شبهة ورد
* الشيخ عبد الكريم آل نجفورد إلينا هذا الردّ على الافكار التي
أثارها الاستاذ الدكتور محمد عمارة في موضوعه
المنشور على صفحات مجلة الوطن العربي في
عددها الصادر بتاريخ 15 / 11 / 1996م،
وللقيمة الموضوعية لهذا الردّ نقدمه لقرائنا
الكرام عملاً بمبدأ الحوار العلمي الهادف.
( التحرير )
مقدمة
الوحدة الاسلامية في المدرسةالامامية ليست شعاراً طارئاً، بل منهج
أصيل يتقوم بأسس عميقة الجذور في التفكير
الشيعي. وليت اخواننا أهل المذاهب الاربعة
يعلمون أن التقية التي كانت، ولازالت مورداً
للتهجم والتشنيع من قبلهم على اخوانهم
الامامية، لم يلحظ فيها الخوف من السلطان
الجائر فقط، وإنما لوحظ في مفهومها رعاية
وحدة المسلمين أيضاً، ولولا ذلك لما حكم
فقهاء الامامية وعلى رأسهم الامام الخميني(رحمه
الله)بصحة بل بوجوب الصلاة خلف امام جماعة
المسجد الحرام عند اداء مراسم الحج في مكة، مع
الحث على حضور هذه الجماعة التي لا خوف في عدم
حضورها، وعلى نهجه حكم الامام الخامنئي دام
ظله بنفس الحكم. وسنبقى نعمل بهذا المنهج في
مواجهة التحديات والمنزلقات التي قد تغري
الكثيرين بالتشتت والتشرذم وزرع الخلافات،
مع الحرص على تحويله إلى مبدأ متفق عليه بين
الجميع، وصولاً إلى وثيقة تفصيلية تعالج
الجزئيات في الفكر والسلوك، واسلوب العلاقة
بين المسلمين السنة والشيعة.
ومن معالم هذا المنهج تشجيع الحوار
الاخوي العلمي الملتزم بآداب الاخوة
الاسلامية; لان الحوار عملية من شأنها انضاج
الامة وارتقائها إلى المستوى المطلوب،
وتكريس الوحدة بين صفوفها، وتجسيد مظهر حضاري
متقدم يعكس الصورة الايجابية للامة
الاسلامية.
وقد وجدنا في الافكار التي اثارها
الاستاذ الدكتور محمد عمارة على صفحات مجلة
الوطن العربي، في عددها الصادر بتأريخ 15 / 11 /
1996م، مادة تتطلب الحوار والمناقشة، ولاجل
اكتمال الصورة اكثر وجدنا ضرورة الرجوع إلى
كتاب تيارات الفكر الاسلامي للدكتور عمارة،
الذي خصص فصلاً من فصوله للامامية الاثني
عشرية.
ولتيسير عملية الحوار عمدنا إلى فهرسة
افكار الدكتور عمارة وتصنيفها إلى خمسة محاور
هي:
آل البيت بين التعصب والاعتدال:
قال الدكتور عمارة في مجلة الوطنالعربي: «الحب لال البيت قاسم مشترك بين كل
المسلمين، لكنه عند اهل السنة حب معتدل، يحب
آل البيت ويتعاطف معهم، دون أن يتعصب لهم،
ودون أن يتعصب ضد غيرهم». وإن «المصريين
تعاطفوا معهم لانهم اضطهدوا، لكن دون أن
يتحول هذا التعاطف إلى الغلو الذي يجعلهم
معصومين، أو الذي يجعلهم يحتكرون الامامة
والخلافة والسلطة دون الامة».
وهنا نسأل الدكتور عمارة عن المعيار
المعتمد لديه في الحكم بالتعصب أو الاعتدال;
ذلك أن العقائد والنظريات تقاس بالادلة
والبراهين، فإذا استوفت ذلك كانت عقائد
ونظريات ذات شأن علمي، سواء قُبلت أو رفضت،
وإن لم تكن قائمة على اسس استدلالية
وبرهانية، اصبح تمسك اصحابها بها تعصباً
وانغلاقاً. ولذا كان على الدكتور عمارة أن
يكون علمياً في الحكم على الشيعة بالغلو
والتعصب، وأن يثبت عدم استناد الشيعة إلى
ادلة وبراهين حينما اعتقدوا بعصمة آل البيت
وامامتهم. وبما أنه لم يثبت ذلك، ولم يخض فيه،
فإن حكمه على الشيعة بالتعصب والغلو لا يستند
إلى اساس علمي.
والحقيقة أن الشيعة عندما اعتقدوا
بعصمة الائمة وامامتهم، كان ذلك منهم صدوراً
عن ادلة عقلية ونقلية كثيرة، بسطوها في كتبهم
الكلامية بما لا مزيد عليه.
وتراث الرواد الاوائل كالشيخ المفيد
والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والسيد
المرتضى، أشبع هذه المسألة بحثاً وتنقيحاً،
وبإمكان الباحث ـ بل من حقه ـ أن يخضع هذا
التراث للمناقشة العلمية، فيقبل ما ادى
الدليل إلى قبوله، ويرفض ما ادى الدليل إلى
رفضه، ولكن ليس بإمكانه القول بإن عصمة آل
البيت وامامتهم ناشئة عن الغلو والتعصب.
وإذا كانت المذاهب الاربعة قد اعتقدت
حجية مذهب الصحابي، وادخلت في مفهوم الصحابي
كل مسلم عايش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
ولو اياماً معدودات، وذلك في ضوء ادلة آمنت
بها، فلماذا لا يحق للامامية أن يعتقدوا
بعصمة آل البيت وامامتهم في ضوء ادلة ادت إلى
ذلك؟
ولماذا يوصم هذا الاعتقاد بالغلو
والتعصب، ولا يوصم القول بمذهب الصحابي بذلك؟
مع أن القولين متساوقان من الناحية
العملية إلى حدّ ما; فالمذاهب الاربعة تعمل
بمذهب الصحابي وتعتقد حجيته، والامامية تعمل
بمذهب الائمة وتعتقد حجيته، والفرق الوحيد هو
أن المذاهب الاربعة عملت على اساس حجية سيرة
الصحابي دون أن تسمي ذلك عصمة، لانها لا
تستطيع أن تثبتها، بينما قام المذهب الامامي
باثبات عصمة الائمة أولاً، وعمل بمذهبهم بعد
ذلك، وهو سلوك يحمل مواصفات علمية اكثر من
الاول، الذي جعل اقوال جماعة من الناس مصدراً
من مصادر التشريع، دون أن يثبت لهم مزية
تتناسب مع هذا الاعتبار. وأصبحت هذه الاقوال
قوة تشريعية في مصاف الكتاب والسنة، دون
اثبات سابق لتمتع هذه الاقوال بمكانة كافية
تجعلها بهذه المثابة، وتسمح لها أن تكون بهذه
الدرجة.
ولنا وقفة اخرى مع الدكتور عمارة، وهي
قوله: «الذي يجعلهم يحتكرون الامامة والخلافة
والسلطة دون الامة». وليت الدكتور عمارة تذكر
أن المذاهب الاربعة اشترطت القرشية في
الخليفة، وهذا يعني احتكار قريش للسلطة
الاسلامية دون باقي الامة، التي إن شاءت
الاختيار بين (الاحتكارين)، فمن الافضل لها أن
تختار (احتكار) ائمة معدودين على احتكار قبيلة
يتواصل نسلها جيلاً بعد جيل، (احتكار) اثني
عشر اماماً دلت نصوص السنة النبوية عليهم،
وأثبت التأريخ افضليتهم على من سواهم علماً
وعملاً، على احتكار قبيلة لم تبلغ هذه
المثابة في احسن أحوالها، (احتكار) سماوي يمتد
من الامام الاول إلى غيبة الامام الثاني عشر،
مدة قرنين ونصف تنجز فيها الامة دورتها
الحضارية الاولى في ظل عناية سماوية مركّزة،
فتكتسب بذلك قاعدة صلبة، وتدريباً كافياً
يؤهلها لخوض الدورات اللاحقة عند غيبة
المعصوم(عليه السلام) عنها. أن تختار هذا (الاحتكار)
إذا صح أن نصفه بذلك على احتكار قبلي يتصادم
مع مفاهيم الاسلام العالمية، ويكرّس العصبية.
