دراسـات - مدخل إلی النظام الاجتماعی الإسلامی (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مدخل إلی النظام الاجتماعی الإسلامی (1) - نسخه متنی

السید منذر الحکیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراسـات

* السيد منــذر الحكيــم

المدخل الى النظام الاجتماعي
الاسلامي

( 1 )

1 ـ المجتمع

مجموعة من الناس يقطنون في بقعة
جغرافية محددة ، وتربطهم علاقات متبادلة ،
وتوحّد بينهم مجموعة من الاهداف والقيم
والتقاليد والعادات والقوانين .

وهناك من قيّد هذا التعريف بأن تكون
البقعة الجغرافية محدّدة سياسيّاً ،
ومعترفاً بها دوليّاً( 1 )
.

2 ـ النظام الاجتماعي

مجموعة القوانين التي تنظّم العلاقات
الانسانية بين أفراد المجتمع.

3 ـ القرآن والمجتمع

1 ـ القرآن الكريم كتاب اللّه للبشرية
جمعاء ، وقد دعا الناس جميعاً إلى مجتمع
انساني قائم على أساس عقائدي ، يتمثّل في
عقيدة التوحيد الفطرية . وقد لخص الامام محمد
حسين كاشف الغطاء الاسلام في كلمتين ، في
قولته الحكيمة : «بُني الاسلام على كلمتين :
كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة» .

2 ـ تعرّض القرآن الكريم لمجموعة
الظواهر الاجتماعية تحليلاً ومعالجةً .

3 ـ لم تُستعمل كلمة (المجتمع) في النص
القرآني ، ولكن القرآن قد استعمل ما يدل على
المجتمع بالترادف ، أو بالملازمة البيّنة ،
ومن ذلك : القرية ، والقرن ، وصيغ الجمع
والعموم ، فضلاً عن القوم ، والقبيلة ، والشعب
، والناس ، وبني آدم ، والامة( 2 )
.

4 ـ القرآن والنظام الاجتماعي

استهدف القرآن الكريم المجتمع البشري
كلّه ، وقدّم له نظاماً اجتماعياً شاملاً
يحقق مجموعة الاهداف التي خُلق الانسان من
أجلها .

5 ـ المشكلة الاجتماعية المعاصرة

تتلخّص المشكلة الاجتماعية الكبرى في
عصرنا وفي كل عصر في كلمات ثلاث :

تشخيص النظام الاجتماعي الاصلاح
البشري ، والايمان به ، وتطبيقه، بحيث يحقق
للبشرية سعادتها ، التي تتمثل في تحقيق
مجموعة الاهداف السامية التي خُلقت البشرية
من أجلها ، وهُيئت لها أسبابها .

إن اكتشاف النظام الاجتماعي الاصلح
يتوقف على معرفة ما يلي :

1 ـ طبيعة المجتمع البشري وخصائصه ،
والاهداف التي خُلق من أجلها .

2 ـ عناصر المجتمع البشري ، وأنواع
العلاقة بينها .

3 ـ السنن الاجتماعية التي تتحكم في
المجتمع وعناصره .

4 ـ الحاجات الحقيقية للمجتمع ، وكيفية
تحقيقها . بحيث لا يتنافى مع السنن والاهداف .

وهناك مجموعة من البحوث المرتبطة بهذه
الفصول الاساسية ، التي تمهّد لاكتشاف النظام
الاجتماعي الاصلح ، نشير إليها تباعاً ، مثل
نشأة المجتمع البشري وأصالته ، ونوع ارتباط
الفرد بالمجتمع ، ومراحل تطوّر المجتمع
البشري ، واتحاد المجتمعات البشرية في
الماهية والخصائص الاساسية ، وخصائص العمل
الاجتماعي وحدوده.

6 ـ موقف القرآن الكريم من

نشأة المجتمع البشري ، وضرورته ،
وخصائصه ، وأهدافه :

1 ـ (يا أيها الناس اتّقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ
منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا اللّه الذي
تَساءلون به والارحامَ إن اللّه كان عليكم
رقيباً)( 3 )
.

2 ـ (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر
وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ
أكرمكم عند اللّه أتقاكم إن اللّه عليم خبير)( 4 )
.

3 ـ (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله
نسباً وصهراً وكان ربّك قديراً)( 5 )
.

4 ـ (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا
بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم
فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخريّاً
ورحمة ربك خير مما يجمعون)( 6 )
.

5 ـ (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في
الارض خليفة ... قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما
يأتينّكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)( 7 )
.

فاللّه سبحانه وتعالى خلق الانسان
ليعيش في مجتمع تتجلى من خلاله قدرات الانسان
واستعدادته ، وتنمو فيه نوازع الخير في مجتمع
عامر بالتقوى والصلاح ، إلى حيث الكرامة
الالهية الخاصة ، التي يكتسبها الانسان من
خلال سعيه وارادته وكدحه ، في سبيل الارتباط
التام بالكمال الالهي المنشود .

قال تعالى : (يا أيها الانسان إنك كادح
إلى ربّك كدحاً فملاقيه)( 8 )
.

وقال أيضاً : (يا أيها الذين آمنوا
اتقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنَّ إلاّ
وأنتم مسلمون)( 9 )
.

لم يرد اللّه أن يعيش كل فرد وحده ،
وإنما صمّم الانسان تصميماً يتحقق من خلاله
الارتباط الاجتماعي ، بحيث يلتقي الرجل
بالمرأة فتتكوّن الاسرة ، وهي النواة
الاجتماعية الاولى ، ثم تتكوّن العشيرة
والقبيلة والشعب والامة ، ثم تجتمع الامم
والشعوب على عقيدة واحدة ونظام واحد ، نحو هدف
يتّسم بالكمال واللامحدودية .

قال تعالى : (إنّ هذه أمّتكم أمة واحدة
وأنا ربكم فاعبدون)( 10 )
.

فالحياة الاجتماعية للانسان ضرورة
تكوينية فطرية لا مفرّ منها ، وهي حاجة حقيقية
للانسان لا يمكنه أن يتكامل إلاّ من خلالها .
وقد اصطفى اللّه الانبياء من البشر ليحملوا
مشعل الهداية الربانية للانسان، في مجال
تعريفه بالنظام الاجتماعي الاصلح بمعناه
الشامل طبعاً ، ويزوده بمفاتيح الايمان به ،
والعمل على أساسه .

