دراسات - تطور السیاسی للمرجعیة الإسلامیة فی تاریخها المعاصر (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تطور السیاسی للمرجعیة الإسلامیة فی تاریخها المعاصر (1) - نسخه متنی

عبدالکریم آل نجف

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراسات

التطور السياسي للمرجعية الاسلاميةفي تاريخها المعاصر
(1)

* عبد الكريم آل نجف
( العـراق )

التطور السياسي للمرجعية الاسلامية:

يتولد التأريخ من شعور عام يتبلور في
ذهن الامة ويستوعب قطاعاتها المختلفة بشكل
يحركها بأتجاه معين، وقد يتواصل هذا الشعور
فترة ليكوّن مرحلة قد تطول فتستوعب جيلاً أو
جيلين وقد تقصر مكتفية بزمن محدود، حسب طول
وقصر امد ذلك الشعور الذي إذا انقلب أو تغيرت
ملامحة تكون الامة قد دخلت مرحلة جديدة.

وهكذا فان المراحل في حياة الامة لا
يشترط في تكونها وجود تخطيط مسبق، بل قد تتكون
وتسير في طريق ما خلافاً لارادة الخطة
المسبقة; لان الاساس فيها هو الشعور العام
الذي يسود الامة ويسيّرها، والذي يعبر عنه
البعض بروح التأريخ، فإذا وجد في صورة معينة
تكون الامة في مرحلة من سنخها وإذا تغيرت
ملامح هذه الصورة أو تلبس الشعور العام
بغيرها تغيرت ملامح تلك المرحلة أو انقلبت
إلى مرحلة جديدة.

من هنا يتعين على الباحث في حقل
التأريخ استنطاق ركام الحوادث التي يدرسها
واستكشاف الروح العامة والشعور العام الذي
ينتظمها، ومن ثمَّ تلمس جذوره وامتداداته
وتحديد نقاط الانعطاف والتغيير التي تحوله
إلى عدة حلقات، وتحوّل التأريخ من خلالها إلى
عدة مراحل. وإذا ما اعتمد هذا المنهج فإن
الباحث سينقذ بحثه من محدودية الحدث، وسيوفر
على نفسه مجالاً رحباً للتفسير وفرصة واسعة
للعثور على الحقيقة.

فهناك منهجان في البحث التحليلي
التأريخي:

1 ـ المنهج التجزيئي الذي ينظر إلى
الحدث التأريخي من خلال ربطه بالاحداث
المباشرة له فقط.

2 ـ المنهج الشمولي الذي يدرس الحدث في
ضوء تشخيص مسبق ومدروس للمرحلة التأريخية
التي ينتمي إليها، والتي تتكون على أساس شعور
عام يتواصل فترة زمنية معينة. ولا شك أن
المنهجين متكاملان وضروريان معاً للباحث في
حقل التاريخ، ومن غير الممكن له الاكتفاء
بأحدهما وترك الاخر.

بعد هذه المقدمة نتساءل هل درسنا
تأريخ المرجعية الاسلامية المعاصر؟ ووفق أي
من المنهجين ؟

الجواب أن هذه المسألة درست غالباً
وفقاً للمنهج الاول فقط وبشكل محدود، مما أدى
إلى نتائج غير متكاملة; ومن هنا ولدت الحاجة
إلى تسليط الضوء على تأريخ المرجعية المعاصر
ودراسته على أساس المنهج الشمولي.

المرحلتان الاساسيتان:

يتمثل التأريخ السياسي المعاصر
للمرجعية بمرحلتين اساسيتين هما:

1 ـ مرحلة الدفاع عن الهوية الاسلامية
ومواجهة التحديات الخارجية والمشكلات
الداخلية على هذا الاساس، وتبدأ من الصلح
القاجاري العثماني في ثلاثينات القرن الهجري
الثالث عشر ـ عشرينات القرن الميلادي السابق
ـ على يد الشيخ موسى كاشف الغطاء، وتنتهي في
اربعينات القرن الهجري الرابع عشر «1924م» وذلك
عند عودة الامام الاصفهاني وآية اللّه
النائيني إلى العراق بعد نفيهما إلى ايران.

2 ـ مرحلة التحديث الاسلامي والتحرك
على أساس التجديد في بنية المجتمع الاسلامي،
وتبدأ من نهاية المرحلة السابقة وتمتد حتى
يومنا هذا.

