امام علی (ع) و مصلحة الاسلام العلیا نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

امام علی (ع) و مصلحة الاسلام العلیا - نسخه متنی

فؤاد کاظم المقدادی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

دراسات


امام علي (ع) و مصلحة الاسلام
العليا


الشيخ فؤاد كاظم المقدادي

درس الكثيرون سيرة أهل البيت(عليه
السلام) وتأريخهم المشرق بالفضائلوالفواضل
والكمالات والكرامات وأبدعوا في إبراز دورهم
الرائد في العلم والبناء والتضحية والفداء،
ووقفوا كثيراً أمام حقيقة الاهداف وسرّ
التنوّع في الادوار التي اضطلع بها أئمّة أهل
البيت(عليهم السلام)، إلاّ أنّ القليل منهم
وضع يده على السرّ الاساسي والحقيقة
الجوهريّة المعبّرة عن قاسم أعظم وخطّ مشترك
بين جميع هذه الادوار، وما زخرت به من مواقف
إسلاميّة كبرى، على اختلاف صورها وأشكالها،
سواء أكانت في حرب أم في سلم، وسواء أكانت
قولاً أم فعلاً، سلباً أم إيجاباً، صريحة
كانت أم تقيّة، ألا وهي مصلحة الاسلام العليا.
وهذا القليل لم يتناول من هذا السرّ وتلك
الحقيقة سوى مفردات جزئيّة متفرّقة لا تعطي
للصورة عظمتها وكمالها، الذي لا يتمّ إلاّ
بالنظرة الشموليّة المترابطة والرؤية
العميقة الكاشفة. ولعلّ من أبرز هذه
المحاولات النادرة، التي مهّدت وشرّعت منهج
الدراسة الشموليّة التكامليّة، هي مجموعة
محاضرات ومقالات الشهيد السعيد آية الله
العظمى السيد محمّد باقر الصدر(قدس سره)عن
أدوار ومواقف أهل البيت(عليهم السلام)، التي
لم يكتب لها الدوام حتّى أشواطها الاخيرة
وغايتها الكبرى، فقد أبت هذه الشخصيّة
الاسلاميّة الفذّة إلاّ أن تترجم هذا السرّ
المذكور والجوهر المزبور في مسيرة أهل البيت(عليهم
السلام)الرائدة، بالصراع مع الطاغوت والنصرة
لله عزّ وجلّ، من خلال التضحية بنفسها
الزكيّة، من أجل مصلحة الاسلام العليا، وصلاً
بتلك المسيرة العظمى والسيرة الشريفة.

ونريد هنا أن نسلط ضوءاً كليّاً
عامّاً على هذا القاسم الاعظم والخطّ المشترك
في مواقف وأدوار أئمة أهل البيت(عليهم السلام)
على مدى التاريخ والعصور التي اكتنفتهم، وذلك
هو لحاظهم أوّلاً وآخراً، وقبل كلّ شيء وبعد
كلّ شيء مصلحة الاسلام العليا فدونها أرواحهم
الطاهرة وأهل بيتهم الكرام، وأموالهم ما
كثرت، وجهادهم وجهودهم ما عظمت، وهجرتهم في
سبيل الله في أكناف الارض وتخومها ما وسعت،
وكظمهم الغيظ وصبرهم الجميل حتّى يتبين الحق
من الباطل.

ومن الاهداف الاساسية والمرامي الرسالية
لسبر سيرة أهل البيت(عليهم السلام)واستجلاء
هذا الاصل الاعظم فيها هو اعطاء مقياس مطلق في
واقعه التطبيقي الامثل ليكون نبراساً ونهجاً
مستقيماً لكل المسلمين الرساليين علماء
وقادة واُمة تستهديه في توحيد مواقفها
والتقريب بين مذاهبها ومشاربها في العمل على
تقوية شوكة المسلمين واعلاء كلمة الله وبناء
اُمة الاسلام الواحدة، ويتحقق فيها مصداق
قوله تعالى: (كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(1).

إن أولى نماذج السيرة الطاهرة لاهل
البيت(عليهم السلام) هي سيرة الامام علي(عليه
السلام)التي تحكي بكل وضوح وجلاء اصل حفظ
مصلحة الاسلام العليا في كل مفرداتها
واطوارها ومراحلها نتناولها منتخبين صوراً
معبرةً منها تاركين للمحبين وطلاب المعرفة
والسائرين على طريقه الالهي المستقيم النظر
في الافاق الواسعة لصورها التفصيلية الاخرى
ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وهذه الصور المنتخبة متوزعة على ثلاث
مراحل: الاولى في حياة الرسول(صلى الله عليه
وآله)، والثانية في زمن الخلافة بعد رسول الله(صلى
الله عليه وآله)، والثالثة في زمن خلافته
وحكومته(عليه السلام).

أولاً: في حياة رسول الله(صلى الله
عليه وآله)

أ ـ فداء نفسه لرسول الله(صلى الله
عليه وآله) بمبيته على فراشه:


عندما رأى امير المؤمنين وامام
المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أن
مصلحة الاسلام العليا تتجسّد بحياة النبي(صلى
الله عليه وآله) وانّ في سلامته سلامة
الرسالة، فداه بنفسه ووضعها في موضع التضحية
في سبيل تلك المصلحة العليا، وهو مطمئنّ برضا
الله وقضائه، فبات في فراش الرسول عندما علم
أنّ مشركي قريش قد بيّتوا قتله(صلى الله عليه
وآله).

وممّا ورد في ذلك انّ جبرئيل(عليه
السلام) نزل بالاية الكريمة: (وإذ يمكر بك
الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)(2)
واخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بتفاصيل
المؤامرة وأبلغه بأمر الله تعالى له بالهجرة
إلى المدينة المنورة وبجعل أخيه وابن عمّه
علي بن أبي طالب(عليه السلام)مكانه، ومبيته
على فراشه.

فأرسل(صلى الله عليه وآله) إلى علي(عليه
السلام) يخبره بتفاصيل المؤامرة، وهبوط
الامين جبرائيل بالاية ، قائلاً له: يا
علي ! انّ الروح الامين هبط عليّ الساعة
يخبرني انّ قريشاً اجتمعت على المكر بي
وقتلي، وأوحى إليَّ عن ربي أن اهجر دار قومي
وأن انطلق إلى غار حراء في جبل ثور، تحت ليلتي
هذه، وقد أمرني أن آمرك بالمبيت على فراشي وفي
مضجعي، لتخفي بمبيتك عليهم اثري، فما أنت
قائل ؟فقال علي(عليه السلام): أوتسلمنّ بمبيتي
يا رسول الله ؟ قال(صلى الله عليه وآله): نعم،
فتبسّم ضاحكاً، واهوى إلى الارض ساجداً
شاكراً لله. وقال: فداك سمعي وبصري، مُرني بما
شئت تجدني مطيعاً منفذاً، فقال(صلى الله عليه
وآله): فارقد على فراشي، واشتمل ببردي
الحضرمي، ثم انّي اخبرك يا علي، ان الله تبارك
وتعالى يمتحن اولياءه على قدر ايمانهم
ومنازلهم من دينه، فأشدّ الناس بلاءً
الانبياء، ثم الامثل فالامثل، وقد امتحنك يا
ابن أمّ وامتحنني فيك، بمثل ما امتحن به خليله
ابراهيم(عليه السلام)، والذبيح اسماعيل(عليه
السلام)، فصبراً صبراً، فانّ رحمة الله قريب
من المحسنين.

