دراسات
التطور السياسي للمرجعية الاسلامية
خـط العلماء والاسس الجديدة
( 2 )* عبد الكريم آل نجف
( العراق )
خصائص خط العلماء:
تميزت المرجعية في عملها السياسيوالاجتماعي والفكري بجملة خصائص نوعية
فريدة لا نجدها في أي خط اسلامي آخر، وهي:
1 ـ الخط الحاشد بالجماهير:
لقد كان الحضور الجماهيري في هذا الخطمنقطع النظير في عالم السياسة الحديثة، ففي
ثورة التنباك التزم الشعب الايراني برمته
بفتوى المرجعية بحرمة التنباك، وحطم آلات
استعماله حتى التي كانت في قصر الشاه.
وفي الثورة الدستورية كان وصول بيان
من المرجعية في النجف الاشرف إلى ايران
كافياً لاحداث تظاهرات عارمة في مختلف المدن
الايرانية.
وفي فترة الجهاد ضد الاحتلال الاجنبي
استطاعت المرجعية أن تجند العشائر العراقية
ليس ضد الاحتلال الانجليزي للعراق فحسب، بل
ضد الاحتلال الروسي لاذربيجان أيضاً، رغم
المسافة الجغرافية والقومية الفاصلة بين
العراق واذربيجان، ورغم صعوبة المواصلات
آنذاك.
وهكذا الامر في ثورة العشرين، وقد
اغنتنا الثورة الاسلامية بقيادة الامام
الخميني عن سرد الشواهد التاريخية في هذا
المجال ; حيث كانت الكلمة التي يطلقها الامام
وهو في منفاه تتحول بسرعة خاطفة إلى غليان
جماهيري مليوني في المدن الايرانية كافة،
ورغم الظروف الصعبة التي مرت بها الثورة
الاسلامية لم تنخفض الحالة الجماهيرية في
ايران، بل إنها خلافاً لما يتصوره البعض
ترسخت اكثر ; فالقائد الذي استقبله ثمانية
ملايين مواطن شيّعه بعد عشرة اعوام إلى مثواه
الاخير ثلاثة عشر مليون مواطن.
وبحكم الطبيعة البشرية التي تقترن
فيها السلبيات بالايجابيات دائماً، انعكست
هذه الظاهرة الايجابية انعكاساً سلبياً على
بعض اعمال المرجعية، وأهم ذلك أمران:
أ ـ انعدام النظام في الجوانب
الدراسية والاقتصادية والوظيفية الرسالية،
بل ظهور ذلك في بعض الاوساط منهجاً متبنى،
فعندما يطرح المجددون فكرة النظام والتنظيم
يدافع المحافظون عن الواقع القائم ; خوفاً من
الجديد ذي المستقبل غير المضمون، وتقديساً
لطريقة السلف التي بدت في نظرهم وكأنها مقدسة
فعلاً، فطرحوا فكرة مضادة تقول: «إن نظمنا في
اللا نظام»، وهي الفكرة التي يحتمل الامام
الخميني(قدس سره) أن يكون الاجانب قد اوحوا
بها في الحوزة العلمية بشكل أو بآخر.
ب ـ حكومة العوام، فنتيجة للعلاقة
الصميمية التي تربط الجماهير بالمرجعية تضخم
دور الجماهير واصبح أثره سلبياً في بعض
الاحيان، وهو ما يعبر آية اللّه الشهيد الشيخ
مرتضى المطهري عنه بـ (حكومة العوام)، حيث غدت
هذه الحكومة قوة يحسب لها المرجع الديني
حسابات دقيقة، قبل أن يقدم على أي خطوة في
الميدان الاجتماعي والسياسي والفكري، وفي
كثير من الحالات جعلت بعض المراجع يحجم عن
الاصلاح والتغيير الذي يصطدم وعواطف
الجماهير واحاسيسها. وسيأتي تفصيل ذلك.
2 ـ خط الاصالة:
تميز خط العلماء أيضاً بأعلى درجاتالاصالة والنقاء ; لانه يتلقى فهمه للاسلام من
خلال الكتاب والسنة تلقياً مباشراً،
ويجعلهما القاعدة في نسج تصوراته ومفاهيمه عن
الكون والحياة والانسان ; فهو يبدأ من الكتاب
والسنة وينتهي بالحياة الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية، خلافاً للنهج الاخر الذي يبدأ
بالحياة ويجعل معطيات الحاضر اساساً في فهمه
للكتاب والسنّة، وكأن الاسلام يستمد
مصداقيته وشرعيته من الحاضر لا العكس.
وبفضل هذه الصفة استطاع خط العلماء
الاعلام استخلاص الاسلام المحمدي الاصيل من
تيارات الضلال والانحراف، والمحافظة عليه
رغم كل المشاق والتحديات الصعبة ; غير أن
تياراً في هذا الخط ـ وبحكم الطبيعة البشرية ـ
تطرف في فهم الاصالة وتشدد فيها، فترجمها إلى
ايمان محافظ يرفض مواكبة التطورات ويحجم عن
استيعاب المتغيرات ; خوفاً من تحول هذه وتلك
إلى عناصر مخلة بالاصالة، ودخولها في الاسلام
أجزاءً اضافية فيه; وهو اتجاه ينشأ في اسبابه
البعيدة من العجز الفكري عن الجمع بين
الضرورتين الاصالة والمعاصرة، فيجد اصحابه
انفسهم مخيرين بين احدهما فيكون الاقتصار على
الاصالة خيارهم الوحيد والطبيعي.
واضافة إلى السلبيات التي واجهتها
حركة الاصلاح في المجتمع الاسلامي من هذا
الاتجاه، نجد أنه جاء مخالفاً لجملة من
اساسيات الفكر الاسلامي، ومنها الفكرتان
التاليتان:
أ ـ الاجتهاد الذي يعني بكل وضوح
استيعاب المتغيرات ومعالجتها على أساس
الاصالة، أو صبّ الاصالة في أشكال متجددة
باستمرار. ومن الغريب حقاً ظهور اتجاه محافظ
في المدرسة الامامية التي تتميز بتبنيها
الراسخ للاجتهاد.