7 ـ أصالة الفرد وأصالة المجتمع

ذهب البعض إلى أصالة الفرد دون
المجتمع ، معتبراً المجتمع ذا وجود اعتباري ،
فالهيئة الاجتماعية للافراد هي أمر اعتباري
ذهني بحت .

وذهب آخرون إلى أن للمجتمع وجوداً
حقيقياً ، بالاضافة إلى وجود الافراد ، ولكن
هذا الوجود الاجتماعي وجود مركَّب من الافراد
تركيباً صناعياً أو طبيعياً .

والتركيب الصناعي هو أن يحتفظ كل جزء
بطبيعته وخصائصه وشخصيته ، ولكن تتحدّد حرّية
حركته مادام مرتبطاً بغيره من الاجزاء .

بينما يفقد الجزء شيئاً من خصائصه
وطبائعه حينما يندمج مع غيره في مركَّب طبيعي
حقيقي .

والتركيب الاجتماعي الطبيعي ليس بين
أجسام الافراد ، بل بين أفكارهم وميولهم
وعواطفهم ومعتقداتهم وثقافتهم ، بحيث يظهر
على سلوكهم وإرادتهم وأهدافهم المتشابهة
والمتحدة ; وبهذا تكون للمجتمع أصالته ، كما
أن للفرد أصالته ، لا الفرد يفنى في الجميع ،
ولا الجميعُ له سوائم .

وباعتبار ما يتمتع به كل انسان من أصول
فطرية ثابتة ودائمة ، تكوم ماهية المجتمعات
البشرية متحدة ، بالرغم من تطوّر هذه
المجتمعات وتكاملها بالتدريج .

قال تعالى : (فأقم وجهك للدين حنيفاً
فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق اللّه ذلك الدين القيّم)( 11 )
.

ومن هنا أمكن تقديم نظام اجتماعي واحد
للبشرية جمعاء على مدى العصور ، على أن تُراعى
فيه كل جوانب التطور والتكامل اللذين يمكن
للمجتمع البشري أن يرتقي إليهما .

إذن يمكن تصور روح اجتماعية ، ووجدان
اجتماعي ، وارادة اجتماعية ، زائدة على
الشعور والوجدان والارادة الخاصة بكل فرد ،
وهذه هي روح الحياة الاجتماعية التي يتكفل
النظام الاجتماعي بتقنينها وتهذيبها
وتربيتها ، والسير بها إلى الاهداف المرجوّة
لها .

ولقد تطرف من أنكر أصالة الافراد
حينما تغافل عن ركائزهم الفطرية وخصائصهم
الذاتية ، معتبراً أن لا هوية للافراد إلاّ
الهوية الاجتماعية ، التي تتجلّى في كل فرد
منهم .

وهكذا تكون النظريات في أصالة الفرد
والمجتمع أو أصالتهما معاً ثلاث ، بينما تكون
أنواع التركيبة الاجتماعية أربعة : اعتبارية
، وحقيقة صناعية ، وحقيقة طبيعية ، وفوق
الطبيعية( 12 )
.

8 ـ القرآن الكريم والكينونة
الاجتماعية

نسب القرآن الكريم إلى المجتمع (الامة)
وجوداً ، وأجلاً ، وكتاباً ، وشعوراً ،
وإرادةً ، وعملاً ، وطاعة ، ومعصية ، بالاضافة
إلى ما نسبه إلى الافراد .

قال تعالى :

1 ـ (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا
يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)( 13 )
.

2 ـ (وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب
معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون)( 14 )
.

فأجل الامة هنا أجل جماعي ، فهو تعبير
عن حالة قائمة بالجماعة ، لا عن
حالة قائمة بهذا الفرد أو ذاك ; لان الناس
تختلف آجالهم حينما ينظر إليهم
بالمنظار الفردي ، لكن حينما ينظر إليهم
بالمنظار الاجتماعي ، أي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة
في ظلمها وعدلها ، وفي سرّائها وضرّائها ،
فحينئذ يكون لها أجل جماعي واحد( 15 )
.

3 ـ (واتّقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين
ظلموا منكم خاصة واعلموا أن اللّه شديد
العقاب)( 16 )
.

إن العقاب الاخروي ينصبّ دائماً على
العامل مباشرة (ولا تزروا وازرةٌ وزرَ اُخرى)( 17 )
، أما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك ،
باعتباره يحصل نتيجة لكسب الامة وسعيها( 18 )
.

إن ما تكسبه الامة عن طريق الظلم
والطغيان ، لا تختص نتيجته بخصوص الظالمين من
أبناء المجتمع ، بل تعم أبناء المجتمع على
اختلاف هويّاتهم ، وأنحاء سلوكهم .

4 ـ ونقرأ عن عمل الامة قوله تعالى : (زيّنا
لكل أمة عملهم)( 19 )
.

5 ـ كما نقرأ عن كتاب الامة قوله تعالى :
(وترى كل أمة جاثية كل أمة تُدعى إلى كتابها
اليوم تُجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا
ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم
تعملون)( 20 )
.

6 ـ كما نقرأ عن الاحضار الجماعي قوله
تعالى : (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم
التغابن)( 21 )
.

7 ـ ونقرأ عن الارادة الاجتماعية قوله
تعالى : (وهمّت كل أمة برسولهم ليأخذوه
وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم
فكيف كان عقاب)( 22 )
.

8 ـ ونجد في القرآن نسبة العمل الصادر
من الفرد إلى المجتمع ، كما نجد العمل الذي
صدر من جيل منسوباً إلى أجيال متأخرة ، كما في
قوله تعالى عن الذين عقروا ناقة ثمود ، بالرغم
من أن الذي عقر الناقة رجل واحد ، ولكن لما
عمّوه بالرضا عمّهم اللّه بالعذاب ; لان الذي
يجمع الناس إنما هو الرضا والسخط ، كما جاء عن
مولانا أمير المؤمنين علي(عليه السلام) .

