نقـد
قراءة في الاصلاح والاصلاح الديني
* الشيخ علي السبتي( كــنــدا )
يروق للبعض(1)
أن يرقى منبر النقد والتقويم لا لتطوير فكرة ،
والوقوف على نقاط الضعف ومواطن الخلل فيها
لمعالجتها ، والتغلب عليها عن طريق إبداء نظر
متين ورأي حكيم للوصول إلى الامثل والاحسن ،
ولكن لاثارة جملة من المبهمات والاشكالات ،
وإغراق الموضوع بعبارات ومصطلحات أبعد ما
تكون عن هدف عملية النقد ، وهو معالجة الفكرة
وتطويرها وتقويمها .
وهذا ما وقع فيه البعض عند طرح بعض
القضايا على مائدة النقد والنقاش ، خصوصاً
عندما تكون تلك القضايا مدار بحث وجدال شهدته
ساحات المنازلات الفكرية في الاونة الاخيرة .
ونحن هنا نحاول أن نسلّط الضوء على بعض
ما ينشر بين الفينة والاخرى حول مسألة
الاصلاح والتجديد في الفكر الديني ، لاستكشاف
الموقف الحقيقي والسليم ، دون الاستغراق في
طرح الشعارات والكلمات الرنانة والمصطلحات
الحديثة ، حرصاً على سلامة الفكرة ، وإيماناً
بضرورة إفشاء روح النقد البناء ، دون الوقوع
في مزالق التحديث والخلط المفاهيمي .
ومن خلال ما طرح حول هذا الموضوع ،
أمكننا مناقشة وتلخيص الاشكالات والمآخذ في
خمسة محاور رئيسية ، هي كالتالي :
أولاً :
اعتبار معالجة مسألة الاصلاح فيالمؤسسات الدينية إصلاحاً دينياً ، وقد وقع
في هذا الخلط كثير من الكتاب ، مما أدّى إلى
خطأ مفاهيمي فادح . والفارق بين الامرين بيّن
وواضح ; فالاصلاح الديني هو عملية تغيير للاسس
والمنطلقات ، والتصورات التي يحملها دين من
الاديان عن الكون والحياة ، وعلاقات الناس
وادوارهم وغير تلك ، وبعبارة أخرى هو عملية
هدم وبناء وترميم ـ وفق ما يقتضيه الاصلاح ـ
لتلك الامور ، مما قد يعرّض جوهر الفكرة إلى
المسخ أو النسخ والتغيير والتحريف . أما إصلاح
المؤسسات الدينية فهو عملية تخليصها من
الفساد الاداري ، وحالات الفوضى والضياع التي
تهدد دورها ، والغاية المرجوة من وجودها ،
وتحولها إلى شركات انتفاعية تعيش الاحباط
والتخلف والرجعية ، لذا نحن نتفق مع الدعوات
إلى إصلاح المؤسسات الدينية ، أو إلى نقد
التفسير الديني الذي يبرر وجود تلك المؤسسات
، ولكن بشرط عدم التعدي في النقد إلى المس
بنفس المقدسات الدينية المسلَّمة ، التي
يقرّها ويثبتها نص القرآن الصريح أو السنة
النبوية القطعية السند ، لا لاننا نؤمن
بدكتاتورية في عالم الفكر ، وإنما لان لكل
حوار بنّاء أسساً ومقومات ينطلق منها ليعالج
ما استعصى أو أشكل عليه ، أو لم يتقبله الذوق
العقلي . أما عندما نعمد إلى نسف تلك الاسس
وإنكار تلك المقدمات ، فعندها لن يكون هناك
سبيل لحوار بنّاء مفيد ، وإنما لهذيان فكري ،
وجدال عقيم لا يولد إلاّ ضياعاً وتشتتاً لا
يرجى بعده سبيل ; إذ يمكن ادعاء تصحيح التفسير
بالحدود التي وضعها الشارع المقدس ; لانه ـ أي
التفسير ـ نتاج بشري .
ولتقريب المعنى أكثر نذكر نموذجاً من
الخلط والتشويش الذي وقع فيه بعض دعاة
التجديد والاصلاح ، عندما أرادوا تحليل واحدة
من ثوابت العقيدة الاسلامية وهي العصمة ،
ومما قالوا فيها أنها نتاج خليط غير متجانس
بين التاريخي والفقهي والكلامي ، وأنها صنيعة
قوى الاستبداد السياسي والديني .
أليس من الواضح جداً أن أصحاب
الاعتقاد بالعصمة ، بما تمثل من حاجة بشرية
إلى القدوة والنموذج والمثال الرفيع المنزّه
، كانوا هم على الدوام وفي معظم حقب التاريخ
ضحية ذلك الاستبداد ولقمته السائغة ؟ ، ثم كيف
لنا الوصول إلى النصوص الصحيحة ـ وهي التي
يركز عليها دعاة الاصلاح باعتبار الاعتماد
عليها في التغيير ـ وحَمَلة هذه النصوص
ومبلغوها لا يتمتعون بالعصمة التي تؤمن من
وقوعهم في السهو أو الغلط أو الاشتباه
والنسيان ؟ ، وهل يمكن الحديث عن نصوص صحيحة
إذا انتفت العصمة ؟ .
أو عندما يتحدثون عن الشورى باعتبارها
من مظاهر العدالة والحرية ، اللتين يتبجح
بهما دعاة الاصلاح ، فلا ندري عن أي شورى
يتحدثون . إذا كان المقصود ما أراده القرآن
الكريم في سورة الشورى بقوله : (والذين
استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى
بينهم ومما رزقناهم ينفقون)(2)
، وما قبلها وما بعدها من الايات الكريمة، فهو
مدح لسلوك المؤمنين ، لا منح صلاحية التشريع
أو النصب أو العزل ; لانها من مهمات الرسول(صلى
الله عليه وآله) المسدَّد والملهَم ، ولا يمكن
إيكالها إلى غيره ; لانها تؤدي إلى نتائج
مصيرية على مستوى الامة ، ثم إن سياق الايات
السابقة لها وتفسيرها الموضوعي ، لا يساعدان
على هذا المعنى المهم والخطير في حياة أي
جماعة بشرية . وكان دعاة الاصلاح والتغيير
كثيراً ما يتحدثون عن الواقع باعتباره حاكماً
مسلطاً على الافكار والعقائد ، فهلا نظرنا
إلى واقع الشورى في صدر الاسلام ، وما
آلت إليه من تكريس نخبوي طامح لا يقوم على
أساس كفاءة واستحقاق وجدارة ، بقدر ما يقوم
على مصادرات وترتيبات واتفاقات مسبقة ، أدّت
فيما بعد إلى اختزال الامة إلى ستة أشخاص ،
مما أدى إلى إلغاء تام لمعنى الشورى ، مبقياً
على شكلها ولفظها فقط ، هذا إذا سلمنا أن
المقصود منها هو الاخذ بآراء الامة من خلال
أهل عقدها وحلها ، في مسائل مصيرية تتوقف
عليها سلامة المسيرة وقداسة اهدافها . أما
التشاور فيما عدا ذلك من أمور الحياة والمعاش ،
فهو مشاركة للرجال في عقولها ، وأمر محبب
للفطرة الانسانية ، ولا يعترضه أو يعارضه أحد
في حدود ما نعتقد .
ثانياً :
الفصل بين الدين ورجاله ، وذلك «لانهمأقل الطبقات الاجتماعية ثقافة وعلماً ،
وشعوراً بالمسؤولية تجاه قضايا المصير
والهوية والانتماء والتاريخ والارض» ، وهذا
تعميم ظالم وغير منصف ، وقد لا نحتاج إلى
كبير جهد لكي نبطل هذه الدعوة ; فرجال الدين هم
جمهور من جملة جماهير المجتمع في كل مكان ،
وفيهم الصالح والطالح والعالم والجاهل ، كما
في جمهور الاطباء والمحامين والكتاب
والفنانين ، ووجود شواذ في قاعدة ما لا يلغي
القاعدة من أساسها ليؤسس لنقيضها ، ولو وجد
الانصاف والموضوعية عند أي محقق أو مدقق ،
لدعياه إلى القول ـ إذا استثنينا المصداق
الرئيسي المتمثل بعلماء الدين الربانيين
المتخصصين ـ بأن من رجال الدين المسلمين
شعراء وخطباء وأطباء وفلكيين وزعماء وقادة
سياسيين ، كان لهم الدور الابرز في حركات
التحرر والنهضة ومواجهة الاستعمار والتبعية
، وإننا لفي غنىً عن ذكر بعض أسمائهم ومناقبهم
; إذ إن تاريخنا الاسلامي زاهر وحافل
ببطولاتهم وأمجادهم منذ الصدر الاول للاسلام
إلى يومنا هذا . فبأي منطق وبأي عقل يُتهم رجال
الدين بأنهم أقل الطبقات الاجتماعية شأنا ؟! (ألا
ساء ما يحكمون) .
ثالثاً :
الدعوة إلى الفصل الزماني والمكاني فيالاحكام الشرعية ، والركون إلى الواقعية في
تبيين الاحكام ، وهذا يعني أن لكل أمة أحكاماً
ورسالة خاصة بها ، ورجالاً يختلفون عن رجال
الامم الاخرى ، تصديقاً لقوله تعالى : (وما
أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم)(3)
.
إن هذه الدعوة ليست الاولى من نوعها ،
وإن أسواق البعض من الكتاب المسلمين أدعياء
الحداثة رائجة بمثل هذه الدعاوى والافكار ،
وهي ردّ فعل على واقع الهزيمة والتخلف الذي
يعيشه الكثير من البلدان الاسلامية ، وتفتقر
إلى تشخيص المشكلة ، فالفصل الزماني والمكاني
لا يمكن أن يتخذ منهجاً وقاعدةً لا يتخلّفان ;
لان أحداً لا يقبل مقولة رفض الموروث أو دفنه
في الماضي ، لانه عاش في زمان ومكان يختلفان
الان عن زماننا ومكاننا ، فالحاضر هو لحظة
استكمال للماضي ، والمستقبل هو استمرار دفعي
للماضي . أما إذا كان المقصود هو أن تؤخذ بعين
الاعتبار ، عند تبيين الاحكام ، مدخلية
الزمان والمكان فيها ، فهذه المسألة مطروحة
الان في معاهدنا الاسلامية وحوزاتنا العلمية
، لا سيما عند مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ،
تحت عنوان تقسيم الاحكام الشرعية إلى ثابت
ومتغير ، وقد أشار إلى هذه النظرية العديد من
الفقهاء ، نذكر من بينهم العلامة السيد محمد
حسين الطباطبائي ، فقد كتب في بحثه عن الولاية
والقيادة في الاسلام : «تنقسم الاحكام
الاسلامية ـ كما اتضح ـ إلى قسمين ، وبعبارة
أخرى يطبق في المجتمع الاسلامي نوعان من
الاحكام :
النوع الاول هي الاحكام الالهية
وقوانين الشريعة ، وهذه عناصر ثابتة وأحكام
غير قابلة للتبدل والتغيير . لقد نزلت هذه
الاحكام وحياً إلهياً إلى النبي الاكرم لتكسب
عنوان الدين الابدي غير القابل للنسخ ، وهي
واجبة على البشر أبداً ، وستبقى كذلك إلى
الابد .
النوع الثاني هي الاحكام التي تنبثق
من مركز الولاية ، فتوضع وتنفّذ بحسب مصلحة كل
عصر . طبيعي قد اتضح أن هذا اللون من الاحكام
يستتبع في بقائه وزواله مقتضيات العصر
ومتطلباته ، وهي تتغير جزماً مع التقدم
الحضاري ، وما يطرأ من تغيير في المصالح
والمفاسد . أجل الذي لا يتغير كما سيأتي هو أصل
الولاية بذاته ; لانه من الاحكام الالهية ومن
عناصر الشريعة ، وبالتالي هو لا يخضع للنسخ
والتغيير»(4) .
لذلك يمكن القول إن تجربة الحكومة
الاسلامية المعاصرة ترتكز على هذه النظرية
وتستفيد منها . أما الاستدلال بالاية الكريمة
: (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه
ليبين لهم)(5)
، فلا يصلح أن يكون تأييداً للكيانات
والقوميات داخل الكيان الاسلامي الكبير ، ولا
للقيادات المحلية بديلاً عن قيادة وخلافة
وإمامة عامة ، بل إن مغزاها هو أن على الرسول(صلى
الله عليه وآله) ، لكي ينجح في تبليغ رسالته ،
أن يستخدم اللغة التي هي لغة ولسان القوم
المبلَّغين ، لا أن يكون من عرقهم أو قبيلتهم
أو ضمن حدودهم السياسية المصطنعة .
رابعاً :
التضخيم والمبالغة في وصف الحالاتالسلبية التي تعتري المعاهد الدراسية
والحوزات الاسلامية ، وتعميم بعض الظواهر
الشاذة ، وتجاهل الدور الهام الذي لعبته
الحوزات والمدارس الدينية عبر العصور ، وذلك
بإبقائها على باب الاجتهاد مفتوحاً ، خصوصاً
عند أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ،
واعتبارها العقل مصدراً رابعاً من مصادر
التشريع بعد القرآن والسنة والاجماع .
إن هذا الدور الذي يساهم مساهمة
فعّالة في إبقاء الشريعة حية تواكب الحدث
وتعايش الزمن ، ما كان لولا الحوزات وعقول
أصحابها . ولا مبرر لهذا التحامل
والتطاول تحت ستار عناوين ومبررات إصلاحية ;
لان الاصلاح والحرص عليه يبدأ بعملية طرح
للافكار ، والترويج لها وتبيينها داخل الجسم
المعالج ، وفي أروقته ومكامن حاجته ، وهذا ما
يقوم به الحريصون حقاً على مستقبل المؤسسات
الدينية والحوزات العلمية ، وذلك من خلال
إعدادهم لمناهج دراسية جديدة ، وطرحهم لكتب
ومتون علمية منقحة ومشذبة ، وتحويلهم
نظام الحوزة الدراسي من نظام حر تسوده الفوضى
أحياناً ، إلى نظام إداري منضبط تسود فيه
أجواء أكاديمية وعلمية .
خامساً :
اتهام الحوزة العلمية بأنها «لم تعتبرالاخلاق علماً مستقلاً بذاته» ، وهذا الاتهام
يعبر عن عدم الفهم لحقيقة الاخلاق في الاسلام
; فاعتبار الاخلاق علماً مستقلاً بدأ بفلاسفة
الاغريق ، الذين سبقوا في الكتابة عن الاخلاق
ناظرين إليها موضوعاً نظرياً لا سلوكاً
تربوياً عملياً . أما الاخلاق في الاسلام فهي
هدف كل التشريع وروح كل العلوم ومقصد الرسالة
ومبتغاها ، وهذا ما عبر عنه النبي(صلى الله
عليه وآله) بقوله : «إنما بعثت لاتمم مكارم
الاخلاق» ، فالاخلاق في عقيدتنا ممارسة عملية
يفترض أن تتحكم بكل تصرفاتنا العبادية
والمعاملية ، ما دام اللّه تعالى يرى وتحصي
ملائكته من الانسان أفعاله ، بل الاهم من ذلك
هو أن اللّه وحده هو الكمال المطلق ، ونحن
الناقصون الساعون الكادحون . قال تعالى : (يا
أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)(6) للوصول إليه لا
في مكان ، ولقائه لا بملاقاة الوجود ،
فقد جل وعلا عن ذلك علواً كبيراً سبحانه ،
ولكن نصل إلى مستوى التنزّه والتطهر والترفع
عن كل رذيلة ونقيصة ، ونلاقيه عندما تلتقي
صفاتنا الاخلاقية بصفاته الربانية ، وترتقي
أرواحنا إلى سدرة المنتهى .
إن هذا الفهم للاخلاق لا يستدعي
بالضرورة وجود كتاب يحويها ، بل إن الفقه
بمسائله يتضمن أخلاقاً والتزاماً بحدود
وطاعات ، والعقائد بمسائلها تركز الاخلاق
وتجذرها ، والقرآن بمضامينه يضرب لنا الامثلة
والنماذج ، ويطرح لنا القدوة والاسوة عن
النبي(صلى الله عليه وآله)وعترته(عليهم
السلام) وأصحابه الذين اتبعوه بإحسان ; لحثنا
على التشبه بهم والسير على خطاهم ، والعبادات
تزكي القلوب وتنهاها عن الفحشاء والمنكر ;
لتفيض أبداً بأخلاق سامية رفيعة .
إن كل هذه العلوم موجودة في الحوزة ،
ولها رجالها وحلقاتها وروادها ، فهل المطلوب
أن تقام دروس في كتب الاخلاق لنقول بعدها
بوجود أخلاق في الحوزة ؟
إن وجود أمراض أخلاقية في الحوزة
كالغيبة والحسد وغيرها ، يؤكد مرة أخرى أن
مجتمع الحوزة هو جزء لا يتجزأ من المجتمع
البشري ، وأن أهله هم أبناء عامة الناس ، يبدر
منهم ما يبدر من أولئك ، فلا يمكن القول
بأن هناك حزاماً سحرياً يحيط بالكيان العلمي
للحوزة ، ويحوّل في مدة قصيرة كل من دخله إلى
ملاك لا يعصي اللّه ما أمره . نعم ، يتوقع الكل
امتيازاً لاهل العلم عن غيرهم ، ولكن هذا منوط
بالعمل لا بنفس العلم . قال اللّه تعالى : (مثل
الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل
الحمار يحمل أسفاراً)(7)
.
وأخيراً إذا كانت الحوزة تفتقر إلى
الاخلاق وإلى القيم والمثل ، فمن أين يتخرج
هؤلاء الربانيون والصالحون والشهداء ، الذين
يروون الامة بعلمهم وتقواهم ودمائهم على
امتداد تاريخها ؟! .
(1)
إشارة إلى ما نشر في أسبوعية المغترب التي
تصدر في كندا في أعدادها 123 ـ 126.
(2)
الشورى : 38 .
(3)
إبراهيم : 4 .
(4)
بحوث اسلامية 1 : 180 ـ 181، مؤسسة الاعلام
الاسلامي.
(5)
إبراهيم : 4 .
(6)
الانشقاق : 6 .
(7)
الجمعة : 5 .