ب ـ التجديد، فقد ورد عن النبي(صلى
الله عليه وآله) قوله: « إن اللّه يبعث لهذه
الامة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»(1)، وعند تحليلنا
لقوله(صلى الله عليه وآله): « من يجدد لها
دينها » نجد أن التجديد الديني في رسالة خاتمة
لا يمكن نسخها يعني أمرين لا ثالث لهما:
1 ـ تجديد الروح الدينية في المجتمع
الاسلامي بحيث يبدو وكأنه في تجدد، فإن الدين
يطلق تارة على الحقيقة الالهية التجريدية
المطلقة وهي بنفسها غير قابلة للتجديد، ويطلق
أخرى على الحقيقة الروحية والفكرية القائمة
في المجتمع، فيقال دين الرجل أو دين المجتمع
ويقصد درجة الالتزام وروحية الاعتقاد بالدين;
وهذه الحقيقة تحتاج إلى التجديد لانها في
معرض الكثير من السلبيات والمتغيرات، وعلى
هذا الاحتمال يكون التجديد الديني المقصود هو
التجديد الاجتماعي والسياسي، أي ضخ روحية
دينية متجددة في المجتمع تأخذ بنظر الاعتبار
المتغيرات الاجتماعية الجديدة.
2 ـ التجديد الفكري، فإن الفكرة
الدينية قبل اختلاطها بحياة الانسان تكون
مطلقة، وعندما تمتزج بالحياة الانسانية تصبح
تحت تأثيرها سلباً وإيجاباً، وبعد فترة من
الزمن تتراكم التأثيرات عليها حتى تبدو غريبة
عن الدين، فتظهر الحاجة إلى اعادة البناء
والتأصيل الديني.
ولا مانع من الاخذ بكلا التفسيرين
للحديث النبوي، التفسير الاجتماعي والتفسير
الفكري، فالدين ـ بوصفه حقيقة اجتماعية
وفكرية، لا بما هو حقيقة مطلقة ـ يحتاج إلى
تجديد مستمر لضمان ضرورتين وإشباع حاجتين:
أ ـ ضرورة وحاجة المعاصرة المعبر عنها
بمواكبة المتغيرات واستيعابها; لكي يكون
تواصل الدين مع الحياة مستمراً ولا يتحول إلى
انطواء على الذات ودائرة مغلقة على نفسها.
ب ـ ضرورة وحاجة المحافظة على الاصالة
لكونها قاعدة في البناء الفكري والاجتماعي
للانسان المسلم، فيكون للفكر ـ وكذا المجتمع
ـ الديني دورات تجديدية متواصلة.
ولنلاحظ أن النبي الاعظم(صلى الله
عليه وآله) حدد عمر كل دورة من هذه الدورات
بمئة سنة، أي بثلاثة أجيال أو أربعة، فلا يصح
للمجتمع الجمود على دورة أكثر من ذلك; لان ذلك
مضر بالضرورتين معاً (الاصالة والمعاصرة)،
خلافاً لما يتصوره الخط المحافظ من أن إبقاء
الواقع كما هو يعطي ضماناً للاصالة، وأن
العصرية تثير احتمالات ضعفها والخطر عليها;
ذلك أن الواقع لم يتشكل من الحقيقة الدينية
المطلقة فقط حتى يكون مقياساً للاصالة، وأنما
تشكل من الوعي الانساني لهذه الحقيقة، وهذا
الوعي بنفسه ليس حقيقة مطلقة، فصحيح أنه وعي
مشروع ويحمل سمة الشّرع لانه بُني على اسسه
ومقاييسه، لكنه بُني في ضوء مرحلة معينة، ومن
ثم فهو لا يملك مؤهلات البقاء للمرحلة
التالية بل يكون بقاؤه في المرحلة التالية
امراً منافياً للاصالة.
ومن هنا تبرز الاصالة والمعاصرة معاً
في مقولة الخط الاصلاحي: «هم رجال ونحن رجال»،
فالسلف اسس لمرحلته وعلى الخلف أن يؤسس
لمرحلته كلٌ في أطار الشرع ومقاييسه.
3 ـ خط الاصلاح والتغيير:
إن الاصلاح والتغيير والتجديدوالاحياء نوازع عميقة الجذور في الفكر
الاسلامي، ويكفي أن نذكر أن مادة «صلح» تكررت
في القرآن الكريم بأشكال مختلفة أكثر من «180»
مرة، وهو أمر لا نظير له في المجالات القرآنية
الاخرى.
وقد فرض هذا الزخم نفسه على تاريخ
المرجعية المعاصرة، فأدوار الشيخ موسى كاشف
الغطاء، والمجدد الشيرازي، وقادة الثورة
الدستورية، وثورة العشرين، والسيد محسن
الامين العاملي، والسيد عبد الحسين شرف
الدين، والشيخ محمد رضا المظفر، والشيخ محمد
الحسين آل كاشف الغطاء، والسيد الشهيد الصدر،
والامام الخميني تشكل سلسلة ذات حلقات متصلة
من الاصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي.
وقد يقال: إن هذه الادوار هي أقل ما
ينبغي بحساب الاهتمام الاسلامي الشديد
بالاصلاح والتغيير من جهة، ومتطلبات الساحة
الاسلامية من جهة ثانية، والامكانات العملية
الجيدة التي يملكها خط العلماء في هذا المجال
من جهة ثالثة، فكيف نفسر هذه المفارقة المهمة
بين الواقع والمطلوب في حركة المرجعية؟
ولدى الاجابة على هذا التساؤل نجد أن
قسماً من هذه المفارقة ناشئ من المعارضة
التقليدية، التي تلقاها حركة الاصلاح
والتغيير في كل مجتمع لاسباب نفسية غير
موضوعية ناشئة من قدسية الماضي، ومجهولية
المستقبل الذي يريده الاصلاحيون; والمستقبل
المجهول ـ من وجهة نظر المحافظين ـ ليس أفضل
من الحاضر وإن كان سيئاً.
والقسم الاعظم منها ناشئ من أن الحركة
الاصلاحية لخط المرجعية كانت واقعة تحت تأثير
السلبيات الجانبية التي لمسناها في
الخاصيتين السابقتين; فقد عرفنا سابقاً أن
جماهيرية خط العلماء تمخضت جانبياً عن حالة
سلبية هي ما عبر عنها بـ «حكومة العوام»، كما
أن أصالة هذا الخط انتجت أيضاً جانبياً حالة
سلبية اخرى، هي جناح المحافظين الذي تتناسب
قوته طردياً مع قوة الاصالة ودرجة الاعتماد
عليها.
وحيث إن المرجعية تعتبر أكثر الواجهات
القيادية اصالة في العالم الاسلامي لذا كان
الاتجاه المحافظ فيها أكثر قوة مما في غيرها.
وقد شكلت هاتان الحالتان قيدين كبيرين
نسبياً في إجهاض واضعاف الكثير من الادوار
الاصلاحية للعلماء، خاصة وأن هناك انسجاماً
وعلاقة تقليدية بين العوام والمحافظين ; بحيث
يجد المحافظون دائماً نصيرهم القوي في حكومة
العوام.
