول إلى اللّه وبتحصيل رضا اللّه ، جزءاً
من كل ، وهو تفتيح منابع الخير المعنوية
الكامنة في النفس البشرية وتنميتها ، كما أن
كلاً من هذين الامرين يساعد الانسان على
الامر الاخر ، فالايثار مثلاً ، وكذلك باقي
صفات الخير ، يقرب الانسان إلى اللّه ، كما أن
الاقتراب إلى اللّه يحبّب إلى الانسان جميع
الخيرات .

وقد يكون الدافع للانسان السالك في
المراحل الاولى إلى الخير ، أو إلى تحصيل
رضوان اللّه ، التذاذه بذلك ، وكلّما مشى في
الطريق أكثر ازداد التذاذه الذي يكون دافعاً
له نحو الوصول إلى القمة ، ولكن المفروض
للانسان السالك أن يصل إلى مستوىً يكون دافعه
عنده إلى الخير ، وإلى رضوان اللّه هو نفس
الخير والرضوان ، لا الالتذاذ بهما ، وإن كان
الالتذاذ يشتدّ عندئذ بذلك .

وعلى أية حال فقد اتضح بكل ما سردناه
أن العرفان الذي تفترض نتيجته الفناء
والذوبان بالمعنى الحقيقي للكلمة في اللّه ،
هو عرفان كاذب ، بل ينتهي إلى الكفر والالحاد
، والمعصومون(عليهم السلام) منه براء ،
والعرفان الذي ينتهي إلى الفناء والذوبان في
اللّه ، كفناء العاشق في المعشوق وذوبانه فيه
المألوف في العشق المجازي بين الناس أنفسهم،
بفرق أن قياس هذاالعشق والفناء إلى ذاك العشق
والذوبان ، قياس قطرة إلى البحر اللامتناهي ،
إن هو العرفان الصحيح الموروث عن المعصومين(عليهم
السلام) : «واجعل لساني بذكرك لهجاً وقلبي
بحبّك متيّماً»( 22 )
، ويصل العارف إلى مستوىً لا تبقى له عنده
إرادة في قبال إرادة اللّه تعالى : «رضا اللّه
رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا
أجور الصابرين»( 23 )
.

ختامه مسك

والان حان لنا أن نختم هذا المدخل
المختصر إلى حديثنا عن تزكية النفس ، بذكر
رواية مروية عن الشبلي عن سيّدنا ومولانا زين
العابدين(عليه السلام) ، وليس هذا هو الشبلي
المعروف المسمّى بجعفر بن يونس ، فإنه كان
متأخراً عن زمان إمامنا زين العابدين(عليه
السلام) بكثير ، وكان قد مات في سنة ثلاثمئة
وأربع وثلاثين أو خمس وثلاثين ، على ما ورد في
روضات الجنات( 24 )
.

