تقريرات آية الله المجدد الشيرازي (الجزء: ١) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تقريرات آية الله المجدد الشيرازي (الجزء: ١) - نسخه متنی

مولی علی روزدری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید




تقريرات
آية الله المجدد الشيرازي
للعلامة المحقق
المولى علي الروزدري
المتوفى حدود سنة 1290 ه‍
الجزء الأول
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث
المقدمة 1

BP المجدد الشيرازي، محمد حسن بن محمود، 1230 - 1312 ق.
159 تقريرات آية الله المجدد الشيرازي / لعلي الروزدري؛ تحقيق مؤسسة آل
8 / البيت عليهم السلام لاحياء التراث. - قم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، 1409
9 م / - 1415 ق = 1367 - 1373 ش.
7 ت 4 ج.
1415 ق الجزء الأول.
1. أصول الفقه الشيعي. ألف. الروزدري، علي، المؤلف. ب.
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث. ج. العنوان.
شابك (ردمك) 5 - 51 - 5503 - 694 دورة 1 - 4
ISBN 5 - 51 - 5503 - 964 / 4 VOLS.
شابك (ردمك) × - 52 - 5503 - 694 / ج 1.
ISBN X - 52 - 5503 - 964 / VOL 1.
الكتاب: تقريرات آية الله المجدد الشيرازي - الجزء الأول
المؤلف: المولى علي الروزدري
تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - قم
الطبعة: الأولى -
ليتوگرافي: - قم
المطبعة: - قم
التجليد: صحافي صنعتي - قم
الكمية: 2000 نسخة
السعر: ريال
المقدمة 2

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة 3

جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
قم - دور شهر - خيابان شهيد فاطمي - كوچه 9 - پلاك 5
ص. ب. 996 / 37158 - هاتف 2 - 730001
المقدمة 4

توطئة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا، والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله المنتجبين الغر الميامين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
فإن علم أصول الفقه علم كثير نفعه غزيرة فائدته، لا يستغني عنه مجتهد يقرع أبواب الاستنباط لأنه أداته اللازمة وعدته الملازمة.
وقد عرف هذا العلم بأنه «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية».
وصنف علماؤنا - جزاهم الله كل خير - أسفارا ضخمة وكتبا قيمة في هذا الفن، ونقحوا وزادوا في أبوابها كل بحسب ما وصل إليه رقي هذا العلم في عصره، وما أبدعه فكره... حتى جاء عصر الوحيد البهبهاني الذي بلور الأصول، ووقف أمام المد الأخباري، وتمكن من وضع اللبنة الأصولية الجديدة وأقام على أساسها مدرسته
المقدمة 5

العلمية الرصينة الكبرى، وتخرج على يديه المئات من العلماء، وأنتجت تلك المدرسة عشرات الكتب القيمة كمفاتيح الأصول والفصول والضوابط وغيرها.
وكان حصيلة هذه المدرسة هو شيخنا الأنصاري الذي كتب فرائده ليكون بذلك رائدا لمدرسة أصولية جديدة، فأجهد نفسه لبث أفكاره وآرائه في تلاميذ مدرسته والتي بقيت مستمرة إلى يومنا هذا.
ومن تلامذته المتأثرين بأفكاره هو سيدنا الإمام المجدد الشيرازي الكبير الذي أخفى جميع ما كتبه من جهود علمية احتراما لشيخ العظيم.
وقد وفقنا الله تعالى فحصلنا على هذا الكتاب - الذي بين يديك - من خزانته المحفوظة عند حفيده آية الله السيد رضي الشيرازي والذي تفضل مشكورا بإرساله إلينا، وهو تقريرات درسه في الأصول كتبها تلميذه العلامة المولى علي الروزدري، والذي، توفي في حياة أستاذه.
وهو تقرير جيد السبك، عميق المطالب، جزل العبارة، سهل التناول، فيه الكثير من الآراء الجديدة والأفكار القيمة الفريدة.
وكانت مقدمة الكتاب - بعد أن ظهر محققا - بقلم سماحة الدكتور حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد بحر العلوم، ترجم فيها للمؤلف وللحركة العلمية، فلله دره وعليه أجره.
هذا ونشكر أصحاب السماحة حجج الإسلام الشيخ محمد رضا خراشادي والشيخ محمد جواد أنصاريان للجهد الذي بذلاه في تحقيق هذا الكتاب وتصحيحه وتخريج أحاديثه، زاد الله في توفيقهم وحشرهم مع الأئمة الأبرار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المقدمة 6

المقدمة الإمام المجدد الشيرازي بقلم: د. السيد محمد بحر العلوم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين رسول الله محمد وآله الغر الميامين وعلى أصحابه المنتجبين.
وبعد:
فقد طلب إلي أن أقدم هذا الكتاب القيم الذي مع القراء الكرام اليوم، وهو تقريرات الإمام المجدد السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي - رضوان الله عليه - نظرا لما لهذه الشخصية العظيمة من مركز مرموق لدى المسلمين، فأرجو أن أوفق لوضع دراسة عنه تتناسب ومكانته العلمية ومنزلته الاجتماعية، والله ولي التوفيق.
المقدمة 7

الفصل الأول جامعة النجف العلمية تتحدى الزمن
اقترن اسم النجف الأشرف - كمدينة جامعية يبحث فيها علوم الشريعة الإسلامية - باسم شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن حسن الطوسي، الذي انتقل إليها بعد الحوادث الطائفية الدامية التي نشبت في بغداد عام 449 ه‍، والتي أدت إلى قتل ودمار واضطهاد المسلمين الشيعة الذين يسكنون بغداد. واعتبر هو المؤسس الأول لهذه الجامعة العلمية الشامخة عبر القرون والأيام. كما بقيت مستمرة بين شدة وضعف تقطع أشواطا بعيدة في مسيرتها الجامعية، وهي تسجل لمؤسسها دور القيادة والزعامة بكل تقدير وإكبار.
وجامعة النجف مرت في ثلاثة أدوار:
الأول - بدأ بانتقال الشيخ الطوسي عام 449 ه‍ - إلى النجف، وأسس فيها الحوزة العلمية، وبقيت من بعده تدار من قبل تلامذته الأعلام، وترى بعض المصادر أن الفترة التي تلت وفاة الشيخ الطوسي من أنشط العهود بالنسبة للحركة العلمية في الجامعة النجفية، وإن الوضع الدراسي قد بلغ أوجه وشدة عنفوانه في عصر ولده الشيخ الحسن بن محمد بن الحسن المعروف بأبي علي الطوسي المتوفى سنة 515 ه‍، ويمكن أن تكون امتدادا لعهد الشيخ والده ().
وإذا ما جاء عهد الشيخ محمد بن أحمد بن إدريس في القرن الخامس حتى نقل الحوزة العلمية من النجف إلى الحلة وقد تكاملت عناصر هذا الانتقال في أوائل القرن السابع الهجري، ونشطت الحركة العلمية فيها إلى حد كبير.
وزعم هذا الانتقال العلمي من النجف، فإنها بقيت محتفظة بطابعها العلمي
المقدمة 8

وإن كان على نحو ضيق، ولقد دفع هذا الانتقال بعض الكتاب إلى البحث عن أسباب ذلك، وانتهوا إلى نقاط عديدة أهمها، بروز زعيم حلي للحركة العلمية وهو الشيخ ابن إدريس، والذي وصف بأنه مثل ثورة علمية حول الأنظار إليه، وقصده المشتغلون في علوم الشريعة للاستفادة منه في موضع سكناه، والذي أصبح مركزا علميا من بعده، تناوب على زعامة المركز العلمي في الحلة من بعده الأعلام الحليون أمثال:
المحقق الحلي المتوفى عام 676 ه‍ والعلامة الحلي المتوفى عام 727 ه‍ - وغيرهما من أعلام البيوتات العلمية التي اشتهرت هناك بالفضل والاجتهاد والزعامة الدينية، كآل إدريس، وآل شيخ ورام، وآل فهد، وآل طاوس، وآل نما ()، وغيرهم.
الثاني - ويبدأ في النصف الأخير من القرن العاشر الهجري وقد استعادت الجامعة النجفية مركزها العلمي بعد أن احتضنتها الحلة مدة ثلاثة قرون، وذلك في عهد المحقق الأردبيلي أحمد بن محمد، الذي برز في النجف الأشرف علما شامخا، التف حوله أهل العلم من كل الأطراف، وصارت الجامعة النجفية من أعظم مراكز العلم في عهده ().
وذكر من أسباب عودة الحياة العلمية إلى الجامعة النجفية - بعد انتقالها إلى الحلة - هي:
أن السلطة الجلائرية والإيلخانية - واللتين حكمتا بغداد زمانا ليس بالقصير - كانتا على قصد في إحياء الحركة العلمية في الجامعة النجفية، وجعلها قوة دفاعية للشيعة، ومركزا مهما يقابل بغداد.
ففي بغداد حركة علمية سنية تدار من قبل السلطة الحاكمة حينذاك في العهد العباسي ذات عروق وأصالة، والسلطتان المتقدمتا الذكر هما القوة المقابلة
المقدمة 9

للخلافة، كما كان الأمر في عهد البويهيين.
ولهذا كان لهاتين السلطتين أثر في دعم الجامعة النجفية، واهتمامهم بها كمصدر للإشعاع العلمي المعبر عن علم أهل البيت عليهم السلام.
وذهبت بعض المصادر إلى أن المدة التي عاشتها الجامعة النجفية في دورها الثاني هو من عام 750 - 1150 ه‍، غير أن الدلائل تشير إلى أن العهد بدأ في عهد المقدس الأردبيلي الذي هو من أعلام القرن العاشر الهجري، وحتى نهاية القرن الثاني عشر، حيث انتقلت إلى كربلاء نتيجة عوامل عديدة أهمها بروز مدرسة الوحيد البهبهاني، المولى محمد باقر بن محمد أكمل المتوفى عام 1208 ه‍، وتصفها المصادر بأنها افتتحت عصرا جديدا في تاريخ العلم، والتي اكتسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى عصر ثالث ().
وعاشت هذه المدرسة قرابة السبعين عاما، وهي تكاد تفتح آفاقا جديدة في الكيان العلمي الكربلائي، كان له صدى حافل بالإكبار والتقدير.
الثالث - وهو - كما تصفه المصادر - عصر الكمال العلمي وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدمته من جهود متضافرة في الميدانين: الأصولي والفقهي.
وقد تمثلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمة ().
وعادت النجف إلى ميدانها العلمي كمركز أول - من بعد هذه الفترة - للحركة العلمية التي تمثل مدرسة الوحيد البهبهاني على يد تلميذه السيد محمد مهدي
المقدمة 10

بحر العلوم الطباطبائي بعد أن عاشت زمانا وهي تتفاعل بتأثيرات المدرسة الفكرية في كربلاء.
ولنا أن نسمي هذا العصر بعصر النهضة العلمية لكثرة من نبغ فيه من العلماء والفضلاء، ولكثرة تهافت الناس على العلم فيه، وازدياد الطلاب ().
وكانت مظاهر هذا الدور بارزة في مجالي الفقه والأصول إلى جانب بقية العلوم التي دللت النجف على اختصاصها بها، بالإضافة إلى الطابع الأدبي.
ففي حقل الفقه: نرى أنه تطور في هذا الدور تطورا محسوسا لما دخله من عنصري البحث والنقد، ولما تحلى به من قابلية النقض والإبرام، والتعمق والتحليل، وخاصة في ملاحظات الروايات من حيث السند والدلالة والفحص عن مدى وثوقها عند الماضين من العلماء الأعلام، وعرض المسائل الفقهية حسب الأدلة الاجتهادية والفقهية.
فالتجربة العلمية التي عاشتها النجف في دورها الثالث في حقل الفقه كان لها الأثر الكبير في إبراز عطاء ناضج يدل على سعة في الأفق، ووفرة في الاطلاع، ولذا وصف بدور التكامل والنضوج.
أما في حقل الأصول: فقد يكون من الواقع أن يطلق على هذا الدور، دور الكمال العلمي، فإن المرحلة الجديدة
التي دخلها علم الأصول كان نتيجة أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمة.
وما أن بلغ العهد بالمحقق الشيخ مرتضى الأنصاري المتوفى 1281 ه‍، حتى اعتبر رائدا لأرقى مرحلة من مراحل الدور الثالث التي يتمثل فيها الفكر العلمي
المقدمة 11

منذ أكثر من مائة سنة حتى اليوم ().
وتعهد الحركة العلمية بالعطاء والتجديد من بعده عدد من ألمع أقطاب المدرسة العلمية النجفية أمثال: المجدد السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، وتلاميذه مثل: الملا الشيخ محمد كاظم الخراساني، والميرزا حسين النائيني، وتلاميذ الخراساني مثل: الشيخ محمد حسين الأصبهاني، والشيخ آقا ضياء العراقي، وغيرهم إلى عصرنا المعاش من أقطاب هذه المدرسة وقدر لهم أن يرتفعوا إلى القمة العلمية، ويوفروا للأجيال تراثا ضخما يستنير به العاملون في هذا الحقل، ويستفيد منه رواد المدرسة الفقهية والأصولية على مر الزمان.
ولقد مرت على الجامعة العلمية ظروف قصيرة انتقلت فيها المرجعية الدينية إلى كربلاء أو الكاظمية أو سامراء أو قم أو غيرها، بسبب عوامل سياسية أو اجتماعية أو دينية وغير ذلك، ولكن ما كان وجود هذه الجامعة ينعدم بسبب عامل الانتقال، وإذا تقلص إلى حد ما فان ظلال الشموخ العلمي يبقى الطابع المميز لها - كما هو الحال في العصر الحاضر -.
المقدمة 12

الفصل الثاني الإمام المجدد الشيرازي
من بعد وفاة علم النهضة الفكرية المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري وزعيم الحوزة النجفية الفقهية والأصولية تعالت الاستفسارات عمن يشغل مركز الزعامة العلمية والدينية ويكون مرجعا للمسلمين عام 1281 ه‍، وبقيت الأمة المسلمة تبحث عمن يسد هذه الثلمة، ويكون مرجعا لها في تبليغ الأحكام الشرعية، وتبقى الأنظار مشرعة إلى النجف الأشرف وإلى الصفوة المؤمنة من خاصة المرجع الراحل ورائد المدرسة الفكرية في الجامعة النجفية، لتقول كلمتها بشأن المرجع الجديد، وهل في خاصة الشيخ الأنصاري من يسد الشاغر ويغطي منطقة الفراغ؟ كما هناك من غير خاصة الشيخ الأنصاري من يملك المؤهلات التي توصله لهذا المنصب الذي له في نفوس الجماهير القداسة والاحترام، بصفته القيادية والروحية.
والمرجعية عند المسلمين الشيعة تختلف عن غيرهم، فهي لم تكن بأمر من حاكم، ولا بتعيين من سلطان، إنما هي الامتداد الطبيعي لمسلك الأئمة الهداة الميامين من العترة الطاهرة، الذين هم عدل الكتاب جملة وتفصيلا، والذين نص عليهم النبي صلى الله عليه وآله مبتدأ بعلي وخاتما بالمهدي عليهم السلام وإذا ما انتهى الدور إلى المهدي عليه السلام أسند الدور إلى الفقهاء الرساليين الذين يتصفون بالمؤهلات التي توصلهم إلى قيادة المرجعية، والتي هي بمعناها الواسع قيادة الأمة في أمور دينها ودنياها، لا تخضع لإرادة السلطان، ولا بحاجة إلى تعيين الحاكم، إنما هي منصب ديني تشهره المؤهلات العلمية المرتبطة بالعقيدة الإسلامية فقها وتشريعا، وتسدده العصمة الشخصية من الانزلاق في مهاوي الذات ودوافع الدنيا، وخوف الله سبحانه من التدني فيما لا يرضيه ولا يحمده ().
المقدمة 13

وهذا المنصب الديني العلمي لا يمكن أن يبقى شاغرا في قيادة الأمة، لأنها بحاجة إلى من يرشدها إلى طريق الصواب، ويأخذ بيدها إلى ما يبرر عملها وحاجتها الآنية التي يترتب عليها الثواب والعقاب.
وحين لبى الزعيم الروحي، ورائد الجامعة العلمية النجفية الشيخ الأنصاري نداء ربه، كان من الطبيعي أن يلمع اسم من يملأ هذا المنصب، فالأمة لا تبقى بدون مرجع، وكان اسم السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي هو الأول من بين الأسماء اللامعة المرشحة لهذا المنصب، وفعلا تم الاتفاق عليه، وسد الشاغر، وأصبح المرجع الروحي للشيعة الإمامية. ولنتعرف على هذا الإمام، الذي عرف فيما بعد بالمجدد الشيرازي.
1 - من هو السيد الشيرازي، ونشأته؟
السيد أبو محمد معز الدين الميرزا محمد حسن بن ميرزا محمود بن محمد إسماعيل بن فتح الله بن عابد بن لطف الله بن محمد مؤمن الحسيني، المنتهي نسبه إلى الإمام الحسين عليه السلام.
وقد وصفته المصادر ب: الشيرازي المولد، الغروي المنشأ، العسكري المهاجر، النجفي المدفن ().
المقدمة 14

وقد اشتهر ب‍ الميرزا الشيرازي ()، كما عرف ب‍ المجدد الشيرازي ().
ولد رحمه الله في شيراز عام 1230 ه‍، وتولى تربيته خاله المرحوم السيد ميرزا حسين الموسوي، لأنه فقد والده المرحوم السيد محمود وهو طفل صغير ().
وكان بيته معروفا بشيراز، وله في ديوان دولة شيراز شأن ()، ولكن خاله أراد ان ينشئه خطيبا، فوجهه إلى ذلك منذ نعومة أظفاره، كما وجهه لتعليم القراءة والكتابة وحفظ النصوص، وكان سريع التعلم إذ تشير المصادر المترجمة له بأنه قطع شوطا مميزا في هذا المضمار وهو لم يكمل السابعة من عمره، ولقد شرع بدراسة العلوم العربية ومن بعدها في علمي الفقه والأصول وهو في السادسة من عمره ().
والظاهر أن السيد - قدس سره - كان يتمتع بقابلية جيدة من الذكاء والفطنة، مما ساعده على تقبل هذه العلوم وتلقيها بصورة أهلته لدراسة كتاب شرح «اللمعة الدمشقية» () وهو في الخامسة عشرة من سنيه ().
المقدمة 15

حتى إذا أكمل دراسة الكتب الأولية المقررة للدراسة الحوزوية وهي ما تسمى ب‍ «السطوح» انتقل إلى أصبهان عام 1248 ه‍ - لأنها كانت مركزا مشهورا لدراسة علوم الشريعة - حينذاك - لما تضم من أعلام الفقه ومدرسي الأصول، وقد وصفتها المصادر - حينذاك - ب‍ «دار العلم» ()، وكان عمر السيد لم يصل الثامنة عشرة ().
فقرأ - هناك - على الشيخ محمد تقي، مؤلف حاشية «المعالم»، ثم حضر على مير السيد حسن البيد آبادي الشهير بالمدرس حتى حصلت له الإجازة منه قبل بلوغه العشرين من العمر (). كما حضر درس الشيخ محمد إبراهيم الكلباسي فترة من الزمن.
2 - الهجرة إلى الجامعة النجفية:
أغلب طلاب العلوم الدينية الشيعة في الأقطار الإسلامية يضعون نصب أعينهم، وهم يشتغلون في الخط العلمي الحوزوي أن يقضوا جزءا من شوطهم العلمي في الجامعة النجفية، يستفيدوا من أساتذتها، وينتهلوا من معرفة أعلامها، ويتبركوا بزيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام.
هذه الجامعة الدينية، والتي اعتبرت المركز العلمي الأول للدراسات الإسلامية الشيعية من مدة تزيد على عشرة قرون، من اليوم الذي هبط فيها شيخ الطائفة، أبو جعفر الطوسي - رحمه الله... وليس من الصدفة، أو من باب الاتفاق أن يختارها شيخ الطائفة مركزا علميا، وإنما اختارها ليستمد علماؤها من روحانية الإمام الصافية - حياة روحية تلتقي فيها خطوط حياته، ويكمن فيها سر عظمته، وليعود العلم إلى منبعه ومصدره، فتلتقي فيها النهاية بالبداية، تلاحقها في صفائها،
المقدمة 16

وتتابعها في مسلكها ().
ومترجمنا - أعلى الله مقامه - وهو قد أكمل الدراسات الأولية للعلوم الإسلامية، خاصة المتعلقة بالفقه والأصول، أصبح مؤهلا لتحصيل الدراسات العليا، والتي تعتمد التلقي المباشر من الأستاذ دون واسطة كتاب وهي ما تسمى في عرف الحوزويين ب: «بحث الخارج» ()، قرر الانتقال إلى الجامعة النجفية، والتي كانت تزخر بأعلام الفقه والأصول - حينذاك - في مقدمتهم: المرحوم الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، مؤلف الموسوعة الفقهية الإمامية «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام».
والمحقق المجدد الشيخ مرتضى الأنصاري الذي يعتبر رائد المدرسة الأصولية الحديثة.
وفي عام 1259 ه‍ - حقق أمله العلمي حيث انتقل من أصبهان إلى النجف الأشرف متبركا بالتشرف بزيارة مرقد الإمام علي عليه السلام، ثم التحق بدرس المرحوم الشيخ صاحب الجواهر، فقيه الطائفة وشيخ حوزة النجف العلمية، كما استفاد من غيره في بداية وصوله إلى النجف، كالمرحوم الشيخ مشكور الحولاوي، والشيخ
المقدمة 17

حسن الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء مؤلف كتاب «أنوار الفقاهة»، كما تتلمذ لفترة قصيرة على السيد إبراهيم بن محمد القزويني الحائري المتوفى عام 1263 ه‍ - المقيم في كربلاء، صاحب كتاب «ضوابط الأصول».
غير أنه استقر على ملازمة درس شيخ الطائفة المرتضى الأنصاري، وكانت عمدة استفادته منه، فقد لازم أبحاثه فقها وأصولا حتى وفاة الشيخ في عام 1281 ه‍ - وفي خلال ملازمته لدرس الشيخ الأنصاري توطدت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه إلى درجة أن أخذ الشيخ يعظمه بمحضر طلابه، وينوه بفضله، ويعلي سمو مرتبته في العلم، كما أشار إلى اجتهاده أكثر من مرة، في حين لم يشر إلى اجتهاد أحد من قبل - كما يقال - ().
ولعل أهم إشارة في هذا الصدد من الشيخ الأنصاري ما ذكر أنه قال مرارا:
بأني أباحث لثلاثة (أشخاص) الميرزا حسن الشيرازي - المترجم - والميرزا حبيب الله الرشتي، والآغا حسن الطهراني ().
كما أن الشيخ الأنصاري كان إذا ناقشه الميرزا الشيرازي أثناء الدرس يصغي إلى كلامه، ويأمر الحاضرين بالسكوت، قائلا إن جناب الشيرازي يتكلم ().
وكان يحاول أن يعيد نقاشه أو إشكاله على عامة الطلاب، نظرا لأهميتها، وتعميم الفائدة منها ثم كان يرد عليها أو يناقشها بأصالة وعمق.
من هذه المفردات التي تبدو صغيرة، لكنها في واقعها كبيرة، كانت تؤشر إلى شهادة ضمنية من الشيخ الأنصاري إلى المكانة العلمية التي وصل إليها السيد الشيرازي.
المقدمة 18

الفصل الثالث الرئاسة والمرجعية
وحين انتقل الشيخ الأنصاري إلى جواز ربه عام 1281 ه‍، ثلم في الإسلام ثلمة كبيرة، وخسرت المدرسة النجفية العلمية رائدها الكبير ومجدد أفكارها العلمية، وكان على أعلام هذه المدرسة أن تحدد المرجع الديني الذي يجب أن يسد الشاغر بوفاة شيخ الطائفة الأنصاري، والعيون مشدودة - بطبيعتها - إلى النجف الأشرف، موئل العلماء، ومركز الثقل الديني في العالم الإسلامي الشيعي.
وتشير المصادر بأن تلامذة الشيخ الأنصاري اجتمعوا في دار الشيخ ميرزا حبيب الله الرشتي () - من مبرزي تلاميذ الشيخ - قدس سره - وتدارسوا أمر المرجعية العامة، وترشيح من هو أهل لها، واتفقت كلمتهم على تقديم الميرزا الشيرازي لرئاسة المرجعية لما له من المؤهلات والخصائص التي تجعله أن يكون المرشح الأكثر قبولا لدى الأمة، وكانت العلامة التي أوضحت هذا المعنى أن قدم للصلاة والدرس بعد وفاة شيخهم الكبير المرتضى الأنصاري، وحين توفي الحجة الكبير السيد حسين الكوهكمري، المعروف بالسيد حسين الترك، الذي رجع إليه أهالي «أذربيجان» في التقليد بعد الشيخ الأنصاري، ثنيت الوسادة للسيد الشيرازي وأصبح المرجع الوحيد للإمامية في سائر البلاد الإسلامية ()، والمشار إليه في إصدار الإفتاء وشؤون المسلمين.
المقدمة 19

أ - مميزات مرجعية الشيرازي:
وعن أهم مميزات شخصية السيد المجدد () الشيرازي كمرجع للأمة وزعيم للحوزة العلمية، يمكن حصرها بالآتي:
1 - إن إجماع تلاميذ المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري قام على اختياره لمنصب المرجعية دون أن ينازعه أحد في هذا المركز.
2 - انحصار المرجعية العامة للإمامية بعد وفاة الشيخ الأنصاري، ولم يشذ عن ذلك إلا أهالي أذربيجان، لأنهم قلدوا علما من أعلامهم، هو السيد حسين الترك - كما أشرنا -، وبعد وفاته قلد الأذربايجانيون السيد الشيرازي، ولم تبرز مرجعية أخرى في عهده إلى جانب مرجعيته ().
المقدمة 20

3 - إن مرجعية السيد المجدد الشيرازي، بالإضافة إلى سعتها في البلاد الإسلامية، كان لها مركزية في الحوزات العلمية، ونفوذ كلمة في الأمة، وانقياد إيماني بشخصيته الكبيرة، يقول المرحوم الطهراني: (ولم يتفق في الإمامية رئيس مثله في الجلالة، ونفوذ الكلمة، والانقياد له) (). وسوف يمر علينا الحديث في الجانب السياسي عن تأثيره الروحي ونفوذ كلمته في الأمة عند التحدث في قضية «التنباكو».
والواقع أن انقياد الجماهير للزعامة الدينية، وإن كان نابعا من الإيمان العقائدي، لكن الانشداد والانقياد يتبع شخصية الزعيم الذي يتولى هذه المسؤولية الخطيرة، ومدى تأثيرها الروحي على الأمة.
4 - ان السيد المجدد الشيرازي - رغم اهتماماته الكبيرة في متطلبات المرجعية، كان لا يغرب عن باله تفقد العلماء في العراق وخارجه، وطلاب الحوزات العلمية، والتعرف على أحوالهم المعاشية، والاهتمام بسد حاجاتهم المادية، وحل مشاكلهم أينما كانوا. إذ كان له عيون ورقباء يوصلون له الأخبار عن ذلك في الخارج، وكانت الأخبار تصل إليه باستمرار، ويهتم بمعالجتها، ووضع الحلول لها، والإيعاز لوكلائه وممثليه في البلاد الإسلامية بما يقتضي لتلكم القضايا.
أما الحوزات العلمية في العتبات المقدسة، فكانت موضع اهتمامه بصورة خاصة، اعتقادا منه أن البلدان التي تضم المراقد المقدسة يجب أن تطغى فيها الواجهة العلمية الدينية، تشويقا لطلاب العلوم المهاجرين الذين يرغبون في التحصيل العلمي الديني والتبرك بمجاورة مراقد أئمة الهدى من آل بيت المصطفى عليهم السلام، وهذا التشجيع لم يقتصر على طلاب العلوم الدينية، انما امتد إلى بعض العلماء المشاهير ()، بغية إبقائهم في أماكنهم، وعدم انتقالهم إلى بلدانهم، التي تتوفر لهم فيها سبل العيش أكثر من أي مكان آخر. ولا شك أن وجودهم وسط الحوزات العلمية في العتبات
المقدمة 21

المقدسة في العراق خاصة يساعد كثيرا على حضور طلاب العلم إليها، والالتفات حولهم واستفادة من التتلمذ عليهم.
5 - وهو إلى جانب مكانته العلمية، وزعامته العامة، كان يجب الأدب والشعر، ويجيز الشعراء على قصائدهم
، ولهذا قصده الشعراء من سائر البلاد، فكان يجلس إليهم، ويستمع لهم، ويستحسن الجيد منه، (كما راجت في أيامه بضاعة الأدب، واشتهر بإكرامه للشعراء، وهباته لهم، ولأكثر معاصريه من أعلام الأدب مدائح فيه) ().
ولعل القصد من إحياء المجالس الأدبية هو ما كان يرمي إلى تردد الناس وأصحاب الحاجات إلى سامراء التي سكنها، وعدم قصرها على طلاب العلوم.
ب - خصائص لها علاقتها بشخصية المرجع:
إلى جانب تلكم المميزات الهامة التي تقدم الحديث عنها والتي تتصل مباشرة بمركز المرجعية الدينية والعلمية، فان جوانب أخرى لها أثرها في التفات الجماهير حول المرجع، وصياغة شخصيته الإنسانية بما يقرب الناس إليه، ويشدهم نحوه. منها:
1 - إن مسؤولية الزعامة الدينية التي تحملها السيد المجدد الشيرازي لم تقتصر على الاهتمام بشؤون طلاب العلوم الدينية وتأسيس حوزاتهم وتهيئة ما يقتضي من استمراريتها، بل يتعدى الأمر إلى عامة الناس، فرعايته لا بد أن تكون أشمل وأوسع أفقا، ومن هذا المنطلق نلحظ أن السيد الشيرازي عند ما ألمت أزمة الغلاء في النجف عام 1288 ه‍ لم تقتصر معالجته لها على جهة معينة بل شملت كل من كان ساكنا فيها، أعم من كونه طالب علم، أم لم يكن، فإن موجة الغلاء في أسعار المواد الغذائية تضر الجميع، ونتج عن ذلك عوز كبير فيها، مما يشبه القحط، ويهدد سلامة الناس، فما كان من السيد الشيرازي إلا أن قام بما يخفف الضغط عن الناس جميعا بتهيئة المواد الغذائية حتى العام المقبل الذي كان فيه عائد الزراعة العراقية متوفرا بما رفع عنهم أزمة الشحة والقحط.
المقدمة 22

تقول الرواية بهذا الشأن:
وفي سنة 1288 ه‍ وقع الغلاء العظيم بل القحط في النجف وسائر البلاد العراقية، فقام هو قدس سره في أمر الفقراء، وأهل العلم الذين في النجف بأحسن قيام وأتم نظام، عين للعرب أناسا في كل محلة، ولأهل المدارس أناسا، وللفقراء أناسا... حتى جاء الحاصل الجديد وحصل الرخاء، وارتفعت عن الناس ().
2 - اهتمامه بالواردين عليه، فبالرغم من أنه كان مهيبا ووقورا - بحيث ينقل عن أحد الأعلام المعروفين، وهو الشيخ فضل الله النوري، أنه قال: اني أستعد في منزلي لملاقاة السيد الآقا الأستاذ، وأهيئ نفسي لذلك، وأعين ما أريد أن أطلعه عليه من أموري، وما أريد أن أكتمه عنه، فأدخل عليه، فإذا خرجت التفت أن كل ما كنت أريد كتمانه عنه قد أخبرته به، وأخذه مني، وأنا غير ملتفت، كل ذلك لهيبته وفطانته () - فانه كان متواضعا مع زواره والوافدين عليه، وخاصته، مرحبا بهم ومكرما لهم كل حسب رتبته ومكانته، ولم يكن في ذلك تصنعا منه، إنما هي سجيته، وطبعه، حتى تحدث المتحدثون () بأن:
سيرته في مدة رئاسته لم يكن أحسن من أخلاقه، وحسن ملاقاته، وعذوبة مذاقه، وحلاوة لسانه، يعطي من لاقاه حق ملاقاته حسبما يليق به ولا يفارقه إلا وهو في كامل السرور والرضا منه، كل على حسبه كائنا من كان.
كان يضرب بحسن أخلاقه المثل ولا أشرح صدرا منه تتكاثر عليه الزوار والواردون، وفيهم الغث والسمين، والخائن والأمين، والصالح والطالح، والإنسان وخبث اللسان، والمؤمن والمنافق، وكل يتكلم على شاكلته، فلا والله لا يسمع منه كلمة سوء لغير مستحقها، ولا غبر في وجه أحد قط، ولا جازى مسيئا إلا بالإحسان، ولا خاطبه
المقدمة 23

إلا بأحسن لسان، مع التبسم في وجهه والاعتذار منه. وهذا والله هو الخلق العظيم الذي ورثه من جده سيد المرسلين، وقد أحسن وأجاد السيد حيدر الشاعر الحلي () حيث يقول في مدح سيدنا الأستاذ:
كذا فلتكن عترة الأنبياء وإلا فما الفخر يا فاخر () ومما نقل عن سعة صدره وكظم غيظه أن أحد زواره من النجف وفد عليه في سامراء ولم ينحله ما كان يأمله، فكتب إليه كتابا فيه من الكلام الغليظ الشيء الكثير، وختم كتابه بقول القائل:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل () يقول الراوي: ولما قرأ السيد الكتاب أمر له بمبلغ من المال إضافة لما وصل
المقدمة 24

إليه من قبل ().
ولا شك أن هذه الحادثة تدل على روحية خاصة يتمتع بها أمثال المرحوم المجدد الشيرازي، الذين هم مصداق قوله تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) ().
3 - نظرته الشمولية للأمة، فقد وضع التعرف على وضع المسلمين من اهتماماته الأولية، ومن تلكم القضايا التي أعطاها الأهمية وتعامل معها بحسن تصرف، توزيع ما يرده من الحقوق الشرعية على مستحقيها في البلد الذي جمع منها المال، يقول الراوي:
كان له في كل البلاد وكلاء تجار يكتب إليهم فهرس أسماء فقراء تلك البلدة ويعين ما يدفع لهم... ولا يترك بلدا فيه الفقراء والمعوزون من المسلمين إلا ووصلهم بإحسانه ().
المهم أن الإمام المجدد الشيرازي أوعز إلى ممثليه في البلاد الإسلامية أن ما يقبضونه من الحقوق الشرعية تصرف على المستحقين من أهل تلك البلاد، وكان يقول:
ليس من الإنصاف أن نقبض حقوق أهل بلد ونترك فقرائها، فإن الناس لا يعطون أحدا شيئا كل ما عندهم من الحقوق يرسلونها إلينا ().
ويضيف السيد المرحوم الأمين:
وللسيد الشيرازي (عناية بالمجاورين في المشاهد الشريفة، ويعول سرا جماعات من أهل البيوتات، ومن التجار أخنى عليهم الدهر فينفق عليهم بدون أن
المقدمة 25

يعلم بذلك أحد، فلما توفي فقدوا ذلك، وضاقت بهم الحال) ().
أما بالنسبة لأهل العلم فكان - رضوان الله عليه - حريصا على ألا يدعهم بحاجة، فيرسل لهم مبالغ ليقوموا بتوزيعها على خاصتهم ومعارفهم لعلمه بأن عالم البلد ينتظر منه المحتاجون المساعدة وكي لا يبقى أهل العلم في حراجة كان يوصلهم بالمساعدات المالية ما أمكن.
4 - والشيء الأخير الذي أود الإشارة إليه من خصائصه أنه بالرغم مما عرف عنه من حصافة الرأي وبعد النظر والتفكر برؤية في الأمور العامة التي تخص البلاد سياسية كانت أو اجتماعية، فانه كان يدعو أهل الرأي والمشهورة من وجوه تلاميذه وغيرهم ويعرض عليهم القضية، ثم بعد أن يجمع آراءهم ويناقشها يبت فيما يقتضي ذلك الأمر، يقول الراوي:
(وكان زمام أموره الداخلية والخارجية بيده عدا الوقائع العرفية العامة، والسياسية فانه يعقد لها مجلسا يحضره
وجوه تلامذته الأعلام، وأهل التدبر) ().
وهذه قضية جديرة بالاهتمام، فالإنسان مهما سما فكره وعلا رأيه، وبعد نظره، فان في الآخرين من هو أعلى نظرا، وأقرب للحقيقة، وما الضير للرجل المسؤول أن يجعل له مجلسا استشاريا في القضايا المهمة التي لها علاقة مباشرة بشؤون الأمة أو المجتمع، والرأي الجماعي خير من الفردي، لما فيه من البحث والمناقشة والتدبر ورجاحة الرأي. ولذا نرى الإمام السيد الشيرازي مع ماله من سعة أفق كان يستشير في القضايا العامة أو التي تتصل بالعرف الاجتماعي.
المقدمة 26

الفصل الرابع هجرته إلى سامراء ()
ومدينة سامراء تضم مرقد الإمامين: علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام ()، وفيها غيب الإمام محمد المهدي الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، ويقصدها على مدار السنة عدد غير قليل من المسلمين الإمامية من داخل العراق وخارجه لزيارة الإمامين العسكريين والتبرك بمرقدهما الطاهر، وسكان هذه المدينة من المسلمين السنة منذ عهد العباسيين الذين أسسوها واعتبروها عاصمة لهم في عهد من عهودهم.
وعنده رسخت مرجعية الإمام المجدد الشيرازي في الأقطار الإسلامية قرر الانتقال من النجف إلى سامراء، ولم يعلن عن تصميمه في بداية الأمر لأنه كان يخشى ضغط العلماء وهيجان الجماهير عليه مما يضطره لترك الفكرة، وهو مصمم على إنجازها لما فيها من مصلحة للأمة، وذلك عام 1291 ه‍.
المقدمة 27

وحين ألقى عصا الترحال في سامراء، وعرف عنه الرغبة في الإقامة الدائمة بمدينة الإمامين العسكريين، توافد عليها العلماء الأعلام وتبعهم الأصحاب والطلاب والتلاميذ، والكثير من المسلمين الشيعة الذين يرغبون في البقاء إلى جنب زعيمهم الديني الميرزا الشيرازي، والتشرف بمجاورة مرقد الإمامين العسكريين عليهما السلام، والاستفادة من فضله وتوجيهه.
تحدثنا المصادر في هذا الصدد فتقول:
وفي عام 1291 ه‍ تشرف السيد المجدد الشيرازي إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين عليه السلام في النصف من شعبان، وبعد الزيارة توجه إلى الكاظمية لزيارة الإمامين: موسى بن جعفر، ومحمد الجواد عليهما السلام، ثم توجه إلى سامراء فوردها أواخر شعبان، ونوى الإقامة فيها لأداء فريضة الصيام، ولئلا يخلو الحرم الطاهر للإمامين العسكريين من الزوار في ذلك الشهر - فإن الحرم يغلق إذا جاء الليل ولم يكن فيه أحد من أمثال المترجم، ويحرم منه سائر الزوار، وكان يخفى قصده، ويكتم رأيه، وبعد انقضاء شهر الصيام كتب إليه بعض خواصه من النجف الأشرف يستقدمه ويسأله عن سبب تأخره، فعند ذلك أبدى لهم رأيه، وأخبرهم بعزمه على سكنى سامراء، فبادر إليه العلامة ميرزا حسين النوري، وصهره الشيخ فضل الله النوري، والمولى فتح علي السلطان آبادي، وبعض آخر، وهم أول من لحق به، وبعد أشهر اصطحب الشيخ جعفر النوري عوائل هؤلاء إلى سامراء أوائل عام 1292 ه‍ ثم لحق بهم سائر الأصحاب والطلاب والتلاميذ، فعمرت به سامراء ().
ويقول الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في حديثه عن السيد الشيرازي:
وفي سنة 1291 ه‍ - هاجر إلى سامراء فاستوطنها في جم غفير من أصحابه وخريجيه، فكانت سامراء شرعة الوارد، ونجمة الرائد، أخذ عنه من فحول العلماء عدة
المقدمة 28

لا تسع هذه العجالة استقصاءهم، وتخرجوا على يديه راسخين في العلم، محتبين بنجاد الحلم، فإذا هم:
علماء أئمة حكماء يهتدي النجم باتباع هداها وقد نشروا علمه الباهر على صهوات المنابر، وسجلوه في مؤلفاتهم الخالدة، جزاه الله وإياهم عنا خير جزاء المحسنين ().
ويقول المرحوم المحقق الحجة آغا بزرگ الطهراني في هذا الصدد: وحين علم الناس عزمه على البقاء انتقلت الصفوة من تلامذته إليه، حتى صارت سامراء مثل الجزيرة الخضراء في الروحانية، وأعلى الله فيها ذكره، وأعز نصره، وصارت سامراء (دار العلم) وبيضة الإسلام، والمرجع العام لأهل الدين والدنيا، وانتشر ذكرها ().
وأخذت الناس تردد إلى سامراء، وقصدها ذوو الحاجات زرافات ووحدانا، والكل ينتجع فضله، ويستمطر معروفه، وكان يجزل لهم العطاء، ويسبغ عليهم النعم، وكانت الأموال تنهمر عليه من شتى نقاط العالم الإسلامي ().
ولقد أخذ الكتاب ممن ترجموا سيدنا الشيرازي في تعليل دواعي انتقاله من النجف الأشرف إلى سامراء، وبذلك نقل معه الحوزة العلمية، أو على الأقل الصورة الظاهرة منها، وكلها لا تخلو من مناقشة، فمثلا:
1 - يرى البعض أن السبب رغبته في الاعراض عن الرئاسة، وتخلصا من قيودها، وطلبا للانزواء والعزلة عن الخلق ().
2 - وقيل أن سبب ذلك أنه لما صار الغلاء في النجف سنة 1288 ه‍ - وصار يدر العطاء على أهلها، ثم جاء الرخاء عن قريب جعل الناس يكثرون الطلب عليه،
المقدمة 29

وجعل بعض أعيان النجف يفتل في الذروة والغارب لينفر الناس منه، فتضايق من ذلك، وخرج إلى كربلاء في رجب سنة 1291 ه‍، ثم توجه إلى الكاظمية فسامراء، ودخلها في شعبان من تلك السنة، وأقام فيها أياما، ثم عزم على الإقامة فيها، وأرسل على كتبه، وأثاثه، وتبعه أصحابه ().
3 - وقيل أنه تضايق من وجود بعض الفرق الجاهلة فيها (). ولعله يقصد بعض العشائر النجفية، التي كانت المعارك بينها مستمرة، ونتيجة لذلك يتعرض الكثير من المقيمين، وخاصة أهل العلم الأجانب - لأنهم ضعفاء أمام أهل البلد - إلى الإيذاء والسلب.
4 - وقيل تعود الناس على طلب المال منه، وصاروا يتوقعون منه كل شيء حتى فكاك أولادهم من العسكرية ببذل البدل النقدي عنه، وكان بدل الواحد يومئذ مائة ليرة فضاق به الأمر، وعرف أن لهذه التوقعات محركا من بعض أعيان النجف، وهذا لا علاج له إلا بالفرار ().
5 - ويقول البعض: (والذي يغلب على الظن أن السبب الوحيد الباعث له على الهجرة أمر وراء ذلك، هو أدق وأسمى وأبعد غورا مما يظن. وهو إرادة الانفراد، لانحياز سامراء وبعدها عن مجتمع العلماء، ومن يدعي العلم، فيتم له فيها ما لا يتم له في غيرها. والقرب من الخاصة فيه العناء والتعب، وفي البعد عنهم الراحة، واجتماع الأمر، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في عهده للأشتر: إنه ليس أشد مئونة على الوالي من الخاص ().
هذه أهم الأسباب والدواعي التي ذكرت واضطرته إلى الهجرة إلى سامراء، ولكن أرى جميعها قابلة للمناقشة، ولا يمكن أن تكون سببا أساسيا لأن يترك السيد
المقدمة 30

الجامعة النجفية وحوزتها العلمية وينتقل إلى سامراء وهو يعلم بأن ذلك سيؤدي حتما إلى تضعضع الجامعة النجفية عبر تاريخها الطويل، وجهادها العلمي المتوارث.
والذي أراه وأستنتجه من خلال دراستي لحياة سيدنا المترجم أن مقصده من هجرته وحدة المسلمين، وبث روح التآلف بين السنة والشيعة، وإماتة العصبيات والنعرات الطائفية والتي كانت مشتعلة - حينها - في العراق بسب الحكم العثماني والذي كان يترنح هنا وهناك بسبب غزو الإنكليز على المنطقة، ومحاولة إخراج النفوذ العثماني المنهار منها.
وحيث أن غالبية سكان مدينة سامراء من عشائر السنة، فكانت الأقلية الشيعية فيها تعاني من البعض التعدي والإيذاء وخاصة من جهلة الناس، وأوباش المواطنين، وكذلك الزوار الشيعة الذين كانوا يقصدون سامراء لزيارة مرقد الإمامين العسكريين عليهما السلام فكانوا يقابلون من بعض الأفراد بما لا يليق بروح الأخوة الإسلامية، والتعاطف الوطني، مما سبب انكفاء من الزوار لحرم الإمامين، حفاظا على أرواحهم وأعراضهم.
وكان تخطيط مركز من السيد الشيرازي حين شد الرجال، وحط موكبه في سامراء، والتف الشيعة من حوله، وكثر التردد من المسافرين عليها من شتى الأقطار الإسلامية، وخفت تلك الوحشة التي كانت تلف المدينة من قبل.
تقول المصادر:
(فعمرت سامراء به وصارت إليها الرحلة، وتردد الناس عليها، وأمها أصحاب الحاجات من أقطار الدنيا، وعمر فيها الدرس، وقصدها طلاب العلوم، وشيد فيها المدارس والدور... وكانت قبل سكناه فيها بمنزلة قرية صغيرة، فلما سكنها عمرت عمرانا فائقا وبنيت فيها الدور والأسواق، وسكن فيها الغرباء، وكثر إليها الوافدون، وصار فيها عدد من طلاب العلم والمدرسين لا يستهان به... وكانت في أكثر الأوقات
المقدمة 31

محتشدة بالوافدين والزائرين) ().
وحين نرجع إلى أعمال السيد الشيرازي - قدس سره - في تعمير المدينة، نرى أنه عمد إلى معالجة دقيقة لحالة سكان هذه المدينة ليؤكد لهم ما يكنه المسلمون الشيعة لهذا البلد وأهله من الاهتمام والمحبة والتقدير، فكان من أهم إنجازاته العمرانية:
1 - بناء سوق كبير للمدينة يجمع فيه المحلات التجارية والحوانيت التي توفر حاجات الناس، وخدماتهم اليومية.
2 - تقع مدينة سامراء شرقي دجلة، وكان الناس الذين يقطنون خارج المدينة في الجانب الثاني من النهر يعبرون النهر بواسطة (القفف) وكذلك الزوار والمسافرون من بغداد وغيرها، وكان أصحاب المعابر (القفف) يشتطون في الأجرة ويلقى منهم الزوار أذى كثيرا، وحل المرحوم السيد الشيرازي المشكلة إذ بنى جسرا محكما على دجلة من السفن بالطريقة التي كانت متبعة في بقية جسور العراق حينذاك تسهيلا للعبور، ورفقا بالزوار والواردين، وكما تحدد المصادر أنه أنفق عليه عشرة آلاف ليرة عثمانية ذهبا، ثم بعد إتمامه سلمه للدولة تتقاضى هي أجورا زهيدة مقابل العبور عليه وذلك لغرض صيانته ودوامه.
3 - بنى عدة دور للمجاورين والزوار، وكانت تؤجر بقيم رمزية مما ساعدت على تشغيل أيدي ضعفاء وفقراء المدينة وعمالهم.
4 - بنى مدرستين كبيرتين لطلاب العلم الدينيين غير المتزوجين، أنفق في سبيل بنائهما أموالا طائلة وشغل عددا من العمال في إشادة ذلك البناء.
إن هدف المرحوم سيدنا المترجم كان ينصب في إطار الوحدة الإسلامية، وتصفية الأجواء بين الأمة الواحدة من آثار الطائفية المقيتة، ورفع الحيف عن الذين يعتدى عليهم، لا لشيء إلا لكونهم من غير مذهب سكان البلد.
المقدمة 32

ويؤكد هذا الرأي ما أشار إليه المرحوم السيد محسن الأمين العاملي في ثنايا ترجمة الميرزا الشيرازي، إذ يقول:
(ومع ما بذله المترجم من الجهود في عمران سامراء، ودفع المشقات عن الزوار، والإحسان إلى أهل سامراء الأصليين، وما أسداه من البر إليهم، وما أدر عليهم عمرانها، وكثرة تردد الناس إليها من الرزق، لم يتم له ما أراده، وعادت البلدة بعد وفاته إلى سيرتها الأولى.
بل في أواخر أيام وجوده كثر التعدي حتى وصل إليه، وكان ذلك بتحريك ممن لهم الحكم، ومن يمت إليهم، إذ تيقنوا أنها ستنقلب عن حالها إلى حال أخرى، فهيج ذلك من نفوسهم، فوقعت عدة تعديات على الطلاب والمجاورين، وعليه، والحاكمون يظهرون المدافعة في الظاهر، ويشجعون في الباطن، فوقع لأجل ذلك اضطراب شديد، وفتن وتعد على النفوس والأموال وغيرها، وسافر لأجل ذلك إلى سامراء فقهاء النجف وعلماؤها وطلبوا إليه الخروج منها فأبى، ولم تطل المدة حتى مرض وتوفي هناك) ().
من هذا النص يتضح هدف السيد الشيرازي من انتقاله إلى سامراء، وكان يحسب أن المحاولة الإنسانية قد تغير في طباع من جبلت نفسه على الإيذاء والشغب وإثارة النعرات الطائفية وعلى كل حال فإن عمله الإنساني هذا أكد على واقع الإنسان المسلم المسؤول، الذي يدفعه همه الاجتماعي أن يفعل في سبيل وحدة الأمة مهما أمكن، ولكن تقدير النتائج لم تكن من صنعه، فللظروف أحكامها، وللنفوس نوازعها، والأمراض الدفينة لا يمكن برؤها بسهولة، وتبقى كامنة لا تكتشف إلا بمجاهر حساسة، وكما يقول المثل (تحت الرماد نار مخبية، ان هيجتها توهجت وحرقت) وللأسف أن هذه النزعة الهدامة لم تمت بمرور الزمن، بل بالعكس - كما نراها - تستعر حقدا، وتشب ضراما.
المقدمة 33

الفصل الخامس الجانب السياسي في حياة الشيرازي
كل شخصية كبيرة دينية وغير دينية لا بد ان تحدث له قضايا ضمن فترة رئاسته تعكس أثرها في حياة المرجعية وتحدد معالم الشخصية التي عاشتها.
وبالنسبة لسيدنا المترجم فقد حدثت قضايا خلال فترة مرجعيته أشارت بوضوح إلى دور المرجعية وقيادتها في مسيرة الأمة وتاريخها الطويل، وقد تحدث الدكتور علي الوردي عن هذا الدور الذي مثل الزعامة الدينية والسياسية في آن واحد، حيث توطأ هذا الدور واثره بعد أن تولى السيد الشيرازي منصب المرجعية العليا للشيعة في العالم، إذ جرت في عهده أحداث هامة كان لها أثرها الاجتماعي في العراق وإيران ().
وفي ضوء هذه الأحداث اعتبر (أعظم مجتهد شيعي في العهد الحميدي العثماني) ().
ووصف بأن عقله السياسي كان محيرا للسياسيين وأن أهل العلم والسلاطين يرجعون إليه في الأمور السياسية ().
لقد اتسمت مرجعية السيد الشيرازي بثلاثة مواقف رئيسية بارزة، حملت دلالات دينية - سياسية كبيرة الأهمية، وهي بإيجاز:
أ - رفضه لاستقبال الشاه ناصر الدين:
في عام (1287 ه‍ - 1870 م) زار الشاه ناصر الدين القاجاري العتبات المقدسة في العراق، وكان الوالي
العثماني على بغداد مدحت باشا، فلما قصد الشاه
المقدمة 34

كربلاء، خرج لاستقباله علماؤها جميعهم إلى المسيب فسلم عليهم، ومضى.
ولما ورد النجف الأشرف خرج أيضا لاستقباله بعض علمائه إلى خان الحماد - في منتصف الطريق -، وبعضهم إلى خان المصلى - على ثلاثة فراسخ من النجف - ولما دخل النجف زاره العلماء، إلا المترجم إذ لم يخرج لاستقباله كما لم يذهب لزيارته.
ثم أرسل الشاه إلى العلماء مبالغ نقدية، فقبلت منه، إلا السيد الشيرازي فقد رفض قبولها مما اضطر الشاه أن يرسل وزيره حسن خان إليه معاتبا، وطالبا منه ان يزوره، فأبى السيد - رحمه الله - وبعد الإلحاح الشديد عليه والوسائط المتعددة، قبل السيد أن يلتقي به في الحضرة الشريفة العلوية، وتم الاجتماع بينهما ولم يطلب السيد من الشاه شيئا ().
هذا الموقف الرائع رفع من مكانة السيد الشيرازي في أوساط العامة، وزاد في عدد مقلديه ()، وشكل كسرا للتقليد الذي كان يتبعه المجتهدون في استقبال الملوك المسلمين ().
ويرى المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية أن موقف السيد الشيرازي والتقليد الذي استحدثه أصبحت هذه الطريقة سنة متبعة عند كبار العلماء منذ السيد الشيرازي حتى السنين المتأخرة، فإذا جاء إلى النجف ملك من ملوك المسلمين، أو من هو في منزلته أحجموا عن استقباله وزيارته، وإذا دعت الضرورة إلى الاجتماع التقوا به في الحضرة المقدسة ().
وللتاريخ نضيف أن المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محسن الحكيم رفض استقبال بعض رؤساء الجمهورية العراقية حتى في بيته.
المقدمة 35