إن حكومة العوام وجناح المحافظين لعبا
دورين كبيرين في تكوين المفارقة المشار
اليها، وإن البيان الوثائقي التأريخي المفصل
لا يتناسب مع حجم هذه الدراسة، لكننا نشير في
استعراض سريع إلى أبرز حلقات هذه الظاهرة.
أ ـ آية اللّه السيد كاظم اليزدي: يشير
السيد هبة الدين الشهرستاني في مذكراته التي
دونها الاديب علي الخاقاني في الجزء العاشر
من موسوعته «شعراء الغري» إلى أن السيد
اليزدي كان في بداية الامر من جملة المراجع
المؤيدين للمشروطية والعاملين لها، إلاّ أن
الذين تبنوا الفكرة كونوا بأسلوب غير مباشر
جواً معكراً ضده أدّى إلى تشويش الافكار عنه
وجفاء الناس له.
ويذكر أيضاً أن السفير الروسي عمل بعد
ذلك لتوسيع الخلاف بينه وبين الشيخ الخراساني.
إن هذا الرقم التأريخي يشير بوضوح إلى
عدم عناية المرجعية بالجانب التنظيمي في
عملها السياسي والاصلاحي، وانها لم تحرص بما
يكفي على وحدة الكلمة. مما أدّى إلى انفصال
جناح مهم عنها وهي لا زالت في أول الطريق، ولم
تظهر رداً مناسباً على حالة التسلل التي
أبداها السفير الروسي في جهاز المرجعية.
إن السيد اليزدي نفسه اعترف بعدم
درايته في الجانب السياسي، وذلك في قضية
الاستفتاء حول مصير العراق التي جرت في أواخر
عام «1918م»(2);
وينبغي أن لا نستغرب ذلك فليست المرجعية
معهداً للدراسات الاستراتيجية، بل هي معهد
للدراسات الشرعية تظهر من خلاله كفاءات
مختلفة ، فهذا يبرع بالفقه والاُصول وغيره
يبرع بالتفسير، وثالث يتميز بالجانب
الاجتماعي والقيادي.
وكان من الواجب على رموز الحركة
الدستورية المحافظة على وحدة المرجعية
وتشخيص الكفاءة السياسية للافراد الذين
يتعاملون معهم منذ البدء; ولو كانت هناك درجة
مناسبة من التنسيق والتخطيط لما انفصل السيد
اليزدي عن الحركة، ولما تمكن الاعداء بعد ذلك
من تحويله في انظار الناس إلى خط معارض
للاصلاح السياسي، ومناصر للاستبداد كما هي
النظرة الخاطئة السائدة عنه حتى الان.
ويروي السيد الشهرستاني أيضاً ـ وهو
أحد رموز الحركة الدستورية ـ أن الفصل الاخير
من الخلاف بين السيد اليزدي والحركة
الدستورية، كان نتيجة لصورة للسيد اليزدي
ظهرت في النجف الاشرف وفيها يد تحمل مسدساً
موجهاً إلى رأس السيد، الامر الذي افزع
العوام وجعلهم في هياج شديد انتصاراً للسيد
اليزدي، وعداءً للحركة الدستورية التي تريد
قتل ابن رسول اللّه(3). وهذا يعني أن
الفتنة بدأتها أيد مجهولة يظن أنها أيدي
السفير الروسي وطورتها حكومة العوام; ويظل
المنشأ الاساسي لها يتمثل في ضياع الجانب
التنظيمي والتخطيطي والتنسيقي في أعمال
المصلحين، وهو من آثار حكومة العوام.
ب ـ آية اللّه الميرزا محمد حسين
النائيني: يمكننا تعريف الميرزا محمد حسين
النائيني بأنه المنظّر الفكري للحركة
الدستورية، فإضافة إلى مشاركته الميدانية في
نشاطات هذه الحركة أنه قام بتأليف أول رسالة
فقهية من نوعها في التاريخ المعاصر، وهي
رسالة «تنبيه الامة وتنزيه الملة» التي اثبت
فيها مشروعية الحركة الدستورية.
إلاّ أنه بعد انكسار الحركة الدستورية
وتحت تأثير حكومة العوام قام آية اللّه
النائيني بجمع كل نسخ الرسالة من المكتبات
وإتلافها، وكان يقوم بشراء نسخها من الاسواق
مهما كانت قيمتها حرصاً على إنهاء وجودها من
السوق تماماً(4);
وذلك تجاوباً مع العوام الذين أصبحوا يرون
الحركة الدستورية مجرد فتنة لا خير فيها.
ج ـ السيد محسن الامين العاملي: في
أواخر العشرينات أعلن السيد محسن الامين
العاملي حركته الاصلاحية بشأن الشعائر
الحسينية، فواجهته حكومة العوام بمعارضة
شديدة قل نظيرها ; حيث اعتبر أموياً يزيدياً
معادياً للحسين.
د ـ السيد هبة الدين الشهرستاني: في
منتصف العقد الثاني من القرن الميلادي الحالي
افتى السيد هبة الدين الشهرستاني بحرمة نقل
الجنائز من الاماكن البعيدة إلى النجف
الاشرف، لما يؤدي ذلك من امراض اثر تفسّخ جثة
الميت في الطريق، حيث أن وسائط النقل
البدائية تتطلب زمناً طويلاً لايصال الموتى
إلى النجف خاصة بالنسبة للاماكن البعيدة، ومن
الناحية الفقهية تعنون هذه الحالة بعنوان هتك
حرمة الميت وهو أمر لا تجيزه الشريعة
المقدسة، فقامت اثر ذلك ضجة كبيرة تعرض في
اثنائها لمحاولة اغتيال فاشلة قام بها بعض
العوام(5)،
وكتب السيد عبد الحسين شرف الدين رسالة
بعنوان (بغية الفائز في جواز نقل الجنائز)
رداً على فتوى السيد الشهرستاني.
هـ ـ الشيخ عبد الكريم اليزدي: يروي
آية اللّه المطهري أن مؤسس حوزة قم المقدسة
الشيخ عبد الكريم اليزدي، طلب تدريس اللغات
الاجنبية وبعض العلوم الحديثة في الحوزة; لكي
يتمكن طلبتها من عرض الاسلام على الطبقات
الحديثة وفي البلدان الاجنبية، ولكن ما إن
انتشر الخبر حتى جاءت جماعات من الناس من
طهران إلى قم قائلين بأنهم يدفعون الخمس
لتدريس الفقة والاصول لا لغة الكفار، وأنهم
سوف يفعلون كذا وكذا إذا نُفذ هذا الاقتراح،
فألغى الشيخ فكرته لان الموقف قد يؤدي إلى
انهيار الحوزة الوليدة(6).