ولذا فإن الدليل الذي اعتمدت عليه
المذاهب الاربعة في اشتراط القرشية، وهو قول
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الائمة من
قريش، يعد دليلاً لصالح الامامية; لانه يخبر
عن امامة الائمة الاثني عشر(عليهم السلام)،
ويعجز عن اثبات حكم نوعي بإمامة قبلية
متواصلة إلى نهاية التأريخ.
كما أن قول الدكتور عمارة: إن «المصريين
تعاطفوا معهم آل البيت لانهم اضطهدوا»
هو الاخر يحتاج إلى توقف; لان الله فرض على
المسلمين حب آل البيت. قال تعالى: (قل لا
أسألكم عليه اجراً إلاّ المودة في القربى)،
فهذا الحب من فرائض الدين، وليس من خصوصية
المظلومية.
نظرية الامامة:
قال الاستاذ عمارة في المجلة المذكورة:«ليس هناك في الفقه ما يمثل نقطة خلاف جوهرية
وأساسية بين السنة والشيعة» و «نحن عندنا في
مصر نأخذ ببعض احكامه... والفتوى التي صدرت من
المرحوم الامام الاكبر الشيخ شلتوت... كانت
خاصة بالمذهب الجعفري، وليست خاصة بنظرية
الامامة عند الشيعة...» وإن «نقطة الخلاف
الوحيدة بين السنة والشيعة هي قضية الامامة»
وإن الشيعة «بدلاً من أن يقيسوا منصب الامامة
كما صنع أهل السنة على الولاية والولاة،
قاسوا منصب الامامة على النبوة والرسالة،
فجعلوا الائمة معصومين كما أن الرسل معصومون،
وجعلوهم المرجع للشريعة دون الامة، وجعلوهم
هم الحجة دون الامة» و «تعصب الشيعة لائمتهم
جعلهم يشقون صف الامة» و «قد زاد من تعقيد هذا
الانقسام أنهم جعلوا الامامة اصلاً من اصول
العقائد، وهذه قضية خطيرة... لان الامامة في
نظر اهل السنة هي جزء من السياسة. واهل السنة
جميعاً متفقون على أن الامامة والسياسة ليستا
من امهات العقائد، وليستا من اصول العقائد،
وليستا من اركان الاسلام، إنما هما من
الفروع، والخلاف حول الفروع معاييره الخطأ
والصواب، والنفع والضرر، بينما الخلاف في
الاصول معاييره الكفر والايمان» و «طالما
أنهم وضعوا الامامة من اصول العقائد، فلابد
وأن يكفّروا خصومهم» و «إذا شئنا حلاً لهذه
المشكلة فعلى الاثني عشرية أن يصنعوا ما صنع
الزيدية. الزيدية شيعة لكنهم لم يجعلوا
الامامة اصلاً من اصول الاعتقاد، ومن هنا
الخلاف. قالوا: الصحابة تأولوا فأخطأوا... اذن
كل هذه الانشقاقات والشقاقات والخلافات
الجذرية والعميقة هي ثمرة لجعلهم الامامة
شأناً من شؤون السماء».
وقال في كتابه: «إن صبغ هذه الخلافات
السياسية بصبغة الدين... هو السر في جعلها أي
جعل نظرية الامامة الصخرة التي لازالت تتحطم
عليها وحدة المسلمين، منذ تبلور الشيعة كفرقة
وحتى هذا العصر الذي نعيش فيه»(1)
و «تلك هي عقائد الشيعة الاثني عشرية في
الامامة، فكر مرفوض ممن عداهم كان ولا يزال
سبب انقسام امة الاسلام الامر الذي يجعل
انظار الحريصين على وحدة الامة الاسلامية
تتركز حول مبحث الامامة، على امل أن تطوير هذا
المبحث من منطلق النظرة النقدية للتراث، وفي
ضوء منطق العصر، ومصلحة الامة كفيل بأن يجد
تأويلاً يرضى عنه كل الفرقاء...»(2).
وهنا عدة نقاط متداخلة مع بعضها،
وكلها تحتاج إلى تعليق وتهميش:
1 ـ إن مسألة فصل المذهب الفقهي عن
منطلقاته النظرية الاساسية امر لا يمكن تصوره;
فنظرية الامامة تشكل جذراً حيوياً للفقه
الجعفري، وعلى اساس ذلك دخلت سنة الائمة في
اصول الفقه الامامي ضمن مفهوم السنة التي تعد
المصدر الثاني للتشريع الاسلامي، والتي
تعنون في اصول الفقه الامامي بعنوان (سنة
المعصوم) لتشمل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
والائمة معاً. والفصل بين المذهب الجعفري
ونظرية الامامة يمكن تصوره في حدود الاخذ
بمرويات الائمة عن النبي(صلى الله عليه وآله
وسلم)، باعتبارهم سلسلة رواة عدول عنه(صلى
الله عليه وآله وسلم). ولكن مع ذلك لا يسمى هذا
فصلاً بين الامرين; لان مرويات الائمة لا
علاقة لها بنظرية الامامة. وهكذا تستحكم
استحالة الفصل بينهما، خاصة وأن الفقه يفرز
احكامه بصورة نتائج نهائية، وقد تكون هذه
النتائج مستنبطة من ادلة متنوعة ومتساندة،
وكثيراً ما يكون الدليل عليها ـ في الفقه
الجعفري ـ هو سنة الامام، فهل يصح في مثل هذه
الحالة التفكيك بين سنة الامام ونظرية
الامامة؟
وليس الامر خاصاً بالمذهب الجعفري، بل
يعم كل مذهب آخر. وكذلك النظم الوضعية لا
يمكننا الاخذ بسياقاتها القانونية ما لم
نسلّم بالمبادئ الاولية التي انطلقت منها،
وفي مقدمتها العلمانية. ونحن في ذلك لا ندعو
إلى تعميق الخلافات الفقهية، ولا نريد مصادرة
المبادرات الايجابية على صعيد الوحدة
الفقهية بين المسلمين، وإنما نريد أن نبحث عن
اسس اكثر واقعية وعلمية لهذه الوحدة; لكي لا
تكون هذه الوحدة شعاراً عاطفياً عابراً،
وإنما منهجاً علمياً مستقراً.
2 ـ إن كون الامامة مسألة فقهية ام
عقائدية، من فروع الدين ام من اصوله، امر
تخصصي محض، يناقش استدلالياً في بحث سجالي
كلامي أو فقهي، على الخلاف الدائر فيه بين
الشيعة والسنة. ومن الضروري لمن يريد الخوض
فيه أن يستحضر ادلة الطرفين، وما قاله اعلام
الفريقين، فينقّح ويناقش ويعالج الاراء; حتى
يخلص إلى النتيجة النهائية في ضوء بيانات
استدلالية كافية. لكننا وجدنا الدكتور عمارة
يختار رأي المدرسة السنية، ويهاجم رأي
المدرسة الامامية دون أن يكلّف نفسه خوض غمار
هذا البحث، ولا الاشارة إلى بعض جوانبه، كما
هو النهج العلمي.