ويرى الأستاذ الرهيمي: أن دلالة هذا الموقف تمثلت في الحط من هيبة الشاه، وإيحاء السيد الشيرازي له بتأييد المؤسسة الدينية الشيعية المعارضة التي بدأت تتأسس في إيران منذ 1826 م ().
وذكرت بعض المصادر موقفا مشابها لما سبق. وذلك في العالم الذي تشرف به إلى حج بيت الله الحرام (1287 ه‍) وكان في ذلك الوقت الشريف عبد الله الحسني شخصية مكة، فأخبر الشريف بوروده فعين وقتا لمواجهته، ولما أخبر بذلك - وهو لم يطلب مقابلة أحد - رد على الرسل بالمقولة المشهورة: إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك، فقولوا: بئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فقولوا:
نعم العلماء ونعم الملوك، فلما وصل الجواب إلى الشريف بادر إلى زيارته ().
وكيف ما كان فان سيدنا المترجم مصداق للحديث الشريف: (لا تجهل نفسك فان الجاهل بمعرفة نفسه جاهل بكل شيء ().
ب - معالجته للفتنة الطائفية:
كما أشرت سابقا إن مهمة السيد الشيرازي في انتقاله إلى سامراء هي إماتة الطائفية الرعناء أو توحيد كلمة المسلمين الشيعة والسنة، وكان باعتقاده أن توفير الحركة الاقتصادية والعمرانية في سامراء من قبل إخوانهم الشيعة قد تخفف سعير النعرات الطائفية التي تثيرها طبقة المنتفعين من الفريقين، والذين لا تهمهم المصلحة العامة بقدر ما تهمهم مصالحهم الشخصية، ومنافعهم الدنيوية.
ورغم ما عمله السيد الشيرازي في سامراء من مشاريع وخدمات أدت إلى تعمير المدينة وبصورة فائقة، من حيث السكن والأسواق وتحريك اليد العاملة، إلا أن أصحاب المطامع، وعمال الاستعمار بدؤا في إثارة القلاقل والفتن، والتعدي على
المقدمة 36

النفوس والأموال (). وكادت تؤدي للاقتتال بين أهالي سامراء والمناطق المجاورة وذلك عام 1311 ه‍.
وذكر في منشأها أن الوالي حسن باشا العثماني زار السيد الميرزا الشيرازي فلم يعتن به - جريا على عادته في عدم الاهتمام بالمسؤولين الحكوميين - فحقد على الميرزا، وأوغر بالشيعة في سامراء بعض المتعصبين من الأهالي والوجوه ممن ثقل عليهم توطن الميرزا في بلدهم، وعندئذ وقعت الفتنة في سامراء، واتسعت حتى وصلت إلى بغداد، وتثاقل الوالي عن سماع شكوى العلماء وطلاب العلوم في سامراء، بل منع من إعلام السلطان عبد الحميد، مما اضطر السيد الشيرازي أن يرسل من يمثله إلى إيران لإعلام السلطان من هناك، ووضع الشاه ناصر الدين بالصورة المأساوية التي حلت بطلاب العلوم المهاجرين وسكان سامراء من الشيعة.
وتغاضى الشاه بادئ الأمر من إثارة الموضوع والنصرة لهم، وأرسل لهم بعض الإسعافات معتقدا أن ذلك سيخفف وطأة الأمر، ولكن ممثل السيد الشيرازي أوصل الخبر إلى السلطان، فأقام الدنيا وأقعدها - على حد قول الرواية -، حتى إطفاء النائرة، وقمع الفساد وعاقب المسؤولين بعقاب صارم ().
وحاول القنصل الإنكليزي في بغداد أن يستغل الموقف لصالح دولته، وليثيرها عجاجة على الحكم العثماني فسافر إلى سامراء لتسعير الفتنة، ومقابلة السيد لعرض خدماته ونصرته له، فما كان من الميرزا الشيرازي أن رفض مقابلته، ورد عليه:
أن لا حاجة لدس أنف بريطاني في هذا الأمر الذي لا يعنيها، لأنه والحكومة العثمانية على دين واحد، وقبلة واحدة، وقرآن واحد.) ()..
المقدمة 37

(ويبدو واضحا أن أهمية هذا الموقف كانت تتجلى آنذاك بتجاوز الفتنة، وإبداء الحرص على وحدة الجماعة الإسلامية، رغم الخلاف المذهبي مع الدولة العثمانية، وقطع الطريق على تدخلات القناصل الأوروبيين، وخاصة الإنكليز الذين كانوا ينشطون لإقامة أوسع العلاقات مع القيادات الاجتماعية والأعيان في المدن والريف) ().
ج - قضية التنباكو:
هذه القضية من أهم القضايا الساخنة التي تعرضت لها مرجعية الإمام الشيرازي، وكان موقفه الجريء يمثل انتفاضة عارمة ضد السلطة حينذاك، وأكدت أن (سلطان الدين أقوى من كل سلطان) ().
تحدثنا المصادر: بأن ناصر الدين شاه القاجاري عقد اتفاقية مع شركة إنگليزية باحتكار (التبغ الإيراني)، وأثر هذا الامتياز للشركة الأجنبية على الحركة التجارية الداخلية والسوق المحلية، وكلما حاول الأهالي انثناء الشاه عن عقد هذه الاتفاقية لم يجد نفعا، وأصر على إبرامها وتنفيذها. وتنص هذه الاتفاقية على أن تتولى الشركة زراعة التبغ وبيعه وتصديره لمدة خمسين عاما بدءا من سنة 1890 م، كما حدث في الهند ().
وعلى أثر ذلك اندلعت انتفاضة شعبية عام 1890 م بقيادة العلماء في إيران، وكان من أبرز المجتهدين في طهران الذين قادوا الانتفاضة آية الله الميرزا محمد حسن الآشتياني - قدس سره -، وأدرك علماء إيران أن توفير فرصة أكبر لنجاح الانتفاضة الشعبية من أجل إلغاء الاتفاقية يتطلب دعم وتأييد المرجع الأعلى للشيعة السيد الشيرازي، فأرسل عدد منهم برقيات إليه طالبين منه دعمهم، فرد عليهم طالبا منهم
المقدمة 38

توضيحا أكثر لمطالبهم ().
كما أرسل السيد الشيرازي - في الوقت نفسه - رسائل عديدة إلى الشاه يطالبه فيها ب‍ (الاستجابة للرعية في إلغاء الاتفاقية) (). غير أنه عند ما يئس من إقناعه بإلغائها، أصدر فتواه الشهيرة، والتي كان نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم «استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن استعمله كمن حارب الإمام عجل الله فرجه. محمد حسن الحسيني الشيرازي» ()، وتحدثنا المصادر بأن هذه الفتوى كانت بمثابة (القنبلة) من حيث تأثيرها على المجتمع الإيراني فقد تم استنساخها بمائة ألف نسخة، وزعت في مختلف أنحاء إيران وتليت من على المنابر في المساجد والحسينيات ().
أما أثر هذه الفتوى فتقول الرواية:
إن جميع أهالي إيران تركوا التدخين، وكسروا (النارجيلات) وكل آلة تستعمل للتدخين في بلاد إيران، حتى أن نساء قصر الشاه كسرن آلات التدخين في القصر، وعرف الشاه هذه الحقيقة التي لم يتصورها لحظة ما، بأن قوة المرجع الديني أقوى من سلطته.
المقدمة 39

إن ملايين من المتعاطين للتنباك - حينذاك - في إيران تركوا التدخين امتثالا لأوامر الإمام الشيرازي، وكانت النتيجة المباشرة للفتوى والانتفاضة إرغام حكومة الشاه على إلغاء الاتفاقية، فإن نتائجها الفكرية والسياسية في إيران والعراق كانت بعيدة الأثر، واضطر الشاه إلى فسخ الاتفاقية، ودفع خسارة الشركة ().
وبالرغم من أن قضية (التنباك)، قد حصلت في إيران، وأن ما أسفر عنها من تفاعلات ونتائج أثرت بشكل أساسي في المجتمع الإيراني، فقد كان لها صدى قويا في العراق، ولا سيما في المناطق والمدن الشيعية، الذي كانت من بين أسبابه تشابك العلاقات بين هذه المناطق والمدن وإيران، وانعكاس الأحداث عليها، وكذلك بسبب التدخل للمرجع الأعلى - الذي مقره في العراق - في القضية، وتزعمه للانتفاضة.
وقد تابع العراقيون، وخاصة في المناطق الشيعية تلك الأحداث باهتمام كبير. وأما داخل الحوزات والحلقات والمدارس العلمية فإنها أثارت جدلا فكريا وسياسيا عاما... وهكذا مثلت الفتوى التي أصدرها الإمام الشيرازي، وتدخله المباشر في قضية التنباك، والانتفاضة المتولدة عنها، إحدى أهم المواقف والنشاطات الفكرية والسياسية للعلماء المسلمين الشيعة في العراق في أواخر القرن التاسع عشر، وشكلت مظهرا رئيسيا من مظاهر الاتجاه الثقافي الفكري السياسي الإسلامي الذي مهد لقيام الحركة الإسلامية في العراق أوائل القرن العشرين ().
د - استغاثة الأفغاني بالسيد الشيرازي:
وقبل أن أختم الحديث عن قضية التنباكو لا بد من الإشارة إلى أن بعض المصادر تشير بقولها ولعل مما زاد في تأثير هذه القضية على العراق الدور الذي قام به
المقدمة 40

السيد جمال الدين الأفغاني () مع أحد قادة الانتفاضة في إيران ()، أثناء وجودهما في العراق ().
ثم تضيف: فخلال تلك الأحداث، كان الأفغاني الذي أبعد حديثا من إيران، قد وصل البصرة، ومن هناك كتب بالتعاون مع المجتهد السيد علي أكبر الشيرازي - أحد زعماء الانتفاضة - الذي كان قد تسلل إلى البصرة من إيران رسالة موجهة إلى الإمام السيد حسن الشيرازي في سامراء ()، يذكران له فيها مظالم الشاه الكثيرة للشعب الإيراني، لكن ما أن شاع أمر هذه الرسالة - بسبب مضمونها التحريضي - بين الناس في العراق حتى سارعوا إلى استنساخها وتداولها وتوزيعها على كثير من المدن العراقية، ولا سيما العتبات المقدسة، وقد كان لها تأثير كبير بشكل خاص في مدينة النجف ().
ويرى الأمير شكيب أرسلان (): ان النداء الذي أرسله الأفغاني إلى الإمام الشيرازي من أعظم أسباب الفتوى التي أفتاها الإمام ببطلان امتياز الاتفاقية
المقدمة 41

الإنكليزية - الإيرانية بشأن احتكار التبغ الإيراني.
ويقول المرحوم السيد محسن الأمين في تعليقه على قول أرسلان:
ولكن الحقيقة أن الميرزا الشيرازي أفتى بتحريم تدخين التنباك حينما بلغه إعطاء الامتياز إلى الدولة البريطانية قبل أن يرسل له السيد جمال الدين هذا الكتاب، ولم يكن إفتاؤه بتأثير كتاب جمال الدين، ولو لم يكن له مؤثر ديني من نفسه عظيم لم يؤثر فيه كتاب جمال الدين ولكن الناس اعتادوا إذا مالوا إلى شخص أن يسندوا كل وقائع العالم له ().
المقدمة 42

الفصل السادس حياته العلمية
حين وصل الإمام الشيرازي بعد وفاة أستاذه شيخ الطائفة المحقق الأنصاري إلى مركز المرجعية والرئاسة العامة، لم تشغله عن ممارسة عمله العلمي، ومركزه كفقيه، ومجتهد، ومقلد، وكان يحرص - رضوان الله عليه - أن لا تشغله الرئاسة العامة عن ممارسة واجبه العلمي، وإعطاء الوقت الكافي لهذا الجانب. وفعلا تمكن من ذلك، واستطاع أن يجمع بين العمل الرئاسي الاجتماعي والسياسي، وبين واقعه كعالم يعيش بين تلاميذه وكتبه ومحاضراته.
وحين نحاول أن نقدم للقراء صورة عن هذا الجانب، فإننا نحاول أن نحصرها في الجوانب التالية:
أولا - مكانته العلمية من خلال أقوال العلماء فيه:
حين ندرس شخصا ما لغرض تكوين فكرة عنه، لا بد أن نقرأه من خلال معاصريه، ونتاجه العلمي، وتلامذته الذين حملوا تراثه فكرا علميا رائعا.
والآن ونحن في صدد قراءة ما قيل عنه في صدد مكانته العلمية ليكون مدخلا لنا في هذا الفصل.
قال المرحوم الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين: ثنيت لهذا الإمام (الهاشمي) العظيم وسادة الزعامة والإمامة وألقيت إليه مقاليد الأمور، وناط أهل الحل والعقد ثقتهم بقدسي ذاته ومرسوخ علمه، وباهر حلمه وحكمته، وأجمعوا على تعظيمه وتقديمه، وحصروا التقليد به، فكان للأمة أبا رحيما تأنس بناحيته، وتفضي إليه بدخائلها، وكان للدين الإسلامي والمذهب الإمامي قيما حكيما ().
وقال المرحوم الحجة المحقق السيد حسن الصدر عنه:
المقدمة 43

أفضل المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء والمحدثين، والحكماء والمحققين من الأصوليين، وجميع المتفننين حتى النحويين والصرفيين فضلا عن المفسرين والمنطقيين ().
ويتحدث المرحوم الحجة المحقق الشيخ آغا بزرگ الطهراني عن المجدد الشيرازي، فيقول:
أعظم علماء عصره وأشهرهم، وأعلى مراجع الإمامية في سائر الأقطار الإسلامية بوقته ().
من النصوص المتقدمة في حق سيدنا الإمام الشيرازي نستنتج - الآتي:
أ - إن مكانة السيد الشيرازي العلمية بلغت درجة الاعتقاد من لدن علماء عصره، وخاصة أقرانه ممن تتلمذ على الإمام الراحل المحقق الأنصاري، وأنه هو الطليعة والمقدم بين علماء عصره، ولا يغرب عن بالنا شهادة أستاذه المحقق الأنصاري في حقه حين قال لأحد خاصته أنه يدرس لثلاثة أشخاص، أولهم السيد الشيرازي.
وقبل هذا تشير المصادر أن المرحوم الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر أشار إلى اجتهاد الميرزا الإمام الشيرازي ضمن كتاب أرسله إلى حاكم مملكة فارس، ونصه:
باسم الله والحمد لله تعالى شأنه، ثم السلام على ولدنا وقرة أعيننا، فخر الأقران، وجوهرة الزمان، وإنسان عين الإنسان جناب الأعظم حسين خان سلمه الله تعالى وأبقاه، وزاد في عمره وعلاه.
أما بعد: فالمعلوم لدى جنابك أن ولدنا، وقرة أعيننا الأمين المؤتمن جناب الميرزا محمد حسن سلمه الله تعالى وأبقاه، ممن يهمنا أمره، ومن أولادنا وتلاميذنا الفضلاء الذين وهبهم الله سبحانه ملكة الاجتهاد، مقرونة بالرشاد والسداد، وممن اختاره علما للعباد، وأمينا في البلاد، ومروجا لمذهب الشيعة، وكفيلا لأبنائهم، فالمرجو
المقدمة 44

الاعتناء بأموره وملاحظة جميع متعلقاته، فإنه أهل لذلك، بل فوق ما هنا لك، مضافا إلى رجوع أموره إلينا، ونحن أوقفناه في هذه الأماكن ليكون لك من الداعين، ولينتفع به كافة الطلبة والمشتغلين، فاللازم كمال الاعتناء بأموره، وإدخال السرور عليه وعلينا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واننا لا ننساك من الدعاء عند مرقد سيد الأوصياء عليه السلام.
الراجي عفو ربه الغافر خادم الشريعة محمد حسن بن المرحوم الشيخ باقر ().
هذه الرسالة لم نعثر على تاريخ صدورها، ولكن إذا عرفنا أن السيد الشيرازي ورد النجف الأشرف عام 1259 ه‍ - للتحصيل المؤقت، لعزمه على العودة إلى بلاده في إيران، ولكنه التحقق بدرس المرحوم الشيخ صاحب الجواهر وبقي معه فترة من الزمن يستفيد من مجلسه، وينتهل من صافي علمه، والظاهر أن السيد الشيرازي بلغ أستاذه المعظم برغبته في العودة إلى بلاده لإفادة الأمة، فكتب له هذا الكتاب، وإذا عرفنا أن الشيخ صاحب الجواهر قد توفي عام 1266 ه‍ - فلا شك أن الكتاب صدر قبل وفاته بقليل، والظاهر أن السيد الشيرازي عدل عن السفر بعد ذلك، وانتقل إلى درس المحقق الأنصاري، ولازمه واختص به حتى وفاته، ثم انتقلت المرجعية له من بعده. وكيف ما كان فالمرحوم الشيخ صاحب الجواهر شهد له بالاجتهاد، وكذلك المرحوم المحقق الأنصاري.
ب - إن كبار علماء النجف الأشرف - حينذاك - اجتمعوا واختاروا سيدنا المرحوم الإمام السيد الشيرازي مرجعا دينيا، وإماما للجماعة، وأستاذا للدرس، وقد مرت الإشارة إليه، ومعنى ذلك أن الأسس الثلاثة للزعامة الدينية العامة قد عهدت إليه.
ج - إن الكلمات القصار من العلماء الأعلام والمراجع العظام تحمل في طياتها
المقدمة 45

أكثر من دلالة على عظم مكانة الإمام الشيرازي في المجتمع الإسلامي الشيعي حين (أصبح المرجع الوحيد للإمامية في سائر القارات () الإسلامية كما سيمر معنا.
ثانيا - رجوع المسلمين الشيعة له بالتقليد:
عند المسلمين الشيعة: من الضروري أن يرجع الإنسان الذي يصل إلى سن البلوغ لذوي الاختصاص وأهل الخبرة، والأعلم من المجتهدين في فقه الشريعة الإسلامية، لأخذه أحكام دينه من الحلال والحرام والمكروه، فهو واجب على كل مكلف لا يتمكن من الاجتهاد، أو الاحتياط.
وهذه الرتبة - الوصول إلى درجة رجوع المقلدين له - لا يمكن بلوغها إلا بالأعلمية - وفسرت الأعلمية هنا: أن يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط ()، ولا شك أن الأخذ بفتوى الأعلم يحصل فراغ الذمة من الأمر المكلف به يقينا بعد العلم بانشغال الذمة اليقيني بالتكاليف الإلزامية ().
وسيدنا المترجم نرى أنه اختير - بعد وفاة أستاذه المحقق الشيخ مرتضى الأنصاري - لمركز التقليد، والتدريس والصلاة من قبل مبرزي تلامذة الشيخ الأنصاري الذين شهد لهم الشيخ بالمرتبة العلمية، كما مر علينا -، ثم ثنيت له الوسادة بعد وفاة المرحوم السيد حسين الترك مرجع أذربيجان، فرجعت له الطائفة الإمامية في الأقطار الإسلامية، يقول المرحوم الإمام شرف الدين:
واختص (السيد الشيرازي) بإمام المحققين المتبحرين الشيخ مرتضى الأنصاري، ففاق جميع أصحابه، ولازمه ملازمة ظله حتى قضى الإمام الأنصاري نحبه، واضطرب الناس في تعيين المرجع العام بعده، فكان هو المتعين في نظر الأعاظم الأساطين من تلامذة ذلك الإمام أعلى الله مقامه ().
المقدمة 46

ويوضح المرحوم الحجة المحقق السيد محسن الأمين هذا الحدث الهام بقوله:
وانتهت إليه رئاسة الإمامية الدينية العامة في عصره، وطار صيته، واشتهر ذكره، ووصلت رسائله التقليدية وفتاواه إلى جميع الأصقاع، وقلد في جميع الأقطار والأمصار في بلاد العرب، والفرس، والترك، والهند، وغيرها، وكان في عصره من أكابر العلماء المجتهدين المقلدين من العرب، والفرس، والترك أمثال: الشيخ محمد حسين، والشيخ محمد طه نجف، والسيد حسين الكوهكمري، والشيخ حسن المامقاني، والملا محمد الشربياني، والملا محمد الإيرواني، والشيخ زين العابدين المازندراني الحائري، والميرزا حسين بن الميرزا خليل الطهراني، وغيرهم، لكن جمهور الناس كان مقلدا له ().
إن المرجعية العامة التي ينقاد المسلمون الشيعة لها في الأقطار الإسلامية فيها مغزى كبير في العرف الاجتماعي الديني، فالشيعة الإمامية ترى المرجع الأعلى، هو القائد الذي يمكنه تحديد سياسة الأمة، وتعيين مصلحتها الدينية، وهو الذي يملأ منطقة الفراغ في الأمور التي تحتاج إلى موقف شرعي يضمن حقوق الأمة وسلامة البلاد. ومن هنا فهو منصب ديني تمتد جذوره للإمامة الحقة في العقيدة الإسلامية.
وسوف نلحظ انعكاس مكانة الإمام المجدد السيد الشيرازي، حين أعلن موقفه من القضايا الوطنية السياسية الساخنة التي اجتاحت الأمة الإسلامية خلال مرجعيته الرائدة.
ثالثا - آثاره العلمية، ونتاجه الفكري:
الوجه الآخر للجانب العلمي من حياة سيدنا الإمام الشيرازي هو إنتاجه الفكري الذي يمثل طابعه الفقهي والأصولي، وهما النقطة المركزية التي يلزم الوقوف عندها، ولغرض إبراز معالمها العلمية وقيمها الفنية.
ومن المعلوم أن انشغال الإمام الشيرازي بالزعامة العامة والرئاسة
المقدمة 47

الاجتماعية، شغلته عن كتابة المؤلفات الفقهية أو الأصولية بما يتناسب ومكانته العلمية، رغم اشتهاره بالمركز العلمي، الذي رشحته - الأكثرية المطلقة من أعلام الحوزة العلمية في النجف بعد وفاة شيخه الأنصاري - بأن يعلو منصة المرجعية العامة، الذي يشترط فيها (الأعلمية) لغرض توفر القدرة الفائقة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
وكما تحدثنا الروايات بأن درس الإمام الشيرازي كان يحضره فحول العلماء وكبار المحصلين، بحيث أصبحت حوزته العلمية تضاهي حوزة أستاذه المحقق الإمام الشيخ مرتضى الأنصاري، وحتى بلغ الحال بأن يقول هو لأحد خاصته من العلماء أن حوزة درسنا أحسن من حوزة درس شيخنا الأنصاري ()، وهذا القول - إذا صح منه - لا يمكن أن يطلقه مثل السيد الشيرازي ما لم يكن واثقا من أن الذين يحضرون درسه من الطبقة الفاضلة،
والمشار إليها في الميدان العلمي بالبنان.
والحقيقة حين نرجع إلى قائمة أسماء تلاميذه الذين يصلون إلى قرابة الأربعمائة ونرى فيهم - حسبما تترجم المصادر - من علية الفضلاء، وبعضهم من المراجع المشهورين المعروفين بالحوزة العلمية وممن تسنموا مركز الزعامة والمرجعية من بعده، وكان من المنتظر أن تكون - على الأقل - أفكاره العلمية مضمنة تقريرات وبحوث هذا العدد الغفير من طلابه، ولكن ويا للأسف لم نحصل إلا على القليل منها - كما سنذكرها - مع أن المصادر تشير إلى أن حلقة درس المجدد الشيرازي كان يحضرها المحصلون الكبار من العلماء «ولذلك كثر المقررون لدرسه على الطلاب الآخرين المتوسطين وغيرهم» ().
وكيف ما كان فإن ما وصلنا من ذكر مؤلفاته وتقريراته التي كتبها طلابه هي الآتي:
المقدمة 48

أ - مؤلفاته:
المصدر الرئيسي لهذه المؤلفات هو المرحوم السيد محسن الأمين ()، وهي:
1 - كتاب في الطهارة إلى الوضوء - فقه - 2 - رسالة في الرضاع - فقه - 3 - كتاب من أول المكاسب إلى آخر المعاملات - فقه - 4 - رسالة في اجتماع الأمر والنهي - أصول - 5 - تلخيص إفادات أستاذه الأنصاري في الأصول من أوله إلى آخره.
6 - رسالة في المشتق - مطبوعة - وسماها المرحوم الطهراني باسم «التقريرات» في مسألة المشتق لبعض تلاميذ المجدد الشيرازي، طبعت ضمن مجموعة صغيرة في إيران عام 1305 ه‍ - ().
7 - حاشية على نجاة العباد، وعلى حاشية الشيخ مرتضى لعمل المقلدين، مطبوعة معها ().
8 - تعليقته على معاملات الآقا البهبهاني لعمل المقلدين مطبوعة بالفارسية.
هذه هي المؤلفات التي انفرد بها السيد الأمين بذكرها ونسبها إلى سيدنا المترجم، في حين لم أر المحقق الطهراني يشير في كتابه الجليل «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» إلى أي من هذه الكتب عدا السادس. في حين ورد ذكرها في كتابه «ميرزا شيرازي» بعنوان «ملحقات» وليس من أصل الكتاب، والظاهر ان الجهة التي ترجمت الكتاب من الأصل العربي أضافت القسم الأول من الملحقات، وهو ما يخص تأليفات الإمام الشيرازي، وقد أشير إلى أنه مقتبس عن ما كتبه المرحوم الحجة السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة: 5 - 308) - وقد مرت الإشارة إلى ذلك أكثر من مرة -.
المقدمة 49

ب - تقريراته:
وتحت عنوان «ما جمع من فتاوى (السيد الشيرازي) وتقريرات أبحاثه» كتب المرحوم السيد محسن الأمين ما يلي:
«اصطلح العلماء في عصرنا، وما قاربه على أن يقرر بعض التلاميذ المتميزين ما يلقيه الشيخ في درسه الخارجي على بقية التلاميذ بعد فراغ الشيخ من الدرس ليقر ذلك في أذهانهم، وليفهم بعضهم ما فاته فهمه أثناء الدرس.
وكان الملا محمد الشربياني (من تلاميذ الإمام الشيرازي في النجف) يقرر درس أستاذه السيد حسين الترك، حتى عرف بالملا محمد المقرر.
وجملة منهم يكتب ما قرره الشيخ في الدروس، ويدونه كتابا كما فعل الميرزا أبو القاسم الطهراني فدون ما كان يلقيه شيخه الشيخ مرتضى الأنصاري في كتاب طبع وعرف بالتقريرات.
ودون غيره كثيرون ما كان يلقيه مشايخهم، وكذلك جملة من تلاميذ المترجم فعلوا مثل هذا، وأول من فعل ذلك قبل عصرنا (السيد محمد جواد العاملي) صاحب مفتاح الكرامة، فدون درس أستاذه (السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي المتوفى عام 1212 ه‍) في الحديث حينما كان يدرس في كتاب الوافي».
ثم أضاف المرحوم السيد الأمين:
«وهذا تعداد ما دون من فتاوى المترجم وأبحاثه:
1 - مائة مسألة من فتاواه الفارسية، جمعها الشيخ فضل الله النوري، مطبوعة.
2 - مجموعة من فتاواه بالعربية، عندي نسخة منها.
3 - بحثه في الأصول من أوله إلى آخره دونه الشيخ علي الروزدري، وسماه
المقدمة 50

الطهراني ()، (آخوند مولى علي دزدري). ووصفه من أعاظم تلاميذ الميرزا.
4 - بحثه في الأصول، دونه السيد محمد الأصفهاني بنمط متوسط. وقال عنه المرحوم الطهراني: انه توفي 1316 ه‍ - في النجف وكانت حلقة درسه في حدود 500 شخص من أفاضل الحوزة العلمية ().
5 - بحثه في الأصول والفقه دونه السيد إبراهيم الدامغاني في مجلدين. وقال المرحوم الطهراني عنه: التقريرات للسيد إبراهيم الدامغاني الخراساني، المتوفى بالنجف 1291 ه‍ - في مجلدين: أحدهما في الفقه، والمهم من مباحث العبادات والمعاملات.
والآخر في كثير من مباحث الأصول. كلاهما من تقرير بحث أستاذه آية الله السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي.
وكان من قدماء تلاميذه في النجف، وفي سنة وفاته هاجر آية الله الشيرازي إلى سامراء.
رأيت مجلده الفقهي في خزانة كتب سيدنا أبي محمد الحسن صدر الدين والمجلد الآخر المختص ب‍ «أصول الفقه» انتقل بالبيع إلى السيد محسن السيد حسين السيد رضا السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي ().
6 - بحث في الأصول دونه الشيخ حسن بن محمد مهدي الشاه عبد العظيمي وسماه ذخائر الأصول.
قال المرحوم الطهراني:
ذخائر الأصول: للشيخ حسن بن محمد مهدي الشاه عبد العظيمي النجفي، المتوفى بها حدود 1290 ه‍ - كتبه من تقرير بحث أستاذه الأنصاري في 1262 ه‍ - من مباحث الألفاظ والأدلة العقلية.
المقدمة 51

رأيت نسخة خط المؤلف في مكتبة سيدنا الصدر ().
7 - تقارير من أبحاثه للشيخ باقر حيدر. وهو كما جاء في وصفه من أفاضل طلاب الإمام الشيرازي، وقد توفي عام 1333 ه‍ - وهو في طريقه للجهاد ضد الإنكليز ().
8 - تعريب معاملات الوحيد البهبهاني، للشيخ حسن علي الطهراني، مطبقا لها على آراء أستاذه المترجم ().
وأضاف المرحوم الطهراني بعض الأبحاث إلى ما تقدم () نذكرها توخيا للفائدة.
9 - التقريرات: للشيخ الميرزا إبراهيم بن المولى محمد علي بن أحمد المحلاتي الشيرازي، المتوفى بها في 1336 ه‍ -. مجلد في المهم من مباحث الفقه والأصول، من تقرير بحث أستاذه آية الله المجدد الشيرازي كان من أجلاء تلاميذه ().
10 - التقريرات: للسيد حسن بن السيد إسماعيل الحسيني، القمي الحائري، المتوفى بعد 1315 ه‍ - من جملة
تصانيفه تقرير بحث أستاذه المجدد الشيرازي في قاعدة السلطة، والأحكام الوضعية، وقاعدتي التسامح والضرر، كلها في مجلد بخطه
المقدمة 52

فرغ منه في عام 1303 ه‍، وعلى ظهره تقريظ السيد أبي القاسم الإشكوري.
يقول المرحوم الطهراني: رأيت هذا المجلد عند السيد حسين خير الدين الهندي بكربلاء ().
11 - التقريرات: لصاحب مصباح الفقيه شيخنا الحاج آقا رضا بن المولى محمد هادي الهمذاني النجفي، المتوفى بسامراء في 1322 ه‍ - هو من تقرير بحث أستاذه سيدنا آية الله الشيرازي من أول البيع إلى آخر الخيارات، مجلد كبير.
يقول المرحوم الطهراني: رأيته عند الشيخ أسد الله الزنجاني، وحكي عنه أنه قال قد ضاع مني في أواسط تقريراتي هذا جزءان، فأخذت ما كتبه الحاج الشيخ حسن علي الطهراني من هذه التقريرات، وجدتهما عن كتابته.
ومجلد آخر من التقريرات بحث أستاذه المذكور في أصول الفقه موجود عند ولده الآقا محمد بهمدان ().
12 - تقرير بحث سيدنا آية الله المجدد الشيرازي، للسيد محسن بن السيد هاشم بن الأمير شجاعت علي الموسوي الرضوي النقوي الهندي، المتوفى عام 1323 ه‍ -. يقع هذا التقرير في مجلدين: أحدهما في الطهارة والقضاء، والآخر من أول بيع العبد الآبق إلى آخر الخيارات، ثم الرهن، ثم الكبائر، ثم تداخل الأغسال، ثم الزكاة، ثم الحيض والاستحاضة.
يقول المرحوم الطهراني: رأيت الكتاب في مكتبته الموقوفة والمتولي عليها ولده الجليل السيد رضا الهندي ().
13 - التقريرات: للسيد هاشم بن السيد علي بن السيد رضا بن السيد آية الله بحر العلوم، المتوفى قبل وفاة والده السيد علي صاحب كتاب «البرهان القاطع» عام 1298 ه‍.
المقدمة 53

يقول المرحوم الطهراني: كان تلميذ سيدنا آية الله المجدد الشيرازي، وكاتب تقريراته. منها:
تقرير بحث مقدمة الواجب استحسنه آية الله، وأمر تلميذه المولى محمد تقي القمي باستنساخه، رأيت النسخة بخطه في مكتبة آية الله.
ويوجد أيضا فيها (في مكتبة آية الله الشيرازي) مجلد من تقريره لأكثر مباحث الأصول، الأجزاء، الضد، المفاهيم، العموم والخصوص، وبعض مباحث الظنون، والأصول العملية.
وكانت نسخة منها عند السيد جعفر بن السيد محمد باقر بن أخ السيد هاشم، اشتراها منه ().
14 - تقريرات السيد الشيرازي في التعادل والتراجيح كتبها المرحوم الشيخ حسن بن الشيخ كاشف الغطاء ().
15 - تقريرات درس السيد الشيرازي، كتبها المرحوم السيد محمد الهندي النجفي ().
16 - التعادل والتراجيح: للشيخ عباس بن الشيخ حسن بن الشيخ الأكبر كاشف الغطاء النجفي المتوفى بها في 18 رجب عام 1323 ه‍ - كتبه من تقرير بحث آية الله الشيرازي قبل مهاجرته إلى سامراء ().
وينقل السيد الأمين بأنه ما وردت عليه (أي السيد الشيرازي) مسألة أو أراد الخوض في بحث إلا وكتب تلك المسألة، وما يمكن أن يقال فيها من نقض وإبرام قبل أن يجيب عنها أو يباحثها، فكانت تجمع تلك الأوراق من مجلسه في كل أسبوع، وتلقى
المقدمة 54

في دجلة ().
ويعقب السيد الأمين على ذلك:
«ولا ندري لما ذا لم تكن تحفظ، ولو حفظت لاستفاد منها الناس بعد.
ولعل الأوراق التي كانت تلقى في دجلة كانت في غير المسائل العلمية» ().
رابعا - حلقة درسه:
ومفردة أخرى لها حسابها في عالم التقييم العلمي، تلك هي الواجهة الدراسية، فكلما كانت واسعة تجمع أكبر عدد من طلاب العلوم تدل دلالة واضحة على مركزية الأستاذ المحاضر، - كما يقول المثل -: (والموارد العذب كثير الزحام).
وحين نرجع إلى المصادر التي تترجم الإمام الشيرازي نراها تصل بعدد تلاميذه إلى قرابة أربعمائة شخص، وكلهم من مختلف الأقطار الإسلامية ولهم مكانتهم العلمية والاجتماعية.
وقسمهم المرحوم الحجة المحقق الشيخ آقا بزرگ الطهراني إلى ثلاثة أقسام:
الأول - طلاب العلوم الذين أدركوا عهد المحقق الإمام الشيخ الأنصاري، وبعد وفاته حضروا درس السيد الشيرازي، لتكميل علومهم الدينية.
الثاني - الطلاب الذين اختصوا بالميرزا الشيرازي في النجف الأشرف، وانتقلوا إلى سامراء معه، ودرسوا عليه، الثالث - الطلاب الذين حضروا إلى درس السيد الشيرازي في أواخر أيامه بسامراء، وحملوا تراثه العلمي من بعده.
وأغلب هؤلاء انتشروا بعد وفاة الإمام الشيرازي في الأقطار الإسلامية من أجل التبليغ والإرشاد، وتسلموا مناصب الإمامة في بلدانهم، وبعضهم نال مرتبة الزعامة الدينية ومرجعية التقليد في الأمة الإسلامية ().
المقدمة 55

ومع مكانته العلمية فانه - رضوان الله عليه - ما كان يقدم محاضراته لطلابه إلا ويعد لها، ويكتبها ويعلق عليها ما يمكن أن يقال فيها من نقض وإبرام قبل أن يباحثها، ويقدمها لطلابه.
والخصلة الأخرى التي كان يتبعها مع رواد مجلسه من أهل الفضل والعلم، وخاصة تلاميذه أن المسائل التي يستفتى بها، في الغالب يطرحها للمناقشة والمذاكرة، ويحرص على أن يعرف رأي كل واحد من الحاضرين فيها، وهو بذلك يستفيد أمرين:
الأول - الاطلاع على مقدراتهم العلمية، وأفكارهم من خلال المناقشات التي تدور بين الحاضرين حول المسائل المستفسر عنها.
الثاني - لعل في آرائهم وأفكارهم شيئا جديدا يستفيده منهم، ولم يخطر بباله، وهذه منتهى الدقة العلمية ().
ومما ينقل أنه كان يظهر الاهتمام الكثير بحلقة درسه أمام بعض خاصته، لأنها تضم عددا كبيرا من أهل الفضل والعلم، حتى حكي عنه أنه قال مرة لأحد المقربين له: بأن حوزة درسنا أحسن من حوزة درس شيخنا الأنصاري ().
وترى بعض المصادر: أن عددا كبيرا من الأئمة والأعلام قد تخرجوا على يده، فقد ربي خلقا كثيرا، منهم جماعة من المجتهدين وصلوا لمنصب الزعامة والتقليد والرئاسة العامة من بعده، حتى قيل: أنه اتفق له من هذا القبيل ما لم يتفق لشيخه الأنصاري ().
ولكن المرحوم السيد الأمين يرى أن الذين تخرجوا على الشيخ الأنصاري من فحول العلماء يعسر عدهم، مع امتياز الشيخ الأنصاري بكثرة التأليف. لأن الشيخ الأنصاري لم يكن له من مشاغل الرئاسة ما كان للمترجم التي
صدته عن
المقدمة 56

التأليف ().
وخلاصة القول في هذا الصدد:
فان مجلس بحث السيد المجدد الشيرازي كان مزدحما بالعلماء والمدرسين، وكان يختار مما يستفتى به من المسائل الشرعية من سائر الأقطار الإسلامية موضوعا يباحث به تلاميذه ().
بالإضافة إلى المواضيع الرئيسة من أبواب الفقه، والتي كانت مدار حديثه اليومي.
ولم يكن مبعثه هذا إلا الاهتمام بطلابه، ورغبته في اطلاعهم على المسائل الهامة التي تبتلى بها الأمة، وتضطر للاستفسار عنها، كما أن رغبته الأكيدة أن يبنى جوابه على دراسة وبحث. كل ذلك تورعا، ووثوقا بإصدار الفتوى ().
خامسا - قبس من تلاميذه:
ولقد أشرت فيما سبق أن المرحوم الطهراني ذكر أسماء (372) شخصا ممن تتلمذ على السيد الإمام الشيرازي سواء في النجف الأشرف، أو سامراء ().
وإذا حاولنا ذكرهم بالتفصيل، فقطعا سوف يخرجنا عن الالتزام بالإيجاز الذي توخيناه في هذه الدراسة، ولذا سوف نعرض قائمة الأسماء التي أوردها المرحوم السيد محسن الأمين ()، ولعل اختياره لها نابع من الشهرة، أو البروز من بين ذلك العدد الغفير، وهم:
المقدمة 57

1 - السيد إبراهيم الدامغاني الخراساني المتوفى عام 1291 ه‍ - وهو من قدماء تلاميذه، وقد ألف من تقرير بحثه مجلدين: أحدهما في الفقه والآخر في الأصول.
2 - السيد إبراهيم بن مير محمد علي الدرودي الخراساني الكاظمي المتوفى عام 1328 ه‍ - وكان من الملازمين لدرس السيد حتى آخر عمره، وأقام أخيرا في الكاظمية.
3 - الميرزا إبراهيم الشيرازي.
4 - الميرزا إبراهيم بن مولى محمد علي بن أحمد المحلاتي الشيرازي المتوفى بعد عام 1316 ه‍ - من العلماء الأجلاء.
5 - ملا أبو طالب كزازي السلطان آبادي، المتوفى عام 1329 ه‍، وصف بأنه عالم فاضل متقي.
6 - ميرزا أبو الفضل ابن ميرزا أبو القاسم، المعروف ب‍ - كلانتري نوري طهراني، من أهل الفضل والعلم والتاريخ والرجال والأدب، توفي عام 1317 ه‍ -.
7 - الشيخ إسماعيل الترشيزي المشهدي، المتوفى بعد عام 1320 ه‍ - من العلماء الأجلاء.
8 - السيد إسماعيل السيد رضي الحسيني الشيرازي، المتوفى عام 1305 ه‍، ابن عم سيدنا المترجم من العلماء الأجلاء، وكان من مستشاري السيد الشيرازي، وكان له درس خاص عنده.
9 - الشيخ إسماعيل بن الملا محمد علي المحلاتي النجفي المتوفى عام 1343 ه‍، وبعد وفاة السيد الشيرازي أقام في النجف وهو من العلماء الأجلاء.
10 - الشيخ محمد باقر بن عبد الحسن الإصطهباناتي الشيرازي استشهد عام 1326 ه‍ - في شيراز من أكابر وأعلام شيراز، ومن مبرزي طلاب السيد جامع العلوم العقلية والنقلية.
11 - الشيخ باقر بن علي بن حيدر، المتوفى عام 1333 ه‍، من فضلاء تلاميذ السيد الشيرازي، بعد وفاة والده، انتقل إلى سوق الشيوخ في العراق وكانت له فيها
المقدمة 58

زعامة دينية ورئاسة اجتماعية.
12 - الميرزا حبيب الله بن ميرزا هاشم بن حاج ميرزا هدايت الحسيني الموسوي، المتوفى عام 1320 ه‍. ق، من الفضلاء والأعلام.
13 - السيد حسن السيد هادي السيد محمد علي الموسوي الشهير بالصدر المتوفى عام 1354 ه‍، من أعاظم علماء عصره ومن أركان بحث الميرزا الشيرازي. له مؤلفات شهيرة، توفي ببغداد، ودفن في صحن الكاظمين عليهما السلام.
14 - الشيخ حسن علي الطهراني، المتوفى في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) عام 1330 ه‍، من العلماء المشهورين.
15 - الشيخ حسن الكربلائي، الأصفهاني الأصل في حدود عام 1300 ه‍ هاجر إلى سامراء والتحقق بحوزة السيد الشيرازي، توفي عام 1320 ه‍ بالكاظمية.
16 - السيد إسماعيل بن السيد صدر الدين محمد العاملي المتوفى عام 1263 ه‍، من مبرزي تلاميذ السيد الشيرازي، ومن المهاجرين الأوائل إلى سامراء تبعا للسيد الشيرازي، ثم سكن كربلاء وصار من مراجع تقليدها.
17 - الشيخ حسن الشيخ محمد القابجي الكاظمي المشهدي المتوفى عام 1345 ه‍، التحق بالسيد الشيرازي في سامراء بعد عام 1300 ه‍، وانتقل بعد وفاة السيد إلى خراسان للقيام بالواجبات الدينية والتبليغ.
18 - الشيخ حسن بن محمد مهدي الشاه عبد العظيمي، المتوفى بحدود 1292 ه‍ ().
19 - الميرزا حسين السبزواري، وذكره السيد الأمين في ترجمته أنه الميرزا
المقدمة 59

حسين بن الميرزا حسن بن علي أصغر السبزواري المتوفى عام 1353 ه‍ -. حضر درس السيد الشيرازي في سامراء، ورجع عام 1300 ه‍ إلى سبزوار، وتوفي فيها ().
وأورد اسمه الطهراني ب‍ (سيد حاج ميرزا محمد حسن سبزواري علوي) ().
20 - المحدث الشهير الشيخ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري الطبرسي المتوفى عام 1320 ه‍ - في النجف. إمام في الحديث والرجال، وعالم في الفقه، ومن أكابر علماء الإمامية.
21 - الشيخ آغا رضا بن الشيخ محمد هادي الهمداني النجفي المتوفى عام 1322 ه‍، من أكابر العلماء المحققين، ومن مشاهير عصره، ممن تتلمذ على السيد الشيرازي وكتب تقريراته، وكان مرجعا للتقليد بعد أستاذه الشيرازي.
22 - الشيخ شريف الجواهري () ابن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، المتوفى عام 1314 ه‍، من أعلام الفضل والصلاح.
23 - الشيخ عباس بن الشيخ حسن بن شيخ كاشف الغطاء الكبير، المتوفى بعد عام 1320 ه‍، من تلاميذ السيد الشيرازي في النجف، وذكر الطهراني أنه كتب تقريرات السيد الشيرازي في التعادل والترجيح من بحث الأصول ().
24 - الشيخ عباس بن الشيخ علي من آل الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء المتوفى عام 1315 ه‍. ذكره
الطهراني أنه كان فقيها كبيرا، ومرجعا جليلا، وذكر أنه حضر درس السيد المجدد الشيرازي في النجف ().
25 - الشيخ عبد الجبار الجهرمي. وسماه الطهراني الشيخ عبد الجبار الشيرازي، ووصفه بأنه فقيه كبير، وعالم جليل، وعاد إلى شيراز وأصبح مرجعا للأمور
المقدمة 60

الشرعية فيها إلى أن توفي بها سنة 1319 ه‍ - ().
26 - السيد عبد المجيد الكروسي، توفي في همدان عام 1320 ه‍ - من تلاميذ السيد الشيرازي في سامراء، وبعد وفاته انتقل إلى همدان وشغل مرجعيتها الدينية.
27 - الشيخ عبد النبي الطهراني، ويعرف بالحاج قاضي، وكان من علماء طهران الأفاضل، ورجالها المشاهير في النصف الأخير من القرن الثالث عشر، حضر في أوائل عام 1300 ه‍ - إلى سامراء، وحضر على درس السيد المجدد، ثم بعد مدة قصيرة رجع إلى طهران، وتوفي بعد عام 1332 ه‍.
28 - الشيخ علي بن الشيخ حسين الخيقاني الحلي النجفي، المتوفى عام 1334 ه‍ - في النجف، وصفه السيد الأمين بأنه: عالم رباني فقيه، كان على جانب عظيم من الزهد والورع والتقشف في الدنيا، تتلمذ على السيد الشيرازي في النجف الأشرف.
29 - الشيخ علي الرشتي اللاري، المتوفى عام 1295 ه‍ - في لار، تتلمذ على يد السيد المجدد الشيرازي في النجف وسامراء، ثم انتقل بأمره إلى لار حيث يبلغ ويرشد الناس، ويمثله في تلك المدينة.
30 - الشيخ علي الروزدري ()، وصفه الطهراني بأنه من قدماء تلاميذ سيدنا آية الله الشيرازي، ومن المبرزين المعتمدين عنده، أرسله إلى تبريز، وتوفي بها عام 1290 ه‍.
31 - الملا فتح علي ابن المولى حسن السلطان آبادي المتوفى بحدود 1312 ه‍، من أوائل الذين التحقوا بالمجدد الشيرازي في سامراء، ولازمه حتى وفاته حيث انتقل إلى كربلاء ومات فيها، ودفن في النجف.
المقدمة 61

32 - الميرزا فضل الله الفيروزآبادي، وزاد الطهراني (الشيرازي) تتلمذ على السيد في النجف وسامراء، ثم انتقل إلى شيراز وتوفي فيها بعد عام 1300 ه‍، ونقل إلى النجف الأشرف ودفن فيها.
33 - الشيخ فضل الله بن ملا عباس النوري، أعدم في عام 1327 ه‍ - في طهران بقضية المشروطة والمستبدة. كان من تلاميذ السيد المجدد، ومن ثم انتقل إلى طهران وأصبح من الأعلام الذين يشار إليهم بالمكانة والعلم.
34 - الآخوند ملا محمد كاظم الخراساني المتوفى عام 1329 ه‍، من أعلام المدرسة الأصولية، والمجدد فيها، كانت حلقة درسه تضم قرابة ألف طالب من فضلاء الحوزة العلمية.
35 - السيد محمد كاظم بن السيد عبد العظيم الطباطبائي اليزدي المتوفى عام 1337 ه‍، من مشاهير علماء المدرسة النجفية ورئيسها المبرز، رجعت إليه الأمة بالتقليد، تتلمذ على السيد الشيرازي في النجف.
36 - الميرزا محسن بن الشيخ محمد علي بن أحمد المحلاتي الشيرازي المتوفى بعد 1320 ه‍، من طلاب السيد في سامراء، ثم التحق بدرس آية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي، وبعد فترة عاد إلى شيراز.
37 - السيد محمد السيد أمير قاسم فشاركي الحائري الأصفهاني الطباطبائي المتوفى عام 1316 ه‍، من أوائل المهاجرين مع الإمام الشيرازي إلى سامراء ومن خاصة تلاميذه.
38 - الشيخ محمد تقي الآقا نجفي، قال الطهراني: أن ابن أخيه الشيخ محمد رضا بن محمد حسين عده في كتابه (حلي الدهر العاطل) من تلاميذ السيد الشيرازي في النجف الأشرف.
39 - الميرزا محمد تقي الشيرازي، المتوفى عام 1338 ه‍، أحد أعلام تلاميذ السيد المجدد، وزعيم الثورة العراقية عام 1920 م، ويعتبر القائد والموجه لثورة
المقدمة 62

العشرين العراقية ضد الإنكليز، وقد أفتى بوجوب محاربة الإنكليز ().
40 - الملا محمد تقي القمي، من قدماء تلاميذ سيدنا الشيرازي في النجف وسامراء، ويقول الطهراني: أنه ممن حصل على إجازة اجتهاد من السيد الشيرازي ().
41 - الحاج محمد حسن كبة البغدادي بن الحاج محمد صالح بن الحاج مصطفى الربيعي المتوفى عام 1336 ه‍، وصفته المصادر بأنه عالم جليل، وفقيه بارع، وأديب كبير.
42 - الشيخ محمد حسن الناظر بن الملا محمد علي الطهراني، يقول الطهراني أنه من تلاميذ السيد المجدد الشيرازي في النجف، وحصل على إجازة اجتهاد منه.
43 - السيد محمد شرف البحراني نزيل لنجة.
44 - الميرزا محمد بن فضل الله الفيروزآبادي المتوفى عام 1309 ه‍ - ممن تتلمذ على سيدنا آية الله الشيرازي في سامراء.
45 - السيد محمد الهندي بن السيد هاشم بن أمير شجاعت علي الموسوي الرضوي الهندي النجفي المتوفى عام 1323 ه‍، تتلمذ على سيدنا المجدد في سامراء زمنا وكتب دروسه.
46 - الميرزا مهدي بن المولى محمد كريم بن حسن علي بن الميرزا محمد علي الشيرازي، المتوفى عام 1308 ه‍، وهو ابن أخت الإمام ميرزا محمد تقي الشيرازي، من تلاميذ السيد الشيرازي.
47 - الشيخ هادي المازندراني الحائري.
48 - السيد علي آغا نجل السيد المجدد، قال السيد محسن الأمين في المجلد الثامن من أعيان الشيعة ص 330 نقلا عن السيد محمد الأصفهاني انه تربى في حجر خمسين مجتهدا - قرأ على والده وعلى غيره وهو مقيم في النجف مقلد معدود من الرعيل
المقدمة 63

الأول ولد في النجف الأشرف سنة 1287 ه‍، وتوفي سنة 1355 ه‍ ().
هذه قائمة الأسماء التي اعتمدها المرحوم السيد محسن الأمين لتلاميذ سيدنا آية الله الشيرازي، وهناك بعض الشخصيات العلمية التي لم يرد لها ذكر في القائمة المشار إليها، ومن الضروري أن نمر عليهم نظرا لمكانتهم العلمية، وهم:
49 - السيد باقر بن السيد محمد بن السيد هاشم الموسوي النجفي الهندي المتوفى عام 1329 ه‍، وصف بأنه عالم نحرير وشاعر شهير.
50 - الشيخ محمد تقي بن الشيخ حسن بن الشيخ أسد الله الكاظمي المتوفى عام 1320 ه‍ - من علماء الكاظمية، وشخصياتها الدينية.
51 - الشيخ حسن بن الشيخ عيسى الفرطوسي النجفي المتوفى بحدود عام 1321 ه‍، وصف بأنه كان عالما فاضلا فقيها، له كتاب في الفقه في تسع مجلدات (مخطوط).
52 - الميرزا محمد حسين بن عبد الرحيم النائيني النجفي المتوفى عام 1355 ه‍، من أكابر المحققين، وله شأن في علوم الكلام والفلسفة والأدب واللغة، وتوحد في الفقه والأصول، وكان من خاصة الإمام الشيرازي.
53 - السيد محسن بن السيد حسين السيد رضا بن السيد بحر العلوم الطباطبائي المتوفى عام 1318 ه‍، من
العلماء المعروفين في الأوساط العلمية والأدبية في النجف الأشرف.
54 - الشيخ محمد بن الشيخ علي، المنتهى نسبه إلى الشيخ أحمد الجزائري صاحب كتاب (آيات الأحكام) المتوفى عام 1303 ه‍.
55 - السيد مرتضى السيد أحمد السيد حيدر، المتوفى عام 1300 ه‍ - من أعلام الكاظمية وشخصياتها.
المقدمة 64

56 - الشيخ هادي الشيخ محمد صالح الشيخ علي الشيخ قاسم محيي الدين العاملي النجفي، ممن تتلمذ على يد السيد المجدد زمنا ليس بالقصير.
57 - السيد الحاج ميرزا هادي الهمداني المتوفى عام 1304 ه‍، كان من مراجع همدان.
58 - السيد هاشم السيد علي بحر العلوم، صاحب كتاب (البرهان القاطع).
59 - السيد هاشم محمد علي القزويني الحائري الموسوي المتوفى عام 1327 ه‍، له مؤلفات عديدة في الفقه.
60 - حاج ميرزا هدايت الله الأبهري وصف بأنه عالم فاضل وفقيه وأصولي مجاهد.
61 - السيد ياسين بن السيد طاهر النجفي المتوفى عام 1342 ه‍ - من سادات الكوفة، تتلمذ على السيد الشيرازي زمنا ().
ولم يكن اختيارنا لهؤلاء الأعلام ممن تتلمذوا على سيدنا المجدد الشيرازي سواء في النجف الأشرف أو سامراء من بين الحشد الهائل الذي أوصله البعض إلى قرابة خمسمائة شخص نابعا من أولوية، انما اعتمدنا السيد الأمين حتى رقم 48 والباقي اخترناهم على أساس الشهرة في ذكرهم لدى بعض المصادر، وإلا فحين نرجع إلى تراجمهم في قائمة المرحوم المحقق الطهراني نجد كلا منهم علما في حد ذاته، ينتهل منه نمير العلم، ويرجع إليه في شؤون الدين.
المقدمة 65

الفصل السابع لم يمت العالم، ويبقى حيا
في خضم عمر مديد يقرب من الثمانين عاما، كان سيدنا الإمام المجدد الشيرازي في خلاله قمة شامخة في الزعامة العامة ومثالا رائعا للتقى والورع، ومرجعا دينيا للأمة الإسلامية، حصل له في دنياه قل أن يحصل لغيره من مكانة في العلم، وسعة في الزعامة، وسلطة عليا في الدين.
وحقق ما أراد، حين أدخله خاله الذي تولى تربيته سلك الخطابة، فلم يطل به المقام فيها، إلا واكتشف في نفسه قابلية ليكون من أهل العلم والفضل والشأن، فتوجه تلقاء بغيته العلمية متنقلا من شيراز إلى أصفهان، ثم إلى كربلاء والنجف، أينما صادف موردا صافيا للعلم حط عليه، وربض فيه، حتى ينال منه بغيته، وإلى أن وصل النجف الأشرف، محط العلماء، وبغية الطلاب، به يستقرون، ومن جامعتها الشامخة يرفدون.
ثم من حق المرجعية الدينية الإمامية أن تعتز بمثل هذه الشخصية الفريدة، التي جمعت كمال العلم، إلى ورع النفس، إلى طموح الرقي، وكان لها من هذه وتلك ما قوم به الخط المرجعي الإمامي، الذي استمر طوال القرون الشاسعة ينبض حيوية، ويتنامى ازدهارا، فإنه لم يجمد، ولم يخمد، فحركة الاجتهاد إحدى مفاخره ومسايره التطور الحضاري من أهم مميزاته.
إذا لا نستغرب إذا سمعنا ما قاله القائلون عنه: وبلغ من الرئاسة وجلالة الشأن مبلغا لم يكن لأحد من الأمراء والملوك في أيامه () ما كان له من رئاسة وزعامة وتوفيق.
ثم أيضا لا تعلونا الدهشة حين نسمع ما يتحدثون عن سيدنا الإمام المجدد
المقدمة 66