و ـ آية اللّه السيد البروجردي: ويروي
الشيخ المطهري أيضاً أن السيد البروجردي ذكر
في أثناء درسه الفقهي ذات يوم، بمناسبة البحث
في تقية الشيعي من الشيعي، أنه ـ أي السيد
البروجردي ـ كان يظن أن عليه أن يستنبط
الاحكام وعلى الناس العمل بها، لكنه وجد بعد
ذلك أن الامر ليس كذلك(7).
هذه مجرد أمثلة، وهناك امثلة أخرى في
حياة علماء آخرين على دور العوام السلبي في
مسيرة المرجعية.
يقول آية اللّه المطهري في كتابه
السابق: «إن الافة التي اصابت مجتمعنا الديني
بالشلل واقعدته عن العمل هي الاصابة بالعوام...
إن منظومتنا الدينية على إثر اصابتها بهذه
الافة لا تستطيع أن تكون طليعة فتتحرك أمام
القافلة، وأن تهدي القافلة بالمعنى الصحيح
للهداية. إنها مضطرة للتحرك وراء القافلة»(8).
ويقول أيضاً: «إن حكومة العوام هي منشأ
رواج الرياء والمجاملة والتظاهر، وكتمان
الحقائق والاهتمام بالمظاهر وشيوع الالقاب
والمقامات، والتطلع إلى المراكز العليا في
مجتمعنا الديني مما لا نظير له في العالم »(9).
ثم يقول: «إن حكومة العوام هي التي
تدمي قلوب احرارنا وطلاب الاصلاح فينا »(10).
ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة أوجدت
تذبذباً في حركة المصلحين، فنجد شخصية تقف
إلى جانب الاصلاح في قضية إلى حد الزعامة، وفي
الوقت نفسه تعارض الاصلاح في قضية أخرى وإلى
حد الزعامة أيضاً ; فالشيخ محمد رضا المظفر
الذي قاد حركة الاصلاح في مناهج الحوزة
ومؤسساتها الدراسية، حتى وصل إلى قضية
الخطابة الحسينية محاولاً برمجتها فأثيرت
بوجهه ضجة عنيفة، كان قبل ذلك من الخط المعارض
لحركة السيد محسن العاملي بشأن اصلاح الشعائر
الحسينية والشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء
الذي تزعم دوراً اصلاحياً في الجانبين
السياسي والاجتماعي سجل معارضة لحركة السيد
العاملي، والشيخ النائيني الذي وقف إلى جانب
الاصلاح السياسي بقوة ختم حياته بمعارضة هذه
الحركة أيضاً.
إن حكومة العوام وعدم التنسيق
والتخطيط وقوة الجناح المحافظ وتضارب أدوار
المصلحين وعوامل سلبية أخرى كل تلك اضعفت
حركة الاصلاح في حياة المرجعية وجعلتها أقل
بكثير مما ينبغي وما يمكن، ويجب الان على
الجيل الحاضر دراسة هذه العوامل والعوامل
الاخرى التي يمكن التوصل اليها بعمق وتأن،
إذا ما قرر هذا الجيل الوصول إلى مستقبل أفضل.
4 ـ خط الفكر المتنامي:
يتسم الفكر المدرسي في الحوزة العلميةبدرجة عالية من العمق والقدرة التثقيفية،
ومثالاً على ذلك نذكر أن كتاب «كفاية الاُصول»
للشيخ كاظم الخراساني المطبوع في العقد الاول
من القرن الميلادي الحالي، والذي يقع في 500
صفحة تقريباً وفق الطباعة الحديثة، يدرسه
طالب الحوزة في أربع سنوات متوالية كمعدل
عام، وقد ظهرت عليه حتى الان شروح كثيرة قاربت
مئتي شرح يقع كل منها في عدة أجزاء، وهذه
ظاهرة لا نجد لها مثيلاً في الفكر المدرسي
الاكاديمي، وتدل بكل تأكيد على عمق فكر
الحوزة وخصوبته ومتانته، بما يمكن الطالب من
أداء وظيفته الاساسية المتمثلة بفهم النص
الديني بكل محتملاته القريبة والبعيدة،
وايجاد تشقيقات يمكن أن تكون أساساً لمعالجة
المستجدات التي تتطلب عمقاً علمياً أكبر في
فهم النصوص، كلما أزدادت المسافة الزمنية
الفاصلة بينها وبين عصر التشريع، ومن ثم يوفر
أرضية جيدة لفكر اسلامي خصب يمكنه أن يعالج كل
قضايا الاسلام بكفاءة عالية جداً.
وكما وجدنا في الخصائص الاخرى نجد
أيضاً في هذه الخاصية أن حالة سلبية طرأت
عليها، فإن الفكر المدرسي يصرف جزءاً من
طاقته وطاقة الحوزة في أبحاث خيالية فرضية،
وأخرى فقدت ميدانها التطبيقي في عالم اليوم،
وثالثة قليلة الارتباط بالواقع.
ولو أن هذه الابحاث تأتي بعد إشباع
الحاجات الراهنة والمهمة لكان ذلك مقبولاً
بوجه، فالكثير من الابحاث والمحاور ذات
العلاقة بالحاجات الراهنة والمهمة في عالم
اليوم مفقود أو لا يجد اهتماماً كافياً.
5 ـ القيادة الطبيعية:
يجد المجتمع الاسلامي في المرجعيةالقيادة الطبيعية له; وذلك لعاملين:
أ ـ أن الدين هو المنهج الطبيعي في
حياة المجتمع الاسلامي، والمرجعية هي الممثل
الشرعي له.
ب ـ أن العلم هو المحور الصحيح للقيادة;
لان تبعية الرعية للقائد قائمة على اساس ما
يملكه هذا القائد من قوة الكشف عن الواقع،
والملكات الفكرية للانسان تمثل جوهر هذه
القوة; ومن هذه الجهة تتطابق المرجعية مع
القيادة تطابقاً تاماً; لان المحور العلمي
المطلوب في القيادة موجود في المرجعية بدرجة
أوضح، لكون المرجعية ظاهرة علمية قبل كل شيء.