ويبدو أن الدكتور عمارة قد أحس بهذه
المفارقة، فعطف في لقائه الصحفي على القول
إنه ناقش في رسالته للدكتوراه «الاسلام
وفلسفة الحكم» كل تلك الحجج والاراء. ولكن هل
تحقق هذه الاحالة الغرض العلمي الذي لابد من
توفيره للقارئ، ولو بالحد الادنى في مثل هذه
المواطن؟
وبسبب تلك الاثارة المبتسرة اصبح
لزوماً الاشارة إلى بعض ما يُستدل به لصالح
رأي الامامية في المسالة. من ذلك قوله تعالى: (اطيعوا
الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم)(3)،
فجُعلت ولاية الامر من توابع الرسالة، وصدر
حكم بطاعتهما معاً، وجعلت طاعتهما معاً عدلاً
لطاعة الله سبحانه وتعالى، ففهم من ذلك أن
الامامة تقاس على مقام النبوة والرسالة،
وتكون من لواحقه(4).
ولم لا تقاس الامامة على النبوة بعد أن
كانت وظيفتها من وجهة النظر الشيعية الاثني
عشرية امتداداً لوظيفة النبي(صلى الله عليه
وآله وسلم)، والقيام بكل ما كان يقوم به النبي(صلى
الله عليه وآله وسلم) مع فارق انتفاء النبوة
وانقطاع الوحي؟
وهل من الصحيح أن يقال إن وظيفة كهذه
تتجانس مع وظائف الولاة، ولا تتجانس مع وظائف
النبوة من زاوية حفظ الرسالة وبيانها وولاية
المسلمين؟
ولعل المشكلة الاساسية أن الدكتور
عمارة نظر إلى الامامة بمفهومها السني، الذي
يجعلها منصبا تنفيذيا وادارياً، ولم ينظر إلى
المفهوم الشيعي الذي يرى أنها امتداد للنبوة
بعد نقطاع الوحي.
3 ـ ولو أن الدكتور عمارة اكتفى
بالاشارة إلى الرأي الذي يختاره في المسألة،
لكان الامر هيناً، لكنه حاول أن يحمّل
النظرية الشيعية تبعات الانشقاق في الامة، ثم
اسدى النصيحة للشيعة الاثني عشرية بأن
يختاروا ما اختارته الشيعة الزيدية، من القول
بأن الامامة من الفروع لا الاصول.
ولا ندري هل يلتزم الدكتور عمارة
دائماً هذه الطريقة في معالجة الامور
العلمية؟
فيحمل كل صاحب رأي مسؤولية مخالفة من
يخالفه. ونحن الان نخالفه فيما يقول، فهل هو
مستعد لتحمل مسؤولية مخالفتنا له؟ وهل هذا
السلوك عرفي؟
وسيأتي أن الدكتور عمارة من المنظّرين
للتعددية والداعين لها، فهل ينسجم هذا الموقف
مع القول بالتعددية؟
إن حدوث الانشقاقات وتصدع جدار الوحدة
الاسلامية، مسؤولية تقع على عاتق الذين لا
يرعون حرمة الرسالة والامة. وقد اثبت التأريخ
أن الامامية يمثلون طليعة الوحدة الاسلامية،
وإذا استكثر البعض ذلك فضيق المجال لا يسمح
لنا بتوثيق اكثر مما ذكر آنفاً، من أن التقية
التي اتخذت سبباً للهجوم على التشيع ورمي
الشيعة بالنفاق، قد لوحظ في مفهومها حفظ
الوحدة الاسلامية، والحيلولة دون تصدع كيان
يحمل شعار الاسلام واسمه، إلى جانب الحذر من
بطش الظالمين. وهذا القدر من الاستشهاد يكفي
المنصف، وعلى الذي يريد التفصيل مراجعة تاريخ
الائمة وعلماء مدرسة اهل البيت(عليهم السلام)،
منذ الامام علي(عليه السلام) وحتى السيد
الخميني(رضي الله عنه).
ويبدو أن النقطة التي دفعت الدكتور
عمارة إلى تحميل نظرية الامامة مسؤولية
الانشقاقات الحاصلة في الامة، هي ما اعتقده
من أن عدّ الامامة من الاصول يؤدي بالشيعة إلى
تكفير خصومهم، فـ «طالما أنهم وضعوا الامامة
من اصول العقائد فلابد وأن يكفروا خصومهم» ، «وإذا
شئنا حلاً لهذه المشكلة فعلى الاثني عشرية أن
يصنعوا ما صنع الزيدية». ولا ادري من اين
استمد الدكتور عمارة هذه الحتمية؟ فهذه
الرسائل العملية لفقهائنا ومراجعنا القدماء
والمحدثين، ليس فيها نص على كفر غير الشيعة.
وكان اجدر به أن يتثبت في افكاره وتحليلاته
قبل أن يسطرها على الورق، وينشرها في كتاب أو
مجلة، خاصة وأنه يتحدث عن طائفة اسلامية
كبيرة، ذات تراث وتاريخ وكيان سياسي يملا سمع
الدنيا وبصرها، وما أيسر أن يطلب مصدراً
فقهيا من تراثها الفقهي، ليتأكد من صدق
الحتمية التي تصورها! وكيف تُعقل هذه الحتمية
وأعلام المذهب الامامي كانوا ولا زالوا،
ينادون إلى الوحدة الاسلامية بكرة وعشياً؟
فهل تسمى الوحدة مع الكفار وحدة
اسلامية؟
ولاجلاء الموقف اكثر لابد من القول: إن
وجوب الامامة امر اجمعت عليه الامة الاسلامية
قديماً وحديثاً، سوى بعض الشواذ الذين لا
يعتدّ بخلافهم. وما وقع من الخلاف في امر
الامامة كان في الخصوصيات، وفي الافراد الذين
يستحقون او لا يستحقون الامامة. فلم يقع خلاف
في اصل الامامة حتى يؤدي إلى التكفير، وانكار
هذا الاصل يؤدي إلى الكفر، سواء جعلنا
الامامة من الاصول أو الفروع; لانه إن كان من
الاصول فإنكاره يخل بالايمان، ويؤدي إلى
الكفر، وإن كان من الفروع فإنكاره انكار
لضروري من ضروريات الدين والشريعة، واجماع
المسلمين قائم على أن إنكار الضروريات يؤدي
إلى الكفر، وهذا منها، ولذا حكم الازهر بكفر
علي عبد الرازق حينما انكر وجود نظام حكم في
الاسلام.
فالتكفير لا ينشأ من انكار الاصول
فقط، فقد ينشأ من انكار الضروريات التشريعية
التي حظيت بوضوح مطلق واجماع اسلامي تام،
كحرمة الربا، ووجوب الزكاة، ولزوم الامامة في
محيط المسلمين.
كما أن نصيحة الدكتور عمارة للامامية
بأن يأخذوا بمقالة الزيدية، لا نجد لها
مبرراً علمياً; فالدين يؤخذ بالادلة
والبراهين، ولا يؤخذ بالانتقاء والتلفيق
والنصائح الوجدانية.
حكاية التبشير الشيعي
قال الدكتور محمد عمارة في مجلة الوطنالعربي: «يجب أن لا نجعل التناقضات الداخلية
اعلى واقوى من التناقضات الخارجية بيننا وبين
اعداء هذه الامة. هذه نظرتي لوحدة الامة، لكن
يقلقني أن يأتي الشيعة ليبشرونا بمذهبهم،
ويزرعونه في قلب المجتمعات السنية، بنفس
القدر الذي يقلقني أن يأتي نفر من اهل السنة
ليزرع مذهب اهل السنة في المجتمعات الشيعية.
