من سیرة أهل البیت (ع) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

من سیرة أهل البیت (ع) - نسخه متنی

السیدعلی حسینی الخامنه ای؛ مترجم: محمدعلی آذر شب

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

مـن سيرة أهل البيت(عليهم السلام)

الجانب السياسي في حياة
ائمة اهل البيت(ع)

الامام السيد علي الخامنئي

ترجمة: الدكتور محمد علي آذرشب

الحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام على رسول رب العالمين وعلى أهل
بيته الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين([1]).

ضرورة الاهتمام بحياة الائمة:

أرجو أن يتحقق في هذا الاجتماع أمل
قديم من آمالنا في دراسة حياة أئمة أهل البيت(عليهم
السلام).

غربة هؤلاء الائمة لم تقتصر على
حياتهم، بل إن غربتهم استمرت بعدهم على مدى
القرون، متمثلة بعدم الاهتمام بالجوانب
الهامة بل الاصلية من حياتهم. المؤلفات التي
دوّنت حول حياة أئمة الهدى(عليهم السلام) على
مدى القرون لها دون شك أهمية قصوى، لانها
استطاعت أن تجمع شتات الروايات المرتبطة بهم
وتقدمها للاجيال، ولكن الروايات التي تتناول
حياتهم السياسية خلال مئتين وخمسين عاماً من
عهدهم المبارك قد اختفت ـ مع الاسف ـ بين
الروايات والاحاديث التي ركزت على الجانب
العلمي والمعنوي من حياتهم.

حياة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لا
ينبغي أن تبقى في حدود ذكريات في الاذهان
والنفوس; بل لابدّ أن نتلقاها باعتبارها
دروساً ومنهجاً للحياة، وذلك لا يتيسّر إلاّ
بدراسة سيرتهم السياسية. من هنا كان لي اهتمام
بهذا الجانب من حياة

الائمة(عليهم السلام).

لا بأس أن أذكر أن توجّهي بشكل جادّ
لهذا اللون من الدراسة بدأ أول مرة سنة 1350 هـ .
ش (1392هـ . ق) حين كنت أمضي فترة من فترات المحن
الصعبة. نعم، لقد كنت قبل ذلك أنظر إلى أئمة
أهل البيت(عليهم السلام) باعتبارهم مجاهدين
كباراً مضحين على طريق اعتلاء كلمة التوحيد
وإقامة الحكومة الالهية، لكن الفكرة التي
انقدحت في ذهني آنئذ هي أن حياة هؤلاء العظام
ـ رغم ما فيها من تفاوت ظاهر دعا بعض
الدارسين إلى القول بوجود تناقض في منهج
حياتهم ـ تشكل بمجموعها حركة واحدة مستمرة
متواصلة بدأت من السنة الحادية عشر للهجرة
واستمرت مئتين وخمسين عاماً، أي حتى سنة
مئتين وستين للهجرة إذ بدأ عصر الغيبة.

هؤلاء العظام يشكلون مجموعة واحدة
وشخصية واحدة ويتجهون نحو هدف واحد. إذن لماذا
ندرسهم بشكل تجزيئي؟ لماذا ندرس حياة الامام
الحسن المجتبى والامام الحسين والامام علي بن
الحسين السجاد(عليهم السلام)، كلاً على حِدة؟
هذا اللون من الدراسة هو الذي أوقع بعض
الدارسين في خطأ خطير حين فهم الاختلاف
الظاهري في حياتهم على أنه تعارض وتناقض في
سلوكهم. لابد أن نعتقد أن حياتهم باجمعهم حياة
إنسان واحد عمّر مئتين وخمسين عاماً، دخل
الساحة سنة إحدى عشرة للهجرة وواصل العمل
فيها حتى سنة مئتين وستين للهجرة. عندئذ يمكن
أن نفهم نشاط هذا الانسان الكبير المعصوم
ونفهم خلفيات هذا النشاط.

كل إنسان عاقل حكيم ـ حتى ولو لم يكن
معصوماً ـ يضع في خطته البعيدة المدى أو في
استراتيجيته، ألواناً من الاساليب المناسبة
للظروف أو ألواناً من التكتيك. قد يجد من
المناسب في فترة أن تكون الحركة عنيفة سريعة،
وقد يجد من المناسب في فترة أخرى أن تكون
الحركة بطيئة. وقد يتطلب الامر منه أحياناً أن
يعمد إلى تراجع أو انسحاب حكيم، غير أن هذا
الانسحاب نفسه في معايير العلم والحكمة
والمعايير الرسالية يعتبر تقدماً إلى الامام.
وبهذه النظرة تكون حياة أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب مع حياة الامام المجتبى وحياة
الامام الحسين، وحياة الائمة الثمانية من ولد
الحسين عليهم جميعاً سلام الله حتى سنة مئتين
وستين للهجرة حركة واحدة متواصلة، وهذا هو
الذي انقدح في ذهني تلك السنة، ثم رحت أدرس
حياة الائمة بهذه النظرة، وكلما تعمّقت في
الدراسة تأكدت لي هذه النظرة أكثر فأكثر.

الاتجاه السياسي في حياة الائمة:

لا يسعني في هذه الجلسة أن أتوسّع في
هذه المقولة، ولكن أقصر كلامي على مسألة
واحدة هي أن حياة أئمة أهل البيت(عليهم السلام)
كانت مقرونة باتجاه سياسي. وهذا ما سأتناوله
إن شاء الله.

في العام الماضي كان لي في هذا المجلس
كلمة تناولت فيها جانب الجهاد السياسي في
حياة الائمة(عليهم السلام) عامة وفي حياة
الامام الثامن بشكل خاص، وأودّ أن أتناول هذا
الجانب اليوم باذن الله تعالى بمزيد من
التفصيل.

ما المقصود من الجهاد السياسي في حياة
الائمة(عليهم السلام)؟

المقصود أن أئمة أهل البيت(عليهم
السلام) لم يقتصر كفاحهم ونشاطهم على الجانب
العلمي والعقائدي والكلامي، كما كان رائجاً
لدى الاشاعرة والمعتزلة وغيرهم من أصحاب
المقالات والملل والنحل في عصرهم. لم يكن
هدفهم من حلقات دروسهم ومن تصديهم للرواية
وبيان الاحكام مقتصراً على تثبيت دعائم
مدرستهم الكلامية أو الفقهية.

وليس المقصود من نشاط الائمة السياسي
هو الكفاح المسلح الذي تبناه زيد بن علي
وأبناؤه ثم بنو الحسن وبعض آل جعفر في تلك
القرون. لم يكن لائمة آل البيت(عليهم السلام)
مثل هذا النشاط. وهنا لابد من الاشارة إلى أن
الائمة لم يدينوا ذلك الكفاح المسلح بشكل
مطلق، بل كانوا يدينون بعض الثائرين لا لانهم
ثائرون بل لاسباب أخرى تتعلق بأهداف أولئك
الثوار. وكانوا يؤيدون بعض الثائرين تأييداً
كاملاً، ويشاركونهم في ثورتهم ولو بدعم
الصفوف الخلفية للثائرين، كقول الامام: «لا
أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد.
ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعليّ نفقة
عياله»([2]).

كانوا يقدمون لهم الدعم المالي
والاعلامي، والمساعدة في التواري والاختفاء
وأمثالها من المساعدات، لكنهم(عليهم السلام)
لم يكونوا يخوضون ساحة الكفاح المسلح بأنفسهم.
يقول الراوي: «دفع اليّ أبو عبد الله الصادق
جعفر بن محمد الف دينار وأمرني أن أقسمها في
عيال من أصيب مع زيد بن علي»([3]).

النشاط السياسي للائمة لا نقصد به ذاك
الاول ولا هذا الثاني، بل هو النشاط الذي
يستهدف في المآل إقامة حكومة اسلامية، أو ـ
بتعبير آخر ـ حكومة علوية.

التخطيط لاقامة حكومة اسلاميّة

الائمة(عليهم السلام) نشطوا منذ لحظة
وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى
سنة مئتين وستين للهجرة لاقامة حكومة إلهية
في المجتمع الاسلامي. وهذا هو أصل ادعائنا في
هذا البحث.

طبعاً لا نستطيع أن نقول إن كل واحد من
الائمة استهدف أن يقيم حكومة إسلامية في
زمانه، بل إن كل واحد منهم انتهج لتحقيق هذا
الهدف خطة متوسطة المدى، أو بعيدة المدى،
وأحيانا قصيرة المدى. على سبيل المثال نعتقد
أن الامام الحسن المجتبى(عليه السلام) سعى
لاقامة حكومة إسلامية في المستقبل القريب.
وهذا ما نفهمه من قوله في خطبته لاصحابه بعد
الصلح: «وقد بايعتموني على أن تسالموا من
سالمت، وقد رأيتُ أن أسالمه، وأن يكون ما صنعت
حجّة على من كان يتمنّى هذا الامر. وإن أدري
لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين»([4]).