ثم ضمّه إلى صدره صلوات الله عليه وآله
وبكى إليه وجداً به، وفرقاً عليه، وبكى عليٌ(عليه
السلام)جزعاً على فراقه.

وحين انتشر الظلام، أسرع المتآمرون
لتطويق بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)للحيلولة
دون خروجه، وخرج الرسول(صلى الله عليه وآله)
من بين اعداء الله وهو يتلو قوله تعالى: (وجعلنا
من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً
فأغشيناهم فهم لا يبصرون)(3)
فلم يشاهده أحد من المشركين، وعند طلوع الفجر
اقتحم المتآمرون دار رسول الله(صلى الله عليه
وآله) لقتله واتّجهوا لغرفته، فوثب علي(عليه
السلام) في وجوههم فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: أين
محمّد ؟ قال: «اجعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم
قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم»(4).
وفي ذلك نزلت الاية الكريمة: (ومن الناس من
يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف
بالعباد)(5)
التي اشتهر بين المفسّرين وأصحاب الحديث من
مختلف الفرق الاسلامية أنها نزلت في علي بن
أبي طالب(عليه السلام) ليلة مبيته على فراش
الرسول(صلى الله عليه وآله)(6).

ولم يكتف اميرالمؤمنين(عليه السلام)
بفداء نفسه لرسول الله(صلى الله عليه وآله) في
مبيته على فراشه بل صبر على البقاء في مكة
لينفذ وصية رسول الله بحفظ ذمّته وأداء
أمانته، وكانت قريش تدعو محمداً(صلى الله
عليه وآله)في الجاهلية الامين وتودعه
أموالها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في
الموسم وجاءته النبوة والامر كذلك، فأمر
علياً أن يقيم منادياً بالابطح غداة وعشية:
ألا من كانت له قبل محمد أمانة فليأت لتؤدى
اليه أمانته، وقال: انهم لن يصلوا إليك بما
تكرهه حتى تقدم عليّ ، فأدِّ أمانتي على
أعين الناس ظاهراً، واني مستخلفك على فاطمة
ابنتي ومستخلف ربي عليكما. وأمره أن يبتاع
رواحل له وللفواطم ومن أراد الهجرة معه من بني
هاشم وغيرهم، وقال له: «إذا قضيت ما أمرتك فكن
على اُهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وانتظر
قدوم كتابي اليك ولا تلبث بعده».

ثم كتب رسول الله(صلى الله عليه وآله)
إلى علي(عليه السلام) مع أبي واقد الليثي
يأمره بالمسير اليه، وكان قد ادّى أماناته
وفعل ما أوصاه به، فلما أتاه الكتاب ابتاع
ركائب وتهيّأ للخروج، وأمر من كان معه من
ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ليلاً إلى ذي طوى،
وخرج علي(عليه السلام)بالفواطم; فاطمة بنت
رسول الله(صلى الله عليه وآله) واُمّه فاطمة
بنت أسد بن هاشم وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت
الزبير بن عبد المطلب وتبعهم أيمن ابن اُم
أيمن مولى رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
وأبو واقد الليثي، فجعل أبو واقد يسوق
الرواحل سوقاً حثيثاً، فقال علي(عليه السلام):
ارفق بالنسوة يا أبا واقد، انهن من الضعائف،
ثم جعل علي يسوقهن سوقاً رفيقاً.

فلمّا قـارب ضجنان ادركه الطلب ; وهم
ثمانية فـرسان ملثمون معهم مولى لحرب بن امية
اسمه جناح، فقال علي(عليه السلام) لايمن وأبي
واقد: أنيخا الابل واعقلاها، وتقدم فأنزل
النسوة، ودنا القوم، فاستقبلهم علي(عليه
السلام) منتضياً سيفه، فقالوا: ظننت انك يا
غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أباً لك. قال: فإن
لم أفعل؟ قالوا: لترجعنّ راغماً أو لنرجعن
بأكثرك شَعراً، وأهون بك من هالك، ودنَوْا من
المطايا ليثوروها، فحال علي(عليه السلام)
بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه، فراغ عن
ضربته، وضرب جناحاً على عاتقه فقده نصفين حتى
وصل السيف إلى كتف فرسه والظاهر ان جناحاً لما
اهوى له بالسيف انحنى، لان الفارس لا يمكنه أن
يضرب الراجل إلاّ وهو منحن، فضربه عليّ وهو
منحن على عاتقه، ولو لم يكن منحياً لم تصل
ضربته إلى عاتقه، وشدّ على أصحابه وهو على
قدميه شدة ضيغم وهو يقول:

خلوا سبيل الجاهد المجاهد
آليت لا اعبد غير الواحد

فتفرق القوم عنه، وقالوا: احبس نفسك
عنّا يابن ابي طالب، قال: فإني منطلق إلى أخي
وابن عمي رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فمن
سره أن أفري لحمه واُريق دمه فليدنُ مني، ثم
أقبل على أيمن وأبي واقد وقال لهما: أطلقا
مطاياكما، ثم سار ظافراً قاهراً حتى نزل
ضجنان، فلبث بها يومه وليلته، والحق به نفر من
المستضعفين من المؤمنين منهم أم أيمن مولاة
رسول الله(صلى الله عليه وآله)وبات ليلته تلك
هو والفواطم طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله
قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر،
فصلى بهم صلاة الفجر، ثم سار لا يفتر عن ذكر
الله هو ومن معه حتى قدموا المدينة، وقد نزل
الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله
تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً
وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض
ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب
النار)(فاستجاب لهم ربهم اني لا أُضيع عمل
عامل منكم من ذكر أو اُنثى بعضكم من بعض
فالذين هاجروا واُخرجوا من ديارهم واُوذوا في
سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاُكفرنّ عنهم
سيّئاتهم ولاُدخلنّهم جنات تجري من تحتها
الانهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن
الثواب(7))(8).

ب ـ ذبّه عن رسول الله(صلى الله عليه
وآله) في الحروب والمعارك:


كان شأن اميرالمؤمنين(عليه السلام)
وديدنه حماية الرسول(صلى الله عليه وآله) عند
الحروب والمعارك التي خاضها تحت قيادته، فكان
ظلاًّ له لا يفارقه فيها ولا يألو جهداً في
القتال دونه والذّب عنه مهما كانت العواقب
واشتدَّت الفتن، حتى قالت فاطمة الزهراء(عليها
السلام) في حقّه: «وبعد أن مني ببُهَمِ الرجال
وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلّما
أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله، أو نجم قرن
للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه (علي
بن أبي طالب(عليه السلام)) في لهواتها، فلا
ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها
بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر
الله، قريباً من رسول الله، سيداً في اولياء
الله، مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، لا
تأخذه في الله لومة لائم...».

ففي معركة بدر كان عدد المسلمين يساوي
ثلث جيش عدوّهم ولم تكن العدة لدى المسلمين
ليست ذات بال، ولم يكن منهم فارس غير المقداد
بن الاسود الكندي، وكانت أسلحة بعضهم من جريد
النخل ونحوه.