ولا نجد هذا التطابق في الواجهات
الاخرى التي تزعم لنفسها صبغة القيادة،
فالعسكريون والرأسماليون والشخصيات الحزبية
واجهات ثلاثة طرحت نفسها في عالم اليوم
واجهات قيادية، وهي وإن كانت تتسم بالعلم
إلاّ أنها لم تجعل العلم المحور الاساسي في
وجودها كما فعلت المرجعية ; وهناك فرق نوعي
آخر هو أن العلم الذي تتسم به هذه الواجهات
يتمثل في ثقافة عامة تحيط بظروف العصر
وملابساته، بينما العلم الذي تقوم على اساسه
المرجعية هو العلم بالقانون الاجتماعي
والتخصص بالشريعة التي يراد تطبيقها، وهو
أكثر تماساً مع وظيفة القيادة من الثقافة
العامة التي يطلب من المرجعية كذلك الالمام
بها; فالمرجعية قيادة تشترك مع القيادات
الاخرى في ضرورة الالمام بظروف العصر وافكاره
وملابساته، وتنفرد عنها في الجانب العلمي
الاساسي في القيادة المتمثل بقانون المجتمع
وشريعته وأيديولوجيته; ولعل هذا افضل ردع
يمكن الرد به على فكرة فصل الدين عن السياسية.
وافضل دليل يمكن تقديمه لاثبات أن
المرجعية تحل أزمة القيادة التي نشأت بسبب
الادعياء الذين زعموا لانفسهم صفة القيادة،
فعانت الامة كثيراً من صراعاتهم وانشغالهم عن
اداء الوظائف الحقيقية للقيادة، أن انسياق
الامة نحو المرجعية واذعانها المسبق بأنها
قيادة طبيعية، وتبلور القائد بأقل ما يمكن من
الضجيج والصراعات والحزبيات يوفر مشروعاً
رائعاً للقيادة السياسية.
ومن عرضنا هذا لخصائص خط المرجعية
وامتيازاته يتبين لنا أنها من ناحية أساسية
خصائص وامتيازات فريدة، تجسد سمو الاسلام على
ما سواه من الحضارات، لكننا وجدنا حالات
سلبية طرأت جانبياً على هذه الخصائص وقللت من
أهميتها خاصة في الاجانب الاصلاحي من حركة
المرجعية ; ومع أننا نعتقد بأن هذه الحالات
تأتي بحكم الطبيعة البشرية، إلاّ أنها لا
تستعصي على الحل فمن الممكن معالجتها والحد
منها، إذا ما كانت هناك مرجعية مؤسَّسية
قائمة على أساس البرمجة والتخطيط، وتعمل
لتنمية الخصائص المذكورة لها ومكافحة
الاعراض السلبية الناشئة عنها جانبياً.
الاسس الجديدة:
واخيراً دخلت المرجعية مرحلة جديدة،وأصبح يتحتم عليها مواجهة الواقع ومعالجة كل
تفاصيله علاجاً مناسباً أو الانزواء عنه
والتراجع إلى الوراء; وربما كان الهروب عن
الواقع امراً ممكناً في المرحلة السابقة لكنه
في المرحلة الراهنة صار يعني وفاة المنظومة
الدينية، ففي المرحلة السابقة لم تكن
المنظومة الدينية تقود الواقع، فكان يمكنها
الهروب من مسؤولياته تحت غطاء ما تصبه من
اللعنة عليه والبراءة منه، ولكنها اصبحت
اليوم بشكل أو بآخر قائدة له، وعليها أن تثبت
كفاءتها في هذا الدور أو تقبل بالتحول إلى
الحالة الفاتيكانية.
إن المرجعية الاسلامية تواجه اليوم
تحديات خطيرة; لان الانتصار الساحق الذي
حققته على الغرب من خلال الثورة الاسلامية
أمر لا يمكن للغرب نسيانه ولا نتوقع منه
اهماله; فالاتهامات والشبهات وإثارة الافكار
المنحرفة ودس العملاء واثارة الخصومات
الداخلية بشكل أو بآخر، حالات ينبغي الحذر
منها، وتحديات لا شك أنها تمثل تياراً غربياً
رائجاً في مواجهة المرجعية.
هذا من جهة ومن جهة ثانية خلق انحسار
الحوزة العملية في النجف الاشرف وعوامل
داخلية أخرى مشكلة مهمة تعاني منها المرجعية
في مرحلتها الراهنة ومن جهة ثالثة أصبح الوضع
الدولي الجديد للاسلام يتطلب من المنظمة
الدينية مهام كبيرة في النوع والحجم، ويثقل
كاهلها بمستلزمات لا تجد إزاءها خياراً غير
الاستجابة لها; فهناك الحاجة إلى مد الدولة
بالكوادر الحوزوية الكفوءة وباعداد كبيرة
وفي مستويات عمل الدولة كافة، والحاجة إلى
التبليغ والمبلغين في الداخل والخارج، وهناك
الحاجة الاساسية لتطوير حركة الفكر في
المجتمع والدولة.
ومن جهة رابعة هناك المهمة الرسالية
التي أصبح عليها أن تؤديها ازاء العالم بأسره
; فالانفتاح الواسع النطاق الذي يعيشه العالم
اليوم عموماً نحو الاسلام، يلقي على منظومتنا
الدينية مهمة الاستجابة لمتطلباته الفكرية
والاجتماعية خاصة، وإن بعض مناطق هذا
الانفتاح يُمثل بيئة عريقة بالفكر والثقافة.
كل ذلك يجعل منظومتنا الدينية في ظرف
حساس جداً، يصعب على الفرد الواحد مهما أوتي
من قدرة فكرية الالمام به فضلاً عن معالجته;
وهذا ما يجعل الباحث يعتقد أن قضية المرجعية
تمثل اليوم القضية الاولى في حياة اتباع أهل
البيت(عليهم السلام) في العالم، وينبغي عليهم
إبداء أعلى درجات الحرص والمسؤولية والعطاء
ازاءها، وأن بداية الطريق للارتفاع بها إلى
مستوى الظرف الدقيق الذي تجتازه تتمثل بإقامة
مؤتمر اسلامي عام، يحضره المفكرون والخبراء
والعلماء من ذوي السابقة في العمل، والاخلاص
والتضحية من أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في
العالم لدراسة الطور الجديد، والصيغة
الجديدة التي ينبغي إعادة تأسيس المنظومة
الدينية في ضوئها، والتي تستجيب للشروط
والمتطلبات الجديدة.
لقد درسنا قبل قليل خصائص خط العلماء،
وتبين لنا في الاخير أن طبيعة الهيكلية
القائمة أدت لسلبيتها إلى تحويل الخصائص
الايجابية إلى خصائص سلبية; وفي المرحلة
الراهنة نلاحظ أن هذه الهيكلية تحول دون ظهور
اية ايجابية من الايجابيات التي يختبر بها خط
المرجعية، وأنها إذا تواصلت ستنتهي إلى
التآكل والانقراض ; لانها في مرحلة الشيخوخة
التي تختفي عندها الطاقات وتكثر فيها العلل
والامراض.