وقبل الخوض بدراسة هاتين المرحلتين
لابد لنا من شرح الاساس الذي قام عليه هذا
التصور; فقد يقال إن المرجعية لم تنسق اعمالها
على أساس تخطيط مسبق ومنهجية شمولية مدروسة،
فمن أين جاءت هذه المرحلية؟

الجواب هو ما تقدم قبل قليل من أن
المراحل في حياة الامة لا يشترط في تكوّنها
وجود تخطيط مسبق، بل قد تتكون وتسير في طريق
ما خلافاً لارادة الخطة المسبقة ; والاساس هو
الشعور العام الذي يستولي على الامة ويحركها
باتجاه ما، وليس المرحلية إلاّ تعبير عن
حالات الانعطاف والتغيير التي تطرأ على هذا
الشعور ; وحينئذ فمن الاولى أن نحوّر السؤال
السابق إلى السؤال عن طبيعة الشعور العام
الذي قامت هذه العملية على اساس منه،
وللاجابة على هذا السؤال نحتاج إلى استعراض
تاريخي سريع، ففي اواخر القرن السادس عشر
الميلادي بدأ الغرب يتطلع نحو العالم
الاسلامي، مجدداً العهد بأطماعه القديمة فيه
ومشاعره الصليبية تجاهه، ومنطلقاً بشكل خفي
نحو مرحلة جديدة من الصراع السجالي بين
الاسلام والصليبية ; وقد كانت البداية
اقتصادية لكنها سرعان ما تحولت في بعض
المناطق إلى سيطرة عسكرية متعددة الجنسيات،
شارك فيها الاسبان والبرتغاليون والانجليز
والفرنسيون; فيما كان الروس يعلنون الحرب بين
فترة واخرى على الدولة العثمانية. ودون مزيد
من الاستعراض فقد دخل المسلمون القرن التاسع
عشر الميلادي والغرب قوة مهيمنة عسكرياً في
بعض المناطق الاسلامية، ومتنفذة سياسياً
وثقافياً واقتصادياً في المناطق الاخرى،
مستعيناً في ذلك بالعامل التقني وبزخم
الولادة الحضارية الجديدة وما توفره من
اندفاع وما اقترن به من شعور بالتفوق، وبتآكل
الوضع العام للمسلمين وما يسببه من ضعف معنوي.
وفي تلك الظروف التي نشرت بين المسلمين مشاعر
المقاومة وحوافز النهوض كانت المرجعية
الاسلامية قد بلغت مستوى جيداً من النضج
والتبلور على الصعيد العلمي والتنظيمي ; فمن
جهة كانت الحركة الاخبارية تعيش أيامها
الاخيرة بعد الانتكاسات الكبيرة التي منيت
بها على أيدي رموز الاتجاه الاصولي، وهو الذي
ساعد على انماء حركة الفكر الديني وتطويره
بشكل ملحوظ، ومن جهة ثانية شهدت الحوزة
العلمية توسعاً في الحجم ونمواً في النوع;
فإضافة إلى تزايد عدد الفقهاء والمجتهدين
والطلاب لمعت في النجف الاشرف آنذاك اسماء
سيظل لها دويها فترة طويلة، كالسيد مهدي بحر
العلوم الكبير والشيخ جعفر كاشف الغطاء ونجله
الشيخ موسى كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن صاحب
الجواهر والشيخ مرتضى الانصاري... وغيرهم.

ولعل من ابرز مؤشرات النمو والتطور
ظهور فكرة تنظيم عمل المرجعية، وذلك في أواخر
القرن الثامن عشر الميلادي على يد السيد مهدي
بحر العلوم الكبير; حيث ارشد الناس إلى تقليد
تلميذه الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وعيّن لامامة
الصلاة الشيخ حسين نجف، وللقضاء الشيخ شريف
محيي الدين، وأمر السيد جواد العاملي
بالتأليف.

وجاء الشيخ موسى كاشف الغطاء في القرن
التاسع عشر ليؤكد هذه الخطوة وينسق اعمال
المرجعية على هذا الاساس.

وفي عام «1237هـ ـ 1822م» برز تطور مهم له
دلالاته البالغة ; فقد قام المرجع الديني
الشيخ موسى كاشف الغطاء بعقد الصلح بين
الدولتين العثمانية ممثلة بوالي بغداد داود
باشا والدولة القاجارية ممثلة بمحمد علي بن
فتح علي شاه القاجاري، ولقب إثر ذلك بمصلح
الدولتين، اضافة إلى لقب «سلطان العلماء»
الذي اطلقته الحوزة العلمية عليه لما كان له
من هيبة ورئاسة روحية، وما حظي به من انقياد
العلماء لزعامته. وبذلك تكون المرجعية قد
أطلت على عالم السياسة وسجلت أول ادوارها فيه
بالنسبة إلى تأريخها الحديث.