وقوله لحجر بن عديّ لما خلا به: «وإني
لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاء عليكم، والله
تعالى كلَّ يوم هو في شأن»([5]).

وقوله للمسيب بن نجبة حين عاتبه على
الصلح: «فارضوا بقضاء الله وقدره حتى يستريح
بَرٌّ ويُستراح من فاجر»([6]).

وفي زمن الامام علي بن الحسين السجاد(عليه
السلام) اقتضت الخطة ـ على ما أعتقد ـ أن
تكون ذات مدى متوسط. ولي على ذلك شواهد
سأتناولها في هذه المحاضرة.

وفي زمن الامام الباقر(عليه السلام)
كان التخطيط على أقوى الظن لاقامة حكومة على
المدى القصير، وبعد استشهاد الامام الرضا(عليه
السلام) كانت الخطة ـ على أكبر الاحتمال ـ
لمستقبل بعيد. هذا معنى الجهاد السياسي. كل
نشاطات الائمة(عليهم السلام) ـ سوى الاعمال
المعنوية والروحية المرتبطة بتربية نفس
الانسان، وقربه من الله سبحانه ـ كانت تصب في
هدف واحد، ولم يكن هذا الهدف سوى إقامة
الحكومة الاسلامية. يشمل ذلك ما كانوا يتصدون
له من دروس في التفسير والحديث والكلام، ومن
حجاج مع خصومهم الفكريين والسياسيين، ومن
مواقفهم السلبية أو الايجابية مع المجموعات
العاملة في مجتمعهم. هذا ما ندعيه ونحاول أن
نقدم له الشواهد التاريخية.

هذا الموضوع ـ كما ذكر فضيلة الشيخ
الطبسي ـ موضع اختلاف. وأنا لا أريد أن أفرض
رأيي، لكن أصرّ على ضرورة متابعة هذه المسألة
بالدراسة والتمحيص، ضمن منهج إعادة النظر في
حياة الائمة(عليهم السلام).

الادلة والوثائق:

كان سعينا خلال سنين هو تقديم الوثائق
التاريخية والروائية لاثبات هذا الموضوع
بالنسبة لحياة كل إمام، ولحياة مجموع الائمة(عليهم
السلام).

بعض الاستدلالات لها طابع عام مثل
إيماننا بأن الامامة استمرار للنبوة، وأن
النبي هو أولاً إمام. وهذا الاستدلال ورد على
لسان الامام الصادق(عليه السلام) إذ قال: «إن
رسول الله كان هو الامام ثم كان علي بن أبي
طالب ثم الحسن ثم الحسين...»([7]).

ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
كان دائب الحركة لاقامة نظام العدل الالهي في
مجتمعه. وأقامه بعد جهاد دام طويل، ودافع عنه
مدة حياته. ولذلك لا يمكن أن يكون الامام
غافلاً عن هذه المهمة وهو وارث النبي
وامتداده الرسالي. طبعاً هذا الاستدلال يمكن
التوسع فيه بمزيد من البحث والتحقيق، بالنظر
إلى أبعاده المختلفة.

وبعض الاستدلال يمكن أن يقوم على أساس
كلمات الائمة(عليهم السلام) أو من سيرتهم
وطريقتهم في الحياة، إذ حين يتضح الهدف العام
تصبح كل تلك الكلمات والمواقف ذات معنىً.

والواقع أن فهم ظروف الائمة(عليهم
السلام) ومواقفهم يحتاج إلى تفاعل مع تلك
الظروف، وهذا ما عانيناه بأنفسنا. فالانسان
في زنزانات السجون المظلمة يفهم أكثر
العبارات التي نرددها دائماً بالنسبة لائمة
أهل البيت(عليهم السلام) كقولنا: السلام على
المعذب في قعر السجون وظلم المطامير ذا الساق
المرضوض بحلق القيود.

على أي حال هذا هو الاتجاه الذي أريد
أن أسير فيه ببحثي هذا، لاعرض على هذا الجمع
الكريم بعض تصوراتي الذهنية.

إذا أردنا أن نبحث عن عنصر النشاط
السياسي في حياة الائمة(عليهم السلام)بالمفهوم
الذي أوضحناه، أي بالمفهوم الذي ينأى عن
الصراع الكلامي وعن الكفاح المسلح، نستطيع أن
نشبهه بالنشاط السياسي الذي انتهجه
العباسيون خلال السنوات بين سنة مئة أو قبلها
وسنة مئة واثنتين وثلاثين من الهجرة، حيث
أقاموا دولتهم. وهذا التشبيه لا يمكن فهمه
إلاّ لدى الدارسين للحركة العباسية خلال
القرن الثاني الهجري، مع فارق جوهري في
تشبيهنا بين الائمة وبني العباس في السلوك
والاهداف والشخصية.

وجه الشبه التقريبي هو في النشاط
والتخطيط. لذلك نجد خلطاً في بعض المواضع بين
التيارين. بنو العباس ـ لقرب أسلوب دعوتهم من
آل علي ـ يدّعون في المناطق البعيدة عن الحجاز
والعراق أنهم يمثلون خطّ آل علي. حتى إن
المسوّدة وهم طلائع دعوة العباسيين في خراسان
كانوا يقولون في انتخاب اللون الاسود
لملابسهم: «هذا السواد حداد آل محمد وشهداء
كربلاء وزيد ويحيى»([8]).

بل إن عدداً من قادتهم كانوا يتصورون
بأنهم يعملون من أجل آل علي.

المسيرة العامة لنشاط الائمة

بعد هذا التصوير لنشاط الائمة في
الحقل السياسي وتشبيهه بنشاط بني العباس مع
فارق كما قلنا في السلوك والاهداف والشخصية،
أبدأ أولاً باعطاء صورة للمسيرة العامة لنشاط
الائمة(عليهم السلام). بعد ذلك نعود إلى بعض
معالم هذا النشاط.

سوف لا أتطرق في حديثي إلى حياة الائمة
الثلاثة الاوائل أعني أمير المؤمنين علياً
والحسن والحسين(عليهم السلام); لان البحوث
المطروحة حولهم كثيرة، وليس لاحد تقريباً
شبهة بشأن العنصر السياسي في نشاطهم وهدفهم.
وأبدأ من عصر الامام السجاد(عليه السلام)
وأعتقد أن حياة الائمة منذ عصر السجاد، أي منذ
سنة إحدى وستين هجرية حتى سنة مئتين وستين
هجرية، وهي قرنان من الزمان، تنقسم بشكل عام
إلى ثلاثة أقسام:

الاول: من سنة إحدى وستين للهجرة وهي
سنة إمامة السجاد حتى سنة مئة وخمس وثلاثين
وهي سنة وفاة السفاح وخلافة المنصور. وفي هذه
المرحلة بدأت الحركة من نقطة ثم تدرّجت
ونَمَت وتعمّقت واتسعت. وحين تولى المنصور
الحكم تغير الوضع وظهرت مشاكل وعقبات، وتوقف
كثير من معطيات الحركة، وهذا ما يواجه كل حركة
تقريباً، ونحن واجهناه أيضاً في حياتنا
السياسية.

الثاني: من سنة مئة وخمس وثلاثين حتى
سنة مئتين واثنتين أو ثلاث أي سنة استشهاد
الامام الرضا(عليه السلام).

وفي هذه المرحلة تبدأ الحركة من نقطة
أرفع من نقطة سنة إحدى وستين وأعمق منها
وأوسع، لكنها تبدأ بمواجهة مشاكل جديدة،
وباستمرار تتجذر الحركة وتتسع، وتقترب من
تحقيق النصر، حتى سنة استشهاد الامام الرضا(عليه
السلام). وعندها تتوقف الحركة ثانية.