الشيرازي قدس سره: كما لم يتفق في الإمامية مثله في الجلالة، ونفوذ الكلمة، والانقياد له ().
وبعد ذلك، فلا مبالغة حين يدعي المدعي أنه كان زعيما عظيما تخشع أمامه عيون الجبابرة، وتعنو له جباه الأكاسرة، كما قال في رثائه بعض الأفاضل من السادة الأشراف:
قدت السلاطين قيود الخيل إذ جبنوا * ما سوى طاعة الباري لها رسن لك
استقيدوا على كره لما علموا * بالسوط أدبارهم تدمى إذا حزنوا
لا خوف بعدك أمسى في صدورهم * فليفعلوا كيف شاؤوا أنهم أمنوا ().
هذه الشخصية الثرة العطاء لبت نداء ربها في ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان سنة 1312 ه‍ في سامراء التي أرسى فيها حوزته العلمية قرابة واحد وعشرين عاما، وأضفى على هذا البلد من جلال أجداده الأئمة الميامين هيبة هاشمية، وعزا علويا، ومجدا محمديا ما طاول الأيام.
وكان حرص المسلمين على توديع سيدهم الإمام المجدد، وزعيمهم الديني الفذ متجليا في الأكف الممدودة لحمل النعش من بلد إلى بلد، من سامراء إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف، ليكون بجوار جده الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبالعيون الدامعة التي تروي الثرى الذابل من وطأة الثكل بالمصاب الجلل، وبالقلوب المفجوعة بهول الخسارة التي مني الإسلام بوفاة هذا الطود الشامخ، والعلم الخفاق، والكلمة المعطاة، والعقل المتوقد.
وكانت الجماهير المثكولة تستقبل الجثمان وتودعه من مشارف بلدها، إلى مشارف المدينة الأخرى لتأخذه بالقلوب والدموع، والأكف تجدد به عهدا، وتودع به عهدا، وهكذا حتى حط نعشه في مرقد جده الإمام علي عليه السلام ليقضي ليلته
المقدمة 67

الأخيرة في دنياه الفانية في حرم أبي الأئمة الأطهار، عبر سامراء والكاظمية، وبغداد والمحمودية، والمسبب وكربلاء، وخان الحماد فالنجف، أكف مرفوعة وعيون دامعة، وقلوب مفجوعة من أهالي المدن وعشائر دجلة والفرات.
ولم تكن الأمة المفجوعة في مدى الأسبوع الأول الذي كان الجثمان مودعا بين أكفها - من عشية الثلاثاء 24 شعبان حتى يوم الخميس الثاني من رمضان عام 1312 ه‍ - إلا وتكاد تؤكد أن تكون قلوبها لحدا لإمامها الراحل، ولو لا أمر الله بأن يتوسد الجثمان ملحود قبره لآثرت أن يبقى مرفوعا أمامها، وفي سواد أعينها، ولكن لا بد أن يكون القبر المثوى الأخير للجسد الطاهر، وهكذا كان، فقد دفن في مدرسته التي تقع في جنب الصحن الحيدري. ولم تترك قلوب تلامذته وعار في فضله جثمان أستاذهم الكبير، فقد أنزله - وهو يمثل كل تلك القلوب الدامية حسرة عليه - علم الأمة من بعده وشيخها المحقق السيد أبو محمد الحسن الصدر، فوسده في ملحود قبره، وخرج وهو يحمل هم الفراق، وعزاء الإيمان، ما أثقل به الدهر، وكل عنه الوصف، وعجز من ذكره البيان، فإنا لله وإنا إليه راجعون ().
المقدمة 68

وأقيمت الفواتح على روحه الطاهرة من قبل العلماء الأعلام في كل الأقطار الإسلامية، ونقلت المصادر: أن عزاءه دام في البلاد ما يقرب من سنة كاملة ()، ورثاه جمع كبير من الشعراء، حتى ذكر أن كتابا وضع من قبل الشريف العلامة السيد محمد رضا آل فضل الله الحسني العاملي، تناول فيه وصف تشييع المجدد الإمام الشيرازي من سامراء إلى النجف، والفواتح التي أقيمت له، كما ضم قصائد الرثاء في تأبينه ().
ومن تلكم القصائد:
1 - قصيدة المرحوم الشاعر السيد جعفر الحلي، المتوفى سنة 1315 ه‍، قال في مطلعها:
بمن يقيل عثارا بعدك الزمن * ومن سواك على الإسلام يؤتمن
تقوم لدين الله قائمة * وليس فيها الإمام السيد الحسن () 2 - وقصيدة للمرحوم الشاعر السيد إبراهيم بحر العلوم الطباطبائي المتوفى 1319 ه‍ قال في مطلعها:
من صاح بالدين والدنيا * إلا اعتبرا
جرى المقدر محتوما * خذا وذرا
إلى ان يقول:
هذا محمد محمول له جسد * واروا به صحف إبراهيم والسورا
() 3 - وقصيدة للمرحوم السيد محسن الأمين العاملي المتوفى 1371 ه‍ - قال في مطلعها:
المقدمة 69

سطا فما أخطأ الأكباد والمهجا * خطب أحال صباح العاملين دجى
رزء به ثلم الإسلام وانطمسا * علامه وبه باب الهدى رتجا
إلى أن يقول:
محمد الحسن الحبر الذي سمكت له * مفاخره فوق السما درجا
قد كنت في وجه هذا الدهر * غرته حتى مضيت فأمسى كالحا سمجا
() 4 - وقصيدة ذكرها المرحوم السيد محسن الأمين عن مجموعة شعرية ضمت ما رثي به الإمام المجدد الشيرازي، ولم يسم قائلها () ذكر منها أبياتا يقول:
مصابك طبق الدنيا مصابا * ورزؤك هون النوب الصعابا
إذا وردوا نداك رأوك بحرا * ولو وردوا سواه رأوا سرابا
ملأت بذكرك الآفاق حمدا * ونحن اليوم نملؤها انتحابا
بسامراء غبت وليس بدعا * ففيها قبلك المهدي غابا
() أبو المهدي عنك اليوم نابا * عن المهدي نبت لنا،
وهذا () ويمر علينا قرابة قرن، وذكرى هذه الشخصية العلمية الكبيرة حية شامخة، لم تطوها الأيام، ولا أخفاها زمن، لأن العالم الرباني لم يمت، ولا يخمد ذكره، ما دامت آثاره تلهج بذكره، وتاريخ عهده يعج بما يخلد، وهكذا حياة العظماء عظة ومدرسة يقتدى بها، ويستفاد من عطائها، انها الشلال الهادر بكل مكرمة، يعبر السنين ولا يشيخ،
المقدمة 70

ويطوي الفيافي ولا يكل، وستبقى هذه الذكرى تفجر البقاء، لأنها عاشت لله، وفي سبيل إعلاء كلمته، فخلدت مع الخالدين.
المقدمة 71

الفصل الثامن مع الكتاب
هذه الدراسة التي قدمناها عن سيدنا المجدد الإمام السيد الشيرازي مقدمة للتعريف بالكتاب الذي نقدمه للقراء الكرام وأصحاب البحث العلمي في أصول الفقه الإسلامي، وما ينطوي من أفكار وآراء في هذا البحث يكشف لنا عن مستوى فكري له كل العلاقة بالمدرسة النجفية الأصولية الحديثة، والتي يعتبر رائدها الأول المرحوم المحقق الإمام الشيخ مرتضى الأنصاري، وسيدنا المترجم كان من تلامذة المرحوم الأنصاري، وأخذ عنه أفكاره العلمية، وكان الشيخ يصغي إليه إذا ناقشه في مسألة أثناء الدرس، بل كان يأمر الحشد الهائل من تلاميذه أن ينصتوا لمناقشة السيد الشيرازي، وينوه بفضله، ويعظمه في مجلس الدرس () وهذه مفردات تؤشر بمجموعها إلى نتيجة مهمة، وهي أن المحقق الأنصاري كان يرى في السيد الشيرازي الشخص الذي يحمل أفكاره العلمية في الغد المرتقب، وأنه سوف يكون المحور العلمي لدراسات بحث الخارج للحوزة العلمية، وتطويرها.
والظاهر أن أفكار الميرزا الشيرازي وآراءه العلمية، الفقهية والأصولية لم تنشر في الأوساط العلمية - كما ينبغي - بالرغم من أهميتها، لأنها تمثل مرحلة الوسط، بين طرح الأفكار، وبين بلورتها العلمية، حيث مثلت النضوج العلمي للمدرسة العلمية النجفية - كما أشرنا إليه سابقا -.
وقبض الله سبحانه من يتمكن من إخراج تراث هذه المرحلة إلى ميدان البحث العلمي، ووضعه بين يدي القراء بغية اكتشاف الحقيقة العلمية المتجددة، والتطور الفكري الذي يتناسب ومرحلة النضوج والإثراء.
ومن أجل هذا التراث الضخم في مادته نقدم التعريف الآتي بالكتاب ومقرره
المقدمة 72

ومحققيه، وأرجو أن أكون على صواب من هذا التقييم، ولا أجانب الحق من خلال هذا العمل المجهد.
أولا - مع الكتاب:
1 - الكتاب الذي نحن بصدد تعريفه للقراء هو (تقريرات المرحوم الإمام السيد الشيرازي في أصول الفقه). والظاهر أنها المحاضرات التي كان يلقيها على طلابه في النجف الأشرف، وقبل هجرته إلى سامراء بدليل:
أ - أن المرحوم الطهراني نقل في ذكر هذه التقريرات أن الشيخ علي الروزدري كان من قدماء تلاميذ سيدنا آية الله الشيرازي ومن المبرزين المعتمدين عنده، فأرسله إلى تبريز فتوفي بها حدود 1290 ه‍ -. وعند عزمه على السفر أودع تقريرات أستاذه عنده مخافة الضياع في الطريق، فطالعها آية الله واستحسنها، وأمر الطلاب باستنساخها، وكلها في الأصول من أول مباحث الألفاظ إلى العام والخاص ().
ب - أن تاريخ الفراغ من تحرير نسخة التقريرات الأصل وهي بخط التلميذ المقرر الشيخ علي كان يوم الخامس عشر من صفر عام 1281 ه‍ -.
ونخلص من هذا أن التقريرات المذكورة انتهى من كتابتها قبل هجرة السيد الشيرازي إلى سامراء بعشر سنوات تقريبا، إذا ما علمنا أن هجرة السيد كانت بعد زيارته لضريح الإمام الحسين عليه السلام في منتصف شعبان عام 1291 ه‍، ووصلها في 21 منه ().
2 - كما يستفاد بأن بحوث هذه التقريرات كانت قبل وفاة المحقق الأنصاري بثلاثة أشهر، حيث ورد في إحدى صفحات نسخة الأصل بخط كاتبها الشيخ علي الروزدري النص التالي: «وتم الكلام في هذا المقام... في يوم الأربعاء الخامس عشر
المقدمة 73

من شهر صفر المظفر من سنة 1281 ه‍» وعند ملاحظتنا بأن المرحوم الأنصاري لبى نداء ربه في 18 جمادى الآخرة سنة 1281 ه‍، فيكون الفرق بينهما ثلاثة أشهر.
3 - وجدت ثلاث نسخ خطية لهذا الكتاب:
أ - نسخة بخط المقرر الشيخ علي الروزدري، كما أشار إلى ذلك هو نفسه في آخر صفحاتها بقوله: (انا الراجي الروزدري) وهي في مجلد واحد أكثرها خال من التنقيط، وقد اعتمدت - لدى الأخوين الكريمين المحققين - أصلا في تحقيقها. وقد أشرنا إلى أن خط هذه النسخة كان في سنة 1281 ه‍.
ب - نسخة بخط الشيخ محمد الحائري الخراساني ()، تم استنساخها في سامراء، وتشير الصفحة الأخيرة من
المجلد الثاني بأن الفراغ من نسخها تم في يوم الأحد 23 شهر ربيع الثاني سنة 1305 ه‍. ولذا اعتبرت هذه النسخة الفرعية الأولى.
ج - نسخة بخط السيد عبد الحسين اللاري الدزفولي - وهو من تلاميذ السيد الشيرازي المتوفى سنة 1342 ه‍ (). وتقع في مجلدين، الأول في مباحث الألفاظ، والثاني من مبحث القطع إلى آخرها، وقد سقط عنها مبحث الاستصحاب.
وقد وصفها الأخوان المحققان بأنها اشتملت على أخطاء كثيرة بالرغم من الجهد البالغ الذي بذله كاتبها.
ولما كان الاهتمام منصبا على تكميل دورة أصولية جامعة للمحقق الشيرازي، فقد بذل الجهد من قبل المحققين - حفظهما الله - على التصحيح والتلفيق بين هذه
المقدمة 74

النسخ الثلاث.
ثانيا - المقرر:
الشيخ علي الروزدري ()، أو الآخوند المولى الروزدري () هو أحد تلامذة المرحوم الإمام السيد الشيرازي - قدس الله روحه الزكية - ومن قدمائهم، وكان من المعتمدين لديه، وقد أرسله إلى تبريز ممثلا عنه، وتوفي بها حدود عام 1290 ه‍ (). ومن هذا يفهم أن سفره كان قبل هجرة سيدنا المترجم إلى سامراء.
وقد كتب بحث الأصول للإمام الشيرازي حينما كان يحاضرها في حوزته العلمية بالنجف، وقبل وفاة أستاذه الكبير المحقق الأنصاري، - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك - ويضيف المرحوم الطهراني: أن الشيخ علي حينما عزم على السفر إلى تبريز امتثالا لأمر أستاذه ليكون ممثلا له هناك ومرجعا لشؤون الأمة، أودع تقريرات بحث أستاذه في الأصول عند السيد الإمام، مخافة ضياعها في الطريق، وحين اطلع عليها السيد الأستاذ استحسنها، وأمر الطلاب باستنساخها () لتعميم الفائدة منها، نظرا لمتانة كتابتها واستيعابها المضامين والأفكار التي أودعها في تلك الدروس. وتضمنت تلك البحوث من أول مباحث الألفاظ إلى العام والخاص. وكتب المشتق - أيضا - مستقلا، ومر له التعادل والتراجيح ().
وحين رجوعنا إلى الذريعة لم يظهر لنا أن المرحوم الشيخ علي الروزدري
المقدمة 75

كتب بحث المشتق، وكلما جاءت الإشارة إليه هو الآتي:
أ - التقريرات في مسألة المشتق، لبعض تلاميذ آية الله المجدد الشيرازي، طبع ضمن مجموعة صغيرة في إيران في 1305 ه‍ ().
ب - رسالة في المشتق، وهي تقرير بحث السيد المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي، المتوفى 1312 ه‍ - مطبوعة عام 1305 ه‍، والمقرر هو الشيخ فضل الله ابن المولى عباس النوري، نزيل طهران، ابن أخت شيخنا العلامة النوري، وصهره على ابنته. صلب في الشهر الحرام رجب 1327 ه‍، وحمل إلى مقبرته في الصحن الجديد بقم ().
ان سياق الحديث الذي ذكره الطهراني يفهم أن بحث المشتق أيضا للشيخ الروزدري، ولكننا عند مراجعتنا نلحظ أنه لغيره بدليل أنه صرح في ذكر التعادل والتراجيح، وأصل البراءة للمقرر نفسه. ننتهي من هذا إلى أن المرحوم الطهراني قصد في النص السابق ذكر بحوث السيد الأستاذ في الأصول، وان كان على أساس من التلفيق. ولعل هناك شيء آخر لم أتوصل إليه.
المهم أن كاتب البحث الشيخ علي الروزدري من العلماء الأجلاء، ومن المبرزين في عصره خاصة بين تلامذة السيد الشيرازي، يؤكد هذا:
أ - اختياره لتمثيله في تبريز، والقيام بواجبات الشؤون الدينية هناك.
ب - ان السيد الإمام الشيرازي عند اطلاعه على تقريرات درسه أمر طلابه باستنساخها لتعم الفائدة بعد أن تأكد من متانة كتابتها، واستيعابه لآرائه. وهذا مؤشر على مكانته العلمية ().
المقدمة 76

3 - ميزة الكتاب:
لعل من المرجح أن يدون الأستاذان الجليلان المحققان ميزة هذا الكتاب، فهما أخبر واطلع على ذلك، نظرا لأنهما قرءا، وقارنا بين آراء المرحوم السيد الشيرازي، وأفكار أستاذه المحقق الأنصاري، ومدى تفاعل المدرسة الأصولية الحديثة بهذه الأفكار من بعدهما.
وكيف ما كان فان بعض الميزات التي أستطيع أن أثبتها يمكن تلخيصها بالآتي:
1 - ان البحوث الواردة في هذا الكتاب متكفلة ببيان المطالب الأصولية بنحو دقيق ومبرهن.
2 - وأنها مشتملة على أفكار قيمة وجامعة لآراء الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي، والمقرر نفسه - الذي يظهر من ترجمته أنه على مكانة محترمة من العلم والفضل -.
3 - حسبما يستفاد من بعض المباحث - كمبحث التعادل والتراجيح - عند طرحه لمسلك المصلحة السلوكية، يتبين أنه يحاول أن يخرج برأي جديد فيها مستلخصا من أفكار الشيخ الأنصاري، وآراء الميرزا الشيرازي.
4 - إضافة إلى ما سبق أنه ذكر هوامش وتعليقات دقيقة ومتينة من المقرر نفسه بغية الفائدة.
5 - يتضمن الكتاب ذكر بعض الآراء الأصولية لمن تأخر عن أستاذه الميرزا الشيرازي، أو معاصريه، وتستحق أن تذكر نظرا لأهميتها.
6 - ان مهمة المقرر - قدس سره - تتجلى بصورة جدية في محاولة تقديم دورة أصولية متناسقة لأستاذيه الشيخ الأنصاري والميرزا الشيرازي، والتلفيق بينهما بحيث تكون الدورة متكاملة للقراء، وهو جهد كبير له أهميته وقيمته العلمية.
7 - حرص المقرر على ربط الفكر الماضي بالحاضر من خلال رأي أستاذيه العلمين: الأنصاري، والشيرازي، وإظهار تقدم هذا العلم بالمستوى المرحلي في ميدان
المقدمة 77

الفقه الإسلامي ومدى الاستفادة منه. وهو عمل علمي مهم، يؤكد على تطوره في الفقه الإمامي الأصولي.
رابعا - مع المحققين:
ولا شك أن الأخوين الجليلين فضيلة الشيخ محمد جواد أنصاريان، وفضيلة الشيخ محمد رضا خراشادي قد بذلا جهدا كبيرا، وعملا مقدرا في سبيل تحقيق هذا الكتاب الجليل، وإخراجه سليما من كل شائبة، ويمكن حصر مهمتهما بالآتي:
1 - جمع النسخ الثلاث المخطوطة، المقارنة فيما بينها، ثم استخراج نسخة منها اعتمد عليها في الطبع.
2 - تقديم دورة أصولية كاملة للقراء الأفاضل من تقرير الإمام الشيرازي من مجموع هذه النسخ، وإتمام الناقص في نسخة الأصل من النسختين الفرعيتين، اللتين أشرنا إليهما.
3 - الاستعانة بأساتذة الاختصاص في الحوزة العلمية لحل بعض العبارات المبهمة أو الممسوحة، وكذلك بالاستعانة ببعض الكتب الأصولية المخطوطة والمطبوعة، مع الإشارة لكل ذلك في الهوامش.
4 - رتبت المباحث حسب ترتيب النسخة الفرعية (نسخة الحائري) لأن نسخة الأصل كانت مضطربة الترتيب بالتقديم والتأخير، وجاء ترتيب نسخة الحائري هكذا:
المجلد الأول يضم:
1 - مبحث الوضع وما يرتبط به.
2 - الحقيقة الشرعية.
3 - المشتق.
4 - الصحيح والأعم.
5 - دلالة الأمر على الوجوب.
المقدمة 78

6 - الفور والتراخي.
7 - المرة والتكرار.
المجلد الثاني - ويضم:
1 - مبحث الأجزاء.
2 - مقدمة الواجب.
3 - اجتماع الأمر والنهي
4 - في دلالة النهي عن الفساد.
5 - المفاهيم.
6 - تداخل الأسباب.
المجلد الثالث - ويضم.
1 - مبحث القطع.
2 - الظن.
3 - البراءة.
4 - الاشتغال
5 - التعادل والتراجيح.
وقد جعل ترتيب المجلدات هكذا، لأن النسخة الفرعية (نسخة الحائري) كاشفة عن أن نسخة الأصل كان ترتيبها هكذا حين استنسخ الحائري نسخته عنها.
5 - ولما كان مبحث الصحيح والأعم ناقصا في نسخة الأصل (الروزدري) وكان هذا النقص في أول المبحث، فقد قدم ما في نسخة اللاري، ثم اتبع بما هو موجود منه في نسخة الأصل.
6 - أما في مبحث البراءة فقد كان الأمر بالعكس حيث تمم المبحث بما ذكره اللاري في نسخته.
المقدمة 79

7 - اسناد المطاليب إلى قائليها، أو إلى المصادر المذكورة فيها، ولأجل التوضيح ذكر في بعض الأحيان نص عبارات الكتب أو القائلين.
ان هذا الجهد الذي بذله المحققان له أهميته الخاصة في إبراز معالم الكتاب سليما ومفيدا، وهو في الوقت نفسه جهد مرهق، خاصة إذا اطلعنا على نسخة الأصل، ونسخة الحائري، ورداءة الخط، وكثرة التشطيب فيهما، وما إلى ذلك من الأمور التي تضر بقيمة المخطوطة، وتقلل من أهميتها، ولكن العمل الرائع الذي أسداه الأخوان المحققان أكمل هذه النواقص وأتحفا المكتبة الأصولية العلمية بفكر جدير بالإثبات، لأنه يعتبر حلقة الوصل بين المدرسة الأصولية القديمة والحديثة.
فلهما كل تقديري واعتزازي، راجيا من الله سبحانه أن يوفقهما وأمثالهما من العاملين في إحياء التراث الإسلامي، انه سميع مجيب.
خامسا - مع مؤسسة آل البيت لإحياء التراث الإسلامي:
هذه المؤسسة الفتية، والتي قامت على سواعد شابة، وأفكار حية، وهمة عالية، حققت الكثير في فترة في حساب الإنشاء والتركيز قصيرة جدا، قد يصعب على الكثيرين ممن لهم طول الباع، وسعة الإمكانات، إنجاز مثل هذا العمل التراثي الرائع، والذي نحن بحاجة شديدة إليه.
حين سمعت بقيام المؤسسة كنت أشك أن تتمكن الإدارة الشابة أن تحقق أهداف مؤسسيها، لأنها واسعة إلى درجة يصعب تصورها، ثم بعد زمان توفقت لزيارتها وشاهدت ما لم يكن بالحسبان، لجانا متعددة، تعمل كل واحدة في جهة، ورأيت استعدادا لدى الإخوة العاملين فيها على اختلاف أعمالهم روح التعاون والإصرار على إنجاح العمل، وتحقيق أهداف المؤسسين لها، وقابلت كل ذلك ومن الجميع باعتزاز وافتخار وإعجاب، ويشهد الله أكبرت العمل وقدرت الجهد، وغمرتني الفرحة كل الفرحة أن الشيء الذي تمنيته منذ زمان في طريقه للتحقيق، وكل مولود ينمو ويكبر حتى يكون في يوم ما عملاقا يباهل به.
ليس هذا العمل التراثي الفكري حكرا على فئة، أو جهة، أو دولة، كلا،
المقدمة 80

فالمعيار القابلية، والاستعداد، والمثابرة، يحقق الإنسان الهادف ما يريد. خاصة وأن هذه المؤسسة ليست تجارية، ولا للاستفادة الشخصية، ولا لعمل يراد منه منصب، إنما هو للعقيدة، للفكر الحر، للعلم، للإنسانية.
وإذا كنا حريصين على إبقاء هذه المؤسسة حية نامية، علينا أن ندعمها ونسندها كل حسب إمكاناته ومساعداته. وقد دلل الإخوة العاملون فيها جميعا على أن ما ظهر لهم من إحياء التراث الفكري الإمامي، قد يربو على المائة مشروع - كما أتصور - وأرجو أن يكون أكثر.
واني على ثقة - وكما أعرف المؤسسين جيدا - أن السواعد التي تبني هذا الصرح الفكري، سوف تخلد، ولن تبلى، وتستحق التكريم والتقدير، فلهم مني كل الإكبار والدعاء إلى العلي القدير أن يوفقهم ويوفقنا لإعلاء كلمة الإسلام، وجعلها هي العليا، وهو ولي التوفيق.
في: 1 رجب 1409 ه‍ - محمد السيد علي بحر العلوم.
المقدمة 81

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
في تقسيمات الألفاظ
في تقسيم اللفظ باعتبار المعنى الموضوع له
أصل قد ينقسم اللفظ - الموضوع باعتبار المعنى الموضوع له - إلى متحد المعنى، ومتكثره.
والمتكثر إلى المشترك، والمبهمات، والمنقول، والمرتجل لأن الموضوع له فيهما متعدد، وإن كان المنقول مهجورا عن المعنى الأول على المختار، لأن النظر في التقسيم على الموضوع له، مع قطع النظر عن بقاء
استعمال اللفظ فيه وعدمه.
وأما الحقيقة والمجاز، فهما صفتان عارضتان للفظ، بملاحظة الاستعمال، لا بملاحظة الموضوع له، ومن جعله من أقسام متكثر المعنى، كصاحب المعالم، فأراد بالمعنى المستعمل فيه.
ويشكل ما صار إليه رحمه الله من حيث انحصار الألفاظ - على ما ذهب إليه - في متكثر المعنى، إذ ما من لفظ متحد الموضوع له إلا ويصح استعماله في معنى مجازا، حتى قيل بذلك - أعني بجواز استعمال كل لفظ في معنى آخر مجازا - في الأعلام الشخصية إلا في لفظ الجلالة، للنهي الشرعي عنه، مع أن الأعلام ليست من اللغات، ولا تنسب إلى لغة دون أخرى على المختار.
ثم المشترك - أي المشترك اللفظي - له تعريفات، أجودها ما في غاية المرام، من أنه هو اللفظ الموضوع لمعنيين ابتداء، والأولى زيادة قيد (تفصيلا) لإخراج
3

المبهمات، فان الموضوع له فيها متكثر، إلا أن اللفظ لم يوضع لكل واحد تفصيلا بل وضع للجزئيات إجمالا، وزاد بعضهم قيد عدم المناسبة، فان أراد عدم وجود المناسبة رأسا، فهو سهو، إذ لا يجب ذلك في المشتركات، بل توجد المناسبة بين كثير من معاني المشتركات، وإن أراد عدم ملاحظتها فهو جيد، إلا أنه لا حاجة إليه لأن قيد (ابتداء) يغني عنه.
وأما المنقول والمرتجل فيشاركانه في التعريف عدا القيد الأخير، أعني قيد ابتداء لأن الوضع فيهما على الترتيب، والتراخي عن الوضع الأول للمعنى الأول، وهما يتفارقان في اعتبار الهجر عن المعنى الأول، بحيث يحتاج إلى نصب قرينة إذا أريد استعمال اللفظ في المعنى الأول، أي المنقول على المختار، دون الثاني، وهو المرتجل وأيضا ملاحظة المناسبة بين المعنى الأول والثاني معتبرة في المنقول دون المرتجل.
ثم إن غرضنا من الترتيب حصول الوضع في المعنى الثاني، في آن مغاير لآن وضع اللفظ للمعنى الأول، بحيث يعد العرف هذين الآنين زمانين متغايرين. ومن الابتداء حصول الوضع لكلا المعنيين في آن واحد عرفا، فإنه لا يمكن حصوله لهما في آن واحد حقيقي، وبعبارة أخرى بحيث يعد العرف آنيهما آنا وزمانا واحدا.
ثم إن جعل المنقول والمرتجل قسمين للمشترك، وللحقيقة والمجاز، بناء على المختار عندنا، وإلا فظاهر الأكثر، وصريح التفتازاني - في شرح الشرح - والقوانين دخول المرتجل في المشترك، وظاهر المعالم دخولهما في المجاز، حيث إنه - رحمه الله - جعلهما، والحقيقة والمجاز مما يختص فيه الوضع بواحد.
والتقسيم الذي ذكرنا لا ينطبق على ما صار إليه صاحب المعالم، إلا بملاحظة المستعمل فيه، كما أشرنا إليه سابقا، وأما على ما صار إليه الأكثر فهو وإن كان منطبقا إلا أنه لا بد من تعميم تعريف المشترك بحيث يشمل المرتجل.
ويمكن انطباق ما ذكرنا من تعريفه عليه على ما صاروا إليه بزيادة قيد (من غير مناسبة) وإسقاط قيد الابتداء، بأن يقال المشترك: هو اللفظ الموضوع لمعنيين تفصيلا من غير مناسبة، فقيد (تفصيلا) لإخراج المبهمات كما عرفت، وقيد (من غير مناسبة) لإخراج المنقول، والمراد بعدم المناسبة عدم ملاحظتها لا عدمها رأسا.
ويمكن انطباق التعريف المذكور عليه من دون زيادة، ونقصان فيه، بأن يراد بالابتداء عدم ملاحظة المناسبة فلا حاجة إلى زيادة لفظ (من غير مناسبة) وهذا أجود.
4

ثم إنه أورد سلطان المحققين على صاحب المعالم - حيث جعل المرتجل والمنقول من أقسام المجاز () - بوجهين:
الأول: إن ذلك خلاف تصريح القوم، بأنهما من المعاني الحقيقية الموضوع لها الألفاظ.
الثاني: إن استعمال المرتجل حينئذ - غير صحيح، لأن الاستعمال الصحيح ناشئ: إما عن الوضع، فالمفروض اختصاصه بالمعنى الأول الموضوع له اللفظ أولا، ولا وضع للفظ في ذلك المعنى المرتجل له بالفرض، حتى يجوز الاستعمال لأجله. وإما عن ملاحظة المناسبة فالمسلم المعروف اعتبار عدمها في المرتجل حتى أن بعضهم اعتبروا عدم وجود المناسبة رأسا، فيكون الاستعمال حينئذ غلطا (1).
ويمكن الجواب عن الوجهين، بأن مراد صاحب المعالم من اختصاص الوضع بواحد، هو الوضع التخصيصي الذي هو فعل الواضع، كما هو الظاهر من الوضع عند الإطلاق لا مطلقا، حتى التخصص، بل استعماله فيه مجاز باعتبار بعض العلائق بينه وبين التخصيصي، فإن الوضع التخصصي إنما هو مجرد العلقة الحاصلة من كثرة الاستعمالات المجازية بغير قرينة متصلة، والظاهر من الوضع هو فعل الواضع الذي يصير سببا للعلقة بين هذا اللفظ وذلك المعنى، فكأن العلاقة في التعييني هي السببية والمسببية، والوضع التخصيصي وإن كان يوجد في بعض أفراد المنقول، إلا أن الغالب فيه هو التخصص، فجمعه - رحمه الله - المنقول والمرتجل والحقيقة والمجاز، في حقيقة واحدة لاشتراكهما معه في اختصاص الوضع التخصيصي بواحد منهما أيضا نظرا إلى الغالب فيهما، لا لعده إياهما مجازا، ولا ريب أن الحقيقة لا تستلزم الوضع التعييني بل ظاهر قوله - رحمه الله - أو صريحه وإن غلب كون المنقول حقيقة، لأن المراد بالغلبة باعترافه - رحمه الله - هو هجر المعنى الأول، ومن الواضح أن هجر الأول يستلزم اختصاص اللفظ بالثاني.
هذا، لكن الإنصاف أن هذا الجواب لا يدفع السؤال عنه - رحمه الله - بالنسبة إلى
(1) حاشية سلطان المحققين منضمة إلى حاشية ملا صالح المازندراني: في مبحث الألفاظ، وانظر المعالم: 26 عند قول المصنف: وان غلب وكان الاستعمال بالمناسبة فهو المنقول: أقول الظاهر من كلامه أنه لا وضع في المعني المنقول إليه والمرتجل إلخ.
5

المرتجل إذا الظاهر أن وضعه لا يكون إلا على سبيل التخصيص، لأن الوضع التخصصي - كما عرفت - حاصل بالاستعمالات المجازية المبنية على ملاحظة المناسبة، وهي متعذرة في المرتجل لأن المعروف من تعريفه أخذ قيد اعتبار عدم المناسبة، أو عدم اعتبارها فيه، وعلى التقديرين يجب أن لا تلاحظ فيه المناسبة مطلقا، حتى ملاحظة علاقة التضاد، فلا يجدي ما يتوهم من جعل عدم المناسبة علاقة للتجوز، فيجب أن يكون وضعه تخصيصا، فاختصاص الوضع بواحد في المرتجل يدل على نفي الوضع بالنسبة إلى المعنى الثاني، لأن الواحد الذي يختص به الوضع، لو كان هو المعنى المرتجل إليه يلزم نفي الوضع من المعنى الأول، وهو خلف، فحينئذ يتجه الوجه الثاني من الإيراد.
هذا، ثم إن جعل المرتجل من أقسام المشترك مبني على عدم اعتبار هجر المعنى الأول في المرتجل لوضوح عدم مساعدة الاصطلاح على صدق المشترك على ما هجر أحد معنييه، وإلا لدخل المنقول أيضا، وهو خلاف ظاهر الأكثر، وإن أدرجه التفتازاني في تعريف الحاجبي للمشترك، وحينئذ فلا يبقى فرق بين المشتركات، حتى يسمى بعضها بالمرتجل دون بعض.
نعم لو قيل باعتبار عدم المناسبة بين المعنيين - في المرتجل صح تقسيم المشترك إلى مرتجل وغيره، وأما إذا قيل بكفاية عدم اعتبار المناسبة فلا.
وكيف كان فإدخاله في المشترك بعيد عن كلمات القوم.
أما أولا: فلأن المرتجل في كثير من الكلمات قسيم للمشترك.
وأما ثانيا: فلأنهم يفرقون بين المنقول والمرتجل باعتبار المناسبة في الأول، دون الثاني، كما اعترف به
المحقق القمي - رحمه الله - حيث جعل أخذ عدم المناسبة في تعريف المرتجل تعسفا.
وقد يقال في الفرق بين المرتجل وسائر أقسام المشترك التي هي المشترك بالمعنى الأخص: إن المرتجل ما كان أحد وضعيه من الواضع، والآخر من العرف، مع بقاء المعنى اللغوي، بأن كان اللفظ في اللغة موضوعا لمعنى، ثم طرأ له في العرف وضع آخر لمعنى آخر ابتداء، من دون ملاحظة مناسبة للمعنى اللغوي، فالمشترك على قسمين:
أحدهما: ما كان جميع أوضاعه من الواضع.
والثاني: ما كان أحد الأوضاع من أهل العرف. فالأول هو المشترك بالمعنى الأخص، والثاني هو المرتجل وهذا ظاهر التفتازاني وهو حسن.
6

ويرد على تعريف المنقول دخول المشترك المشهور في بعض معانيه، لأن غير المشهور يحتاج في إرادته إلى نصب قرينة.
ويدفع أولا: بمنع صلاحية الشهرة لهجر بعض المعاني، إلا على القول بالتوقف في المجاز المشهور، أو الحمل على المعنى المجازي.
وثانيا: بأن المراد بالهجر ما يحوج () إلى نصب القرينة الصارفة، لا مطلق القرينة.
وكيف كان فالمنقول ينقسم إلى تخصيصي وتخصصي، وقد سبق في تقسيم الوضع أن منشأ التخصص هو الاستعمالات المجردة عن القرائن، خلافا لبعض المحققين.
ثم إنه قال في القوانين (): والثاني - أعني التخصص - يثمر مع معلومية تاريخ التخصص. وفيه نظر.
أما أولا: فلأن ثمرة النقل إنما هي حمل اللفظ على المنقول إليه، وهذه تترتب على النقل التخصصي مطلقا، أما مع معلومية التاريخ فواضح.
وأما مع عدمها فلأن أصالة تأخر استعمال المعصوم عليه السلام ذلك عن زمان حصول التخصص تقتضي حمل اللفظ على المعنى الثاني، ولا تعارضها أصالة تأخر التخصص عن زمان الاستعمال، كما هو الوجه في حكمه - رحمه الله - بالإجمال حينئذ على الظاهر، فان التخصص ليس من الأمور الأصلية والحوادث المستقلة في عرض الاستعمال، حتى يكون بنفسه موردا للاستصحاب، فيعارض استصحابه أصالة تأخر الاستعمال، بل هو من الأمور التبعية، ومن قبيل لوازم الماهيات التي جريان الأصل فيها يتبع جريانه في ملزوماتها، والمفروض عدم جريانه في ملزوم التخصص الذي هو الاستعمال، لأن بلوغه إلى درجة النقل مقطوع به.
اللهم إلا أن يقال إن مقطوعية الاستعمال تمنع من جريان الأصل في نفس الاستعمال بالنسبة إلى زمان القطع. لكن نقول إن ملزوم التخصص، وسببه ليس إلا الاستعمال الأخير من سائر الاستعمالات المجازية، الذي بلغ اللفظ عنده إلى درجة التخصص، والاستغناء عن القرينة، وهو مشكوك فيه بالنسبة إلى زمان صدور هذا
7

اللفظ من المعصوم عليه السلام، فيجري فيه أصالة تأخره عن زمان صدور.. هذا اللفظ واستعمال الإمام عليه السلام إياه، فيقع التعارض بينها وبين أصالة تأخر استعمال المعصوم عليه السلام عن زمان حصول التخصص.
وأيضا إن الأصل في اللوازم والأمور التبعية إنما لا يجدي إذا جرى في ملزوماتها، فإذا فرضنا عدم جريانه فيما نحن فيه في الملزوم الذي هو الاستعمال، فيجري في اللازم الذي هو التخصص، فيقع التعارض أيضا لذلك.
هذا، لكنه مدفوع بأن تعارض الأصلين فيما نحن فيه، قد ينتج التوقف بل يقتضي التقارن، لما ثبت - في مبحث تعارض العرف واللغة - من أن الأصل في مجهول التاريخ التقارن، وعليه عمل الأكثر، فإذا ثبت التقارن بالأصل، فهو يقتضي أن يكون آخر استعمال يتحقق به التخصص، هو ورود هذا اللفظ من المعصوم عليه السلام واستعماله له، لأن الاستعمال المقارن لحصول النقل لا يتصور في النقل التخصصي، إلا في المعنى المنقول، فيحمل على المعنى المنقول إليه.
هب أن يكون ذلك الاستعمال مجازا، لعدم تحققه بعد حصول التخصص، لأن الغرض حمل اللفظ على المعنى الثاني، سواء أريد منه مجازا أو حقيقة، وليس هذا الأصل من الأصول المثبتة، لأنها في الأحكام الشرعية، وإثباتها باللوازم العقلية والعادية، والغرض هنا ترتيب الآثار الشرعية عليه فإن كون استعمال المعصوم عليه السلام ذلك - هو الاستعمال الذي يتحقق به التخصص - ليس من الأحكام الشرعية، كيف وجميع الأصول اللفظية كأصالة الحقيقة، وأصالة عدم القرينة وغيرها من الأصول مثبتة لأمر آخر.
وكيف كان فالأصول المثبتة لأمر معتبرة في مقام الألفاظ مطلقا.
والسر فيه أنها معتبرة هنا من باب الظن، وأما الأصول الجارية في إثبات الأحكام، فعدم اعتبار المثبت منها - أيضا - على القول بالتعبد وأما على اعتبارها من باب الظن فهي كالأصول اللفظية.
وأما ثانيا: فلأن ورود الإشكال في النقل التخصيصي - عند الجهل بالتاريخ - أوضح منه في التخصصي، الذي خصه به، إذ مع ثبوت التقارن فيه أيضا لا يثبت استعمال هذا اللفظ في المعنى المنقول إليه، لإمكان اتحاد وضع أحد من العرف ذلك اللفظ للمعنى المنقول إليه، حين استعمال هذا اللفظ في هذا الاستعمال الخاص في
8

المعنى المنقول منه، الذي هو المعنى الأول.
هذا، ويمكن توجيه كلام المحقق المذكور من وجهين:
الأول: أن يقال بتغليط النسخة بأن يكون عبارته رحمه الله التخصيصي مكان التخصصي، ويكون مراده إيراد الإشكال في التخصيصي، فيكون إشكاله في محله.
الثاني: أن يقال: إنه رحمه الله لم يعتن بأصالة التعارض، بل الإشكال كان عنده واردا في كلا القسمين من قسمي المنقول أولا وبالذات، إلا أنه لما كان الغالب والعادة والطريقة على ضبط تاريخ المنقول التخصيصي، فلم يتعرض للإشكال فيه لدفعه لذلك، وتخصيصه الإشكال بالقسم الثاني، الذي هو النقل التخصصي، لعدم الضبط في تاريخه، فيكون التقييد بهذا القسم من باب تحقيق مورد الإشكال فعلا، لا للتحرز عن القسم الآخر، وهذا من قبيل سائر القيود التي يذكرونها لتحقيق موضوع الحكم، ولا يقصدون به الاحتراز عن شيء، مثل قولهم: إن رزقت ولدا فاختنه، وإن قدم زيد من السفر فزره.
وهكذا ينقسم اللفظ باعتبار الاستعمال إلى الحقيقة والمجاز،
والكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة: الأول في تعريفهما، والثاني في بيان أقسامهما إيماء، والثالث في ذكر أحكامهما.
أما المقام الأول،
فقبل الشروع فيه نقول: إن الحقيقة فعيلة من حق يحق حقا إذا ثبت، والتاء فيها ناقلة، إن كانت بمعنى المفعولة، لعدم مراعاة علامة التأنيث في الفعيل، إذا كان بمعناها. وإن كانت بمعنى فاعلة فالظاهر أنها أيضا ناقلة، إذ معنى الحقيقة الآن إنما هو نفس اللفظ المستعمل وجوهره، بحيث سلبت منها جهة الوصفية التي كانت فيها في الأصل.
هذا، مع إمكان أن يكون مراعاة أحكام تأنيثها على أن أصلها بمعنى فاعلة.
وأما المجاز فهو مصدر ميمي من جاز يجوز جوازا، ونقل في الاصطلاح إلى الكلمة الجائزة عن معناها الحقيقي إلى غيره بواسطة أو بواسطتين. أما الأول فواضح، وأما الثاني فبنقله عن معناه المصدري إلى مطلق الجائز من حمل إلى آخر، ثم بنقله منه إلى الكلمة الجائزة. وكيف كان فهذا معناهما في الأصل.
وأما في الاصطلاح فقد عرفوهما بتعاريف:
9

منها: ما عن الحاجبي (1) من أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أول.
ومنها: ما عن جماعة منهم المحقق (2) القمي - رحمة الله عليه - من أنها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب (3).
ومنها: ما عن آخرين منهم الشيخ (4) محمد تقي من أنها هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له من حيث إنه ما وضعت له.
ويعرف تعريف المجاز على كل منها بقرينة المقابلة.
ثم إن في المقام كلمات من هؤلاء الأقوام من النقض والإبرام، إلا أن غرضنا لما كان الاقتصار بما يقضى به المرام فلم نطل الكلام في ذكرها، وتفصيلها، ثم جرحها، وتعديلها.
وكيف كان فلا بأس بكل واحد من تلك التعاريف الثلاثة عندنا، وإن أورد على الأول بإيرادات كثيرة.
لكنها مدفوعة بأسرها: بحمل كلمة (في) في قوله (في وضع أول) على السببية كما لا يخفى على المتأمل في تلك الإيرادات، والشاهد على هذا الاستعمال تتبع استعمالات العرب، ومنه قوله: امرأة دخلت النار في هرة حبستها أي بسببها.. لكن الإنصاف عدم سلامته من السؤال، حيث أن كلمة (في) وإن كانت تستعمل في السببية، لكن الظاهر أن هذا الاستعمال مجاز، لأن الظاهر منها عند الإطلاق هي الظرفية، ولا ريب في عدم جواز الاستعمالات المجازية في الحدود سيما مع عدم القرينة الصارفة للألفاظ المعينة له في المراد، لأن اهتمامهم في الحدود كاهتمام الشرع في البيوع
(1) المختصر لابن الحاجب المخطوط: وإليك نصه: الحقيقة اللفظ المستعمل في وضع أول وهي لغوية وعرفية وشرعية كالأسد، والدابة، والصلاة، والمجاز المستعمل في غير وضع أول على وجه يصح.
(2) قد ورد في القوانين في مقام التعريف: 13، هكذا: اللفظ إن استعمال فيما وضع له من حيث هو كذلك فحقيقة. انتهى. فمن ملاحظة هذا التعريف لا يستفاد الإسناد المذكور بل المستفاد من القوانين بضم ما أفاده في علامة التبادر وعدم صحة السلب اعتبار الأمرين معا أحدهما: اعتبار حيثية الاستعمال فيما وضع له من حيث ما وضع له وهو من تعريف القوانين وثانيهما: اعتبار قيد اصطلاح يقع به التخاطب وهو من بيان العلامتين المذكورتين فراجع.
(3) كما عرفه العلامة بهذا التعريف في مبادئ الوصول إلى علم الأصول وهو منقول عن أبي الحسين البصري.
(4) قد ورد في هداية المسترشدين: 21 هكذا: ولذا اعتبرت الحيثية في حدي كل من الحقيقة والمجاز.
10

وسائر العقود، فكما أن العقود مبنية على المغابنة فيجب منها الإتيان بالألفاظ الصريحة في المقصود، الرافعة للجهالة عما تعلقت به العقود، فكذلك الحدود مبنية على المماكسة في حفظ القيود، الدخيلة في توضيح المحدود، حيث ان كل ذي علم واضعه إنما كان غرضه من التعريف تحديد مسائل هذا العلم، بجامع بينها لفائدة السهولة في التعبير عنها بسبب التعبير عن هذا الجامع، فلا بد من الإتيان بألفاظ صريحة في الكشف عن هذا الجامع بما هو عليه من كونه حاويا لأفراده، ومانعا من غيرها. ولأجل ما ذكرنا من فائدة سهولة التعبير تراهم يعتبرون قلة مباني ألفاظ المعرف بها، وخفتها على اللسان أيضا.
فإن قيل: لا يصح استعمال كلمة (في) في السببية مجازا، بعد فرض كونها حقيقة في الظرفية، لعدم العلاقة الظاهرة بينهما.
قلنا: سلمنا، فتكون مشتركة مستعملة في أحد معنييها بلا قرينة معينة، فيعود المحذور.
وأما التعريف الثاني، فهو وإن كان مساويا للثالث، من حيث وضوح الدلالة، لكنه لما كانت كلماته أخف على اللسان فهو الأولى والأرجح فتأمل.
نعم قد استشكل فيه السيد بحر العلوم - رحمه الله - في شرحه للمبادئ العراقية من وجهين:
أحدهما: أنه يختل التعريف، لصدق كل من تعريفي الحقيقة والمجاز على ما يصدق عليه الآخر، لأنه إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي، ثم استعمل في معناه المجازي يصدق على هذا اللفظ أنه كلمة مستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التخاطب، ويصدق عليه أيضا أنه كلمة مستعملة في خلاف ما وضعت له كذلك. ثم قال اللهم إلا أن يقال: إن نظر القوم في التعريفين إلى الخصوصيات المتشخصة بالأزمان، فيدفع عنهم هذا الإيراد، لأن هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الأمس غير هذا اللفظ باعتبار خصوصية استعماله في الغد.
وكأنه - قدس سره - استظهر - من كلمات القوم - أن نظرهم إلى نوع الألفاظ من حيث الزمان، كما أن نظرهم إلى نوعها - من حيث خصوصيات المستعملين - وأنت ترى ما فيه، من بعد نسبة ما استظهره، بل عدم إمكانها على القوم،
11

إذ لا ريب أن اتصاف اللفظ بوصفي الحقيقة والمجاز إنما هو باعتبار استعمال اللفظ فيما وضع له، أو في غيره، فما لم يتحقق الاستعمال لا يتصف بشيء منهما، ولا ريب أن الاستعمال لا يتحقق إلا في ضمن الخصوصيات، فالمتصف بهذين الوصفين هي، لا الكلي الذي لا يمكن استعماله إلا باستعمالها، بل نسبة الاستعمال إليه - حينئذ - مجاز جدا.
وبعبارة أخرى أحسن: إن نظرهم في التعريفين للحقيقة والمجاز إنما هو إلى الكلمة المستعملة، وهي لا تكون إلا جزئيا من الجزئيات المتشخصة الخارجية، وهي لا يمكن صدق بعضها على بعض فيختل التعريف.
الثاني من وجهي الإشكال أنه يختل التعريف أيضا، وينتقض بما إذا كان اللفظ مشتركا بين معنيين بينهما علاقة، فاستعمل في أحدهما لعلاقة بينه وبين الآخر، لا لكونه أحد معنييه، إذ لا ريب أن ذلك الاستعمال مجاز، مع أنه لا يصدق عليه تعريفه، لأنه لم يستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح يقع به التخاطب، ويصدق عليه تعريف الحقيقة، مع أنه ليس من أفرادها، فلا بد من الإتيان بقيد الحيثية كما في التعريف الثالث، فيندفع الإشكال.
ثم إنه - قدس سره - أورد على نفسه، بأنه ما فائدة هذا الاستعمال والتعويل فيه على العلاقة مع وجود السبب المجوز له، وهو الوضع، فأجاب بأن فائدته حصول الفرق بين كلام هذا المستعمل الملتفت إلى المناسبات والعلائق بين المعاني، وبين كلام العامي المبتذل الذي لا يعرف شيئا من تلك الوجوه. انتهى.
وفيه منع جواز مثل هذا الاستعمال من وجهين:
أحدهما: كونه لغوا إذ بعد ما كان غرض المتكلم إفهام هذا المعنى، هو ينادي بإرادته من اللفظ بإطلاقه مع القرينة المعينة، فلا حاجة إلى العدول عنه إلى ما ذكره، فالفائدة التي ذكرها من حصول الفرق، ففيها: أن استعمال اللفظ فيما يمكن فيه للعلاقة بين المعنيين، وداعيها مما لا يمكن اطلاع المخاطب عليه حين الخطاب، بل الذي يفهمه حينئذ إنما هو إرادة هذا المعنى، فإن أراد المتكلم إفهامه أيضا أني قصدت بالكلام إفهام هذا المعنى بملاحظة المناسبة لحصول الفرق المذكور، فهو من أقبح الأمور التي لا يرتكبها إلا السفهاء، بل إلا المجانين.
وثانيهما: إن الاستعمال المجازي لا بد أن يترتب عليه ما ذكروا له من
12

البديعية، التي منها انتقال السامع من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، فإنه إذا قيل رأيت أسدا يرمي، فعند إطلاق الأسد ينتقل السامع إلى الحيوان المفترس، فإذا ذكر لفظ يرمى ينتقل إلى الرجل الشجاع، ولا ريب أن هذه الفائدة ممتنعة الوجود فيما فرضه - قدس سره - إذ لا شبهة أن اللفظ المشترك إذا أطلق بلا قرينة فهو
مجمل، لا ينتقل السامع منه إلى معنى، فإذا اقترن بالقرينة المعينة فيظهر للسامع أن المراد منه ذلك المعنى، لا أنه ينتقل من شيئين إلى هذا المعنى، ويدل على ما ذكرنا أيضا أنهم اعتبروا في المجاز اقترانه بالقرينة الصارفة، ولا ريب أنه لا يمكن الإتيان بها فيما نحن فيه، إذ لا يتحقق وصف الصارفية إلا بعد ظهور اللفظ في معناه الحقيقي.
المقام الثاني في أقسامهما،
فنقول: إنهما ينقسمان بملاحظة الواضع إلى الحقيقة اللغوية، والمجاز كذلك، وإلى العرفية كذلك، عاما، وخاصا، وبملاحظة كثرة استعمال اللفظ في الموضوع له، أو في غيره إلى الراجحين، أو المرجوحين، وهكذا إلى سائر التقسيمات الملحوظة على حسب الاعتبارات التي ليس التعرض لذكرها بمهم.
وإنما المهم التعرض لحال الكناية، وتحقيق أنها من أقسام الحقيقة، والمجاز، أو واسطة.
ويقع الكلام هنا في مقامات ثلاثة:
الأول في تعريفها،
إنها على القول بكونها من أقسام الحقيقة، فهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في وضع أول، أو في اصطلاح يقع به التخاطب، أو من حيث إنه ما وضعت له - على اختلاف التعاريف للحقيقة - للانتقال منه إلى لازمه، وعلى القول بكونها من أقسام المجاز فهي مندرجة في تعريف المجاز، حسب ما عرفوه على اختلاف تعاريفه قبال تعاريف الحقيقة.
وأما على القول بكونها واسطة، كما يظهر من متن المطول، فهي على ما عرفه الماتن: هي اللفظ المراد منه معناه وغير معناه معا، فإنه قال: اللفظ إن أريد منه معناه وحده فهو الحقيقة، وإن أريد منه غير معناه وحده فهو المجاز، وإن أريد منه معناه وغير معناه فهو الكناية.
ثم إن خير الأقوال أوسطها، لما سيظهر لك من ضعف طرفيها، فنقول: إنه يرد على الماتن المذكور وجوه:
الأول ما ترى فيه بين تعريفه للكناية وبين تقسيمه إياها إلى قسمين:
13