لماذا؟ لاننا امة في حاجة إلى وحدة المجتمع،
فنحن نشكو من الخلل والتناقضات الطائفية التي
تصاب بها بعض مجتمعاتنا... إذن ثقافة المجتمع
ومذهب المجتمع تمثلان عنصراً اساسياً لوحدة
الامة، ولاطمئنان الامة، ولنفي الطائفية
والتخلخل عن هذه المجتمعات... الشيعة يزرعون
مذهب الامامة والتشيع داخل مجتمعات سنية أنعم
الله عليها بالوحدة المذهبية، فهم يخلخلون
وحدة المذهب، ويصنعون القلق الطائفي..». «وإذا
جاء الشيعة لزرع التشيع في المجتمع المصري أو
في المجتمعات السنية بشكل عام، هم ينظرون
نظرة قصيرة المدى ولا ينظرون لابعد من
اقدامهم، ويفرحون لانهم يجنّدون بعض الشباب،
لكنهم لا يدركون أن هذا يخلخل وحدة المذهب،
وحدة الثقافة، وحدة الامة». «لانه إذا كان
لدينا جهد دعوي، ولديهم جهد دعوي، لنذهب
جميعاً إلى المجتمعات الوثنية وإلى غير
المسلمين; لبذل الجهد لادخال الناس في
الاسلام». «علينا أن نحاور بالفكر، ولكن
علينا أن نحذر من الاقتراب من خلخلة الوحدة في
المجتمعات السنية أو المجتمعات الشيعية».
«هذه رؤيتي لقضية الفكر الشيعي، وقضية
الممارسات الرعناء التي يمارسها بعض الناس في
المجتمعات السنية». «ما هو مبرر هذه الخديعة؟
هل هو حب آل البيت؟ إن كل السنة يحبون آل البيت».
وهنا عدة نقاط لابد من التوقف عندها:
1 ـ استعمل الاستاذ عمارة مصطلح
التبشير واضافه إلى الشيعة، وهو استعمال في
غير محله; لان التبشير مفهوم مسيحي مستمد من
فكرة البشارة بالمسيح المخلّص، والدكتور
عمارة اكثر ادراكاً من غيره لمكانة المصطلحات
في العقائد والايديولوجيات، وخطورة استعارة
مصطلح ما من عقيدة معينة واستعمالها في نطاق
عقيدة اخرى، فمصطلح التبشير المستمد من فكرة
مسيحية إذا استعاره المسلم واستخدمه في
اغراضه الفكرية، أوحى للقارئ بأن تلك الفكرة
المسيحية تمثل عنصراً مشتركاً بين الاسلام
والمسيحية، وهو ايحاء كاذب ومضرّ بالذهنية
الاسلامية. وكذلك الامر في امثال (الديمقراطية
الاسلامية) و (القومية الاسلامية).
2 ـ إننا ننظر إلى الدكتور عمارة
مفكراً مسلماً له نتاجاته الفكرية المتعددة
والمعروفة، ولذا يتوقع منه أن يصون حريم
الفكر من التحول الى آلة مسخّرة لحل ازمة
سياسية وقتية، يعاني منها نظام حكم معين
وحاكم ما، فما اذاعته وسائل الاعلام المصرية
من وجود نشاط ودعاية شيعية في مصر، يعبر عن
ازمة سياسية عابرة تمر بها الحكومة المصرية،
وإذا شاء المفكر أن يساهم في حل ازمة كهذه
فليستخدم ادوات سياسية، ويصون ادوات الفكر عن
الانزلاق في مثل هذه المنزلقات، خاصة وأن
الحكم المصري معروف بسياسة التحذير من
الطائفية كلما مرّ بمأزق داخلي حاد، فهو يريد
قمع الحل الاسلامي تحت ذريعة وجود أقباط في
مصر يرفضون هذا الحل تارة، وتحت ذريعة وجود
دعاية شيعية، بما يعني أن الحل الاسلامي
يستبطن الصراع المذهبي، أو أنه سيؤدي إلى
انتشار التشيع في مصر تارة أخرى.
3 ـ إننا مع الدكتور عمارة في ضرورة
ادّخار الجهود والامكانات لصالح الدعوة
الاسلامية في المجتمعات غير الاسلامية، خاصة
وأن استعدادات الانسان الحديث للدخول في
الاسلام اصبحت بأفضل مستوى، ومعه أيضاً في
ضرورة فتح باب الحوار الفكري الاخوي داخل
المجتمع الاسلامي.
إننا ننتظر من الدكتور عمارة باعتباره
مفكراً مسلماً أن يكون مع الفكر والحوار
الفكري، وضد من يريدون قمعه، خاصة وأنه يدعو
للتعددية، وينظّر لها إلى حدود اوسع مما يقبل
به الاسلام، فقد قال لمجلة الوطن العربي ما
نصه: «الامة الاسلامية تقوم على التعددية في
الملل، بمعنى أنه في معية الامة هناك نصارى
وهناك مسلمون، والمسلمون بعد الفتح ادخلوا
البوذيين وادخلوا المجوس ضمن اهل الكتاب...
إذن في اطار الامة يكون هناك جزء من هذه الامة
يقول إن الله ثالث ثلاثة، وجزء يقول إن عزير
ابن الله. اذن حتى التكفير والكفر لا يخرج
هؤلاء الفرقاء من اطار الامة».
ولا ندري لماذا يسوق الدكتور عمارة
كلامه في مفاهيم حساسة دون دليل أو برهان؟
ومن أي مصدر استوحى مفهومه هذا عن
الامة؟
فحينما يقول القرآن (كنتم خير امة
اخرجت للناس) فهل المقصود بالامة هنا المجموع
البشري المكون من المسلمين وغيرهم؟ وحينما
يورد الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)
في عشرات الاحاديث كلمة «أمتي» ومنها الحديث
المعروف «رفع عن امتي الخطأ».. وغيره، فهل
غرضه من الامة هنا ما يعم المسلمين وغيرهم؟
إن من المقطوع به لدى علماء المسلمين
قديماً وحديثاً أن الامة الاسلامية هي
الجماعة الناطقة بالشهادتين، ويعبر عنها
بأهل القبلة احياناً، واهل الكتاب لا يدخلون
في عنوان الامة، بل هم جماعة تعيش في ذمة
الامة الاسلامية، اي تحت حمايتها، فهم من
رعايا الدولة الاسلامية وليسوا جزءاً من
الامة الاسلامية; بدليل أنهم إذا اخلوا
بشرائط الذمة ألزموا بها وقوتلوا عليها، فهل
يصدق مفهوم الامة الاسلامية على فئة بهذا
الوصف؟
والمحاولة التي قام بها في دراسة له
منشورة في مجلة الجامعة الاسلامية، لاثبات
التعددية الدينية في الامة الاسلامية من خلال
صحيفة المدينة، محاولة غير موفقة; فقد كتب
معلقاً على بعض بنود الصحيفة الشريفة: «ففي
اطار جامع الامة الواحدة والدولة الواحدة ذات
المرجعية الواحدة، تعددت الانتماءات القبلية
والدينية، ونظم الدستور علاقات فرقاء هذا
الانتماء»(5).
مع أن النصوص التي ذكرها لا تساعد على
هذا الاستدلال; فقد كتب الرسول الاعظم(صلى
الله عليه وآله وسلم) في صحيفة المدينة: «بسم
الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد بن عبد
الله النبي نبي المسلمين والمؤمنين من قريش
ويثرب، ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، أنهم
امة واحدة من دون الناس»، فهل هناك عبارة اوضح
من هذه دلالة على أن مفهوم الامة الاسلامية
خاص بالمسلمين «من دون الناس». أما قوله(صلى
الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك: «وأن يهود بني
عوف امة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين
دينهم»(6)،
فهو يؤكد ذلك المعنى ولا ينفيه; لان النبي(صلى
الله عليه وآله وسلم) وصف اليهود بأنهم امة مع
المؤمنين، أي إنهم امة غير امة المؤمنين،
ومعنى المعية الذمة، أي إن اليهود يعيشون تحت
حماية الدولة الاسلامية، وبجوار امة
المسلمين، ولا يدخلون في عنوان هذه الامة;
لانها خاصة بالمسلمين «من دون الناس» على حد
تعبير الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).