حتى إذا اضطرمت نار الفتنة تقدم علي(عليه
السلام) وكان يحمل لواء الرسول(صلى الله عليه
وآله)(9)
فخاض غمار معركة حامية غير متكافئة، كان
المسلمون خلالها يستغيثون ربّهم طلباً
للنصر، فاستجاب لهم وأمدّهم بالملائكة، وقد
انتهت المعركة بمقتل سبعين رجلاً من المشركين
كان مقتل نحو نصف عددهم بسيف علي(عليه السلام)(10).

وفي معركة اُحد كان رسول الله(صلى الله
عليه وآله) قد أعطى لواء المهاجرين لعلي(عليه
السلام)ولمّا اشتبك الطرفان كان النصر
ابتداءً للمسلمين، بيد أن حماة جبل اُحد
الذين أمرهم الرسول بعدم مفارقته تركوا
اماكنهم بعد فرار المشركين طمعاً في الغنائم
والمتاع، فصعدت احدى فرق المشركين بقيادة
خالد بن الوليد الجبل فتغيّر الموقف لصالح
المشركين وسقط الكثير من المسلمين شهداء
واُصيب الرسول(صلى الله عليه وآله) بجروح في
وجهه الكريم وكسرت رباعيته، وحيث لم يبق مع
رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ذلك الموقف
الرهيب بعد فرار المسلمين غير علي(عليه
السلام) وأبي دجانة وسهل بن حنيف، استبسل علي(عليه
السلام)كعادته في الدفاع عن رسول الله(صلى
الله عليه وآله)وبيضة الاسلام، وقتل حملة
اللواء من المشركين واحداً بعد آخر، وكانوا
تسعة رجال، ثمانية من بني عبد الدار وتاسعهم
عبدهم(11)
فرعب الاعداء وولّوا هاربين.

وفي غزوة الاحزاب طوّقت المدينة بعشرة
آلاف من المشركين بشتى فصائلهم، ونقض بنو
قريظة صلحهم مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)
وانضموا إلى صفوف الغزاة، فتغير ميزان القوى
لصالح العدو، وبلغ الذعر في نفوس المسلمين أي
مبلغ، وقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة في
قوله: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذْ
زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون
بالله الظنونا)(12).

وبدأ العدو هجومه بعبور عمرو بن عبد
ودّ العامري ـ أحد ابطال المشركين ـ الخندق
الذي حفره المسلمون مع بعض رجاله فهددوا
المسلمين في داخل المدينة بل في داخل
تحصيناتهم، وراح ابن عبد ودّ يصول ويجول،
ويتوعّد المسلمين ويتفاخر عليهم ببطولته،
ويستعلي وينادي: هل من مبارز؟ فقام علي(عليه
السلام) وقال: أنا له يا رسول الله. قال رسول
الله(صلى الله عليه وآله): اجلس انه عمرو! وكرر
ابن عبد ود النداء وجعل يوبّخ المسلمين،
ويسخر منهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنّ
من قتل منكم يدخلها، أفلا تبرزون لي رجلاً ؟

ولمّا لم يجبه أحد من المسلمين، كرر
علي(عليه السلام) طلبه: أنا له يا رسول الله،
فقال(صلى الله عليه وآله): اجلس انه عمرو!
فأبدى عليّ عدم اكتراثه بعمرو وغيره، قائلاً:
وإن كان عمراً!! فأذِن رسول الله(صلى الله عليه
وآله)لعلي(عليه السلام)، وأعطاه سيفه ذا
الفقار، وألبسه درعه، وعممه بعمامته، ثم قال(صلى
الله عليه وآله): «اللّهم هذا أخي وابن عمي،
فلا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين»(13).

ومضى علي(عليه السلام) إلى الميدان.
وخاطب ابن عبد ود بقوله: يا عمرو انك كنت عاهدت
الله، أن لا يدعوك رجل من قريش إلى احدى
خلّتين إلاّ قبلتها. قال عمرو: أجل. فقال علي(عليه
السلام): فاني ادعوك إلى الله وإلى رسوله(صلى
الله عليه وآله) وإلى الاسلام. فقال: لا حاجة
لي بذلك. قال له الامام: فإني ادعوك إلى
البراز، فقال عمرو: اني اكره أن اهريق دمك، أن
أباك كان صديقاً لي.

فردّ عليه الامام(عليه السلام) قائلاً:
لكني ـ والله ـ اُحبّ أن اقتلك، فغضب عمرو،
وبدأ الهجوم على علي(عليه السلام) فصده الامام
برباطة جأشه المعتادة، وأرداه قتيلاً، فعلا
التكبير والتهليل في صفوف المسلمين(14).
ولما عاد الامام(عليه السلام) ظافراً استقبله
رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهو يقول:

«لَمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن
عبد ود يوم الخندق افضل من أعمال اُمتي إلى
يوم القيامة»(15).

وبعد مقتل ابن عبد ود، بادر علي(عليه
السلام) إلى سد الثغرة التي عبر منها عمرو
ورجاله ورابط عندها(16) مزمعاً القضاء
على كل من تسوّل له نفسه التسلّل من المشركين،
ولولا ذلك الموقف البطولي لاقتحم جيش
المشركين المدينة على المسلمين، بذلك العدد
الهائل.

وهكذا كان عليّ(عليه السلام) في غزوة
الاحزاب أهم عناصر حفظ بيضة الاسلام وتحقيق
النصر للمعسكر الاسلامي، وانهزام المشركين.

وفي غزوة خيبر عجز عليّة القوم عن
الثبات امام اليهود، ولمّا بان ضعف الجميع عن
اقتحام حصون خيبر حتى تأخر فتحها أياماً، قال
رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لاعطينَّ
الراية غداً رجلاً يحب اللّهَ ورسوله ويحبه
اللّهُ ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى
يفتح الله على يديه»(17).

ولمّا كان الغد أعطاها رسول الله(صلى
الله عليه وآله) عليّاً فاقتحم حصون خيبر
ودخلها عليهم عنوة، وقتل بطلهم مرحباً، ثم
فتح الحصون جميعاً.

وفي غزوة حنين فرّ المسلمون فلم يبق مع
رسول الله(صلى الله عليه وآله) غير علي(عليه
السلام)والعباس وبعض بني هاشم(18)
فكان النصر، بعد عودة المسلمين إلى ميدان
القتال لمّا سمعوا نداء الرسول(صلى الله عليه
وآله)ونداء العباس بن عبد المطلب، وكان الظفر.

هذه نماذج من المواقف التي سجّلها
الامام علي(عليه السلام) بين يدي قائده رسول
الله(صلى الله عليه وآله)في أدق الساعات
واكثرها حرجاً(19
كانت تحكي تضحيته وتفانيه بلا حدود في سبيل
حفظ بيضة الاسلام وتحقيق مصلحته العليا.
وممّا يؤكد ذلك أن عليّاً(عليه السلام) كان قد
اشترك في حروب رسول الله جميعاً غير تبوك(20
وكان ذلك بأمر خاصّ من رسول الله(صلى الله
عليه وآله) لمصلحة اسلامية كان يراها تمثلت في
التحرز من خطر كان يخشاه من المنافقين الذين
تخلّفوا في المدينة.

وممّا ورد في ذلك ان الله أوحى إلى
نبيه(صلى الله عليه وآله) أن يسير إلى غزوة
تبوك بنفسه ويستنفر الناس للخروج معه،
ويختبرهم ليتميزوا بذلك، وتظهر به سرائرهم.