أحدهما ما عرفها به، والآخر الكلمة المستعملة في اللازم وحده، فإن تعريفه إنما هو للقسم الأول، وهو الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معا، ولم يكن له شمول بالنسبة إلى القسم الآخر الذي زاده في التقسيم.
الثاني: عدم بقاء الفرق حينئذ بين المجاز والكناية إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده لصدق تعريفهما عليه حينئذ.
فإن قيل: إن الفرق بينهما ما قالوا بأن المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للمعنى الحقيقي بخلاف الكناية.
قلنا أولا: إن هذا الفرق لفظي جئنا بفرق معنوي.
وثانيا: إنا نمنع هذا الفرق أيضا، لأنه لا يعقل استعمال الكناية أيضا بلا قرينة بكلا قسميها، إذ لا ريب أن اللفظ بوضعه لا يدل على اللازم، ولا ينصرف إليه بوجه، بل يفهم منه مجردا عن القرينة الملزوم وحده، ولا يصرف ذهن السامع إلى اللازم بوجه، فإنه لو لا القرينة لفهم من قوله: (زيد كثير الرماد) معناه الحقيقي، فيحتمل كونه حماميا، أو طباخا، أو غير ذلك من أرباب الحرف التي يحصل منها الرماد كثيرا، وكذلك يفهم من قوله: (زيد جبان الكلب) معناه الحقيقي لا غير.
وكيف كان، فالانصراف من اللفظ إلى لازم معناه لا يمكن إلا بالقرينة.
ثم إذا ثبت الاحتياج إلى القرينة، فنقول: إنها إما ملائمة للمعنى الحقيقي، أو معاندة له، ومانعة من إرادته من اللفظ، فإن كانت ملائمة لا يجوز كونها صارفة لذهن المخاطب إلى غير الموضوع له، مع أن الوضع يقتضي ظهور اللفظ في إرادة الموضوع له، ولا يعقل ذلك، فإذن وجب كونها معاندة لإرادة الحقيقة، فلا نعني بالقرينة المعاندة إلا هذه، ولا بالمجاز إلا ما كان ملزوما لها، فانتفى الفرق.
ومن هنا ظهر ضعف القول الأول أيضا، إذ لا يعقل الانتقال إلا باستعمال اللفظ في اللازم مع القرينة المعاندة، فيكون اللفظ مجازا.
الثالث: منافاة ما ذكره في تعريف الكناية - من أنها الكلمة المستعملة في الموضوع له ولازمه معا - لما أجمع العلماء ظاهرا عليه، من عدم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، حقيقة كان الزائد، أو مجازا، والمخالف في المسألة ضعيف جدا. بحيث يقطع بالاتفاق.
أقول يمكن دفع المنافاة بأن محل النزاع هناك في جواز استعمال اللفظ في
14

المعنيين، أو في المعنى الحقيقي والمجازي، بحيث كان كل منهما موردا للحكم ومتعلقا للإثبات والنفي، ولا ريب أن النظر في باب الكناية إلى إثبات الحكم للازم، وهو المقصود به، ولو فرض استعمال اللفظ في المعنى ولازمه معا من باب الكناية، فهو خارج عن المتنازع فيه هناك، إذ المقصود في باب الكناية إثبات الحكم أو نفيه بالنسبة إلى اللازم وحده. فافهم.
المقام الثاني - في أن الكناية هل يعامل معها معاملة الحقيقة، أو معاملة المجاز من حيث اقترانها بالقرينة الصارفة وعدمه،
ونحن بعد ما بينا آنفا في الإشكال على القول الثالث، من وجوب الإتيان بالقرينة المعاندة، فلا بد من الالتزام بالاحتمال الثاني لا غير.
المقام الثالث - في تعارض احتمال الكناية لاحتمال غيرها من الحقيقة والمجاز.
فنقول: إذا وقع التعارض بين احتمالها مع احتمال الحقيقة، فالراجح هو إرادة الحقيقة، أما على القول الثاني فواضح، وعلى القول الأول فلأن الكناية لا بد فيها من ملاحظة خصوصية زائدة على ما يلاحظ في الحقيقة، فالأصل عدمها فيتعين الحقيقة.
وأما إذا وقع التعارض بين احتمالها واحتمال المجاز، فعلى القول الأول يرجح احتمالها على المجاز، وهكذا على القول الثالث، بناء على ما قيل من الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه دونها، إذ المجاز حينئذ خصوصية زائدة نشك في حصولها، فالأصل عدمها فيتعين الكناية.
وأما على ما اخترنا من القول الثالث، فسنفصل الكلام فيه في باب تعارض الأحوال إن شاء الله، وإن لم يذكره أحد هناك.
ثم إن القول بكون الكناية من أقسام المجاز لا نعرف له قائلا، وإنما ألجأنا إلى اختياره للإشكالات الواردة على غيره.
ويزيد الإشكال الوارد على الماتن إشكال آخر، وهو أن الحصر - في الحقيقة والمجاز - عقلي لا يمكن فيه الواسطة، وإنما هو فيما إذا كان الحصر حاصلا من الاستقراء، إذ لا ريب أن الحقيقة والمجاز قد عرف كل منهما بنقيض الآخر، فلا يمكن فيهما الواسطة، فينحصر المقسم فيهما عقلا، فلا بد من دخول الكناية في أحدهما.
هذا، ولكن الإنصاف عدم ورود شيء من الإشكالات على هذا القائل، أعني
15

ماتن المطول، إذ الظاهر أن غرضه ليس إثبات الواسطة بين الحقيقة والمجاز.
وتوضيح ذلك أن اللفظ قد يلاحظ فيه قصد المعنى منه عند إطلاقه، بمعنى إخطار ذلك المعنى بالبال عند إيجاده، فهو من هذه الحيثية منحصر في الحقيقة والمجاز عقلا، ولا يمكن الواسطة بينهما لأن ما يخطر بالبال عند إيجاده إما معناه الموضوع له، أو غيره، فعل الأول حقيقة، وعلى الثاني مجاز، سواء كان ذلك الغير، المعنى المباين للموضوع له، أو المركب منهما، فحينئذ لو كان مراد الماتن من قوله: اللفظ إن أريد منه معناه وحده إلخ، هذا المعنى، فيرد عليه الإشكالات المتقدمة، مضافا إلى أن قصد المعنى الموضوع له مع غيره من اللفظ من حيث المجموع بهذا المعنى مجاز اتفاقا أو على سبيل الاستقلال، فلا يجوز جدا، لما عرفت من عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى. وقد يلاحظ باعتبار الإرادة بمعنى الغرض المطوي في نظر المتكلم الداعي له لإيجاد الكلام، فهو بهذا الاعتبار لا ينحصر في القسمين، فإنه لا يكون حينئذ أحدهما نقيض الآخر حتى لا يتعقل لهما الواسطة فإن غرضه، إما إفادة المعنى الموضوع له مع غيره وحده، بمعنى كون ذلك الغير مقصودا من اللفظ بالمعنى المذكور وتعلق غرضه بإفادته وحده أيضا، وإما إفادة المعنى الموضوع له مع غيره بأن يكون المعنى الموضوع له مقصودا من اللفظ بالمعنى المذكور، لكن الغرض لم يتعلق بإفادته وحده، بل بإفادته وإفادة غيره معا، وإما إفادة غير الموضوع له وحده بمعنى أن يقصد من اللفظ المعنى الموضوع له، لكن الغرض تعلق بإفادة غيره وحده، وإما إفادة غير الموضوع له، بأن استعمل اللفظ، وقصد منه غير الموضوع له، وتعلق الغرض بإفادة غير ذلك الغير المناسب له، إما وحده أو معا، وهذا الأخير بناء على جواز كون الكناية من المجاز.
وكيف كان، فعلى الأول: اللفظ حقيقة بالمعنى الأخص، يعني قبال الكناية، وكذلك مجاز على الثاني.
وعلى الثالث: فهو، وإن كان حقيقة بالمعنى الأعم، لكنه بالاعتبار الثاني ليس حقيقة، ولا مجازا على الاعتبارين، بل كناية.
وكذلك الرابع () وعلى الخامس بكلا قسميه مجاز بالمعنى الأعم، وكناية بالمعنى الأخص الذي لوحظ بالاعتبار الثاني، لكن إطلاق الكناية على ما إذا تعلق الغرض بغير المقصود من اللفظ حقيقة أو مجازا فيما إذا وقع اللفظ في سياق الاخبار، وكان ذلك الغير
16

من لوازم المخبر به، لا الخبر فإن اللفظ إذا أريد منه غير المقصود منه، بمعنى تعلق غرض المتكلم بغيره، فذلك اللفظ: إما في مقام الإنشاء، أو في مقام الإخبار، فعلى الأول يسمى إكراها، وعلى الثاني إما أن يكون ذلك الغير من لوازم الخبر، فيسمى تورية أو من لوازم المخبر به فيسمى كناية.
ثم إنا إن قلنا بجواز الكناية من المجاز أيضا، فتكون نسبة الكناية مع كل من الحقيقة والمجاز بالاعتبار الأول عموما من وجه.
وان قلنا بعدمه واختصاصها بالحقيقة فيكون نسبتها معها العموم المطلق لأنه كلما صدقت عليه الكناية تصدق عليه الحقيقة بالمعنى الأعم ولا عكس كليا.
وكيف كان فالحقيقة والمجاز بهذا الاعتبار قد عرفت ما بينهما من الواسطة، فحينئذ قول الماتن: إن اللفظ إن أريد منه معناه وحده إلخ، ناظر إلى هذا الاعتبار فإنه أراد بالإرادة الغرض، كما ذكرنا، ولا ينبغي الاستيحاش في استعمال الإرادة في هذا المعنى لاستعماله فيه في كلام الفقهاء - رضوان الله عليهم - في بيع المكره حيث إنهم حكموا بصحة بيعه إذا لحقه الإجازة بعد الإكراه، مع تصريحهم بأن المكره لم يرد من العقد التمليك، فإنها لو لم تحمل على ما ذكرنا لا وجه لصحة بيعه حينئذ أصلا، إذ الإجازة بنفسها ليست ناقلة، بل هي شرط الصحة، فلو كان المكره لم يقصد شيئا أصلا من اللفظ لم يترتب على الإجازة شيء، فيكون غرضهم أنه قصد مدلول اللفظ، لكنه لم يرد ترتب أثره عليه، ولم يكن غرضه الرضا بذلك.
وكيف كان، فإذا عرفت ذلك كله تقدر على دفع الإشكالات الواردة عليه.
ولا بأس بالتعرض لدفع كل منها مفصلا.
فنقول: أما الجواب عن الإشكال الأول، فبأن تعريفه للكناية بما ذكره في المتن، إنما هو نظرا إلى الغالب منها، فلا منافاة بينه وبين تقسيمهم إياها إلى القسمين، على أن القسم الثاني منها وهو اللفظ المراد به لازم المعنى وحده قد أنكره بعضهم.
وأما الجواب عن الإشكال في الفرق المذكور، فبأنه لا وجه لمنع الفرق، فإن الكناية وإن كانت لا بد فيها من القرينة أيضا، كما في المجاز، إلا أنه فرق بين القرينتين، بأن قرينة المجاز معاندة لقصد المعنى الموضوع له، بالمعنى الذي ذكرنا، بخلاف قرينة الكناية، فإنها ليس معاندة لذلك بوجه، بل هي معاندة لتعلق الغرض بغير اللازم، وهو المعنى الموضوع له في الصورة المفروضة.
17

وأما في الصورة الأولى، وهي ما إذا أريد من اللفظ معناه وغير معناه، بمعنى تعلق الغرض بإفادة كليهما، فلا معاندة لها لتعلق الغرض بالمعنى الموضوع له أصلا، بل فائدتها حينئذ إفادة أن الغرض تعلق بإفادة غير المعنى أيضا.
وكيف كان فقرينة الكناية يؤتى بها بحسب الأغراض المطوية في نفس المتكلم، وبمقدار رفع الحاجة من إفادة هذه الأغراض، وقرينة المجاز يؤتى بها بحسب عدم قصد المعنى الموضوع له بالمعنى الذي ذكرنا.
ومن هنا ظهر ما في كلام سلطان المحققين في الفرق بينهما بأن قرينة المجاز، هي التي تعاند إرادة المعنى الموضوع له على وجه الإطلاق، وقرينة الكناية إنما هي تعاند إرادته وحده.
وأما الجواب عن الإشكال الثاني، فبأنه إذا استعمل اللفظ في اللازم وحده بمعنى أنه قصد منه ذلك كذلك، فلا تصدق عليه الكناية، لما عرفت من اعتبار التغاير بين المستعمل فيه اللفظ وبين الغرض.
وأما الجواب عن الإشكال الثالث فبما عرفت، من أن غرضه من الإرادة هو تعلق الغرض، ولا ريب أن تعلق الغرض بالمعنى وبغيره غير استعماله فيهما. هذا، مع أنك علمت أن المستعمل فيه في تلك الصورة هو المعنى الموضوع له لا غير.
وأما الجواب عن الإشكال الرابع الذي زدناه أخيرا، فبأن تقسيم اللفظ بهذا الاعتبار ليس دائرا بين النفي والإثبات بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز كما عرفت.
هذا، ثم إنه قد يستشكل في أنه إذا كان الغرض إفادة اللازم، فلم لا يستعمل اللفظ فيه ويقصد منه؟ فما فائدة قصد المعنى الموضوع له اللفظ منه، مع أن الغرض إفادة غيره؟ لكنه يندفع لما سيجيء في محله - إن شاء الله - من أنه شبهة في مقابل البديهة.
المقام الثالث من المقامات المرسومة للحقيقة والمجاز في أحكامهما.
ويقع الكلام هنا في جهتين:
إحداهما: نظير الشبهة الحكمية لرجوعها إلى الشك في فعل الواضع.
والأخرى: نظير الشبهة الموضوعية لرجوعها إلى الشك في مراد المتكلم بعد إحراز الجهة الأولى.
فلنقدم الكلام في الجهة الأولى،
فنقول: إنه إذا شك في وضع لفظ لمعنى فطريق معرفته أمور:
18

منها: ما يفيد القطع كتنصيص الواضع، والنقل المتواتر، أو نقل الواحد المحفوف بقرائن قطعية.
ومنها: ما يفيد الظن كنقل الآحاد الغير المحفوف بالقرائن، والعلائم المعروفة التي سيجيء، تفصيلها من التبادر، وعدم صحة السلب، وغيرهما من العلائم.
أما الطائفة الأولى فالنزاع فيها صغروي، إذ بعد إحراز صغرياتها لا يعقل المنع من العمل بها.
وأما الطائفة الأخرى
فالنزاع فيها كبروي راجع إلى حجيتها وعدمها بعد إحرازها، ولما كان بيان حال الصغريات في الطائفة الأولى موكولا إلى ملاحظة الخصوصيات اللاحقة للموارد الشخصية، ولم تكن لمعرفتها ضابطة كلية يرجع إليها، لاختلافها باختلاف الموارد والأشخاص، إذ ربما يطلع أحد على التواتر، أو تنصيص الواضع، أو القرائن القطعية، ولم يطلع عليها غيره، فلم يكن للتعرض لها مجال فيما نحن فيه من المقام المعد لبيان كلية يعول عليها في الموارد الشخصية، ولذلك فلنعرض عنها فنوجه الكلام ونسوقه إلى الطائفة الثانية.
ولنقدم الكلام في القسم الأول منها، وهو نقل الآحاد،
وقبل الشروع في الاستدلال، وذكر الأقوال لا بد من تحرير محل النزاع.
فنقول: إن اللفظ الذي ينقل وضعه الآحاد، إما من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية كألفاظ الكتاب والسنة، وإما من موضوعات الأمور الخارجية المتضمنة للأحكام الشرعية الجزئية، كالألفاظ الواردة في مقام الأقارير والدعاوي وأمثالهما، كما إذا أقر أحد لآخر بشيء، ولم نعلم مراده من جهة الاشتباه والشك في وضع اللفظ الدال على المقر به، كأن أقر بأن لزيد عندي دينارا مثلا، ثم عبر عنه بمقدار من الدرهم لا ندري أن الدينار موضوع لهذا المقدار، أو لأزيد منه، فترجمه أحد بمقدار ناقلا أن الدينار موضوع في لغة العرب لكذا.
وعلى التقديرين، الناقل للوضع، إما أن يكون جامعا لشرائط حجية الخبر، المقررة في بحث خبر الواحد، أو لا يكون فيكون الصور أربعا.
إحداها وهي - ما إذا كان الناقل جامعا لشرائط الحجية وكان اللفظ الذي ينقل وضعه من موضوعات الأحكام الشرعية الكلية - خارجة عن محل النزاع فيما نحن فيه هنا، لأن البحث عن خبر الواحد يغني عن البحث فيها بخصوصها هنا، لأن أدلة حجية
19

خبر الواحد الدالة على قبول قول العادل مثلا، وترتيب الأحكام الشرعية عليه، لا تفرق بين الأحكام المترتبة على قوله مطابقة، أو التزاما والبواقي داخلة فيه، وأيضا النزاع فيها فيما إذا كان الناقل ناقلا عن حسه، لا عن حدسه ورأيه، إذ لا عبرة برأيه إجماعا، فلذا قدحوا في نقل أبي عبيدة حيث إنه كان ينقل بعض الأوضاع عن رأيه، مع أنه من الأجلاء، وأهل الخبرة وكان خبيرا غاية الخبرة.
فإذا عرفت محل النزاع، فالمشهور حجية الظن بالوضع الحاصل من خبر الواحد في الجملة، قبالا لما ادعى بعض من السلب الكلي وللأول وجوه:
الأول الإجماع محصلا قولا، وفعلا.
وطريق تحصيل الأول الرجوع إلى أقوال العلماء، وإلى الإجماعات المنقولة من أصحابنا، ومن المخالفين أيضا، بحيث يحصل بملاحظة كثرتها القطع باتفاق كلمة جميع العلماء على حجية قول الناقل للغة، ولو كان واحدا لا يحصل من خبره القطع.
فمن الناقلين للإجماع من أصحابنا السيد المرتضى قدس سره على ما حكي عنه في بعض كلماته، بل ظاهر كلامه المحكي اتفاق جميع المسلمين، ومنهم الفاضل السبزواري، ومنهم السيد البغدادي (1) رحمه الله في المحصول، ومنهم العلامة () قدس سره في النهاية، ومنهم المدقق الشيرواني ()، ومن المخالفين الذي ببالنا الآن العضدي، قال: إنا نقطع أن العلماء في الأعصار، والأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد، كنقلهم عن الأصمعي، والخليل، وأبي عبيدة.
وطريق تحصيل الثاني التتبع في أحوال السالفين إلى زماننا هذا، فإن المتتبع يراهم عاملين وآخذين بخبر الواحد الغير المفيد للعلم من دون نكير من أحدهم على الآخر، حتى أنه لو اتفق التشاجر، والجدال في لفظ، وأخذ أحد المتخاصمين بكلام
(1) المحصول في علم الأصول مخطوط: 11 - 12.
وإليك نصه: ومنها: نقل الأئمة الثقات الضابطين المعتمدين كابن الأثير، والجوهري، والأزهري، وصاحب القاموس، والفيومي، وأضراب هؤلاء من المتقدمين والمتأخرين، وان كان آحادا لغلبة الظن واطمئنان النفس بعدم رد المتأخر، فإن الناس رقباء بعضهم على بعض وخاصة ما اتفق عليه اثنان منهم أو جماعة، بل ربما أفاد القطع، كيف لا وما كان ليحكم أحدهم إلا بما تواتر لديه، أو تكثر النقل عليه. إلى أن قال: ولذلك استمرت طرائق العلماء الديانين على الأخذ منهم والاعتماد عليهم.
20

لغوي لارتفع النزاع، ولا يدعي صاحبه أنه من الآحاد ولا يجوز عليه الاعتماد.
الثاني: من الوجوه تقرير المعصوم عليه السلام تدوين كتب اللغة المدونة في عصره، مع أن أكثر اللغات المدونة فيها بل جلها - إن لم نقل كلها - كانت منقولة بنقل الآحاد، فإن أول تدوينها كان في ذلك الزمان.
الثالث: قياس ما نحن فيه بخبر الواحد في الأحكام الشرعية لاشتراكهما في مناط الحجية.
الرابع: أولوية حجية خبر الواحد فيما نحن فيه منها في الأحكام الشرعية، إذ الاهتمام فيها أكثر منه عند الشارع فيما نحن فيه. هذا الوجه ذكره الشيخ محمد تقي قدس سره.
الخامس: إن خبر الواحد في الأحكام الشرعية التي هي الأصل حجة، فلو لم تكن حجة فيما نحن فيه لزم مزية الفرع على الأصل.
هذا، وفي كل واحد من تلك الوجوه نظر.
أما الإجماع القولي فلأن طريق تحصيله ليس بحيث نقطع منه باتفاق جميع العلماء، فان العلماء القائلين بحجية الخبر فيما نحن فيه، فهم أولا: ليسوا بحد يحصل من كثرتهم القطع بذلك، فإنهم طائفة من الأصوليين الذين هم أمثالنا، وذهبوا إلى ذلك من باب اجتهادهم.
وثانيا: إن الذي يفيد الفائدة فيما نحن فيه، إنما هو اتفاق قول الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
وأما الإجماعات المنقولة فنقول:
أولا: إنه لم يتحقق لنا أن معاقد إجماعاتهم خبر الواحد، ولو لم يفد العلم.
وفيه نظر لتصريح بعض الناقلين بالظن في كلامه.
وثانيا: إن هؤلاء الناقلين للإجماع هم طائفة من الأصوليين، وقد عرفت ما فيه، مع أنهم ليسوا بحد في الكثرة بحيث نقطع بأن الصحابة والتابعين أيضا كانوا متفقين مع جميع علماء الأمة، حتى يكشف عن رضا المعصوم عليه السلام.
وأما الإجماع فعلى تسليمه جهته مجملة، إذ لم نعلم من حال المجمعين أن عملهم كان لقيام الدليل عندهم على حجية الخبر، أو كان من جهة اللابدية وانسداد باب العلم.
21

وهكذا الجواب عن التقرير لعدم العلم بجهته.
وأما الوجه الثالث والرابع، فالجواب عن أولهما بعد منع كليهما من جهة بطلان القياس، بإبداء الفارق بين خبر الواحد - فيما نحن فيه - الذي هو محل النزاع وبينه في الأحكام الشرعية، إذ الذي ثبت حجيته فيها إنما هو خبر الواحد الجامع لشرائط الحجية، مع كون متعلق خبره الحكم الشرعي الكلي، والذي فيما نحن فيه فاقد لأحد القيدين لا محالة، فإنه إما فاقد لشرائط الحجية، أو القيد الثاني.
وعن الثاني منهما بأن هذه أولوية ظنية، لا يعتمد عليها، سيما في المسألة الأصولية.
وأما الوجه الخامس: ففيه: ان الأحكام الشرعية ليست أصلا بالنسبة إلى اللغات التي هي من المبادئ، بل الأمر بالعكس، فإن الأصل ما يبتني عليه شيء، وهذا المعنى موجود فيما نحن فيه بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، ويكون الأحكام الشرعية فروعا لما نحن فيه لكونها من نتائجه، ولا ريب أن النتيجة فرع المقدمات.
وإن كان مراده من كون الأحكام الشرعية أنها أهم وأشرف عند الشارع، فهو مع أنه خلاف وضعه، واصطلاح جديد في الأصل، يرجع إلى الوجه الرابع، وقد عرفت ما فيه، وهذا الوجه لعله من صاحب المناهل (قدس سره). هذه أدلة المثبتين.
وأما أدلة النافين الذين نحن منهم تبعا للشيخ الأستاذ (قدس سره)، الأصل أعني أصالة حرمة العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل، ثم إن هذا كله بناء على حجية خبر الواحد فيما نحن فيه بالخصوص، مع قطع النظر عن مقدمة الانسداد، وإلا فبملاحظتها على فرض جريانها فالظاهر، بل الحق حجيته.
ثم إن دليل الانسداد، كما يتصور جريانه في نفس الأحكام الشرعية، كذلك يتصور في الأدلة، والطرق الشرعية، وكذلك في الموضوعات الصرفة، وهكذا في الأمور المستقبلة كالظن بالسلامة، وبقاء المكلف على شرائط التكليف في الآن اللاحق، فإنه مما انسد فيه باب العلم، فيجري فيه دليل الانسداد، فيجب على المكلف البناء على إتيان المأمور به في أول وقته، مع الظن بسلامته، وبقائه على شرائط التكليف إلى آخر الوقت كما في الحائض، حيث إنها مع احتمالها لكونها حائض في الغد يجب
22

الإمساك من الليل، وكذا يجري في الموضوعات المستنبطة المعبر (1) عنها باللغات.
ثم إنه إن ثبت حجية الظن من باب الكشف، بمعنى أنه انكشف بحكم العقل بملاحظة دليل الانسداد، أن الشارع جعل الظن حجة في الجملة، يصير ذلك كالقضية المهملة لا بد من الأخذ بالمتيقن.
وإن ثبت ذلك بطريق الحكومة، بمعنى أنه حكم العقل بجواز العمل بالظن وقبح العقاب على مخالفة الواقع، فيعم الحجية لكل ظن لم يقم دليل على عدم اعتباره بالخصوص كالظن القياسي.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن تقرير جريان دليل الانسداد على وجوه ثلاثة:
أحدها: ما قرره المحقق القمي (2) رحمه الله، من إجرائه في نفس الأحكام الشرعية، وهو مركب من مقدمات ثلاث:
إحداها: العلم الإجمالي بثبوت تكاليف لا نعلمها بعينها.
وثانيتها: انسداد باب العلم بها.
وثالثتها: بطلان الرجوع إلى البراءة، لاستلزامه الخروج عن الدين. وعدم وجوب الاحتياط، لعدم مساعدة دليله فيما نحن فيه. فتلك المقدمات الثلاث تنتج حجية كل طريق يفيد الظن بتلك الأحكام، ومن الطرق خبر الواحد عن أوضاع ألفاظ الكتاب والسنة، فإنه مستلزم للظن بالأحكام، فيكون حجة.
وثانيها: ما قرره بعض من إجرائه في الطرق الشرعية فهو مركب من مقدمات أربع:
إحداها: العلم الإجمالي بتعبد الشارع إيانا بطرق لا نعلمها بعينها.
والثانية: شدة الاحتياج إليها.
والثالثة: انسداد باب العلم بها.
والرابعة: عدم مساعدة أدلة الأصول العملية على وجوب العمل بمقتضاها حينئذ، فلا يجب الاحتياط، فيثبت أن الظن حجة في تشخيص الأمارات، فيقال إن خبر الواحد في اللغات مظنون الاعتبار والحجية فيكون حجة.
(1) فإن الموضوع المستنبط لا يختص إطلاقه على ما استفيد من ألفاظ الكتاب والسنة كما توهم بل يعم كل اللغات منه طاب ثراه.
(2) القوانين: 55، عند قوله: فنقول: إن من اليقينيات أنا مكلفون بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله إلخ.
23

وثالثها: ما قرره الشيخ محمد تقي (1) من إجرائه في خصوص اللغات. وهو مركب من مقدمتين:
إحداهما: الانسداد الغالبي في معرفة اللغات بمعنى انسداد باب العلم في غالبها.
والأخرى: شدة الاحتياج إليها، فإن الانسداد بمجرده لا يكفي في إثبات اعتبار الظن بها، بل لا بد من ضميمة الاحتياج البالغ حد الشدة لا الاحتياج أحيانا أيضا، فإنه بدون وصوله حد الشدة لا يقتضي ذلك.
هذا، وفي كل من وجوه التقرير نظر:
أما الأول: فلأن الانسداد في نفس الأحكام لا يقتضي كون الظن طريقا وحجة في معرفة اللغات، بل مقتضاه اعتباره في نفس الأحكام، والظن الحاصل من خبر الواحد عن وضع اللفظ بالحكم الشرعي معتبر، من جهة أنه ظن بالحكم الشرعي، لا من حيث أنه في اللغة.
وأما الثاني: فإن أريد به إجراؤه في الطرق الشرعية إلى الأحكام الشرعية، فما نحن فيه خارج عنه، فإن خبر الواحد فيما نحن فيه - على فرض اعتباره - طريق إلى معرفة اللغات، وهي ليست من الأحكام الشرعية في شيء، وإن أريد به إجراؤه في الطرق الشرعية إلى معرفة اللغات:
ففيه أولا: منع المقدمة الأولى إذ لا علم لنا، بل ولا ظن بأن الشارع جعل طرقا إلى معرفة اللغات.
وثانيا: على فرض تسليمها لا بد من قيام الأمارة الظنية على حجية خبر الواحد في اللغات، فإن نتيجة الدليل حجية الظن في تشخيص الأمارات المعتبرة من الشارع في معرفة اللغات التي نعلمها إجمالا، فكلما قامت الأمارة الظنية على أن هذا الشيء من تلك الأمارات المعلومة إجمالا يكون ذلك الظن حجة، فيثبت حجية هذا الشيء الذي قامت الأمارة الظنية على تشخيصه، وتعيين أنه من تلك الأمارات المعلومة بالإجمال.
ولا ريب أنه لم تقم أمارة على حجية خبر الواحد مطلقا في اللغات، فلا يثبت حجية خبر الواحد مطلقا في اللغات. نعم الموجودة منها إنما قامت على خصوص قول اللغوي، أو
(1) في هداية المسترشدين: 41، فإنه قال: ثم ان لمعرفة كل من الحقيقة والمجاز طرقا عديدة إلى ان قال: ثانيها النقل المتواتر وما بمنزلته من التسامع والتضافر أو الآحاد وحجية الأول ظاهرة الا أنه قد يناقش في وجوده ويدفعه بملاحظة الوجدان ويدل على حجية الثاني عموم البلوى باستعلام اللغات وعدم حصول الغناء عنها مع انسداد طريق القطع في كثير منها فلا مناص من الأخذ بالظن فيها.
24

أصل الخبر، وهي الإجماعات المنقولة كما مرت آنفا. فذلك التقرير على تسليم المقدمة الأولى يفيد حجية قول أهل الخبرة.
وأما الثالث، فلمنع المقدمة الأولى، فإن الاشتباه والشك إما في معاني الهيئات، فلا ريب أن العلوم العربية كافلة لها بما لا مزيد عليه، بحيث يحصل القطع منها بالمعنى الهيئي، لأن جل مسائلها متفق عليها بين أهلها، ولو فرض الخلاف والتعارض في بعضها فهو نادر جدا، لا يوجب المصير إلى الظن المطلق.
وإما في معاني المواد، فلا ريب أنهم ضبطوها، ودونوا الكتب لبيانها بحيث يحصل لنا القطع من قول لغوي واحد بلا معارض، فكيف بما انضم إليه غيره لعدم احتمال الداعي لهم إلى تعمد الكذب، فإن أكثرهم وإن كانوا فاسقين، إلا أن الفسق لا يكون داعيا إلى الكذب، ولا مقتضيا له، وغيره معلوم العدم منهم، واحتمال الخطأ بعيد عن الذهن جدا.
وأما صورة اختلافهم في معنى، أو عدم تعرضهم لمعنى، فهما مع ندرتهما يمكن تحصيل العلم في هاتين الصورتين بالمعنى من الاستعمالات العرفية المتعارفة، والرجوع إلى علائم الوضع، ولو فرض عدم وجود استعمال متعارف، فهو لا يوجب المصير إلى الظن المطلق لندرته.
وكيف كان، فلا نظن بحجية مطلق الظن في الأوضاع اللغوية، كالظن الحاصل من الشهرة والقياس ونحوهما.
نعم ربما يوجد في كلماتهم، خصوصا المتأخرين، وسيما المقارنين لعصرنا، الاستدلال على التعويل على بعض الظنون، بأن المدار في مباحث الألفاظ على الظن.
لكنا نعلم أن كثيرا من الظنون لا يقولون بها، مع أنها ليست من المنهي عنها.
الا أن يقال: إن الظن الحاصل من قول أهل الخبرة هو القدر المتيقن على تقرير الكشف، وأقوى من غيره على تقرير الحكومة، فيقتصر فيما خالف الأصل عليه.
وفيه ما لا يخفى من المنع، لأن الأولوية المذكورة غير معلومة، وإن كانت مظنونة، والأقوائية أيضا غير مطردة، إذ الظن الحاصل من الشهرة لا يقصر عن الظن الحاصل من قول آحاد النقلة.
تنبيهات:
الأول:
إنه بعد فرض حجية قول أهل الخبرة، أو مطلق خبر الواحد فإن فرض الخبر بلا معارض، فلا إشكال في جواز العمل به.
25

وأما إذا وقع التعارض بينه وبين خبر آخر، فالكلام يقع في مقامين:
الأول: فيما إذا كانا متساويين متكافئين لا مزية لأحدهما على الآخر أصلا أو كانت وليست معتبرة.
الثاني: في أن الترجيح معتبر في تعارض قول النقلة أولا.
أما المقام الأول:
فهو ليس عنوانا مستقلا، بل هو من جزئيات مسألة التعارض بين الطريقين الشاملة لما نحن فيه، وللطرق إلى الأحكام الشرعية.
فنقول: إنهم اختلفوا في أنه إذا تعارض الدليلان، والحجتان بحيث لا يمنع من العمل بكليهما إلا تعارضهما، بمعنى أن وجوب العمل بكل واحد منهما مانع عنه في الآخر على أقوال ثلاثة:
الأول: التوقف فيهما بالنسبة إلى إثبات مؤدى كل منهما بالخصوص، والعمل بما تقتضي الأصول العملية، مع عدم جواز الرجوع إلى الثالث.
الثاني: التخيير في إثبات الآثار من مؤداهما بالخصوص.
الثالث: التساقط، وفرضهما كأن لم يكونا، والرجوع إلى الأصول العملية، والعمل على مقتضاها.
فنقول: إن ثبت اعتبارهما من باب حكم العقل من جهة دليل الانسداد من باب الحكومة، فالحق التساقط، لأن حكم العقل حينئذ منوط بوصف الظن الفعلي، ومع التعارض لا يحصل الظن من شيء منهما مع تكافئهما، سواء كان من جهة انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية، أو بالطرق الشرعية، أو بخصوص اللغات. وإن كان من جهة حكم العقل من باب الكشف، فيكون الحكم ما سنذكر، على فرض اعتبارهما من باب الدليل الخاص، ومن باب الظن النوعي، فإن العقل يكشف عن أن الشارع جعل قول النقلة حجة من باب الظن النوعي. وإن ثبت اعتبارهما من باب الدليل الخاص، فإن كان اعتبارهما حينئذ من باب الظن الشخصي الفعلي، فالحق التساقط أيضا، لعدم حصوله من شيء منهما حينئذ. وإن كان من باب الظن النوعي، فالحق التوقف في إثبات شيء من مؤداهما بالخصوص، والرجوع إلى الأصول العملية في مؤداهما.
وأما بالنسبة إلى الثالث فهما دليل على نفيه، لا يجوز الرجوع إلى الأصول العملية المثبتة له.
ووجه ذلك: أن المفروض قيام الدليل الخاص على اعتبارها، وأنه لا مانع
26

من وجوب العمل بكل منهما فعلا، إلا وجوب العمل بالآخر، ولا ريب أن معنى حجيتهما وجوب العمل بمدلولهما مطابقة، وتضمنا، والتزاما، لكن التعارض منع من العمل بهما مطابقة، واما العمل بمدلولهما التزاما وهو نفي الثالث فلا مانع منه، بل هما معا متفقان في ذلك، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول المخالفة لكليهما.
ومن هنا ظهر فساد ما ذهب إليه بعض الأعلام، وتبين أنه غفلة منهم.
فمن الغفلات ما صدر عن المحقق القمي رحمه الله في اختياره التخيير فيما نحن فيه، لأنك عرفت من أن مقتضى القاعدة والأصل الأولي هو التوقف، وعدم الرجوع إلى الثالث، لا التخيير فكأنه - قدس سره - زعم أن التخيير هو الأصل، فلذا بعد اختياره في تعارض الخبرين طرده إلى تعارض الآيتين، ثم إلى ما نحن فيه.
ومن الغفلات ما ذهب بعضهم بين ما ثبت حجيته بالإجماع، وبين ما ثبت حجيته بالدليل اللفظي، فاختار التوقف في الثاني، دون الأول، وحكم بالتساقط فيه، فإنك قد عرفت أن المفروض قيام الدليل على حجيتهما، ووجوب العمل بهما بحيث لا يكون حجية أحدهما مشروطا بعدم المعارض، بل التعارض منع من وجوب العمل بكل منهما عينا وفعلا على المكلف، لا من أصل الحجية، وحينئذ لا فرق بين الدليل اللفظي وبين غيره، فلو فرض قيام الإجماع على حجية أحدهما، لو لا معارضته بمثله، فهو خارج عن باب التعارض، كما هو واضح.
ومن الغفلات ما ذهب إليه بعض المتأخرين (1)، مما حاصله أن من شرائط حجية قول النقلة في اللغات عدم ابتلاء قوله بمعارضة مثله.
ومنها: عدم ما يوجب الريب فيه، يعني لا يكون له موهن.
ومنها: عدم التمكن من الأمارات المعمولة في تشخيص الحقيقة والمجاز، كالتبادر، وعدم صحة السلب، وغيرهما، ولم يحتج على اعتبار الشرطين الأولين،
(1) وهو صاحب الفصول: 25 قال في علائم الحقيقة والمجاز: منها: نص أهل اللغة عليه مع سلامته من المعارض، ومما يوجب الريب في نقله. إلى أن قال: ثم التعويل على النقل مقصور على الألفاظ التي لا طريق إلى معرفة حقائقها ومجازاتها إلا بالنقل، وأما ما يمكن معرفة حقيقته ومجازه بالرجوع إلى العرف، وتتبع موارد استعماله حيث يعلم، أو يظن عدم النقل فلا سبيل إلى التعويل فيه على النقل، ومن هذا الباب أكثر مباحث الألفاظ المقررة في هذا الفن، كمباحث الأمر، والنهي، والعام، والخاص، ولهذا تراهم يستندون في تلك المباحث إلى غير النقل. والسر في ذلك أن التعويل على النقل من قبيل التقليد، وهو محظور عند التمكن من الاجتهاد، ولأن الظن الحاصل منه أضعف من الظن الحاصل من غيره، كالتبادر، وعدم صحة السلب، بل الغالب حصول العلم به فالعدول عنه عدول عن أقوى الأمارتين إلى أضعفهما وهو باطل.
27

فكأنه أرسلهما إرسال المسلمات، لكنه (قدس سره) احتج على اعتبار الشرط الثالث بوجهين:
الأول: أن إعمال علائم الوضع، وتحصيل الظن منها بالوضع اجتهاد، والأخذ بقول النقلة تقليد، والأول مقدم على الثاني.
الثاني: أن الظن الحاصل بسبب العلائم أقوى من الظن الحاصل من قول النقلة. ثم قال: ولذا ترى أن أحدا - من العلماء في باب العام والخاص - لم يأخذ بقول أحد من نقلة اللغة، بل تشبثوا بالعلائم. ثم قال: ثم إذا وقع التعارض بين أقوال النقلة يجب الجمع بينهما، وإن لم يمكن الجمع، فإن كان أحدهما مثبتا والآخر نافيا يقدم الأول على الثاني، وإلا فيجب الأخذ بالمرجحات. انتهى كلامه رفع مقامه.
نقول: إن في كلامه مواقع للنظر بل المنع:
منها: ما اشترط من عدم المعارضة بالمثل، فإنا إن بنينا على اعتبار قول النقلة من باب دليل العقل، فمن الظاهر الواضح أنه من باب الحكومة، فيدور حكم العقل مدار الظن الشخصي، فحينئذ هذا الشرط من شروط تحقق موضوع الحجة، لا من شرائط الحجية، وكذا إذا كان من باب الظن الخاص من باب الظن الشخصي،
وإن بنينا على اعتباره من باب الظن الخاص، ومن باب الظن النوعي، فلا ريب حينئذ في هذا الشرط بوجه، فإن المعارضة بالمثل من موانع وجوب العمل عينا، لا من شرائط الحجية، كما مرت الإشارة إليه، وهذا الاشتراط لازمه الالتزام بالتساقط في محل التعارض، مع أنا أخذا الاعتراف منه بالتوقف، وأنه قائل به ومعه لا يستقيم هذا الاشتراط.
ومنها: اشتراط الشرط الثاني فإن الإشكال فيه أيضا بعين ما مر من أنه إن كان اعتبار قول النقلة من باب دليل العقل، أو من باب الظن الخاص المنوط بالظن الشخصي، فيرجع هذا الشرط إلى شروط تحقق الموضوع لا شرط الحجية، وإن كان من باب الظن الخاص النوعي، فلا معنى لهذا الاشتراط.
اللهم إلا أن يكون مذهبه اعتباره من باب الظن النوعي، لكن لا بنحو ما ذهب إليه المشهور حيث إنهم يعتبرونه حتى في صورة الظن بالخلاف، بل بمعنى اعتباره مشروطا بعدم الظن بالخلاف، ومع وجود الموهن نظن خلافه، والظاهر أن مذهبه هنا ذلك، كما اختاره أيضا في ظواهر الألفاظ فحينئذ نطالبه بدليل هذا المذهب.
ومنها: اشتراط الشرط الثالث، فإنه بناء على اعتباره من باب الظن المطلق،
28

فلا ريب أن هذا الشرط من شروط تحقق الموضوع، فان العلائم من الأمارات القطعية على المختار عندنا، ومعها لا يحكم العقل بجواز العمل بالظن.
وبعبارة أخرى: العقل يحكم من باب مقدمة الانسداد، فعدمها شرط تحقق موضوع الانسداد، وأما بناء على اعتباره من باب الظن الخاص، فلا معنى لهذا الاشتراط بوجه، إذ معنى اعتبار الظن الخاص اعتباره في صورة التمكن من تحصيل العلم، والشارع إنما جعله حجة مع أنه الفرض فحينئذ لا معنى لهذا الاشتراط، إذ لا يجب تحصيل العلم حينئذ حتى يقال: إنه معتبر فيما لم يمكن تحصيل العلائم وإعمالها.
هذا مع ما في الوجهين اللذين استدل بهما من الضعف:
أما الأول: فلأنه إن اعتبر قول النقلة من باب العقل، فلا معنى للقول بكونه تقليدا، إذ بعد حكم العقل بملاحظة - مقدمات أربع - على اعتباره، فالأخذ به أخذ بالدليل القطعي، وليس فيه تقليد أصلا. وإن كان من باب الظن الخاص، فبعد قيام الدليل الخاص على اعتباره، لا يقال بأنه تقليد. كيف؟ ولو كان ذلك تقليدا، لكان جميع المجتهدين مقلدين حيث إنهم يعملون بالأخبار والآيات مع أن اعتبارهما، إما من باب الظن المطلق، أو من باب الظن الخاص.
وأما الثاني: ففيه أولا: أن القول بأنه أقوى من قول النقلة التزام بكون العلائم مفيدة للظن، وليست كذلك، بل هي مفيدة للقطع.
وثانيا: على فرض كونها مفيدة للظن نمنع أقوائية ظنه.
وثالثا: على فرض تسليم الأقوائية، ففيه: أن اعتبار قول النقلة إن كان من باب الظن المطلق، فيصير هذا من شروط تحقق الموضوع، وعلى اعتباره من باب الظن النوعي، فلا يجب تحصيل العلم، ولا تحصيل الظن الأقوى، كما عرفت.
وأما قوله: ولذا تراهم لا يعملون بقول النقلة في باب العام والخاص، بل يأخذون بالعلائم، فهو ليس إلا افتراء عليهم، بل نحن وجدناهم لا يقتصرون في العمل بقول النقلة هناك، ويعملون بكل واحد منه، ومن العلائم لا أن عملهم منحصر في العلائم.
ومنها: قوله: فإذا وقع التعارض، فيجب الجمع بينهما، فإنه أراد بالجمع الجمع الدلالي، من حمل العام على الخاص، والظاهر على النص والأظهر، وغير ذلك. ففيه: أن
29

اعتبار الجمع الدلالي إنما فيما إذا كان المتعارضان صادرين من شخص واحد حقيقة أو حكما، كما في أخبار الأئمة عليهم السلام في حكم متكلم واحد، وأما إذا كانا صادرين عن شخصين متباينين، كما فيما نحن فيه، فلا وجه لهذا الجمع بوجه، إذ لا معنى لحمل العام الصادر من هذا الناقل على الخاص الصادر من غيره، لأن إخبار كل منهما عن وضع اللفظ إنما هو إخبار عن امر واقع، وهو العلقة بين اللفظ والمعنى، لا انهما ناقلان للفظ عن شخص واحد، فان أحدهما يقول: إن الصعيد موضوع لمطلق وجه الأرض، والآخر يقول:
إنه موضوع للتراب الخالص.
نعم لو كانا ناقلين لتنصيص الواضع فيتجه الجمع المذكور، لأنهما ناقلان عن شخص واحد، ومقتضى التعبد بقولهما الحكم بصدورهما منه، فيكونان صادرين من شخص واحد، ولذا يعملون بهذا الجمع، ويراعونه في الوصايا، والأقارير، دون الشهادات، وقول أهل الخبرة في التقويم إذا اختلف القيم، فإن الأوليين صادرتان من شخص واحد، والأخيرتين من متعدد. نعم في الصادرين من متعدد يجمع بطريق آخر غير الدلالي، وهو الجمع التصديقي، وهو يختلف باختلاف الموارد، فإنه في مقام الحقوق المالية بالتنصيف، وفي المقامات الاخر، ومنها ما نحن فيه، بتصديق كل من المخبرين بالتصديق المخبري، والحكم بتصديق خبر المثبت، لأنه يخبر عن علمه، وغيره يخبر عن عدم علمه.
فإن كان مراده من الجمع المذكور هذا الجمع فمتجه، إلا أن هذا عين قوله: وإلا فيقدم المثبت على النافي، فلا وجه لجعله مقابلا له. وأما قوله: فيجب الأخذ بالمرجحات فسيجيء الكلام فيه في المقام الثاني.
المقام الثاني في أنه هل يجب الأخذ بالمرجحات فيما نحن فيه أعني في تعارض قول النقلة أولا؟ بمعنى أن الأصل ما ذا؟
وتحقيق الكلام: أنه إن بنى في المقام الأول أعني صورة التكافؤ والتساوي على التوقف، كما هو المختار، فالأصل الأولي يقتضي عدم الوجوب، وعدم اعتبار المرجح، إذ المرجح كالدليل لا بد من الاقتصار فيه على المعلوم من اعتباره، فما لم يقم دليل على الاعتبار، لا يجز الخروج عن مقتضى الأصول العملية المحكمة في مورد التوقف، وكذا لو بنى هناك على التخيير، لكن من باب التعبد ومقتضى الاخبار، فإن بعضها مطلقة، ومقتضى إطلاقها التخيير في كل مورد يحتمل فيه اعتبار المزية الموجودة في أحدهما، إلا إذا قام دليل على الاعتبار، وكذا لو بنى على التساقط - ثمة - فإنه لا يعتبر المرجح حينئذ بوجه
30

وبطريق أولى، إذ اعتبار المرجح في أحد الدليلين بعد فرض اعتبارهما، فإذا فرضنا تساقطهما وفرضهما كأن لم يكونا، فلا مورد لاعتباره بوجه. وأما لو بنى ثمة على التخيير من باب العقل فالأصل اعتبار المرجح، ووجوب الأخذ بالراجح، إذ حكم العقل بالتخيير مع عدم احتمال مزية في أحدهما اعتبرها الشارع، وأما مع احتمالها، فيكون القدر المتيقن من الطريق الجائز العمل به هو الراجح، ويكون المرجوح مشكوك الجواز، فيحكم العقل بتعين الراجح، ولا ينافي ذلك ما ذكرنا، من أن المرجح كالدليل لا بد من وصول اعتباره، وقيام الدليل عليه، لأن الأخذ بالراجح في الصورة المفروضة، ليس ترجيحا في الحقيقة، بل أخذ بالمتيقن من الطريق الجائز العمل به.
لا يقال: إنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير، الأصل هو الثاني.
لأنا نقول: هذا إنما هو في التكاليف، دون الطرق، لأن مرجع الشك في التعيين والتخيير في الطرق إلى جواز العمل بالمرجوح أيضا في مقام الامتثال، والاكتفاء به عن التكليف الواقعي المعلوم إجمالا، فلو عمل المكلف حينئذ على المرجوح لا يقطع بخروج ذمته عن عهدة التكليف الواقعي، لعدم علمه بكونه حينئذ حجة، وقاطعا للعذر، بخلاف ما لو عمل بالراجح، فإنه قاطع للعذر يقينا.
وكيف كان فالمقام مقام الاشتغال، لكون الشبهة ثانوية بالنسبة إلى التكاليف الواقعية.
هذا بخلاف الشك في التعيين والتخيير في نفس التكاليف فإنه بدوي يرجع فيه إلى أصالة البراءة عن التعيين. فافهم.
هذا كله نظرا إلى الأصل الأولي، ومع قطع النظر عن ورود الدليل الشرعي على اعتبار المرجح فيما نحن فيه.
وأما بالنظر إلى الأصل الثانوي - أعني الأدلة الشرعية - فيمكن دعوى الاعتبار لوجوه.
الأول: بناء العرف والعقلاء والعلماء على اعتبار المزايا في الأدلة والطرق الواصلة إليهم.
الثاني: الإجماعات المنقولة الظاهرة للمتتبع في كلماتهم في تعارض الخبرين، حيث إن بعضهم ادعى الموجبة الكلية، وعلل وجوب الأخذ بالمرجح في الأخبار بأن العمل بأقوى الدليلين واجب.
31

الثالث: فحوى أخبار الترجيح في تعارض الخبرين في نفس الأحكام، فإن الطرق أولى بذلك. هذه وجوه ادعوها.
لكن للنفس في كل منها تأمل:
أما الأول: فلأنه لم يعلم من حال العرف والعقلاء ذلك كلية.
وأما العلماء فإنا نراهم قد يعملون بالمرجح، كما في الأحكام الشرعية، وقد لا يعملون به، كما في الشهادات والبينات، ولم يعلم كون العمل بالمرجح أصلا، وخروج البينات عنه لاحتمال العكس.
وأما الوجه الثاني: فلأنه لا حجية فيه، ولا يحصل منه القطع بحصول الإجماع أيضا لقلة الناقلين له.
وأما الثالث: فهو وجه اعتباري فيه مناقشات من وجوه شتى.
بقي في المقام شيء، وهو أن السيد محمد (قدس سره) صاحب المفاتيح (1) قد ادعى دعويين:
أولاهما: أنه إذا وقع التعارض بين أقوال النقلة، فإن كان أحدهما خاصا والآخر عاما يخصص العام منهما بالخاص ويحمل عليه.
وثانيتهما: أنه إذا نقل لغوي معنى للفظ، ولغوي آخر معنى آخر مباينا لذلك المعنى، واحتمل أن يكون نقل كل منهما المعنى المباين للمعنى الآخر الذي ينقله الآخر من باب أن اللفظ مشترك بين المعنيين، ويحتمل أن يكون اللفظ متحد المعنى، ويكون نقل كل معنى من باب انحصار المعنى فيه، ونفي المعنى الآخر للفظ، فيقع التعارض بين قوليهما، فحينئذ يحكم باتحاد المعنى بمقتضى أصالة عدم الاشتراك، فيحكم بالتعارض فيرجع إلى العلاج. انتهى.
نقول إن في كل من دعوييه منعا ظاهرا.
أما الأولى: فلما مر من أن حمل العام على الخاص من وجوه الجمع الدلالي، وقد عرفت سابقا أنه فيما إذا كان الدليلان صادرين من واحد، وأما إذا صدرا من متعدد كما فيما نحن فيه فلا.
وأما الثانية: فلأنه بعد ما فرض حجية قول النقلة واعتباره، فيكون قول كل
(1) مفاتيح الأصول: 63، مفتاح: إذا اختلف الناقلون لوضع اللفظ فقال بعضهم انه موضوع لذا، وقال آخر لذلك فلا يخلو إما ان يمكن الجمع بين النقلين بالقول بتعدد الوضع...
32

منهما دليلا على مؤداه، فيكونان واردين على أصالة عدم الاشتراك.
التنبيه الثاني:
أنه على القول بحجية قول أهل اللغة كما هو المشهور، اشترطوا لها أن لا يكون إخباره عن حدسه. واجتهاده، بل لا بد أن يكون طريق تحمل نقله للغة بالحس لا غير، فلذا ردوا قول أبي عبيدة في فهمه من الحديث أن عندي غير الواحد لا يحل عقوبته، بأن فهمه ذلك من باب اجتهاده، وحدسه، ويتوجه على ذلك إشكالان:
أولهما: أن الفرق والتمييز بين الإخبار عن حدس واجتهاد، وبينه عن حس واضح في الأحكام الشرعية، فلا ريب أنه لا يعرف أحد - من اللغويين والناقلين - الواضع، فكيف بمعرفتهم الوضع فيه بطريق الحس، لوقوع الاختلاف في أنه هو الله تعالى، أو غيره، فلا يكون قول أحد من اللغويين حجة، لفقد هذا الشرط في الكل، فإن أقوى نحو تحملهم للنقل، انما هو تبادر المعنى الذي ينقلونه من اللفظ عند العرف، وأهل اللغة، وهو ليس من الطرق الحسية.
وكيف كان فلو جعل الحس عبارة عن ذلك، وجعل خلافه اجتهادا، فلا ريب أن إخبار كلهم بطريق الاجتهاد، فيسقط قول كلهم عن الحجية.
وثانيهما: أنه إذا اشتبه حال الناقل، ولم يعلم أن إخباره عن حسه، أو عن اجتهاده، وحدسه، فحينئذ يشك في شرط الحجية الذي هو كون إخباره عن الحس، فذلك يوجب الشك في الحجية، لأن الشك في الشرط مستلزم للشك في المشروط، فلا بد من التوقف، فيسقط قوله عن الاعتبار.
هذا، ثم إن بعض الأجلة تفصى عن الإشكال الثاني، بأن الناقل إن كان من اللغويين، ومن أهل الخبرة، فالأصل أن إخباره عن حس. وإن كان من العلماء، فالأصل في إخباره أن يكون عن حدسه، واجتهاده.
وفيه: أنه ما معنى ذلك الأصل؟ فإن أراد به الغلبة، فيتوجه عليه المنع صغرى، وكبرى، فنمنع أولا أصل الغلبة، وثانيا اعتبارها.
والتحقيق في دفع الإشكالين أن يقال: إن الأمور الحسية ليست منحصرة بما تدرك أنفسها بإحدى الحواس الخمسة، بل أعم منهما بحيث تعم الأمور التي ليست هي بأنفسها كذلك، لكن لها آثار ومسببات كذلك.
فنقول: إن الوضع لما كان هو العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى، فهو ليس مما يدرك نفسه بالحس، لكن له أثر، ومسبب يدرك بالحس، وهو تبادر المعنى من اللفظ
33