وهكذا قتل الانبياء الذي ارتكبته
الاجيال الغابرة من بني اسرائيل ، أو سائر
المعاصي التي ذكرت في سورة البقرة ، قد نُسبت
إلى الجيل المعاصر للرسول(صلى الله عليه وآله)
، وما ذلك إلاّ لكونهم يحملون نفس تلك الروح
الاجتماعية ، ونفس الثقافة والفكر والارادة( 23 )
.

9 ـ عمل الفرد وعمل المجتمع

يمتاز عمل الفرد بميزتين : الاولى :
صدوره من فاعل مختار ، والثانية : صدوره عن
غاية وهدف ، فهو يتقوّم بعلتين : فاعلية
وغائية، بينما يمتاز عمل المجتمع بثلاث ميزات
، ويتقوّم بها كذلك ، فالميزة الاولى هي صدوره
عن علة فاعلية ، والميزة الثانية هي صدوره
لعلة غائية ، والميزة الثالثة هي أن يتعدى
أثره بشكل مباشر حدود الفرد ، ويشمل قطاعاً من
المجتمع ، فيكون شعاع أثره قد تجاوز الفاعل
نفسه وانعكس على غيره ، وامتدّ موجه إلى ما
وراء العامل ، فالعمل الذي يشكل المجتمع
أرضية له يدخل في كتاب الامة الجاثية بين يدي
ربّها، فالتاجر حينما يعمل عملاً تجاريّاً ،
والقائد حينما يعمل عملاً حربيّاً ، والسياسي
حينما يمارس عملاً سياسياً ، والمفكر حينما
يتبنّى وجهة نظر في الكون والحياة ، كلٌ من
هذه الاعمال له موج يتعدّى شخص العامل ، ويتخذ
من المجتمع أرضية له( 24 ) .

10 ـ أصالة الفرد أم الحتمية
الاجتماعية

إن الايمان بأصالة الفرد ، والالتزام
بوجود ركائز فطرية وذاتية لكل الافراد الذين
يتكوّن منهم المجتمع البشري ، يستلزم رفض
الحتمية الاجتماعية ; فإذا سُلبت من الفرد
فطرته ، وما جُبل عليه من خصائص معرفية وعقلية
وخُلقية ، أمكن للمجتمع أن يقوم بدور تقديم
المحتوى الداخلي (النفسي والعقلي) للفرد ،
واصبحت الظروف الاجتماعية هي العامل الاساسي
في صياغة عقلية الفرد وثقافته وأخلاقه .

والايمان بأصالة الفرد والمجتمع معاً
ينتهي بنا إلى رفض الحتمية الاجتماعية .

11 ـ موقف القرآن الكريم من الحتمية
الاجتماعية

1 ـ قال تعالى : (إن اللّه لا يغيّر ما
بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)( 25 ) .

2 ـ وقال أيضاً : (فأقم وَجهكَ للدين
حنيفاً فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا
تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيّمُ ولكنّ
اكثر الناس لا يعلمون)( 26 )
.

3 ـ وقال أيضاً : (وإذ أخذ ربّك من بني
آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم
القيامة إنا كُنّا عن هذا غافلين * أو تقولوا
إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكُنّا ذرّية من
بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)( 27 ).

4 ـ وقال : (يا أيها الذين آمنوا علكيم
أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم)( 28 )
.

5 ـ وقال : (وضرب اللّه مثلاً للذين
آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك
بيتاً في الجنّة ونجّني من فرعون وعملهِ
ونجّني من القوم الظالمين)( 29 )
.

إن بعثة الانبياء وخروجهم على المألوف
الباطل في مجتمعاتهم ، أدلُ دليل على بطلان
الحتمية الاجتماعية كقضية موجبة كلية .

12 ـ عناصر المجتمع البشري

يتكوّن كل مجتمع من ثلاثة عناصر ثابتة
على الاقل :

1 ـ الطبيعة (الارض)( 30 )
.

2 ـ الانسان( 31 )
.

3 ـ العلاقة بين الانسان والطبيعة ،
وبين الانسان والانسان .

وهناك عنصر متغيّر هو نوع العلاقة
الذي يعيّن حقيقة العلاقة ومستلزماتها ، ومن
هنا صحّ اعتبار الانسان والطبيعة عنصرين
ثابتين ، واعتبار العلاقة عنصراً متغيّراً ،
باعتبار تغيّر نوع العلاقة الذي يحدّد
مضمونها وحقيقتها ومسارها .

وإذا كان النظام الاجتماعي يتكفّل
بتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد ،
فمن الطبيعي أن يكون النظام الاجتماعي الاصلح
مترشّحاً عن نوع العلاقة بين عناصر المجتمع
الواحد .

13 ـ أنواع العلاقة بين عناصر المجتمع

بماذا تتقوّم العلاقة بين عناصر
المجتمع الثابتة ؟

للجواب عن هذا السؤال لابد أن نلاحظ
نوع العلاقة الموجودة بينها.

يجيب القرآن الكريم عن ذلك بقوله
تعالى : (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في
الارض خليفة)( 32 )
، فاللّه هو الجاعل والمستخلف ، وهو الاصيل في
هذا الوجود ، القائم بشؤون الكون كلّه ،
الفعّال لما يريد ، وهو الركن الاول والمحور
الذي بيده زمام الامر .

والركن الثاني هو الانسان الذي
استخلفه اللّه سبحانه في الارض ، وطلب منه
عمارتها( 33 ) ، والركن
الثالث هو الارض أو الطبيعة ، وهي محل خلافة
الانسان وإدارته ، فالاركان المقومّة
للعلاقة إذن تكون ثلاثة : المستخلِف ،
والمستخلَف ، والمستخلَف فيه ، وهذه الاركان
تنتج علاقة ذات أطراف ثلاثة ، نسميها
بالعلاقة الكاملة أو علاقة الاستخلاف ، وهي
العلاقة الفطرية التي تعبّر عن الوضع الطبيعي
للانسان في هذا الوجود ، بعد أن كان مخلوقاً
للّه ومربوباً له ، ومسؤولاً عما مكّنه فيه
وأسبغه عليه من النعم .