وهكذا فإن التجديد في بناء المنظومة
الدينية يعني بالنسبة للجميع مسألة موت أو
حياة، والمشاركة فيها وظيفة الجميع كل حسب
قدرته واستطاعته ; وينبغي أن لا تعطل طاقة
يمكنها المشاركة تحت أي ذريعة، ما دامت تنطلق
من الحرص والاخلاص والدرجة المناسبة من
الخبرة والدراية.
البناء الجديد:
يمكننا أن نطرح أولياً ما نرجح صحته منالتصورات بشأن البناء المستقبلي المطلوب،
وهو أن البناء الجديد ينبغي اقامته على
اساسين جديدين هما:
اولاً: الاساس الاجتماعي المتوازن
للفقة:
لقد ولد الفقه الامامي في ظروف سياسية
ضاغطة يرفض فيها الحاكم هذا الفقه ويحاربه،
والمدلول العملي لهذا الرفض كان يتمثل من جهة
الحاكم بمنع ظهور صياغة متكاملة للفقه تتناول
الفرد والمجتمع معاً.
وأما من جهة الفقيه الامامي فهو مضطر
إلى عدم اظهار مثل هذه الصياغة، فتألف إجماع
مركب من الحاكم والفقيه الامامي على مصادرة
الجانب الاجتماعي للفقيه والاقتصار على
الجانب الفردي، وبمرور الزمن تبلورت النزعة
الفردية التي تُمنهج البحث الفقهي في ضوء
حاجات الفرد ومسائله فقط، ولما استفردت هذه
النزعة بالفقه أخذت تتسرب إلى الشريعة، وأخذ
الفقيه ينظر للشريعة من الزاوية الفردية
وكأنها بُنيت هي الاخرى على هذا الاساس.
ونتيجة لهذه الولادة غير المكتملة،
وتمادي عصور الابتعاد عن التطبيق أصبحت
النزعة الفردية وكأنها الحالة الطبيعية في
الفقه; بحيث اختفى الكثير من الابعاد
الاجتماعية، وعاد الفقيه يعاني في معالجته
للابعاد الاجتماعية التي تستعصي على الفهم
الفردي، وهو ما تغلب عليه بوسائل متعددة منها
الحيل الشرعية، فتم تذويب الابعاد
الاجتماعية من خلال تلك الحيل لصالح الابعاد
الفردية المستفحلة.
وما جرى للفقه جرى مثله للاصول
وللاخلاق أيضاً، لكن الفقه يبقى المثال
الاكثر بروزاً في هذا المجال.
وربما ساعد على هذه النزعة أن الفترة
الممتدة بين حياة الامام الباقر وغيبة الامام
المهدي(عليهما السلام)، وهي فترة مهمة من عصر
النص، عاشت الظروف نفسها وتركت آثارها على
النصوص، وحينما تبلور الفقه وقام بدراستها لم
يفهمها نصوصاً طرحت في جو خاص، ولم يدرس أثر
هذه الخصوصية عليها بل تلقاها على واقعها كما
هو، ومن الطبيعي أن يكون اثر هذه النزعة على
الفقه كبيراً جداً، فإن الشريعة في مجالها
الدنيوي قانون ينظم العلاقة بين الفرد
والمجتمع، والروح الاجتماعية هي الاساس في كل
قانون، ومصادرة هذه الروح تعني مصادرة الجانب
الاساسي منه، وهذا لا يعني أن الفقه طيلة هذه
العصور لم يكن شرعياً وأن ما حصل كان انحرافاً
عن الشرع. ليس الامر كذلك; فان الصورة التي
تمثل بها الفقه في ظل تلك الظروف كان تجسيداً
مشروعاً بحكم مشروعية الاجتهاد، ولكنه ليس
التجسيد الوحيد.
لقد انعكست آثار هذه النزعة على أبواب
كثيرة في الفقه كالزكاة والخمس والامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، بل في منهجية
البحث الفقهي وكيفية تقسيم أبواب الفقه.
وسنقتصر على ذكر ثلاثة نماذج منها:
1 ـ الخمس: ذهب المشهور الفقهي إلى أن
الخمس فريضة مالية يؤديها المكلف للمجتهد
والسادة ذرية الرسول الاعظم محمد(صلى الله
عليه وآله)، دون الالتفات إلى أن إعطاء فئة
اجتماعية محدودة نصف الخمس من موارده السبعة
المقررة امر لا يتناسب وحاجات تلك الفئة; فإن
فقراء السادة فرض العالم يمكن إشباع حوائجهم
بخمس مكاسب سوق بغداد فقط، كما يقول الامام
الخميني في كتابه الحكومة الاسلامية(11)،
فإذا أشبعت حوائجهم فأين نمضي بالباقي إذا
كان مقرراً لهم فقط؟.
ولو تصورنا أن العالم بأجمعه طبق
الاسلام يوماً، فهل عليه أن يدفع نصف الخمس من
أرباح مكاسبه وكنوزه ومعادنه وغوصه وغيرها
إلى فقراء السادة؟ هل يعقل مثل هذا التصور في
شريعة هي أكمل الشرائع؟
إن هذا التصور من نتائج الفقه الفردي
الذي لا يوازن بين الفرد والمجتمع، ومنه تولد
نتائج فردية أخرى كالشأنية; حيث يدّعى أن
المساواة ليست هي الاساس في توزيع الخمس على
السادة المستحقين له، بل الشأنية هي الاساس;
فمن كان شأنه امتلاك سيارة يعطى سيارة، ومن
ليس له هذا الشأن لا يعطى.
وهذه الشأنية قابلة للنمو، كما أن
البسط على المستحقين غير واجب في الوزيع; فمن
الممكن اعطاء ذي الشأن الرفيع سيارة فارهة
تتناسب وشأنه إن كان محتاجاً لها، وحرمان
بقية المستحقين من الحقوق.
وقد عارضت هذا الاتجاه آراء حديثة
اعتبرت الخمس فريضة يؤديها المكلف للمجتهد
بصفته ولي أمر وحاكماً شرعياً، فيصرفه على
حاجات الدولة وأغراضها ويعزل منه حصة للسادة
يتم تحديدها في ضوء الحاجة والظروف; ليكون ذلك
عوضاً عن الزكاة التي حرموا منها، وقد تبنى
هذا الاتجاه الامام الخميني في كتابه الحكومة
الاسلامية، والجزء الثاني من كتاب البيع،
وتبناه آية اللّه الشيخ المنتظري في الجزء
الاول من كتابه فقه الدولة الاسلامية، وكتاب
الخمس، كما تبناه الشيخ فياض الدين الزنجاني
في كتابه ذخائر الامامة المنشور في ثلاثينات
القرن الميلادي الحالي.