فلنا أن نقول: إن الانتماءات الدينية
تعددت في اطار الدولة الاسلامية; لان من وظيفة
الدولة أن ترعى شؤون المسلمين ومن بذمتهم،
كما هي وظيفة الاب أن يرعى شؤون الاسرة ومن
يدخل ضيفاً عليها، لكن ذلك لا يعني أن الضيف
يدخل في مفهوم الاسرة أو يعد عضواً فيها. إن
الامة الاسلامية لا تقوم على التعددية، وإنما
تقوم على التوحيد، وإن ادخال اهل الكتاب في
مفهوم الامة الاسلامية يؤدي إلى حذف الرسول
الاعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) مؤسساً لها،
وحينئذ من سيكون المؤسس للامة الجديدة
المكونة من مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي ومجوسي؟
إن التاريخ لم يعرف امة كهذه منذ وجد وحتى
الان.
ولكننا نعود وننقض على الدكتور عمارة
ونقول: إذا كانت التعددية بهذه السعة، فلماذا
هذا التضايق من التشيع.
حب آل البيت والثورية والاجتهاد قوام
التشيع:
وفي سياق التضايق من تشيع بعضالمصريين، حاول الدكتور عمارة أن يردّ على ما
تصوره اسباباً مزعومة يتمسك بها هؤلاء
المتشيعين لاهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله
وسلم) لتبرير سلوكهم، فقال لمجلة الوطن
العربي: «وأنا أقول: إن بعض هؤلاء الشباب
الذين يخدعون. ما هو مبرر هذه الخديعة؟ هل هو
حب آل البيت؟ إن كل السنة يحبون آل البيت». «يزعمون
خاصة بعد الثورة الايرانية أن الفكر الشيعي
فكر ثوري، وأنه تصدى لنظم الجور والطغيان على
مر التاريخ. واقول: إن هذا وهم، وهذه اكذوبة.
الشيعة منذ جعفر الصادق امتنعوا عن الثورة...
ورضوا بكل النظم الحاكمة... والذي كان يعارض
ويناقش و... و... الخ، كان من علماء السنة... ففكر
الاثني عشرية ظل بعيداً عن السياسة إلى أن جاء
الشيرازي سنة 1920، ثم جاء بعد ذلك الخميني...
فأين هي الثورية؟» «ثم قضية أن المذهب الشيعي
فيه باب الاجتهاد مفتوح على عكس مذهب السنة،
اقول: إن هذا وهم... صحيح لم يغلق باب الاجتهاد،
لكن اين هو الاجتهاد؟ إذا كنت امام عقل يقول
إن الامام قد غاب، وإنه حي، وإنه مازال
منتظراً، وإننا ننتظره، فأين هو العقل
والعقلانية؟ واين هو الاجتهاد؟ ... وهل
الاجتهاد في فروع الفقه هو الاجتهاد؟ ... إنما
القضية التي في الاجتهاد هي الاجتهاد في
المعاملات وفي الامور العامة وفي شؤون الدولة...
هذا هو الذي تعطل فيه الاجتهاد، والشيعة ليس
لهم في هذا الميدان اجتهاد... الشيعة صفر في
هذا الميدان لانهم يعلقون الفكر فيه على
الامام الغائب... أما في فروع الفقه فأين هي
الاجتهادات المتميزة في المذهب الجعفري،
التي ليس لها نظائر في مذاهب السنة الاربعة؟...».
«ابن تيمية كان يحمل السيف ويجاهد ويكتب في
السياسة والشرعية... من الذي يقول إن هذا غير
مجتهد، وإن هذا لا يشتغل بالسياسة، وإن هذا
غير ثوري؟».
وهكذا وقع هؤلاء الشباب في خديعة
مكونة من ثلاثة اوهام هي ـ في تصور الاستاذ
عمارة ـ عبارة عن:
1 ـ توهم اختصاص الشيعة بحب آل البيت.
2 ـ توهم الثورية في التشيع.
3 ـ توهم الاجتهاد في التشيع.
أما الوهم الاول فنحن لا ننكر أن عامة
المسلمين يحبون آل البيت(عليهم السلام)، وأن
اظهار العاطفة ازاء البيت النبوي ليس خصيصة
شيعية، ولكننا نميز بين نوعين من الحب، الاول
يقتصر على اظهار العاطفة، والثاني يتجاوز ذلك
إلى ترتيب الاثار والمواقف، فيقف إلى جانب
البيت النبوي عندما يُضطهد، ويتبرأ ممن يعتدي
عليه، ويرعى مكانة آل البيت المعنوية. النوع
الاول هو النوع العام بين المسلمين، والنوع
الثاني هو الذي تختص الشيعة به ويحقق الحب
بمعناه التام.
ومن الواضح أن القرآن حينما يطالب
بمودة أهل البيت: (قل لا أسألكم عليه اجراً
إلاّ المودة في القربى) فإنه لا يقصد اظهار
العاطفة فقط. ولذا يتبرأ الشيعة من الامويين
والعباسيين لانهم ظلموا آل البيت، بينما لا
يقف باقي المسلمين هذا الموقف. الشيعة يحفظون
مكان الصدارة لال البيت بما هم امتداد للنبي(صلى
الله عليه وآله وسلم) في سنته الشريفة، وفي
ولايته على المسلمين، وغيرهم لا يرون ذلك ولا
يلتزمون بلوازمه.
فالوهم الاول ليس وهماً كما يقول
الدكتور عمارة أما الوهم الثاني، فإن من
مبادئ التشيع الاساسية مناهضة السلطان
الجائر، ونحن لا ننكر وجود علماء من المذاهب
الاربعة كان لهم قسط وافر من الجهاد، ولكننا
نشير إلى وجود تركة فقهية في هذه المذاهب تبرر
للظالم افعاله، وترى لزوم السكوت عنه، وتروي
في توجيه ذلك روايات عن النبي(صلى الله عليه
وآله وسلم)، ما أنزل الله بها من سلطان.
وهذه التركة ليست نظيراً لمبدأ التقية
المقرر في المذهب الجعفري; لان التقية لا
تساوي المهادنة، وهي تعني الاحتفاظ بالمخزون
الثوري للّحظة المناسبة، بينما تؤدي
المهادنة إلى هدر هذا المخزون المكون من
مشاعر السخط ضد الظالم وافعاله، وترى عدم
مشروعيته. التقية تعني تكريس رفض الظلم اكثر;
لانها تأجيل للمواجهة المسلحة بانتظار
الفرصة المواتية، ومن ثم فهي تعمل لمواصلة
روحية الفعل الثوري مدة اطول. فهناك روحية
ثورية تتحين الفرص لانجاز الفعل الثوري في
الوقت الذي تراه مناسباً، وهذا يعني إشاعة
روحية الثورة وحفظ المخزون الثوري. فالتقية
ثورة بالقوة تنتظر الفرصة المناسبة للتحول
إلى ثورة بالفعل.
وهكذا فالتقية معلم من معالم ثورية
التشيع، ولو لم يكن التشيع ثورياً دائماً
بهذا المعنى أو ذاك من معاني الثورية، فلماذا
يتعرض أئمة أهل البيت(عليهم السلام) إلى القتل
والسجن والاقامة الجبرية ويسقون السم واحداً
بعد الاخر؟
ولماذا يقتل كل من ينتسب إلى علي بن
ابي طالب(عليه السلام)، أو يتشيع له، ومراجعة
تاريخية أمينة لما عرف بمقاتل الطالبيين
كافية لاثبات ذلك.
كما أن علماء الشيعة لم يعرف عنهم
السير في ركاب الحكام والسلاطين، وهذا لا
يعني عدم وجود علاقة بين الطرفين احياناً وفق
متقتضيات المصلحة الاسلامية العليا، ففي زمن
الدولتين الصفوية والقاجارية كانت هناك
علائق بين العلماء والحكام، ولكنها ليست
قائمة على اساس تبرير افعال الظالمين والسير
في ركابهم، وإنما قائمة على اساس تابعية
الحكام للعلماء، وتحاشي الاصطدام معهم،
والاستعداد لتنفيذ طلباتهم. فكان العلماء قوة
مؤثرة يخشاها الحاكم ويعمل لارضائها، ولم
يكونوا من نوع وعاظ السلاطين. وبمجرد أن خرج
الحاكم عن اشارة العلماء، وقرر اعطاء
امتيازات اقتصادية لشركة انجليزية في ايران،
وجدنا الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي يقرر
بدون تردد اعلان الثورة ضده، فكانت ثورة
التنباك التي كانت ولا زالت من اعاجيب
التأريخ، فأرغم الشاه على الغاء ذلك القرار،
والتنازل لرأي المرجعية الدينية. وعندما
أحسّت المرجعية الدينية بضرورة احداث تغيير
في بنية النظام السياسي، بحيث يكون دستورياً
قائما على الشورى، خاضت من اجل ذلك ثورة
الدستور، وايدت الحركة الدستورية التركية.