وإذا أنكرنا هذه العلاقة الفطرية ،
وتغافلنا عن خالقية اللّه ومالكيته للكون
والانسان ، واعتبرنا الانسان أصيلاً
ومستقلاً في وجوده وإدارة شؤونه ، وقطعنا
النظر عن الارتباط الحقيقي بينه وبين ربّه ،
وجعلناه مستبدّاً بالامر لا خليفة لربّه ،
أصبحت هذه الاركان المقوّمة للعلاقة ركنين
فحسب ، وهما الانسان والارض فقط ، وسمينا
العلاقة بينهما بعلاقة الاستبداد ، وهي علاقة
ناقصة وغير طبيعية ; لانها تبتنى على حذف
الركن الاول والاساسي ، الذي هو قوام هذه
العلاقة وروحها ، كما سوف يتّضح ، إذ يؤدي
التغافل عن هذا الركن إلى مسخ هذه العلاقة ،
وانقلابها إلى نتائج خطيرة تتنافى مع رسالة
الانسان الحقيقية ، والهدف من إيجاده وتمكينه
في الارض ، واستئمانه على خيراتها وكنوزها ،
فهذا التغافل يُحدث تغييراً نوعياً في بنية
العلاقة الاجتماعية ، وفي تركيب الاطراف
الاخرى .

إذن العلاقة بين عناصر المجتمع البشري
على نوعين :

النوع الاول : علاقة الاستخلاف
والاستئمان ، وهي علاقة فطرية ذات أركان
ثلاثة فهي كاملة .

النوع الثاني : علاقة الاستبداد
والسيادة ، وهي علاقة وضعية ادعائية ذات
ركنين فهي ناقصة( 34 )
.

وإذا أردنا أن نعرف كيف يكون العنصر
الالهي مقوّماً لمسار الانسان ، ومغيّراً
نوعياً لطبيعة العلاقة بين العناصر الاخرى ،
ينبغي أن نعرف أولاً دور الركنين الاخرين في
العلاقة الاجتماعية ، فما هو دور الانسان ؟
وماهو دور الطبيعة في تركيب العلاقة
الاجتماعية ، وفي المركب الاجتماعي للانسان ؟

وهذا ما سوف نتحدث عنه في البحث الاتي
إن شاء اللّه تعالى .

14 ـ خطّا العلاقة الاجتماعية

تتضمن العلاقة الاجتماعية خطّين
متميّزين مستقلّين ، بالرغم من وجود شيء من
التأثير المتبادل بينهما ، وهما :

1 ـ خط علاقة الانسان مع الطبيعة .

2 ـ خط علاقة الانسان بأخيه الانسان .

وتتلخص علاقة الانسان بالطبيعة
باستثمارها ، ومحاولة تطويعها لانتاج ما
يُشبع الحاجات الحيوية للانسان .

إن المشكلة الاساسية في هذا الخط هي
مشكلة تمرد الطبيعة ، وتمنعها عن الاستجابة
للطلب الانساني ، «والحل الطبيعي لهذه
المشكلة يستمدّ من قانون موضوعي ، يمثّل سنة
من سنن التاريخ ، وهو قانون التأثير المتبادل
بين الخبرة والممارسة ، فإن الانسان كلّما
تضاءل جهله بالطبيعة ، وازدادت خبرته بلغتها
وقوانينها ، ازداد سيطرة عليها ، وازداد
تمكّناً من تذليلها لحاجاته ، وكل خبرة
تتولّد من الممارسة في هذا الحقل . إذن هنا
تأثير متبادل بين الخبرة والممارسة ، وكل
خبرة جديدة تعطي للانسان سيطرة جديدة . وهكذا
تنمو الخبرة الانسانية باستمرار ما لم تقع
كارثة طبيعية أو بشرية»( 35 )
.

وهذا القانون بتطبيقاته التاريخية
يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة ، فهي
مشكلة محلولة تأريخياً وموضوعياً . ولعلّ في
الاية الكريمة : (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن
تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها)( 36 )
، إشارة إلى هذا الحل الموضوعي المستمدّ من
قانون التأثير المتبادل بين الخبرة
والممارسة ; لانّ السؤال هنا لا يراد منه
الدعاء لفظاً ; لان الاية تتكلّم عن الانسانية
ككل ، من يؤمن باللّه ومن لا يؤمن ، ومن يدعو
اللّه ومن لا يدعو ، كما أن الدعاء لا يتضمّن
حتماً تحصيل الشيء المدعوّ به ، بينما الاية
تتحدث عن استجابة فعلية بإعطاء ما سُئل ،
وعليه فالسؤال العملي والطلب التكويني هو
الذي تعبّر عنه الاية، فهي تعبير بليغ عن
قانون التأثير المتبادل بين الخبرة
والممارسة من جهة ، والسيطرة عليها ، من جهة
أخرى .

إذن هذا هو خط العلاقة بين الانسان
والطبيعة مشكلةً وقانوناً .

وأما خط علاقة الانسان مع أخيه
الانسان في مجال توزيع الثروة ، أو سائر
الحقول الاجتماعية ، فهو يواجه مشكلة اُخرى
هي التناقض الاجتماعي بين الانسان القوي
والانسان الضعيف ، ويتخذ صيغاً متعددة ،
لكنّه يظل في جوهره شيئاً ثابتاً ; فإن القوي
قد يكون فرعوناً، وقد يكون عصابة ، وقد يكون
طبقة ، وقد يكون شعباً أو أمّةً . كل هذه
الاشكال تحتوي على روح الصراع والاستغلال من
القوي للضعيف ، وإذا لم يحلّ القوي تناقضه
الداخلي بين حفنة التراب (المادية) ، واشواق
اللّه سبحانه وتعالى (المعنوية) ، وما لم
ينتصر أفضل النقيضين على الاخر ، فسوف يظل هذا
الانسان يفرز التناقض تلو التناقض حسب الظروف
والملابسات ، فليس التناقض الطبقي في المجتمع
البشري إلاّ وجهاً من وجوه ذلك التناقض
الداخلي للانسان القوي .