2 ـ الحيل الشرعية: إن الحيل الشرعية
بشكل إجمالي مبدأ غريب في الحياة القانونية،
سواء كان هناك جانب موضوعي في نشأته أم لا،
وسواء قام على أساس نصّي أم لا.
فمما لا شك فيه أن النزعة الفردية لعبت
دورها في ظهوره، والمثال البارز لذلك نلمسه
في مسألة الربا; حيث شدد القرآن الكريم على
حرمته وتوعد القائم به بحرب من اللّه ورسوله،
ومع هذه الشدة يلجأ اتجاه كبير في الفقه إلى
حيلة يتم من خلالها التخلص من الحرمة، ولا
نناقش في مشروعية هذا الفقه فإنه مشروع
بمشروعية الاجتهاد، ولكننا نجده معبراً عن
فقه فردي يخلو من الحس الاجتماعي الذي بنيت
حرمة الربا عليه أساسياً، وقد تمت مصادرة هذا
الحس من خلال مبدأ الحيلة الشرعية.
ولذا نجد الفقه الذي يواكب الحس
الاجتماعي يرفض الحيل الشرعية، كما هو الامر
في فقه الامام الخميني(قدس سره)(12).
3 ـ منهجية البحث الفردي في الفقه: ومن
نماذج هذه المنهجية زج الفقه الفردي لمسألة
ولاية الفقيه ذات القوام الاجتماعي في نهايات
الابحاث الفردية، ويبدو أن الفقه الفردي عانى
في اختيار الموضع المناسب لها في ابواب الفقه
ولم يهتد إلى ذلك حتى الان، فتارة توضع في
ذيول بحوث التقليد والاجتهاد، وأخرى في ذيول
مسألة الصوم وحكم الحاكم بالهلال، وثالثة في
اطراف بحث الحج، ورابعة في القضاء، وخامسة في
البيع، وكأنها من فضول البحث الفقهي.
فيما قام الفقه الاجتماعي المتوازن
بوضعها في باب مستقل تحت عنوان (الحكومة
الاسلامية)، كما فعل الامام الخميني(قدس سره).
أما الامام الشهيد الصدر(قدس سره)فقد اوجد
تقسيماً جديداً كلياً للفقه يتكون من أربعة
أبواب رئيسية فقط، وأطلق على القسم الرابع
منها اسم (أحكام السلوك العام) ليدرس فيه
الفقه السياسي الاسلامي وسلوك الحاكم.
إن حركة الفقه مدعوة الان إلى تأسيس
جديد وأبعاد جديدة يمكن من خلالها استيعاب
المتطلبات، وقبل المباشرة بذلك لابد من دراسة
السلبيات التي تعتري حركة الفقه في واقعه
الراهن، وأهمها النزعة الفردية ليصار إلى
دراسة سبل التخلص منها والاسس الجديدة اللازم
اتباعها بدلاً من ذلك(13).
ثانياً: الاساس القيادي للمرجعية:
وما حصل للفقه حصل للمؤسسة الدينية
أيضاً; فقد وجد الفقهاء الاوائل بعد وفاة
الامام الحسن العسكري(عليه السلام)في منتصف
القرن الهجري الثالث، أن الفقه السني
والمؤسسة الدينية السنية قد مرّ عليها زمن
طويل تكونت فيه وقطعت أشواطاً في البناء من
خلاله، فيما يريد الفقه الامامي التكون
والتبلور حديثاً في صياغات منهجية، وذلك لان
عصر التشريع انتهى بالنسبة للمدرسة السنية
بوفاة النبي الاعظم(صلى الله عليه وآله)، ومنذ
ذلك الحين شرعت هذه المدرسة بالظهور; بينما لم
ينته عصر التشريع ولم يبدأ عصر الفقه في
المدرسة الامامية إلاّ في اوائل القرن الرابع
الهجري بعد انتهاء الغيبة الصغرى للامام
المهدي(عليه السلام)، فقامت المدرسة الامامية
على أساس علمي بحت، ووجدت وظيفتها في صيانة
تراث الائمة(عليهم السلام) وصياغته وفق مناهج
البحث الفقهي، يستحثها شعور قوي بضرورة
مسابقة الزمن ومواكبة ما وصلت اليه المدرسة
السنية; وبفضل هذا الاساس وانجازات العلماء
الكبار الاوائل استطاعت المدرسة الامامية أن
تخطو خطوات واسعة إلى الامام، وتكوّن لنفسها
تراثاً صار يضاهي التراث السني بعد فترة
قليلة، بحيث انعكس على الجانب السياسي
والاجتماعي، وأخذ المذهب الامامي يتوسع
باطراد، وذلك على يد العلاّمة الحلي في القرن
الثامن الهجري عندما تشيع الشاه «خدابنده»
على يديه وصار اعتناقه لمذهب أهل البيت(عليهم
السلام) بداية لتحول ايران واعتناقها له; وفي
القرن الثالث عشر الهجري اكتسبت المدرسة
الامامية أبعاداً واسعة جداً، حيث تطورت
الحوزة العلمية في النجف الاشرف في تراثها
الفكري وكيانها الاجتماعي تطوراً كبيراً
جعلها المركز العلمي الاول في العالم
الاسلامي قاطبة.
وغني عن البيان أن هذه المكتسبات عززت
الاساس العلمي الذي قامت عليه الحوزة
العلمية، وهو أساس يتناسب في مدلوله النفسي
مع النزعة الفردية التي لمسناها قبل قليل في
الفقه الامامي ; ومعنى هذا أن النزعة الفردية
تسربت إلى المرجعية، الامر الذي الغى الاساس
القيادي الذي لو أقيمت عليه المرجعية لكانت
اكثر زخماً وفاعلية مما حصل.
وكما تدعو الضرورة الان إلى إلغاء
النزعة الفردية من الفقه تدعو كذلك إلى عدم
الانحصار بالاساس العلمي للمرجعية، وضرورة
إبراز الاساس القيادي بوصفه الاساس الطبيعي
لها، دون أن يعني ذلك الاقلال من مكانة العلم
وشأنه في الحوزة ; فالعلم هو الاساس في حركة
المرجع قبل بلوغه المرجعية، فإذا بلغها أصبح
الاساس في حركته هو القيادة ومسؤولياتها إزاء
الرسالة والامة.