عند العالمين بالوضع، وعدم صحة السلب، فحينئذ كلما كان منشأ النقل مشاهدة هذا الأثر من العالمين بالوضع، فيكون الإخبار حسيا، وكلما لم يكن كذلك، بل كان مستندا إلى الاعتبارات الحدسية، فهو حدس، فغرضهم من اعتبار الشرط المذكور إنما هو ذلك.
وبعبارة أخرى أنه إن كان طريق تحمل النقل هو الخلط، والمباشرة مع أهل اللسان، وإن لم يكن الناقل منهم، كالفيروزآبادي، أو كونه منهم وعارفا باللغة، فيكون الإخبار حسيا، وإلا بان لم يكن منهم، ولا مخالطا معهم، بل كان طريق تحمله هو استخراجه، واجتهاده بواسطة القرائن الواصلة إليه، أو الاعتبارات، والمقايسات العقلية، فيكون الإخبار عن حدس، فلا يجوز التعويل عليه، فاندفع الإشكال الأول.
وأما الإشكال الثاني: فدفعه أنه إن كان الناقل من أهل الخبرة إما لكونه منهم، أو من المخالطين لهم، فالأصل في إخباره أن يكون مستندا إلى الحس، لأن احتمال كونه من اجتهاداته وحدسه ضعيف، لا يعتني به العقلاء في
حقه.
وبالجملة إذا كان الناقل هكذا، فالعقلاء يحكمون عند الشك بكون إخباره عن جهة استناده إلى الآثار الحسية، ولا يعتنون باحتمال خلافه، سواء كان ذلك الناقل من العلماء أيضا أو لا.
وردهم قول أبي عبيدة بوجود الموهن لقوله بحيث يقوي فيه احتمال الخلاف.
وأما إذا كان ممن لم يعاشرهم كالعجمي الغير المخالط، فالأصل في إخباره أن يكون مستندا إلى حدسه، وتعويله على القرائن، لبعد احتمال معرفته اللغة التي ينقلها بالآثار الحسية المشاهدة من أهلها، فإن ذلك مما يتفق في حقه أحيانا.
ثم إن ما ذكرنا من اشتراط كون الإخبار عن حس في اللغات، يجري في غيرها من الموضوعات، كالشهادات في مقام المرافعات.
نعم لو شهد الشاهد مطلقا، ولم يعلم أن شهادته من باب الحدس، أو الحس فيحمل على الثاني، للأصل يعني الظاهر، فيحكم بمقتضى شهادته لذلك، أعني بسبب إحراز الشرط المذكور في حقه بالأصل.
ومن هنا ظهر ضعف ما تمسك به بعض على وجوب الأخذ بالشهادة العلمية، من اختلاف الأمور، وتضييع الحقوق، وتعطيل القضاء لولاه، إذ لا ريب أنه بعد البناء على إحراز الشرط المذكور بالأصل، فلا يلزم ما ذكره، ولو بنى على الأخذ بالشهادة العلمية، فلا ريب أنه يوجب تضييع الحقوق سيما في أمثال زماننا هذا.
34

ثم إن ما ذكرنا من الأصل المذكور في إحراز الشرط المذكور، إنما إذا () يتهم الشاهد بكون شهادته عن حدس غالبا، فإنه حينئذ يوجب الوهن في الأصل المذكور، ويسقط الظهور المذكور، فحينئذ يتجه السؤال عن وجه الشهادة من أنها علمية أو حسية.
التنبيه الثالث: أنه من طرق معرفة اللغات قول العدل،
إذا لم يكن من أهل الخبرة أيضا، بأن يخبر عن نفس الوضع بأن يقول: إن اللفظ الفلاني موضوع لكذا.
والحق فيه التفصيل بأنه حجة بالنسبة إلى الآثار، والأحكام الشرعية الكلية، بمعنى أنه إن وقع هذا اللفظ في الكتاب والسنة يترتب عليه مفاده من الحكم الشرعي بمقتضى إخبار هذا العدل، وأما في غير الأحكام الشرعية، كأن وقع في الموضوعات، كالأقارير، والوصايا فلا.
أما الأول: فلأنه من الظنون التي يتوقف عليها الاستنباط، والاجتهاد، كالظنون الرجالية، فكما أن الظنون الرجالية يتميز بها حال الراوي، فيستخرج المجتهد بسببه الحكم الشرعي، فكذلك قول العدل - فيما نحن فيه - يتميز به الأسئلة الصادرة من السائلين، في الإخبار عن الأحكام الشرعية، فيستنبط المجتهد الحكم الشرعي من أجوبتهم عليهم السلام، بعد هذه الأسئلة بكلمة نعم، إذ لو لا تعيين السؤال لما فهم أن المراد بالجواب ما هو، مثلا إذا وجد في الأخبار أن السائل سأله عليه السلام عن أن التيمم: يجوز بالصعيد؟ فأجابه عليه السلام بنعم، ولم يعلم أن معنى الصعيد هو مطلق وجه الأرض، حتى يكون معنى قوله: نعم، أنه يجوز التيمم بمطلق وجه الأرض، أو أن معناه التراب الخالص، فيكون معنى الجواب انحصار الجواز فيه، فحينئذ إذا أخبر العادل بأن الصعيد موضوع لمطلق وجه الأرض، فيحمل بسبب ذلك قول السائل على هذا المعني، فيكون معنى الجواب حينئذ ما أريد من السؤال، فيكون معنى (نعم) أنه يجوز التيمم بمطلق وجه الأرض، وكذلك يتميز به مراد الشارع في غير مقام الجواب والسؤال، كما في آية التيمم.
فإذا كان قول ذلك في مقام الأحكام الشرعية من الظنون التي يتوقف عليها فهم الحكم الشرعي، فيكون حجة بالإجماع المركب من القائلين بحجية قول العدل في نفس الأحكام الشرعية، الذي هو حجية خبر الواحد المصطلح، لأن كل من قال بحجية خبر الواحد المصطلح، أعني الإخبار عن السنة، قال بحجية قول العدل في غير خبر الواحد
35

المصطلح، إذا كان مما يتوقف عليه الاجتهاد، بأن يخبر عن الوضع لا السنة، ووقع اللفظ في الكتاب، أو السنة.
بل هذا الإجماع قائم في حق المقلدين أيضا بالنسبة إلى قول الناقل للفتوى عن المجتهد، فإنه أيضا مما يتوقف عليه فهم الحكم الشرعي للمقلد، وهذا هو المراد بقولنا في أول عنوان حجية قول النقلة: - أن النزاع فيما لم يكن المخبر جامعا لشرائط الحجية مع ورود اللفظ الذي ينقل وضعه في مورد الأحكام الشرعية، لأن البحث عن حجية خبر الواحد يغني عنه - فإن المراد بالإغناء: أنه بعد إثبات حجية خبر الواحد في الأحكام، فالإجماع قائم على نفي الفرق، ووجوب قبول الواحد الجامع لشرائط الحجية في المقامين.
وأما الثاني: أعني عدم حجية قوله بالنسبة إلى الموضوعات، فالأصل وأدلة خبر الواحد لا يشمله حينئذ بوجه، لأنها في مقام حجية قول العادل في الأحكام لا الموضوعات.
وأما آية النبأ وإن كان موردها في الموضوعات إلا أن في الاستدلال بها وجوها من الإشكال، تبلغ ثلاثين، أو تقرب منها. ومع تسليم دلالتها فالإجماع قائم على تقييدها بالضميمة، بمعنى أن المراد حجية قول العادل في الموضوعات إذا انضم إليه غيره لا مطلقا.
التنبيه الرابع: أن من طرق معرفة اللغات خبر الواحد المصطلح،
بمعنى أن ينقل الناقل أن المعصوم عليه السلام، قال: إن الصعيد موضوع لكذا، وهكذا إلى غير ذلك من الألفاظ.
والحق فيه التفصيل، بين كون ذلك اللفظ واقعا في حيز الموضوعات، فليس حجة حينئذ، للوجه المذكور في قول العدل، من اختصاص أدلة خبر الواحد بالأحكام، وبين غير الموضوعات من الأحكام الشرعية، بأن يكون واقعا في حيز الأحكام الشرعية في الكتاب، والسنة، فيكون حجة في الجملة.
ثم على أنه إذا وقع في حيز الأحكام الشرعية اختلفوا فيه على أقوال ثلاثة:
القول بعدم الحجية مطلقا، والقول بحجيته مطلقا، والقول بالتفصيل، بين كون المخبر جامعا لشرائط الحجية، فيكون خبره حجة، وبين عدم كونه كذلك، فلا يكون حجة.
والأقوى هو القول الأخير.
36

حجة القول الأول: الأصل، ودعوى انصراف أدلة خبر الواحد إلى ما إذا أخبر العادل بنفس الحكم الشرعي عن المعصوم عليه السلام، وعدم شمولها لما إذا أخبر بما يكون مما يتوقف عليه استنباط الحكم الشرعي.
وحجة القول الثاني: دعوى إطلاق الأدلة المذكورة، وشمولها لما نحن فيه، ونفي اشتراط الحجية بشرط، لأصالة الإطلاق.
لنا على ما اخترنا: أنه إذا كان المخبر جمعا لشرائط الحجية، فالأدلة دالة على حجية قوله مطلقا، سواء كان حاكيا عن الحكم الشرعي، أو عن غيره، بحيث يحصل التواتر من الأخبار معنى على ذلك، وكذا يحصل القطع بالإجماع من الإجماعات المنقولة على هذا المقدار. وأما إذا لم يكن جامعا للشرائط، فلا دليل على حجيته،
فالأصل عدم الحجية حينئذ، إذ لا ريب أن كل واحد من أدلة خبر الواحد لا يستقيم لكونه دليلا على المدعى إما لضعف سنده أو لضعف دلالته، فلا يجوز التمسك بإطلاق بعض المطلقات منها، بل دليل حجية خبر الواحد لبي، والقدر المتيقن منه قيامه على حجيته، إذا كان المخبر جامعا لشرائط الحجية، إذ الدليل إنما هو تواتر الأخبار معنى، وتحصيل الإجماع من الإجماعات المنقولة، والتواتر والإجماع لم يحصل العلم بهما بأزيد مما اخترنا، فبما ذكرنا ظهر الجواب عن حجتي القولين الأولين.
تذنيب:
بعد ما بنينا على حجية قول اللغوي، وقول العدول، وخبر الواحد المصطلح في اللغات، فإن صرح الناقل بحقيقة اللفظ في المعنى أو بمجازيته فلا إشكال، وإلا فإن كان قول الناقل إن اللفظ الفلاني اسم للمعنى الفلاني، فالظاهر الحمل على الحقيقة، لأن الأمم حقيقة في الكلمة الموضوعة للمعنى، وإن كان يستعمل في الأعم، كما في مسألة الصحيح والأعم، فإن القائلين بنفي الحقيقة الشرعية يقولون إن ألفاظ العبادات أسام للصحيحة أو الأعم إذ لا ريب أنه ليس مرادهم كونها هي لها حقيقة، بل مرادهم مستعملة مجازا. وان لم يكن قول الناقل كذلك، فإن كان بطريق الحمل، بأن يقول: إن الصعيد هو وجه الأرض أو التراب الخالص، فإن كان المعنى واحدا فالأصل أيضا الحقيقة، لعدم إمكان المجاز بلا حقيقة، وان كان متعددا فالظاهر حقيقة المعنى الذي ينقله أولا، أخذا بشاكلة الناقل، إذا كان من اللغويين وشأنه، إذ الظاهر أنه عارف بالحقيقة والمجاز، والظاهر أيضا أنه بعيد في حق العارف تقديم المجاز على الحقيقة. وأما غير المعنى الأول، فإن جرى فيه أصالة عدم الاشتراك بأن كان شرائطه موجودة، فيتعين كونه مجازا، وإلا فالتوقف. والدليل على اعتبار هذا الظهور - أعني ظهور حال اللغوي - بناء
37

العقلاء والعرف. وأما إذا لم يكن من اللغويين، وأهل الخبرة، فيشكل التعيين، فلا بد من التوقف.
وقال بعضهم: إنه لو كان طريق بيان الناقل بلفظ قد يكون، أو بلفظة منه، فالظاهر أنهما ظاهرتان في أن اللفظ مجاز في المعنى الذي يذكرونه.
وفيه: ما لا يخفى من المنع، فإن الناقلين للغة بناؤهم على استقصاء موارد الاستعمالات، وقلة الاستعمال لا يكون دليلا على المجاز. هذا كله في الطرق الشرعية إلى معرفة اللغات.
وقد عرفت أنها ثلاثة: قول اللغوي، وأهل الخبرة على المشهور، وقول العدل بغير خبر الواحد المصطلح، وخبر الواحد المصطلح على المختار، والمشهور أيضا بالتفصيل الذي ذكرناه.
بقي الكلام في الطرق العقلية:
ومن الطرق إلى معرفة اللغات العقل:
ومن الطرق العقلية: أصل العدم،
لكنه لا يثبت به نفس الوضع، بل الذي يثبت به إنما هو كيفياته وأحواله اللاحقة له من التقدم والتأخر والاتحاد والتعدد.
ويقع الكلام فيه في مقامات ثلاثة:
الأول: في أن المراد منه فيما نحن فيه ما ذا؟
فنقول: إنه يحتمل أن يكون المراد به القاعدة الخاصة المعتبرة في هذا الموارد الخاصة، أعني اللغات، وأن يكون المراد الاستصحاب الغير الشرعي، المعتبر في هذا المورد الخاص، أعني استصحاب العدم الأزلي الخاص، بأن لا يكون اعتباره منوطا باعتبار كلي الاستصحاب من باب العقل، ولا باعتبار مطلق الاستصحاب العدمي، وأن يكون المراد به الغلبة، أعني غلبة عدم النقل، واتحاد المعني العرفي مع المعنى اللغوي، وأن يكون المراد كونه من أصل العدم الأزلي الكلي الذي يستدلون به في جميع الموارد، فحينئذ يدور المراد مدار اختيار أحد الوجهين في ذلك الأصل الكلي، من أنه استصحاب العدم الأزلي، أو أنه قاعدة مستقلة، لا تدور مدار ملاحظة الحالة السابقة. ويحتمل فيه التفصيل بالنسبة إلى موارد استعماله، بأن ينظر إلى دليل اعتباره، فإن ظهر أن اعتباره منوط بملاحظة الحالة السابقة، فيكون المراد به الاستصحاب، وان ظهر أنه منوط بالغلبة، فيكون المراد به الغلبة، وإن ظهر عدم إناطته بشيء من الأمرين، وأن المدار فيه نفس الشك، فيكون قاعدة مستقلة.
وكيف كان فصارت الاحتمالات خمسة:
38

أظهرها الأخير، لما سنبين من أن اعتباره في جميع موارد استعماله ليس من جهة واحدة بل في بعضها من جهة الغلبة، وفي بعضها الآخر من جهة الاستصحاب، أو القاعدة كما سيجيء.
المقام الثاني في بيان الموارد التي يستعمله فيها العلماء،
فاعلم أنها ثلاثة:
الأول: ما إذا علم بوضع لفظ لمعنى في الزمان السابق، ووجد استعماله في الزمان اللاحق في معنى، وعلم بكونه حقيقة في هذا المعنى الذي يستعمل فيه الآن، لكنه يشك في أن هذا المعنى هذا هو عين ذلك المعنى الذي يعلم بوضع اللفظ له من قبل فيكون متحدا معه، أو غيره؟ فيلزم نقل اللفظ من ذلك المعنى إلى ذاك، فمرجع الشك هنا إلى الاتحاد والتغاير.
الثاني: ما إذا علم الآن بوضع اللفظ تخصيصا، أو تخصصا لمعنى، ثم وقع الشك في ابتداء تاريخ حصول الوضع، ومرجع الشك هنا إلى مجرد تاريخ الوضع وبدو زمانه، ثم إنه قد يعلم مع ذلك وضع هذا اللفظ لمعنى آخر، غير هذا المعنى، ونقله منه إليه مع الشك في تاريخ النقل، وقد لا يعلم له معنى غير هذا المعنى.
وكيف كان فالكلام في هذا المورد فيما إذا كانت الحاجة إلى تعيين ابتداء الوضع ومن هذه الحيثية لا غير.
الثالث: ما إذا وجد استعمال اللفظ في معنيين مع العلم بوضعه لأحدهما إجمالا، أو تفصيلا، والشك في وضعه للآخر أيضا مع عدم القدر الجامع، أو العلاقة الظاهرة بين المعنيين. هذه هي موارد استعماله.
فإذا استعملوه في المورد الأول، فيعبرون عنه بأصالة عدم النقل، ويثبتون به تقدم الوضع الآني، واتحاده مع الوضع السابق.
وإذا استعملوه في المورد الثاني، فيعبرون عنه بأصالة تأخر الحادث، ويثبتون به تأخر الوضع، ونفيه عن مورد الشك.
وإذا استعملوه في المورد الثالث، فيعبرون عنه بأصالة عدم الاشتراك، ويثبتون به اتحاد الوضع، ومجازية اللفظ في المعنى الآخر، خلافا للسيد المرتضى (قدس سره) حيث انه حكم بالاشتراك حينئذ، لكن خلافه ليس في اعتبار الأصل المذكور بل في المسألة الأخرى، وهي أن الاستعمال من علائم الوضع أولا؟ وهو قدس سره لما زعم أنه من علائم الوضع، فحكم هنا بالاشتراك من باب كون الاستعمال دليلا واردا على الأصل
39

لا من جهة عدم اعتبار الأصل من أصله، ولو لا اختياره ذلك المذهب ثمة لكان موافقا للمشهور هنا في الحكم
على الحقيقة والمجاز، فاعتبار الأصل المذكور بنفسه متفق عليه من الكل حتى السيد قدس سره.
ثم إن المحقق الشريف (قدس سره) قد عبر عن الأصل في المورد الأول بالاستصحاب القهقرى، والظاهر أنه خلاف اصطلاح القوم، وأنه اصطلاح جديد منه، بل الذي اصطلحوا عليه إنما هو أصالة عدم النقل، كما ذكرنا.
ثم إن شيخنا الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره لما رأى منه ذلك، ورأى أنه لا معنى للاستصحاب القهقرى، ولا وجه لاعتباره بوجه فوجهه تأدبا منه بأنه لازم لاستصحاب معتبر، وهو استصحاب عدم وضع جديد للفظ غير ما علم له بالنسبة إلى الزمان السابق، لكنك ستعرف ما في هذا التوجيه أيضا، من أن اعتبار أصالة عدم النقل من باب الغلبة، وكونه من باب الاستصحاب على خلاف التحقيق.
المقام الثالث: في ذكر أدلة اعتبار هذا لأصل،
فنقول: إنه لا ريب أنه لا دليل على اعتباره شرعا، من كتاب، أو سنة، أو إجماع.
أما الأول والأخير فواضحان.
وأما الثاني، فلأن أخبار الاستصحاب، إنما هي في مقام اعتباره بالنسبة إلى الحكم الشرعي، المترتب على المستصحب بلا واسطة عادية، أو عقلية، فلا تجري في نفس الوضع، لأنه ليس من الأحكام الشرعية، ولا في الحكم الشرعي المترتب على تقدم الوضع لكونه بواسطة عقلية، بل الدليل عليه منحصر في عمل العلماء، بل كافة العقلاء، وهو الحجة.
وكيف كان فلا ريب في حجيته، ومن أنكرها فقد كابر وجدانه، وأطلق في ميدان العصبية عنانه، لكنها لم يعلم أنها من جهة ملاحظة الحالة السابقة، فيكون الأصل من الاستصحاب الغير الشرعي، أو من جهة الغلبة، أو من جهة غيرها، فحينئذ فالشأن في تعيين جهة اعتباره عند العقلاء بالنسبة إلى كل واحد من الموارد الثلاثة المتقدمة.
فنقول: إنه قد (صرح) جماعة من مهرة الفن قدس سرهم في المورد الأول بأن اعتباره - من باب الاستصحاب، والأخذ بالحالة السابقة، منهم العلاقة في
40

التهذيب ()، ومنهم السيد البحر في شرح () الوافية، ومنهم المحقق الشريف ()، ومنهم الشيخ محمد تقي () قدس سرهم، هؤلاء هم الذين ببالي من المصرحين على ما حكي عنهم، وليتهم أبدلوا الاستصحاب بالغلبة، وإنما تمنينا ذلك، لأن الكناية أبلغ من التصريح، وإن لا تحب المكنين فنصرح بأن الحق أن وجه اعتباره فيما نحن فيه، إنما هي الغلبة لا غير، وأن ما صاروا إليه مخدوش من وجوه:
الأول: أنه لم يثبت بعد اعتبار الاستصحاب من باب العقل، وإن استدل عليه غير واحد منهم بالعقل، لكنه لم يعلم اتفاقهم على العمل به في الفقه من باب العقل.
الثاني: أنه على تسليم اعتباره من باب العقل، فلا ريب أنه مبني على إفادة الظن شخصا، كما يظهر اعتباره عن بعض، كالبهائي قدس سره (1)، أو نوعا كما هو المشهور، ولا يخفى أن كون الشيء مسبوقا بالعدم الأزلي لا يفيد الظن بالعدم بكلا قسميه، ومع عدمه لا معنى لتعبد العقلاء بالبناء على العدم السابق من دون آمر لهم على ذلك، كما هو المفروض.
والحاصل: إن بناء العقلاء على شيء لا بد أن يكون إما لأجل حصول الظن به، إذ حينئذ يصير راجحا عندهم، فيأخذون بالراجح، وإما لأجل أن آمرا أمرهم بذلك لا يمكنهم مخالفته، وكلاهما مفقودان فيما نحن فيه، أما الأول: فكما عرفت، وأما الثاني:
فبالفرض، إذ المفروض اعتبار الاستصحاب من باب العقل وحده، والعقل لا يأمر بشيء إلا أن يكون راجحا.
الثالث: إنا سلمنا أن وجه الاعتبار، إنما هو البناء على الحالة السابقة، وأن ملاحظتها تفيد الظن النوعي، لكن إفادتها ذلك ليست بنفسها وحدها، بل بملاحظة
(1) زبدة الأصول للشيخ البهائي: في المطلب الرابع وفيه: المطلب الرابع في الاستصحاب، وهو إثبات الحكم في الزمن الثاني تعويلا على ثبوته في الأول، والأظهر أنه حجة وفاقا لأكثر أصحابنا خلافا للمرتضى رضي الله عنه والحنفية وأكثر المتكلمين، لنا: ثبوت الحكم أولا وعدم تحقق ما يزيله فيظن بقاؤه.
41

غلبة بقائها، فحينئذ يرد عليه:
أولا: إن هذا يرجع بالآخرة إلى اعتبار الأصل المذكور من باب الغلبة بطريق الأكل من القفا، والتزام واسطة مستدركة، وهي البناء على الحالة السابقة، فإن توسطه لغو - حينئذ - لعدم الحاجة إليه بوجه.
فالأولى الالتزام أولا بأن وجه الاعتبار هو الغلبة، وعدم الالتجاء إلى تلك الواسطة.
وثانيا: ان هنا غلبتين:
إحداهما: نوعية وهي المرجع في اعتبار العدم السابق المعبر عنه بالاستصحاب العدمي، وهي غلبة بقاء ما كان مسبوقا بالعدم على العدم.
والأخرى: شخصية، وهي غلبة اتحاد المعاني العرفية مع اللغوية، ولا ريب في أقوائية الثانية حتى أنها بحيث لم يوجد لها مورد مخالف إلا موارد معدودة بين ثلاثة وخمسة، ولا ريب أنه مع وجود الظن الأقوى يتعين عند العقلاء الأخذ به، ولا يجوزون التخطي عنه إلى الأضعف، فلا يكون اعتبار أصالة عدم النقل راجعا إلى الغلبة النوعية المذكورة، فلا يكون من باب الاستصحاب، والبناء على الحالة السابقة، لأن مدرك اعتباره تلك الغلبة، والعمل على مقتضى تلك الغلبة الشخصية، ليس بناء على الحالة السابقة، ولا ناظرا إليها بوجه، فثبت أن مبنى اعتبار الأصل المذكور انما هو غلبة الاتحاد، لا البناء على الحالة السابقة بوجه.
الرابع: أنه لو كان اعتبار أصالة عدم النقل من باب الاستصحاب، لكانت معارضة بأصالة تأخر الوضع، إذ كما يقال الأصل بقاء الوضع الأولي، وعدم نقل اللفظ منه إلى غير المعنى الأولي، كذلك يصح أن يقال الأصل تأخر هذا الوضع المعلوم لهذا اللفظ في الحال، وعدمه بالنسبة إلى الأزمنة المشكوكة المتقدمة، وهذا يقتضي سقوط الأصل المذكور عن الاعتبار، مع أنك عرفت الاتفاق من العلماء بل العقلاء على اعتباره.
وكيف كان فهذا الإشكال أقوى ما يرد على مشهور المحققين الزاعمين أن اعتباره من باب الاستصحاب.
هذا، وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن تعارض الأصلين المذكورين من باب تعارض المزيل والمزال، إذ الشك في تأخر الوضع ناشئ عن الشك في النقل،
42

جرى الأصل في السبب الذي هو النقل، فلا يبقى بعده مورد لأصالة التأخر، فهذا الأصل السببي مزيل لذلك الأصل، وذلك لا يعارضه، وهذا نظير استصحاب الطهارة في الماء المشكوك الطهارة المسبوق بها، إذا استعمل في تطهير الشيء المتنجس، فإنه مزيل لاستصحاب نجاسة المتنجس بعد التطهير به، فإن الشك في طهارة المتنجس حينئذ مسبب عن الشك في طهارة الماء الذي غسله به، فإذا أحرز الطهارة فيه بالأصل، فلا يبقى لاستصحاب النجاسة مورد.
هذا، وفيه منع كونهما من قبيل السبب والمسبب المعبر عنهما بالمزيل والمزال، إذ هما فيما إذا كان السبب بذاته مقتضيا للمسبب، لا ان يكون الشك فيه سببا للشك في المسبب كما في مثال استصحاب الطهارة، فان ذات طهارة الماء تقتضي ارتفاع النجاسة في المثال المذكور، هذا بخلاف ما نحن فيه فان عدم النقل بذاته لا يقتضي
قدم هذا الوضع الإني لإمكان بقاء الوضع الأولي، وحدوث وضع جديد للفظ في معنى اخر فيكون مشتركا.
فان قلت ان احتمال الاشتراك منفي في المقام بالفرض، إذ المفروض دوران الأمر بين النقل وهجر اللفظ عن المعنى الأولي وبين عدم النقل واتحاد الموضوع له المعلوم الآن مع الذي علم إجمالا.
قلنا: نعم لكن نقول: إن هذا سبب فرض الفارض، وهو لا يوجب كون عدم النقل بذاته مقتضيا لقدم الوضع الإني.
نعم لما صار المقام بالفرض من قبيل المتلازمين، فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الاخر، لكن الملازمة اتفاقية لا ذاتية.
هذا، ونقول: التحقيق في دفع الإشكال ان يقال: إن أصالة تأخر الحادث أيضا وان كانت جارية في المقام، لكنها معارضة بمثلها، فيبقى أصالة عدم النقل سليمة، فيثبت به القدم والاتحاد.
وتوضيح ذلك: أن المفروض أنا نعلم إجمالا أن اللفظ لم يزل موضوعا لمعنى حتى في الأزمنة التي نشك في ثبوت الوضع الآني له فيها، فإذا قيل الأصل عدم هذا الوضع في تلك الأزمنة، وتأخره عنها إلى هذا الزمان، فيثبت ذلك كونه موضوعا لمعنى آخر غير هذا المعنى في الأزمنة المذكورة، وهو أيضا مشكوك، فيجري فيه أيضا أن الأصل عدم وضع اللفظ له في تلك الأزمنة فيتعارض الأصلان ويبقى أصالة عدم النقل سليمة.
43

هذا كله في وجه اعتبار أصل العدم في المورد الأول الذي يعبر فيه عنه بأصالة عدم النقل.
وأما وجهه في المورد الثاني، والثالث، المعبر عنه في أولهما بأصالة تأخر الحادث، وفي ثانيهما بأصالة عدم الاشتراك فالظاهر أنه الاستصحاب.
أما المورد الثاني: فلأنه لا وجه يتصور له فيه سواه.
وأما الثالث فلأن الظاهر ذلك وإن أمكن دعوى أنه الغلبة لكن الشأن في إثباتها.
هذا، ثم إن بعض مهرة الفن وهو الشيخ محمد تقي () قدس سره احتج على اعتبار الأصل في الموارد الثلاثة، بأنه مفيد للظن وهو حجة في اللغات.
ويتوجه عليه الإشكال صغرى وكبرى:
أما الأول فلأنه لا يفيد الظن في بعض المقامات أصلا سيما إذا كانت الشهرة على خلافه فإن خلافه مظنون حينئذ.
وأما الثاني فلأن اعتبار الظن مطلقا في اللغات يكاد أن يكون مخالفا للإجماع فكيف يمكن فيه دعوى الموجبة الكلية.
هذا مضافا إلى أنه لم يذهب أحد من العلماء إلى اعتبار الظن الفعلي في اعتبار الأصل المذكور في واحد من الموارد الثلاثة.
ومن هنا يظهر أنه قدس سره من منكري حجية الأصل المذكور. فافهم.
ومن الطرق العقلية إلى معرفة الوضع: الاستعمال المستمر،
ويقع الكلام فيه في موضعين:
الأول: في بيان الأقوال، والثاني: في تحرير محل النزاع.
أما الأقوال: فالمعروف منها ثلاثة:
الأول: أنه دليل على الحقيقة مطلقا وهو للسيد () قدس سره.
الثاني: عدمه مطلقا، بل الأصل فيه المجاز وهو المنسوب إلى ابن جني ().
الثالث: التفصيل بكونه دليلا عليها مع اتحاد المستعمل فيه، وبعدمه مع تعدده،
44

ونسبه المحقق القمي قدس سره إلى المشهور ()، ويظهر من استدلال السيد قدس سره ذلك أيضا، كما سنذكره.
لكن الذي نسب إليهم آقا جمال قدس سره، في حاشية العضدي [هو] () عدم كونه دليلا على الحقيقة () مطلقا، بمعنى أنه أعم، لا ما ذهب إليه ابن جني من كونه دليلا على المجاز، فتصير النسبتان متنافيتين.
وكيف كان فالظاهر وجود القولين المذكورين، وإن لم يعلم أن أيهما مشهور، فتصير الأقوال أربعة، فإن الذي يظهر من الشيخ () قدس سره أنه قائل بما نسبه آقا جمال قدس سره إلى المشهور كما ستعرف.
وأما النزاع فقيل أنه بين السيد قدس سره، وبين غير ابن جني فيما إذا تعدد المستعمل فيه، وأما مع اتحاده فالكل متفقون على كون الاستعمال دليلا على الحقيقة، ويظهر ذلك من احتمال السيد قدس سره على ما صار إليه في صورة تعدد المستعمل فيه حيث قال: وما استعمال اللفظ في معنيين إلا كاستعماله في معنى واحد، فإن الظاهر منه أن المخالفين له متسالمون لكونه دليلا في صورة الاتحاد.
هذا، لكن الظاهر أن النزاع عام لصورة الاتحاد أيضا، بل هو صريح كلام الشيخ قدس سره في العدة () في مبحث الأمر، حيث أنه ذكر - في طي استدلاله على نفي اشتراك الأمر بين الوجوب والندب: أن الاستعمال كما لا يكون دليلا على إثبات الحقيقة فيما إذا تعدد المستعمل فيه، كذلك لا يكون دليلا عليه فيما إذا اتحد، فان مرجع اعتباره حينئذ إلى عدم جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي المناسب للموضوع له قبل استعماله في الموضوع له.
نعم لو انحصر طريق تعليم الأوضاع في الاستعمال، فيكون دليلا عليه حينئذ لا محالة وليس كذلك. انتهى موضع الحاجة من كلامه بطريق النقل بالمعنى.
45

أقول: ويمكن منع ظهور كلام السيد قدس سره أيضا فيما ذكرنا لاحتمال أنه انما أثبت صورة الاتحاد بدليل، ثم قاس صورة التعدد عليها لجامع زعمه بينهما.
وكيف كان فنحن نسوق الكلام إلى كلتا الصورتين ونحقق ما هو المختار في البين.
فنقول: إن صورة الاتحاد تتصور على صور ثلاث:
الأولى: أن يعلم باستعمال اللفظ في معنى، مع العلم بعدم استعمال لهذا اللفظ قبل هذا الاستعمال في غيره.
الثانية: أن يعلم استعماله في معنى مع الشك في أصل الاستعمال قبله كذلك.
الثالثة: أن يعلم باستعماله في معنى الآن مع العلم باستعمال له قبله، لكنه يشك في اتحاد المستعمل فيه في الموضعين وتغايره، وهذا كما في لفظة ليلة القدر، فإنا نعلم أنها استعملت في ليلة النصف من شعبان، ونعلم أيضا أنها استعملت في معنى قبل استعمالها هذا، لكنا نشك في أن المستعمل فيه في الاستعمال القبلي، هو هذا المستعمل فيه الذي هو ليلة النصف من شعبان أو غيره.
إذا عرفت هذه فنقول: إن القاعدة الأولية في الصورة الأولى تقتضي ما ذهب إليه الشيخ قدس سره، لعين الدليل الذي ذكره. اللهم إلا أن يثبت اعتبار الاستعمال حينئذ بدليل وارد على تلك القاعدة وأنى لمدعيه بإثباته.
ولو قيل: نعم يمكن ما ذكر من سبق استعمال اللفظ في المعنى المجازي عليه بالنسبة إلى المعنى الموضوع له
بحسب العقل. لكنه نادر، إذ الغالب سبق إرادة الموضوع له من اللفظ فيتوجه عليه المنع صغرى وكبرى.
أما الأولى: فلأنا لم نطلع على حال الواضعين، ولم نرهم، ولم يصل إلينا أنهم سبقوا في استعمال اللفظ بالموضوع له.
وأما الثانية: فلأنه لا دليل على اعتبار تلك الغلبة إلا بناء العقلاء، وقد عرفت أنه على اعتبارها في موارد أصالة عدم النقل، ولا يجوز منه التعدي إلى غير مورده، لأنه أمر لبي لم يعلم وجهه حتى يتعدى إلى غير المورد، فيؤسس منه قاعدة كلية سارية في جميع الموارد.
وأما الصورة الثانية: فالكلام فيها ما مر في الأولى، لما عرفت من أن مآل النزاع
46

فيها إلى كون الاستعمال الابتدائي دليلا على الوضع وعدمه، وهذا بعينه جار في الثانية، غاية الأمر أن إحراز ابتدائية الاستعمال في الأولى بالقطع، وفي الثانية بأصالة عدم غير هذا الاستعمال المعلوم الآن في الأزمنة السابقة. فالكلام فيها الكلام ثمة والجواب الجواب.
وأما الثالثة: فحكمها أيضا كالأولى فإن الاستعمال الابتدائي يحرز فيها أيضا بالأصل فيجري فيها ما يجري ثمة فإنا - وإن علمنا فيها باستعمال اللفظ قبل هذا الاستعمال - لكن نقول: إن الأصل عدم معنى آخر لهذا اللفظ غير هذا المعنى، استعمل فيه اللفظ في هذا الاستعمال، فإذا ثبت اتحاد المستعمل فيه فيها بالأصل، فيثبت به ابتدائية الاستعمال أيضا، فان المراد بالاستعمال الابتدائي عدم سبق استعمال اللفظ في معنى على استعماله في هذا المعنى.
وحاصل الكلام في الصور الثلاث: أن مرجع النزاع في كلها إلى أن الاستعمال الابتدائي دليل على وضع اللفظ لما استعمل فيه ابتداء أولا، إلا أن ابتدائية الاستعمال في بعضها تثبت بالقطع وفي بعضها بالأصل.
ومرجع أدلة المثبتين إلى وجوه: منها، بناء العقلاء، ومنها، إجماع العلماء، ومنها، عدم جواز المجاز بلا حقيقة عقلا، أو لأن الغلبة على خلافها وهي تفيد الظن بالوضع.
والجواب عنها: عدم ثبوت بناء العقلاء، ولا إجماع العلماء، بل المعلوم خلافهم، لما عرفت من تصريح الشيخ () قدس سره بالمنع، وعدم قيام الدليل عقلا على امتناع المجاز بلا حقيقة.
نعم الممتنع هو المجاز بلا حقيقة الأبدي بأن لم يستعمل اللفظ في الموضوع له أبدا، لا قبل استعماله في المعنى المجازي، ولا بعده، لعدم الفائدة للوضع حينئذ فيكون لغوا.
أقول: في امتناع ذلك نظر، لإمكان أن يضع الواضع لفظا لمعنى، ولم يستعمله في الموضوع له، لكن كان غرضه من الوضع استعماله فيه، ثم استعمل أهل اللسان اللفظ أبدا في المعنى المجازي، لعدم احتياجهم إلى تفهيم الموضوع له. نعم ذلك نادر جدا بحيث يحصل القطع بعدمه غالبا، ومع احتماله فالظاهر أن بناء العرف على عدمه لبعده.
وأما غلبة استعمال اللفظ في الموضوع له قبل استعماله في غيره فهي ممنوعة، وعلى مدعيها الإثبات، وعلى فرض تسليم الصغرى، فنطالب بدليل الكبرى.
47

هذا، ثم إنه مثل المحقق القمي () رحمه الله للصورة الثالثة بلفظ ليلة القدر، كما أشرنا إليه آنفا.
لكن الظاهر أن التمثيل في غير محله، إذ الكلام فيما إذا كان اللفظ موضوعا لمعنى لغة، إذا كان المراد إثبات وضعه لما استعمل فيه لغة أو شرعا، إذا كان المراد إثبات وضعه له شرعا، ولا ريب أن ليلة القدر ليس لها وضع لا لغة، ولا شرعا، ودعوى ثبوت الحقيقة الشرعية فيما دونها خرط القتاد، بل هذه باقية على وضعها الإفرادي اللغوي، ولما أضاف سبحانه وتعالى الليلة ليراد به العهد فعلم أن المراد ليلة خاصة معهودة بينه وبين حججه عليهم السلام، لكنها مرددة بين ليال، هذا.
تنبيه: اعلم أن منع كون الاستعمال الابتدائي دليلا على الوضع، فيما إذا لم يحصل منه القطع، وأما إذا حصل منه ذلك، كما هو الغالب فيه وفي سائر الطرق إلى الوضع فلا يمكن منع حجية القطع. ووجه إفادته القطع غالبا أن الغالب أن تفهيم الأوضاع إنما هو بالترديد والقرائن أعني باستعمال اللفظ في الموضوع له، وتفهيم المخاطب بالقرائن، وأما تفهيمه بالتنصيص فهو قليل جدا فتلك الغلبة بحيث توجب القطع بالوضع غالبا، ولو فرض عدم إفادتها له في بعض الموارد فنلتزم بعدم الحجية كما مر.
ويرشد إلى ما ذكرنا استدراك الشيخ قدس سره بقوله: نعم لو انحصر طريق تفهيم الأوضاع في الاستعمال فيكون دليلا عليه.
ثم إن الثمرة بين القول بكون الاستعمال الابتدائي دليلا على الوضع إذا لم يفد العلم، وبين القول بعدمه - كما هو المختار - تظهر بالنسبة إلى الاستعمالات المتأخرة عن هذا الاستعمال، فعلى القول الأول: فهي مع تجردها عن القرينة محمولة على ما استعمل فيه اللفظ في هذا الاستعمال، وعلى الثاني: يتوقف، ويرجع إلى الأصول العملية حسبما يقتضيه المقام.
هذا كله إذا اتحد المستعمل فيه.
وأما إذا تعدد، فيقع الكلام في جهتين:
الأولى: في بيان حال المعنيين المستعمل فيهما اللفظ بالنسبة إلى غيرهما، من أن اللفظ حقيقة في المعنيين في الجملة؟ أو أن الموضوع له أمر ثالث لم يستعمل فيه اللفظ
48

بعد؟ وبعبارة أخرى في إثبات الوضع لأحدهما في الجملة قبال مجازية كليهما لثالث.
الثانية: في بيان حال خصوص كل من المعنيين بعد إثبات الوضع لأحدهما في الجملة.
فنقول: إن الحال في الجهة الأولى نظير الحال في صورة اتحاد المستعمل فيه، من عدم كون الاستعمال دليلا على الوضع لأن مرجع اعتباره حينئذ أيضا إلى عدم جواز المجاز بلا حقيقة، وقد عرفت ما فيه.
اللهم إلا ان يحصل القطع منه بالوضع لأحد المعنيين في الجملة فحينئذ ننقل الكلام فيه إلى الجهة الثانية.
وأما الجهة الثانية: فيتصور محل الكلام فيها على صور: فإن المعنيين اللذين استعمل فيهما اللفظ: إما أن يكونا من قبيل المتباينين، وإما أن يكونا من قبيل العام والخاص، وعلى الأول: إما ان يكون بينهما جامع، أولا، وعلى الثاني: إما أن يكون بينهما علاقة ظاهرة مجوزة للاستعمال مجازا أولا، فيصير الصور أربعا.
أما الأولى: وهي ما إذا كانا من قبيل المتباينين، وكان بينهما جامع فالأقوال فيها ثلاثة: الاشتراك اللفظي وهو للسيد () قدس سره واتباعه، والمعنوي وهو لأكثر المشهور المخالفين للسيد، والحقيقة والمجاز وهو لقليل منهم.
فنقول: إنه لا يخفى ما في أدلة كل واحد من الأقوال الثلاثة من الفساد، أما قول السيد قدس سره فلأن الدليل الذي ذكره إنما هو قياس صورة تعدد المستعمل فيه على صورة اتحاده، وقد عرفت ما في المقيس عليه، سيما مع انه مع الفارق، لما بينا من أن الاستعمال في صورة اتحاد المستعمل فيه يفيد العلم بالوضع غالبا، لكن فيما نحن فيه لا يحصل منه العلم بوضع اللفظ لكلا المعنيين.
نعم يحصل منه القطع بوضعه لأحدهما في الجملة غالبا، لكنه لا يثمر، إذ الكلام بعد فرض ثبوت الوضع لأحدهما كذلك.
وأما القول الثاني، فأقوى ما ذكروا له وجهان: الأول الغلبة، الثاني الأصول، لأن كلا من الاشتراك اللفظي والمجاز مخالف للأصل، أما الاشتراك اللفظي، فلأصالة عدم الوضع، وأما المجاز، فلأنه أكثر مئونة من الاشتراك المعنوي، فيكون الحوادث اللازمة
49

له أكثر بعد منع الأصل، لأن المجاز لا بد فيه من العلاقة، ومن ملاحظتها، ومن القرينتين، ومن ملاحظتهما. هذا بخلاف الاشتراك المعنوي، إذ لا بد فيه من قرينة معينة فحسب، ولا يحتاج بعد إلى علاقة ولا إلى ملاحظتها، ولا إلى قرينة صارفة، ولا إلى ملاحظتها، وهذا الوجه الأخير مذكور في شرح العميدي () على ما حكى عنه.
هذا، والجواب عن الأول من الوجهين: أنه لا معنى للغلبة المذكورة، كما صرح به شيخنا المرتضى قدس سره، إذ ما من حقيقة ومجاز إلا وبينهما جامع، فحينئذ يمكن تعكيس الغلبة ودعواها في جانب المجاز، فإن المجاز أكثر من الاشتراك المعنوي.
فإن قيل: إن المراد بالجامع هو القريب، لا كل ما يفرض بين المعنيين ولو كان بعيدا.
قلنا: ما من حقيقة ومجاز إلا وبينهما جامع قريب، لأن الجامع القريب ليس الا الجنس القريب، وهو تمام الحقيقة المشتركة بين الفردين، وما من معنيين بينهما جامع إلا أنه يفرض بينهما جامع قريب، لأن تمام مجمع اشتراكهما هو الجامع القريب.
ولو قيل: المراد بالجامع هو الذي يكون من الذاتيات، لا الأعم، ولا ريب أن أغلب المجازات ليس الجامع بينها وبين الحقائق إلا الأمور العارضة كالصفات.
قلنا: إنه لا ريب أن جميع المشتقات من الاشتراك المعنوي، مع أن الجامع الذي وضعت له إنما هو من الأعراض، وكذا المصادر، ولا ريب أن المصادر مع ما يشتق منها أغلب من بين أسماء الأجناس، فليس الغالب في الاشتراك المعنوي أن يكون بين المعنيين جامع من الأمور الذاتية بل الغلبة على خلافه.
وكيف كان فلا معنى لدعوى الغلبة المذكورة بوجه.
والجواب عن الوجه الثاني: أنه إن كان المراد بيان حال المعنى، وجعله محطا للنظر، مع قطع النظر عن الاستعمال الفعلي، كما هو ظاهر كلام السيد عميد الدين قدس سره، بأن يقال: إن ذلك المعنى لو كان اللفظ فيه مشتركا لفظا، أو مجازا، فيكون الحوادث اللازمة له على تقدير الاستعمال أكثر منا يلزمه من الحوادث اللازمة له مع كونه مشتركا معنى على تقديره (1) ففيه:
(1) منية اللبيب، مخطوط: في الفصل الثامن في تعارض الأحوال: في مقام عد وجوه الاعتراض على أولوية المجاز، وإليك نصه: الثاني: ان المجاز يتوقف على الوضع الأول، والنقل، والعلاقة، والمشترك لا يتوقف إلا على الأول منها وهو الوضع فكان أولى.
50

أنه.. لا يخفى أن القضية حينئذ تقديرية، والأصول لا تجري في القضايا التقديرية، لا في لوازمها، إذ لا يعقل نفي اللازم مع فرض ملزومه الذي هو العلة لاستحالة الانفكاك بينهما، ولا في ملزوماتها، لأنها فرض وجودها، ولا معنى لنفي الوجود الفرضي، ولم يدع وجودها فعلا حتى ينفى بالأصل.
وإن كان المراد بيان حال المعنى، مع فرض الاستعمال الفعلي للفظ، بأن يكون الغرض تعيين الاستعمال بالأصل، ثم تعيين المعنى تبعا لتعيين الاستعمال، فله وجه، لأنه ينقل حينئذ إلى قاعدة أخرى، وهي أنه إذا سقط الأصل في الملزوم فهو جار في لازمه، فإذا فرض فيما نحن فيه أن اللفظ استعمل في المعنيين، لكن لم يعلم أنه على سبيل الاشتراك اللفظي، أو الحقيقة والمجاز، أو على سبيل الاشتراك المعنوي، وأن الحوادث المخالفة للأصل على الاحتمال الأخير أقل منها على الأولين، فلا ريب أنه لا يجري في خصوص الاستعمال، لأنه في كل واحد من الاحتمالات معارض بمثله في الآخر، إذ كما يقال الأصل عدم الاستعمال على نحو الاشتراك اللفظي، أو المجاز، فكذلك يقال: الأصل عدم الاشتراك المعنوي فإذا سقط الأصل في الملزوم الذي هو الاستعمال، فيجري في لوازمه فيتعين بالأصل الاستعمال الذي هو أقل حادثا من غيره، فيصح تبعا حال المعنى من اشتراك اللفظ فيه معنى، لأنه الذي لو استعمل اللفظ - على تقديره - يكون أقل حادثا. هذا توجيه الوجه المذكور بناء على الاحتمال الثاني.
وفيه أنه مع تسليم الصغرى، أعني كون الاستعمال على تقدير الاشتراك أقل مئونة وحادثا منه على تقدير غيره، الكبرى مسلمة أعني جريان الأصول في اللوازم، والحوادث الزائدة على تقدير غيره، لكن الصغرى ممنوعة من وجهين:
الأول: ما ذكره صاحب المعالم (1) قدس سره، من أن المجاز على تقدير الاشتراك المعنوي أكثر منه على تقدير كون اللفظ حقيقة في أحد المعنيين ومجازا في الآخر، فإنه على التقدير الثاني منحصر في الواحد، وعلى الأول متعدد، لأن كل واحد من المعنيين المستعمل فيهما اللفظ يصير معنى مجازيا للفظ حينئذ، فيتعدد المجاز المخالف للأصل فيصير أكثر.
(1) قال صاحب المعالم: 45، فالتجوز اللازم بتقدير الحقيقة والمجاز أقل منه بتقدير المشترك لأنه في الأول مختص بأحد المعنيين وفي الثاني حاصل فيهما.
51

لكن فيه - مضافا إلى ما أورد عليه المحشون كالسلطان () وملا ميرزا (1) جان قدس سرهما - أن مبنى منع الصغرى المذكورة على إثبات تساوي الحوادث، من لوازم الاستعمال الفعلي الخارجي، لا من لوازم المعنى مع قطع النظر عنه، مع أنك قد عرفت أنه لو لوحظت هي مع نفس المعنى مجردا عن ملاحظة الاستعمال الفعلي، لا مجرى للأصل لا فيها، ولا في ملزوماتها الفرضية، ولا ريب أنه لا يلزم من تعدد المعنى المجازي أكثرية استعمال اللفظ مجازا بالنسبة إلى اتحاده، كما زعمه قدس سره، بل يمكن أكثرية استعمال اللفظ الذي له معنى مجازي واحد في ذلك المعنى المجازي، بالنسبة إلى استعمال اللفظ الذي له معان مجازية فيها مجازا، فلا وجه لمنع الصغرى المذكورة، بمجرد ملاحظة تعدد المعنى المجازي، على تقدير الاشتراك المعنوي، ودعوى أكثرية الحوادث المخالفة للأصل.
وان شئت قلت: إن المجاز كالحقيقة من صفات اللفظ فإنه هي الكلمة المستعملة في خلاف ما وضعت له، فاللفظ لا يتصف بكونه مجازا إلا بعد استعماله في خلاف ما وضع له، فإن الاستعمال مأخوذ في مفهومه، فيدور الأمر فيه - وجودا وعدما وكثرة وقلة - مدار ملاحظة الاستعمالات الخارجية للفظ في خلاف ما وضع له، لا على ملاحظة نفس المعاني المخالفة للموضوع له، ولا ريب أنه لا يلزم من تعدد المعنى المخالف للموضوع له تكثر استعمال اللفظ فيه، ليكون المجاز على تقديره أكثر منه على تقدير اتحاده، بل يمكن كون الاستعمال في المعنى المجازي المتحد أكثر من استعمال اللفظ الذي له معان مجازية فيها مجازا.
وكيف كان، فالمدار في الكثرة والقلة على ملاحظة الاستعمالات الخارجية المجازية، لا المعاني المجازية، فلا يلزم من تعددها - على تقدير الاشتراك المعنوي فيما نحن فيه - أكثرية المجاز، لتوقفها على أكثرية الاستعمال، وقد عرفت منع الملازمة بالنسبة إليها فلا وجه لقوله قدس سره: إن المجاز على تقدير الاشتراك المعنوي أكثر.
الوجه الثاني من وجهي المنع الذي ينبغي أن يعتمد عليه: أن المؤن والحوادث
(1) في حاشيته على المعالم المخطوط: عند قوله فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك إلخ قال في الحاشية هذا الحكم أعني كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى الكلي في خصوص الجزئي مجازا واضح عند من لا يقول إلخ راجع المعالم: 45.
52

اللازمة للاستعمال - على تقدير الاشتراك المعنوي - ليست بأقل منها على تقدير الحقيقة والمجاز، بل مساوية لها، لأنه كما لا بد في المجاز من تنزيل ذهن السامع عن إرادة الحقيقة بمرتبتين، بان ينبه أولا أن الحقيقة ليست بمرادة، وثانيا على أن المراد أي المعاني المخالفة لها، فلا بد فيه من قرينتين: إحداهما للتنبيه على المرتبة الأولى، وثانيتهما: للتنبيه على المرتبة الثانية، وقد يكتفي فيه للتنبيه على الأمرين بقرينة واحدة، فكذلك لا بد في الاشتراك المعنوي من تنزيله بمرتبتين أيضا لأن اللفظ موضوع للماهية المعراة عن ملاحظة خصوصية من الأفراد، فهو ظاهر فيها، فإذا أريد منه الفرد الخاص، فلا بد من التنبيه على أن المراد ليس هي بما هي، بل حصة [ما] وحصة [ما] فرد منها، ثم التنبيه على تعيين تلك الحصة المرادة من اللفظ، فلا بد للتنبيه على المرتبة الأولى من قرينة، نظير القرينة الصارفة في المجاز، وللتنبيه على الثانية من قرينة معينة نظير القرينة المعينة في المجاز، وقد يكتفى فيه أيضا بقرينة واحدة كما في المجاز.
فالحاصل أنه لا مزية للمجاز على الاشتراك المعنوي من وجه، إذ كل منهما يحتاج إلى قرينتين غالبا، وقد يكتفي في كل منهما بقرينة واحدة، فليس الاشتراك المعنوي أقل حادثا من المجاز.
ثم إن هاهنا تفصيلين في أصالة الاشتراك المعنوي وعدمها:
أحدهما: لبعض أكابر سادات علمائنا رضوان الله عليهم، ولعله إما السيد البغدادي، أو السيد محمد صاحب المفاتيح قدس سرهما، وهو أن اللفظ إن علم استعماله في القدر المشترك، فالأصل هو الاشتراك المعنوي، وإلا فالأصل كونه حقيقة في أحد المعنيين، ومجازا في الآخر، حذرا من المجاز بلا حقيقة.
وفيه: أنه مع تسليم الكبرى، لا يجدي التفصيل المذكور في شيء من الموارد المشكوكة، لعدم إمكان التمييز في صغرياتها، إذ كلما كان المراد واحدا من الخصوصيتين، فيحتمل فيه استعمال اللفظ في القدر المشترك، وإرادة الخصوصية من القرينة الخارجية بأن يكون من باب دالين ومدلولين ومطلوب واحد، ويحتمل فيه استعماله في نفس الخصوصية وإرادتها من حاق اللفظ.
وكيف كان، فلا يخفى أنه فرق واضح بين المجازات المباينة لحقائقها، وبين التي هي من أفراد الحقيقة، كما فيما نحن فيه، فإن سبيل إرادة المجاز منحصر في الأولى في استعمال اللفظ في نفس المعنى المجازي، وأما الثانية فلا، لإمكان استعماله في نفس
53

المعنى الحقيقي، وإرادة الخصوصية التي هي المعنى المجازي من الخارج، كما يمكن استعماله في المعنى المجازي أولا وبالذات، فإذا أطلق لفظ وأريد منه فرد من كلي، فيمكن أن يكون المعنى الحقيقي هو الكلي القدر المشترك، وأن اللفظ استعمل فيه في هذا الاستعمال أيضا، ويمكن بأن يكون المعنى الحقيقي خصوص ذلك الفرد، وأن اللفظ استعمل فيه بخصوصه، ولما لم يحرز فيها المستعمل فيه، فلا يعلم أنها من صغرى الشق الأول من التفصيل، ليحكم بالاشتراك المعنوي، أو أنها من صغرى الشق الثاني ليحكم بالمجاز، فلا بد حينئذ من التوقف.
والحاصل: أنه إذا لم يعلم باستعمال اللفظ - فيما نحن فيه - في القدر المشترك لا يعلم باستعماله في شيء من الخصوصيتين أيضا، إذ غاية الأمر القطع بإرادتهما من اللفظ، لكنها أعم من استعماله فيهما بخصوصهما، كما عرفت، فلا يتميز الشق الثاني من التفصيل في موضع، فتنتفي الثمرة.
نعم الشق الأول جيد، نقول به لأنه إذا علم باستعماله في القدر المشترك، فيكون حاله حال اللفظ المتحد المعنى بحكم الأصل، لأن المعلوم حينئذ هو استعماله فيه، وأما استعماله في شيء من الفردين فهو مشكوك إذ غاية الأمر إرادتهما منه، وقد عرفت أنها أعم، فيحكم بعدمه بحكم الأصل، فنقول: حينئذ الأصل هو الاشتراك المعنوي، لأنه لولاه لدار الأمر بين كون اللفظ مجازا في القدر المشترك باعتبار وضعه إما لإحدى الخصوصيتين أو لمعنى ثالث، وبين الاشتراك اللفظي بوضعه له أو لإحدى الخصوصيتين، أو لمعنى ثالث، وكلاهما خلاف الأصل.
أما الأول فينفيه أولا: لزوم المجاز بلا حقيقة الأبدي، فعدم استعمال اللفظ في غيره بحكم الأصل، لا قبل استعماله ولا بعده، مع أن احتمال كونه مجازا لمعنى ثالث خلاف الفرض، إذ المفروض دوران الأمر بين الاشتراك المعنوي وبين الحقيقة والمجاز فيما بين الخصوصيتين.
وثانيا: عدم جواز كون القدر المشترك مجازا لإحدى الخصوصيتين، إذ لا يجوز استعمال اللفظ الموضوع لمعنى في الأعم منه مجازا، ولم يعهد إلى الآن مثل هذا الاستعمال.
وما ادعي - من كون استعمال لفظ (المشفر) الموضوع لشفة البعير في مطلق الشفة الضخمة، من هذا الباب - مردود
54

