دراسات
تغيير الاحكام الشرعية وفقاً
لمقتضيات الزمان والمصالح الاجتماعية
* الدكتور السيد مصطفى محقّـق
الدامـاد
ترجمـة وسـام حسن
عمل فقهاء الشيعة الامامية دائماً ـ
وانطلاقاً من اعتقادهم الراسخ بأصلَي
الخاتمية من جهة، ودوام الشريعة الاسلامية
وبقائها من جهة اُخرى ـ على مطابقة الشريعة مع
العصر بشكل تلبّي فيه احتياجات المؤمنين في
كافّة المراحل والازمنة. فممّا لا شكّ فيه أنّ
الاحتياجات والمتطلّبات الفردية
والاجتماعية تتغيّر وتتبدّل باستمرار.
والسؤال هنا، كيف يمكن مطابقة الدين الثابت
مع متغيّرات العصور؟
لقد طرح الفقهاء طرق حلّ مختلفة،
لكنها لم تكن طريقاً واحداً دون شكّ ـ رغم
أنها تقع جميعاً ضمن الاطار العام للحركة
الاجتهادية، وأنها ذات وجوه مشتركة من بعض
الجهات ـ بل تمايزت عن بعضها في وجوه اُخرى،
ونحن هنا نشير إلى طريقتين عرضهما علماء
الشيعة طوال تاريخهم الاجتهادي.
الطريقة الاولى: أثر عنصر الزمان في
استنباط الاحكام
يبدو أن «الفيض الكاشاني» ـ الفقيه
والفيلسوف والشاعر في القرن الحادي عشر
الهجري ـ كان أكثر صراحة من غيره في عرضه لهذا
الموضوع في كتابه القيّم «الاُصول الاصليّة».
وقد كان «الفيض الكاشاني» أخبارياً إلى حدّ
بعيد، ولم يكن متّفقاً مع الاُصوليين.
ولا أجد ضرورة هنا للبحث في المنهجين
الاُصولي والاخباري في استنباط الاحكام،
ولكنّي أرى لزوم ذكر المسألة الاتية كمقدّمة
لتوضيح نظرية «الفيض».
يرى الشيعة الامامية أن أحكام الشريعة
الاسلامية تمّ بيانها من قبل رسول اللّه(صلى
الله عليه وآله) ومن بعده الائمة المعصومين(عليهم
السلام)، وعلى مدى ثلاثة قرون. وما وصل إلى
الفقهاء وبقي لهم فهو مجموعة من الروايات غير
المتوافقة، والمتعارضة في كثير من الموارد.
والتعارض بين الروايات تارة يكون جزئياً
واُخرى يكون كلّياً وعميقاً جدّاً. وقد لجأ
فقهاء الامامية إلى الاجتهاد واستنباط
الاحكام مستندين في ذلك إلى اعتقاد في علم
الكلام يقول: «إن جميع المعصومين نورٌ واحد»،
ويجب تفسير كلماتهم على أساس الالمام الكامل
بجميعها، فَتَشَكَّل تدريجياً منهجٌ أُطلِق
عليه في كتب أصول الفقه «قواعد التعادل
والترجيح».
وهذا المنهج لا يأخذ في الاعتبار ـ
أبداً ـ عنصر الزمان وتغيّر الظروف والاوضاع
والاحوال وأثرها في الاحكام والقوانين،
إنّما يدرس كافّة الاحكام والمتون الصادرة
طوال ثلاثة قرون دراسة واحدة كما لو كانت
صادرة عن شخص واحد، بمعنى الاعتماد في تفسير
بعضها على البعض الاخر.
والقواعد التفسيرية المذكورة
والمندرجة جميعها تحت العنوان الكلّي «التعادل
والترجيح»، بعضها يستخدم في حالات التعارض
الجزئي، مثل: قواعد: «العام والخاص» و«المطلق
والمقيد» و«المجمل والمبيّن» و«الحكومة
والورود» وأمثالها. وبعضها الاخر يستخدم في
حالات التعارض والتباين الكلّي، مثل: «القواعد
العلاجية»، وهي قواعد تتيح للفقيه العلاج
وطريق الحلّ في الحالات التي تتضمّن حديثين
متعارضين بشكل كامل صادرين عن إمامين أو إمام
واحد ولا يمكن الموافقة بينهما أبداً. فيصبح
بمقدورالفقيه ـ ومن خلال طرق الحل التي
تهيّئُها القواعد المذكورة ـ أن يعتبر أحد
الحديثين صحيحاً والاخر غير صحيح، فيحمل
الخبر الذي سلب عنه الصحة على الجعل أو على
صدوره تقيّةً. وهذا الطريق سلكه العلماء
الاُصوليون.