إن الذي يتحصل من دراستنا لتلك الفترة
هو أن المرجعية في زمن الشيخ موسى كاشف الغطاء
بدأت مرحلة النضج السياسي، وقد ورد في ترجمة
حياة هذا المرجع أنه كان خبيراً بالسياسة
عارفاً بمواقع الامور، وله حكايات مع الامراء
والوزراء والسلاطين([1]).

ومن المستبعد جداً أن تمر الاحداث
المصيرية على الامة دون أن تترك أثرها على
زعيم ديني له هذه الخصائص.

فالتنافس الروسي الالماني البريطاني
الفرنسي على النفوذ والتغلغل في بلاد
المسلمين كان على اشده، والدولة العثمانية
أصبحت تعرف بالرجل المريض، ومشاكل المسلمين
تتفاقم يوماً بعد آخر; كل ذلك لا يسمح لنا
بتصور أن الصلح العثماني والقاجاري الذي تم
برعاية المرجعية كان لمجرد حقن الدماء.

ولابد أن يكون العامل السياسي المتمثل
بالانتصار للامة على اعدائها الغربيين قد لعب
دوراً مهماً في تحفيز المرجعية نحو السياسة،
وعلى هذا الاساس نتصور أن عام 1237 هـ (1822م)، مثل
بداية الحياة السياسية للمرجعية الاسلامية
وبداية المرحلة الاولى فيها، ونتصور أيضاً أن
هذه المرحلة انطلقت على أساس الدفاع عن هوية
المسلمين ازاء التحديات الغربية، وهذا هو
الشعور الذي ساد وعي المرجعية وانتظم حركتها
السياسية حتى الربع الاول من القرن العشرين.

مرحلة الدفاع عن الهوية الاسلامية:

وتتكون هذه المرحلة من ثلاث فترات هي:

1 ـ فترة مقاومة النفوذ الاجنبي، التي
اشترك فيها المرجعان الكبيران الشيخ موسى
كاشف الغطاء، والامام محمد حسن الشيرازي، فقد
أوجد الشيخ موسى بصلحه أساساً لفكرة الوحدة
الاسلامية بعد عهود من التناحر والتمزق وغياب
الشعور الوحدوي، ممهداً بذلك لفكرة الجامعة
الاسلامية التي رفع رايتها السيد جمال الدين
المعروف بالافغاني.

وتتبلور روحية المقاومة للنفوذ
الاجنبي بشكل حاسم في ثورة التنباك عام «1309هـ
ـ 1891م»، حينما اعطى ناصر الدين شاه امتيازاً
لشركة انجليزية باحتكار وزراعة وتسويق التبغ
الايراني مدة خمسين عاماً، فأفتى آية اللّه
المجدد السيد محمد حسن الشيرازي بحرمة
استعمال التبغ، والتزم المسلمون في ايران بها
والغي الامتياز.

وبعد هذا التأريخ بتسعة اعوام اكد هذا
المرجع الكبير اهتمام المرجعية بهوية
المسلمين ووحدتهم ازاء التحديات الغربية،
وذلك في حادثة رمي سماحته بالحجارة من قبل أحد
أهالي سامراء السنّة، حيث جاء اليه القنصل
البريطاني في بغداد يعرض عليه استعداد حكومته
لاتخاذ الاجراءات القمعية التي يراها سماحته
بهذا الشأن، محاولاً من وراء ذلك الفتنة،
فأجابه المجدد الشيرازي قائلاً: «إن الحادث
مجرد عمل صبياني عفوي وقع من قبل صبيان كانوا
يلعبون في الطريق، فلا حاجة لان تدس بريطانيا
انفها فيما لا يعنيها من الامور»([2]).

فعاد القنصل يجرّ أذياله بالفشل من
هذه السياسة التي نجح الانجليز فيها في
الهند، وتصوروا أنها تنجح مع زعماء الدين
الاسلامي أيضاً، وبذلك أحدث الميرزا
الشيرازي في المرجعية زوبعة الوعي المقاوم،
وفتح أمامها أبواب العمل السياسي على أوسع
نطاق.

2 ـ فترة الاصلاح السياسي، فقد التفتت
المرجعية بعد ثورة التنباك إلى أن الاستبداد
الداخلي ليس أقل خطراً على الامة من التحديات
الخارجية، وأنه يؤكدها حيث تحول النظام
القاجاري المستبد إلى العوبة بايدي الانجليز
تارة والروس تارة اخرى، فتبلورت لديها فكرة
الاصلاح السياسي بإزالة الاستبداد وإقامة
نظام يستند إلى اسس دستورية وشوروية، ولم
تفكر بتطوير حركتها إلى المناداة بنظام
اسلامي انسجاماً مع المرحلة وشعارها الاساسي
المتمثل بالدفاع عن هوية المسلمين.