والرواية ما يلي . قال المحدّث النوري(رضي
الله عنه) في مستدرك الوسائل( 25 ) ما نصه : «العالم
الجليل الاواه السيد عبد اللّه سبط المحدث
الجزائري في شرح النخبة قال : وجدت في عدة
مواضع أوثقها بخط بعض المشايخ الذين عاصرناهم
مرسلاً ، أنه لما رجع مولانا زين العابدين(عليه
السلام) من الحج استقبله الشبلي ، فقال(عليه
السلام) له : حججت يا شبلي ؟ قال : نعم يابن رسول
اللّه ، فقال(عليه السلام) : أنزلت الميقات ،
وتجرّدت عن مخيط الثياب ، واغتسلت ؟ قال : نعم .
قال : فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثوب
المعصية ، ولبست ثوب الطاعة ؟ قال : لا . قال :
فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنك تجرّدت
من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات ؟ قال :
لا . قال : فحين اغتسلت نويت أنك اغتسلت من
الخطايا والذنوب ؟ قال : لا . قال : فما نزلت
الميقات ، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب ، ولا
اغتسلت ، ثم قال : تنظّفت وأحرمت وعقدت بالحج ؟
قال : نعم . قال : فحين تنظفت وأحرمت وعقدت الحج
، نويت أنك تنظّفت بنور التوبة الخالصة للّه
تعالى ؟ قال : لا . قال : فحين أحرمت نويت أنك
حرّمت على نفسك كل محرّم حرّمه اللّه عزوجل ؟
قال : لا . قال : فحين عقدت الحج نويت أنك قد
حللت كل عقد لغير اللّه ؟ قال : لا . قال له(عليه
السلام) :ما تنظّفت ، ولا أحرمت ، ولا عقدت
الحج . قال له : أدخلت الميقات ، وصليت ركعتي
الاحرام ولبّيت ؟ قال : نعم . قال : فحين دخلت
الميقات نويت أنك بنية الزيارة ؟ قال : لا . قال
: فحين صليت الركعتين نويت أنك تقربت إلى
اللّه بخير الاعمال ، من الصلاة وأكبر حسنات
العباد ؟ قال : لا . قال : فحين لبّيت نويت أنك
نطقت للّه سبحانه بكل طاعة ، وصمت عن كل معصية
؟ قال : لا . قال له(عليه السلام) : ما دخلت
الميقات ، ولا صلّيت ، ولا لبّيت ، ثم قال له :
أدخلت الحرم ورأيت الكعبة وصلّيت ؟ قال : نعم :
قال : فحين دخلت الحرم نويت أنك حرّمت على نفسك
كل غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملة
الاسلام ؟ قال : لا . قال : فحين وصلت مكة نويت
بقلبك أنك قصدت اللّه ؟ قال : لا . قال(عليه
السلام) : فما دخلت الحرم، ولا رأيت الكعبة ،
ولا صلّيت ، ثم قال : طفت بالبيت ومسست الاركان
وسعيت ؟ قال: نعم : قال(عليه السلام) : فحين سعيت
نويت أنك هربت إلى اللّه ، وعرف منك ذلك علاّم
الغيوب ؟ قال : لا . قال : فما طفت بالبيت ، ولا
مسست الاركان ، ولا سعيت ، ثم قال له : صافحت
الحجر ووقفت بمقام ابراهيم(عليه السلام)
وصلّيت به ركعتين ؟ قال : نعم ، فصاح(عليه
السلام) صيحة كاد يفارق الدنيا ثم قال : آه آه !
، ثم قال(عليه السلام) : من صافح الحجر الاسود
فقد صافح اللّه تعالى ، فانظر يا مسكين لا
تضيّع أجر ما عظم حرمته ، وتنقض المصافحة
بالمخالفة ، وقبض الحرام نظير أهل الاثام ، ثم
قال(عليه السلام) : نويت حين وقفت عند مقام
ابراهيم(عليه السلام) أنك وقفت على كل طاعة ،
وتخلّفت عن كل معصية ؟ قال : لا . قال : فحين
صلّيت فيه ركعتين نويت أنك صلّيت بصلاة
ابراهيم(عليه السلام) ، وأرغمت بصلاتك أنف
الشيطان ؟ قال : لا . قال له : فما صافحت الحجر
الاسود ، ولا وقفت عند المقام ، ولا صلّيت فيه
ركعتين ، ثم قال(عليه السلام) له : أشرفت على
بئر زمزم وشربت من مائها ؟ قال : نعم . قال :
نويت أنك أشرفت على الطاعة وغضضت طرفك عن
المعصية ؟ قال : لا . قال(عليه السلام): فما
أشرفت عليها ولا شربت من مائها ، ثم قال له(عليه
السلام) : أسعيت بين الصفا والمروة ومشيت
وترددت بينهما؟ قال : نعم . قال له : نويت أنك
بين الرجاء والخوف ؟ قال : لا . قال : فما سعيت
ولا مشيت ولا ترددت بين الصفا والمروة ، ثم
قال : أخرجت من منى ؟ قال : نعم . قال : نويت أنك
آمنت الناس من لسانك وقلبك ويدك ؟ قال : لا .
قال : فما خرجت من منى ، ثم قال له : أوقفت
الوقفة بعرفة ، وطلعت جبل الرحمة ، وعرفت وادي
نمرة ودعوت اللّه سبحانه عند الميل والجمرات
؟ قال : نعم . قال : هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة
اللّه سبحانه أمر المعارف والعلوم ، وعرفت
قبض اللّه على صحيفتك واطلاعه على سريرتك
وقلبك ؟ قال : لا . قال : نويت بطلوعك جبل الرحمة
أن اللّه يرحم كل مؤمن ومؤمنة ، ويتولّى كل
مسلم ومسلمة ؟ قال : لا . قال : فنويت عند نمرة
أنك لا تأمر حتى تأتمر ، ولا تزجر حتى تنزجر ؟
قال : لا . قال : فعندما وقفت عند العلم
والنمرات نويت أنها شاهدة لك على الطاعات ،
حافظة لك مع الحفظة بأمر ربّ السماوات ؟ قال :
لا . قال : فما وقفت بعرفة ، ولا طلعت جبل
الرحمة ، ولا عرفت نمرة ولا دعوت ، ولا وقفت
عند النمرات ، ثم قال : مررت بين العلمين ،
وصلّيت قبل مرورك ركعتين ، ومشيت بمزدلفة ،
ولقطت فيها الحصى ، ومررت بالمشعر الحرام ؟
قال : نعم . قال : فحين صلّيت ركعتين نويت أنها
صلاة شكر في ليلة عشر تنفي كل عسر وتيسّر كل
يسر ؟ قال : لا . قال : فعندما مشيت بين العلمين
ولم تعدل عنهما يميناً وشمالاً ، نويت ألا
تعدل عن دين الحق يميناً وشمالاً، لا بقلبك
ولا بلسانك ولا بجوارحك؟ قال : لا . قال :
فعندما مشيت بمزدلفة ولقطت منها الحصى ، نويت
أنك رفعت عنك كل معصية وجهل ، وثبّت كل علم
وعمل ؟ قال : لا . قال : فعندما مررت
بالمشعر الحرام نويت أنك اشعرت قلبك إشعار
أهل التقوى والخوف للّه عزوجل ؟ قال : لا . قال :
فما مررت بالعلمين ، ولا صليت ركعتين ، ولا
مشيت بالمزدلفة ، ولا رفعت منها الحصى ، ولا
مررت بالمشعر الحرام ، ثم قال له : وصلت منى ،
ورميت الجمرة ، وحلقت رأسك ، وذبحت هديك ،
وصلّيت في مسجد الخيف ، ورجعت إلى مكة ، وطفت
طواف الافاضة ؟ قال : نعم . قال: فنويت عندما
وصلت منى ورميت الجمار أنك بلغت إلى مطلبك ،
وقد قضى ربك لك كل حاجتك ؟ قال : لا
. قال : فعندما رميت الجمار نويت أنك رميت
عدوّك إبليس ، وغضبته بتمام حجك النفيس ؟ قال :
لا . قال : فعندما حلقت رأسك نويت أنك تطهرت من
الادناس ومن تبعة بني آدم ، وخرجت من الذنوب
كما ولدتك أمّك ؟ قال : لا. قال : فعندما صليت في
مسجد الخيف نويت أنك لا تخاف إلاّ اللّه عزوجل
وذنبك ، ولا ترجو إلاّ رحمة اللّه تعالى ؟ قال
: لا . قال : فعندما ذبحت هديك نويت أنك ذبحت
حنجرة الطمع بما تمسكت به من حقيقة الورع ،
وأنك اتبعت سنة ابراهيم(عليه السلام) بذبح
ولده وثمرة فؤاده وريحان قلبه ، وحاجه( 26 )
سنّته لمن بعده وقرّبه إلى اللّه تعالى لمن
خلفه ؟ قال : لا . قال : فعندما رجعت إلى مكة
وطفت طواف الافاضة ، نويت أنك أفضت من رحمة
اللّه تعالى ، ورجعت إلى طاعته ، وتمسّكت
بودّه ، وأدّيت فرائضه ، وتقرّبت إلى اللّه
تعالى؟ قال : لا . قال له زين العابدين(عليه
السلام) : فما وصلت منى ، ولا رميت الجمار ، ولا
حلقت رأسك ، ولا أديت نسكك ، ولا صلّيت في مسجد
الخيف ، ولا طفت طواف الافاضة ، ولا تقرّبت .
ارجع فإنك لم تحج ، فطفق الشبلي يبكي على ما
فرّطه في حجّه ، وما زال يتعلم حتى حجّ من قابل
بمعرفة ويقين » .