فاستنفرهم النبي(صلى الله عليه وآله)
إلى بلاد الروم، وقد أينعت ثمارهم، واشتدّ
القيظ عليهم، فأبطأ اكثرهم عن طاعته رغبةً في
العاجل، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها،
وخوفاً من شدّة القيظ وبُعْد المسافة، ولقاء
العدوّ، ثم نهض بعضهم على استثقال للنهوض،
وتخلّف آخرون.

ولمّا أراد النبي(صلى الله عليه وآله)
الخروج استخلف اميرالمؤمنين في أهله وولده
وأزواجه ومهاجره، وقال له: يا عليّ! انّ
المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك.

وذلك أنه(صلى الله عليه وآله) علم خبث
نيّات الاعراب وكثير من أهل مكة ومن حولها ممن
غزاهم وسفك دماءهم، فأشفق ان يطلبوا المدينة
عند نأيه عنها في بلاد الروم أو نحوها، فمتى
لم يكن فيها من يقوم مقامه، لم يؤمن من
معرّتهم، وايقاع الفساد في دار الهجرة،
والتخطي إلى ما يشين أهله ومخلّفيه.

وعلم(صلى الله عليه وآله) أنه لا يقوم
مقامه في ارهاب العدوّ، وحراسة دار الهجرة،
وحياطة من فيها إلاّ امير المؤمنين(عليه
السلام) فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونصّ
عليه بالامامة من بعده نصّاً جليّاً.

وذلك فيما تأكد من الرواية انّ أهل
النفاق لمّا علموا باستخلاف رسول الله(صلى
الله عليه وآله) عليّاً(عليه السلام)على
المدينة حسدوه لذلك، وعظم عليهم مقامه فيها
بعد خروجه، وعلموا انّها تتحصن به، ولا يكون
فيها للعدو مطمع، فساءهم ذلك، وكانوا يؤثرون
خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد
والاختلاط عند نأي رسول الله(صلى الله عليه
وآله) عن المدينة، وخلوّها من مرهوب مخوف
يحرسها، وغبطوه(عليه السلام)على الرفاهية
والدعة بمقامه في أهله، وتكلّف من خرج منهم
المشاقّ بالسفر والخطر.

فأرجفوا به(عليه السلام) وقالوا: لم
يستخلفه رسول الله إكراماً له، وإجلالاً
ومودّة، وإنّما خلفه استثقالاً له. فبهتوا
بهذا الارجاف كبهت قريش للنبي(صلى الله عليه
وآله) بالجِنّة تارة، وبالشِّعر أُخرى،
وبالسحر مرّة، وبالكهانة أُخرى. وهم يعلمون
ضدّ ذلك ونقيضه، كما علم المنافقون ضدّ ما
أرجفوا به على امير المؤمنين(عليه السلام)
وخلافه، وأن النبي(صلى الله عليه وآله) كان
أخصّ الناس بأمير المؤمنين(عليه السلام)،
وكان هو أحبَّ الناس اليه، وأسعدهم عنده،
وأفضلهم لديه.

فلمّا بلغ اميرالمؤمنين(عليه السلام)
إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم وإظهار
فضيحتهم، فلحق بالنبي(صلى الله عليه وآله)
فقال: يا رسول الله، ان المنافقين يزعمون انّك
خلفتني استثقالاً ومقتاً! فقال له النبي(صلى
الله عليه وآله): ارجع يا أخي إلى مكانك، فإنّ
المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، فأنت خليفتي
في أهل بيتي، ودار هجرتي، وقومي; أما ترضى ان
تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا
نبيّ بعدي(21).

ثانياً: في زمن الخلافة بعد وفاة رسول
الله(صلى الله عليه وآله)

لما توفيّ رسول الله(صلى الله عليه
وآله) بدأت الفتن تظهر كقطع الليل المظلم كما
تنبّأ بها(صلى الله عليه وآله) في قوله عند
مرضه الذي قضى به: «... أقبلت الفتن كقطع الليل
المظلم يتبع أولها آخرُها...»(22)
انشغل علي وأهل بيته(عليهم السلام) بتجهيز
النبي الكريم(صلى الله عليه وآله)حيث بقي
جثمانه الطاهر ثلاثة أيّام دون دفن ليتسنى
للمسلمين توديعه والصلاة عليه(23).

ولقد استجدّت أمور وأحداث خطيرة بعد
وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) تهدد بيضة
الاسلام وأمّته بالفناء; فقد ظهر المتنبئون
وقوي أمرهم واشتد خطرهم في الجزيرة العربية
من أمثال: مسيلمة الكذاب، وطلحة بن خويلد
الافّاك، وسجاح بنت الحرث الدجّالة، وغيرهم،
وصار وجودهم يشكل خطراً حقيقيّاً على الدولة
الاسلامية.

واشتدّ ساعد المنافقين وقويت شوكتهم
في داخل المدينة وكان الرومان والفرس
للمسلمين بالمرصاد(24
كما ظهرت على السطح الاجتماعي تكتّلات
وتحزّبات بين المسلمين. وبرغم أن
اميرالمؤمنين(عليه السلام)، في ظاهره اعتزل
الناس وما هم فيه ستة شهور، ولم يسمع له صوت في
حروب الردة ولا سواها(25
إلاّ أنه(عليه السلام)كان يرقب ما يحدث
ويترصّد الاوضاع بكلّ دقّة ويرسم موقفه
الرسالي المطلوب على ضوء ما تقتضيه مصلحة
الاسلام العليا، ومن أهم مواقفه التي جسّدت
ذلك في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الاسلام
وامته الفتية هي:

1 ـ موقفه من حقه في الخلافة بعد رسول
الله(صلى الله عليه وآله)، حيث وجد أن مصلحة
الاسلام العليا تقتضي تقديم الاهم الممكن على
غيره، حفظاً للاسلام وحمايةً لدعوته واُمّته
من التمزّق والضياع أمام قوى الكفر والشرك
والنفاق التي علا لها صوت وتربّصت الدوائر
بالاسلام ـ كما ذكرنا ـ في داخل الجزيرة
العربية وخارجها ، ولقد أبلغ الامام
علي(عليه السلام) في بيان هذا الموقف قائلاً: «فأمسكت
يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام،
يدعون إلى محق دين محمد(صلى الله عليه وآله)،
فخشيت أن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه
ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من
فوت ولايتكم التي انما هي متاع أيام قلائل،
يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما
يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح
الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه»(26).

2 ـ العمل فوراً بوصية رسول الله(صلى
الله عليه وآله) في حفظ القرآن الكريم بجمعه
وتدوينه كما أنزله الله تعالى، فما برح
عاكفاً على ذلك حتى انتهى من جمع القرآن
الكريم وتدوينه في صحائف من الجلد.

ففي أخبار أبي رافع: «ان النبي قال في
مرضه الذي توفّي فيه لعلي: يا علي! هذا كتاب
الله خذه إليك، فجمعه عليّ في ثوب، فمضى إلى
منزله، فلمّا قبض النبي(صلى الله عليه وآله)
جلس عليّ فألّفه كما أنزله الله، وكان به
عالماً»(27).