ومن هنا ركّزت الرسالة الاسلامية ، في
حلّها الموضوعي لمشكلة هذا الخط ، على
مستويين من العمل : العمل الجهادي لتصفية كل
التناقضات الاجتماعية على الساحة البشرية ،
وقد سُمّي هذا العمل بالجهاد الاصغر ; فإنه
يتطلّب قبل ذلك ومعه وبعده نوعاً آخر من
الجهاد ، الذي سُمّي بالجهاد الاكبر ; لانه
جهاد من أجل تجفيف منبع التناقضات الاجتماعية
في داخل النفس البشرية ، وهو روح الاستئثار
التي تدفع الانسان القوي للتسلط على الانسان
الضعيف في جميع الظروف والاحوال ، وبشتّى
الصيغ والاشكال ، وتحت شعارات العدالة
والحرية والاستقلال .

فالقانون الموضوعي هنا هو ارتباط
التناقض الاجتماعي بالتناقض الداخلي بشكل
طردي ، فكلّما سيطر الانسان على تناقضه
الداخلي استطاع أن يسيطر على التناقضات
الاجتماعية المختلفة ، وكلّما عجز عن السيطرة
على تناقضه الداخلي عجز عن السيطرة على
التناقضات الاجتماعية ايضاً .

قال اللّه تعالى معبّراً عن هذا
القانون الموضوعي : (إنّ اللّه لا يغيّر ما
بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)( 37 )
، فكل تغيير اجتماعي مرهون بالتغيير للمحتوى
الداخلي للافراد ، الذين يشكلون عناصر ذلك
المجتمع .

15 ـ العلاقة بين خطي العلاقات
الاجتماعية

إن خط علاقات الانسان مع الطبيعة ،
مختلف مشكلة وقانوناً عن خط علاقات الانسان
مع أخيه الانسان .

وكل واحد من هذين الخطين مستقل
استقلالاً نسبياً عن الخط الاخر ، ولكن هذا
الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير
المتبادل ـ إلى حد ما ـ بين هذين الخطين .

وهذا التأثير المتبادل بين الخطين
يمكن إبرازه قرآنياً كما يلي :

1 ـ مدى تأثير خط علاقات الانسان مع
الطبيعة على خط علاقاته مع أخيه الانسان .
يشير قوله تعالى : (إن الانسان ليطغى * أن رآه
استغنى)( 38 )
، إلى أن قدرة الانسان على الطبيعة كلّما نمت
واتسعت ، وازداد الانسان اغتناء بكنوزها
ووسائل انتاجها ، تحققت بذلك إمكانية أكبر
لتحقيق الاستغلال في خط علاقاته مع أخيه
الانسان .

وإذا كان إيمان الانسان باستغنائه عن
اللّه تعالى عاملاً أساسياً في طغيانه ، كان
العلاج الوحيد لتفادي هذا الانحراف وعلاجه هو
إيمان الانسان بحاجته وفقره إلى اللّه سبحانه
وتعالى ، بالرغم من امتلاكه لعوامل الانتاج
ومصادر الثروة . وقد عالج الاسلام هذه المشكلة
بتقديم الصورة الصحيحة لحقيقة الانسان ،
وعجزه أمام ربه بالرغم من امتلاكه لجميع
عوامل الغنى في الحياة الدنيا ، وحاول تثبيت
هذه الصورة في وجوده من خلال التربية الفكرية
والنفسية ، مستفيداً من جميع عوامل التأثير
على الفكر والنفس والارادة .

2 ـ وأما مدى تأثير خط علاقات الانسان
مع أخيه الانسان على خط علاقاته مع الطبيعة ،
فتجسّده الاية المباركة : (ولو أن أهل القرى
آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء
والارض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا
يكسبون)( 39 )
.

فكلما ازدهرت علاقة الانسان بأخيه على
أساس قيم العدل والايمان باللّه تعالى ،
ازدهرت علاقاته مع الطبيعة ، وتفتّحت الطبيعة
عن كنوزها ، فالعدالة الاجتماعية هي الاطار
الانسب لتحقيق التنمية الانتاجية بأعلى
درجاتها ، بينما لا يولّد الظلم إلاّ ضياع
ثروات المجتمع .

16 ـ السنن الاجتماعية : (بحوث عامة)

أ ـ مبدأ العلّية والظواهر
الاجتماعية:

مبدأ العلّية مبدأ عام لا يقبل
التخصيص والاستثناء ، وموضوعه جيمع الظواهر
التي تكون حادثة أو ممكنة الوجود ، فلكل حادث
علّة ولابدّ لكل موجود ممكن الوجود من علة .

والظواهر الاجتماعية كالظواهر
الطبيعية ، لا يمكن أن تستغني عن علل مسانخة
لها .

وبهذ تخضع جميع الظواهر الاجتماعية
لمبدأ العلية ، ولا تشذّ أية ظاهرة اجتماعية
عن هذا المبدأ .

ب ـ مبدأ العلّية والسنن الاجتماعية :

إذا آمنا بخضوع ظاهرة ما لمبدأ العلية
، كان معناه أنه كلما وجدت العلة وجد المعلول
، وكلما وجدنا المعلول علمنا بأن له علّة ،
وبهذا نحصل على مجموعة من السنن الموضوعية ،
والقوانين المطردة بالنسبة لجميع الظواهر
طبيعية كانت أم اجتماعية .

وإذا آمنا بوجود مركب حقيقي يسمّى
بالمجتمع ، وهو بالرغم من تكوّنه من الافراد
يحمل خصائص تميّزه عن الافراد ، كما أوضحنا
ذلك في عمل الفرد وعمل المجتمع ، وكما لاحظنا
هذا الفرق في تعريف المجتمع أيضاً ، نضطر
للايمان عقلياً بوجود سنن وقوانين تخصّ
المجتمع وترتبط بحركته ، وعلى أساس هذه السنن
يمكن تحليل رقي الامم وسقوطها ، كما يمكن
التنبؤ بمستقبل أمة صعوداً وهبوطاً ، وموتاً
وحياة .