(1)
الزخرف : 18 .

(2)
الوسائل 3 : 507، بحسب طبعة آل البيت، ب 65 من
النجاسات، ح 4.

(3)
الاسراء: 16 .

(4)
الاعراف : 32 .

(5)
راجع الوسائل 17: 308، بحسب طبعة آل البيت ، ب 89
مما يكتسب به، ح 19، و316، ب 101 من تلك الابواب،
ح2.

(6)
الفرقان: 72 .

(7)
المؤمنون:1 ـ 3.

(8)
الاعراف : 204.

(9)
راجع الوسائل 8 : 355، حسب طبعة آل البيت، ب 31 من
صلاة الجماعة، ح 3.

(10)
الزمر : 65.

(11)
الروم : 60 .

(12)
الوسائل 8 : 367، بحسب طبعة آل البيت، ب 34 من
صلاة الجماعة، ح2.

(13)
الحج : 46 .

(14)
القصص : 5 ـ 6 .

(15)
الاعراف: 96.

(16)
المائدة: 66 .

(17)
الجن : 16

(18)
ابراهيم: 32 ـ 34.

(19)
الانسان : 27 .

(20)
القيامة:20 ـ 21.

(21)
البلد : 10 .

(22)
دعاء كميل .

(23)
من خطبة للحسين(عليه السلام) لدى عزمه على
الخروج إلى العراق. راجع البحار 44:367.

(24)
2 : 235، بحسب طبعة مكتبة اسماعيليان في قم.

(25)
10:166 ـ 172، بحسب المجلدات الحديثة.

(26)
لعل الصحيح: وحاجة سنّته لمن بعده، أي إن
سنته كانت بحاجة إلى خلف له كاسماعيل، ولكنه
مع ذلك قرّبه قرباناً لامتثال أمر اللّه.
ويحتمل أن يكون الصحيح: وأحيى سنّته.

/ 1