الثالث: تبدأ بذهاب المأمون إلى بغداد
وبها يُفتح فصل صعب شاق في حياة الائمة(عليهم
السلام)، يمكن تسميته بفصل محنة الائمة. ومع
أن انتشار التشيع كان في هذه المرحلة أكثر من
أي وقت آخر، فإن محنة الائمة كانت أيضاً فيها
ـ على ما أعتقد ـ أكثر من أي وقت مضى. وهذه هي
مرحلة التخطيط والتحرك على المدى البعيد. أي
إن الائمة ما كانوا يسعون خلالها لتحقيق مكسب
قريب، بل كانوا يمهّدون الاجواء للاجيال
القادمة. وهذه الفترة تبدأ كما ذكرنا من سنة
مئتين وأربع وتمتد حتى سنة مئتين وستين، وهي
سنة استشهاد الامام الحسن العسكري(عليه
السلام) وبدء عصر الغيبة الصغرى. ولكل من هذه
المراحل الثلاث خصائص أذكرها باختصار:

عصر الامام السجاد(عليه السلام) ـ جوّ
الارعاب

المرحلة الاولى وهي عصر الامام السجاد
تبدأ بصعوبات جمّة. حادثة كربلاء هزّت أركان
الشيعة بل العالم الاسلامي بأجمعه. كان القتل
والتشريد والتعذيب موجوداً قبل هذه الحادثة،
لكنّ قتل ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله
وسلم) وأسر بيت النبوة وأخذهم من بلد إلى بلد
على رؤوس الاشهاد، ورفع رأس الحسين على الرمح
أمام أنظار من يتذكر قبلات رسول الله على شفة
صاحب هذا الرأس، كل هذه المشاهد أصعقت العالم
الاسلامي. لم يكن أحد يصدّق أن الامر يصل إلى
هذه الدرجة. وما يروى عن زينب(عليها السلام) من
قولها:

ما توهمت يا شقيق فؤادي
كان هذا مقدّراً مكتوبا([9])

إنما هو إشارة إلى وضع الناس آنذاك
بوغت المسلمون أن البطش أصبح أكثر مما كانوا
يتصورون لقد حدث ما لم يكن في الحسبان، وكاد
الخوف يحبس الانفاس في الصدور، ويخرس الالسنة
ويشلّ الطاقات، لولا ظهور الثوارت التي كسرت
حاجز الخوف أمداً، ثم حين واجهت البطش وفشلت
عاد الخوف يلقى بظلاله الثقيلة أضعافاً
مضاعفة. ثار التوابون في الكوفة سنه 64هـ
وواجهوا عملية إبادة رهيبة سنه 65هـ ، وثار
المختار في الكوفة أيضاً انتقاماً لشهداء
كربلاء، وثار عبد الله بن الزبير في مكة، ولم
يستطع ابن الزبير أن يتحمّل وجود المختار في
الكوفة، فقضى عليه عن طريق أخيه مصعب، وكاد
الامر يستتب لابن الزبير لولا خوف الناس من
بطش الامويين، هذا الخوف هو الذي يسّر لمروان
بن الحكم أن يسيطر على الامور بعد أن انفرط
عقد البيت السفياني باستقالة معاوية بن يزيد.
ثم بهذا التخويف وبعمليات البطش والتنكيل هذه
سيطر عبد الملك بن مروان على العالم
الاسلامي، وأخضع بلاد الاسلام بأجمعها إلى
الحكم الاموي.

ويلزمنا الوقوف قليلاً عند وقعة «الحرة»;
فهي من الوقائع الهامة التي ظهرت فيها قسوة
الامويين بشكل سافر فظيع.

في سنة اثنتين وستين ولي المدينة
المنوّرة عثمان بن محمد بن أبي سفيان «وهو فتى
غِرّ حدث لم يجرّب الامور ولم يحنّكه السنّ»
أراد يوثّق علاقة رجال المدينة بيزيد، فأرسل
وفدا من أهل المدينة إلى يزيد فيهم عبد الله
ابن حنظلة غسيل الملائكة، فقدموا على يزيد
فأكرمهم وأحسن إليهم، وأعظم جوائزهم، لكنهم
استغربوا ما رأوه من فساد في بلاط الخليفة.
حين عادوا إلى المدينة قالوا: «قدمنا من عند
رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب
بالطنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب
بالكلاب، ويسمر عنده الحُرّاب([10])
وإنا نشهدكم أنا خلعناه» فسير يزيد إلى أهل
المدينة جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة، وهو الذي
سُمّي مُسرفاً، دافع أهل المدينة دفاعاً
شديداً وفيهم صحابة رسول الله، لكنهم
انهزموا، فاباح مسلم المدينة ثلاثاً لم
يتركوا فيها حرمة إلاّ انتهكوها، وارتكبوا من
الفظائع ما يقصر اللسان عن ذكره. ثم دعا «مسرف»
الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خوَل ليزيد
يُحكّم في دمائهم وأموالهم وأهليهم من شاء،
فمن امتنع من ذلك قتله([11]).

الانحطاط الفكري

وثمة ظاهرة أخرى إلى جانب الارعاب
والتخويف نشاهدها في هذا العصر هي الانحطاط
الفكري لدى الناس في جميع أرجاء العالم
الاسلامي، نتيجة لاهمال تعاليم الدين
والاستخفاف بفرائضه خلال عقدين مضت من الزمان.
تذكر لنا الروايات مشاهد كثيرة من تزلزل
ايمان الناس في هذا العصر وفراغهم الفكري
والعقائدي طبعاً كان في المجتمع قراء ومحدثون
وزهاد ووعّاظ، وسنأتي على ذكرهم، لكن عامة
الناس كانوا يعانون من اختلال شديد في
العقيدة والالتزام، وهذه الحالة هي التي
جرّأت ابن الزبير أن يُلغي شهادة أنّ محمداً
رسول الله من الخطبة في الجمعة وغيرها، وحين
سُئل عن سبب ذلك قال: «والله ما يمنعني من ذكره
علانية أني لا أذكره سرّا، وأصلّي عليه، لكني
رأيت هذا الحيّ من بني هاشم إذا سمعوا ذكره
اشرأبّت أعناقهم، وأبغض الاشياء اليّ ما
يسرّهم وفي رواية: إن له أُهيل سوء»([12]).

وهذه الحالة ذاتها هي التي جرّأت خالد
بن عبد الله القسري ـ وهو من مرتزقة بني اُمية
المنحطين ـ أن يفضّل الخلافة على النبوة،
وكان يستدل عل هذا التفضيل بقوله: «أيهما أفضل
خليفة رجل في أهله أو رسوله إلى أصحابه؟».

ويتضح من كلام القسري أن الخليفة هو
خليفة الله، لا خليفة رسول الله وفي دراستي
للشعر في العصر الاموي وجدت أن تعبير «خليفة
الله» قد تكررت عند الشعراء منذ عصر عبد الملك
بن مروان، واستمرت في العصر العباسي، حتى
اوشك تعبير «خليفة رسول الله» أن ينسى. ونرى
أن بشار بن برد حين يهجو الخليفة المهدي
يستعمل كلمة «خليفة الله» أيضاً:

بني أمية هبّوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوبُ بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الزقِّ والعودِ([13])

ومثل هذا التعبير نجده عند جرير
والفرزدق وغيرهم من الشعراء المشهورين.

الفساد الاخلاقي في مكة والمدينة

ويلاحظ في الوثائق التاريخية أن عملية
الافراغ العقائدي والروحي كانت منصبّة
بالدرجة الاولى على مكة والمدينة، حيث أبناء
المهاجرين والانصار، وحيث التابعون القريبو
العهد بعصر صدر الرسالة، فترى هاتين
المدينتين المقدستين قد خطط لهما لكي تكونا
مركزاً للهو والغناء والطرب. وبدأت الخطة على
يد الامويين منذ زمن الخليفة الثالث، فملاوا
المدينتين المقدستين بالالات الموسيقية
والمغنين والمغنيات، وانتشرت بيوت الطرب،
وتشجّع الشعراء على هتك الحرمات والتعرض
لنساء المهاجرين والانصار، والتغزّل بهنّ في
أقدس المواسم وأقدس الامكنة هذا عمر بن أبي
ربيعة يذكر النساء المسلمات في شعيرة رمي
الجمار ويقول:

بدا لي منها معصم حين جمّرت
وكف خضيب زينت ببنان

فلما التقينا بالثنيّة سلّمت
ونازعني البغل اللعينُ عناني

فوالله ما أدري وإني لحاسب
بِسبع رمين الجمر أم بثماني([14])

وكان شعر عمر بن أبي ربيعة يجد في
النفوس صدىً عميقاً، وينتشر بين الناس
انتشاراً واسعاً، وهذا أيضاً يدلل على الوضع
الخلقي لتلك الفترة الزمنية.

يروى أن عمر بن أبي ربيعة حين مات اشتد
الحزن على جارية حبشية بمكة، وراحت نحو
المدينة أشدّ ما تكون حزناً وإعوالاً وهي
تقول: «من لمكة وشبابها وأباطحها ونزهها ووصف
نسائها، وحسن جمالهنّ بعد عمر؟! فقالوا لها:
خفّفي عليك، فقد نشأ من يأخذ مأخذه ويسلك
مسلكه، ويعنون العَرجيّ. ثم انشدوها شيئاً من
شعر العرجيّ في الغزل، فمسحت عينيها وضحكت،
وقالت: الحمد الله الذي لم يضيّع حرمه»([15]).
وهذا العرجي أيضاً والاحوص ممن خاضوا في
أعراض الناس، دون أن يردعهم أي رادع.