بأنه من باب الكناية لا المجاز، وأنه مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو شفة البعير، وكونه مجازا لثالث منفي بالفرض.
وأما الثاني: فمع أنه خلاف الفرض ينفيه أصالة عدمه، لأن الحوادث اللازمة له المخالفة للأصل فيه أكثر منها على تقدير الاشتراك المعنوي.
الثاني: من التفصيلين ما اختاره شيخنا المرتضى دام ظله من أن اللفظ إن كان من المنقولات العرفية من معنى لغوي عام إلى معنى عرفي خاص، بسبب غلبة استعمال العرف لها في الخاص، وتردد الخاص المنقول إليه بين الخاص بالإضافة إلى المعنى المنقول منه، بأن يكون عاما في نفسه تحته جزئيات، وبين الأخص منه الذي هو أحد جزئياته أي جزئيات ذلك الخاص، مع استعمال العرف اللفظ في كل من الخاص والأخص، بأن أرادوا كلا منهما من هذا اللفظ، فالأصل وضعه عرفا للمعنى الخاص، وكونه هو المنقول إليه، لأن القدر المتيقن من استعمال اللفظ حينئذ إنما هو استعماله في الخاص وملاحظته في استعماله من حيث هو، وأما ملاحظة الأخص من حيث هو في استعماله غير معلوم، إذ غاية الأمر ثبوت إرادته من اللفظ لكنها أعم من ملاحظته في استعمال اللفظ فيه بالخصوص، وملاحظته فيه كذلك، لاحتمال أن يكون الموضوع له عند العرف الذي هو المنقول إليه الخاص، فاستعملوا اللفظ في الأخص من باب إطلاق الكلي على الفرد، وإرادة الخصوصية من الخارج من باب دالين ومدلولين ومطلوب واحد، وهذا الاحتمال منفي في استعماله في الخاص، بل ينحصر استعمال اللفظ فيه في ملاحظته بالخصوص، فإذا كان المتيقن استعماله في الخاص وملاحظته في الاستعمال وصارت ملاحظة الأخص مشكوكة فتنتفي ملاحظة الأخص بالأصل، فيصير اللفظ بمعونة ذلك الأصل من قبيل متحد المعنى، فيثبت أن الخاص هو المنقول إليه والموضوع له عرفا.
والحاصل: أن المفروض ثبوت النقل للفظ عند العرف، بسبب الاستعمال، وقد ثبت انحصار الاستعمال في الخاص بالأصل، فيلزم منهما أن الاستعمال المحصل للنقل إنما هو استعمال اللفظ في الخاص، فيثبت أنه المنقول إليه.
هذا كله فيما إذا كان المعنيان من قبيل المتباينين، وبينهما جامع.
وأما إذا كان من قبيل المتباينين، وليس بينهما جامع قريب، ولا علاقة ظاهرة فيتعين الاشتراك لفظا، فإن اللفظ بالنسبة إلى كل منهما من قبيل متحد المعنى، فلو لم
55

يكن حقيقة في كل منهما لزم المجاز بلا حقيقة الدائمي، لأن المفروض عدم العلاقة المجوزة للاستعمال المجازي بين المعنيين، فلا يجوز كون أحدهما مجازا للآخر، واستعماله في ثالث غير معلوم، فينفى بالأصل، فلا بد من كونه حقيقة في كل منهما حذرا من المجاز بلا حقيقة الأبدي، لما قد عرفت سابقا، من أن المجاز بلا حقيقة الذي نجوزه إنما هو بالنظر إلى بدو الاستعمال، لا غير.
وأما إذا كانا من قبيل المتباينين وبينهما علاقة، فهي إما مجوزة لاستعمال اللفظ في أحدهما خاصة مجازا، كما في الماء والميزاب حيث إن بينهما علاقة المجاورة، لكنها مجوزة لاستعمال الميزاب في الماء مجازا دون العكس، وإما مجوزة لاستعمال اللفظ مجازا باعتبار فرض كونه موضوعا لواحد منهما في واحد منهما، بمعنى أنه يصح بسببها الاستعمال في هذا المعنى مجازا على فرض وضعه للمعنى الآخر، وبالعكس.
أما الصورة الأولى: وهي ما إذا كانت العلاقة مصححة للمجاز من جانب واحد فالأقوال فيها ثلاثة: الاشتراك، وهو للسيد قدس سره واتباعه، الحقيقة والمجاز وهو للمشهور، التوقف وهو للآخرين، ومع ملاحظة قول ابن جني تصير أربعة، لكنه لما كان جاريا في جميع صور مسألة الاستعمال، فنفرد البحث فيه بالخصوص في آخر المسألة ونذكره تفصيلا بما يرد عليه من الإشكال، إن شاء الله.
فإذا عرفت الأقوال: فاعلم أن تحقيق الحال فيها، من وجوه ثلاثة:
الأول: بالنظر إلى الاستعمال، كما هو المقصود الأصلي، ومحل إن قيل أو يقال بين السيد والمشهور.
الثاني: بالنظر إلى الأصول بعد فرض عدم كون الاستعمال دليلا.
الثالث: بالنظر إلى قاعدة الأخذ بالمتيقن بعد فرض عدم جريان الأصول، أو سقوطها بالتعارض. فلنقدم الكلام بالنسبة إلى الوجهين الأخيرين لقلته فيهما بالنسبة إلى الأول.
فنقول: إن الذي يمكن أن يقال للمشهور بالنظر إلى الأصول: إن القرينة في الصورة المفروضة لا بد منها مطلقا، إذ على تقدير الاشتراك لا بد من قرينة معينة، وعلى تقدير المجاز لا بد من صارفة لا محالة، فنفس القرينة متيقنة الوجود بحكم الفرض، لا يجدي فيها الأصل، ولا ريب أن تلك القرينة المتيقنة الوجود يلزمها أمران حادثان مطلقا: أحدهما: ملاحظتها، والآخر الاعتماد عليها، فلا يجوز التمسك على أحد التقديرين
56

بالأصل، لمعارضته بمثله على التقدير الآخر، فنفيهما مطلقا مخالف للعلم الإجمالي، أو على أحد التقديرين خاصة ترجيح بلا مرجح.
وبالجملة فأصالتا عدم الملاحظة، وعدم الاعتماد على كل واحد من التقديرين معارضتان بمثلهما على التقدير الآخر، فيتساقطان عن الجانبين كليهما، فحينئذ يرجع إلى أصالة عدم الوضع بالنسبة إلى موارد الشك لسلامتها عن المعارض.
فحاصل الاستدلال يرجع إلى دعوى أكثرية الحوادث اللازمة للاشتراك بالنسبة إلى اللازمة للمجاز فيتعارض الأصول مع الجارية في الأول للجارية في الثاني في مقدارها أي في مقدار الجارية في الثاني، فيبقى الزائد عن هذا المقدار، وهو أصالة عدم الوضع سليما عن المعارض، فيثبت به المجاز. هذا ما فهمه عقلي القاصر، واختلج بالنظر الفاتر، وإنما قدمته على ما أفاده الأستاذ - دام عمره - من التوجيه حذرا من فوت التأخير المؤدي إلى الذهول. والله المستعان والله المأمول.
واما هو دام ظله فوجهه أيضا بما يرجع إلى سلامة الأصل في نفي الوضع، لكون الاشتراك أكثر حادثا، لكنه فرض الحادثين اللازمين على كل واحد من التقديرين غير ما ذكرنا، قال: إنه يلزم على كل من التقديرين حدوث أمرين.
أما على تقدير المجاز، فإنه لا بد فيه من ملاحظة المستعمل العلاقة بين المعنيين، ومن اعتماده عليها في تفهيم المخاطب، وأما على تقدير الاشتراك، فلا بد من ملاحظة الوضع ومن اعتماده عليه في تفهيم المخاطب، فالأصل فيهما بالنسبة إلى كل واحد من التقديرين معارض بمثله في الآخر منهما، فيبقى الأصل في نفي الحادث الزائد على تقدير الاشتراك على الحوادث اللازمة على تقدير المجاز، وهو الوضع بالنسبة إلى مورد الشك سليما عن المعارض، فيثبت به المجاز.
ثم قال: هذا غاية ما يوجه عليه مذهب المشهور.
أقول: الإنصاف أنه مع ملاحظة ما قدمنا من التوجيه، فهذا الذي ذكره دام ظله بما يرد عليه من الإشكالات والإيرادات الآتية التي أوردها هو عليه ليس غاية التوجيه لمذهبهم، لسلامة ما قدمنا عن كثير منها هذا، مع أنه يرد عليه مضافا إلى ما سيأتي أن فرض جريان الأصل بالنسبة إلى ملاحظة الوضع والاعتماد عليه، وإلى ملاحظة العلاقة والاعتماد عليها مما لا وجه له، للقطع بعدم تعدد ملاحظة المستعمل عند استعماله الوضع أو العلاقة وبعدم اعتماده على شيء منهما.
57

أما عدم ملاحظته الوضع وعدم اعتماده عليه بالنسبة إلى الألفاظ المتحدة المعاني في غاية الوضوح، لأن كل متكلم بلسان إذا كان من أهله، فهو يتكلم على مقتضى جبلته بحيث لا يلتفت إلى الوضع ولا يعتمد عليه بوجه.
وبعبارة أخرى: أنه إذا كان في مقام تفهيم المخاطب المعنى الموضوع له اللفظ، فهو يعتمد على مجرد اللفظ، لرسوخ الوضع في أذهانهم وارتكازه فيها بحيث صار اللفظ بسببه دالا على المعنى بجوهره بزعم المتكلم والمخاطب، فيطلق اللفظ من غير التفات إلى الوضع، ولا من اعتماده عليه. وأما بالنسبة إلى الألفاظ المشتركة، فكذلك أيضا لحضور جميع المعاني من اللفظ المشترك عند ذهن السامع المخاطب حين إطلاق اللفظ بحيث إنه بجوهره دال عليها بالدلالة التصورية بزعم المتكلم، والمخاطب، لكن لما كان المراد حينئذ مجملا، فالمتكلم يلاحظ شيئا صالحا لكونه معينا ومبينا له فينصبه، ويعتمد عليه في تفهيم المخاطب المراد، وليس هذا اعتمادا على الوضع، بل على القرينة.
هذا، وسيأتي الاعتراف منه - دام ظله - في الإيرادات الآتية بما ذكرنا من عدم ملاحظة الوضع وعدم الاعتماد عليه.
وأما عدم ملاحظة العلاقة، وعدم الاعتماد عليها، فوجه المنع في أولهما أن ملاحظة العلاقة ليست ملاحظة مستقلة غير ملاحظة المعنى المجازي، بل الملاحظة الواحدة تتعلق بالمعنى المجازي المشتمل على تلك العلاقة، بحيث تنحلان عند العقل إلى أمرين، مثلا إذا استعمل أحد لفظ الأسد في الرجل الشجاع، فلا ريب أنه يلاحظ مرة واحدة هذا المفهوم، لا أنه يلاحظ أولا الرجل ثم الشجاعة.
وكيف كان، فالتعدد في متعلق الملاحظة على تسليم أن المنحل إلى أمرين عند العقل متعدد، لا في نفسها، فإذا علم أن الملاحظة واحدة، وعلم أيضا تعلقها بالمعنى المشكوك الحال، فلا مجرى للأصل فيها بوجه لتيقن وجودها. فتأمل.
وأما وجه المنع في ثانيهما، فهو أوضح من أن يذكر، إذ لا ريب أن المتجوز اعتماده على القرينة لا غير، إذ مجرد وجود العلاقة لا يكفي في انتقال المخاطب إلى مراد المتكلم، ولا ملاحظتها، بل لا بد من ملاحظة قرينة تصلح لتعيين المعنى المجازي، فيعتمد عليها في تفهيم المخاطب.
وكيف كان، فلا بد فيما نحن فيه من قرينة، إما معينة أو صارفة لا محالة، والملحوظ المعتمد عليه في تفهيم المخاطب هذا لا غير.
58

هذا، ثم إنه دام ظله قد أورد على ما وجه عليه مذهب المشهور بوجهين: فقال الأول:
إنه لا يجب ملاحظة الوضع، ولا الاعتماد عليه من المتكلم، إذا كان من أهل اللسان لما ذكرنا سابقا من ارتكاز الوضع في أذهانهم، تقدير الاشتراك لا يلزم إلا حادث واحد، وهو الوضع، فحينئذ يقع التعارض بين أصالة عدمه وبين أصالتي عدم ملاحظة العلاقة، وعدم الاعتماد عليها، فلا يثبت المجاز، فلا بد من التوقف. وإنما لاحظنا التعارض بين أصالة عدم الوضع، وبين كلتا أصالتي عدم ملاحظة العلاقة، وعدم الاعتماد عليها، لأن ملاحظتها والاعتماد عليها من قبيل اللازم والملزوم، إذ الثانية ملزومة للأولى، فالأصل في كلتيهما بمنزلة أصل واحد، فلا يجوز أن يقال: إنه على تقدير المجاز يلزم حادثان، ملاحظة العلاقة والاعتماد عليها، فأصالة عدم أحدهما تعارض أصالة عدم الوضع، فيبقى الأصل في الآخر سليما عن المعارض فيثبت به الاشتراك.
فان قيل: الشك في ملاحظة العلاقة والاعتماد عليها مسبب عن الشك في وضع اللفظ لمورد الشك، فيكون أصالة عدم الوضع مزيلا، وحاكما على أصالتي عدم ملاحظة العلاقة، وعدم الاعتماد عليها، فيثبت المجاز.
قلنا: إن هذا توجيه لمذهب المشهور بما لا يرضون به، لتجويزهم استعمال اللفظ المشترك في أحد معنييه مجازا بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى الآخر، ولا منافاة عندهم بين الوضع وبين ملاحظة العلاقة والاعتماد عليها في الاستعمال، فإذن لا سببية للوضع بالنسبة إلى ملاحظة العلاقة بوجه، لا نفيا ولا إثباتا.
نعم بناء على ما اخترنا سابقا، من عدم جواز استعمال اللفظ المشترك في أحد معنييه مجازا، فالشك في ملاحظة العلاقة، والاعتماد عليها مسبب عن الشك في الوضع بالنسبة إلى مورد الشك، إذ على فرض ثبوته لا يجوز ملاحظتها، ولا الاعتماد عليها، إلا أن السببية اتفاقية ناشئة عن العلم الإجمالي بعدم خلو الواقعة عن أحد الأمرين، إما الوضع، وإما ملاحظة العلاقة والاعتماد عليها، لا ذاتية، وقد مر أنه لا يحكم الأصل في مثله على الأصل فيما يسبب عنه.
الوجه الثاني: أن كل متكلم إذا كان غرضه إفادة مطلبه من دون غرض زائد فهو يتكلم بمقتضى الوضع بمعنى أنه يؤدى مطلبه بلفظ دال عليه بالوضع، ولا يصير إلى تأديته بطريق المجاز، إلا فيما إذا كان له غرض زائد على مطلبه من الأغراض البديعية، فإذا كان غرضه بيان أن الرجل الشجاع قد رمى، فلا يعدل عن تلك العبارة الدالة على مطلبه بالوضع
59

إلى قوله: رأيت أسدا يرمي، وإنما يصير إليها إذا كان له غرض زائد على إفادة المطلب المذكور من الأغراض البديعية، فمرجع الشك فيما نحن فيه إلى أن المتكلم كان في مقام بيان المطلب فحسب، أو كان له غرض زائد فيترتب على الاحتمال الأول، كون الاستعمال على سبيل الحقيقة، وكون اللفظ موضوعا لمورد الاستعمال، وعلى الثاني، كونه مجازا في وضعه لغير مورد الاستعمال فيكون طرفا الشك الوضع، والغرض الزائد، ولا ريب أنه لا يجري الأصل في شيء منهما، لمعارضته في كل منهما بمثله في الآخر، ولا سببية لأحدهما أيضا، ليكون حاكما على الآخر كما مر، فيسقط الأصل فيهما، فحينئذ ينتقل إلى قاعدة أخرى وهي جريان الأصل في اللازم مع سقوطه في الملزوم، وقد مر أنه لا لازم للوضع من ملاحظة أو اعتماد عليه كما مر، وأما الغرض الزائد فيلزمه أمران حادثان: ملاحظة العلاقة، والاعتماد عليها، إذ ليس المعاني المجازية كالحقيقية في عدم الاحتياج فيها إلى الأمرين المذكورين إذ الاستعمال المجازي على خلاف جبلتهم والمركوز في أذهانهم، والخروج عن مقتضاها لا يكون إلا بملاحظة العلاقة والاعتماد عليها، فيجري الأصل فيهما لسلامته عن المعارض، فيثبت الاشتراك.
هذا، لكن الإنصاف عدم جواز الاعتماد على مثل تلك الأصول - في مطلب من المطالب، لأنها من الأصول البعيدة التي لا يعتني بها العقلاء.
هذا مضافا إلى أنه لم يقل أحد بأصالة الاشتراك، حتى السيد رحمه الله إلا أنه قائل به من جهة زعمه الاستدلال () دليلا واردا، لا من جهة أن الأصل ذلك، كما مرت الإشارة إليه سابقا، وحينئذ فالوجه في المسألة بالنظر إلى الأصول التوقف.
وأما قاعدة الأخذ بالمتيقن المعبر عنها بالأصل التوقيفي فهي لا تقتضي مجازية اللفظ بالنسبة إلى مورد الشك، فلا بد من التوقف عليها أيضا.
هذا كله فيما إذا كانت العلاقة بين المعنيين مصححة للمجاز من جانب واحد.
وأما إذا كانت مصححة له من الجانبين، فالكلام فيه أيضا ما مر.
والمختار فيه أيضا التوقف، بل هذا أولى به من سابقه، لعدم العلم بوضع اللفظ لأحد المعنيين بالخصوص، فعلى تقدير أصالة المجاز - أيضا - لا بد من التوقف للجهل بالحقيقة.
ثم إن جميع ما ذكرنا إلى هنا من الكلام - في الصور المذكورة - إنما هو فيما إذا لم يعلم
60

بحقيقة ثالثة للفظ بالنسبة إلى مورد الاستعمال، بأن ثبت أن حقيقته منحصرة في مورد الاستعمال، إما بالقطع، أو بالأصل.
وأما إذا علم بحقيقة له غير ما استعمل فيه، فالحال فيه هو الذي ذكرنا في اللفظ المستعمل في المتعدد، المعلوم وضعه لأحدهما، فإنه يفرض مورد الاستعمال معنى واحد إقبال الحقيقة الثالثة، واحدا كان أو متعددا، فيجري فيهما ما جرى من الأقسام المذكورة للصورة المذكورة من كون مورد الاستعمال مباينا للحقيقة المذكورة، أو كونهما فردين من كلي، أو كون أحدهما عاما والآخر خاصا منه، وعلى فرض تباينهما من كونهما مما لا علاقة بينهما بوجه، أو كانت في الجملة، وهكذا إلى آخر الصور، فيجري في كل واحدة حكمها الذي ثبت لها مع عدم الحقيقة الثالثة.
نعم إن بعض الصور المفروضة حكمه نظري، لا يعلم بالمقايسة، لفقد فرضه في المقيس عليه، وذلك البعض ما إذا كانت الحقيقة المذكورة مجهولة الكيفية بحيث لا يعلم أن بينها وبين مورد الاستعمال علاقة مصححة للمجاز أولا، إما بعدم العلم بعلاقة أصلا، وإما بعدم العلم بكيفيتها من كونها من العلائق المصححة وعدمه.
فنقول: الحكم حينئذ حكم اللفظ المستعمل في معنيين لا علاقة بينهما، فالقائل بأصالة المجاز لا يجوز له المصير إليه حينئذ لعدم إحراز شرطه، مضافا إلى أن الأصل عدمه.
وأما إذا كان اللفظ مستعملا في معنيين، وكان أحدهما أعم من الآخر، فقد حكم صاحب الفصول (قدس سره) بكونه موضوعا للأعم، ودخول الخاص فيه حيث قال () حينئذ: إن المعتبر هو المفهوم الأعم لأصالة الحقيقة
المجردة عن المعارض، فإن أصل الاستعمال ثابت، والكلام في تعيين مورد الوضع، فينهض ظاهر الاستعمال دليلا على تعيين الأعم.
ويؤيده أصالة عدم ملاحظة الخصوصية، حيث يتوقف ملاحظة الخاص على ملاحظته، كما لو ترددنا بين أن تكون أداة الاستثناء موضوعة لخصوصيات مطلق الإخراج، أو إخراج الأقل فقط، فيرجح الأول. انتهى موضع الحاجة من كلامه (قدس سره).
نقول في كلامه موقعان للنظر:
الأول: قوله: ويؤيده أصالة عدم ملاحظة الخصوصية، لأنه إذا دار الأمر بين وضع اللفظ للعام أو للخاص - كما هو محل الكلام - لا يجوز تعيين الوضع في العام بهذا الأصل، إذ
61

لا ريب أن كل أحد إذا أراد أن يجعل حكما لموضوع، فهو إنما يتصور هذا الموضوع بعنوان البساطة، وإن انحل عند العقل إلى أجزاء، لا أنه يلاحظ أجزاءه العقلية، فيكون العام والخاص - حينئذ - من قبيل المتباينين لا يجوز تعيين أحدهما بالأصل.
نعم يجوز التعويل على هذا الأصل في موارد أصالة البراءة - في تعيين تعلق التكليف بما هو أقل جزء - من الأجزاء العقلية أيضا، كالتمسك به في تعيين تعلقه بما هو أقل من حيث الأجزاء الخارجية - على مذهب من يرى أن حكم العقل بالبراءة مبني على نفي الكلفة الزائدة مطلقا - ولا ريب أن الخاص أكثر كلفة في مقام الامتثال من العام للتوسعة فيه بإتيانه في ضمن أي فرد شاء.
وأما على مذهب من يرى اختصاصه بالكلفة الناشئة عن الأجزاء الخارجية فلا.
نعم لو كان مراده التمسك بالأصل في نفي الخصوصية الزائدة بالنظر إلى الاستعمال، نظير ما مر من شيخنا - دام ظله - في التفصيل الذي اختاره فهو متجه.
الثاني من موقعي النظر، قوله: - كما لو ترددنا بين أن تكون أداة الاستثناء موضوعة لخصوصيات مطلق الإخراج، أو إخراج الأقل فقط فيرجح الأول - لأن التنظير في غير محله، إذ ليس الأمر في أداة الاستثناء دائرا بين كونها موضوعة لمطلق الإخراج الذي هو العام، وبين كونها موضوعة لإخراج الأخير فقط، الذي هو الخاص، ليكون من قبيل ما نحن فيه، بل الأمر فيها عند المحققين المتأخرين دائر بين الاشتراك اللفظي التفصيلي وبين الاشتراك الإجمالي المعبر عنه بالوضع العام والموضوع له الخاص، وبين الحقيقة والمجاز، ولما كان الأول والثالث على خلاف الأصل فيرجحون الثاني.
نعم التنظير متجه على مذهب القدماء، حيث إن الأمر فيها عندهم دائر بين كونها موضوعة لمطلق الإخراج، وبين كونها موضوعة لإخراج الأخير فقط، لكنه (قدس سره) ليس منهم، فهذا التنظير لا يناسب مذهبه، حيث إنه من المتأخرين، مع أنه فرض الأمر فيها دائرا بين الاشتراك الإجمالي، وبين الحقيقة والمجاز، بوضعها للإخراج من الأخير، وكونها مجازا في غيره، ولا ريب أن اشتباه الحال في أدوات الاستثناء ليس لأجل اشتباه حال الاستعمال، بل لأجل اشتباه فعل الواضع، بأنه هل لاحظ في وضعها الأمر الكلي فوضعها لخصوصياتها؟ أو لاحظ الأمر الخاص فوضعها له فقط؟ وإلا
62

فيها هي الخصوصيات بخصوصياتها على جميع الأقوال، فيكون التنظير في غير محله.
هذا، ثم إن الإنصاف عدم ورود الإشكال الأول لأن الظاهر منه في موضع آخر بعد ذلك الموضع جريان الأصل المذكور، من حيث ملاحظة الخصوصية من جهة الاستعمال، حيث قال فيما إذا استعمل اللفظ في معان: أنه قد يفصل في المقام بين ما إذا كان أحد المعاني أعم من الباقي، وبين غيره، فيختار في الأول أن معناه الحقيقي هو المعنى الأعم، لأنه لو كان حقيقة في غيره فقط، أو في الجميع، لزم المجاز أو الاشتراك، وكل منهما مخالف للأصل. وأما إذا كان حقيقة في الأعم كان حقيقة في الجميع. ثم قال (قدس سره) وهذا التعليل، وإن قرره المفصل فيما إذا استعمل اللفظ في معان أحدها القدر المشترك بين بقية المعاني، لكنه يجري أيضا فيما إذا استعمل اللفظ في معنيين، وكان أحدهما أعم من الآخر، ولم يعلم كونه موضوعا لأحدهما بخصوصه كما قررنا.
ثم قال: والتحقيق عندي أنه إن تبين استعمال اللفظ في الخاص من حيث الخصوصية، فوضعه للعام، أو القدر المشترك، غير واقع للمجاز والاشتراك - إن صح التعويل على أمثال هذه التعليلات في معرفة الموضوعات - وإن لم يعلم الاستعمال كما هو الغالب، يرجع إلى متحد المعنى، لأن اللفظ إذا وجد مستعملا في معنى، ثم شك في استعماله في معنى آخر، يبنى على أصالة عدم التعدد، وقد عرفت أن اللفظ إذا كان متحد المعنى تعين حمله على الحقيقة. انتهى كلامه (قدس سره) وهذا كما ترى صريح فيما ذكرنا.
وكيف كان، فالحق في المقام - أعني في دوران الأمر بين كون اللفظ موضوعا للعام، أو للخاص - هو التفصيل الذي ذكره (قدس سره) لما ذكره من الدليل.
فإذا عرفت ذلك كله، فلنأت بأدلة الأقوال في مسألة الاستعمال.
فنقول: أما حجة المشهور: الأصل نفي حجية الاستعمال، لعدم الدليل عليها، وعملهم على الأصل في جميع موارد الاستعمال، وقد عرفت موارده، وصوره، واقتضاء الأصل في كل منهما من أنه يختلف بحسب الموارد، فقد يكون مقتضاه موافقا للاستعمال، وقد يكون مخالفا كما عرفت تفصيلا.
وأما حجة السيد المرتضى وجوه ثلاثة:
الأول: دعوى سيرة الناس جميعا على استعلام اللغات من الاستعمالات، فإن كل أحد إذا لم يكن من أهل لسان، فأراد استعلام ذلك اللسان، فهو يستعلم من
63

استعمالات أهل اللسان مطلقا، سواء كان اللفظ مستعملا في معنى واحد أو في المتعدد.
الثاني: قياس متعدد المعني - الذي هو محل النزاع - بمتحده.
الثالث: غلبة استعمال الألفاظ فيما وضعت لها.
وحجة ابن جني غلبة المجازات في كل لفظ على حقائقه، فيلحق المشكوك بالغالب.
ولا يخفى ما بين دعوى الغلبتين، من التنافي بالنسبة إلى موارد استعمال اللفظ، فإن الأولى تقتضي كون الاستعمال على وجه الحقيقة، والثانية تقتضي كونه على وجه المجاز.
واحتج المفصل في كون الاستعمال دليلا على الوضع بين متحد المعني، وبين متعددة، بكونه دليلا في الأول، دون الثاني.
أما على كونه دليلا في الأول، بما استدل به السيد المرتضى (قدس سره) في متحد المعنى، من أصالة الحقيقة السليمة عن المعارض.
وأما على عدم كونه دليلا في الثاني، لمعارضتها بأصالة عدم وضع آخر، فإن القدر المتيقن منه الوضع الواحد لأحد المعنيين، فإما الوضع الأخر للآخر فهو مشكوك، فالأصل عدمه، فيعارض هذا أصالة الحقيقة في المعنى
المشكوك، فحينئذ لا يكون الاستعمال دليلا لسقوط دليل اعتباره عن الاعتبار بالمعارضة. هذا بخلاف متحد المعنى، فإن الوضع الواحد هناك معلوم، لا يجوز نفيه بالأصل، فأصالة الحقيقة سليمة عن المعارض، فيثبت بها كون الاستعمال على وجه الحقيقة، فيثبت به الوضع. هذه أدلة الأقوال.
إذا عرفت هذه، فاعلم أن الحق عدم كون الاستعمال دليلا على الوضع مطلقا وفاقا للمشهور كما مر، لعدم الدليل عليه، لأن أدلة الأقوال المذكورة ليس شيء منها سليما عن المناقشة.
أما أدلة السيد (قدس سره) فالجواب عن أولها: أنا سلمنا استقرار السيرة على استعلام اللغات من الاستعمالات، لكنا لم نعلم بعد بناء الناس على الأخذ بظاهر الاستعمال إذا لم يكن قطعيا، كما هو المدعى، بل الظاهر أن استعلامهم منها لأجل أنها تفيد القطع بالوضع غالبا، سيما إذا كانت مستمرة، حتى في متعدد المعنى، وأما إذا لم يحصل منها القطع، فلم يعلم أخذهم بظاهرها - حينئذ - حتى في متحد المعنى.
64

وعن ثانيها: فأولا: بمنع الحكم في المقيس عليه كما عرفت.
وثانيا: بأن هذا قياس ولم يقل أحد باعتباره.
وعن ثالثها: فأولا: بمعارضته لما ادعى ابن جني من الغلبة المنافية له كما عرفت.
وثانيا: بأنه إن كان المراد بالغلبة غلبة استعمال الألفاظ في المعاني الحقيقية في الاستعمالات المجردة عن القرينة، فهي مسلمة، لكنها لا تجديه، لأن الكلام فيما نحن فيه فيما إذا استعمل في معنيين، وعلم المراد بالقرائن، وشككنا في أن المتكلم هل لاحظ في هذا الاستعمال الوضع، أو لاحظ القرينة؟ وبالجملة فالغلبة المذكورة - حينئذ - غلبة خاصة لصنف خاص، فلا توجب إلحاق المشكوك من صنف آخر بحكم أفرادها الغالبة، وإن كان المراد غلبته في الاستعمالات المحفوفة بالقرائن فهي ممنوعة.
وثالثا: أن هذا استدلال بغلبة الحكم في تشخيص الموضوع في الشبهة الموضوعية، ولا ريب أنه لا يثبت بها اندراج الفرد المشكوك بالغالب.
بيانه: إن غلبة الحكم هي أن تجد غالب الأفراد على صفة، وتشك في فرد آخر، من جهة اتصافه بذلك الحكم والصفة، كأن تجد غالبا تمر البصرة مثلا على صفة الحمرة، وتشك في فرد آخر من التمر، من جهة اتصافه بصفة الحمرة وعدمه، فحينئذ إن علم ماهية ذلك الفرد المشكوك الصفة، بأن علم أنه تمر بصري أيضا بأمارة خارجية من غلبة الموضوع، كأن يكون الغالب في التمر أيضا بصريا، فيلحق الفرد المشكوك الصفة أولا بتمر البصرة، ويحرز كونه بصريا بذلك أو بأمارة أخرى غير الغلبة، فحينئذ يجوز التمسك بغلبة الحكم في إثبات حكم الأفراد الغلبة من تمر البصرة من الحمرة للفرد المشكوك الصفة.
وبعبارة أخرى، التمسك بغلبة الحكم على ثبوت ذلك للفرد المشكوك الحكم، إنما يصح إذا كان الشك في حكم الفرد ناشئا من الشك في ثبوت الحكم المذكور للكلي المشترك بينه وبين الأفراد الغالبة، مع إحراز ماهية الفرد المشكوك الصفة، بأن علم اتحاده بالأفراد الغالبة في الماهية المشتركة بينها، لكن وقع الشك في أن صفة، الحمرة في المثال المذكور، هل مختصة بالأفراد الغالبة؟ أو أنها ثابتة للماهية المشتركة بينها وبين ذلك الفرد؟ فيثبت لذلك الفرد أيضا، لوجود الماهية في ضمنها أيضا، فحينئذ يحكم بمقتضى الغلبة قطعا، إن أفادته، دون القطع، بثبوت الحكم المذكور
65

للفرد المشكوك الصفة.
والسر في ذلك، أنه يحصل بملاحظة ثبوت الحكم للأفراد الغالبة ملازمة قطعية، أو ظنية، بحسب قوة الغلبة، وضعفها، ما بين ثبوته لها - أي للأفراد الغالبة - وما بين ثبوته للفرد المشكوك الحكم، فإنه إذا حصل ثبوته لغالب الأفراد يحصل لك القطع، أو الظن بثبوته للكلي المشترك بينها بما هو هو، فيلزمه ثبوت الحكم للفرد المشكوك قطعا، أو ظنا، لوجود الماهية المذكورة في ضمنه أيضا.
وأما إذا كان منشأ الشك في حكم الفرد، هو الشك في ماهيته، بأن لا يعلم أنه مندرج في أي نوع، وماهية من الماهيات، فلا يجوز التمسك بغلبة الحكم الثابت للأفراد الغالبة من ماهية على ثبوته لذلك الفرد المشكوك الذي لم يحرز بعد كونه فردا من تلك الماهية، ولا على كون ذلك الفرد من تلك الماهية، واندراجه فيها، ليثبت له الحكم بالملازمة، لعدم حصول الملازمة - حينئذ - بين ثبوت الحكم للأفراد الغالبة من ماهية، وبين ثبوته للفرد المشكوك، الذي لم يحرز كونه من تلك الماهية، ولا اندراجه في الماهية المذكورة بوجه لا قطعا، ولا ظنا، وإن بلغت الغلبة المذكورة إلى حد لم يوجد لها فرد مخالف مثلا إذا شككت في حمرة تمر من جهة الشك في كونه تمرا بصريا، لا يجوز التمسك بغلبة الحمرة - في تمر البصرة - على ثبوتها لذلك الفرد، ولا على اندراجه تحت نوع تمر البصرة، إلا أن يكون على تعين ماهيته أمارة أخرى، كأن يكون الغالب في التمر أيضا كونه بصريا، فتحرز بتلك الغلبة الموضوعية ماهية ذلك الفرد، وهو كونه بصريا فتنفع الغلبة المتقدمة لحصول الملازمة حينئذ على أحد الوجهين.
وبذلك أجاب شيخنا المرتضى دام ظله، عن البادري في مسألة النبوة، في مبحث الاستصحاب، حيث أنه احتج على انقطاع نبوة نبينا صلى الله عليه وآله، بأن الغالب في الأنبياء كون نبوتهم محدودة بمقدار من الزمان، ونشك في أن محمدا صلى الله عليه وآله أيضا كذلك، أو أن نبوته دائمية، فيلحق بالغالب، فيحكم بالانقطاع بنبوته.
فأجاب دام ظله بأن هذا استدلال بغلبة الحكم في تعيين الموضوع، لأن دوام نبوة أحد الأنبياء معلوم إجمالا باتفاق جميع الأديان، فلا يجوز التمسك بالغلبة المذكورة على انقطاع نبوة ذلك المعلوم بالإجمال، لأنه مناقض للعلم بدوام نبوته، ولا على اندراج مورد الشك في الأفراد الغالبة، ونفي اتحاده مع المعلوم الإجمالي، ولا يكون هنا غلبة موضوعية توجب اندراجه فيمن ذكره، إذ لا يجوز أن يقال: إن الغالب في الأنبياء محدودة
66

نبوتهم، لما فيه:
أولا: من أن هذا تعبير عن غلبة الموضوع بغلبة الحكم، فلا يثبت به الموضوع.
وثانيا: من أنه إن كان المراد بالغلبة المذكورة غلبة انقطاع الأنبياء السالفين، فلا ينفع، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وآله من المتأخرين، وإن كان المراد بها غلبة انقطاع نبوة المتأخرين منهم، فهو ممنوع.
هذا، فإذا عرفت معنى غلبة الحكم وغلبة الموضوع وأن الأولى لا تجدي فيما إذا كان الشك ناشئا من اشتباه الموضوع، فانطباقه على ما نحن فيه أن السيد قد ادعى غلبة استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، ولا يخفى أنه غلبة الحكم، والموضوع هو الموضوع له اللفظ، فهو استدلال بغلبة الحكم على إحراز الموضوع، وقد عرفت ما فيه.
أقول: الإنصاف عدم انطباق ما ذكرنا على ما نحن فيه، لأن حكم الموضوع له ليس استعمال اللفظ فيه، بل ذلك شرط في اتصافه بالحقيقة، فالذي ذكره السيد من غلبة استعمال اللفظ في الموضوع له، عبارة أخرى عن أن الغالب في المعاني المستعمل فيها اللفظ كونها معاني حقيقية، ولا ريب أنه غلبة موضوعية، فيثبت بها أن
مورد الشك منها، فيلزم منها بينا ثبوت الوضع لمورد الشك أيضا، للملازمة بين حقيقة المعنى وبين كونه موضوعا له، بمعنى أن الثاني لازم للأول، لأن الأول أخص دون العكس، لأن الثاني أعم، وفيما نحن فيه لما ثبت الأول بحكم الغلبة لزمه الثاني، وهو المدعى.
نعم حكم الحقيقة أن يحمل عليها اللفظ عند التجرد عن القرينة الصارفة، كما أن حكم المجاز عدم حمله عليه حينئذ، ولا يعقل دعوى الغلبة فيه، وهو قدس سره لم يدع ذاك، ولم يستدل به على مدعاه حتى يقال: إنه استدلال بغلبة الحكم في تعيين الموضوع.
وكيف كان فالأولى الاعراض عن هذا الجواب، والاكتفاء بالجوابين الأولين.
ثم على تسليم الغلبة المذكورة نطالبه قدس سره بدليل اعتبارها، فإنا وإن سلمنا حجية الغلبة في بعض الموارد ببناء العقلاء، لكنه لا يلزم منه حجية مطلق الغلبة لما مر من أن بناءهم أمر لبي، مجمل الجهة، فلا بد من الاقتصار على المورد الخاص، الذي ثبت بناؤهم فيه من غير تعد إلى غيره.
اللهم إلا أن يدعى حجيته مطلقا من باب حجية مطلق الظن في اللغات، وقد عرفت أنه خلاف الإجماع ظاهرا.
67

وكيف كان، فيكفينا أصالة عدم الحجية، وعلى مدعيها الدليل، ولم يعلم بعد هذا.
وأما الجواب عن ابن جني: فبأنه إن كان مراده غلبة المعاني المجازية على الحقيقة، ولو كانت تقديرية لم يستعمل اللفظ فيها، فمسلم لكنها لا تجدي، لأن الكلام في المعاني المستعمل فيها اللفظ، لا المعاني بما هي معان، وإن كان المراد غلبة المجاز على الحقيقة في موارد الاستعمال، فممنوع، سيما مع ملاحظة ما ادعاه عليه من غلبة العكس.
وكيف كان، فالغلبتان اللتان ذكرهما السيد وابن جني لم يتحقق لنا شيء منهما، وهو يكفينا في منع كليهما، ومع تسليم شيء منهما نمنع الكبرى كما مر.
وأما الجواب عن المفصل المذكور فبأنه إذا ثبت في متحد المعنى كون الاستعمال دليلا على الوضع، فأصالة عدم الاشتراك لا تعارضه في متعددة، لأنها أصل وهو دليل، فهو وارد عليها، فلا معنى للتوقف حينئذ.
اللهم إلا أن يكون مذهبه في اعتبار الأصول والأمارات كون جميعها معتبرة من باب إفادة الظن، من غير فرق بين الأمارة والأصل، وإنكار اعتبار الأصول من باب التعبد، ولو بالتعبد العقلائي فيستوي حينئذ ظاهر الاستعمال وأصالة عدم الاشتراك فتكون مخالفة المفصل حينئذ راجعة إلى المخالفة في مسألة أخرى غير ما نحن فيه.
تذنيب:
اعلم أن ظهور الثمرة في الخلاف في مسألة الاستعمال بالنسبة إلى متحد المعنى واضح، إذ على قول السيد، وكذا على قول المفصل المذكور يحمل اللفظ في الاستعمالات المتأخرة العارية عن القرينة على المعنى الذي استعمل فيه أولا، وعلى قول الشيخ كما هو المختار لا، بل يصير مجملا، فيرجع إلى الأصول حسبما يقتضيه المقام. وأما في متعدده، فقيل إنه لا ثمرة في الخلاف حينئذ، لأن الاستعمالات المتأخرة العارية عن القرينة يصير اللفظ فيها مجملا على جميع الأقوال، أما على قول السيد فللإشتراك، وأما على قول الشيخ والمفصل فلعدم إحراز الحقيقة حينئذ ليحمل اللفظ عليها في الاستعمالات الآتية العارية عن القرينة، وأما على قول ابن جني فلتعدد المجاز، فيصير حال اللفظ حينئذ نظير الحال فيه على قول السيد.
وفيه ما لا يخفى لأنه لا تنحصر الثمرة في تعيين المراد تفصيلا، حتى يقال بعدم
68

الثمرة مطلقا، بل هنا ثمرتان أخريان:
أولاهما سارية في جميع موارد استعمال اللفظ المستعمل في ابتداء استعماله في معنيين، ولم يعلم وضعه لأحدهما، بل حقيقة ثالثة له، فإنه - على قول المشهور - يرجع إلى الأصول الموجودة في المقام، ولو كانت مقتضية للأخذ بغير هذين المعنيين، إن لم يعلم الحقيقة الثالثة بعينها، وإلا فيحمل اللفظ عليها.
هذا بخلاف قول السيد، إذ عليه لا بد من التوقف، والرجوع إلى الأصول في خصوص المعنيين، ولا يجوز الرجوع إلى الأصول المنافية لهما.
والثانية عامة في جميع موارد استعمال اللفظ في الاستعمالات المتأخرة، إذا كان مستعملا في ابتداء استعماله في معنيين، ولم يعلم كونه موضوعا لأحدهما، إذ على قول السيد لا بد من التوقف والإجمال بالنسبة إلى هذين المعنيين، والعمل بالأصول الموافقة لهما، أو لأحدهما، وعلى قول المشهور يرجع إلى الأصول الجارية في المقام مطلقا، مخالفة كانت أم موافقة، بل يظهر ثمرة التعيين أيضا في بعض الموارد، كما إذا استعمل اللفظ في معنيين في ابتداء استعماله، وعلم بوضعه لأحدهما تفصيلا، إذ على المشهور يحمل اللفظ في الاستعمالات المتأخرة، على هذا المعنى الذي علم بوضعه له، بخلاف قول السيد، إذ عليه لا بد من التوقف.
نعم إذا علم بوضعه لأحدهما إجمالا، فالثمرة بين القولين منتفية حينئذ.
ومن الثمرات بين قول السيد وبين قول المشهور، أنه إذا قامت القرينة على عدم إرادة أحد المعنيين المستعمل فيهما اللفظ، فعلى الأول - أعني قول السيد - يحمل على المعنى الآخر، كما هو القاعدة في الاشتراك اللفظي، بخلاف قول المشهور، إذ عليه لا بد من التوقف، والرجوع إلى الأصول، هذه هي الثمرات بين قول السيد وبين قول المشهور.
وأما بينه وبين قول ابن جني، فتظهر الثمرة فيما إذا علم بمعنى مجازي للفظ غير المعنيين المستعمل فيهما اللفظ أولا، فإنه على قول السيد لا بد من التوقف، وعدم التخطي من المعنيين، وعلى قول ابن جني يجوز لاحتمال إرادة مجاز آخر غيرهما.
ومن الطرق العقلية الظنية إلى معرفة اللغات صحة الاشتقاق،
ذكرها بعضهم، وهي أن يكون اللفظ معنيان أو أزيد، لكنه يصح اشتقاق الصيغ المشتقة منه، وتحويله إليها باعتبار بعض معانيه دون بعض، كما في لفظ (الأمر) حيث إنه يصح تحويله إلى الأمثلة المختلفة من صيغ المشتقات باعتبار بعض معانيه، وهو الطلب، دون الباقي،
69

كالقول، والقصد، والشأن، وغيرها، قالوا: إن هذه أعني صحة اشتقاق تلك الصيغ من مادة الأمر مثلا باعتبار المعنى الأول، وهو الطلب دون غيره، دليل على كونها حقيقة في هذا المعنى دون غيره.
والحق عدم كونها دليلا على الوضع، لعدم الدليل عليه. وقد أجبنا عنه في مسألة الأمر.
ومنشأ اشتباه بعضهم الذين زعموها من الطرق المعتبرة الظنية، وجود بعض العلائم في بعض مواردها، فلما رأوا أن العلماء حكموا بوضع اللفظ للمعنى الذي يصح الاشتقاق منه باعتبار هذا المعنى في هذا المورد الخاص، فزعموا أن ذلك لأجل أن صحة الاشتقاق دليل عندهم على ذلك، فلأجل هذا الاشتباه ادعوا أعني هؤلاء البعض، كونه دليلا جاريا في جميع الموارد، كسائر الأدلة، مع أن حكم العلماء بوضع اللفظ للمعنى المذكور في المورد الخاص ليس لأجل صحة الاشتقاق، بل لوجود علامة من علائم الوضع المعتبرة، كما في مادة الأمر،
فإن الدليل على كونه حقيقة في الطلب ليس صحة الاشتقاق، بل إنما هو التبادر لا غير.
ومن الطرق العقلية الظنية أمور أخرى
ذهب بعضهم إلى اعتبارها كصحة التقييد، وصحة الاستثناء، واختلاف الجمع وغيرها.
والحق عدم اعتبار شيء منها، لعدم قيام الدليل على واحد منها، وسيجئ جملة من الكلام فيها فيما بعد إن شاء الله. فإذا عرفت الطرق العقلية الظنية أيضا
فلنأتيك بالكلام في الطرق العلمية في تشخيص صغرياتها،
لأنك عرفت سابقا في أول عنوان الطرق أن الكلام فيها في صغرياتها، وإلا فحكم الكبرى مسلم لا يعقل منعه.
ومنها: التبادر،
وهو في الأصل من المبادرة، ومعناه المسابقة، ويلزمه وقوعه بين اثنين لأن باب التفاعل موضوع لذلك.
وفي الاصطلاح عرفوه بسبق المعنى من اللفظ إلى الذهن أو بسبق الذهن من اللفظ إلى المعنى، ويحتمل أن يكون السبق في كلا التعريفين على معناه الحقيقي، وهو التقدم، ويحتمل أن يراد به الانتقال مجازا من باب استعمال اللفظ في لازم معناه، لأن السبق يلزمه الانتقال من مكان إلى مكان.
وعلى الاحتمال الأول فالأنسب بقاعدة النسبة هو التعريف الثاني، لأن نسبة
70

السبق إلى شيء يلزم كونه منتقلا متحركا من مكان إلى مكان، أو من حال إلى حال، ولما كان الذهن ينتقل من حال الغفلة إلى حال الالتفات بالمعنى، ويتحرك إليه عند إطلاق اللفظ، فإضافة السبق إليه حقيقة، فيكون استعمال السبق حينئذ حقيقة كلمة وإسنادا، إلا أنه يلزم مخالفة ظاهر آخر، وهي حمل القضية على السالبة بانتفاء الموضوع، لأن السبق يلزمه سابق ومسبوق عليه، والثاني هنا منتف، لأن اللفظ إنما يتوجه إلى واحد، فإذا كان ذهنه سابقا، فعدم سبق ذهن غيره من باب عدم ذهن آخر بالنسبة إلى اللفظ في هذا الإطلاق.
واما التعريف الذي أضيف السبق فيه إلى المعنى، فهو، وإن لم يلزم منه حمل القضية على السالبة بانتفاء الموضوع لتعدد المعاني المتصورة مما بين الأرض والسماء، لأن معناه حينئذ سبق أحد المعاني المتصورة القابلة لإرادتها من اللفظ على غيره، ولا ريب أن المعاني لا منتهى لها إلا أنه يلزمه المجاز في الإسناد، لما مر من أنه لا بد في السبق من حركة، وانتقال، ولا ريب أن المعاني لا انتقال فيها بوجه.
وكيف كان فيكون التعريف الأول حقيقة من حيث الكلمة، ومجازا من حيث الإسناد.
وأما على الاحتمال الثاني، فيلزم المجاز في الكلمة على التعريفين إلا أن التعريف الثاني أولى بنسبة الانتقال إليه، لما مر، ولا يلزم على هذا الاحتمال أيضا حمل القضية على السالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا يستلزم الانتقال ثبوت ذهن آخر لا ينتقل، هذا بخلاف نسبته إلى المعنى، كما في التعريف الأول، فإنه يلزم حينئذ المجاز من حيث الإسناد أيضا.
فإذا عرفت ذلك فاعلم: ان التبادر كما يكون علامة للوضع كذلك يكون علامة للمجاز أيضا، كما إذا ثبت لغير المعنى المبحوث عن مجازيته مثلا.
ثم إن المعتبر في كون التبادر بالمعنى المذكور علامة للوضع هل هو ثبوته نفسه للمعنى المبحوث عن حقيقته أو عدم ثبوته لغير ذلك المعنى؟ وأيضا المعتبر في كونه علامة للمجازية هل هو ثبوته لغير المعنى المبحوث عن مجازيته، أو عدم ثبوته لذلك المعنى المبحوث عن مجازيته؟ فالاحتمالات المتصورة هنا ثلاثة:
الأول: أن يكون المعتبر في كونه علامة للوضع ثبوته للمعنى المبحوث عنه، وفي
71

كونه علامة للمجاز عدم ثبوته له.
الثاني: أن يكون المعتبر في كونه علامة للوضع عدم ثبوته لغير المعنى المبحوث عنه، وفي كونه علامة للمجاز ثبوته لذلك الغير.
الثالث: أن يكون المعتبر في كونه علامة للوضع ثبوته للمعنى المبحوث عنه، وفي كونه علامة للمجاز ثبوته لغير ذلك المعنى.
فإذا عرفت هذه فاعلم: انه ذهب السيد عميد الدين - قدس سره - في منية اللبيب في شرح التهذيب إلى الأول، حيث قال: إن من علائم المجاز عدم سبق المعنى من اللفظ إلى الذهن، فصرح بعلامة المجاز، ودل على علامة الحقيقة بالالتزام بقرينة التقابل (1).
وذهب العضدي في شرح المختصر إلى الثاني، حيث قال: ومن علائم الوضع أن لا يتبادر غير ذلك المعنى فصرح بعلامة الوضع ودل على علامة المجاز بالالتزام بالقرينة المذكورة (2).
وذهب بعض المتقدمين وجمهور المتأخرين إلى الثالث، وهو المختار عنده، قال: فما دلا عليه من علامة الحقيقة والمجاز بالالتزام قوي متين، وما صرحا به منهما ما كنت به بظنين.
أقول: ما ذهب إليه السيد في المنية، هو الذي ينبغي اختياره من اللبيب، إذ بعد فرض أنهما مع كونهما من العالم بالوضع علامتان، فلا يعقل كون المعنى حقيقة، مع عدم تبادره، فيكون عدم التبادر عنده علامة للمجاز قطعا، فما اختاره - دام عمره - وإن كان ملازما لذلك إلا أن تبادره لا مدخلية له في العلامة، بل ملازم لها، مع أنه
(1) منية اللبيب: في الفرق بين الحقيقة والمجاز وإليك نصه: وأما ما يختص بالحقيقة فأشياء: منها أن يسبق المعنى إلى أفهام المتحاورين باللغة عند إطلاق لفظه مجردا عن القرائن المخصصة لذلك اللفظ بذلك المعنى، فتعلم أن ذلك اللفظ حقيقة في ذلك المعنى، إذ لو لا كونه موضوعا له دون غيره من المعاني لكان سبقه إلى الفهم من دونها ترجيحا بلا مرجح، وانه محال، وعدم ذلك دليل المجاز، فإن اللفظ المستعمل في المعنى إذا أطلق ولم يسبق ذلك المعنى إلى الفهم عند إطلاقه، بل افتقر في فهمه منه إلى قرينة زائدة عليه كان مجازا - هذا ولكن أورد بعد ذلك بقوله: وفيه نظر: فإنه منقوض باللفظ المشترك بالنسبة إلى كل واحد من معانيه، فانه ليس مجازا فيه مع عدم سبق معناه إلى الفهم عند إطلاقه. انتهى. وما عثرنا على نص آخر يناسب المتن.
(2) شرح المختصر للعضدي، مخطوط، وإليك نصه: ومنها أن يتبادر غيره إلى الفهم لولا القرينة، وهو عكس الحقيقة، فإنها تعرف بأن لا يتبادر غيره إلى الفهم لولا القرينة.
72

تنصيص بالمشتركات حيث أن المتبادر منها جميع المعاني دفعة، فيصدق على كل واحد أنه تبادر غيره إذا كان معنى التبادر انتقال الذهن أو حضور المعنى.
اللهم إلا أن يجعل بمعنى التقدم، فيرتفع الإشكال، إذ المفروض حضور جميع المعاني دفعة، فلا يصدق حينئذ على كل واحد أنه سبق عليه غيره، إلا أنه لا بد حينئذ من التصرف في الغير في علامة التبادر بجعله عبارة عن غير الموضوع لا مطلق الغير، وإلا لما صدق على كل واحد من معاني المشترك أنه سبق على غيره بقول مطلق، فافهم.
ثم إن الآمدي قد أورد في الأحكام () على طرد ما صار إليه العضدي من علامة الوضع بمجازات المشترك لصدقها عليها، مع أنها ليست بحقائق فيلزم تخلف العلامة عن معلومها، إذ لا ريب أن معاني المشترك لا تتبادر من اللفظ، فيصدق على مجازيته أنها لا يتبادر غيرها.
وأجاب عنه في المنية: بمنع عدم تبادر معاني المشترك أصلا، بل يتبادر منه أحد المعاني عند الإطلاق، فلا يصدق على مجازيته أنها لا يتبادر غيرها (1).
وفيه أن هذا التزام بوضع المشترك للقدر المشترك بين معانيه المتفاوتة، فيكون مشككا، لا مشتركا وهو خلاف الفرض.
والتحقيق في الجواب: أنه لا يخفى أن دلالات الألفاظ إنما هي بسبب الوضع وهو سبب لها، فإذا فرض تعلقه بمعان متعددة، كما في المشترك، فيتبادر منه عند الإطلاق جميع تلك المعاني، إلا أن الإرادة، لما لم تتعلق إلا بواحد منها بناء على عدم جواز استعماله في أكثر من معنى، فيكون مورد تلك الإرادة وهو المعنى المراد مجملا
، وإلا
(1) يستفاد ذلك من المنية في موردين:
الأول في بحث الاشتراك، وإليك لفظه: ونمنع أيضا من عدم فهم شيء أصلا من اللفظ المشترك حال تجرده عن القرينة بحيث يكون إطلاقه عبثا فان السامع يفهم أن المراد بذلك اللفظ أحد معانيه وان لم يفهم المعنى المراد منها مفصلا.
الثاني في البحث الثالث، وهذا لفظه: وعن الثالث المنع من لزوم التحكم والترجيح من غير مرجح أو تعطيل اللفظ لو لم يحمل اللفظ على جميع معانيه لجواز حمله على أحد تلك المعاني لا بعينه وليس ذلك تحكما لأن اللفظ دال عليه لكونه لازما لكل معنى من معانيه ولا ترجيحا من غير مرجح لأن لهذا المعنى أعني أحد تلك المعاني لا بعينه رجحانا على غيره لكونه متيقن الإرادة دون غيره من المعاني فإن احتمال إرادته وعدمها متحقق.
73

فعلى القول بجواز استعماله في أكثر من معنى، فلا إجمال في المراد أيضا، لأنه عند التجرد عن القرينة ظاهر في إرادة الجميع.
وكيف كان فظهر أن مجازاته لا يصدق عليها أن غيرها لا يتبادر لتبادره كما عرفت على القولين.
ثم إنه يرد نظير هذا الإشكال على ما اختاره العميدي - قدس سره - من علامة المجاز لانتقاضها طردا بالمشترك بالنسبة إلى معانيه، إذ يصدق عليها أنها لا تسبق إلى الذهن.
ودفعه قد علم مما مر، من أنها تسبق إليه وتتبادر مطلقا.
ثم إنه قد يورد على ما اخترنا من علامة الوضع وفاقا للعميدي بالحقائق المجهولة من حيث العكس فإنها مع كونها حقائق لا تتبادر للجاهل بها.
ودفعه أن العلامة إنما اختلت إذا تحققت ولم تدل على معلومها، لكنها لا يجب تحققها في جميع موارد ذلك المعلوم، لإمكان أن يمنع عن وجودها مانع من الموانع التي منها الجهل بالموضوع له.
أقول: بعد ما حققنا من أن التبادر وعدمه عند العالم علامتان للوضع وعدمه لا وجه لهذا السؤال، وأفضح منه الجواب عنه بما ذكر إذ لا يعقل فرض الجهل بالحقيقة عند العالم حال كونه عالما.
ثم إن هاهنا إشكالين واردين على كون التبادر علامة للوضع على جميع الأقوال:
أولهما: أنه لا ريب أن التبادر مسبب عن العلم بالوضع، لبطلان القول بالمناسبة الذاتية، فما لم يحصل العلم به لم يحصل العلم بالتبادر، مع أن المفروض أن العلم بالوضع متوقف على العلم بالتبادر فيلزم الدور والتالي باطل، فالمقدم مثله.
وثانيهما: أن علامة الشيء تعتبر أن تكون من خواصه بأن لا توجد في غير ذلك الشيء، والتبادر ليس خاصة للوضع، لوجوده في المجاز المشهور، فلا يكون علامة للوضع له.
وأجيب عن الأول: بوجوه ثلاثة:
الأول: منع توقف معرفة التبادر على العلم بالوضع، لإمكان حصولها بملاحظة كثرة استعمال اللفظ في الموضوع له مع القرينة إلى أن يحصل عند الجاهل بالوضع
74

استئناس بين هذا اللفظ وذلك المعنى بحيث يتبادر عنده هذا المعنى من اللفظ عند استعماله مجردا عن القرينة، فقد حصل له التبادر حينئذ مع عدم معرفة الوضع بعد.
الثاني: أن المتوقف على معرفة التبادر إنما هو العلم بالعلم بالوضع، لا العلم بالوضع.
الثالث: ان معرفة الوضع تفصيلا متوقفة على معرفة التبادر لكن معرفة التبادر لا تتوقف على معرفة الوضع تفصيلا، بل تتوقف على معرفته إجمالا.
هذا، وفي كل من الوجوه تأمل، بل منع.
أما الأول: فلأنه إن كان المراد بالاستعمالات مع القرينة التي اقترنت بالقرينة واتصلت بها فقد مر في مبحث المنقول أن الاستعمالات مع القرينة المتصلة وإن بلغت إلى ما بلغت من الكثرة، لا توجب تبادر المعنى من اللفظ عند تجرده عنها في وقت فراجع، وإن كان المراد الاستعمالات مع القرينة المنفصلة، فهذا مسلم لكنه غير مجد فيما نحن فيه، لأن اللفظ إذا لم يصل استعماله كذلك إلى الحد المذكور، فلا يتبادر عنه المعنى بدون العلم بالقرينة، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد حصل للجاهل العلم بالوضع، فحينئذ يكون التبادر مستندا إلى علمه بالوضع فلم يرتفع الدور.
وأما الثاني: فلأن الذي نتعقله فيه - وهو أن يكون المراد بالعلم هو الإذعان بثبوت النسبة الخبرية بين الموضوع والمحمول، وبالعلم بالعلم الالتفات إلى الإذعان المذكور كما ذكرهما أهل المعقول - لا يجدي () فيما نحن فيه في شيء، لأنا ننقل الكلام في الإذعان المذكور، ونقول: إنه لا ريب أن كل إذعان مسبوق بالجهل لا بد في حصوله من سبب، وسببه فيما نحن فيه منحصر في التبادر، إذ المفروض كون التبادر علامة للوضع، وهو أعني كونه علامة إنما يكون إذا انحصر طريق معرفة الوضع فيه فالجاهل لا يحصل له الإذعان حينئذ بثبوت وضع اللفظ لهذا المعنى إلا بمعرفة التبادر، ومعرفته أيضا كما سلمه ذلك المجيب متوقفة على معرفة الوضع التي هي الإذعان المذكور فيعود المحذور، وأما الذي يجدي في الدفع لا نتعقله لأنه لو أمكن كون العلم كليا ذا فردين، فيكون معرفة التبادر موقوفة على أحدهما ومعرفة الآخر موقوفة على معرفة التبادر، لا ندفع الإشكال لاختلاف طرفي التوقف، لكنا لا نتعقل الصغرى، لكن الظاهر أن مراده الاحتمال الأول، وقد عرفت ما فيه.
75

وأما الثالث: فلأنه إن كان المراد به ما سبق في الوجه الثاني، فقد عرفت ما فيه وإن كان المراد ما قيل في دفع إشكال الدور عن الإشكال الأول، فهو لا ينطبق بما نحن فيه بوجه كما لا يخفى.
والتحقيق في الجواب: ما تلقيناه من الأصحاب من أن التبادر عند العالم بالوضع أمارة للجاهل به، كما صرح به العميدي (1) قدس سره، حيث إنه رحمه الله جعل عنوان المسألة ذلك، وقال إن عدم سبق المعنى من اللفظ عند العالم بالوضع دليل على المجاز للجاهل به، فلا يتوقف معرفة التبادر في حق الجاهل على معرفة الوضع فارتفع الدور.
وكيف كان، فأصل العنوان في مسألة التبادر إنما هو التبادر عند العالم بالوضع.
ويكشف عن ذلك مضافا إلى تصريح العميدي عدم تعرض المتقدمين لهذا الإشكال، مع أن دأبهم التعرض بأدنى من ذلك.
نعم تعرضوا لذلك الإشكال في مسألة عدم صحة السلب، فحينئذ يرد علينا أن عدم صحة السلب أيضا مثل التبادر، فإنه عند العالم بالوضع دليل عليه للجاهل، ومقتضى ذلك عدم ورود الإشكال عليه أيضا، فما وجه تعرضهم له ثمة؟ فإن أجبنا عنه ثمة بغير هذا الجواب فيرتفع هذا السؤال عنا، وإلا فهو وارد علينا. هذا تمام الكلام عن دفع إشكال الدور.
واما الجواب عن الإيراد الثاني: وهو الإشكال بتبادر المعنى المجازي في المجاز المشهور، فبأن التبادر الذي ادعينا كونه علامة للوضع إنما هو التبادر الناشئ عن جوهر اللفظ.
وأما المجاز المشهور فلا ريب أن الأقوال فيه ثلاثة:
الأول: أنه يتبادر المعنى المجازي من اللفظ مع أن وضعه لم يهجر عن المعنى الحقيقي، فيحمل اللفظ على المجاز. وهذا القول لأبي يوسف (2).
(1) منية اللبيب مخطوط في البحث الرابع في الفرق بين الحقيقة والمجاز وإليك نصه: وأما ما يختص بالحقيقة فأشياء منها: أن يسبق المعنى إلى أفهام المتحاورين باللغة عند إطلاق لفظه مجردا عن القرائن المخصصة لذلك اللفظ بذلك المعنى.
(2) في المنية في البحث التاسع عند عد الأقوال ما هذا نصه: وقال أبو يوسف المجاز الراجح أولى لطرق رجحانه.
76

والثاني: عكسه، وهو أنه يتبادر المعنى الحقيقي أيضا، فإنه وان كان مرجوحا في النظر ابتداء إلا أن بملاحظة أصالة الحقيقة يتبادر ويظهر كونه هو المراد، فيحمل اللفظ عليه.
والثالث: التوقف والحكم بإجمال اللفظ كما هو المشهور، فحينئذ لا ريب أن النقض به إنما يتوجه على القول الأول، دون الأخيرين، لعدم تبادر المعنى المجازي حتى يرد النقض به. فنقول حينئذ: إن الجواب على القول
الأول أيضا وفاقا للمحقق القمي قدس سره، أن التبادر هنا ناشئ من الغلبة، لا من جوهر اللفظ بحيث لو قطع النظر عنها لا يتبادر المجاز أصلا ().
ثم إن صاحب الفصول قدس سره ضعف ما ذكره المحقق القمي قدس سره من الجواب المذكور، بأن التبادر في المنقول أيضا قد يستند إلى ملاحظة الشهرة وعدل إلى جواب آخر ().
وحاصله: أن التبادر الذي هو علامة للوضع هو التبادر الابتدائي الذي لم يلاحظ المتكلم في استعمال اللفظ المحصل له الآثار البديعية المقصودة من المجاز، والتبادر في المجاز المشهور ليس كذلك، لأنه من حيث كونه متفرعا على معنى آخر ملحوظا فيه الآثار البديعية كالبلاغة، والمبالغة، وغيرهما، مما يبنى على ملاحظة المعنى الحقيقي ولو إجمالا.
وفي كل من وجه التضعيف، والجواب الذي اختاره نظر:
أما الأول: فلأنه إن كان المراد بالشهرة هو نفسها، فيرد عليه أنه مع وجود الوضع، وتحققه في المنقول كيف يتصور الاحتياج إلى ملاحظة الشهرة، فإن العلم بالوضع بنفسه علة تامة لتبادر المعنى، ولا يكون معه لشيء آخر مدخلية لا شرطا ولا شطرا.
وإن كان المراد بالشهرة هي الاستعمالات المؤدية إلى النقل التي هي سبب الوضع، نظرا إلى أن الانتقال إلى المعلول الذي هو الوضع، يستلزم الانتقال إلى العلة التي هي تلك الاستعمالات.
77

ففيه أولا: أن الملازمة في المقام ممنوعة، إذ بعد تحقق علقة الوضع، فإذا أطلق اللفظ فلا ريب أن الذهن لا يلتفت إلى سببها، بل إنما يلتفت إليه وحده، فيحصل بسببه الانتقال إلى المعنى المنقول إليه.
وثانيا: على تسليم الملازمة بين الالتفات إلى العلقة الوضعية وبين الالتفات إلى سببها، فلا ريب أن هذه لا تختص ببعض المنقولات، بل جميعها كذلك، بل وجميع الأوضاع الابتدائية كذلك أيضا، لما هو محقق في محله من أن مجرد الوضع لا يكفي في حصول العلقة بين اللفظ والمعنى بحيث يتبادر منه ذلك المعنى، بل لا بد من استعمالات للفظ في هذا المعنى، ليحصل الاستئناس بينهما عند السامع. هذا فيما ذكره في وجه التضعيف.
وأما الثاني: أعني الجواب الذي اختاره، وعدل إليه، فلا ريب أنه راجع إلى ما ذكره القمي قدس سره إلا أنه بعبارة أخرى، فإن مقصوده أيضا هذا المعنى، إذ ليس غرضه استناد التبادر في المجاز المشهور إلى مجرد الشهرة مع قطع النظر عن ملاحظة النكات المجازية، بل غرضه أن التبادر ثمة مستند إلى قرينة المجاز، وهو الشهرة بما يلزمها من ملاحظة العلاقة، والاعتبارات البديعية.
هذا مع أن دعوى اعتبار النكات المجازية في المجاز المشهور ممنوعة، فإن أظهر أمثلته استعمال الأمر في الندب، ونحن لم نجد موردا من موارد استعماله فيه يلاحظ فيه شيء مما ذكر، فافهم.
ثم إن هاهنا إشكالا آخر على التبادر بأن انصراف المطلقات إلى أفرادها الشائعة، نظير الإشكال بالمجاز المشهور.
بيانه: أنه لا يخفى أن المطلقات المنصرفة إلى الأفراد الشائعة ليست موضوعة لها، بل باقية على وضعها للطبيعة الكلية، ومع ذلك تتبادر منها تلك الأفراد.
والجواب عنه نظير ما مر ثمة، توضيحه أن في المطلقات التي لها أفراد شائعة أقوالا ثلاثة:
الأول: أن المطلق ظاهر في إرادة الأفراد الشائعة، ويتبادر منه هذه.
الثاني: أن المطلق ظاهر في الطبيعة، إلا أن انفهام كون الأفراد الشائعة مرادة بقرينة الغلبة بمعنى أن الغلبة دالة عليها.
وبعبارة أخرى أن انصراف المطلقات إلى الأفراد الشائعة من باب دالين
78

ومدلولين ومطلوب واحد، فإن المطلق مستعمل في الطبيعة، وأريد الخصوصية - أعني خصوصية الأفراد الشائعة - من الخارج عن اللفظ - وهو الغلبة -.
الثالث: التوقف بمعنى أن غلبة إرادة الأفراد الشائعة من المطلقات أوجبت فيها الإجمال، وأسقطتها عن ظهورها في الطبيعة المعراة، لكن لما كانت الأفراد الشائعة متيقنة الدخول في المراد، فحمل المطلق عليها لذلك، لا لظهوره فيها.
فإذا عرفت الأقوال فلا ريب أن الإشكال المذكور لا يرد على الأخيرين، أما على الثاني: فلكون المطلق ظاهرا في معناه الحقيقي، وهو الطبيعة، لا في الأفراد الشائعة، وإنما دل عليها بدال آخر.
وأما على الثالث: فلأنه لا ظهور حتى يرد النقض به، فينحصر وروده في الأول، وحينئذ فالجواب نظير ما مر سابقا من المحقق القمي (قدس سره) وهو أن التبادر حينئذ - مستند إلى الغلبة لا إلى جوهر اللفظ.
تنبيه:
يرد على القول الثاني في المطلقات: أنه إذا فرض استعمال المطلقات في الطبائع المطلقة دائما، وأن خصوصية الأفراد الشائعة تفهم من الخارج، فهذا ينافي ما نجد من كون كثير من المطلقات منقولة إلى الأفراد الشائعة بغلبة الاستعمال، فإن الاستعمالات المحصلة للنقل لا بد أن يلاحظ فيها خصوصية المعنى المجازي.
ويمكن الجواب عنه: بأن ذلك في المجازات المباينة للمعاني الحقيقية، وأما إذا كانت من قبيل الكلي والفرد، فلا يشترط فيها ذلك، بل يمكن حصول النقل بكثرة إرادتها عند إطلاق اللفظ، وان لم تكن مرادة من حاق اللفظ.
ثم إن هاهنا تنبيهات:
الأول: في تحقيق الحال في المجاز المشهور،
وفيه مقامات أربعة:
الأول في تعريفه.
والثاني في إمكانه.
والثالث في وقوعه.
والرابع في ذكر الأقوال فيه بما لها من الاستدلال.
أما تعريفه: فهو أنه (هو اللفظ المستعمل في المعنى المجازي إلى حد تمنع كثرة استعماله فيه من ظهوره في إرادة المعنى الحقيقي عند التجرد عن القرينة بما كان له من الظهور قبل وصول استعماله إلى هذا الحد).
79

وقد يعبر عنه بالمجاز المساوي باعتبار تساوي احتمال إرادة المعنى المجازي لاحتمال إرادة المعنى الحقيقي.
وقد يعبر عنه بالمجاز الراجح إما باعتبار كون ذلك المعنى المجازي راجحا بالنسبة إلى سائر المجازات في الإرادة من اللفظ، وإما باعتبار رجحان إرادته في بادي الرأي.
وأما إمكانه: فقد أحاله بعضهم محتجا بأنه مع بقاء العلقة الوضعية - كما هو المفروض، وإلا لكان منقولا - كيف يمكن عدم ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي؟ فإنها علة تامة لذلك.
والأكثر على جوازه، منهم المحقق القمي رحمه الله حيث أنه ادعى وقوعه، ولا ريب أنه أخص من الإمكان،
فيلزمه الإمكان.
ومنهم صاحب المعالم، حيث إنه ادعى وقوعه في خصوص الأمر.
والأقوى القول الثاني، لعدم الدليل على استحالته.
وأما ما ذكره المستدل، فالجواب عنه أنه يمكن تضعيف العلقة الوضعية بسبب كثرة الاستعمالات المجازية، فتخرج عن كونها علة، ولا يلزم من ذلك الالتزام بالنقل، لأنا نتعقل الواسطة في الاستعمالات المتكثرة، لأنها يمكن أن تصل إلى حد توجب هجر المعنى الأول، واختفاءه عن ذهن السامع، كما في المنقول، ويمكن - أيضا - ان تصل إلى حد دون ذلك، بحيث يحضر عند الذهن بظهور ضعيف، لكن السامع يتردد في كونه مرادا، وقسم منها لا يبلغ إلى هذين الحدين، بل العلقة باقية على حالها من القوة، بحيث يحمل السامع اللفظ على المعنى الحقيقي عند تجرد اللفظ عن القرينة، والقسم الثاني هو المجاز المشهور المتنازع فيه.
وأما وقوعه: فنحن لم نطلع على موضع منه، بل كلما وجدنا من الألفاظ التي كثرت استعمالاتها في المعنى المجازي، رأيناها بين القسم الأول، وبين القسم الأخير.
وأما ما ذكره صاحب المعالم من صيغة الأمر، فلم نجد له شاهدا، فإن مقتضى ما ذكره من كونها مجازا مشهورا في الندب، التوقف في الأوامر الواردة في الكتاب والسنة عند تجردها عن القرينة.
وأنت ترى أنه لم يتوقف أحد من القائلين بوضعها للوجوب في الفقه في حمل أمر من الأوامر على الوجوب إلا في باب الطهارة عند بعض.
وكيف كان فما ذكر من كون الأمر مجازا مشهورا في الندب مطلقا ممنوع،
80

وأما في باب الطهارة فله وجه.
فإذا عرفت الحال في المقامات الثلاثة، فنسوق الكلام إلى رابعها فنقول:
إن الأقوال فيه أربعة:
الحمل على الحقيقة، وهو لأبي حنيفة.
والحمل على المجاز مطلقا، وهو لأبي يونس.
التوقف، وهو للمشهور.
التفصيل بين أقسام المجاز المشهور، وهو لبعض () من الأصوليين.
والأقوى هو قول المشهور، والذي يتمسك به لهم وجوه ثلاثة بين صحيح ومعيب:
الأول: أن الوضع مقتض لحمل اللفظ على الحقيقة، لا علة له، فيشترط في عليته من إحراز عدم القرينة الصارفة، التي هي المانعة عنه، إما بالقطع، أو بأصالة عدمها، وكلاهما مفقودان فيما نحن فيه:
أما العلم بعدم القرينة، فلأن المفروض احتمال كون الشهرة قرينة.
وأما أصالة عدمها، فلأنها لا تجري في المقام، لأن الشك في قرينية الموجود الذي هو الشهرة، لا في نفس القرينة.
وبعبارة أخرى، القرينة موجودة لا يجري فيها الأصل، إنما الشك في صفتها - أعني كونها معتمدة عند المتكلم في إرادة خلاف الظاهر - والأصل أيضا لا يجري في نفي تلك الصفة، لأنه أصل في صفة الحادث، وهو من الأصول الغير المعتبرة عند العقلاء.
الثاني: تسليم سببية علقة الوضع لما ذكر، لكنها قد ضعفت لكثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي.
الثالث: وهو الذي ينبغي أن يعتمد عليه، أن العلقة الوضعية الحاصلة بين اللفظ والمعنى الحقيقي، وإن كانت علة لظهور اللفظ فيه، وحمله عليه، إلا أنها قد ضعفت الآن، بسبب غلبة استعمال اللفظ في المعنى المجازي، فيسقط اللفظ عن ظهوره في إرادة المعنى الحقيقي، فلا يحمل عليه.
وأما عدم حمله على المعنى المجازي، فلأن الشهرة لا تكون قرينة معينة في المشتركات - كما ذكروا - فكيف تكون قرينة صارفة للفظ عن إرادة المعنى الحقيقي؟
81

فإن الصارفة أقوى من المعينة.
وفي الأولين من الوجوه نظر، أما الأول: فلأن المانع - عن مقتضى الوضع - ليس خصوص هذا الموجود - أعني الشهرة - حتى يقال بعدم جريان الأصل فيه، ولا في صفته، بل المانع له، إنما هو مطلق القرينة، ونوعها، وهو مشكوك، فيجري فيه الأصل، أعني استصحاب عدمه الأزلي.
هذا مضافا إلى أنه مع تسليمه لا ينهض جوابا عن أبي يونس، اللهم إلا أن يكون المراد به ما يؤول إلى الوجه الثالث ().
أقول: الأولى العدول عن الوجه الثالث - أيضا - إلى وجه آخر، وهو أنه قد ثبت بعنوان الكلية، أنه إذا اكتنف اللفظ بشيء من حال، أو مقال يصلح ذلك الشيء لكونه قرينة صارفة، بمعنى أنه لو اتكل المتكلم عليه لا يلام، ولا يعد مقصرا في تفهيم المراد عند العرف، فيصير ذلك اللفظ مجملا، ولا يبقى له بعد ذلك ظهور أصلا.
لا في المعنى الحقيقي، لتوقفه على نفي احتمال القرينة بالأصل، ولا ريب أن العقلاء، وأهل العرف لا يعتنون بأصالة عدم القرينة حينئذ، لعدم حصول الظن - ولو نوعا - بعدم القرينة في مثل المقام.
ولا في المعنى المجازي، لعدم العلم باعتماد المتكلم على مثل هذه الأشياء، وهي ليست بنفسها في قوة يوجب بسببها صرف اللفظ إلى المعنى المجازي، فلا بد من التوقف.
هذه قاعدة كلية، ولا ريب أن المجاز المشهور من أفراد تلك القاعدة، ومندرج فيها، لأن الشهرة المكتنفة باللفظ تصلح لأن تكون قرينة صارفة.
هذا، ثم إنه قد يدعى كون الجنس المعرف المسبوق بذكر فرد من ذلك الجنس من أفراد تلك القاعدة، كما في باب الاستصحاب في صحيحة زرارة في قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين أبدا بالشك) حيث أنه مسبوق بقوله عليه السلام (وإلا فإنه على يقين من وضوئه) وهكذا في نظائر تلك الصحيحة.
وفيه أنه اعتبر في القاعدة المذكورة إحراز الصلاحية، ولا يخفى أنها، أي الصلاحية فيما ذكره غير معلومة فتأمل.
وأما قول المفصل المذكور، فتفصيله: أنه - قدس سره - قد قسم المجاز المشهور إلى خمسة أقسام، فقال: إن شهرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي على مراتب:
82

الأولى: أن تكون بحيث لو لوحظت لا تمنع من ظهور اللفظ المجرد عن القرينة في إرادة المعنى الحقيقي.
الثانية: أن تكون بحيث لو لوحظت تمنع من ذلك، وتجعل اللفظ ظاهرا في المعنى المجازي ظهورا مساويا لظهوره في الموضوع له، لكن مع قطع النظر عنها، اللفظ ظاهر في إرادة الحقيقة.
الثالثة: أن تكون بحيث لو لوحظت توجب ظهور اللفظ في المعني المجازي، بأن ترجح إرادته من اللفظ على
إرادة الموضوع له، إلا أنه مع قطع النظر عن تلك الملاحظة، ينصرف إلى ما وضع له.
الرابعة: أن تكون بالغة إلى حد أوجبت ذهول المعنى الحقيقي عن الذهن، وهجر اللفظ عن الدلالة عليه، وظهوره في المعنى المجازي مطلقا، بحيث يحمل اللفظ عليه - عرفا - مجردا عن القرينة، ويكون انفهام الحقيقة محتاجا إليها.
الخامسة: أن تكون بالغة إلى حد أوجبت ظهور اللفظ في المعنى المجازي أيضا، مع عدم ذهول الحقيقة الأولية عن الذهن، فيكون اللفظ مشتركا لفظيا بينهما.
ثم قال: إن القسم الأول منها لا يصلح لكونه قرينة صارفة للفظ عن معناه الحقيقي، وإنما يصلح لكونه قرينة معينة بعد قيام القرينة الصارفة عن عدم إرادة الحقيقة.
ثم قال: اللفظ في المراتب الثلاث الأول باق على معناه الأصلي، ويكون مجازا شائعا في المعنى الثاني على اختلاف مراتب الشهرة فيها، فيقدم الحقيقة عليه في الصورة الأولى، ويتوقف في الثانية، ويترجح على الحقيقة في الثالثة. انتهى ().
وفيما ذكره قدس سره مواقع للنظر:
الأول: ما ذكر من كون الشهرة في القسم الأول قرينة للتعيين دون الصرف، إذ في اعتبار الشهرة من حيث التعيين دون الصرف إشكالان:
أحدهما: أنه إذا ثبت اعتبار قرينة، ولو بأدنى مرتبة من مراتب الاعتبار، فهي حاكمة على أصالة الحقيقة مطلقا، وإن دليل اعتبارها أقوى مما دل على اعتبار
83

أصالة الحقيقة، نظير حكومة الأدلة الشرعية على الأصول العملية، فإن الدليل، وإن كان من أضعف الظنون المعتبرة، يحكم على الأصول العملية، وإن كانت من أقوى الأصول المعتبرة الثابت اعتبارها بالإجماع ونحوه مثلا فإذا فرض اعتبار الشهرة ولو بأدنى مراتب الاعتبار، فلا وجه للاقتصار في العمل عليها في مقام التعيين، دون الصرف وإن فرض عدم ثبوت اعتبارها، فلا وجه للعمل عليها في مقام التعيين أيضا.
وثانيهما: أنه ما الفرق بين ما نحن فيه وبين المشترك؟ والقول باعتبارها في مقام التعيين هنا دون ثمة؟ فإن جمعا من الأعلام صرحوا بعدم اعتبارها للتعيين ثمة.
هذا ويمكن دفعهما:
أما الأول منهما، فأولا: بمنع كون الشهرة في المقام موجبة لظهور اللفظ في المعنى المجازي، مع قطع النظر عن قرينة أخرى فلا تعاند لها بنفسها لإرادة المعنى الحقيقي، فلا تصلح لكونها قرينة صارفة.
وأما إذا قامت قرينة أخرى على عدم إرادة المعنى الحقيقي ويتردد الأمر بين كون المراد هو المجاز المشهور من بين سائر المجازات أو غيره، فهي - حينئذ - توجب ظهور اللفظ في إرادة المجاز المشهور.
وثانيا: على تسليم إفادتها الظهور، مع قطع النظر عن قرينة أخرى نقول: إن ذلك ظهور ضعيف، ولا عبرة بمثله في مقام صرف اللفظ عن حقيقته عند أهل اللسان فإن بناءهم في ذلك على الظهورات القوية القاهرة على الظهور الوضعي إما بالنصوصية والظهور، وإما بالأظهرية والظهور.
ولا ريب أنها مقهورة بالنسبة إلى الوضع في القسم الأول، إذ المفروض فيه أن اللفظ مع ملاحظتها - أيضا - يظهر في إرادة الحقيقة، فيكون الظهور الوضعي أقوى وأظهر، وهي بالنسبة إليه في القسم الثاني مساوية له، فيكونان من قبيل ظاهرين متعارضين، ولا ريب في عدم صلاحية كون أحد الظاهرين حاكما على الآخر وقرينة عليه.
هذا بخلاف ما إذا قامت قرينة أخرى صارفة للفظ عن معناه الحقيقي، إذ ليس - حينئذ - ظهور وضعي يغلب عليها، أو يعارضها، فتكون هي وحدها سليمة عن المعارض، قاهرة على احتمال إرادة غير المجاز المشهور من اللفظ فتوجب حمل اللفظ عليه - حينئذ - لذلك.
وأما الإشكال الثاني فدفعه أولا: بنفي الفرق بين ما نحن فيه وبين المشترك، والتزام كون الشهرة قرينة معينة في كلا المقامين، فتأمل.
84

وثانيا: بأن قرينة التعيين - عند المشهور - ليست مجرد غلبة الاستعمال، بل مركبة منها ومن تأكد العلاقة بين الحقيقي والمجازي، وحينئذ فالشرط الثاني منهما مفقود في المشترك.
هذا، لكن هذا الجواب إنما يناسب مذاق المشهور، وأما على مذاقنا فلا، لأن المختار عندنا كون سبب التعيين مجرد غلبة الاستعمال، وحينئذ فالتحقيق في الجواب ما حققنا في الجواب عن الإشكال الأول، من أن الظهور المستند إلى الشهرة ليس بحيث يترجح بنفسه على الظهور الوضعي، ليكون حاكما عليه، وموجبا لحمل اللفظ على موردها، بل لا بد من قرينة أخرى صارفة للفظ عن المعنى الآخر من معنيي المشترك، ومع وجود تلك القرينة لا حاجة في التعيين ثمة إلى الشهرة، لأن أصالة الحقيقة، السالمة عن المعارض في موردها توجب حمل اللفظ عليه، فلا تكون الشهرة معينة في المشترك، لا قبل قيام قرينة أخرى، ولا بعده.
هذا بخلاف ما نحن فيه، فإنه بعد قيام القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي لا يكون شيء غير الشهرة يقتضي حمل اللفظ على موردها، فالحمل والتعيين مستندان إليها حينئذ. فافهم ذلك فإنه لطيف.
الثاني: من مواقع النظر، ما اختاره من كون اللفظ ظاهرا في المعنى المجازي، مع بقاء وضعه في المعنى الأصلي، إذ مع بقائه كيف يمكن ظهوره في المجاز، وإنما يكون ذلك إذا حصل علقة بين اللفظ وبين المعنى الثاني بواسطة غلبة الاستعمالات، ومع حصولها، فيظهر من اللفظ المعنى الثاني، سواء لوحظت الغلبة أو لم تلاحظ.
والحاصل: أنه لا يمكن ظهور المعنى الثاني من اللفظ إلا إذا حصلت علقة بسبب غلبة الاستعمالات، ومع حصولها فلا يتوقف الظهور على ملاحظة سبب العلقة، بل يحصل من مجرد اللفظ، سواء لاحظ السبب، أو قطع النظر عنه.
ثم على تسليم إمكان ذلك، نطالب بالفرق بينه وبين المنقول، من جهة العمل والثمرة بينهما.
وما قيل في الفرق بينهما: من أن استعمال اللفظ في المعنى الأصلي - في هذا القسم - لا يتوقف على نصب القرينة، بخلاف استعماله - فيه - في المنقول، فإنه لا بد منها هناك، ومن أن القرينة على تقدير نصبها في إرادة المعنى الأصلي - في هذا القسم - إنما تكون رافعة للمانع عن ظهور المعنى الأصلي، لبقاء المقتضي له، وهو الوضع، بخلاف المنقول فإنها فيه موجدة للمقتضي، ومحرزة له، ومن أن استعمال اللفظ - في هذا
85

القسم - في المعنى الثاني، إنما هو بملاحظة المعنى الأصلي، والعلاقة بينه وبين المعنى الثاني، بخلاف استعماله - فيه - في المنقول.
مردود: بأن ذلك إنما هو بيان الفرق المعنوي، وبحسب الواقع، ولا يترتب عليه ثمرة عملية، كما هو المدعى.
هذا مضافا إلى ما في الفرق الأول، فإنه بعد فرض ظهور اللفظ مجردا عن القرينة - في المعنى الثاني - كيف يصح استعمال اللفظ في المعنى الأول بدونها.
الثالث: من مواقع النظر، ما اختاره من القسم الخامس، إذ لا ريب أنه لا يمكن وصول اللفظ إلى حد الحقيقة بالنسبة إلى المعنى الثاني، بسبب غلبة الاستعمال، مع بقاء وضعه للمعنى الأصلي، لأن غلبة الاستعمال إنما توجب حصول العلقة الوضعية بين اللفظ وبين المعنى الثاني، لأجل تضعيفها العلقة الوضعية الأولية الحاصلة بينه وبين المعنى الأصلي، لا إلى حد ترتفع تلك العلقة بالمرة - فمع بقائها - لا يمكن حصول العلقة الثانية.
ثم إن ذلك - على تسليمه - لا تظهر الثمرة العملية بينه وبين القسم الثاني، كما لا يخفى.
والحاصل أن سبب الاشتراك منحصر في الوضع التعيني دون التعييني.
وكيف كان، فالحق ما ذهب إليه المشهور من حصر المجاز المشهور في الثلاثة، وهي القسم الأول، والثاني، والرابع الذي هو المنقول.
ثم إنه تظهر الثمرة بين الأقسام الثلاثة بالنسبة إلى غير المشافه في الخطابات الغيبية، لأن المشافه لا يكون اللفظ مجملا عنده في شيء من الأقسام، فإنه يجب على المتكلم نصب القرينة على تعيين المراد، إذا كان اللفظ بنفسه لا يفيده.
إيقاظ: -
قد عرفت أنهم أوردوا على كون التبادر علامة للوضع بالمجاز المشهور، ولا يخفى أن ذلك يشكل على مذهب المشهور في المجاز المشهور، من التوقف، فإنهم إن كانوا متسالمين على تبادر المعنى المجازي وسبقه من اللفظ إلى الذهن، فلا وجه للتوقف، بل لا بد من حمله على المجاز، كما فعله أبو يونس، وإن كانوا مانعين من حصول ذلك التبادر، فلا وجه للنقض، إذ لا تبادر - حينئذ - بالنسبة إلى المعنى المجازي، حتى يرد النقض به.
ويمكن دفعه بوجهين:
86

الأول: إن نظرهم في النقض إنما هو إلى التبادر الابتدائي، وهو حاصل في المجاز المشهور، ونظرهم في التوقف إلى معارضة جهة الوضع. ولا يخفى أن هذا المقدار من التبادر - في المجاز المشهور - يكفي في النقض، لعدم تقيد التبادر - الذي هو علامة الوضع - بعدم معارضته لمثله.
الثاني: أن نظرهم في النقض إلى حال الغفلة عن الوضع، وفي التوقف إلى حال الالتفات إليه، فان هذا المقدار - أيضا - يكفي في النقض، لعدم تقيد التبادر بحصوله للملتفت إليه. فافهم.
التنبيه الثاني: إن التبادر، كما يعمل في تشخيص المعنى المطابقي، كذلك يعمل في حدوده ولوازمه،
بمعنى أنه يرجع إليه في تشخيص أن ذلك المعنى المطابقي إلى حد ومرتبة يلزمه هذا اللازم، أو إلى دون ذلك الحد، فلا يلزمه، وذلك كما في مسألة الأمر، ومسألة مفهوم الشرط والغاية، فان المشهور والمختار - خلافا لصاحب المعالم قدس سره - أن الأمر موضوع لمعنى بسيط، وهو الإلزام.
لكنهم اختلفوا في أن ذلك الإلزام إلى حد يلزم المنع من الترك، الذي هو معنى الوجوب أولا، فلا يكون للوجوب.
فادعى القائلون بالوجوب تبادر المنع من الترك من الأمر، فأثبتوا به كون الأمر موضوعا لهذا الحد من الإلزام.
وكذا نراهم - بعد اتفاقهم على إفادة الجملة الشرطية تعليق الوجود على الوجود - اختلفوا في أن هذا المعنى المطابقي إلى أي حد، فهل هو على حد العلية، فيلزم.
منه الانتفاء عند الانتفاء أيضا، أو ليس على هذا الحد، بل يكون لمجرد ربط الوجود على الوجود - فلا يلزمه الانتفاء عند الانتفاء؟ ثم إنه قد يستشكل في ذلك، بأن وجوب المقدمة - على القول به - لازم لوجوب ذيها، الذي هو المعنى المطابقي للأمر، وكذلك النهي عن الضد - على القول به - مع أن أحدا من المثبتين لم يتمسك بالتبادر - في واحد من المقامين - على إثبات هذين اللازمين لمعنى الأمر، فيكشف ذلك عن عدم اعتبار التبادر في إثبات اللوازم والحدود.
وقد يجاب عن ذلك تارة بأن اعتبار التبادر - في إثبات اللازم - إنما هو إذا كان اللازم من اللوازم البينة للمعنى المطابقي، والوجوب أو النهي عن الضد ليس من تلك اللوازم وأخرى بأن التبادر المعتبر إنما هو فيما إذا كان اللازم من لوازمه الوضعية لا
87

العقلية، كما في المقامين المذكورين.
وفي كل منهما نظر: أما الأول فلأن المعتبر - في اعتبار التبادر - إنما هو حصوله من جوهر اللفظ، ولم يعتبر فيه أحد أزيد من ذلك، فحينئذ لا فرق بين اللوازم البينة وغيرها، لتبادر كل منهما من اللفظ.
نعم الذهن أسرع انتقالا بالنسبة إلى الأولى، لكن الاعتبار ليس منوطا بسرعة الانتقال، بل منوطا بمجرد نفس الانتقال.
وأما الثاني: فلأنه إن كان المراد باللوازم الوضعية ظاهرها، وهو أن يجعل الواضع الملازمة بين الموضوع له، وبين تلك اللوازم، فلا ريب أنه لا يعقل ذلك، فإن الملازمة بين شيئين من الأمور الواقعية الناشئة عن اقتضاء ذاتيهما لا من الأمور القابلة للجعل.
وما ترى من تقسيم بعضهم الملازمة إلى العقلي والشرعي، فإنما هو من باب المسامحة، فإن المراد بالملازمة الشرعية إنما هو طلب الشارع هذا اللازم عند ذلك الملزوم، لا جعل الملازمة وإيجادها بينهما.
والحاصل: أن الملازمة لا تقبل الجعل مطلقا لا شرعا، ولا بالنسبة إلى غيره، بل هي عقلية مطلقا ناشئة عن اقتضاء الملزوم للازم بذاته، والعقل إذا أدرك ذلك الاقتضاء يحكم بالملازمة.
وإن كان المراد أن الواضع جعلها منضمة إلى ملزوماتها عند الوضع، فهذا يرجع إلى كونها مداليل تضمنية، لا التزامية، فإن المعنى المطابقي - هو المركب منهما - حينئذ.
هذا، والتحقيق في الجواب: أن إعمال التبادر كأعمال سائر علائم الوضع انما [يكون] إذا كان الاشتباه في المعنى المطابقي، إما من حيث ذاته، وإما من حيث حدوده وكيفياته، كما في مسألة الأمر، ومسألة مفهوم الشرط، وأما إذا كان الاشتباه في نفس الملازمة، بعد إحراز المعنى المطابقي بذاته وحدوده، فلا يجوز إعمال التبادر، بل لا بد من الرجوع إلى البراهين العقلية، ولا ريب أن مسألة وجوب المقدمة، والنهي عن الضد من المقام الثاني، فإنهم - بعد الفراغ عن إثبات مدلول الأمر بذاته وحدوده، من أنه هو الإلزام الخاص الملزوم للمنع من الترك - تعرضوا للبحث عن ثبوت الملازمة بين هذا المعنى وبين وجوب المقدمة، أو النهى عن الضد، فلذا لو تمسك أحد في هاتين المسألتين بالتبادر يعد سفها ومستهجنا.
88

هذا، فقد ثبت أن التبادر - في مقام الشك في المدلول المطابقي أو الالتزامي - علامة للوضع مطابقة أو التزاما، فإن المعنى المتبادر، إن تبادر من اللفظ ابتداء، فيكون ذلك التبادر علامة لثبوت الوضع له مطابقة، وكونه
تمام الموضوع له، وإن تبادر متفرعا على تبادر المعنى الآخر، ومتأخرا عنه، فيكون التبادر - حينئذ - علامة لكون هذا المعنى مدلولا التزاميا، ولثبوت الوضع له التزاما، بمعنى أنه يكشف عن أن المعنى المطابقي هو الذي وضع الواضع اللفظ بإزائه إلى حد يلزمه ذلك اللازم، فيكشف عن الوضع.
فمن هنا ظهر ضعف ما يظهر من بعض (1) الأعلام من إنكار كون التبادر علامة بالنسبة إلى اللازم معللا بأن علامة الحقيقة هو تبادر المعنى من اللفظ، وفهمه منه بلا واسطة.
وتوضيح الضعف: أن التبادر كاشف عن تحقق وضع من الواضع، إما للمعنى المتبادر، كما إذا كان التبادر ابتدائيا، أو لمعنى يستلزمه، كما إذا كان مترتبا، وليس كاشفيته منحصرة في إحراز الوضع للمعنى المتبادر، حتى ينحصر التبادر الذي هو علامة للوضع في التبادر الابتدائي، نظرا إلى أنه لا يمكن إثبات الوضع للمعنى المتبادر بالتبادر المترتب، لأن هذا المعنى من لوازم الموضوع له، كما هو المفروض، ولا ريب أن اللفظ مجاز في خصوص اللازم، كما ذكره هذا المنكر أيضا.
هذا، ولعل منشأ غفلة هذا القائل - عن الحال - ملاحظة عبارات بعض منهم في كاشفية التبادر، وهي أن التبادر علامة للحقيقة، كما ذكرها قدس سره أيضا، فإن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له، فيكون ظاهر العبارة أن التبادر علامة لكون اللفظ مستعملا في المعنى المتبادر، على وجه الحقيقة، وهذا إنما يتصور في المعنى المطابقي، وأما الالتزامي فلا ريب أن اللفظ مجاز فيه قطعا، فكيف يجوز إثبات كون استعمال اللفظ فيه على وجه الحقيقة؟ فينحصر التبادر الذي هو العلامة في التبادر الابتدائي، الذي يختص حصوله بالمعنى المطابقي.
لكن التأمل التام يفضي إلى أن هذا التعبير من باب المسامحة، وأن الغرض كون التبادر علامة للوضع على النحو الذي وصفناه.
(1) وهو المحقق المدقق صاحب هداية المسترشدين: 45 عند قوله: وقد عرفت ان علامة الحقيقة هو تبادر المعنى من اللفظ وفهمه منه بلا واسطة فلا نقض.
89

ووجه هذه المسامحة: أن تبادر اللازم تابع لتبادر الملزوم، الذي هو المعنى المطابقي، فإذا حصل لا ينفك منه تبادر اللازم، فهو يرجع بالأخرة إلى اتحاده مع تبادر الملزوم في الوجود، فإذا تبادر الملزوم بذاته وحده، فهو يكشف عن أمرين:
أحدهما: أن المعنى المطابقي هذا المعنى بهذا الحد.
وثانيهما: أن هذا المعنى الآخر لازم لذلك المعنى المطابقي، فهو يغني عن إعمال تبادر اللازم وحده.
والحاصل: أن تبادر المعنى المطابقي بحدوده، لما كان مغنيا عن تبادر اللازم في إحراز الحد، فلذا عبر بعضهم بأن التبادر علامة للحقيقة. فافهم.
التنبيه الثالث: قد يمنع عن كون التبادر علامة للوضع - في بعض الموارد - بكونه إطلاقيا، أو باحتمال كونه إطلاقيا،
فلا بد حينئذ من ذكر أمرين:
أحدهما: في بيان معنى التبادر الإطلاقي.
وثانيهما: في التبادر الوضعي عند اشتباه الحال فلنقدم الكلام في الأمر الأول.
فنقول: إن للتبادر الإطلاقي إطلاقات أربعة:
الأول: تبادر المعنى بسبب كثرة استعمال اللفظ فيه مجازا، أو حقيقة عند تجرده عن القرينة من غير جهة الشهرة، فالأول كما في المجاز المشهور، على قول أبي يونس، وعلى ما يظهر من الشيخ () محمد تقي، كما عرفت سابقا، وكما في استعمال اللفظ الموضوع للكلي في فرد منه، كما في المطلقات بالنسبة إلى الأفراد الشائعة - على أحد الوجوه - في انصرافها إليها، على القول بالانصراف، وإلا فقد عرفت المنع سابقا من انصرافها إليها، وأن حملها عليها إنما هو من باب الأخذ بالمتيقن، لا من باب ظهور اللفظ فيها، لأن الاستعمال المجازي المحفوف بالقرينة المتصلة لا يمكن أن يكون سببا لذلك، سيما مع الاعتراف ببقاء العلقة الوضعية بين اللفظ وبين المعنى الأصلي الكلي، بل نمنع من جواز استعمال المطلق في الفرد مجازا، لما قد عرفت من منع استعمال المشترك في أحد معانيه كذلك، من أن الاستعمال المجازي مبني على ملاحظة إفادة النكات البديعية، التي منها حركة ذهن السامع، وانتقاله من المعنى الأصلي إلى الفرعي، ولا يخفى أنها لا تحصل هنا، لأن المطلق إذا وقع في حيز الحكم، فلا يكون المراد به نفس الطبيعة
90

بما هي قطعا، بل لا بد أن يراد تلك الطبيعة بملاحظة وجودها الخارجي - الراجع إلى وجود الأفراد - فيؤل الأمر بالأخرة إلى إرادة الفرد، وهي لما كانت قابلة لإرادتها في ضمن جميع الأفراد، أو في ضمن بعضها الخاص، فيكون المراد مجملا، فيسقط اللفظ عن الظهور، ويصير مجملا، كالمشترك، فلا بد من قرينة معينة، فاللفظ عند الإطلاق لا ظهور له في الطبيعة - من حيث هي - حتى يسرع ذهن السامع إليها، ثم ينتقل بواسطة القرينة إلى الفرد.
أقول: فيه منع كون وقوعه في حيز الطلب موجبا لإجماله، مع الاعتراف بوضعه للطبيعة - بما هي - لإمكان طلبها من حيث هي، لكونها مقدورة بتوسط الأفراد، فعلى هذا التقدير فالأفراد لا حاجة إلى ملاحظتها في الطلب، بل هي من مقدمات امتثال المكلف، فإذا كان هذا الاحتمال قابلا للإرادة، فاحتمال ملاحظة الخصوصية - في الطبيعة - لا يوجب سقوط اللفظ عن ظاهره، فيكون ظاهرا في الطبيعة، فيحصل الانتقال عند قيام القرينة على خصوص الفرد.
نعم يمكن توجيه المنع: بأن فائدة الاستعمال المجازي إنما هي حصول الحركة والانتقال، وهي حاصلة من الاستعمال على غير هذا الوجه أيضا، بأن يستعمل اللفظ في الطبيعة وأريد الخصوصية من الخارج من باب دالين ومدلولين، ومطلوب واحد، فإن القرينة على تعيين المراد لازمة على التقديرين عند إرادة الخصوصية، فلا حاجة إلى الاستعمال المجازي.
فإن قيل: إن للاستعمال المجازي فائدة أخرى، وهي ملاحظة العلاقة والمناسبة بين المعنيين، فتكون مائزة بين استعمال العالم وبين استعمال العامي المبتذل، كما ذكرها السيد بحر العلوم (1) في وجه جواز استعمال المشترك في أحد معانيه مجازا.
قلت: إن ملاحظة العلاقة ليست من الفوائد، بل هي كلفة زائدة لا بد من ارتكابها في الاستعمال المجازي، ليصح الاستعمال هذا، مع أن المقصود بالمجاز هي الفوائد التي ينتقل إليها السامع عند الاستعمال، ولا ريب أنه لا يطلع على ما ذكر إلا بعد
(1) شرح الوافية للسيد بحر العلوم: «المخطوط» في مبحث الوضع في أول كتابه، وإليك لفظه: ثم لا يخفى أنه ربما يستعمل اللفظ المشترك في اصطلاح به التخاطب في أحد معانيه، لأجل العلاقة بينه وبين معنى آخر منها لا لكونه موضوعا له لقصد البلاغة والتجنب عن استعمال الكلام العامي المبتذل، ولا ريب في مجازية هذا الاستعمال مع صدق حد الحقيقة عليه، لكونه مستعملا فيما وضع له في اصطلاح به التخاطب فينتقض به الحدان طردا وعكسا.
91

فهمه المراد من القرينة، وبعد تنبيهه على الثاني، لوحظت العلاقة أم لا، ريب أن ذلك مما يضحك الثكلى.
هذا، وأما الثاني - أي تبادر المعنى بسبب كثرة استعمال اللفظ فيه حقيقة عند تجرده عن قرينة المراد - فهو كما في المشترك الذي كثر استعماله في أحد معانيه، على القول بكون الشهرة قرينة معينة فيه، وصالحة لها، لكنك قد عرفت المنع سابقا عنه.
الثاني من إطلاقاته: إطلاقه على تبادر فرد من الموضوع له، لغلبة وجوده، كما هي أحد الوجوه في انصراف المطلقات إلى أفرادها الشائعة، على القول به.
الثالث: إطلاقه على تبادر فرد من الموضوع له، لكماله بالنسبة إلى سائر الأفراد، كما هو أحد الوجوه في المطلقات التي لها فرد شائع الوجود، على القول بالانصراف.
الرابع: إطلاقه على تبادر فرد من اللفظ الموضوع للكلي، لإطلاق اللفظ، بمعنى عدم ذكر قيد معه، وذلك فيما إذا كان بعض أفراد هذا الكلي متميزا عن غيره من الأفراد بعدم ملاحظة قيود غيره بأن تكون القيود المميزة لغيره قيودا وجودية محتاجة إلى الملاحظة في التمييز، بخلاف ذلك البعض، لكفاية عدم ملاحظة قيود غيرها في تمييزه، فيكون الفصل المميز له من الأمور العدمية الغير المحتاجة إلى الملاحظة هذه.
أقول: ولعل له إطلاقات أخرى غير ما ذكر.
والتحقيق عندي: رجوع الإطلاقات جميعا إلى عنوان واحد من الإطلاق، وهو تبادر المعنى من غير جوهر اللفظ، فحينئذ له أفراد، والأقسام المذكورة منها.
الأمر الثاني: في تشخيص التبادر الوضعي.
وتحقيق الكلام فيه: إنه إذا دار الأمر بينه وبين التبادر الإطلاقي بأحد المعاني الثلاثة المتقدمة، فالمرجع في تمييزه إلى أصالة عدم القرينة الأزلي الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي، بمعنى استصحاب عدمها الأزلي، للشك في تبدله إلى الوجود، لأنه لم يعلم استناد المتكلم إلى شيء من غلبة الاستعمال، أو الوجود، أو الكمال - بالفرض - فلم يعلم كونها قرينة صارفة للفظ عن ظهوره بحسب الوضع، وإنما لم نقل بالرجوع إلى أصالة عدم قرينية هذه الأمور الموجودة المكتنفة باللفظ، لكون ذلك تعيينا للحادث بالأصل، ولا ريب في عدم جريانه فيه، لتعارضه بمثله، إذ كما يقال: الأصل عدم كون هذه الشهرة - مثلا - قرينة، كذلك يقال: الأصل عدم كونها غير قرينة.
نعم يمكن الانتقال - حينئذ - إلى قاعدة أخرى، وهي أنه إذا ابتلي الأصل بمثله - في الملزوم - يرجع إليه بالنسبة إلى لوازمه، فينفى به الاحتمال الذي يلزمه
92

الحوادث أكثر مما يلزم الاحتمال الآخر، فيقال: الأصل عدم الحوادث الزائدة المشكوكة اللازمة لهذا الاحتمال - على تقدير ثبوته - فيتعين الاحتمال الآخر، الذي هو أقل حادثا من الاحتمال المذكور، ولا ريب أن الأمور المذكورة - على تقدير كونها قرائن - يلزمها من الحوادث أكثر مما يلزمها - على تقدير عدم كونها قرائن - إذ على التقدير الأول يلزمها الملاحظة، والاعتماد عليها ولا تكون كذلك على التقدير الآخر، فهذه الملاحظة، وذلك الاعتماد مشكوكان، فالأصل عدمهما، فيثبت عدم كونها قرائن، وأن المتكلم استند إلى جوهر اللفظ، وهذا الأصل - أيضا - يرجع إلى استصحاب العدم الأزلي، كما لا يخفى.
ثم إن هذا الأصل - أعني أصالة عدم القرينة - فيما نحن فيه، وإن كان معتبرا في نفسه، إلا أنه ليس في الاعتبار بمثابة أصالة عدم القرينة في المقام الثاني - أعني مقام الشك في المراد - بعد إحراز الحقيقة، كما يشهد له مراجعة طريقة العقلاء.
وأيضا تشخيص التبادر الوضعي بالأصل يخرجه عن كونه علامة قطعية للوضع، فإنه إنما يكون كذلك، إذا أحرز كونه ناشئا عن جوهر اللفظ بطريق القطع، إلا أنه - حينئذ - لما كان محرزا بالظن المعتبر، فيكون اعتباره - حينئذ - بمنزلة اعتباره مع إحرازه بالقطع، فلا ينافي ذلك ما صرنا إليه، من عدم حجية الظن في اللغات عند اشتباه الوضع، إذ المراد - ثمة - منع حجيته من باب الظن المطلق.
هذا، وأما إذا دار الأمر بينه وبين التبادر الإطلاقي بالمعنى الأخير، وهو المعنى الرابع، فلا مجرى للأصل المذكور فيه بوجه، فإنه على تقدير كون التبادر إطلاقيا - بهذا المعنى - لا يلزم أمر حادث، ليتمسك في نفيه بالأصل، لما قد عرفت من أن فصله عدمي، فيكفي في تعينه عدم ملاحظة خصوصية زائدة، فيكون احتماله موافقا للأصل، ولذا قال أهل المعقول: إن الماهيات البسيطة تعينها إنما هو بذاتها، لا بملاحظة أمر آخر، لكونها - أي الملاحظة - مستلزمة للتركيب، وهو خلاف الفرض، من كونها بسائط.
نعم يمكن التمييز - حينئذ - بالرجوع إلى صحة السلب وعدمها بالنسبة إلى الفرد الآخر، الذي لا بد في تعيينه من ملاحظة خصوصية زائدة، فان صح السلب بالنسبة إلى ذلك الفرد، فيتعين كون التبادر وضعيا، وإلا فيتعين كونه إطلاقيا، وتشخيص التبادر بصحة السلب وعدمها إنما هو على سبيل القطع، لكونهما من العلائم القطعية وهذا بخلاف تشخيصه بالأصل، كما عرفت.
93