وذكر أبو نعيم في الحلية والخطيب في
الاربعين بالاسناد عن السدي عن عبد خير عن علي(عليه
السلام)قال: «لمّا قبض رسول الله أقسمتُ ( أو
حلفت ) ألاّ أضع ردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين
اللّوحين، فما وضعت رداي حتّى جمعت القرآن »(28).

وفي أخبار أهل البيت(عليهم السلام) أن
علي(عليه السلام) آلى ألاّ يضع رداءه على
عاتقه إلاّ للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه.
فانقطع عنهم مدّة إلى أن جمعه، ثم خرج اليهم
به في ازار يحمله وهم مجتمعون في المسجد،
فأنكروا مصيره بعد انقطاع... فقالوا: الامر ما
جاء به أبو الحسن، فلمّا توسطهم وضع الكتاب
بينهم.

3 ـ قيامه بدور المرشد والمشير في
مسائل الحكم الاسلامي إبّان خلافة أبي بكر
وعمر وعثمان، وذلك تحقيقاً لمصلحة الاسلام
العليا في تقويم مسيرته ودفعاً للخطر
والتحريف عنه وعن أُمّته ما استطاع إلى ذلك
سبيلا. وقد استثمر(عليه السلام) حاجة الخلفاء
الثلاثة للمشورة في ملتبسات الاُمور.

ومن نماذج هذا الدور الرسالي الكبير
الذي اضطلع به اميرالمؤمنين(عليه السلام)التي
نقلتها لنا كتب السيرة والتاريخ ما يلي:

أ ـ عندما فكّر أبو بكر بغزو الروم
فاستشار جماعة من الصحابة فقدموا وأخّروا،
ولم يقطعوا برأي، فاستشار عليّاً(عليه السلام)
في الامر فقال: إن فعلتَ ظفرت. فقال أبو بكر:
بشرت بخير. وأمر أبو بكر الناس بالخروج بعد أن
أمّر عليهم خالد بن سعيد(29).

ب ـ وعندما أراد أبو بكر أن يقيم الحد
على شارب خمر. فقال الرجل: إني شربتها ولا علم
لي بتحريمها، فأرسل إلى الامام يسأله عن ذلك
فقال(عليه السلام): «مُر نقيبين من رجال
المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين
والانصار وينشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية
التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله(صلى الله
عليه وآله)، فان شهد بذلك رجلان منهم فأقم
الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك، فاستتبه
وخلِّ سبيله». وكان الرجل صادقاً في مقاله
فخلّى سبيله(30).

ج ـ وعندما قدم جاثليق النصارى يصحبه
مائة من قومه، فسأل أبا بكر اسئلة، فدعا
عليّاً(عليه السلام)فأجابه عنها، ونكتفي منها
نموذجاً بسؤال واحد من اسئلة الجاثليق:
أخبرني عن وجه الرب تبارك وتعالى.

فدعا علي(عليه السلام) بنار وحطب،
واضرمه، فلما اشتعلت قال: أين وجه هذه النار؟
قال الجاثليق: هي وجه من جميع حدودها، فقال
علي(عليه السلام): «هذه النار مدبرة مصنوعة ،
لا يعرف وجهها، وخالقها لا يشبهها، ولله
المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله لا
تخفى على ربنا خافية»(31).

د ـ وعندما أرسل ملك الروم رسولاً إلى
أبي بكر يسأله عن رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف
النار، ولا يخاف الله ولا يركع ولا يسجد،
ويأكل الميتة والدم، ويشهد بما لايرى، ويحب
الفتنة ويبغض الحق، فأخبر بذلك عليّاً(عليه
السلام) فقال: «هذا رجل من أولياء الله: لا
يرجو الجنة ولا يخاف النار، ولكن يخاف الله
ولا يخاف من ظلمه، وانما يخاف من عدله، ولا
يركع ولا يسجد في صلاة الجنازة، ويأكل الجراد
والسمك، ويأكل الكبد، ويحب المال والولد (إنما
أموالكم وأولادكم فتنة) ويشهد بالجنة والنار
وهو لم يرهما، ويكره الموت وهو حق»(32).

هـ ـ وحين أراد عمر بن الخطاب أن يغزو
الروم راجع الامام(عليه السلام) في الامر،
فنصحه الامام بأنْ لا يقود الجيش بنفسه
مبيناً علّة ذلك قائلاً:

«فابعث اليهم رجلاً محرباً واحفز معه
أهل البلاء والنصيحة، فان اظهره الله فذاك ما
تحب، وإن تكن الاخرى كنت ردءاً للناس، ومثابة
للمسلمين»(33).

و ـ وعندما ورد إلى بيت مال المسلمين
مال كثير ـ من البحرين ـ فقسمه عمر بين
المسلمين، ففضل منه شيء، فجمع عمر المهاجرين
والانصار واستفتاهم بأمره قائلاً : «ما
ترون في فضل، فضل عندنا من هذا المال ؟ قالوا:
يا اميرالمؤمنين انا شغلناك بولاية امورنا من
أهلك وتجارتك، وضيعتك، فهو لك. فالتفت عمر إلى
علي قائلاً: ما تقول أنت ؟ قال الامام(عليه
السلام): قد اشاروا عليك. قال الخليفة: فقل أنت.
قال(عليه السلام): لِمَ تجعل يقينك ظناً؟» ثم
حدثه بواقعة مشابهة في عهد رسول الله(صلى الله
عليه وآله). واخيراً اشار عليه الامام(عليه
السلام) توزيعه على الفقراء، قائلاً: «أشير
عليك ألاّ تأخذ من هذا الفضل وأن تفضّه على
فقراء المسلمين». فقال عمر: صدقت والله(34).

ز ـ وعن ابن عباس قال: سمعت عمر بن
الخطاب يقول: ان ترك هذا المال في جوف الكعبة
لاخذه وأقسمه في سبيل الله وفي سبيل الخير،
وعلي بن أبي طالب يسمع ما يقول، فقال عمر: ما
تقول يا ابن أبي طالب؟ بالله لئن شجعتني عليه
لافعلنّ. فقال علي: أتجعله فينا، وصاحبه رجل
يأتي في آخر الزمان(35).
فاقتنع عمر بضرورة عدم التصرف بحلي الكعبة.

ح ـ وورد أن عمر بن الخطاب رأى ليلةً
رجلاً وامرأة على فاحشة، فلما أصبح قال للناس:
أرأيتم ان إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة.
فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين ؟ قالوا:
انما أنت إمام.

فقال علي بن أبي طالب: «ليس ذلك لك، اذن
يقام عليك الحد، ان الله لم يأمن على هذا
الامر أقل من أربعة شهداء» ثم أن عمر ترك
الناس ما شاء الله، ثم سألهم: فقال القوم مثل
مقالتهم الاولى، وقال علي(عليه السلام) مثل
مقالته: فأخذ عمر بقول الامام(36).

ط ـ وبعد أن فتح المسلمون الشام جمع
أبو عبيدة بن الجراح المسلمين واستشارهم
بالمسير إلى بيت المقدس أو إلى قيسارية، فقال
له معاذ بن جبل: اكتب إلى اميرالمؤمنين عمر،
فحيث أمرك فامتثله، فكتب ابن الجراح إلى عمر
بالامر. فلما قرأ الكتاب، استشار المسلمين
بالامر.