وتذكر لنا الروايات صوراً عن انتشار
بيوت الطرب وإقبال صنوف الناس عليها، فيهم
الصعلوك مثل أشعب الطماع، وفيهم سراة قريش،
وبعض بني هاشم أيضاً ممن لا أودّ أن أذكر
اسمه، بل تنقل لنا مجالس طرب النساء من وجوه
القرشيات واشتراك المغنين الرجال فيها وهكذا
انتشار الخمرة والتهاون في إجراء الحدود على
تعاطيها ويبلغ التهاون بالدين درجة أنّ
الوالي منع رفع الاذان في الحرم المكي في وقته
بأمر عائشة بنت طلحة كي لا يقطع الاذان
طوافها، وحين اعترضوا عليه لتأخير الاذان
والصلاة من أجل امرأة، قال: «والله لو طال
طوافها حتى صباح غد لما أجزت رفع الاذان».

الفساد السياسي

وفي هذا الجوّ المتحلّل انهارت حتّى
معنويات بعض الشخصيات الاسلامية البارزة،
وسقطوا في سبيل تحقيق متاع رخيص وأمل دنيوي
تافه من أولئك محمد بن شهاب الزهري، فقد كان
يوماً تلميذاً للامام السجاد(عليه السلام)،
غير أن معنوياته الهابطة دفعته إلى الارتباط
بالجهاز الحاكم، وعلى أثر ذلك وجه إليه
الامام السجاد رسالته المعروفة، وهي سند
تاريخي هام. وعبارات الرسالة لها دلالات كبرى
على الموقف السياسي للامام السجاد، منها قوله:
«ولا تحسبن الله قابلاً منك بالتعذير ولا
راضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات ليس كذلك،
أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: (لتبيننّه
للناس ولا تكتمونه) واعلم أن أدنى ما كتمت
وأخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم، وسهّلت
له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت، وإجابتك
له حين دُعيت، فما أخوفني أن تبوء بأثمك غداً
مع الخونة، وأن تُسأل عمّا أخذت باعانتك على
ظلم الظلمة»([16]).

مسؤولية الامام السجاد(عليه السلام)

في مثل هذه الظروف يبدأ عمل الامام
السجاد(عليه السلام) على ثلاثة محاور:

الاول: نشر مفاهيم الدين، باعتبار أن
الوعي الديني ضرورة لازمة لاقامة المجتمع
المسلم والدولة الاسلامية.

والثاني: تبيين مسألة الامامة ومعنى
الامام، لان الناس كانوا ينظرون إلى عبد
الملك أنه هو الامام.

والثالث: إعلان إمامته هو، وأن يقول:
إنه هو الامام.

وثمة روايات أخرى لها دلالات على
الوضع الاجتماعي الذي عمل فيه الامام السجاد(عليه
السلام). منها قوله: «ارتدّ الناس بعد الحسين
إلاّ ثلاثة...»([17]).
ومنها قوله: «ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً
يحبنا»([18]). ومنها قوله: «ما
ندري كيف نصنع بالناس، إن حدثناهم بما سمعنا
من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ضحكوا،
وإن سكتنا لم يسعنا»([19]).

مفهوم الامامة

ولابد أن أشير إلى أن مفهوم «الامام»
الذي شاع عندنا خلال القرون الاخيرة يختلف كل
الاختلاف عن معنى الامام في القرون الاسلامية
الاولى. في القرون الاولى كان مفهوم الامام هو
نفسه الذي نفهمه اليوم بعد قيام الجمهورية
الاسلامية أي حاكم الدين والدنيا، لكن القرون
الاخيرة شهدت انفصال «الحاكم» عن «الامام».
الحاكم يتولى امور الساحة الحيوية بكل ما
فيها من حرب وسلم وادارة سياسية واقتصادية،
والامام يتولى هداية الناس في عقائدهم
وعباداتهم. وهذا الانفصال أدّى إلى أن نفهم
الامام في القرون الاخيرة فهماً خاطئاً،
فهمناه أنه العالم الذي يتولى أمر العقائد
والعبادات، وأما أمر الدنيا فهو من شؤون
الخليفة. لم يكن الامر كذلك في القرون الاولى.
كل المسلمين بكافة فرقهم كانوا يفهمون أن
معنى الامام هو حاكم امور الدين والدنيا. كان
حكام بني أمية يدعون أنهم أئمة المسلمين،
وحكام بني العباس كانوا يدعون ذلك أيضاً، رغم
أن بين الحكام الامويين والعباسيين ممّن
ضربوا أرقاماً قياسية تاريخية في مستوى فسقهم
وفجورهم ما لا يسمح لنا الوقت بالحديث عنه
اكثر، ونكتفي بالقول إنّ المجتمع الاسلامي في
عصر السجاد كان له إمام، وهذا الامام هو عبد
الملك بن مروان، وإن الامام السجاد اهتم
بتوضيح الشروط التي يجب أن يتحلّى بها الامام
وبين أبعاد مسألة الامامة; ليخلص إلى النتيجة
الحقيقية وهي إفهام المجتمع أنه هو الامام.

ثم إن الانحطاط الخلقي في مجتمع
الامام السجاد(عليه السلام) حمّل الامام
مسؤولية انتشال الافراد من مستنقع الرذيلة،
وتوجيه الناس توجيهاً معنوياً، وهي عملية
لازمة لاعادة الحياة الاسلامية. وما خلفه
الامام السجّاد من تراث عظيم جُمع في «الصحيفة
السجادية» يبيّن نهج الامام في هذا السبيل.
كان يركّز على الترفع عن السقوط، والتعامل مع
الدنيا تعامل القائد لا المنقاد، وتعامل
الحرّ لا العبد، وهي تعاليم الاسلام في الزهد:
«ألا حُرٌّ يدع هذه اللماظة لاهلها؟ فليس
لانفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها بغيرها».

والامام السجاد أشاع هذه المفاهيم،
على الصعيد العام، وربّى أفراداً عليها في
المستوى الخاص، وبذلك توفّرت الظروف
المعنوية للالتحاق بمدرسة آل البيت(عليهم
السلام). ومن هنا يقول الصادق(عليه السلام): «ثم
إن الناس لحقوا وكثروا» بعد قوله: «ارتد الناس
بعد الحسين».

نصّان هامّان

وثمة نصان هامان في كتاب «تحف العقول»
هما من أطول ما نقل عن الامام علي بن الحسين
السجاد(عليه السلام)، يبينان نهجين مختلفين
للامام في نشاطه الاول: يتحدث إلى عامة الناس،
ويبدأ بعبارة «أيها الناس» يذكّر فيها
المخاطبين بواقع دنياهم ومسؤوليتهم تجاه
ربهم ونبيهم ودينهم، وما ينتظرهم في الاخرة
من نعيم أو عقاب، ويحذّرهم من المعاصي،
ويحثّهم بشكل خفيّ على عدم الركون إلى
الظالمين ويقول: «ولا تركنوا إلى الدنيا، فإن
الله قال لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا
تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، ولا
تركنوا إلى هذه الدنيا وما فيها ركون من
اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، فانها دار
قلعة، ومنزل بُلغة، ودار عمل، فتزوّدوا
الاعمال الصالحة قبل تفرّق أيامها»([20]).

هذا النص واضح في أنه كان خطاباً لعامة
الناس، غير أن النص الثاني واضح في خصوصية
خطابه، ولابدّ أن يكون الامام قد ألقاه على
مجموعة خاصة من أصحابه حيث يبدأ كلام الامام
بقوله: «كفانا الله وإياكم كيد الظالمين،
وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين. أيها
المؤمنون، لا يفتننكم الطواغيت من أهل الرغبة
في الدنيا المائلون اليها، المفتونون بها،
المقبلون عليها»([21]).

وهكذا استمر عمل الامام السجاد مدة
خمسة وثلاثين عاماً بشكل هادئ في جوّ مظلم
مدلهم، يسعى لانتشال الظالمين في دياجير
الشهوات أو في حبائل السلطة المتجبرة أو
علماء السوء من جهة، ومن جهة أخرى يسعى لتكوين
المجموعة المؤمنة الصالحة لكي تكون قاعدة
انطلاق لمراحل تالية من العمل الاسلامي.

حياة الامام السجاد بحاجة إلى ساعات
طوال، اكتفي بهذا القدر وانتقل إلى الامام
محمد بن علي الباقر(عليه السلام).

عصر الامام الباقر(عليه السلام)

لقد سار الامام الباقر على نهج أبيه مع
فارق بين ظروفه والظروف السابقة. نهجه كان
أيضاً نشر تعاليم الاسلام، لكن ظروفه قد
تحسنت.

فها هو يدخل المسجد وقد التف حوله أهل
خراسان وغيرهم، ويتقدم اليه قتادة بن دعامة
البصري فقيه أهل البصرة فيسأله ويتزود من
علمه.

روى الكليني في الكافي بسنده عن أبي
حمزة الثمالي قال: «كنت جالساً في مسجد رسول
الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل رجل
فسلم، فقال: من أنت عبد الله؟ قلت: رجل من أهل
الكوفة فما حاجتك؟ قال: أتعرف أبا جعفر محمد
بن عليّ قلت: نعم، فما حاجتك إليه إذا كنت تعرف
ما بين الحق والباطل؟ قال لي: يا أهل الكوفة
أنتم قوم ما تطاقون. إذا رأيت أبا جعفر
فأخبرني.

فما انقطع كلامه حتى أقبل أبو جعفر
وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك
الحج. فمضى حتى جلس محله، وجلس الرجل قريباً
منه، فجلست حيث استمع الكلام وحوله عالم من
الناس. فلما قضى حوائجهم وانصرفوا التفت إلى
الرجل، فقال له: من أنت؟ قال له: أنا قتادة بن
دعامة البصري. فقال له أبو جعفر: أنت فقيه أهل
البصرة؟ قال: نعم. فقال: ويحك يا قتادة، إن
الله عزّوجلّ خلق خلقاً فجعلهم حججاً على
خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قُوّام بأمره،
نجباء في علمه. اصطفاهم قبل خلقه، أظلة عن
يمين عرشه».

ويبدو أن قتادة أدرك منذ اللحظات
الاولى للقائه بالامام أنه امام حجة الله في
أرضه، فاضطرب، ولم يخف اضطرابه، فبعد سكوت
طويل قال: «أصلحك الله، والله لقد جلست بين
يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب
قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قُدّامك. فقال
له أبو جعفر: أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي (بيوت
أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له
فيها بالغدوّ والاصال رجال لا تلهيهم تجارة
ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وايتاء
الزكاة) فأنت ثم، ونحن اولئك. فقال له قتادة:
صدقت والله»([22]).

فالرواية تفصح عن التفاف الناس من
أقاصي البلاد وأدانيها حول الامام وعن توجه
الفقهاء إلى الامام للتزوّد من علمه. وثمة
رواية عن الابرش الكلبي قال فيها مشيراً إلى
الباقر(عليه السلام): «من هذا الذي احتوشه أهل
العراق يسألونه؟»([23]).

التفاف الناس حول أهل البيت ازداد ـ
إذن ـ في هذا العصر، وبنفس النسبة ازداد زخم
التحرك السياسي للامام الباقر(عليه السلام).

لم يكن موقف السجاد صدامياً مع عبد
الملك بن مروان. نعم كان أحياناً يجيبه بشدّة،
نحو ما فعل في رسالته الجوابية حين عيره عبد
الملك بزواجه من أمته المحرّرة([24]).
لكنه لم يكن يصطدم به. أما الامام الباقر(عليه
السلام) في حركته ونشاطه فقد بثّ الرعب والخوف
في قلب هشام بن عبد الملك، ورأى الخليفة أن
لابد من أن يضع الامام تحت المراقبة، ولذلك
طلب منه أن يقدم إلى الشام.

وثمة روايات تدل على أن الامام الباقر
كان يدعو إلى إقامة حكومة عادلة ويبشر
باقامتها، من ذلك قوله لشيخ: «إن تعش تَر ما
يقرّ الله به عينك»([25]).

وثمة رواية هامة للغاية عن الامام
محمد بن علي الباقر(عليه السلام) تعيّن للخروج
زمناً، وهي قضية مثيرة. في كتاب الكافي حديث
عن أبي حمزة الثمالي بسند عال قال: «سمعت أبا
جعفر(عليه السلام) يقول: يا ثابت، إن الله
تبارك وتعالى قد كان وقّت هذا الامر في
السبعين، فلما أن قتل الحسين صلوات الله عليه
استمرّ غضب الله تعالى على أهل الارض فأخره
إلى أربعين ومائة، فحدثناكم فأذعتم الحديث،
فكشفتم قناع الستر ولم يجعل الله بعد ذلك وقتا
عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم
الكتاب»([26]).

يقول أبو حمزة: «حدثت بذلك ابا عبد
الله(عليه السلام)، فقال: قد كان كذلك».

وسنة 140 سبقتها حادثة سنة 135 التي تولى
فيها المنصور العباسي الحكم. ولو لم تكن واقعة
تولّي بني العباس، وتولّي المنصور قد حدثت في
التاريخ لكان التقدير أن تعلو راية الحكومة
العلوية سنة 140. ولا أريد أن أدخل في تفاصيل
هذه الرواية إذ تحتاج إلى فصول مستقلة، ولا
أدري هل يسعني الوقت للوقوف عندها أطول أم لا،
ولكن هي باختصار تصرح بأن من المقرر أن تقوم
سنة 140هـ حكومة إسلاميّة، ولقد أخبرناكم بذلك
فافشيتم، فأخّره الله إلى وقت لم يجعله عندنا.

أعود فأقول: إن طابع الكفاح السياسي لم
يكن واضحاً في حياة الامام زين العابدين،
واصبح واضحاً في زمن الامام الباقر(عليه
السلام)، ولكن لا بمعنى الكفاح المسلح.

وهنا أقف عند ظاهرة الكفاح المسلح،
واشير إلى أن عصر الامام الباقر(عليه السلام)لم
يكن يسمح بذلك، لذلك حين استجازه زيد بن علي
في القيام لم يأذن له، فلم يخرج.

وليس صحيحا ما يقال من أن زيداً خالف
أمر الامام; فإن زيداً استشار الامام الصادق(عليه
السلام) بعد وفاة الامام الباقر(عليه السلام)
فشجعه على الخروج، وبعد شهادته رضوان الله
عليه ترحّم عليه الامام وتمنى أن يكون مع
الخارجين معه.

على أي حال، كان عصر الامام الباقر(عليه
السلام) عصر كفاح سياسي حادّ، وبعد وفاته أوصى
بما يجعل هذا الكفاح متواصلاً حين أوصى أن
تندبه النوادب «عشر سنين بمنى أيام منى»([27]).

عصر الامام الصادق(عليه السلام)

بدأ عصر إمامة جعفر بن محمد الصادق(عليه
السلام) سنة 114هـ ، واستمر حتى سنة 148هـ ، ومرّ
بمرحلتين متمايزتين، إحداها من سنة 114 حتى سنة
132 وهي سنة استيلاء بني العباس على الخلافة،
أو حتى سنة 135 وهي سنة تولّي المنصور. وهذه
الفترة يمكن أن نسميها فترة انفراج، وهي
الفترة التي عرفت بتوفر الفرصة لنشر معارف
أهل البيت(عليهم السلام)، بسبب النزاع بين بني
أمية وبني العباس. وهذه الفرصة لم تتوفر في
عصر الامام الباقر(عليه السلام)، بل كان عصر
الامام الباقر مقروناً باقتدار بني اُمية، «وكان
هشام رجلهم» كما قيل، وأكثر خلفاء بني اُمية
قدرة بعد عبد الملك.

في هذه المرحلة الاولى من عصر الامام
الصادق كان العالم الاسلامي من إفريقيا حتى
خراسان وما وراء النهر يعيش صراعات حادّة،
وواجه الحكم الاموي خلالها مشاكل متفاقمة
ممّا وفّر الفرصة للامام الصادق(عليه السلام)
أن ينشر معارف أهل البيت، وأن يركز على نفس
المحاور التي ركز الامام السجاد عليها، وهي
نشر مفاهيم الدين، وتبيين مسألة الامامة،
وإعلان إمامته هو. وهذه الثالثة مشهودة بوضوح
في المرحلة الاولى من حياة الامام الصادق(عليه
السلام).

ومن الامثلة على ذلك إعلان إمامته يوم
عرفة([28]).
ومن ذلك اتجاه الدعاة إلى خراسان للدعوة «إلى
ولاية جعفر بن محمد»([29]
وغيرها من الامثلة والشواهد التي ترتبط على
أغلب الظن بهذه المرحلة.

أما المرحلة الثانية التي تبدأ بتولي
المنصور فتتغير الاوضاع فيها، وتعود إلى حالة
قد تشبه عصر الامام الباقر(عليه السلام). يسود
جوّ من الارهاب والبطش، وينفى الامام مراراً
إلى الحيرة أو واسط أو الرميلة أو أماكن أخرى،
ويخاطبه الخليفة مرارا بحدّة، وقال له مرة: «قتلني
الله إن لم أقتلك»([30]
وأمر مرة «أن أحرق على جعفر بن محمد داره»،
ويمرّ الامام بين النيران وهو يردّد عبارات
مليئة بالتوكل والتحدّي ويقول: «أنا ابن
أعراق الثرى أنا ابن إبراهيم خليل الله(عليه
السلام)»([31]).

طبعاً هناك روايات عن تودد الامام
وتذلله أمام الخليفة، وتوصلت بعد دراستي لها
أنها مجعولة ولا أصل لها، وتتصل غالباً
بالربيع الحاجب الفاسق القريب من المنصور.
ومن الغريب أن بعضهم ذكر أن الربيع من الشيعة
ومن الموالين لاهل البيت اين الربيع من
التشيع؟! الربيع بن يونس خادم المنصور، تربى
منذ نعومة أظفاره في جهاز العباسيين، ثم أصبح
حاجب المنصور، وقدّم لهذه الاسرة خدمات
كثيرة، ثم بلغ منصب الوزارة. وعند وفاة
المنصور أوشكت أن تخرج الخلافة من أسرة هذا
الخليفة، وكان من الممكن أن تنتقل إلى
أعمامه، غير أن الربيع زوّر وصيّة تقضي
بانتقال الخلافة إلى المهدي. والفضل بن
الربيع ابنه أصبح بعد ذلك وزيراً لدى هارون
والامين. وكلما قاله الربيع هذا بشأن الامام
كذب وافتراء، وكان هدفه الاساءة إلى سمعة
الامام، لاضعاف معنويات أتباع مدرسة أهل
البيت.

على أي حال كانت المواجهة بين الامام
الصادق والمنصور حادة انتهت باستشهاد الامام
سنة 138هـ .

عصر الامام الكاظم(عليه السلام)

في متابعتنا للمسيرة العامة لنشاط
الامة نصل إلى فصل مهيّج جداً تبلغ فيه حركة
الكفاح ذروتها، يتمثل في عصر الامام الكاظم(عليه
السلام).

لا تتوفر بين أيدينا مع الاسف وثائق
كافية عن حياة هذا الامام. ولكن بعض هذا
المتوفر منها يثير الدهشة والاستغراب.

بعض الروايات تذكر أن الامام كان مدة
بعيداً عن أنظار أعوان السلطة، وربما كان
خلالها متوارياً عن الانظار. جهاز هارون
يتعقبه ولا يعثر عليه. ويلقي القبض على أفراد
فيعذبهم ليدلوا بمعلوماتهم عن مكان الامام
الكاظم. وهذه ظاهرة فريدة في حياة الائمة(عليهم
السلام).

ومن تلك الروايات ما ينقله ابن
شهرآشوب إذ يقول: «دخل موسى بن جعفر بعض قرى
الشام متنكراً هارباً»([32])!
مثل هذا لا نجده في حياة أي واحد من الائمة.

من هذه الروايات نفهم قضية سجن الامام
المؤبد في الطوامير; لان أمر الرشيد في بداية
خلافته كان على نحو آخر مع الامام الكاظم(عليه
السلام). يروي الامين أن هارون حين قدم إلى
المدينة بعد الحج وفد عليه الامام الكاظم وهو
راكب على ظهر حمار، فأمر هارون ألاّ ينزل
الامام من دابته إلاّ على بساطه، إجلالا
واحتراما. فما زال يسير على حماره حتى سار إلى
البساط، والحجاب والقواد محدقون به.

والرواية تذكر بعد ذلك أن الامام تحدث
إلى هارون عن ضائقة معيشته، وهو حديث يعرفه من
مارس التقية في أيام الكفاح السياسي، فمثل
هذه الاقوال تصرف عادة الخصم عن حال المتكلم
ونشاطه، ويفترض بمثل هذا الحديث أن يستدرّ
عطاء هارون، لكنه لم يزد على أن يعطيه مئتي
دينار.

يقول الامين: «فقمت في صدره وقلت: تعطي
أبناء المهاجرين والانصار وسائر قريش، وبني
هاشم، ومن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف
دينار، وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته
وأجللته مئتي دينار، أخس عطية أعطيتها أحداً
من الناس؟ فقال الرشيد: اسكت لا أمّ لك، فإني
لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب
وجهي غدا بمئة ألف سيف من شيعته ومواليه. وفقر
هذا وأهل بيته اسلم لي ولكم من بسط أيديهم
وغناهم»([33]).

يظن بعضهم أن هواجس الرشيد ناتجة عن
سعاية الساعين، وليس الامر كذلك، ما كان
يخشاه الرشيد إنما هو خطر حقيقي يتهدده من
الامام وأتباعه. وهذا الاحساس بالخطر هو الذي
دفع بالرشيد إلى أن يتعقب الامام ويطارده، ثم
يسجنه حتى آخر عمره.

عصر الامام الرضا(عليه السلام)

عصر الامام الرضا يمتاز أيضاً
بالانفراج وتحسّن الاوضاع وانتشار التشيع،
وينتهي بتولي الامام العهد. كان الامام في عصر
الرشيد يعمل ويتحرك ضمن إطار التقية. ونستطيع
أن نفهم عمل الامام الرضا(عليه السلام) في عصر
الرشيد من خلال احتفال الامة عند إعلان
ولايته للعهد. نرى وفود الشعراء مثل دعبل
الخزاعي وابراهيم بن العباس عليه وانشادهم
قصائد تدل على فهم لمكانة الامام ومنزلته،
كما نرى احتفالات غير معهودة في المدينة
والري وخراسان ومناطق أخرى، وهذه لا يمكن أن
تحدث فجأة من دون مقدمات. وما حدث خلال فترة
تولي الامام ولاية العهد (وهي حادثة مهمة جداً
أشرت في كلمتي الموجهة إلى المؤتمر السابق
إلى أسبابها ومقدماتها) يدل بوضوح على مدى
ارتباط الامة بآل البيت في عصر الامام الرضا(عليه
السلام).

على أي حال، الاختلاف بين الامين
والمأمون والنزاع بين خراسان وبغداد على مدى
خمسة أعوام وفّر فرصة عمل واسعة للامام بلغ
ذروته بمسألة تولي العهد، ولكن حادثة استشهاد
الامام قد قطعت على هذه المسيرة طريق
الاستمرار، وبدأ عصر جديد عادت فيه المحن
تنصب على أهل البيت، وأعتقد أن عصر الامام
الجواد(عليه السلام) وما تبعه هو أشدّ العصور
وأقساها على أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه
وآله وسلم). وهذه هي الصورة العامة للحياة
السياسية لائمة أهل البيت(عليهم السلام).

بعض معالم التحرك النضالي

ذكرت من قبل أن بحثي هذا عن الجانب
السياسي لحياة أئمة أهل البيت على قسمين:
الاول يتناول المسيرة العامة لحياتهم
السياسية، والثاني يقدم بعض معالم هذا التحرك.

لا يسع الوقت لافصّل الحديث في جميع
هذه المعالم، بل أشير إلى بعضها، من خلال
مذكراتي القديمة، ذاكراً عناوينها، تاركاً
التفصيل لمن يريد البحث والدراسة فيها.

الدعوة إلى الامامة

ادعاء الامامة والدعوة اليها ظاهرة
واضحة في حياة الائمة، وهي دائماً تدل على
موقف سياسي. والكتب الحديثية فيها كثير من هذه
الروايات تجدها في الفصل المعقود تحت عنوان: «الائمة
نور الله»([34]).
ورواية الامام الثامن في تعريف الامامة([35]).
والعديد من الروايات في حياة الامام الصادق
ومناظرات أصحابه. وهكذا ما روي في حياة الامام
الحسين في أحاديثه مع أهل العراق، وروايات
كثيرة أخرى.

انطباع الخلفاء عن تحرك الائمة

تلاحظون أن فهم الخلفاء منذ عصر عبد
الملك حتى زمن المتوكل لنشاط الائمة كان بشكل
واحد، كان الخلفاء وأعوانهم ينظرون إلى
الائمة نظرة تكاد تكون مشتركة، ومن الطبيعي
أن يتخذوا تجاههم موقفاً مشتركاً واحداً.
وهذه مسألة هامة يجب الوقوف عندها طويلاً
والتعمق فيها. على سبيل المثال قيل عن موسى بن
جعفر(عليه السلام): «خليفتان يجبى اليهما
الخراج»([36]
وقيل عن علي بن موسى الرضا(عليه السلام): «هذا
علي ابنه قد قعد وادّعى الامر لنفسه»([37])
وأمثالها من العبارات التي تدل عن كيفية فهم
الخلفاء وأعوانهم لنشاط أئمة أهل البيت. وهذه
مسألة هامة أخرى.

إصرار الخلفاء على ادعاء الامامة

اصرار الخلفاء على ادعاء الامامة
لانفسهم، وحساسية الشيعة من ذلك، معلم آخر
لموضوعنا هذا. نرى مثلاً الشاعر كثير بن عبد
الرحمن ـ حين يلومه الامام الباقر على
امتداحه عبد الملك ـ يقول: «ما قلت له يا إمام
الهدى»([38])حساسية هذا
الشاعر الموالي لال البيت إذن من كلمة «امام
الهدى». وهذا أيضاً يشير من جهة أخرى إلى رغبة
الخليفة في أن يقال له: «إمام الهدى».

ومروان بن أبي حفصة (الذي خدم
بالبلاطين الاموي والعباسي ومدح خلفاء
الاسرتين، وهذا من العجيب) كان يركز في مدحه
لخلفاء بني العباس على إثبات إمامتهم
للمسلمين ونفي أمامة أهل البيت(عليهم السلام)،
يقول:

أنّى يكون وليس ذاك بكائن
لبني البنات وراثة الاعمام

فالنزاع إذن بين العباسيين وآل البيت
كما صوره الشاعر هو نزاع حول الخلافة.

وينهض الشاعر الطائي الشيعي فيجيبه:

لِمَ لا يكون وإنّ ذاك لكائن
لبني البنات وراثة الاعمام

للبنت نصف كامل من ماله
والعمّ متروك بغير سهام([39])

تأييد الائمة للتحرك النضالي العنيف

وهذا معلم هام آخر يدل على اتجاه نشاط
الائمة(عليهم السلام). من ذلك ما قاله الامام
الصادق بشأن المعلّى بن خُنيس عندما قتله
داود بن علي، وبشأن زيد بن علي وبشأن الحسين
بن علي شهيد فخ وآخرين.

وفي نور الثقلين رواية مثيرة عن علي بن
عقبة قال: «إن أبي قال:دخلت أنا والمعلى على
أبي عبد الله (الصادق)(عليه السلام) فقال:
أبشروا! أنتم على إحدى الحسنيين، شفى الله
صدوركم، وأذهب غيظ قلوبكم، وأنالكم من
عدوّكم، وهو قوله تعالى: (ويشف صدور قوم
مؤمنين) وإن مضيتم قبل أن تروا ذلك مضيتم على
دين الله الذي رضيه لنبيه(صلى الله عليه وآله
وسلم) ولعلي(عليه السلام)»([40]).

وأهمية هذه الرواية أنها تتحدث عن
جهاد وانتصار وقتل.

ويزيد أهميتها أن المخاطب فيها
المعلّى بن خنيس الذي نعرف مصيره. والحديث
يبدأ بدون مقدمات كأنه يتحدث عن واقعة، وهي
غير معلومة لدينا.

وعبارة «شفى الله صدوركما» تحتمل أن
تكون دعاء من الامام، وتحتمل أن تشير إلى
حادثة قد وقعت. هل كان هذان الاثنان قادمين من
مهمة خطرة يعلم بها الامام؟ الا يحتمل أن يكون
الامام هو الذي أرسلهما في هذه المهمة؟ على أي
الاحتمالين، كلام الامام يدل على تأييده
للحركات الحادّة النضالية التي تتجلى في حياة
المعلى بن خنيس.

ومن المهم أن نعرف أن المعلّى «باب»
الامام الصادق(عليه السلام). وهذا التعبير (باب)
من الموضوعات التي تحتاج إلى دراسة، فهؤلاء
الذين اشتهروا بأنهم «باب» الائمة قد
استشهدوا غالبا أو هدّدوا بالقتل مثل: يحيى بن
أم الطويل، والمعلّى بن خنيس، وجابر بن يزيد
الجعفي.

سجن الائمة ونفيهم وتشريدهم

من الفصول التي أرى لزوم دراستها بدقة
هذا الفصل من حياة أئمة أهل البيت(عليهم
السلام). وفيه كثير من الابعاد والموضوعات
والنصوص. ولا يسع الوقت للوقوف عندها.

صراحة لهجة الائمة وحدتها مع الخلفاء

هذه الظاهرة أيضاً تجدها بوضوح في
تعامل الائمة مع الخلفاء، ولو كان الائمة(عليهم
السلام) محافظين ومهادنين لكانوا مثل بقية
الوعاظ والزهاد في تلك العصور. كان أولئك
الوعاظ والزهاد يدخلون على الخلفاء
فيعظونهم، وكان الخلفاء يودّونهم.

يقول الرشيد عن أحد هؤلاء:

كلكم يمشي رويدكلكم يطلب صيدغير عمرو
بن عبيد

ينصحونهم ويعظونهم حتى يدفعونهم
أحياناً إلى البكاء، لكنهم يحذرون أشدّ الحذر
من أن يواجهوهم بكلمة تجرحهم. لا يذكّرونهم
أبداً بتجبرهم وطغيانهم وغصبهم. أما الائمة
فكانوا يصارحونهم بذلك، ولا يأبهون أبداً
لهيبة الخليفة وقدرته.

حدّة الخلفاء مع الائمة

وهو محور آخر يمكن دراسته في هذا
المجال، كالذي حدث بين المنصور والامام
الصادق(عليه السلام)، أو بين هارون والامام
موسى بن جعفر(عليه السلام)، وقد أشرنا إلى بعض
ذلك من قبل.

استراتيجية الامامة

من المعالم الهامة اللطيفة في هذا
المجال أقوال الائمة الدالة على استراتيجية
الامامة. إننا نرى في بعض أقوالهم ومباحثاتهم
عبارات غير عاديّة تكشف عن هذه الاستراتيجية.

من ذلك حوار بين الامام موسى بن جعفر(عليه
السلام) وهارون الرشيد حول فدك.

قال هارون للامام: «حُدَّ لي فدكاً حتى
أردّها اليك». ظنّ هارون أنه بذلك يستطيع أن
يسلب آل البيت شعار ظلامتهم الذي طالما رفعوه
مطالبين بفدك.

امتنع الامام في أول الامر، وحين أصرّ
عليه الرشيد قال الامام: «لا آخذها إلاّ
بحدودها».

قَبِل الرشيد بذلك، وبدأ الامام يذكر
حدود فدك فقال: «أما الحد الاول فَعَدَن»
وَعَدَن تعني نهاية الجزيرة العربية. تقول
الرواية: «فتغير وجه الرشيد وقال: إيها!» قال
الامام: «والحدّ الثاني سمرقند» أي أقصى شرق
حكومة هارون. فاربدّ وجه هارون. ثم قال الامام:
«الحد الثالث إفريقية» أي أقصى غرب البلاد
الاسلامية. فاسودّ وجه هارون وقال: «هيه!» ثم
قال الامام: «والحدّ الرابع سِيف البحر مما
يلي الجزر وأرمينية» أي أقصى شمال العالم
الاسلامي آنذاك.

استشاط هارون غضباً وقال ساخراً: «فلم
يبق لنا شيء، فتحول إلى مجلسي» أي اجلس على
سرير الخلافة مكاني.

وتقول الرواية بعد ذلك: إن الامام قال:
«قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردّها» فعند
ذلك عزم على قتله([41]).

ومثل هذا المدّعى نراه عند الامام
الباقر والصادق والرضا(عليهم السلام).
وبمجموعه يرسم استراتيجية الامامة.

فهم الاصحاب لسيرة الائمة

من المحاور الهامة في دراسة حياة
الائمة الكشف عن فهم أصحابهم لسيرتهم، فإنهم
كانوا أقرب إلى الائمة وأكثر فهماً لاهدافهم،
فكيف كانوا يفهمون هذه الاهداف؟

نحن نرى أن هؤلاء الاصحاب كانوا
ينتظرون «خروج» الائمة. نرى رجلاً يقدم على
الامام الصادق من خراسان ويخبره بأنّ بضعة
آلاف من المسلحين ينتظرون في خراسان إشارته.
يشك الامام في عدد الافراد، والخراساني يقلّل
العدد، ثم يؤكد الامام على «كيفية» الافراد،
وفي الخاتمة يقول له: «لو كان لي عدد ما ذكرت
من الافراد لخرجت».

كثير من الافراد يلتقون الامام
ويطلبون منه «الخروج» على حد تعبير الروايات.
وربما كان بين هؤلاء جواسيس بني العباس
ايضاً، ويمكن أن نفهم ذلك من طريقة جواب
الامام لهم.

كل هذه الظواهر تدل على أن مسألة
الخروج لاقامة دولة الحق كانت في قاموس
الشيعة آنذاك من الاهداف الحتمية. وكان أصحاب
الائمة ينتظرون الفرصة المناسبة للنهوض بهذه
المهمة.

ورأيت في رجال الكشي رواية لطيفة تحكي
عن فهم كبار أصحاب الائمة مثل زرارة بن أعين
لمسألة الخروج. تقول الرواية إن زرارة جاء
الامام الصادق وأخبره أن أحد الاصحاب قد فرّ
من الدائنين، وإذا كان «هذا الامر» قريباً
فليصبر حتى يخرج مع القائم، وإن كان فيه تأخير
فليصالحهم. يجيبه الامام «سيكون» يسأل زرارة:
«حتى عام واحد؟» يجيبه الامام: «إن شاء الله
سيكون». يعيد زرارة السؤال: «حتى عامين؟»
يجيبه الامام: «إن شاء الله سيكون». ويقتنع
زرارة أن حكومة آل علي سترتفع رايتها بعد
سنتين.

لم يكن زرارة رجلاً عادياً، كان من
أصحاب الامامين الباقر والصادق(عليهما
السلام). ونراه ينظر إلى قيام دولة آل محمد(صلى
الله عليه وآله وسلم) بهذه الثقة واليقين.

وفي رواية أخرى عن هشام بن سالم أن
زرارة قال له: «لا ترى على أعوادها غير جعفر».
والمقصود بالاعواد كرسي الخلافة. وحين توفي
الامام الصادق، قال هشام لزرارة: «أتذكر ما
قتله؟ قال: نعم، لقد ذكرت ـ والله ـ رأيي في
ذلك». (يريد أن يزيل شبهة نقل ذلك عن الامام).

من هذه الروايات التي تتحدث عن انتظار
الخروج أو طلب الخروج على لسان أصحاب الائمة،
نفهم بوضوح أن إقامة الحكم العلوي والسعي له
وانتظاره كان من الامور المسلمة في نظر
الشيعة، بل في نظر المقربين من أصحاب الائمة،
وهذه قرينة حتمية تدل على هدف الائمة
ومسيرتهم.

حقد الخلفاء على الائمة

لماذا كل هذه الخصومة من الخلفاء تجاه
الائمة(عليهم السلام)؟ هل يعود ذلك إلى حسد
الخلفاء بسبب التفاف الناس حول الائمة؟ لا شك
أن الائمة محسودون. والامام يعلق على قوله
تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله)([42])فيقول:
«نحن المحسودون»([43]). ولكن المهم أن
نرى سبب هذا الحسد. هل هو حسد لما عند الائمة
من علم وتقوى؟ لقد كان هناك كثير ممن يعرفه
الناس بعلمه وزهده آنذاك من أمثال: ابي حنيفة،
وابي يوسف، والحسن البصري، وسفيان الثوري،
ومحمد بن شهاب وعشرات من أمثالهم، وكانت لهم
شهرة بين أوساط الناس، لكن الخلفاء لم
يحسدوهم، بل كان بعضهم ذا حظوة لدى الخلفاء.

في اعتقادي أن هذا الحسد يجب أن نجد له
جذوراً في دعوة الائمة إلى إمامتهم. وهذه
أيضاً مسألة تستحق الدراسة والتعمّق.

معارضة أصحاب الائمة

من المعالم التي توضح سيرة أئمة آل
البيت(عليهم السلام) التحرك المعارض الحاد
لاصحاب الائمة(عليهم السلام) ضد جهاز الخلافة.
ونجد مظاهر ذلك على مدى تاريخ حياة الائمة. في
عصر الامام السجاد، حيث الطغيان يبلغ ذروته،
يقف يحيى بن أم الطويل، وهو من حواريي الامام،
في المسجد ينادي بأعلى صوته مخاطباً الناس
المستسلمين لجهاز الخلافة أو العاملين في هذا
الجهاز، بالاية المباركة التي تلاها إبراهيم(عليه
السلام) على الكافرين: (كفرنا بكم وبدا بيننا
وبينكم العداوة والبغضاء)([44]).

وفي كناسة الكوفة يرفع صوته بمعارضة
السياسة الحاكمة. والمعلّى بن خنيس يذهب إلى
صلاة العيد مع الناس في حالة يرثى لها، وحين
يقبل الخطيب المنبر ينهض قائماً ويرفع صوته
بالنداء: «اللهم إن هذا مقام خلفائك وأصفيائك
وموضع أمنائك... ابتزوها..».

ومن المؤسف أن هذا الصحابي الجليل
الذي اثنى الامام عليه ولعن قاتله يشك بعضهم
في وثاقته، ولا نستبعد أن يكون لبني العباس يد
في نشأة هذه النظرة السلبية.

التقية

والمسألة الهامة الاخرى هي «التقية»
وهي مسألة ذات أبعاد واسعة وعميقة، ولابد
لفهمها من مراجعة كل الروايات المرتبطة
بالكتمان وحفظ الاسرار، ودراستها على ضوء
أهداف الائمة التي مرّ ذكرها، وعلى ضوء ظروف
البطش والارهاب.

ومما لا شك فيه أن التقية لا تعني الانصراف عن
النشاط، بل تعنى تغطيته. وهذا ما يتضح بجلاء
عند دراسة الروايات. هذا جزء من المواضيع
المرتبطة بحياة الائمة(عليهم السلام). وهناك
طبعاً مباحث أخرى حول الجانب السياسي من
حياتهم لا يسع المجال لذكر حتى عناوينها. ولقد
درست طويلاً في هذا الحقل، وليس لي اليوم فرصة
ـ مع الاسف ـ لجمع شتات هذه الدراسات. وليت
أصحاب الهمة ينهضون بهذه المهمة ويتابعون
الحياة السياسية للائمة(عليهم السلام)،
ليقدموها إلى الامة باعتبارها درساً للحياة
ومنهجاً للعمل، لا باعتبارها فقط ذكريات
خالدة في الاذهان والنفوس.



([1])
محاضرة أُلقيت في افتتاح مؤتمر الامام الرضا(عليه
السلام).

([2])
البحار 46: 172.

([3])
البحار 46: 170.

([4])
بحار الانوار 44: 56.

([5])
بحار الانوار 44: 57.

([6])
اعيان الشيعة 1: 571.

([7])
بحار الانوار 47: 58.

([8])
المستدرك الباب 38 من أبواب أحكام اللباس.

([9])
بحار الانوار 45: 115.

([10])
أي اللصوص .

([11])
الكامل في التاريخ لابن الاثير 4، وقائع سنة
62 و63.

([12])
ابن ابي الحديد :127 128.

([13])
الاغاني 3: 243.

([14])
ديوان عمر بن ابي ربيعة: 362، ط . دار الكتاب
العربي.

([15])
الاغاني 1: 387 ط . دار الكتب.

([16])
تحف العقول عن آل الرسول، الحراني: 275، ط.
مؤسسة النشر الاسلامي.

([17])
بحار الانوار 46: 144.

([18])
بحار الانوار 46: 142 ـ 143.

([19])
المصدر السابق.

([20])
تحف العقول عن آل الرسول، الحراني: 252، ط.
مؤسسة النشر الاسلامي ـ قم 1404هـ ق.

([21])
المصدر السابق.

([22])
البحار 46: 357.

([23])
البحار 46: 355.

([24])
البحار 46: 165.

([25])
البحار 46: 362 ـ 363.

([26])
اصول الكافي 2: 190.

([27])
راجع مدلول هذه الرواية في قيادة الامام
الصادق للامام الخامنئي (المترجم).

([28])
البحار 47: 58.

([29])
البحار 47: 72.

([30])
البحار 47: 174.

([31])
اصول الكافي 1: 473.

([32])
ابن شهرآشوب، المناقب 4: 311.

([33])
عيون أخبار الرضا 1: 88 ، البحار 48: 131 ـ 133.

([34])
الكافي 1: 276.

([35])
عيون أخبار الرضا 1: 216.

([36])
البحار 46: 125.

([37])
البحار 49: 113.

([38])
البحار 46: 338.

([39])
الاحتجاج 2: 394.

([40])
نور الثقلين 2: 190.

([41])
البحار 48: 144.


([42])
النساء: 54.

([43])
الميزان 4: 384.

([44])
الممتحنة: 4.

/ 1