لقد القت المرجعية في هذه الفترة بكل
ثقلها الجماهيري والسياسي في معركة الاصلاح
السياسي، فشارك فيها ـ بعد علماء طهران ـ
المراجع الكبار امثال «الميرزا حسين خليل،
والشيخ عبد اللّه المازندراني والشيخ كاظم
الخراساني».

3 ـ فترة الجهاد ضد الاحتلال الاجنبي،
بعد أن انتكست أخيراً الحركة الدستورية
الايرانية، حيث قام الانجليز بتحريفها
وتحويل خطها السياسي من المرجعية إلى التبعية
لهم، ومن ثم تحويل النظام القاجاري إلى
ألعوبة بأيديهم بعدما كان ألعوبة بأيدي الروس.

وفي مقياس المرحلة اصبحت الهوية
الاسلامية في خطر أشد من السابق; حيث اصبحت
تواجه خطر الاحتلال والسيطرة الاجنبية
المباشرة، وهذا ما حصل بالاعتداء الروسي على
آذربيجان، والايطالي على ليبيا عام 1911م، ثم
البدء باحتلال العراق في عام 1914م، وكذا
احتلال سوريا ولبنان وفلسطين والاردن وغيرها;
وهنا لعبت المرجعية الاسلامية دوراً مشرفاً
قل نظيره في ابعاده القتالية والجماهيرية
والمعنوية، ولم تتوان عن خوض معركة الشرف
في جبهاتها كافة; فقد اصدرت فتواها بضرورة
تحرير ليبيا من الطليان([3]
وبعثت وفداً إلى هناك لتحري الموقف عن كثب،
ومعرفة سبل المساعدة التي يمكن للمرجعية
تقديمها في هذا المجال، وكثفت جهودها ضد
الاحتلال الروسي لاذربيجان حتى إن الشيخ محمد
كاظم الخراساني عزم على قيادة الجيش المتوجه
لجبهات القتال هناك، غير أن المنية وافته في
الليلة التي كان مصمماً فيها على الرحيل إلى
آذربيجان في صباح يومها التالي.

وخاضت المرجعية كذلك معركة تحرير
سوريا ولبنان من الاحتلال الفرنسي، وتحرير
العراق من الاحتلال البريطاني، وواصلتها حتى
النفس الاخير وفي مراحلها كافة، ففي البدء
أعلنت الجهاد ضد الانجليز، ثم اعلنت المقاومة
لمشروع الاستفتاء حول مصير العراق، ثم اطلقت
شرارة ثورة العشرين، وأخيراً أعلنت رفضها
القاطع لنظام الانتداب في العراق ومشروع
المعاهدة الايرانية ـ البريطانية في ايران.

ولمعت في هذه الفترة اسماء السيد كاظم
اليزدي والشيخ الخراساني والسيد مهدي
الحيدري والشيخ مهدي الخالصي والميرزا محمد
تقي الشيرازي وغيرهم. وبخصوص العراق طرحت
المرجعية مشروعها السياسي البديل عن
الاحتلال، وكان هذا المشروع يتمثل بفكرة
اقامة دولة عربية يرأسها ملك مسلم مقيد بمجلس
تمثيلي، وهو مشروع يأتي استمراراً لمشروع
المرجعية في الحركة الدستورية الايرانية،
ويمثل خلاصة فكرها السياسي المتمثل آنذاك
بالدفاع عن هوية المسلمين، وقامت الفكرة على
اساس هوية مزدوجة من العروبة والاسلام دون
قصد المعنى الايديولوجي الكامل لاي منهما;
فلم يقصدوا من العروبة المشروع القومي كما لم
يقصدوا من الاسلام النظام الاسلامي، بل اقتصر
الامر على الهوية التي كان المسلمون يسهرون
على حمايتها ويخشون ضياعها، فكان التعبير عن
العروبة يعني رفض التتريك، والتعبير عن
الاسلام يعني رفض سلطة الكفار على العراق.

ولذا لم يطرحوا دور العلماء في هذا
المشروع ولم يرفضوا الصياغة الملكية له، وهما
أمران لا يتم معهما النظام الاسلامي الذي
يقتضي دوراً أساسياً للعلماء ورفضاً صريحاً
للملكية كما هو واضح.