ولقد بين الامام الشهيد محمد باقر
الصدر(قدس سره) في أطروحة المرجعية الصالحة
الطابع الفردي الذي اتسمت به المرجعية في
ادوارها المختلفة، واطلق عليها اسم المرجعية
الذاتية، ونادى بطور جديد اسماه بالمرجعية
الموضوعية، وهو ما يمكننا تلخيصه بالاساس
القيادي الذي ينبغي أن تقوم عليه المرجعية;
فإن الخصائص والوظائف والاهداف التي نسبها
الامام الشهيد للمرجعية الموضوعية مستخلصة
جميعاً من الاساس القيادي للمرجعية، كما أن
خصائص المرجعية الذاتية ناشئة من الاساس
العلمي الذي قامت عليه المرجعية في أدوارها
الماضية، والنزعة الفردية التي يترجمها في
الواقع العملي.
لقد بينا في بحثنا السابق عن التطور
السياسي والاصلاحي للمرجعية الاسلامية في
تاريخها المعاصر، أن فترة الدعوة إلى تطوير
واقع المرجعية تمثل آخر تطور بلغته المرجعية
في سيرها الارتقائي الحديث. ويمكننا القول
الان: إن الامام الشهيد الصدر هو الرائد لهذه
الفترة، حيث قدم اطروحة عن مرجعية جديدة كانت
في غاية المتانة والدقة، وقد سمى هذه
المرجعية بالمرجعية الصالحة والموضوعية،
وذلك في الكراس الخاص بها، وسماها بالمرجعية
الرشيدة في بحث (لمحة فقهية عن مشروع دستور
الجمهورية الاسلامية)، فهل هي مرجعية واحدة،
أم مرجعيتان احداهما مرجعية للمذهب والطائفة
والثانية مرجعية للدولة؟ وهل هناك ـ على فرض
التعدد ـ اطار جامع بينهما؟.
تلك استفهامات فوّت علينا القدر
المشؤوم فرصة تحصيل الاجابة عنها من منظر
المرجعية القائدة (رضوان اللّه عليه)، ولكننا
اليوم ـ بفضل دستور الجمهورية الاسلامية
والتعديلات الاخيرة التي اجريت عليه ـ أصبحنا
في غنىً عن البحث في مرجعية الدولة والنظام
وأصبحت الحاجة ماسة إلى البحث في المرجعية
المعبرة عن الطائفة والمذهب من الجهات
التالية:
1 ـ طبيعة العلاقة بين النظام الاسلامي
والمرجعية، وكيفية تقسيم الوظائف الاسلامية
بينهما، وحدود الصفة التمثيلية لكل منهما،
وكيفية إقامة نظام متقن للتكامل بينهما في
الادوار والمهام.
2 ـ الطبيعة والشكل المؤسَّسي لجهاز
المرجعية القائدة، وكيفية إقامته واجهةً
تمثل المسلمين في العالم عامة، وأتباع مذهب
أهل البيت(عليهم السلام) خاصة، وتدافع عن
قضاياهم وتؤدي وظائفها تجاههم في ظل الظروف
الدولية والسياسية السائدة اليوم.
3 ـ اعادة بناء نظم التدريس ومناهج
الدراسة بما يتوافق مع المهام الجديدة التي
أصبح على المرجعية القيام بها، ازاء النظام
الاسلامي والمجتمع الشيعي والمسلمين
والبشرية عامة، وينسجم كذلك مع طبيعة
التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها
الان، أو التي قد تواجهها في المستقبل.
4 ـ البحث في وسائل إيجاد نظام إداري
متقن ينسق الاعمال الداخلية لاجهزة المرجعية
ومؤسساتها.
5 ـ البحث في وسائل الارتفاع بالمستوى
التدريسي والتربوي لطلاب العلوم الدينية،
ومدى الحاجة إلى تطبيق نظام التخصص في
الدراسة، وإلى خبراء في علوم غير دينية تتطلب
عملية الاجتهاد والاستنباط وجودهم في كيان
المرجعية، والبحث في مدى الحاجة إلى تدخل
الحوزة العلمية في اعطاء الصفة الرسمية
والقانونية لمنتسبيها، بدءاً من الطالب
البسيط وانتهاءً بالمجتهد، وسحب هذه الصفة
عنهم عندما يتطلب الامر بذلك; ذلك للحيلولة
دون ظهور أفراد غير جديرين بالصفة الروحية
منذ بدء الانتساب أو بعد فترة من تحققه.
6 ـ تنظيم الموارد المالية للحوزة من
الوجوه الشرعية كافة على اساس نظام متقن،
يحرص على أن لا يتم الصرف إلاّ في أكثر
المجالات خدمة واداءً افضل للوظيفة،
وتحقيقاً لاعلى ما يمكن من أهداف في بقاع
العالم الاسلامي كافة.
7 ـ حل مشكلة تقليد الاعلم وتعيين
المرجع الاعلى للطائفة، والبحث في وسائل
الارتفاع النوعي والكمي بالفقه ليكون
مُشبعاً لحاجات العصر وظروفه.
وغير ذلك من الجهات الاساسية
والضرورية التي نرى ضرورة معالجتها في مؤتمر
تخصصي على مستوى العالم الشيعي، تنبثق عنه
مؤسسة متخصصة تقوم تحت اشراف المرجعية بتنفيذ
توصيات المؤتمر وقراراته، بشأن اخطر قضية
يعيشها المجتمع الشيعي اليوم وهي قضية
المرجعية.
(1)
سنن أبي داود 2: 312.
(2)
محسن الامين العاملي، اعيان الشيعة.
(3)
علي الخاقاني، شعراء الغري 10:82 ـ 86 .
(4)
محسن الامين العاملي، اعيان الشيعة 6: 54.
(5)
جعفر الخليلي، هكذا عرفتهم 2: 205.
(6)
مرتضى المطهري، الاجتهاد في الاسلام:56.
(7)
المصدر السابق: 57.
(8)
المصدر السابق: 54.
(9)
المصدر السابق: 55.
(10)
المصدر السابق: 56.
(11)
الامام الخميني، الحكومة الاسلامية: 30، انظر
كذلك كتاب البيع للامام الخميني 2: 489 ـ 495.
(12)
الامام الخميني، كتاب البيع 2: 406 ـ 410.
(13)
لمزيد من التفصيل حول النزعة الفردية واثرها
في الفقه الاسلامي يستحسن مراجعة مقال
الاتجاهات المستقبلية في حركة الاجتهاد. بقلم
الامام الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره).