استطلاع
أتباع آل البيت (ع) في قرقيزيا
* محمد بخت آورترجمة: عباس الاسديالشيء الذي يذكر به أتباع آل البيت(عليهم
السلام) في قرقيزيا، هو حالة النفي التي
تعرضوا لها قبل عدة عقود من موطنهم الاصلي إلى
بلاد بعيدة غريبة. إنهم الاذريون الذين انصب
عليهم غضب ستالين قبل ستين عاماً، وأُرغموا
على الاستيطان في قرقيزيا بعد طيّ مسافات
طويلة وطرق عسيرة.
وتفيد المعلومات المأخوذة عن
إحصائيات مضت عليها اربع سنوات، أن عدد هؤلاء
الاذريين يبلغ سبعة عشر ألف نسمة، وبطبيعة
الحال فإن الرقم المذكور لا يكشف عن العدد
الدقيق; لان هناك قوميات أخرى انخرطت في
القومية الاذرية لمصالح كانت تنشدها.
معظم الاذريين ينتمون إلى مذهب أهل
البيت(عليهم السلام)، ولهم نفوذ ومكانة خاصة
في جمهورية قرقيزيا لاسيما في الجانب
الاجتماعي، ويتبوأون منزلة مميزة عند
المسؤولين، مثال ذلك أن أحدهم يشغل منصب رئيس
تحرير صحيفة واسعة الانتشار في قرقيزيا تسمى
«فيجوني بيشكك عصر بيشكك» وهو صحفي ماهر
وبارع.
يعيش الشيعة منتشرين في قرقيزيا،
ويقال إن نحو ألفين منهم يسكنون العاصمة
بيشكك في محلات متباعدة عن بعضها، كما يقطن في
مدينة «كانت» التي تبعد نحو 20 كيلومتراً عن
العاصمة مجموعة منهم.
ويمكن تقسيم الشيعة الاذريين في بيشكك
إلى مجموعتين:
الاولى، وهي التي قدمت إلى العاصمة من
منطقة «چو» التي تبعد 120 كيلومتراً عن بيشكك
وتقع في كازاخستان، حيث أُبعدت هذه المجموعة
في أول الامر إلى «چو» سنة 1937م من جمهورية
أذربيجان، وكانت تمارس شعائرها الدينية حتى
في العهد الشيوعي، وتقيم مجالس العزاء على
الامام الحسين(عليه السلام)، ويلاحظ الطابع
الديني على هذه المجموعة بوضوح حتى في عصرنا
الحاضر، وقد هاجرت هذه المجموعة قبل نحو 30
عاماً من «چو» إلى بيشكك هجرة طوعية فردية.
أما المجموعة الثانية فهي التي سكنت
مدينة كانْت(1)،
حيث لاقت هذه المجموعة مصيراً آخر ملؤه المحن
والالام والمآسي; فلقد اعتقلت هذه المجموعة
في احدى ليالي عام 1933م حينما امتنعت عن العمل
في المزارع الاشتراكية (كالخوز)، وتم نفيها
إلى منطقة سيبيريا، حيث لاقت ما لاقت من صنوف
الاذى وهي في طريقها إلى هذه المنطقة الثلجية
وأُرغمت على الاقامة فيها، إذ يروي الشيوخ
منهم ذكريات مريرة جداً عن تلك البرهة
الزمنية من حياتهم.
ويقال إن هذه المجموعة المؤلفة من
عشرة آلاف نسمة نقلت إلى سيبيريا بعربات خاصة
لنقل الحيوانات، وما إن وصلت حتى داهمها فصل
شتاء بارد جداً بحيث توفي سبعة آلاف منهم من
شدة البرد، ولم يتسنَّ للاحياء منهم دفن
موتاهم لكثرة عددهم ولبرودة الجو، إذ وصل
مستوى الثلوج المتراكة في شتاء ذلك العام إلى
متر واحد فوق الارض، وتم دفنهم حينما رحل
الشتاء وحل فصل الربيع.
بعد مضي هذه المحنة الاليمة لم يبق من
الشيعة الاذريين المنفيين سوى ثلاثة آلاف
نسمة، قامت السلطات الحاكمة في السنة التالية
بنقلهم إلى «بيشكك» وإسكانهم في منطقة «كانْت».
والملاحظ أن هذه المجموعة من الشيعة
حافظت على معتقداتها في ارض المنفى، ومنذ
اليوم الاول الذي وطئت فيه هذه الارض أقامت
شعائرها الدينية خفية، فكانت تقيم ـ على سبيل
المثال ـ مراسم عزاء سيد الشهداء(عليه السلام)
كل سنة بسرّية تامة وفي ظل ظروف شديدة. ومن
ناحية ثانية كانت هذه المجموعة تتألف من
شخصيات أذربيجان بحيث سرعان ما اكتسبت
مكانتها الاجتماعية ثانية. وبطبيعة الحال فإن
العيش في منطقة بعيدة عن الوطن الام يولد
نوعاً من الشعور الذي يحث على العمل وبذل
الجهد المضاعف لاستعادة المزايا الضائعة،
فكان الاباء يحثون ابناءهم على الدراسة وتلقي
العلم لارتقاء مدارج الثقافة والمعرفة،
ولهذا السبب فإنه لم تمر فترة من الزمن حتى
حصلت المجموعة على مكانة اقتصادية واجتماعية
لا بأس بها.