وبعد ثورة العشرين واصلت المرجعية
دورها المقاوم للانتداب، وعارضت تأسيس
المجلس النيابي قبل انجاز الاستقلال التام
للعراق، حتى كان ما كان من أمر التسفير الذي
تعرضت له، حيث قام عملاء الانجليز بتسفير
الشيخ مهدي الخالصي، والشيخ محمد حسين
النائيني والسيد ابو الحسن الاصفهاني وعدد
آخر من كبار العلماء إلى خارج العراق.

وبعد أشهر معدودة قرر الزعيمان الشيخ
النائيني والسيد ابو الحسن الاصفهاني العودة
إلى العراق، والموافقة على مطلب اعتزال
السياسة الذي ارادته السلطة العراقية منهما.

مرحلة التحديث الاسلامي:

لم تدرس حتى الان حادثة تسفير العلماء
إلى ايران عام 1924م بما تستحقه من التحليل
العميق والبحث الكافي، واكتفى الباحثون
بالاشارة الخجلى اليها تارة والعرض السلبي
تارة اخرى ; وكأنهم يجمعون على أن المرجعية
ارتكبت خطأً عندما وقّعت على اشتراط ترك
العمل السياسي، ولكي ندرك الحقيقة في هذا
الجانب ينبغي علينا تسليط الاضواء الكافية
على هذه الحادثة المهمة.

لقد كانت حادثة ذات دلالات بالغة
الاهمية; فالمرجعية التي دخلت العمل السياسي
بقوة جماهيرية لم تعهدها السياسة من قبل،
بحيث أنها بفتوى ذات سطر واحد ومن مرجع واحد
فقط استطاعت أن تُركع الشاه القاجاري وتربك
الدوائر الانجليزية في المنطقة وتحقق
استجابة جماهيرية منقطعة النظير، كيف وصل بها
الامر بحيث يتمكن وزير داخلية في حكومة هزيلة
من تسفير خمسين عالماً يتقدمهم ثلاثة مراجع
كبار لهم سجلهم الحافل بالجهاد والفقه؟ اين
توارت تلك القدرة الجماهيرية الواسعة ؟ هل هو
سحر الانجليز، أم ضعف المرجعية السياسي، أم
شيء آخر؟

لا أنكر براعة الانجليز في السياسة،
ولكن الامر أكبر من البراعة والدهاء، كما لا
اعتقد بأن المرجعية توانت عن أمر كان ينبغي
لها القيام به; فما قامت به هو أعلى دور يمكنها
أن تؤديه. والتفسير الصحيح لهذه الظاهرة
الغريبة يكمن في تفاوت أدوار الحضارة بين
الانجليز والمسلمين; فقد دخل المجتمع
الاسلامي المعركة مع الغرب وهو في نهايات
الدورة الاخيرة من حضارته الاسلامية، مثقلاً
بتراكمات كثيرة وسلبيات كبيرة، وقد اضعفته
عوامل عديدة كان بفعلها في حاجة إلى بناء
جديد، وهو ما يتطلب وقتاً ليس بالقليل
وشروطاً ليست بالهينة; فيما خاض الغرب هذه
المعركة وهو في عنفوان دورة حضارية جديدة،
يتحرك بزخم فاعل ويعمل بثقة عالية بالنفس([4]).

وفي مأزق من هذا النوع لم يكن بوسع
المرجعية إلاّ أن تمد الوضع القائم بمقومات
الصمود، امام التحديات الغربية الهادفة إلى
اسقاط الهوية الاسلامية للمسلمين، في مجالات
السياسة والثقافة والاجتماع. والمقومات هي:

1 ـ إقامة الصلح بين الدولتين
العثمانية والقاجارية.

2 ـ القضاء على النفوذ الاقتصادي
الغربي.

3 ـ العمل في سبيل اصلاح الحياة
السياسية.

4 ـ اعلان الجهاد المقدس ضد الاستعمار.

وقد استطاعت بهذه الادوار الاربعة
الرئيسية أن تحقق زخماً سياسياً وثورياً قل
نظيره كماً وكيفاً، بحيث لا يتصور أن واجهة
قيادية اخرى يمكنها أن تحقق مثل ذلك ; لكن
العامل الحضاري المتمثل بكون المجتمع المسلم
يعيش نهايات مسيرته الحضارية السالفة، تسبب
في وجود أعماق اجتماعية هرِمة لا يمكنها
الاستجابة لمتطلبات المعركة بكل ابعادها،
فانحصر زخم المرجعية في السطح وظهرت
الاندفاعة الثورية والجهادية التي توالت
متواصلة بين عامي «1891م ـ 1924م»، والتي تمثل
الطاقة الدفاعية المتبقية لحضارة المسلمين
في دورتها الاخيرة.