وعندما وقعت ليبيا تحت الاحتلال الايطالي
اصدرت المرجعية فتوى بالجهاد من اجل تحريرها.
وعندما قامت الحرب العالمية الثانية واحتل
الانجليز العراق، افتى العلماء بالجهاد
وحملوا البنادق في مقدمة الجبهات، وتناسوا
اساءة الدولة العثمانية لهم، وسوابقها
القديمة في الافتاء بقتل الشيعة واستباحة
دمائهم ونسائهم، فوقفوا إلى جانب الدولة
العثمانية ضد الغزو الكافر. وفي عام 1920م كروا
إلى الثورة والجهاد ضد الانجليز مرة ثانية،
كما قاوموا انظمة الحكم العميلة العلمانية،
حتى اسفرت المقاومة اخيراً عن قيام الثورة
الاسلامية في ايران وتأسيس الجمهورية
الاسلامية. فهل يصح أن نقول إن الشيعة منذ
جعفر الصادق امتنعوا عن الثورة، ورضوا بكل
النظم الحاكمة إلى أن جاء الشيرازي سنة 1920م
وبعده الخميني؟ وإن ثورية التشيع وهم؟
إن التشيع يستمد الثورية من جملة
خصائص كامنة فيه، وهي:
1 ـ ثورة الامام الحسين(عليه السلام)
التي يستلهمها الشيعة نوعاً من التربية، من
خلال اقامة الشعائر والمراسم الحسينية
سنوياً، بل من خلال ذكر الحسين(عليه السلام)عند
كل مصيبة ومأساة تحل بالمسلمين.
2 ـ الارتباط الروحي بثورة الامام
المهدي(عليه السلام) العالمية الموعودة،
واعداد النفس لتكون من جنده.
3 ـ الانفصال عن الظالمين وعدم السير
في ركابهم، وتكريس ذلك من خلال مبدأ التولي
والتبرؤ، تولي آل البيت(عليهم السلام)
والتبرؤ من اعدائهم.
4 ـ التقية التي تعمل على اختزان
الثورة وحفظها في كوامن النفوس.
5 ـ استشهاد الائمة واحداً بعد آخر،
وتأريخهم الجهادي الذي لم يسمح بوفاة طبيعية
لاحد منهم بصورة كرست قدسية الشهادة، وجعلتها
نوعاً من التربية على الجهاد والتحدي.
أما الوهم الثالث، فالذي يفهم من كلام
الدكتور عمارة أن الفقه الشيعي صفر في مجال
الحكم والدولة; لان فكرة الامام الغائب عطلت
هذا المجال، وأنه يخلو من الامتياز في مستواه
الفردي، وهذا يعني أن الاجتهاد الشيعي اسم
بلا مسمىً.
هذه خلاصة رؤية الدكتور عمارة
للاجتهاد الشيعي الذي اعتبره وهماً ثالثاً،
والحقيقة أن الفقه السياسي الاسلامي بكلا
شقيه السني والشيعي، قد عانى من ازمة حقيقية،
ازمة الفقه السني أنه صاغ نظرياته في حقل
الدولة والخلافة في ضوء الواقع الذي كان
قائماً في القرن الهجري الثاني وما بعده. ومن
معالم هذه الازمة اعطاء الشرعية لما سُمي بـ «امامة
التغلب»، و«لولاية العهد»، وللبيعة المتحققة
بمبايعة ثلاثة اشخاص. فهذه العناوين دخلت
الفقه السياسي السني بدون دليل من كتاب أو
سنة، بل اعتبرت وقائع الحكم الاموي والعباسي
بمثابة الدليل عليها، بل إن بعضها جاء مصادرة
لما اعتبر في الفقه السني قاعدة اساسية
مستمدة من القرآن العزيز.
فإذا جازت ولاية العهد فما أيسر أن يجد
ولي العهد المبايعين له لتكون خلافته شرعية
بعد وفاة ابيه؟ وهل يعجز يزيد بن معاوية عن
تحصيل ثلاثة مبايعين لتكون خلافته شرعية؟ وفي
ذلك تغييب للشورى ولدور أهل الحل والعقد من
الامة.
وأزمة الفقه الامامي تتمثل في أن
تمادي عصور الظلم والاضطهاد، جعلت الفقيه
الامامي ينظر إلى الفقه السياسي أنه فقه لا
ميدان له، ولا ابتلاء به. ولذا نشط فقه
المقاومة والتقية، وغاب فقه الدولة والحكم
وهذا لا يعني عدم وجود اصول للفقه السياسي
ولفقه الحكم والدولة في سنة أهل البيت(عليهم
السلام). فالمسؤولية لا تقع على عاتق فكرة
الامام الغائب، وإنما على عاتق ازمنة الجور
والطغيان. ومع ذلك ينبغي التنبه إلى أن كتمان
فقه الدولة في المدرسة الامامية، لا يعني
انعدام امكانية الظهور في اللحظة المناسبة،
وعندما يكون الامر مطلوباً، بل إن هذه
الامكانية موجودة، وبإمكان الفقيه الامامي
في اللحظة التاريخية المناسبة أن يستنبط
النظرية المطلوبة في الحكم والدولة. ومثالاً
على ذلك نجد أن فكرة نيابة المجتهد عن المعصوم
فكرة مبثوثة في نصوص الائمة(عليهم السلام)،
والمتون الفقهية القديمة. وعندما اتيح للشيعة
أن يتنسموا قدراً من الحرية، ويمارسوا نوعاً
من النفوذ في الدولة، تبلورت هذه الفكرة
اكثر، واخذت تشغل حيزاً ملموساً في الواقع
السياسي، واخذت تظهر نواة لنظرية شيعية في
الحكم والدولة، وذلك في زمن المحقق الكركي،
الذي اعترف له الشاه طهماسب بحقه في الحكم،
وأنه ـ اي الشاه ـ يستمد الشرعية منه. وبعد ذلك
ظهر مبدأ ولاية الفقيه العامة على يد الشيخ
احمد النراقي. وإبان الحركة الدستورية وضع
الشيخ محمد حسين النائيني كتابه الشهير «تنبيه
الامة وتنزيه الملّة»، لاثبات مشروعية هذه
الحركة. ومطلوبية الحكم الدستوري الشوروي
انطلاقا من فكرة ولاية الفقيه، التي بلغت
اعلى مراحل تطورها على يد الامام الخميني(رضي
الله عنه).
وهكذا فإن فكرة الامام الغائب لا تشكل
إلغاءً لفقه الدولة، وإن الفقه الامامي ليس
صفراً في هذا الميدان كما يقول الدكتور
عمارة، بل إن هذه الفكرة تعد الاساس لمعالجة
قضايا الحكم والدولة.