ج ـ أنواع التعبير القرآني عن السنن
الاجتماعية

1 ـ التصريح العام بوجود سنن اجتماعية (دلالة
مطابقية) . قال تعالى : (ولكل أمة أجل فإذا جاء
أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)( 40 )
، فقد أضيف الاجل إلى الوجود المجموعي للناس ،
وهو غير أجل الافراد الذين تختلف آجالهم
حينما ننظر إليهم أفراداً ، بينما هم مجموعة
واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، فيكون لها
أجل جماعي واحد( 41 )
.

هكذا استشف الشهيد الصدر ، والاوضح من
هذه دلالة ماجاء في الايتين 77 من سورة الاسراء
، و 34 من سورة الانعام .

2 ـ التصريح بمصاديق السنن الاجتماعية
(دلالة تضمنيّة) ، وذلك مثل :

أ ـ سنة آجال الامم التي جاءت في
الموارد التالية : يوسف : 49 ، و الحجر : 4 ـ 5 ،
والمؤمنون : 43، والاعراف : 185، والكهف : 58،
وفاطر: 45 .

ب ـ سنة شمول العقاب الدنيوي لجميع
أفراد المجتمع الظالم . راجع الانفال : 25.

جـ ـ سنة تبعية التغيير في البناء
العلوي في المجتمع للتغيير في المحتوى
الداخلي لافراد ذلك المجتمع . راجع الرعد : 11 ،
والانفال : 53 .

د ـ سنة معارضة المترفين لحركة
التغيير الاجتماعي بواسطة الانبياء . راجع
سبأ : 34 ـ 35 .

هـ ـ سنة انهيار المجتمع من خلال تسلّط
المترفين على مقاليد الامور . راجع الاسراء : 16
.

و ـ سنة تبعية وفرة الانتاج المادي
لاستقامة أفراد المجتمع . راجع الاعراف : 96 ،
والمائدة : 66 ، والجن : 16 .

ز ـ سنة التدافع في الحياة الانسانية.
راجع البقرة: 251، والحج:40.

حـ ـ سنة الاختلاف بين أبناء آدم . راجع
تفسير قوله تعالى : (ولا يزالون مختلفين
* إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم)( 42 )
.

ط ـ سنة تراكم الخبائث وانهيار
المجتمع . راجع الانفال : 37 ، وهكذا سببية
الظلم لانهيار المجتمع ، راجع الحج : 46 .

وهناك سنن أخرى نعرفها من خلال مراجعة
الايات 34 من سورة الانعام ، و 76 من سورة
الاسراء ، و 43 من سورة فاطر ، و 23 من سورة الفتح
، و 214 من سورة البقرة .

3 ـ الايات التي دلت على الاعتبار
بالتاريخ ، والتدبر في حوادث التاريخ ، فإن
الاعتبار لن يتحقق ما لم تكن هناك سنن يمكن
اكتشافها، والاستفادة منها في الحياة
الاجتماعية للانسان المتدبر ، والمجتمع الذي
يريد الاعتبار بسلوك المجتمعات السالفة
وعواقب سولكها .

راجع الايات التالية : 10 من سورة محمد ،
و 109 من سورة يوسف ، و 46 من سورة الحج ، و 37 من
سورة ق .

وهكذا أكد القرآن الكريم أن للساحة
التاريخية وللمجتمعات البشرية سنناً وضوابط
، كما توجد ضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى
. ويعتبر هذا المفهوم فتحاً قرآنياً فريداً
فيما نعلم( 43 )
.

وقد قاوم القرآن النظرة العفوية أو
الغيبية الاستسلامية لتفسير الحوادث ، فأصر
على وجود السنن وعلى إمكان اكتشافها ، وهدى
إلى كيفية اكتشافها وكيفية توظيفها
للاستفادة منها .

د ـ خصائص السنن الاجتماعية

وتمتاز السنن الاجتماعية بما يلي :

1 ـ الاطراد والموضوعية ، بمعنى أنها
لا تجري على أساس الصدفة ، بل هي قوانين عامة
لا تتخلف في الحالات الطبيعية ، إلاّ إذا خضعت
لسنة أخرى ذات طابع موضوعي ايضاً ; فإذا
اجتمعت شروط الاحراق للنار كانت محرقة ، وإذا
كانت النار مشتعلة ووجدناها لا تُحرق ، علمنا
أن ذلك لعلة أيضاً ، وهي وجود حائل بين النار
وما هو قابل للاحتراق مثلاً . وهكذا يقال عن
البلاء النازل على أمة إذا توفرت أسبابه ،
وإنما يرتفع هذا البلاء حينما يزول أحد
أسبابه، أو يتوفر شرط آخر لسنّة أخرى تكون اعم
من هذه السنة ، فتخضع الظاهرة الاجتماعية
للسنة الاعم حينئذ ، فلا تشذ عن ميدان السُنن .
قال تعالى : (ولن تجد لسُنّة اللّه تبديلا)( 44 )
، وقال أيضاً : (لا مبدّل لكلمات اللّه)( 45 )
.

والقرآن يؤكد على هذا الطابع الموضوعي
والعلمي للسنن الاجتماعية ، ويعلّم الانسان
كيفية اكتشاف السنن ، وكيفية توظيفها
للاستفادة منها في مسيرة التكامل الانسانية ،
ومسيرة التربية الواقعية .

2 ـ الربانيّة ، فكل سنة هي كلمة اللّه
، وهي قرار رباني ، واللّه هو من وراء هذه
السنن ، وهو الذي سنّ هذا السنن ، فالساحة
الاجتماعية بالرغم من خضوعها لسنن موضوعية ،
هي في قبضة اللّه وتحت قدرته وارداته ، من دون
أن يقع الانسان في اتجاه لاهوتي يتغافل فيه عن
الجانب العلمي والموضوعي للسنن ، والاتجاه
اللاهوتي يقطع صلة الحادثة ببقية الحوادث ،
ويجعل ارتباطها باللّه بديلاً عن العلاقات
التي تزخر بها الساحة الاجتماعية ، بينما
القرآن الكريم لا ينتزع الحادثة من
سياقها ليربطها بالسماء ، بل إنه يربط أوجه
العلاقات كلها باللّه ، ويعتبر كل ذلك
تعبيراً عن كلمة اللّه وحسن تقديره وبنائه
التكويني .

3 ـ الانسانية ، بمعنى أن السنن
الاجتماعية ميدانها المجتمع الانساني ، ولا
تعمل بمعزل عن الانسان وارادته واختياره ،
فمنها ما يوجّه ارادة الانسان ، ومنها ما يكون
في طول اختياره ، كما سوف يتضح ذلك في انواع
السنن الاجتماعية ، حيث تكون السنن المشروطة
والموضوعية في طول ارادة الانسان واختياره ،
فهي لا تتصادم مع ارادة الانسان ، ولا تعمل
خارج حدود اختياره . قال تعالى : (إن اللّه لا يغيّر
ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)( 46 )
.

هـ ـ أنواع السنن الاجتماعية

يمكن تقسيم السنن الاجتماعية التي كشف
عنها القرآن الكريم إلى ثلاثة أنواع أو أشكال
:

1 ـ السنن المشروطة .

2 ـ السنن المطلقة .

3 ـ السنن الموضوعية .

ترتبط السنن المشروطة بشروط ينبغي
تحققها لتحقق تلك النتائج، وتكوم محتومة
حينئذ ، مثل ما جاء في قوله تعالى : (إن تنصروا
اللّه ينصركم ويثبت أقدامكم)( 47 )
، ومافي قوله تعالى : (ومن يتّق اللّه يجعل له
مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب)( 48 )
.

والسنن الشرطية ترتبط دائماً بارادة
الانسان ; باعتبار أن اختيار الشرط بيد
الانسان نفسه .

أما السنن التي لا ترتبط بشروط
لتحققها ، بل تكون على شكل قضية ناجزة ، فهي
سنن مطلقة ، مثل سنة الرحمة الالهية ، وسنة
اختيار الانسان ، وسنة التكامل الاختياري
للانسان ، وسنة الاختيار الدائم ، وسنة
الاختلاف في القدرات بين أفراد المجتمع ،
وسنة الهداية الالهية للمجتمعات البشرية ،
فهذه سنن عامة لا تشذ عنها المجتمعات البشرية
. قال تعالى : (ورحمتي وسعت كل شيء)( 49 )
، و (أن ليس للانسان إلاّ ما سعى)( 50 )
، و (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن
عملاً)( 51 )
، و (نبلوكم بالشر والخير فتنة)( 52 )
، و (إن علينا لَلهدى)( 53 )
، و (هديناه النجدين)( 54 )
، و (لولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت
الارض)( 55 )
.

والسنن المشروطة تقبل التحدي والخروج
عليها ، بينما السنن المطلقة لا تقبل التحدي
والخروج عليها .

وأما السنن الموضوعية فهي السنن التي
تقبل التحدي على المدى القصير ، ولا تقبل
التحدي على المدى البعيد ، وهي تمثّل اتجاهاً
طبيعياً في مجال الانسان والمجتمع ، وليست
على صورة قانون صارم لا يقبل التحدي
أصلاً . ويمكن الاستشهاد للسنن الموضوعية
بسُنّة الدين في المجتمع البشري ، وسنة
النكاح ، وسنة قيام الرجل على
المرأة . قال تعالى : (فأقم وجهك للدين حنيفاً
فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا
تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيّم ولكن اكثر
الناس لا يعلمون)( 56 )
.

و ـ العلاقة بين أنواع السنن
الاجتماعية

يمكن تصنيف السنن الاجتماعية من حيث
العموم والخصوص ، فبعض السنن يكون شاملاً
شمولاً تاماً لجميع الظواهر الطبيعية
والاجتماعية ، مثل سنة الرحمة الالهية : (ورحمتي
وسعت كل شيء)( 57 )
، وسنة الهداية الالهية : (الذي خلق فسوّى *
والذي قدّر فهدى)( 58 )
.

وبعض السنن تعم الانسان فقط ، مثل سنّة
الاختيار ، والمسؤولية، وأن السعي الاختياري
هو طريق الكمال ، وسنّة الاختلاف في الطاقات
والاستعدادات ، وسنّة التدافع ، وسنّة
الامتحان والاختبار .

فالقسم الاول هو السنن الاعم والاشمل
مورداً وموضوعاً ، والقسم الثاني يختص
بالانسان ويعم كل أفراده .

وهناك سنن تخص بعض افراد الانسان ، مثل
سنة العصمة والاعجاز للانبياء من أفراد
الانسان ، وهي سنن مطلقة أيضاً ، ويمكن
تسميتها بالسنن الخاصة في قبال العامة والاعم
.

وتحت ظل السنن الخاصة قد تكون هناك سنن
أخص ، حينما تكون مشروطة بشروط خاصة ، فنجاح
الانبياء ونجاتهم مقرون بصبرهم وجهادهم .

ز ـ الارادة الانسانية والسنن
الاجتماعية

فالسنن المطلقة هي التي لا يمكن
تخطّيها والتخلف عنها في جميع الظروف ، فهي
تفوق الارادة والاختيار ، بينما السنن
المشروطة والموضوعية لا تتنافى مع الارادة
والاختيار ، بل تكون مشروطة بما يختاره
الانسان من حيث توفيره للشرط المأخوذ في
موضوعها .

17 ـ بحوث خاصة عن السنن الاجتماعية

وقد ذكرنا جملة من الامثلة لكل نوع من
السنن ، ولكن معرفة النظام الصالح تتوقف على
الاحاطة بجميع السنن بجميع أنواعها ، وعدم
إغفال أي مصداق من مصاديقها ; ليتم توظيفها
ضمن النظام الاجتماعي .

18 ـ جوهر المشكلة الاجتماعية

قلنا إن المشكلة الاجتماعية هي مشكلة
النظام الاجتماعي الاصلح للبشرية ،
ولخّصناها في معرفة النظام والايمان به
وتطبيقه .

والانسان المعاصر هو أشد إحساساً ،
وأكثر وعياً لهذه المشكلة ولابعادها
ولتعقيداتها ومضاعفاتها . والتطور
التكنولوجي والعلمي ، وسيطرة الانسان على
الطبيعة بشكل مرعب ، قد زادا المشكلة تعقيداً
، وضاعفا اخطارها ; باعتبار أنهما قد فتحا
للانسان أبواباً جديدة للاستغلال والظلم
والاستثمار .

وفشل الانظمة الاجتماعية الوضعية هو
العامل الاخر ، الذي يدعو الانسان للتفكير
الجاد للوصول إلى السبب الاعمق للمشكلة .

إن جميع الحلول التي قدّمتها البشرية
حتى اليوم ، لم ترتكز على التشخيص الصحيح
لجوهر المشكلة الاجتماعية ، إذ اكتفت بتقديم
الحلول لبعض الظواهر الفوقية للمشكلة ، دون
الغور إلى السبب الاعمق المؤدي إلى كل ألوان
التناقض الاجتماعي .

إن حبّ الانسان لذاته هو العامل
الاساسي لكل ألوان الاستئثار ، وليست الملكية
الخاصة ، أو نوع وسائل الانتاج ، أو غياب
الديمقراطية هي التي تدفع الانسان للاستغلال
والاستئثار . وقد سقطت الاقنعة وفقدت
الشعارات مضمونها ، وبقي جوهر المشكلة دون أن
يكتشف ، ودون أن تقدّم له الحلول المناسبة .

وقد قدّمت الاديان السماوية
للانسانية التصور الصحيح لجوهر المشكلة ،
حينما كشفت عن أصالة حب الانسان لذاته ، ولكل
ما يرتبط به من شؤون . قال تعالى : (إن الانسان
خُلق هلوعاً)( 59 )
، و (إن الانسان لظلوم كفار)( 60 )
، و (إن الانسان ليطغى * أن رآه استغنى)( 61 )
، فغريزة حب الذات هي التي توجه السلوك
الانساني ، وكل الغرائز الاخرى هي فروع لهذه
الغريزة ، وهي التي تدفع الانسان للتملك ، أو
السيطرة على الاخرين ، واستثمار طاقاتهم
لصالحه ، ولا يمكن قلع هذه الغريزة ، بل لابد
من توجيهها الوجهة الصحيحة ، واستغلالها بما
يحقق للانسانية أهدافها من الحياة
الاجتماعية ، المبتناة على العدل والتقوى وحب
الخير للاخرين ; ومن هنا توجّهت الاديان إلى
بناء وتغيير المحتوى الداخلي للانسان من أجل
توجيه هذه الغريزة بالذات .


(1)
انظر مرتضى المطهري المجتمع والتاريخ : 15،
ومعجم علم الاجتماع، ترجمة د. إحسان محمد
الحسن: 226.

(2)
راجع على سبيل المثال الموارد التالية:
الانعام: 108، والحجر: 4و5، والقصص:58، والبقرة: 141و213،
والحجرات: 13، والزخرف: 33، والاعراف: 34، وغافر: 5،
وفاطر: 39.

(3)
النساء : 1 .

(4)
الحجرات : 13 .

(5)
الفرقان : 54 .

(6)
الزخرف : 32 .

(7)
البقرة:30 ـ 39.

(8)
الانشقاق : 6 .

(9)
آل عمران: 102.

(10)
الانبياء: 92.

(11)
الروم : 30 .

(12)
راجع المجتمع والتاريخ: 21 ـ 24.

(13)
يونس : 49.

(14)
الحجر : 4 ـ 5.

(15)
الشهيد الصدر، المدرسة القرآنية: 58 المحاضرة
4.

(16)
الانفال: 25.

(17)
فاطر: 18.

(18)
الشهيد الصدر، المدرسة القرآنية: 59 و61،
المحاضرة4. راجع الايتين: 58 و 59 من سورة الكهف،
والاية 45 من سورة فاطر .

(19)
الانعام : 108.

(20)
الجاثية: 28 ـ 29.

(21)
التغابن : 9 .

(22)
غافر: 5 .

(23)
راجع المجتمع والتاريخ، الشهيد المطهري: 25 ـ
27.

(24)
راجع المدرسة القرآنية للشهيد الصدر : 89 ـ 100،
المحاضرة 6.

(25)
الرعد : 11 .

(26)
الروم : 30 .

(27)
الاعراف: 172 ـ 173.

(28)
المائدة : 105 .

(29)
التحريم : 11 .

(30)
طه : 53، وإبراهيم: 32 ـ 34.

(31)
فاطر: 39، والبقرة: 29.

(32)
البقرة : 30 .

(33)
هود : 61 .

(34)
سمّى أستاذنا الشهيد الصدر الاولى الصيغة
الرباعية، معتبراً الطبيعة والانسان مع
الانسان ثلاثة أطراف، واللّه هو الطرف
الرابع، وسمّى الثانية الصيغة الثلاثية. راجع
الدرس الثامن من المدرسة القرآنية.

(35)
المدرسة القرآنية: 202 المحاضرة 12 .

(36)
ابراهيم : 34 .

(37)
الرعد : 11، راجع المحاضرة 12 من المدرسة
القرآنية للشهيد الصدر.

(38)
العلق : 6 ـ 7 .

(39)
الاعراف : 96، وراجع الجن: 16، والمائدة: 66.

(40)
الاعراف : 34، وآل عمران : 137، والاسراء: 77،
وفاطر: 43، والفتح: 23.

(41)
راجع المدرسة القرآنية : 55 ـ 60، الدرس الرابع.

(42)
هود : 18 ـ 19.

(43)
راجع المدرسة القرآنية: 55 ـ 73، الدرس الرابع .

(44)
الاحزاب: 62، والاسراء: 77.

(45)
الانعام: 34 .

(46)
الرعد: 11 . راجع المدرسة القرآنية، المحاضرة 5 .

(47)
محمد : 7 .

(48)
الطلاق : 2 ـ 3 .

(49)
الاعراف : 156 .

(50)
النجم : 39 .

(51)
الملك : 2 .

(52)
الانبياء : 35 .

(53)
الليل : 12 .

(54)
البلد : 10 .

(55)
البقرة : 251 .

(56)
الروم : 30 .

(57)
الاعراف : 156 .

(58)
الاعلى: 2 ـ 3 .

(59)
المعارج : 19 .

(60)
إبراهيم: 34 .

(61)
العلق: 6 ـ 7. راجع مقدمة فلسفتنا للشهيد الصدر.

/ 1