ووفقاً لهذه المعادلة تمثل دور الغرب
طبيعياً في بناء متواصل الخطى، فيما تمثل دور
الامة في دفاع مستميت ولكنه لا ينطلق من قاعدة
صلبة بل من دورة حضارية ميتة، لذا كان دفاعاً
محكوماً بالتراجع وفقدان المواقع واحداً تلو
آخر، حتى جاء العام 1924م ليسجل نهاية الدفاع
وبدء عهد التبعية; ففي تركيا سقطت الخلافة
العثمانية وأسس اتاتورك جمهوريته العلمانية
على انقاضها، وفي ايران تم تحريف الحركة
الدستورية وكان هناك خطوات جادة لانهاء الحكم
القاجاري وابداله بحكم علماني صريح، وفي
الجزيرة العربية تمت تصفية «الشريف حسين»
الذي كان يطمح إلى تأسيس خلافة اسلامية تشمل
الجزيرة والشام والعراق، وجيء بآل سعود بدلاً
منه، ولم تكن الساحة العراقية بدعاً من هذه
الساحات.

فمشروع الجهاد الذي بدأ من العام 1914م
على الرغم من زخمه واندفاعه الشديدين لم يحقق
النتائج الميدانية المطلوبة والمرجوّة; إذ لم
يحل في المحصلة النهائية دون تحقق الاحتلال،
فانتكست ثورة النجف وبعدها ثورة العشرين،
فيما تواصل دور الانجليز المتنامي بتشكيل نخب
علمانية متغربة، واكمال الاحتلال، وتشكيل
الحكومة المؤقتة، وتنصيب الملك فيصل.

والفصل الاخير الذي تبقى من المعركة
بين الطرفين كان يتمثل في انتخابات المجلس
التأسيسي وعقد معاهدة الانتداب، وهو الفصل
الذي حُسم أخيراً بتسفير المراجع الثلاثة ومن
معهم من العلماء الكبار إلى خارج العراق،
والذي ظهرت فيه علائم نضوب المقاومة لدى
الامة وأبدت جماهير المرجعية استرخاءً أمام
السلطة، ولم تؤدِ الدور المعهود منها ازاء
مسوؤل عادي في الدولة هو متصرف كربلاء، عندما
أمر باعتقال أبرز مرجعين في النجف الاشرف هما
الامام الاصفهاني والامام النائيني مع عدد
كبير من العلماء البارزين.

هذه هي الدلالات البالغة والعميقة
لحادثة تسفير العلماء، وما لم ندركها ضمن
سياق الصراع الحضاري بين الغرب والامة
الاسلامية آنذاك، يمكننا أن ندرك موقف
المرجعية المتمثل بالعودة إلى العراق وقبول
اشتراط عدم التدخل في السياسة.

إن السياسة تمثل مرحلة متقدمة من
مشروع حضاري، والمشروع الاسلامي آنذاك كان
يعيش سلسلة تراجعات قهرية فرضها العامل
الحضاري المذكور آنفاً، حتى وصل اخيراً في
عام 1924م إلى الصفر حيث اغلق ملف آخر دورة من
دورات الحضارة الاسلامية.

وتعين على المسلمين النهوض بأعباء
دورة جديدة، وتأسيس واقع جديد يأخذ بنظر
الاعتبار المعطيات الجديدة للحياة، وقد
يستبعد بعض هذا التصور مستكثراً من المرجعية
مثل هذا الوعي، ولكنه استبعاد غريب; فإن
المرجعية التي وافقت على اشتراط عدم التدخل
في السياسة كان لها حضورها السياسي المبكر،
ومعايشتها للمرحلة الاولى منذ ثورة التنباك
سنة 1891م، اي إنها رافقت المشروع الاسلامي منذ
أيامه الاولى، وواكبت محطاته وانتصاراته
وانتكاساته مواكبة تجعل التصور المذكور
أمراً تلقائياً وطبيعياً جداً.

لقد أدركت المرجعية وهي في ايران أنها
اصبحت في غنى عن السياسة، وأنها يتعين عليها
خوض مهام التحديث في البنى الاساسية للمجتمع
الاسلامي، فعادت إلى العراق ووافقت على شرط
السلطة الذي لو لم يشترط عليها لكانت قد
التزمت به تلقائياً ; لانها دخلت مرحلة
التحديث التي ستتشكّل من أربع فترات:

1 ـ فترة إعادة بناء القواعد التحتية
للمجتمع:

ونقصد بالقواعد التحتية الاسس
الثقافية والاجتماعية التي يلزم إعادة
بناءها بما يتوافق والظروف العصرية الجديدة.
وقبل أن نشرح الادوار التي قامت بها المرجعية
في هذا المجال لابد لنا من الاشارة إلى أن
جذور هذه الفترة تشكلت في المرحلة السابقة،
إلاّ أنها لم تفرض طابعها المتميز إلاّ في
المرحلة الثانية.