فقال علي(عليه السلام): مر صاحبك ينزل
بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس، فاذا فتح
الله بيت المقدس، صرف وجهه إلى قيسارية،
فانها تفتح بعدها ان شاء الله تعالى، كذا
اخبرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله).

قال عمر: صدق المصطفى(صلى الله عليه
وآله)، وصدقت أنت يا أبا الحسن، ثم كتب إلى أبي
عبيدة بالذي أشار به علي(عليه السلام)(37).

ي ـ وبعد انتصار المسلمين على الفرس في
خلافة عمر، شاور ابن الخطاب اصحاب رسول الله(صلى
الله عليه وآله) في سواد الكوفة. فقال بعضهم:
تقسمها بيننا، ثم شاور عليّاً(عليه السلام) في
الامر، فقال(عليه السلام): ان قسّمتها اليوم
لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرها في
أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال
عمر لعلي: وفقك الله، هذا الرأي(38).

ك ـ وعن الطبري في تاريخه عن سعيد بن
المسيب: قال: جمع عمر بن الخطاب الناس فسألهم،
من أي يوم نكتب التاريخ؟

فقال علي(عليه السلام): من يوم هاجر
رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وترك أرض
الشرك، ففعله عمر(39).
وهكذا وجد التاريخ الهجري ليؤرخ به المسلمون.

هذه بعض ملامح دور الامام علي(عليه
السلام) الرسالي في خلافة عمر بن الخطاب.

ل ـ وعندما أُتي إلى عثمان بامرأة قد
ولدت لستة أشهر، فهمّ برجمها، فقال علي(عليه
السلام): «إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك ان الله
تعالى يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ثم
قال: (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين
لمن أراد أن يتم الرضاعة) ; فحولين مدة الرضاع،
وستة أشهر مدة الحمل». فقال عثمان: ردّوها ـ أي
لا ترجموها(40)
ـ .

ثالثاً: في مرحلة خلافته وحكومته
للمسلمين

تواصل نهج اميرالمؤمنين(عليه السلام)
في حفظ مصلحة الاسلام العليا بعد مقتل
الخليفة الثالث عثمان بن عفان وتوليه خلافة
المسلمين، ولم تزده المتغيرات الحادّة في
الوضع السياسي والفتن والحروب التي استعر
أُوارُها في زمن خلافته إلاّ ثباتاً ورسوخاً
في التزام هذا الاصل الاسلامي الذي عاهد الله
ورسوله على حفظه والدفاع عنه مهما كانت المحن
والفتن، ومن ابرز مصاديق هذا النهج النماذج
التالية:

أ ـ عندما اجمعت الامة على بيعة
اميرالمؤمنين(عليه السلام) خليفةً للمسلمين،
لم يندفع معهم في ذلك وقال لهم: «دعوني
والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه
وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه
العقول. وإن الافاق قد أغامت والمحجة قد
تنكَّرت... وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعليّ
اسمعكم واطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، وأنا
لكم وزيراً خيرٌ لكم مني أميراً»(41).
لانه رأى ان المصلحة الاسلامية العليا تقتضي
أن يجعل بيعة الامة له عن وعي كامل وارادة
حقيقية لا عن عاطفة وانسياق مع ردود الفعل
والجو الجمعي الذي تمثل بالنقمة على عثمان
وانتهى بقتله، والذي لا يلبث عادةً أن ينحسر
ويتراجع، خصوصاً وأنه(عليه السلام)لا يرى
لنفسه غير خلافة رسالية يقيم فيها الحق ويبطل
الباطل، ولقد قالها لابن عباس عندما دخل عليه
بذي قار وهو يخصف نعله: «ما قيمة هذا النعل؟
فقال له ابن عباس: لا قيمة لها! فقال(عليه
السلام): والله لهي أحَبّ إليّ من امرتكم،
إلاّ أن اُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً»(42).
وعند اصرار الاُمة على بيعته اعلن شرطه لقبول
الخلافة في قوله(عليه السلام): «واعلموا أني
ان اجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم اصغِ إلى قول
القائل وعتب العاتب»(43).

ب ـ كانت أُولى خطوات اميرالمؤمنين(عليه
السلام) على هذا النهج بعد توليه خلافة
المسلمين هي ترسيخ مبادئ التنزيل وبيان
تأويله وحفظ سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله)ما
استطاع إلى ذلك سبيلاً، فأعلن ابتداءً عن
المواصفات الاسلامية المطلوبة في ولاة
الامور والعمال في قوله(عليه السلام): «... أنه
لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء
والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل،
فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم
بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا
الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا
المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها
دون المقاطع، ولا المعطّل للسُّنة فيهلك
الاُمّة»(44).

وبذلك ثبّت امير المؤمنين(عليه السلام)
الاُسس الاسلامية الخالدة في بناء جهاز
الحكومة الاسلامية وفق شروط العلم والعدالة
والكفاءة، لتكون قانوناً رائداً وشرعةً
دائمة للمسلمين، بل لكل الانسانية التوّاقة
إلى اقامة العدل والقسط في الحياة. ولم يتوانَ
عن تطبيق هذه الاسس في تعيين ولاته وعمّاله،
فعمد إلى عزل من لا تتوفر فيهم هذه الشروط
وإحلال من يتّصف بها محلّهم، ولم تثنه عن عزمه
هذا كل محاولات الضغط والصد ; وقد كان من
ابرزها ما روي عن ابن عباس أنه قال: «أتيتُ
عليّاً بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدتُ
المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده،
فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرته
هذه: ان لك حقّ الطاعة والنصيحة، وأنت بقية
الناس، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وان
الضياع اليوم يضيع به ما في غد، اقرر معاوية
وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك
بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيتُ
عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني ولا اعطي
الدنيّة في أمري. قال: فان كنت أبيت عليّ فانزع
من شئت واترك معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو
في أهل الشام يُستمع منه، ولك حجة في اثباته،
فقلت: لا والله لا استعمل معاوية يومين! ثم
انصرف من عندي وأنا اعرف فيه أنه يودّ أني
مخطئ، ثمّ عاد إليّ الان فقال: اني اشرت عليك
أول مرة بالذي اشرتُ وخالفتني فيه، ثم رأيت
بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين
بمن تثق به، فقد كفى اللّهُ وهم أهون شوكة مما
كان...

قال ابن عباس: فقلت لعليّ: يا
اميرالمؤمنين أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في
الحرب، أما سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)
يقول: الحرب خدعة؟ فقال: بلى. فقلت: أما والله
لئن اطعتني لاصدرنهم بعد ورد، ولاتركنهم
ينظرون في دبر الامور لا يعرفون ما كان وجهها
في غير نقصان عليك ولا إثم لك، فقال: يا ابن
عباس لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء.
قال ابن عباس: فقلت له: اطعني والحق بما لك
بينبع واغلق بابك عليك، فان العرب تجول جولة
وتضطرب ولا تجد غيرك، فانك والله لئن نهضت مع
هؤلاء اليوم ليحمِّلنك الناس دم عثمان غداً.
فأبى علي فقال: تشير عليَّ وأرى، فإذا عصيتك
فأطعني. قال: فقلت: افعل، ان أيسر ما لك عندي
الطاعة. فقال له عليّ: تسير إلى الشام فقد
وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية
رجل من بني اميّة... ولست آمن أن يضرب عنقي
بعثمان، وان ادنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم
عليّ لقرابتي منك، وإن كل ما حُمل عليك حمل
عليَّ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده،
فقال: لا والله، لا كان هذا أبداً!»(45).