وفي خطوة أخرى أقدمت هذه المجموعة على
تهيئة مكان خاص لعقد اجتماعاتها الدينية، ففي
سنة 1946م من العهد الستاليني المظلم استغلت
المجموعة فرصة ما بعد الحرب العالمية
الثانية، وقامت ببناء مسجد لازال قائماً حتى
يومنا هذا، وقد بني هذا المسجد في البدء تحت
مسمىً آخر خشية معارضة الدولة، إلاّ أنه جُعل
وقفاً للشؤون الدينية، وكانت تقام فيه سنوياً
على مدى خمسين عاماً مراسم العزاء على الامام
الشهيد الحسين بن علي(عليهما السلام)، سراً.
وثمة مسجد آخر شُيد في منطقة «كانْت»
حديثاً لم يستكمل بناءه بعد; بسبب قلة
الامكانيات رغم أن الجمهورية الاسلامية
الايرانية وعبر سفارتها في بيشكك قدمت
مابوسعها لبناء هذا المسجد.
ويلاحظ في صفوف هذه المجموعة من
الشيعة ظمأ شديد للمعارف الاسلامية، وحاجة
ماسة لعلماء الدين والمرشدين; ولهذا تراهم
يستدعون العلماء عند مراسم الختان أو قراءة
القرآن من مدينة «چو» وهي منطقة شيعية في
كازاخستان.
هذا الغياب العلمائي في تلك المنطقة
أدى إلى انتشار الجهل بمعارف وأحكام الدين
الاسلامي في ضوء مذهب أهل البيت(عليهم السلام)
في صفوفها، وتلاحظ هذه الظاهرة أيضاً بين
أتباع أهل البيت(عليهم السلام) القاطنين في
مدينة بيشكك نفسها، مع فارق واحد هو أن التزام
القرويين بأحكام الدين اكثر من سكان المدينة،
كما أن الشيعة من سكان العاصمة لا تجمعهم
تشكيلات دينية كما هو في شيعة كانْت، ومن ثم
فإن شيعة بيشكك يعيشون في مناطق متفرقة لا
يعرف بعضهم بعضاً، ولكن انطلقت بارقة امل
مؤخراً للم شمل هذه المجموعة من خلال إقامة
مراسم العزاء في شهر محرم الحرام على سيد
الشهداء(عليه السلام) كل عام، وقد تقرر
إقامتها في منزل أحد الشيعة في قرية «ألارچا»
على مسافة سبعة كيلومترات من بيشكك; لعدم وجود
مركز في العاصمة لمثل هذه الاجتماعات.
ويمكن من خلال نظرة عابرة لهذه
المراسم التي أُقيمت هذا العام عاماً ثانياً،
ملاحظة الرغبة الشديدة لدى هؤلاء الشيعة
للارتواء من المعارف الاسلامية; فقد شارك نحو
مئة شخص رجالاً ونساءً في مجلس عزاء الامام
الحسين(عليه السلام)، وهم يلطمون الصدور على
صدى اشعار مكتوبة باللغة الروسية كان يتلوها
أحدهم تلاوة غير متقنة.
أُقيمت هذه المراسم طوال العشرة
الاولى من شهر محرم، وكان يتولّى الاطعام
فيها كل ليلة احد المشاركين فيها. وقد كان
للنساء حضور فعال، حيث كنّ يرتدين الحجاب
احتراماً للمناسبة ويجلسن في غرفة منفصلة عن
الرجال. ومن المعتقد أن مثل هذا التحرك الذاتي
يمكن أن يوفر الارضية المناسبة لتنمية الميول
الدينية عند هؤلاء الاشخاص الذين تتوفر فيهم
الفطرة السليمة وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى
الدعم والمساندة.
واللافت للنظر في مراسم عزاء الامام
الحسين(عليه السلام) هو حضور الاذريين من أهل
السنة واشتراكهم في هذه المراسم في بيشكك وفي
كانْت على حد سواء، حيث تربط بين الاذريين
ولاسيما في بلاد الغربة ألفة ومودة خاصة
ويتبادلون مشاعر الود والاحترام، وهذه مسألة
حساسة يجب أن تؤخذ في الاعتبار.
والجدير بالذكر أن المسلمين الاذريين
يراودهم شعور بالغربة مع القوميات الاخرى،
ولاسيما الروس، حيث يعتبرون الارتباط الاسري
معهم ـ على سبيل المثال ـ ارتباطاً
شائناً، ولا يتزاوجون إلاّ فيما بينهم، الامر
الذي ترك تأثيره الكبير في حفظ تراثهم
وثقافتهم وتقاليدهم.
واخيراً لابد من القول إنه يجب القيام
بسلسلة من النشاطات التي تنمّي في هذه
المجموعة ارتباطها الديني، ومن جملة تلك
النشاطات ارسال المبلغين المحنكين للعمل من
أجل تقوية الركائز الدينية; وتعتبر مراسم
العزاء على الامام الحسين(عليه السلام) ارضية
مناسبة جداً لتحقيق هذا الهدف المقدس.
كما أن من الضروري إقامة دورات تربوية
وتعليمية تتناول التاريخ الاسلامي والعقائد
والاحكام على المستوى الابتدائي، ويعتبر
توزيع الكتب الدينية باللغة التركية الاذرية
وبالحروف الروسية ذا اهمية كبرى.
والعمل على التحاق مجموعة الشباب
المتميزين بالحوزات العلمية لتلقي الدروس
التخصصية في العلوم الاسلامية وملء الفراغ
العلمي والتبليغي مستقبلاً في بلدانهم.
(1)
اللفظ مأخوذ من لفظ قند لكثرة انتاج السكر في
هذه المنطقة.