أما مسألة الامتيازات على صعيد الفقه
الفردي الشيعي، فتلك مسألة تخصصية لابد من
بحثها والاستشهاد لها في مجال خاص وكاف لها،
ولكننا نذكر بما قاله اقبال اللاهوري من أن
الاجتهاد هو القوة المحركة للاسلام، فانفتاح
باب الاجتهاد يعني اخضاع الفقه لعملية تمحيص
فكري مستمرة، من شأنها ايجاد معالجات خلاّقة
للمستجدات، وإنماء حركة الفكر داخل المجتمع،
وهذا بحد ذاته امتياز كبير تحظى به المدرسة
الامامية. ومما لا شك فيه أن التراث الفقهي
والاصولي ـ اصول الفقه ـ للمدرسة الامامية
اوسع بكثير من تراث المذاهب الاربعة، وأن
جامعتي النجف وقم اصحبتا خلال القرنين الماضي
والحالي موقعا فكريا متقدماً، لا تستطيع
المراكز العلمية الاخرى في العالم الاسلامي
مظاهاتهما في حقل الفقه والاصول، ومستوى
الرواد الذين نبغوا في هذين العلمين. وما ذلك
إلاّ من بركات انفتاح باب الاجتهاد في
المدرسة الامامية.
وهكذا فإن حب آل البيت والثورية
والاجتهاد خصائص حقيقية في التشيع، وليست
اوهاماً كما يقول الدكتور عمارة.
ونشير اخيراً إلى أن كلمات الدكتور
عمارة قد تناقضت بخصوص الاجتهاد والثورية في
التشيع، فما سمعناه كانت كلماته في مجلة
الوطن العربي، أما في كتابه «تيارات الفكر
الاسلامي» فقد كتب يقول: «... والعقلانية واحدة
من القسمات التي تتجلى للناظر في تراث الشيعة
الفكري، وذلك إذا استثنينا تراثهم في الامامة
وما يتعلق بها، فهم في الامامة كما قدمنا قد
غدوا أسرى لنصوص وتفسيرات لنصوص تعبدوا بها،
ونحوا العقول جانباً امام هذه النصوص... أما في
غير الامامة وما يتعلق بها فإن تراثهم صفحة من
صفحات الفكر الاسلامي المشرقة بنور العقل،
والمزدانة بسلطانه»(7).
«ذلك أن الشيعة الذين شربوا كاس الاضطهاد
الاموي حتى ثمالته، قد بلغ بهم الاضطهاد إلى
الحد الذي كفروا فيه بهذه السلطة البشرية
الاموية. وبعد أن تكررت ثوراتهم وانتفاضاتهم
وتمرداتهم الفاشلة، وجرّت عليهم المزيد من
الاضطهاد، عادوا إلى الذات فانكفأوا عليها...»(8).
«والذين يعرفون ما تعرضت له الشيعة على مرّ
التاريخ الاسلامي من محن واضطهادات بلغت حد
المأساة، لا يمكن أن يتصوروا بقاء التشيع رغم
هذا الاضطهاد، إلاّ مع احتماء الشيعة بهذه
التقية»(9).
فللشيعة تراث مشرق بالعقل، وثورات
وانتفاضات وتمردات، فلماذا الكلام الاول
اذن؟ وهل كان من مقتضى الفكر أم السياسة؟
تعميم النموذج الاسلامي في ايران:
قال الدكتور عمارة في مجلة الوطنالعربي: «أنا اتصور أن الناس في ايران، سواء
كانوا من اهل الحوزات العلمية أو من اهل
السياسة، لا يمكن أن يتصوروا أن النموذج
الايراني في ولاية الفقيه صالح للتعميم في
العالم السني، وإلاّ نكون امام موقف ساذج...
لان هذا بعد مذهبي». «أنا قرأت دستور الثورة
الايرانية عندما يتحدث عن المذهب الجعفري،
فهو المذهب الرسمي في ايران، وإن ولاية
الفقيه هي الموقف الدستوري والفقهي في ايران،
وإن كل مواد الدستور يمكن تعديلها إلاّ هذه
المواد ... فكيف يكون مقبولاً من السنة الذين
يتصورون امكانية تصدير وتعميم هذا النموذج...
إن ايران شرط حمايتها في مواجهة التحديات
التي تواجهها من الغرب الاستعماري أن تكون في
حضن الامة الاسلامية، وشرط قبولها في حضن
الامة الاسلامية الا تكون مصدر خطر مذهبياً
على بقية الامة الاسلامية...».
وفي كتابه «تيارات الفكر الاسلامي»
يقول بعد أن يذكر المادة الخاصة بالمذهب
الجعفري من الدستور الاسلامي في ايران، ما
نصه: «أما المذاهب الاسلامية الاخرى فإنه
يقرر لها الحرية في العبادة والاحوال الشخصية
وفق فقهها، مثلها في ذلك مثل الاقليات
الدينية غير الاسلامية من زرادشت ويهود
ومسيحيين». «ثم لاحت في الممارسة بوادر تنبئ
عن الانحياز، ليس فقط للفكر الاثني عشري دون
غيره من فكر المذاهب الاسلامية الاخرى، وإنما
أيضاً للعنصر الفارسي دون الاقليات القومية
الايرانية الاخرى، حتى يحق للمرء أن يتساءل
أهي الثورة الاسلامية في ايران، أم إنها
الثورة الشيعية الفارسية الاسلامية في
ايران؟».
وفي سياق الاعتراض على ولاية الفقيه
يقول: «... هذا فضلاً عما تؤدي إليه حكومة
الفقهاء الدينية التي تسلب الامة حقها في
الحكم والتقنين والسلطة والسيادة... فكأنها لم
تتمرد ولم تثر ولم تقدم غالي التضحيات، الا
لتستبدل الفاشية الدينية بالفاشية البشرية
الشاهنشاهية». «فهل هذا السبيل سبيل حكومة
الفقهاء الدينية، هو الذي يقترب بنا من تحقيق
وتطبيق الاسلام الثوري والمجاهد؟ أم حكومة
الشعب التي تحكم به وله ونيابة عنه، والتي لا
تقيم فاشية مستبدة تحت ستار من قداسة الدين؟».
«إن نقد السلطة الدينية بمقاييس
اصحابها كفر أو حرام; لانه خطيئة دينية وجرم
في حق الله، والشيعة يقولون إن الراد على
الفقيه راد على الله، اما نقد السلطة المدنية
الاسلامية فهو امر مشروع يأتي في اطار الخطأ
والصواب والنافع والضار»(10).
ويمكننا أن نستخلص من مجموع هذه
الاقوال اربع نقاط اساسية تستحق التأمل
والمناقشة وهي:
1 ـ إنّ الذي يدعى اليه المسلمون هو
ضرورة اقامة حكومات اسلامية قائمة على اساس
الكتاب والسنة، ونابعة من ضمير الامة،
ومستقلة عن ارادة الاجنبي.
والشيء المهم في هذه المسألة هو ضرورة
الوصول إلى نموذج فقهي ودستوري في الحكم
والدولة، يستقطب اعلى حد ممكن من اتفاق
المسلمين، ويستبعد اعلى حد ممكن من خلافاتهم.
وإذا ما طالعنا فقه المذاهب الاربعة وجدناها
تشترط في ولي الامر شروطاً، وتعد منها العلم،
ثم تختلف في هذا الشرط بين من يوصله إلى حد
الاجتهاد فيشترط في الخليفة أن يكون مجتهداً،
ومن يكتفي بما دون ذلك، والاكثر على اشتراط
الاجتهاد، وبه قال الماوردي في الاحكام
السلطانية، والايجي في المواقف، والشريف
الجرجاني في شرحه على المواقف، وامام الحرمين
الجويني في الارشاد، والفلتشنوي في مآثر
الاناقة في معالم الخلافة، وفي كتاب الفقه
على المذاهب الاربعة نقرأ أن الائمة اتفقوا
على شروط في ولي الامر، وعد السابع منها أن
يكون عالما مجتهداً، يعرف الاحكام ويتفقه في
الدين، فيعلم الناس ولا يحتاج إلى استفتاء
غيره(11).