ج ـ وهكذا كانت مصلحة الاسلام العليا
هي المعيار الحاسم في ادارته لبيت مال
المسلمين وتحقيق العدل والمساواة في العطاء
ومراقبة ولاته وعمّاله وتوجيههم في طريقة
ادائهم لوظائفهم الرسالية المناطة بهم، ولم
تأخذه في الله لومة لائم وهو يحق الحق ويدفع
الباطل في ذلك.

ومن أول وابرز خطواته لحفظ مصلحة
الاسلام العليا في بيت مال المسلمين هو اعادة
حق الله وحقوق المسلمين التي كانت قد اُخذت
جوراً أو اغتُصبت ظلماً إلى بيت المال. وقد
حاول المتضررون بذلك أن يثنوا اميرالمؤمنين(عليه
السلام) عن خطواته هذه فأرسلوا اليه الوليد بن
عقبة بن أبي معيط مندوباً عنهم للتفاوض معه(عليه
السلام)، فجاء اليه وقال: «يا أبا الحسن انك قد
وترتنا جميعاً،... ونحن اخوتك ونظراؤك من بني
عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا
ما اصبناه من المال،... وانا ان خفناك تركناك
فالتحقنا بالشام.

فردّ عليهم: أما ما ذكرتم من وتري
اياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما
اصبتم، فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن
غيركم»(46).

وعندما بادر اميرالمؤمنين(عليه
السلام) إلى رد ما اقتُطع على المسلمين قطع
القوم املهم في ابقاء ما كان بحوزتهم من أموال
المسلمين خصوصاً عندما أعلن الامام(عليه
السلام) قراره الشهير الذي قال فيه: «والله لو
وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الاماء،
لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه
العدل، فالجور عليه اضيق»(47).

ومن النماذج الرائعة في تحقيق العدل
والمساواة في العطاء ما رواه ابراهيم الثقفي
قائلاً: «انّ طائفة من اصحاب علي(عليه السلام)
مشوا اليه فقالوا: يا اميرالمؤمنين ! اعط هذه
الاموال، وفضل هؤلاء الاشراف من العرب وقريش
على الموالي والعجم ومن تخاف خلافه من الناس
وفراره.

فقال: أتأمروني أن اطلب النصر بالجور ؟
والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء
نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم،
فكيف وانّما هي أموالهم.»(48).

وقال أيضاً: «إن أمرأتين أتتا عليّاً(عليه
السلام) عند القسمة ; احداهما من العرب
والاخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة
وعشرين درهماً وكرّاً من الطعام، فقالت
العربية: يا اميرالمؤمنين، اني امرأة من
العرب، وهذه امرأة من العجم! فقال علي(عليه
السلام): إني والله لا أجد لبني اسماعيل في هذا
الفيء فضلاً على بني اسحاق»(49).

ولم يستثن(عليه السلام) في العدل أحداً
حتى من كان ذا فاقة من أهل بيته، فقد روى مسلم
صاحب الحنا قائلاً: «لما فرغ علي(عليه السلام)
من أهل الجمل أتى الكوفة، ودخل بيت المال، ثم
قال: يا مال غرَّ غيري. ثم قسّمه بيننا، ثم
جاءت ابنة للحسن أو للحسين(عليهما السلام)
فتناولت منه شيئاً، فسعى وراءها ففك يدها
ونزعه منها، فقلنا: يا اميرالمؤمنين ان لها
فيه حقاً، قال(عليه السلام): إذا أخذ أبوها حقه
فليعطها ما شاء»(50).

وروى هارون بن سعيد انّ عبد الله بن
جعفر بن ابي طالب قد قال له: يا اميرالمؤمنين،
لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فو الله ما لي نفقة
إلاّ أن أبيع دابّتي !! فقال الامام(عليه
السلام): «لا والله ما اجد لك شيئاً إلاّ أن
تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك»(51).

وروي أيضاً أن أخاه عقيلاً ـ وكان
ضريراً ـ جاءه يوماً يطلب صاعاً من القمح من
بيت مال المسلمين ـ زيادة على حقّه ـ وظل يكرر
طلبه على علي(عليه السلام)، فما كان من الامام
اميرالمؤمنين إلاّ وأحمى له حديدة على النار
وأدناها منه، ففزع منها عقيل، ثم وعظه: «يا
عقيل أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه،
وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه؟ أتئن
من الاذى ولا أئن من لظى»(52).

أما النماذج الفريدة في مراقبة ولاته
وعمّاله وقادة جيوشه وردعهم عن الباطل
وارشادهم وتوجيههم نحو الحق والعدل والصواب ;
فمنها ما روي أنه(عليه السلام) بلغه أن عثمان
بن حنيف واليه على البصرة كان قد دُعي إلى
وليمة قوم من أهلها فمضى اليها، فأرسل اليه
اميرالمؤمنين كتاباً تأديبياً جاء فيه: «أما
بعد، يا ابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية
أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها
تستطاب لك الالوان، وتنقل اليك الجفان. وما
ظننت انك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفوّ،
وغنيهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا
المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما
ايقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإن لكل مأموم اماماً، يقتدي به
ويستضيء بنور علمه، ألا وان امامكم قد اكتفى
من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وانكم
لا تقدرون على ذلك، ولكن اعينوني بورع
واجتهاد، وعفّة وسداد»(53).

وكتب إلى مصقلة الشيباني عامله على «اردشير
خرّة» مهدداً ومتوعداً ان هو اختار الباطل
على الحق قائلاً: «بلغني عنك أمر ان كنت فعلته
فقد أسخطت إلهك، وعصيت امامك: انك تقسم فَيْءَ
المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم،
واُريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من اعراب
قومك. فو الذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لئن
كان ذلك حقاً لتجدن لك عليّ هواناً، ولتخفّنّ
عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح
دنياك بمحق دينك، فتكون من الاخسرين اعمالاً»(54).

وكتب إلى بعض عماله يحاسبه قائلاً: «أما
بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد
اسخطت ربك، وعصيت امامك، واخزيت امانتك.
بلغني انك جرَّدت الارض فأخذت ما تحت قدميك،
وأكلت ما تحت يديك، فارفع اليّ حسابك، واعلم
انّ حساب الله أعظم من حساب الناس»(55).

وفي بعض وصاياه(عليه السلام) لجيوشه
قال: «لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم ـ بحمد
الله ـ على حجة، وترككم إيّاهم حتى يبدأوكم
حجة أخرى لكم عليهم. فاذا كانت الهزيمة باذن
الله، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً(*)(56
ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء
بأذى، وإن شتمن اعراضكم، وسببن امراءكم»(57).

وكتب إلى امرائه على الجيش قائلاً: «مِنْ
عبدِ الله عليّ بن ابي طالب امير المؤمنين إلى
اصحاب المسالح: أما بعد، فإنّ حقّاً على
الوالي ألاّ يغيّره على رعيته فضلٌ ناله، ولا
طول خُصّ به، وأن يزيدهُ ما قسم الله له من
نعمة دنوّاً من عباده، وعطفاً على اخوانه.