فإن الاعمال الفكرية والنشاطات
الثقافية المتميزة للسيد هبة الدين
الشهرستاني، والشيخ محمد جواد البلاغي،
والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ آغا
رضا الاصفهاني، والسيد عبد الحسين شرف الدين
قدحت شرارة التحديث في المجتمع الاسلامي
وجعلته يتنبه للمرحلة القادمة التي حلت فعلاً
بعد عام 1924م.

أما الادوار التي قامت بها المرجعية
في هذه الفترة فتتمثل بالنقاط التالية:

أ ـ اعادة تنظيم الفكر الامامي
وتجديده، وهذا ما يتمثل في الاعمال الفكرية
للسيد عبد الحسين شرف الدين والعلامة الاميني
والشيخ محمد رضا المظفر والشيخ كاشف الغطاء
والسيد حسن الصدر.

ب ـ ترسيخ قواعد المرجعية وتوسيع
نطاقها، ويتمثل ذلك في مرجعية الامام السيد
ابو الحسن الاصفهاني والميرزا حسين
النائيني، وتأسيس الشيخ عبد الكريم اليزدي
الحوزة العلمية في قم المقدسة، وما تضمن ذلك
من انشاء موطن اضافي سرعان ما احتضن المرجعية
العليا في اعقاب وفاة الامام الاصفهاني، تلك
هي مرجعية الامام حسين البروجردي التي واصلت
هذا الدور.

ج ـ تجديد نظم الدراسة وهيكلية
الحوزة، ويتمثل ذلك في مشروع جمعية منتدى
النشر للشيخ محمد رضا المظفر.

د ـ الاصلاح الاجتماعي، ويتمثل هذا
الدور بالاعمال الاصلاحية للسيد محسن الامين
العاملي على صعيد الشعائر الحسينية وتأسيس
الجمعيات الخيرية، وللشيخ محمد الحسين آل
كاشف الغطاء على صعيد المجتمع الشيعي في
العراق.

هـ ـ انماء حركة الفكر الاسلامي،
ويتمثل ذلك في الاعمال الفكرية للشيخ البلاغي
والسيد هبة الدين الشهرستاني وأمثالهما.

و ـ فهرسة التراث الشيعي، ويتمثل هذا
الدور بالاعمال الرجالية والبيبلوغرافية
القيمة للشيخ الجليل آغا بزرك الطهراني،
والسيد محسن الامين العاملي.

ولا يعني انشغال المرجعية في هذه
الفترة ببناء الاسس الجديدة للمجتمع أنها
انصرفت تماماً عن السياسة، فالسيد الاصفهاني
الذي أمضى شرط عدم التدخل في السياسة، والسيد
حسين القمي والسيد حسن المدرس والشيخ محمد
الحسين آل كاشف الغطاء والسيد البروجردي
قاموا بنشاطات وادوار سياسية مختلفة عندما
اقتضت الضرورة ذلك منهم.

2 ـ فترة الاصطدام مع السلطة:

فمنذ اوائل الخمسينات بدأ الطابع
السياسي يزداد ظهوراً في أعمال المرجعية
الاسلامية، التي بدأت تطرح محوراً جديداً هو
محور معارضة النظام الحاكم; ففي ايران ظهرت
حركة «فدائيان اسلام» بقيادة السيد نواب
صفوي، كما ظهرت حركة السيد أبو القاسم
الكاشاني في معارضة الاحتكارات الاجنبية
لصناعة النفط والدعوة إلى تأميمه، وفي عام 1963م
تصدر محور معارضة النظام أعمال المرجعية،
بحيث قام الامام الخميني بقيادة انتفاضة «15
خرداد» ضد النظام البهلوي المقبور، وفي
العراق بدأ السيد محسن الحكيم مرجعيته في
اوائل الخمسينات بمعارضة واضحة للنظام
الملكي ما لبثت أن تبلورت تبلوراً واضحاً
إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وفي
مطلع العهد الجمهوري تم تأسيس «جماعة العلماء»
و«حزب الدعوة الاسلامية» ليكونا ذراعي
المرجعية في مواجهة النظام القائم، وفي منتصف
الستينات مارست مرجعية الامام الحكيم دوراً
بارزاً في بلورة رأي جماهيري رافض للنظام
الحاكم.

3 ـ فترة طرح النظام الاسلامي:

فمنذ اوائل الستينات بدأت تظهر في
اوساط المرجعية فكرة اقامة نظام اسلامي، وذلك
من خلال جملة كتابات أبرزها كتابات الامام
الشهيد محمد باقر الصدر; غير أن هذه الفكرة لم
تتبلور تبلوراً بارزاً ومشخّصاً إلاّ في
اوائل السبعينات، عندما القى الامام الخميني
محاضراته عن ولاية الفقيه التي مثلت اول
صياغة فقهية محددة لمشروع الحكومة
الاسلامية، وأول مبادرة سياسية مرجعية في هذا
الاتجاه الذي رافقه ظهور حركة فكرية قوية
تدعمه.

وقد واصلت المرجعية اتجاهها الجديد
بكل إصرار وحزم حتى قيّض لها اللّه سبحانه
وتعالى تحقيق حلم الانبياء من خلال اقامة
الجمهورية الاسلامية في ايران عام 1979م.

4 ـ فترة الدعوة إلى تطوير واقع
المرجعية:

فمنذ اوائل المرحلة التحديثية التفتت
المرجعية إلى ضرورة تطوير واقعها واساليب
عملها بما يتناسب مع خصائص الوضع الجديد
ومهامه، فظهرت فكرة التغيير الكيفي في عمل
الحوزة ومناهجها، فيما ظهرت مرجعية قم بزعامة
آية اللّه اليزدي ومن بعده آية اللّه
البروجردي، وتوسعت مرجعية النجف الاشرف
بزعامة الامام الاصفهاني توسعاً كبيراً،
وعبرت هذه الاضافة والتوسع عن تطور في حجم
المرجعية فيما بقي الجانب النوعي من عملها
منتظراً الفرصة المناسبة للظهور، حتى جاءت
فترة طرح النظام الاسلامي لتسلط الضوء على
الواقع النوعي للمرجعية، وتؤشر بقوة لضرورة
تطوره والارتفاع به إلى مستوى التحديات
والمهام الجديدة، وتأكدت هذه الضرورة ـ بل
تحولت إلى حتمية ـ بعد قيام النظام الاسلامي
في ايران.

ومع أن الكثيرين بدأوا يرون في الواقع
النوعي للحوزة والمرجعية نوعاً من القصور
إلاّ أنهم لم يدرسوا الاسباب الطبيعية لها،
والمتمثلة أساساً بأن قيام الثورة الاسلامية
وإقامة النظام الاسلامي فاجآ المرجعية واخذا
يطالبانها بخصائص وامتيازات ما كان بالامكان
توفرها دفعياً، كما أن هناك شروطاً نوعية
مفقودة كانت سنّة التدرج تقتضيها للدخول في
الواقع المطلوب.

ومن بين كبار العلماء العاملين الذين
افصحوا عن رغبتهم في تطوير الواقع النوعي
للمرجعية الامام الراحل السيد الخميني(قدس
سره) في خطاباته ووصيته الخالدة، كما قام
الامام الشهيد الصدر(قدس سره) بحكم قيمومته
على الفكر والتنظير الاسلامي المعاصر،
بتقديم اطروحة متكاملة في هذا المجال يمكن
اعتبارها في الحد الادنى ورقة عمل لمؤتمر قمة
مرجعي، تفرض الضرورة الراهنة إقامته للوصول
إلى صيغة جديدة في واقع المرجعية الاسلامية.


([1])
جعفر آل محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، 3: 200.

([2])
حسن الاسدي، ثورة النجف: 113.

([3])
حسن شبر، تاريخ العراق السياسي المعاصر 2: 121ـ122.

([4])
نتحدث هنا عن الجانب النفسي والمعنوي من
المجتمعين الاسلامي والغربي، ونقارن بينهما
بعيداً عما يرمزان اليه من الايديولوجيات;
فإن الانجليز لم ينتصروا لانهم آمنوا
بالعلمانية، بل لانهم كانوا في انبعاث جديد
وروحية جديدة، ولانهم كانوا ينظرون الى أمم
حولهم موسومة بالخواء والضعف فتعززت ثقتهم
بأنفسهم; ولم يضعف المسلمون امامهم بسبب
انتمائهم الديني، بل لانهم عاشوا دور
الشيخوخة من مسيرتهم الحضارية السالفة، بكل
ما لذلك من مدلولات سلبية في المجالات
النفسية والثقافية والسياسية.

/ 1