ومعلوم أن الاجتهاد درجة اكيدة من
العلم، فالاخذ به يحقق اتفاق المذاهب الاربعة
عليه; لان من يشترط الاقل يقبل بالاكثر. وإذا
ضممنا إلى ذلك شرط البيعة، اصبحت النتيجة
عبارة عن شرعية حكومة المجتهد المنتخب من قبل
الامة، وهي جوهر فكرة الدستور الاسلامي في
ايران عن ولاية الفقيه. حيث إن الدستور لم
يعطِ الولاية لكل فقيه، وإنما اعطاها للفقيه
المنتخب من قبل مجلس الخبراء. وبهذا البيان
تتضح صلاحية فكرة ولاية الفقيه للتعميم. وهو
يعني امكانية ايجاد وحدة دستورية في العالم
الاسلامي، بحيث يكون الفقيه ـ ضمن سياقات كل
المذاهب الاسلامية ـ هو الحاكم في بلده وفي
نطاق المذهب السائد في ذلك البلد.
2 ـ أما اعتبار المذهب الجعفري هو
المذهب الرسمي للدولة الاسلامية في ايران،
فهذا الموقف يعتبر طبيعياً ومقبولاً من قبل
الجميع; فلو اقيمت دولة اسلامية في مصر، لما
وجد بين الشيعة من يتوقع ألاّ تكون هذه الدولة
سنية المذهب; لان الوحدة الاسلامية لا تعني
الغاء المذاهب، وإنما تعني اقرار التناصر
الاخوي والغاء التنافر فيما بينها في نطاق
الامة الاسلامية الواحدة.
ولا يكاد يُفهم لدعوة الدكتور عمارة
ايران أن تكون في حضن الامة، وألاّ تكون خطراً
مذهبيا على باقي الامة، لا يكاد يفهم لهذه
الدعوة معنىً; فإن الجمهورية الاسلامية لم
تنفصل يوماً عن الامة الاسلامية حتى تدعى
بهذه الدعوة. وإذا كان معنى الخطر المذهبي هو
زرع التشيع في بلدان سنية، فقد تقدم الكلام عن
ذلك آنفاً، وليس هناك من يستطيع أن يثبت قيام
الجمهورية الاسلامية بممارسة من هذا القبيل.
وقد كان الشيعة ولازالوا في بلدان عديدة من
العالم الاسلامي ضحية الخطر المذهبي، ومع ذلك
لم يتخلوا عن مبدأ الاخوة الاسلامية مع غيرهم.
ومن الغريب أن يقرن الدكتور عمارة
المذاهب السنية في ايران بالاقليات غير
الاسلامية هناك، وكأن الدستور الاسلامي في
ايران قد جعلهما على حد سواء; فإن مبدأ
الاقلية والاكثرية مبدأ يحكم المذاهب كما
يحكم الشعوب والجماعات، فإذا كان من الطبيعي
ان تسير الدولة بمذهب الاكثرية، فمن الطبيعي
أيضاً أن تكون المذاهب الاخرى شأناً داخلياً
خاصاً بأتباعها، ولا يمتد إلى واقع الدولة.
وهذا الاعتبار القانوني لا يعني أن
السني والزرادشتي يتساويان في المكانة
المعنوية; لان الاسلام يعلو ولا يعلى عليه.
3 ـ أما الانحياز للعنصر الفارسي، فإن
التجربة الاسلامية في ايران طيلة عمرها
المبارك لم تسجل حالة واحدة تشهد لهذا
الادعاء. وليت الدكتور عمارة استشهد له
بوقائع معينة حتى يكون قابلاً للبحث
والمناقشة. والشيء الذي يشهد به شهود العيان
أن التجربة لم تستبعد شخصية مؤهلة لمسؤولية
معينة في الدولة; بسبب انتمائها القومي غير
الفارسي; بل إن كثيراً من رموز التجربة
وقياداتها لا ينتمون إلى القومية الفارسية،
بل ينتمون إلى قومية اخرى كالتركية.
4 ـ سجل الدكتور عمارة اعتراضه على اصل
الحكومة الدينية، ويعني بها تلك التي يقودها
الفقهاء والعلماء، وهو اعتراض لا يخص الشيعة;
لما اتضح سابقاً من أن جمهور فقهاء السنة على
اشتراط الاجتهاد في ولي الامر. ولا ندري بأي
مذهب يعمل الدكتور عمارة بعد هذا الاعتراض؟
وأي مذهب يقبل من الدكتور عمارة أن يصف حكومة
الفقهاء بأنها تسلب حق الامة في الحكم
والتقنين والسلطة والسيادة؟ وكأن الفقهاء
ليسوا من الامة، أو كأن أحداً لم يشترط البيعة
وانتخاب الامة في نفوذ سلطة الفقيه؟ وأي مذهب
يقبل من الدكتور عمارة أن يصف حكومة المجتهد
المنتخب من قبل الامة بأنها فاشية دينية؟ فهل
كانت حكومة الشيخين فاشية دينية؟
ونحن لا نقصد بالفقهاء أولئك الذين
يرتدون الاردية الدينية الخاصة، وإنما نقصد
ذلك الخط الفكري المتميز بالاصالة، والمتمسك
بالكتاب والسنة، فإذا نُحي هؤلاء عن السلطة
فمن الذي سيؤتمن عليها وعلى مستقبلها بعدهم؟
وما هو مفهوم حكومة «الشعب التي تحكم به وله
ونيابة عنه والتي لا تقيم فاشية مستبدة تحت
ستار من قداسة الدين»؟ إن هذا الكلام تفوح منه
رائحة العلمانية، وإذا كان الامر كذلك فلماذا
الكلام عن الاسلام والمذاهب الاسلامية؟ ومن
الذي قال: «إن نقد السلطة الدينية بمقاييس
اصحابها كفر أو حرام»؟
هل هناك مصدر اسلامي ذكر ذلك؟ إن
الحرام هو رفض الشريعة الاسلامية والاخذ
بغيرها، والكفر هو انكار الضروريات الدينية.
اما سياسة الدولة وسلوك الحاكم فمن حق كل فرد
في الامة أن يناقش فيه في نطاق الهدفية
والمصلحة والوحدة الاسلامية. وفي المادة
السابعة بعد المئة من دستور الجمهورية
الاسلامية، نقرأ أن الولي الفقيه فرد من
افراد الامة، يجري عليه القانون كما يجري على
باقي افراد الامة، وذلك خلافاً لدساتير كثير
من النظم الوضعية، التي تنص على أن الملك أو
رئيس الجمهورية ذاتٌ مصونة لا تُمس. وما قاله
الدكتور عمارة من أن الشيعة تقول إن الراد على
الفقيه راد على الله صحيح، ولكن لا علاقة له
بالدولة; لان الفقيه باعتباره متخصصاً
بالشريعة الاسلامية يكشف عن حكم الله في
الوقائع; فإذا لم يقبل المقلد منه فهو لم يقبل
حكم الله، وبهذا كان راداً على الله. والقضاء
من وظائف الفقيه، فإذا قضى في خصومة طبقاً
لحكم الشرع ولم يقبل المتخاصمان به، فكأنما
كان الرد منهما ردّا على الله. وأما في مجال
اجهزة الدولة التنفيذية فبإمكان الفرد من
الامة النقد والنصيحة وابداء المشورة، وعلى
الحاكم الاستماع له والتشاور معه وقبول
نصيحته ان كانت حقاً وصدقاً.
(1
ـ 2) تيارات الفكر الاسلامي: 206 و221.
(3)
البقرة: 30.
(4)
لمزيد من التفصيل تلاحظ المصادر الكلامية،
ومنها تعليقة السيد هاشم الحسيني الطهراني
على شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلي: 673 ـ
674.
(5)
مجلة الجامعة الاسلامية، السنة الاولى،
العدد الثاني: 72.
(6)
هاشم معروف الحسني، سيرة المصطفى: 277 ـ 279.
(7)
تيارات الفكر الاسلامي: 217.
(8)
المصدر السابق: 206.
(9)
المصدر السابق: 219.
(10)
تيارات الفكر الاسلامي: 238 و244.
(11)
عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب
الاربعة 5: 417.