ألا وإنّ لكم عندي ألاّ احتجز دونكم
سرّاً إلاّ في حرب، ولا أطوي دونكم امراً إلاّ
في حكم، ولا اُؤخر لكم حقّاً عن محلّه، ولا
اقف به دون مقطعه، وان تكونوا عندي في الحق
سواءً، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة،
ولي عليكم الطاعة، وألاّ تنكصوا عن دعوة، ولا
تفرِّطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات إلى
الحق، فان أنتم لم تستقيموا لي على ذلك لم يكن
أحدٌ أهون عليّ ممّن اعوجّ منكم، ثم أُعظم له
العقوبة، ولا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا
من امرائكم، واعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله
به أمركم. والسلام»(58).

وهكذا امتلات سيرة اميرالمؤمنين(عليه
السلام) بمثل هذه المواقف الرائدة التي تحكي
لنا اتخاذه مصلحة الاسلام العليا فيصلاً في
خلافته وشؤونه الرسالية.



(1)
آل عمران: 110.

(2)
الانفال : 30 .

(3)
يس: 9.

(4)
تفسير سورة الانفال آية 30 يراجع الميزان
للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي 9: 80
البحث الروائي.

(5)
البقرة : 207.

(6)
راجع: شواهد التنزيل للحسكاني 1: 96.

(7)
آل عمران: 191 و 195 .


(8) اعيان الشيعة 1: 237 ـ 238، طبعة دار
التعارف، الطبعة الخامسة، بيروت.

(9)
البلاذري، انسـاب الاشراف 2: 91 و 94. مستـدرك
الصـحيحين 3: 111، ابن سعـد في الطبقات 3: 15.

(10)
الواقدي، المغازي 1: 152.

(11)
تاريخ الطبري 3: 17. احمد بن حنبل في الفضائل.
ابن هشام، السيرة النبوية 3: 134. محمد حسن
المظفر، دلائل الصدق 2: 357. السيد الصدر، حياة
امير المؤمنين: 236 وما بعدها، المفيد، الارشاد:
52.

(12)
الاحزاب: 10.

(13)
دحلان، السيرة النبوية 2: 111، غزوة الخندق.

(14)
دحلان، السيرة النبوية 2: 112. الحاكم، مستدرك
الصحيحين 3: 34.

(15)
الحاكم، مستدرك الصحيحين 3: 32 عن سفيان الثوري
ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 3: 19.

(16)
المفيد، الارشاد: 58. دحلان، السيرة النبوية 2:
112.

(17)
البلاذري، انساب الاشراف 2: 93 و 94 عن ابي هريرة
وابن عباس بلفظ متشابه. النسائي، خصائص علي بن
ابي طالب: 9 وما بعدها وفي الاصابة والاستيعاب
وحلية الاولياء ومسلم في صحيحه بالفاظ
متقاربة.

(18)
محسن الامين، سيرة الرسول 1 : 279 نقلاً عن
السيرة الحلبية وابن قتيبة في المعارف.
وتفسيرالميزان للطباطبائي 10، تفسير آية 25 من
التوبة والبحث الروائي. المفيد، الارشاد : 74.

(19)
للاستزادة يراجع كتاب الامام علي لعبد الفتاح
عبد المقصود. واعيان الشيعة لمحسن الامين 1: 79
بألفاظ متشابهة. والارشاد للمفيد. سيرة ابن
هشام. والفصول المهمة لابن الصباع المالكي: 44
بالفاظ متشابهة.

(20)
راجع انساب الاشراف للبلاذري 2: 92. مستدرك
الصحيحين 3: 111. ابن سعد في طبقاته 3: 10. ابن حجر
في تهذيب التهذيب 3: 475. ابن الصباغ المالكي في
الفصول المهمة: 39. للمزيد راجع الفضائل الخمسة
من الصحاح الستة 2: 309.

(21)
الارشاد للشيخ المفيد: 81 ـ 84 .

(22)
اخرجه النسائي، سنن النسائي 4: 93، وابو داود،
وابن ماجة.

(23)
تاريخ ابن كثير 5: 271. تاريخ ابي الفداء 1: 152،
وراجع الغدير للاميني 7: 75.

(24)
السيد شرف الدين، المراجعات: 302.

(25)
المظفر، السقيفة: 160، ط. 4، بيروت ، 1973.

(26)
من كتاب له إلى أهل مصر مع مالك الاشتر حين
ولاّه امارتها. راجع نهج البلاغة.

(27)
المناقب لابن شهرآشوب 2: 41، البحار للمجلسي 89 :
51 ـ 52.

(28)
المناقب لابن شهرآشوب 2: 41، البحار للمجلسي 89 :
52.

(29)
تاريخ اليعقوبي 2: 111.

(30)
ابن شهرآشوب، مناقب آل ابي طالب 2: 356.

(31)
علي والخلفاء: 60، التستري، قضاء امير
المؤمنين، ط. مؤسسة الاعلمي (بيروت): 86 .

(32)
ابن شهرآشوب، مناقب آل ابي طالب 2: 358.

(33)
راجع نهج البلاغة، الخطبة 134، احفز: أمر من
الحفز، وهو الدفع والسوق الشديد.

(34)
نجم الدين العسكري، علي والخلفاء: 83 . احمد بن
حنبل في مسنده 1: 94. كنز العمال 4: 39 وغيرهم.

(35)
المتقي الهندي، كنز العمال 7: 147. صحيح البخاري
19: 727. نجم الدين العسكري، علي والخلفاء: 87 .

(36)
المتقي الهندي، كنز العمال 3: 96. الفتوحات
الاسلامية 2: 482، راجع علي والخلفاء: 98.

(37)
نجم الدين العسكري، علي والخلفاء: 133.

(38)
علي والخلفاء: 239.

(39)
تاريخ الطبري 2: 253 وفي تاريخ اليعقوبي مثله.
وكنز العمال ومستدرك الحاكم، والكامل في
التاريخ لابن الاثير. راجع علي والخلفاء: 240.

(40)
ابن شهرآشوب، مناقب آل ابي طالب 2: 371. ابن كثير
في تفسيره 4: 57. البيهقي في سننه 7: 442.

(41)
نهج البلاغة: نص رقم 92.

(42)
نهج البلاغة: من الخطبة 33.

(43)
نهج البلاغة: نص رقم 92.

(44)
نهج البلاغة: نص رقم 131.

(45)
الكامل في التاريخ لابن الاثير 3: 197 ـ 198.

(46)
ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 7: 38 ـ 39.

(47)
نهج البلاغة، نص رقم 15.

(48)
الثقفي (المتوفى عام 283 هـ)، كتاب الغارات 1: 75.

(49)
الثقفي، الغارات 1: 70.

(50)
البلاذري، انساب الاشراف 2: 132.

(51)
ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 2: 200.

(52)
نهج البلاغة، الخطبة 224.

(53)
نهج البلاغة، رسالة رقم 45.

(54)
نهج البلاغة، رسالة رقم 43.

(55)
نهج البلاغة، رسالة رقم 40.

(*)
المعور: الذي عجز عن حماية نفسه اثناء الحرب.

(57)
نهج البلاغة، الوصية رقم 14.

(58)
نهج البلاغة، كتاب رقم 50.

/ 1