وقد عرض «الفيض الكاشاني» نظرية اُخرى
استناداً إلى عدد من أحاديث أئمة اهل البيت(عليهم
السلام) التي تحوي قواعد عملية. وتقوم نظريته
على أساس تغيّر الظروف والاوضاع والاحوال،
ومن ثم تغيّر الاحكام والقوانين الشرعية.
يرى «الفيض» أن وجود أخبار تضمّ
أحكاماً متعارضة لا يعكس بالضرورة صحّة بعضها
وعدم صحّة البعض الاخر،بل إن تغيّر الظروف
الزمانية أدّى إلى تغيّر الاحكام. وعلى هذا
الاساس فإنّ كلاًّ منها صحيح في محلّه، وفيه
حكم من أحكام اللّه تعالى.
ومن بين الروايات التي استند إليها «الفيض
الكاشاني» نذكر الاحاديث الثلاثة الاتية:
1 ـ روى الكليني عن أبي عبدالله الصادق(عليه
السلام) أنه قال: «أرأيتك لو حدّثتك بحديث
العام ثم جئت من قابل فحدّثتك بخلافه،
بأيّهما كنت تأخذ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالاخير،
فقال لي: رحمك اللّه»[1].
2 ـ عن المعلّى بن خنيس قال: قلت لابي
عبداللّه(عليه السلام): إذا جاء حديث عن
أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: «خذوا
به حتى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحيّ
فخذوا بقوله، قال: ثم قال أبو عبداللّه(عليه
السلام): إنّا واللّه لا نُدخلكم إلاّ فيما
يسعكم»[2].
3 ـ في الكافي: «خذوا بالاحدث»[3].
ثم يضيف الكاشاني قائلاً: «والاخير هو
مقتضى وقته، فإنّ لكلّ وقت مقتضى بالاضافة
إلى العمل، وليس ذلك بنسخ، فإنّ النسخ لا يكون
بعد النبي حقاً، والاخذ بقول الحيّ أيضاً
كذلك، لانّه أعلم بما يقتضي الوقت العمل به».
وبناءً على هذه النظرية تنقسم الاحكام
الاسلامية إلى قسمين:
الاول: الاحكام الثابتة، وهي لا تقبل
التغيير في كل الظروف.
الثاني: الاحكام المتغيّرة، وهي
تتغيّر وفقاً للظروف الزّمانية والمكانية.
والاجتهاد يقوم بتشخيص موارد ومصاديق
كلّ منهما. والاجتهاد عبارة عن تطبيق الفروع
على الاصول، وتمييز الاحكام المتغيّرة عن
الاحكام الثابتة.
ويمكن وفقاً لهذه النظرية مطابقة
الكثير من أحكام الشريعة على أوضاع الزمان
وأحواله. فمثلاً: إذا اختصّ حكم الزكاة في
الشريعة بموارد خاصة مثل الغلاّت الاربع
والانعام، فيمكن أن يتّسع الحكم في الوقت
الحاضر ليشمل موارد اُخرى، لانّ الظروف
والحياة الاجتماعية مغايرة تماماً للعصر
السابق، أي زمن صدور الروايات. أو إذا أوصت
الشريعة بالتوالد والتناسل فيمكن القول إنّ
هذه الوصايا متعلّقة بعصر اتخذت فيه الحياة
طابعاً قبليّاً، فكانت عزّة المجتمع
الاسلامي مرتبطة بكثرة عدد المسلمين. أمّا في
الوقت الحاضر فسيتغيّر الحكم المذكور
باعتبار أن زيادة عدد السكان تؤدّي إلى
الفقر وبروز المشاكل المعيشية.
الطريقة الثانية: أثر عنصري المصلحة
والمفسدة في استنباط
الاحكام الشرعية.
تتغيّر بعض الاحكام الاسلامية على
أساس المصلحة والمفسدة. ومن أجل تبيين
الموارد المذكورة يلزم التوجّه إلى دور
المصلحة في الاحكام الشرعية ـ بشكل عام ـ
وتعيين مواردها.
فهناك ثلاثة مستويات للدور الذي يمكن
للمصلحة أن تلعبه:
الاول:دورالمصلحة في استنباط
الاحكامالاوليّة.
يرى الشيعة الامامية أنّ الاحكام
الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد. بمعنى: أنّ
جميع الاحكام الشرعية من الحلال والحرام
والواجب والمستحب والمكروه والمباح، سُنّت
على أساس وجود ملاكات هي مصالح ومفاسد
العباد، والتي لولاها لما سنّ الشارع الاحكام
المذكورة.
وبالطبع فإنّ تشخيص المصالح والمفاسد
المذكورة تابع لادلّة وردت من ناحية الشرع،
وحينما يدرك الفقيه المصالح والمفاسد التي
تمثّل علل الاحكام ـ من أدلّتها الشرعية ـ
فبإمكانه جعل الاحكام دائرة مدار تلك العلل
وجوداً وعدماً، وهذه هي القاعدة التي ذكرها
الفقهاء تحت عنوان: «العلة تعمّم وتخصّص».
فمثلاً إذا جاء في متن الدليل أنّ
الخمر محرّمة لانها مسكرة، فيستفاد من هذا
الدليل أن علّة وملاك تحريم الخمر هو
الاسكار، أي أن مفسدة الاسكار أوجبت تحريم
الخمر. وعلى هذا الاساس يمكن للفقيه أن يوسّع
التحريم ليشمل كافّة الحالات التي فيها إسكار
سواء كانت خمراً أو غيرها.
بينما يرى فقهاء سائر المذاهب
الاسلامية طريق التوصّل إلى علّة الحكم أكثر
اتساعاً، إذ لا يحصرونه بالمنصوص في متن
الادلّة الشرعية، كما يفعل علماء الامامية،
بل إن الفقيه إذا توصّل ـ وبأي طريق ـ إلى
علّة الحكم والمصلحة والمفسدة اللتين
تمثّلان مناط الحكم، فبإمكانه العمل على
تلك الشاكلة.
ومن هنا كانت في مصادرهم قواعد مثل،
القياس والاستصلاح[4]،
والتي لا جود لها في فقه الامامية.
الثاني:دور المصلحة في الاحكام
الولائية.
وتوضيحه: أنّ الاحكام الفقهية تقسم
إلى قسمين كُلّيّين، أحدهما: الاحكام الفقهية
الثابتة، مثل: الالزام، الذي يشمل الواجبات
والمحرّمات.
وهذه المجموعة من الاحكام ليست من وضع
وليّ الامر، وهي ثابتة دائماً ولا تقبل
التغيير باختلاف الازمنة والامكنة، كوجوب
الصلاة.
وثانيهما: الاحكام المتغيّرة، وهي
عبارة عن الاحكام الموضوعة حسب الاصل
الاوّلي، مثل تسلّط الانسان على ماله، فهذا
حكم شرعي وُضع بمقتضى الاصل الاوّلي، حسب
قاعدة: «الناس مسلطون على أموالهم»، إلاّ أنّ
ترسيم حدود الحكم الشرعي تُرك لوليّ الامر
والحكومة الاسلامية، إذ يمكنهما توسيع تلك
الحدود وتضييقها وفقاً للمصالح والمفاسد
الاجتماعية.
ونطلق على هذه المجموعة من الاحكام
اسم «الاحكام الولائية». وجميع الترخيصات
والاجازات هي من هذه المجموعة. والمقصود
بالاحكام الترخيصية، الاحكام التي لم يلزم
الشرع الناسَ بها، بل رُخِّص لهم فيها،
وأُعطوا حريّة التصرّف. وهذه الحرية هي حكم
شرعي، ومقتضى الاصل الاوّلي. إلاّ أن ترسيم
حدوده تُرك للحكومة الاسلامية التي يمكنها
تغييره على أساس المصالح والمفاسد. مثل
الحالات التي تُلحِق الملكية الخاصة فيها
الضرر بالاخرين، فيتمّ تحديدها حسب
قاعدة «لا ضرر ولا ضرار».
والمثال الاخر هو فرض الضرائب، فإذا
شخّص الحاكم أن عدم دفع الضرائب يضرّ
بالمجتمع، فإنه يوجب دفع الضرائب لرفع الضرر.
الثالث:دور المصلحة في موضوعات
الاحكام.
عندما تتعلّق المصلحة أو المفسدة
بموضوع الحكم، فإن تشخيص المصلحة والمفسدة
يكون بيد الحاكم الاسلامي. وعلى أساس تغيير
المصالح والمفاسد يتغيّر موضوع الحكم وتبعاً
له الحكم.
فمثلاً: جاء في القرآن الكريم: (وَلا
تَقْرَبُوا مالَ الْيَتيمِ إلاَّ بِالّتي
هِيَ أحْسَنُ)[5]فإن
تشخيص مصلحة الصغار تركت لرأي الحاكم
الاسلامي، وعلى أساس تغيير المصالح يمكن أن
يتغيّر قرار الحاكم الاسلامي.
فالفرق بين القسمين الثاني والثالث أن
الحاكم الاسلامي في القسم الثاني يقوم بعمل
تشريعي في حالات المصلحة والمفسدة. بينما
يقوم في هذا القسم بتشخيص الموضوع. والفرق
الاخر أنّه في القسم الثاني يكون تحديد
المصلحة من شأن الحاكم الاسلامي وحسب، بينما
يمكن للافراد العاديين في القسم الثالث تشخيص
الموضوع والعمل طبقاً لذلك.
([1]) اُصول الكافي 1 : 67 .
([2]) اُصول الكافي 1 : 67 .
([3]) المصدر ، في ذيل الحديث
السابق.
([4]) وهو المعبّر عنه بالمصالح
المرسلة.
([5]) سورة الانعام، الاية: 152.