ومن الطرق العلمية العقلية إلى معرفة الحقيقة والمجاز صحة السلب وعدمها،
فالثاني علامة للأول، والأول للثاني، وقد عبر عنهما العضدي بصحة النفي وعدمها، وقال: الأولى زيادة قيد في نفس الأمر احترازا عن مثل قولهم للبليد: ليس بإنسان (1).
وأورد عليه المحقق القمي رحمه الله بأن القيد غير محتاج إليه، لأن المراد صحة سلب المعاني الحقيقية حقيقة، والأصل في الاستعمال الحقيقة (2).
وفيه: أن كون المراد صحة سلب المعاني حقيقة لا يغني عن القيد، بل لا بد من أخذه في الكلام ليدل على المراد.
وأما قوله: فالأصل في الاستعمال الحقيقة، فإن أراد به تشخيص القضايا السلبية الخارجية، كقولهم: البليد ليس بحمار، أو أنه ليس بإنسان، وأمثالهما، بأن يكون المراد أن الظاهر - من تلك القضايا السالبة - السلب بحسب الواقع، وبعنوان الحقيقة، لا المسامحة، لأن السلب حقيقة في ذلك، والأصل في الاستعمال الحقيقة، ففيه: أن ذلك لا يرتبط بما نحن فيه بوجه، لأن الكلام في دلالة قول العلماء: إن صحة السلب علامة للمجاز، على أن المراد بالسلب هو بعنوان الحقيقة والواقع، وأين هذا من القضايا السالبة؟ وإن كان المراد تشخيص، وتعيين المراد من قولهم ذلك، وإثبات ظهوره في السلب الحقيقي، نظرا إلى أن مادة السلب ظاهرة في السلب بعنوان الحقيقة، لأنه معناه الحقيقي، والأصل استعماله في كلامهم فيه، فيكون قولهم: صحة السلب - ظاهرا - في السلب بعنوان الحقيقة والواقع، فهو متجه.
ثم إن العضدي إنما هو تعرض لصحة السلب التي هي علامة المجاز، وسكت عن علامة الحقيقة، وأورد عليها بلزوم الدور (3).
(1) شرح المختصر للعضدي، مخطوط: وإليك نصه: أقول قال الأصوليون نعرف المجاز بالضرورة بأن يصرح أهل اللغة باسمه أو بحده أو بخاصته، وبالنظر بوجوه، منها صحة النفي في نفس الأمر كقولك للبليد ليس بحمار، وإنما قلت في نفس الأمر ليندفع ما أنت بإنسان لصحته لغة.
(2) في القوانين: 18، قال: وزاد بعضهم في نفس الأمر احترازا عن مثل قولهم للبليد ليس بإنسان ولا حاجة إليه لأن المراد صحة سلب المعاني الحقيقية حقيقة والأصل في الاستعمال الحقيقة فالقيد غير محتاج إليه وإن كان مؤداه صحيحا في نفس الأمر.
(3) شرح المختصر للعضدي في علائم الحقيقة والمجاز وإليك لفظه: المراد بصحة سلبه سلب كل ما هو معناه حقيقة لأن معناه مجازا لا يمكن سلبه وسلب بعض المعاني الحقيقية لا يفيد لجواز سلب بعض المعاني الحقيقية دون
بعض فإذن لا تعرف صحة سلبه إلا إذا علم انه فيما استعمل فيه مجاز فإثبات كونه مجازا به دور، ووروده على الحقيقة أظهر.
94

وأوضحه المير سيد شريف - في حاشيته عليه - مع طرده الدور في علامة الحقيقة أيضا، بأن المراد - بصحة السلب وعدمها - ليس صحة سلب اللفظ عن المعنى، ولا صحة سلب المعاني المجازية، ولا الأعم، بل المراد صحة سلب المعنى الحقيقي، ولما كان سلب البعض وعدمه لا يكفيان في تعيين الحقيقة والمجاز، فالمراد صحة سلب جميع المعاني الحقيقية، ولا ريب أنه يتوقف على أن المورد ليس منها، وكذا عدم صحة سلب الجميع عن مورد يتوقف على أن المورد منها، فيلزم الدور في علامة الحقيقة مصرحا، وفي علامة المجاز
مضمرا بواسطتين (1).
والظاهر أن الوجه - في عد السيد الدور مصرحا في علامة الحقيقة، ومضمرا بواسطتين في علامة المجاز - هو أن معرفة كون المعنى المبحوث عنه مجازا متوقفة على صحة سلب جميع المعاني الحقيقية عنه، ومعرفة ذلك متوقفة على معرفة أن ذلك المعنى ليس منها، لاحتمال أن يكون سلب المعاني الأخرى الحقيقية عنه من باب سلب بعض المعاني الحقيقة للمشترك عن بعض، ومعرفة هذا موقوفة على العلم بكونه مجازا، فلزم الدور بواسطتين. هذا في علامة المجاز.
وأما في علامة الحقيقة فبيانه: أن معرفة المعنى المبحوث عنه، والعلم بكونه حقيقة موقوفة على عدم صحة سلب بعض المعاني الحقيقية عنه، ومعرفة ذلك موقوفة على معرفة كونه حقيقة، إذ لولاها لما علم أن عدم صحة السلب بعنوان الحقيقة، فلا يثبت بها الحقيقة.
هذا، ولكنه لا يخفى ما فيه وتوضيح الإشكال فيه يحصل من رسم مقدمة:
وهي أن الدور في الأصل مصدر (دار، يدور) إذا سار مستديرا كسير الرحى، وفي الاصطلاح يطلق على معنيين:
(1) الحاشية على شرح المختصر، مخطوط، عند قوله: الاعتراض توجيه ان يقال ليس المراد بصحة السلب صحة سلب اللفظ من حيث هو عن المعنى لصحة سلب الألفاظ من حيث هي ألفاظ عن معانيها الحقيقية كأن يقال للأسد: إنه ليس بأسد أي ليس بهذا اللفظ بل صحة سلبه بحسب معناه ولا يراد سلب جميع المعاني لأن معناه مجازا لا يمكن سلبه قطعا لأدائه إلى سلب الشيء عن نفسه بل سلب ما هو معناه حقيقة ولا يراد سلب بعض المعاني الحقيقية فإنه لا يفيد كما في المشترك بل سلب جميعها ولا يعرف صحة سلب جميع ما هو معناه حقيقة عن المعنى المفروض إلا إذا علم أن اللفظ فيما استعمل فيه أي في المعنى المفروض مجاز فإثبات كونه مجازا بعرفان صحة السلب دور مضمر بواسطتين.
95

أحدهما: كون وجود الشيء مستلزما لعدمه، وهذا الإطلاق شائع عند الفقهاء.
وثانيهما: كون الشيء متوقفا على ما يتوقف على ذلك الشيء، وهذا الإطلاق شائع عند الأصوليين، وقد يطلق عند الأصوليين على لازم هذا المعنى من توقف الشيء على نفسه، أو تقدمه على نفسه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن مراد العضدي بالدور ليس المعنى الأصلي، ولا الاصطلاحي عند الفقهاء قطعا، بل هو إما خصوص الإطلاق الثاني، وهو مصطلح الأصوليين، أو لازمه.
فعلى الأول يصح قوله: بأن الدور مصرح في علامة الحقيقة، لعدم الواسطة فيه أصلا بهذا المعنى، فإن توقف معرفة عدم صحة سلب بعض المعاني الحقيقية على معرفة عدم كون مورد الاستعمال مجازا بلا واسطة، والمفروض توقف معرفة كونه مجازا على معرفة عدم صحة سلب بعض المعاني، لأنه علامة له، أي لكونه معنى مجازيا فيتوقف عدم صحة سلب بعض المعاني على معرفة المجاز، التي تتوقف على معرفة عدم صحة السلب بلا واسطة.
لكنه يرد الإشكال في الالتزام بكون علامة المجاز دورا بواسطتين، إذ على هذا التقدير تنحصر الواسطة في واحدة، لأن المتوقف على ما يتوقف هو عليه إنما هو معرفة صحة سلب جميع المعاني الحقيقية عن المعنى المبحوث عنه، وهذه وإن كانت متوقفة على معرفة أن ذلك المعنى ليس من المعاني الحقيقية، لكن معرفة أن هذا ليس منها لا تتوقف على معرفة كونه معنى مجازيا، بل لازمة لها، بمعنى أنهما - أي معرفة كونه معنى مجازيا ومعرفة أنه ليس من المعاني الحقيقية - مفهومان متغايران بحسب المفهوم، ومتحدان بحسب المصداق، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر، فيكون كل منهما مستلزما للآخر، لا متوقفا عليه، بحيث لو فرض إمكان انفكاكهما بحسب المصداق أيضا، لم يلزم دور أصلا، وإنما لزم ذلك لأجل أن توقف - معرفة صحة سلب جميع المعاني على معرفة عدم كون المعنى المبحوث عنه منها - عين توقفه على معرفة كونه مجازا، لعدم إمكان الانفكاك بينهما، لكونهما متساويين في الصدق فإذا صدق الأول صدق الثاني.
فالحاصل: أن معرفة صحة سلب جميع المعاني الحقيقية متحدة مصداقا مع معرفة كون المعنى المبحوث عنه مجازا، لا متوقفة عليها، حتى يلزم واسطة أخرى غير توقفها على معرفة أنه ليس من المعاني الحقيقية، فتنحصر الواسطة، وهي
96

توقفها على معرفة أنه ليس من المعاني الحقيقية، وتوجب تلك الواسطة لأجل تصادقها مع ما يتوقف على معرفة صحة سلب المعاني الحقيقية، توقف معرفة سلب المعاني التي هي متوقفة عليها، لمعرفة كون المعنى مجازيا على معرفة كونه معنى مجازيا، مع توقفها على صحة سلب المعاني، ولو لا تغاير تلك الواسطة مع ما يتوقف على معرفة صحة سلب المعاني بحسب المفهوم، لكان الدور مصرحا، لعدم الواسطة حينئذ بوجه، وإنما أوجب ذلك التغاير ثبوت الواسطة بالاعتبار، وبالدقة العقلية. فافهم ذلك فإنه دقيق.
وأما على الثاني - أي على أن يكون المراد بالدور لازمه - فينعكس الإشكال، فإنه يتجه - حينئذ - عد الدور في علامة المجاز مضمرا بواسطتين، لكن لا يمكن نفى الواسطة في الدور في علامة الحقيقة، ليكون الدور مصرحا، كما ذكره، فإن كل دور مصرح بالمعنى الأول، فهو مضمر بالمعنى الثاني بواسطة، فإن توقف شيء، أو تقدمه على نفسه، إنما هو لأجل توقف - ما يتوقف عليه ذلك الشيء - على ذلك الشيء، فيكون ذلك المتوقف عليه واسطة.
وأما إثبات واسطتين في الدور الوارد على علامة المجاز - على هذا التقدير - فلأنه لما ثبت توقف ما يتوقف عليه معرفة المجاز على معرفته بواسطة، فتكون تلك الواسطة، وذلك المتوقف عليه معرفة المجاز كلاهما واسطتين في تقدم معرفة المجاز، أو توقفه على نفسه، فإن تقدم معرفة المجاز على معرفة نفسه بعد ملاحظة توقفها على معرفة صحة سلب جميع المعاني، ثم ملاحظة توقف معرفتها على معرفة الواسطة المتصادقة مع معرفة كون المعنى المبحوث عنه معنى مجازيا، فيثبت الواسطتان.
فإن قلت: لعل اصطلاحهم في الدور - المضمر والمصرح - على أنه إذا لم تبلغ الواسطة إلى اثنتين، فيسمى الدور مصرحا - وإن كان له واسطة واحدة - وإن الدور المضمر هو الذي بلغ الواسطة فيه إلى اثنتين، أو أزيد فيرتفع الإشكال.
قلنا: إن ذلك مدفوع:
أما أولا: فبأن الاصطلاحات وإن كان يتسامح فيها، لكن لا يجوز التسامح فيها إلى حد لم تلاحظ المناسبة فيه أصلا، بل لا بد فيها من ملاحظة أدنى مناسبة لا محالة، لكونها من أقسام النقل، لكن لا يعتبر فيها ملاحظة المناسبة كما تلاحظ في المجازات، ولا ريب أن إطلاق الدور المصرح - على ما ثبت التوقف فيه بواسطة - لا مناسبة فيه أصلا، فإن معنى التصريح في الأصل النطق بما لا يحتمل الخلاف، وإنما وصف به الدور المصرح كناية عن أن التوقف فيه عند العقل ظاهر، بحيث لا حاجة إلى ملاحظة وسط
97

فكأنه صريح.
وأما ثانيا: فبأنه مناف لما ذكره في حاشيته على الحاشية (1) التي كتبها هو على العضدي، من أنه ألقى الواسطة الثانية في الدور الوارد على صحة السلب وأسقطها، فيكون الدور مضمرا بواسطة واحدة. نقل ذلك ملا ميرزا جان - فيما كتبه على حاشية المير سيد شريف -، ولا ريب أنه ينادى بنص هذا الاحتمال، وأن الدور المضمر هو ما ثبت التوقف فيه بواسطة في الجملة، ولو بواسطة واحدة.
وكيف كان، فالحق أن الدور في علامة المجاز بمعناه الأول المصطلح عليه، أعني توقف الشيء على ما يتوقف على ذلك الشيء مضمر بواسطة واحدة، لما عرفت في بيان الإشكال على الاحتمال الأول، من أنه لا يتوقف
معرفة أن المعنى المبحوث عنه ليس من المعاني الحقيقية على العلم بكونه مجازا، بل ملازمة له كما عرفت، فينحصر الواسطة في توقف صحة سلب جميع المعاني الحقيقية عن المعنى المذكور على معرفة أنه ليس منها، إذ لو فرض سقوط تلك الواسطة يصير الدور مصرحا وبلا واسطة، كما ذكره ملا ميرزا جان فيما كتبه على حاشية المير سيد شريف.
ثم إنه لا بأس بذكر عبارة ميرزا جان () - هنا - استشهادا لبعض ما مر من الإشكال، ولما سيأتي منه.
فنقول: إنه قال - بعد نقل تقرير الدور عن السيد المذكور - ما هذه عبارته: ثم أقول: لا يخفى أن الدور في علامة المجاز مضمر، لكن بواسطة واحدة، إذ لو طرح إحدى الواسطتين صار مصرحا، فما ذكره (قدس سره) أنه دور مضمر بواسطتين محل نظر، ولو
(1) انظره عند قوله: ورود هذا الاعتراض على الحقيقة. وإليك نصه: هذا إذا سلم ان العلم بأنه ليس شيئا من المعاني الحقيقية يتوقف على العلم بكونه مجازا واما إذا قيل لا توقف هناك بل الأول مستلزم للثاني إذ المفروض استعمال اللفظ في ذلك المعنى أو جواز استعماله، فإذا علم انه ليس شيئا من المعاني الحقيقية فلا بد ان يعلم حينئذ كونه معنى مجازيا فالدور مضمر بواسطة واحدة لكن بيانه يتوقف على اعتبار واسطة أخرى هي العلم بأنه ليس شيئا من المعاني الحقيقية ليظهر العلم بكونه معنى مجازيا واعلم ان العلم بالدليل أعني صحة سلب جميع المعاني مقدم على العلم بكونه مجازا في الزمان ليتصور الاستدلال والنظر ولا شك أن العلم بكونه ليس شيئا من المعاني الحقيقية زمانا على العلم بصحة السلب لأنه دليله أيضا ثم العلم بكونه ليس شيئا منها إذا كان مع العلم بكونه مجازا كان العلم بكونه مجازا متقدما على العلم بصحة السلب زمانا ولو فرض ان العلم بصحة السلب مع العلم بكونه ليس شيئا منها ومع العلم بكونه مجازا كان الدور وهو تقدم الشيء على نفسه زمانا لازما فلا ينفع في هذا المقام الاعتراض بأنه لا يتوقف بل هنا استلزام فتأمل منه رحمه الله.
98

حمل كلامه على تحقق الواسطتين في هذا الدور المضمر، لتأبي عنه ما ذكره في حاشيته على الحاشية ()، حيث قال: هذا إذا سلم أن العلم بأنه ليس شيئا من المعاني الحقيقية يتوقف على العلم بكونه مجازا، وأما إذا قيل: لا توقف هناك، بل الأول مستلزم للثاني، إذ المفروض استعمال اللفظ في ذلك المعنى، أو جواز استعماله، فإذا علم أنه ليس شيئا من المعاني الحقيقية، فلا بد أن يعلم كونه معنى مجازيا، فالدور مضمر بواسطة واحدة، لكن بيانه يتوقف على اعتبار واسطة أخرى، هي العلم بأنه ليس شيئا من المعاني الحقيقية، ليظهر العلم بكونه مجازيا.
أقول: لا يخفى بعد المساهلة في تسمية الدور المصرح مضمرا بواسطة واحدة، أنه بعد إسقاط الواسطة المذكورة لا يتم الدور، إذ كما أمكن منع توقف العلم - بكون هذا المعنى ليس شيئا من المعاني الحقيقية - على العلم بكونه مجازيا، كذلك يمكن منع توقف العلم - بصحة سلب جميع المعاني الحقيقية - على العلم بكونه مجازيا، والسند السند بعينه، انتهى كلامه.
أقول: يمكن توجيه كلام السيد الشريف () في التزامه بأن الدور مضمر في علامة المجاز بواسطتين بما أشار إليه ملا ميرزا جان () بقوله: ولو حمل كلامه على تحقق الواسطتين.
وتوضيحه: أنه يحمل كلامه على الدور المصطلح، بمعنى توقف صحة السلب على معرفة المجاز التي هي تتوقف عليها، فيوجه كلامه، بأن مراده من قوله: بكون الدور مضمرا بواسطتين أنه مضمر بسبب تحقق واسطتين إحداهما للدور المصرح وهي معرفة صحة سلب جميع المعاني الحقيقية، والأخرى للدور المضمر، وهي معرفة أن المعنى المبحوث عنه ليس شيئا منها.
فعلى هذا لا يورد عليه بعلامة الحقيقة، فإن الواسطة فيها واحدة، هي معرفة عدم صحة سلب بعض المعاني عن المعنى المبحوث عنه، وليست هي متوقفة على واسطة أخرى غير توقفها على معرفة أنه المعنى الحقيقي، حتى يثبت واسطتان.
ولا يرد عليه - أيضا - أن معرفة كون المعنى ليس شيئا من المعاني الحقيقية ملازمة لمعرفة كونه مجازا، لا متوقفة عليه فإنهما يردان عليه بناء على كون المراد بالواسطتين:
99

الواسطتين المضمرتين، بأن يكون الباء () صلة للإضمار، إذ على هذا التقدير يلزم اعتبار واسطة أخرى، غير معرفة صحة سلب جميع المعاني، وغير معرفة أن المعنى ليس منها، وهي معرفة كونه معنى مجازيا، ليتحقق واسطتان مضمرتان. وأما على هذا التوجيه فالواسطة الأخيرة ساقطة، فلا يرد شيء من الإيرادات السابقة عليه، فإن بناءها على كون المراد بالواسطتين: الواسطتين المضمرتين، غير معرفة صحة سلب جميع المعاني الحقيقية، التي هي الواسطة في الدور المصرح.
هذا، لكن هذا التوجيه لا يناسب قوله في حاشية الحاشية (): هذا إذا سلم... إلى آخره، كما ذكره ملا ميرزا جان، فإنه ينادي بأنه إذا سقطت المقدمة الأخيرة فالدور مضمر بواسطة واحدة، ومقتضى التوجيه كونه مضمرا بواسطتين على هذا التقدير.
ثم إنه يرد على ما ذكره السيد في حاشية الحاشية ()، وهو قوله: هذا إذا سلم إلى قوله: وأما إذا قيل: لا توقف هناك، بل الأول مستلزم للثاني... إلى آخره، إن ذلك يقتضي أن لا يكون دور أصلا، فإنه كما يمكن أن يقال: إنه لا يتوقف معرفة كون المعنى ليس شيئا من المعاني الحقيقية على معرفة كونه مجازيا، بل هي مستلزمة لها، والاستلزام غير التوقف، كذلك يمكن أن يقال: إنه لا يتوقف معرفة صحة جميع المعاني الحقيقية على معرفة أن المعنى المبحوث عنه ليس هنا، بل هي مستلزمة لها، والاستلزام غير التوقف وهذا هو ما أشار إليه ملا ميرزا جان (). والسند السند بعينه.
ثم على فرض تسليم توقف صحة سلب جميع المعاني على معرفة أن المعنى ليس منها نقول: إنه لما كان معرفة أنه ليس شيئا منها ملازمة لمعرفة كونه مجازا، فتوقف صحة سلب جميع المعاني عليه يصير عين توقفه على معرفة المجاز، فيصير الدور مصرحا، فلا معنى لتسميته مضمرا حينئذ.
اللهم إلا أن يمنع ذلك بأن التوقف على ملازم الشيء لا يستلزم التوقف على ذلك الشيء، فيمنع توقف صحة السلب على معرفة المجازية.
لكن لا يخفى أن هذا الجواب يعيد المحذور الأول، وهو منع الدور، إذ لا ريب أن لزومه لأجل رجوع معرفة المجاز بالأخرة إلى معرفة نفسه.
100

وبعبارة أخرى: إنه لأجل توقف معرفة صحة سلب جميع المعاني على معرفة ما يتوقف على معرفة صحة السلب، فإذا قيل: بأن معرفة صحة سلب جميع المعاني يتوقف على معرفة لازم ما يتوقف معرفته على صحة السلب، لا على نفس ما يتوقف على صحة السلب، والاستلزام غير التوقف، فلا يكون صحة السلب متوقفة على ما يتوقف عليها، فلا يلزم الدور أصلا.
لكن الإنصاف أنه، وإن لم يلزم الدور المصطلح - حينئذ - لكنه لا يخلو عن محذور، لاشتماله على محذور نظير الدور، وهو تقدم زمان معرفة المعلوم على زمان معرفة علامته، فإذا توقف معرفة صحة سلب جميع المعاني الحقيقية على معرفة أن المعنى ليس شيئا منها، فلا يحصل العلم بصحة سلب جميع المعاني، إلا بعد زمان معرفة أن المعنى ليس منها، والمفروض أن المعلوم - الذي هو معرفة كونه مجازا - ملازم لمعرفة أن المعنى ليس منها، فيكون معرفته ملازمة لمعرفته، فلا تنفك عنها بحسب الزمان، فتكون معرفته مقدمة على معرفة العلامة بحسب الزمان، وهو محال كالدور، هذا في علامة المجاز.
وقد ظهر مما ذكر أيضا، ما في كلام المحقق القمي رحمه الله من اختياره أن الدور مضمر في علامة المجاز بواسطتين، وأما الدور في علامة الحقيقة فاختار المحقق القمي (1) (قدس سره) كونه مضمرا، كما في علامة المجاز معللا بأن معرفة كون الإنسان حقيقة - في البليد - موقوفة على عدم صحة سلب المعاني الحقيقية للإنسان عنه، وعدم صحة سلب المعاني الحقيقية للإنسان عنه موقوف على عدم معنى حقيقي للإنسان، لجواز سلبه عن البليد، كالكامل في الإنسانية، ومعرفة - عدم هذا المعنى - موقوفة على معرفة كون الإنسان حقيقة
في البليد.
وقد أورد عليه الشيخ محمد تقي () قدس سره بوجهين:
الأول: أن المطلوب في علامة الحقيقية إثبات الوضع للمعنى المفروض، أو اندراجه في الموضوع (له) () على ما سيأتي تفصيله، وهو حاصل، لعدم صحة السلب في الجملة، فلا يعتبر فيه عدم صحة سلب كل واحد من المعاني الحقيقية.
(1) حيث قال في القوانين: 18، ما هذا نصه: والحق ان الدور فيه أيضا مضمر لأن معرفة كون الإنسان حقيقة في البليد إلخ.
101

الثاني: أن الحكم بعدم صحة سلب كل واحد من المعاني الحقيقية للإنسان عن البليد، في معنى الحكم بعدم معنى حقيقي له يجوز سلبه عنه، فإن كلا من معانيه الحقيقية إذا لم يصح سلبه عنه، فليس هناك معنى يصح سلبه عن ذلك، وإلا فيلزم اجتماع النقيضين في المعنى المفروض، إذ وجود معنى - يصح سلبه عنه - ينافي ويناقض عدم صحة سلب كل واحد من المعاني عنه، فهذان مفهومان متغايران متلازمان في مرتبة واحدة من الظهور، والعلم بكل منهما علم بالآخر على سبيل الإجمال، وإن لم يكن العالم به متفطنا له بالعنوان الآخر، فإذا سقطت الواسطة الأخيرة، فيكون الدور مصرحا.
هذا، ويمكن الجواب عن الوجهين انتصارا للمحقق القمي (قدس سره):
أما عن الأول، فأولا بالحل.
بيانه: أن صحة السلب وعدمها قد تعملان في إثبات الحقيقة الخاصة، والمجازية المطلقة بعد إحراز حقيقة اللفظ في المعنى المفروض، أو مجازيته فيه في الجملة، والمقصود من إعمال عدم صحة السلب حينئذ إثبات اتحاد المعنى الحقيقي للفظ فإنه إذا علم بوضع لفظ العين للذهب، وشك في كونه موضوعا للفضة أيضا، فبعدم صحة سلب جميع المعاني الحقيقية للفظ العين عن الذهب، يثبت انحصار المعنى الحقيقي في الذهب، إذ لو كان له معنى حقيقي غيره، لجاز سلبه عنه، لجواز سلب بعض معاني المشترك عن بعض.
هذا بخلاف ما لو حكم - حينئذ - بعدم صحة سلب بعض المعاني الحقيقية، فإنه لا يثبت الاتحاد، لاحتمال معنى حقيقي آخر يصح سلبه عن المورد، فلا بد - حينئذ - من كون عدم صحة السلب سالبة كلية، ليرتفع بها الموجبة الجزئية التي هي وجود بعض المعاني الحقيقية، الذي يصح سلبه عن المورد، فيثبت الاتحاد، وكذلك المقصود من علامة صحة السلب - حينئذ - إثبات أن استعمال اللفظ في المورد مجاز دائما.
ولا ريب أن هذا لا يثبت بالموجبة الجزئية، لاحتمال أن يكون اللفظ مشتركا بين المورد، وبين المعنى المسلوب، فيكون سلبه عنه من باب سلب أحد معاني المشترك عن بعض، فيكون مجازية استعمال اللفظ في المورد في بعض الأحيان، وهو فيما إذا استعمل فيه باعتبار العلاقة بينه وبين المعنى الآخر المسلوب بناء على مذهب المشهور من جواز هذا الاستعمال، وقد تعملان في إثبات أصل الوضع أو المجاز، مع اتحاد الموضوع له، أو دوام المجازية دفعة واحدة، فحينئذ لا بد - أيضا كالصورة السابقة - من
102

علامة الوضع سالبة كلية، وكون علامة المجاز موجبة كلية، فإنه وإن كانت الجزئية تكفي في إثبات أصل الوضع أو المجاز في بعض الأحيان، إلا أنها لا تكفي في إثبات الاتحاد، أو الدوام كما عرفت، والمفروض أن الغرض إثباتهما معهما، أو مع أصل الوضع، والمجازية في الجملة، وقد تعملان في إثبات مجرد الوضع، أو المجازية في الجملة، فحينئذ يكفي القضية الجزئية، كما أشار إليه المحقق القمي (قدس سره) بقوله: نعم لو قلنا إلى آخره (1).
فإذا عرفت ذلك فنقول: إن مراد المحقق القمي (قدس سره) هو إحدى الصورتين الأوليين - على سبيل منع الخلو - وأنه (قدس سره) لم يعتن بالأخيرة، لعدم فائدة فيها مهمة، ولذا قال بعد قوله: نعم، لكنه لم يثبت إلا الحقيقة في الجملة: - وقد عرفت أنه لا يثبت شيء من الصورتين الأوليين إلا بجعل القضية كلية -.
هذا بحسب الحل.
وأما ثانيا: فبالنقض بعلامة المجاز، فإنهم لم يكتفوا فيها بالموجبة الجزئية، مع أنه لو كان الغرض من إعمالها في إثبات المجازية في الجملة، لكانت الجزئية كافية، فكلما يقول الشيخ المذكور في الجواب عن علامة المجاز فليقل به هنا.
وكيف كان، فلا فرق بين علامة المجاز، وعلامة الحقيقة من تلك الجهة أي جهة لزوم اعتبار الكلية في القضية وعدمه، فلذا طالبهم المحقق القمي (قدس سره) بالفرق بين العلامتين.
وأما ما ذكره الشيخ محمد تقي () - في الفرق بينهما - بأن المطلوب في أمارة الحقيقة استكشاف الموضوع له، أو كونه مندرجا فيما وضع له، وفي أمارة المجاز عدم كونه كذلك، والظاهر صدق الأول مع تحقق الوضع، أو الاندراج في الجملة لصدق الموجبة وأما الثاني فلا يصدق إلا مع انتفاء الوضع والاندراج.
ففيه: أن قوله: وفي أمارة المجاز عدم كونه كذلك، عبارة أخرى عن إثبات المجازية الدائمية المعبر عنها بالمطلقة، لأنه لا ريب أنه لا يشترط في استكشاف المجازية - في
(1) القوانين: 18 وإليك نصه:
نعم لو قلنا ان قولنا عدم صحة سلب الحقائق علامة الحقيقة سالبة جزئية كما هو الظاهر فلا يحتاج إلى إضمار الدور لكنه لا يثبت الا الحقيقة في الجملة بالنسبة كما سنذكره وعلى هذا فلم لم يكتفوا في جانب المجاز أيضا بالموجبة الجزئية ويقولوا أن صحة سلب بعض الحقائق علامة للمجاز في الجملة وبالنسبة.
103

الجملة - استكشاف عدم الوضع أصلا، بل يكفي فيها استكشاف عدمه في الجملة وبالنسبة، فقياس هذا - بهذا المعنى - على أمارة الحقيقة عند إثبات الوضع بها - في الجملة - في غير محله، لوجود الفرق بينهما، بأن عدم اعتبار كلية القضية - في علامة الحقيقة - لأجل عدم الاحتياج إليه، لكفاية الجزئية في إثبات الوضع للمورد، هذا بخلاف علامة المجاز إذا كان المراد منها استكشاف دوام المجاز، فانه لا بد فيها - حينئذ - من اعتبار الكلية.
وأما الجواب عن الوجه الثاني: فبأن الاستلزام لا يمنع من التوقف في مقام الاستدلال، لإمكان أن يتوقف العلم بأحد المتلازمين على العلم بالآخر.
أقول فيه: إن ذلك مسلم فيما إذا لم يكن العلم بالمتلازمين معلولا لدليل نسبته إلى كل واحد منهما على حد سواء، بأن لم يكن حصول العلم بكل منهما من ذلك الدليل في مرتبة واحدة، بأن يكون الدليل دالا على أحدهما أولا، ثم ينتقل إلى الآخر بملاحظة الملازمة بينهما.
وأما فيما إذا كانا في مرتبة واحدة، فلا يعقل توقف العلم بأحدهما على العلم بالآخر، إذ مع قيام الدليل المفروض كونه علة للعلم بكل واحد منهما في مرتبة واحدة، فلو فرض تأخر العلم بأحدهما عن العلم بالآخر، يلزم انفكاك العلة عن المعلول.
ولا يخفى أن ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنه لو قام أمارة - على أنه ليس للفظ معنى آخر غير المعنى المبحوث عنه، فيحصل العلم من تلك الأمارة بذلك، ولعدم صحة سلب جميع المعاني الحقيقية - دفعة واحدة - من غير ترتب وانتقال من الأول إلى الثاني متوقف على الأول - لكان معرفته حاصلة بسبب معرفة الأول على سبيل الانتقال والترتب.
اللهم إلا أن يقال: إن هذا لشدة الملازمة بينهما، ووضوح لزوم الثاني للأول، والذي ذكر من حصول العلم على سبيل الترتب والانتقال، فهو في اللوازم الغير البينة، فحينئذ لا يدل دفعية الانتقال إليهما معا على نفي
توقف معرفة الثاني على معرفة الأول، فإن المدار في التوقف على عدم حصول الثاني بدون الأول، ولا ريب أنه لو لم يقم أمارة على الأول لما حصل الثاني، ولا عكس، فثبت التوقف، فتأمل.
ويمكن أن ينتصر للمحقق القمي (قدس سره) أيضا، بأن غرضه جعل صحة السلب وعدمها علامتين لاستكشاف المعنى المستعمل فيه اللفظ - في الاستعمال الجزئي الشخصي - بمعنى أنه إذا استعمل لفظ في معنى، وعلمنا بإرادته من
104

اللفظ بالقرائن الخارجية، وشككنا في أن استعمال اللفظ في هذا المعنى في ذلك الاستعمال الشخصي على وجه الحقيقة، أو على المجاز، فحينئذ لا يمكن معرفة هذا المعنى باعتبار هذا الاستعمال الخاص، إلا بصحة سلب جميع المعاني الحقيقية عنه، أو بعدم صحة سلبها جميعا، ولا يكفي صحة سلب البعض، أو عدم صحته، إذ الأول لا يثبت كونه مجازا، لاحتمال كونه من باب سلب بعض المعاني المشترك عن بعض، بأن يكون اللفظ موضوعا لهذا المعنى المستعمل فيه اللفظ بوضع آخر، فيكون استعماله فيه باعتبار هذا الوضع حقيقة، والثاني لا يثبت كونه حقيقة، لاحتمال كون الاستعمال بملاحظة العلاقة بين هذا المعنى وبين المعنى الآخر بأن يكون اللفظ مشتركا بينهما، فيستعمل اللفظ في هذا المعنى، لا بملاحظة الوضع، بل بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى الآخر، فاذن نثبت الاحتياج إلى جعل القضية كلية. وقد عرفت توقفها على واسطة أخرى في صحة السلب وعدمها، فيكون الدور مضمرا في كلتيهما، كما عرفت.
والذي ذكره الشيخ محمد تقي (قدس سره) مبني على فرض استعمال اللفظ في هذا المعنى، بأن يكون الغرض استكشاف حال المعنى في مطلق الاستعمال، لا في الاستعمال الخاص، كما اعترف به (قدس سره).
أقول: لا يخفى ما في هذا التوجيه من البعد، لما عرفت من رجوعه إلى جعل صحة السلب وعدمها علامتين لصفة استعمال اللفظ من الحقيقية والمجازية، ولا ريب أن غرض القوم منهما استكشاف حال المعنى، من حيث كونه موضوعا له وعدمه، فحينئذ يتجه ما ذكره الشيخ المذكور (قدس سره)، من الاحتياج إلى جعل القضية كلية في علامة المجاز، دون علامة الحقيقة، فإنه لا يعلم كون المعنى غير الموضوع له إلا بصحة سلب جميع المعاني الحقيقية عنه، فان سلب البعض قد يجامع الاشتراك، فلا يدل على نفي الوضع هذا بخلاف معرفة كونه موضوعا له إذ يكفي فيها عدم صحة سلب بعض المعاني الحقيقية، كما لا يخفى.
هذا كله في تقرير الدور.
وأما دفعه، فالمذكور فيه منهم وجوه بين صحيح وسقيم:
فمنها ما عن العضدي - في خصوص علامة المجاز - وهو أن يجعل القضية جزئية، ويكتفى بصحة سلب بعض المعاني الحقيقية عن المورد، إذ بها يثبت المجازية في الجملة، ثم بضميمة أصالة عدم الاشتراك يثبت المجازية المطلقة من غير حاجة إلى
105

صحة سلب جميع المعاني الحقيقية، حتى يلزم الدور (1).
وبعبارة أخرى يكتفى بسلب ما علم من المعاني الحقيقية عن المورد، فيثبت المجازية بأصالة عدم الاشتراك. وإلى هذا أشار المحقق القمي (قدس سره) بقوله:
ويمكن أن يقال: لا يلزم في نفي المعاني الحقيقية العلم بكون المستعمل فيه مجازا، إلى آخره.
ومنها: ما ذكره المحقق القمي () (قدس سره) من أول الوجهين اللذين اختارهما، من أن سلب كل واحد من المعاني الحقيقية علامة المجازية بالنسبة إلى ذلك المعنى المسلوب في الجملة، فإن كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الأمر، فيكون المعنى المبحوث عنه مجازا مطلقا. وإلا فيكون مجازا بالنسبة إلى ما علم سلبه عنه لا مطلقا.
أقول: الظاهر رجوع هذا إلى الوجه الذي ذكره العضدي (2)، فان المسلوب في كل منهما إنما هو بعض ما علم من المعاني المحتملة، لكونها معاني حقيقية، ولم يعلم انحصار الحقيقة في المعنى المسلوب، فيثبت بصحة السلب، المجازية في الجملة، في كل واحد منهما، ويتوقف معرفة كون المجاز مجازا مطلقا، أو في بعض الأحيان إلى شيء آخر كأصالة عدم الاشتراك، لعدم حصولها من صحة السلب، فإنها لا تعين كون المعنى المسلوب هو الحقيقة خاصة، بمعنى انحصار الحقيقة فيه، كما اعترف به المحقق القمي (قدس سره) أيضا بقوله: فان كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الأمر، فيكون المعنى المبحوث عنه مجازا مطلقا، فعلى هذا لم أعرف وجها لإنكاره على العضدي، بقوله: وفيه انه مناف لإطلاقهم، بأن هذه علامة المجاز والحقيقة، فإن ظاهره كونه سببا تاما... إلى آخره.
(1) حاشية العضدي على شرح المختصر: مخطوط، وإليك لفظه: وقد يجاب بان سلب بعض المعاني الحقيقية كاف، فيعلم أنه مجاز فيه، وإلا لزم الاشتراك.
(2) شرح المختصر للعضدي مخطوط وإليك نصه: أقول قال الأصوليون نعرف المجاز بالضرورة... وبالنظر بوجوه منها صحة النفي في نفس الأمر كقولك للبليد ليس بحمار وإنما قلت في نفس الأمر ليندفع ما أنت بإنسان لصحته لغة، وهذا بعكس الحقيقة فان عدم صحة النفي علامة لها ولذلك لا يصح ان يقال للبليد أنه ليس بإنسان.
الاعتراض عليه: المراد بصحة سلبه سلب كل ما هو معناه حقيقة لأن معناه مجازا لا يمكن سلبه وسلب بعض المعاني الحقيقية لا يفيد لجواز سلب بعض المعاني الحقيقية دون بعض فإذن لا تعرف صحة سلبه إلا إذا علم كونه ليس شيئا من المعاني الحقيقية وهو إنما يتحقق إذا علم أنه فيما استعمل فيه مجاز فإثبات كونه مجازا به دور، ووروده على الحقيقة أظهر، وقد يجاب بأن سلب بعض المعاني الحقيقية كاف فيعلم أنه مجاز فيه وإلا لزم الاشتراك.
106

لأن مرادهم: إن كان كونه علامة لمعرفة المجازية والحقيقية في الجملة في الظاهر، فلا ريب أن ما ذكره العضدي لا ينافي ذلك بوجه، فإن ذكر الاحتياج إلى أصالة عدم الاشتراك في مقام معرفة المجازية المطلقة، أو الحقيقة الخاصة، فهي أي أصالة عدم الاشتراك جزء للسبب في هذا المقام، لا المقام الأول، أعني مقام معرفة الحقيقية والمجازية - في الجملة -.
وإن كان مرادهم كونه علامة للحقيقة الخاصة، والمجازية المطلقة، فيرد عليه (قدس سره) ما أورده على العضدي من إيراد المنافاة، إذ الوجه الذي اختاره - أيضا - لا يقتضي معرفة المجازية المطلقة أو الحقيقة الخاصة بمجرد صحة السلب وعدمها، كما اعترف به أيضا، فلا بد له من الالتجاء إلى الأصل المذكور في إثبات هذا المقام، فتكون العلامة جزء السبب لا السبب التام.
نعم يمكن أن يفرق بينهما بحمل الأول على موارد الحمل المتعارف، وحمل الثاني على موارد الحمل الذاتي، إلا أن هذا الفرق غير مجد في دفع السؤال عن المحقق المذكور، لعدم كفاية صحة السلب وعدمها في معرفة المجازية المطلقة، أو الحقيقة الخاصة في القسم الثاني بطريق أجلى.
ومنها: ما ذكره العضدي أيضا من أن صحة السلب علامة لتعيين المراد بعد تشخيص الحقيقة والمجاز، ثم قال: لأن ذلك لا يتم في علامة الحقيقة إلى آخر ما ذكره في القوانين () بما فيه من المناقشات.
وأجاب عنها الشيخ محمد تقي () (قدس سره)، بما يرجع حاصله إلى حمل كلام العضدي ذلك على موارد الحمل المتعارف، بأن علم المعنى الحقيقي والمجازي، ثم استعمل اللفظ وأريد منه فرد شك في كونه فردا من الحقيقة أو من المجاز فبصحة السلب يتميز حال هذا الفرد.
لكن الحق أن هذا الحمل يأباه ظاهر كلام العضدي (1) فإنه قال: بكونه علامة
(1) شرح المختصر للعضدي، مخطوط في بحث علائم الحقيقة والمجاز وإليك نصه: (بعد الملاحظة لعبارته المتقدمة في الهامش المتقدم بعد قوله وإلا لزم الاشتراك) وأيضا فما ذكرت حق إذا أطلق اللفظ لمعنى ولم يدر أحقيقة فيه أم مجاز فيه أما إذا علم معناه الحقيقي والمجازي ولم يعلم أيهما المراد أمكن أن يعلم بصحة نفى المعنى الحقيقي عن المورد أن المراد هو المعنى المجازي فيعلم أنه مجاز.
107

فيما إذا علم الحقيقة والمجاز، ولم يعلم المراد. وأن الظاهر من قوله، ولم يعلم المراد أنه لم يعلم أصلا، لا أنه علم وشك في صفته من كونه فردا من الحقيقة، أو من المجاز، فما ناقشه القمي (قدس سره) في محله.
هذا، وفي كل من هذه الوجوه تأمل، بل منع، لعدم إفادة شيء منها لدفع الدور، بل الذي أفادته إنما هو جعل الدور مصرحا.
أما الأول فلأن الجاهل إذا لم يعرف الاندراج وعدمه، كيف يدري بصحة سلب المعنى الحقيقي المعلوم عن
المعنى المبحوث عنه، فإن معرفة صحة السلب وعدمها موقوفة على العلم بخصوصية المعنى المسلوب، بحيث لا يشمله المعنى المبحوث عنه، أو بعمومه بحيث يشمله، فالشك في الاندراج وعدمه يرجع إلى الشك في المعنى المسلوب من حيث العموم والخصوص.
وهكذا الكلام في الوجه الثاني، وكذا في الوجه الثالث، على أن يكون المراد هو ما استظهره الشيخ محمد تقي (قدس سره)، وأما على ما استظهره القمي (قدس سره) فإنا لا نتعقل كون صحة السلب علامة لإرادة المجاز حينئذ، مضافا إلى المناقشات التي ذكرها المحقق القمي (قدس سره).
نعم يمكن توجيهه بحمله على ما إذا علم عدم إرادة المجاز بقرينة خارجية، كما إذا أخبر أحد بأن القمر طلع، فتفحص ذلك الذي قام عنده ذلك الخبر، فوجد أن القمر لم يطلع بعد، فيعلم بذلك أن المراد القمر المجازي، وهو المحبوب، فإنه يصدق - حينئذ - أن القمر لم يطلع، لكنه مجرد تصوير، لا أصل له ولا فائدة، فإن العلم بإرادة المجاز حصل من الفحص، لا بصحة السلب، بل العلم بصحة السلب - حينئذ - متأخر عن العلم بعدم إرادة الحقيقة.
هذا، ثم إن أجود الوجوه في دفع الدور ما ذكره السيد عميد الدين في المنية (1)، من
(1) منية اللبيب: مخطوط في الفرق بين الحقيقة والمجاز، حيث قال: وقد ذكر المصنف طاب ثراه لذلك طرقا ستة.
فمنها ما يشترك فيها الحقيقة والمجاز.
ومنها ما يختص بأحدهما فالأول طريقان الأول نص أهل اللغة عليه... وذلك يكون على ثلاثة أقسام:
أحدها ان يقول هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى وهذا اللفظ مجاز فيه.
وثانيها أن يذكروا حديهما بان يقولوا هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى المستعمل فيه وضعا أولا... وثالثها ذكر خواصهما بان يقولوا هذا اللفظ لا يجوز سلبه عن هذا المعنى وهذا اللفظ يجوز سلبه عنه فيعلم ان الأول حقيقة والثاني مجاز.
108

أن صحة السلب وعدمها - عند العالم بالوضع - علامتان للجاهل به، وهما راجعتان إلى تنصيص أهل اللسان، مثل تنصيص الواضع، فإن اللغة قد تثبت بتنصيص الواضع، أو بتنصيص أهل اللسان مطابقة، كما إذا صرحوا بأن اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني، أو ليس موضوعا له، وقد تثبت بتنصيصهما بالالتزام، بأن صرحا بنفي المعنى عن المعنى المبحوث عنه أو بعدم صحة نفيه عنه فالأول تنصيص منهما على مجازية اللفظ في المعنى المبحوث عنه و [الثاني تنصيص منهما] على حقيقيته فيه، فيكون الفرق بينهما، وبين قول النقلة للغة، أن النقلة ينقلون تنصيص الواضع مطابقة أو تضمنا أو التزاما، وهاتان تنصيص من أهل اللسان، ولا يحتاج ثبوتهما إلى النقل، بل يحصلان للجاهل بالرجوع إلى العارفين باللسان.
وكيف كان، فبذلك الوجه يدفع إشكال الدور في جميع موارد صحة السلب وعدمها، من موارد الحمل الذاتي، أو المتعارف، ولا حاجة إلى تكلف جعل القضية جزئية، إذ بكلتيهما أيضا يدفع الإشكال على هذا الوجه، فإن الجاهل بعد ما رأى أنهم يصرحون بأن (البليد) ليس من المعاني الحقيقية للحمار بوجه، يحصل له العلم بكون البليد مجازا للحمار، بل لا بد من اعتبار الكلية في علامة المجاز، إذ بدونها لا يعلم كون المعنى المبحوث عنه مجازيا، وفي علامة الحقيقة أيضا إذا أراد إثبات الحقيقة الخاصة، وإلا فتكفي الجزئية.
وقد يجاب عن الدور بوجوه أخرى:
منها: ما قرره دام عمره من أن يقال: إن صحة السلب وعدمها علامتان للجاهل بوضع اللفظ للمعنى المبحوث عنه، العالم بوضعه لمعنى آخر، بمعنى أنه يعلم بوضعه لمعنى معلوم عنده، لكنه لما كان غافلا عن دخول المعنى المبحوث عنه، واندراجه في ذلك المعنى المعلوم وعدمه، كما في موارد الحمل المتعارف، أو كان غافلا عن اتحاده معه، وتغايره، كما يتصور ذلك في موارد الحمل الذاتي، فلذلك يشك أولا وابتداء في كون المعنى المبحوث عنه موضوعا له أو داخلا فيه، كما في الشك في النتيجة في الشكل الأول، للغفلة عن المقدمات، وأما بعد ملاحظته والتفاته إلى مقدمتين يحصل له العلم بالنتيجة، وهو كون المعنى المبحوث عنه موضوعا له، أو داخلا فيه، أو عدمهما.
مثلا إذا علم بكون الابن حقيقة في الابن المنخلق من الماء الذي هو الابن بلا واسطة، ويرى أيضا استعماله في ابن الابن، فأولا يشك في أن ابن الابن أيضا ابن حقيقة، أولا، من جهة عدم التفاته إلى كون معنى الابن حقيقة هو المنخلق من الماء
109

خاصة، أو الأعم منه، فإذا التفت إلى ذلك، فيحصل له مقدمتان، فيحصل منهما صورة قياس يستنتج منهما النتيجة، فصورة القياس في علامة المجاز أن الابن حقيقة في المنخلق خاصة، بحيث يصح سلبه عن ابن الابن، وكلما صح سلبه عن ابن الابن، فهو ليس مندرجا فيه، فينتج ان ابن الابن خارج عن الابن.
وصورته في علامة الحقيقة، أن الابن حقيقة في الأعم لا يصح سلبه عن ابن الابن، وكلما لا يصح سلبه عن ابن الابن فهو داخل ومندرج فيه، فينتج أن ابن الابن مندرج في الابن، وكيف كان، فهذا واضح في موارد الحمل المتعارف.
وأما في موارد الحمل الذاتي، ففي علامة المجاز فيها يتصور قياس بأن يقال مثلا:
الأسد موضوع للحيوان المفترس، يصح سلبه عن الرجل الشجاع، وكلما صح سلبه عن الرجل الشجاع، فهو غيره، فينتج أن الرجل الشجاع غير الأسد، وأما في علامة الحقيقة، فلم يتعقل له صورة أصلا.
وكيف كان، فالحق اختصاص التوجيه المذكور بموارد الحمل المتعارف، التي يشك فيها في الاندراج، وعدمه، لا غير، وأما في موارد الحمل الذاتي فلا، لاختصاص التوجيه بما إذا كان الشك في المعنى المبحوث عنه مسببا عن الغفلة في المعنى المعلوم، كما في موارد الحمل المتعارف، وأما في موارد الحمل الذاتي، فلا يعقل أن يكون شكه مسببا عن الغفلة عما ذكر، لعدم الارتباط بينهما بوجه، فإنه إذا شك في كون الفضة معنى حقيقيا للعين بالعنوان المستقل، لا بعنوان كونه فردا من معناه، فلا يعقل أن يكون منشأ الشك الغفلة عن وضعه للذهب.
هذا، ومنها: أي من وجوه دفع الدور ما قرره الشيخ () محمد تقي (قدس سره) مما يرجع حاصله إلى قياس ما نحن فيه بالقياس في الشكل الأول، والتفرقة بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل، ولعله راجع إلى ما قررناه فراجع، فلا نطيل الكلام بذكره.
ثم إنه قد أورد على كون عدم صحة السلب علامة للحقيقة بوجهين:
أحدهما: ما ذكره الشيخ محمد تقي () (قدس سره) وحاصله: إن المحكوم عليه بعدم صحة سلبه، لا بد أن يكون معنى اللفظ، ضرورة صحة سلب اللفظ عن المعاني بأسرها، فحينئذ إن كان المراد باللفظ الواقع في الموضوع، وهو الذهب مثلا، هو عين
110

المعنى المحكوم بعدم صحة سلبه عنه، فيلزم اتحاد الموضوع والمحمول مفهوما، - فلم - يبق - حينئذ - حمل حتى يدعى عدم صحة نفيه ضرورة عدم صحة حمل الشيء على نفسه، فلا يجوز الحكم بعدم صحة سلبه، لأنه في معنى إثبات الحمل، وقد عرفت امتناعه.
وإن كان المراد باللفظ - في الموضوع - غير المعنى المحكوم بعدم صحة سلبه عنه، فلا يثبت به الوضع لذلك الموضوع، فإن ثبوته لمعنى لا يقتضي ثبوته لمعنى آخر متحد معه في الوجود.
ألا ترى أن الإنسان متحد مع الضاحك في الوجود، لتساويهما في الصدق، ولا يصح سلبه عنه أيضا، ومع ذلك استعمال لفظ الإنسان في الضاحك مجاز قطعا.
وهكذا الكلام في العامين المطلق كما سيجيء توضيحه - أيضا - في الوجه الثاني من الإيراد، فلا يجوز كون
عدم صحة السلب علامة لعدم جريانها فيما يفيد الوضع، وهو صورة اتحاد الموضوع والمحمول، وعدم إفادته له فيما يجدي، كما في المتساويين والعامين المطلق.
الثاني: ما ذكره التفتازاني في شرح الشرح ()، وهو أن علامة الشيء لا بد أن تكون من خواصه، وعدم صحة السلب ليس كذلك، لوجوده في بعض الموارد، الذي نعلم بعدم ثبوت الوضع للموضوع، كما في المتساويين، كالإنسان والضاحك، والإنسان والناطق، وكما في الكلي والفرد، كالإنسان وزيد وعمرو وبكر وهكذا، أو الحيوان والإنسان، فإنه لا يجوز سلب أحد المتساويين عن الآخر، وكذلك سلب الكلي عن فرده، مع أن الوضع الثابت للكلي منفي في الفرد قطعا، واستعمال اللفظ الموضوع للكلي مجاز فيه بلا شبهة، وكذا استعمال اللفظ الموضوع لأحد المتساويين في الآخر، لعدم الريب في مجازيته، فيثبت أن عدم صحة السلب أعم من الوضع، فلا يكون دليلا عليه، وعلامة له.
ولأجل هذين الإيرادين اقتصر بعض بذكر صحة السلب، وجعلها علامة وحدها، وترك عدم صحة السلب كالعضدي، ولعله وافقه بعض آخر أيضا.
هذا، والجواب عن الأول: فأولا بالحل.
وبيانه: أن امتناع الحمل مسلم فيما إذا اتحد الموضوع والمحمول من جميع الجهات، وأما إذا اختلفا من وجه، فلا، وإن كانا راجعين في الواقع إلى عنوان واحد،
111

وحاكيين عنه، ولا ريب أن ما نحن فيه، أعني معنى اللفظ، والمراد باللفظ الواقع في الموضوع، وإن كانا راجعين إلى حقيقة واحدة في نفس الأمر، إلا أنهما مفهومان متغايران يحكي كل منهما عما يحكي عنه الآخر، وهو الحقيقة الوحدانية، ومنتزعان منها بتأويل كل منهما بالمعنى، أو بالمسمى، أو بالمنفهم من اللفظ عند أهل اللسان، فيكون حاصل التأويل أنه ليس أن لا يكون معنى العين معنى الذهب أو مسماه مسماه، أو المنفهم منه المنفهم منه، ولا ريب أن معنى العين بإضافته إلى العين، غير معنى الذهب بإضافته إليه، وكذلك المسمى والمنفهم عرفا، فإنه بإضافته إلى كل واحد منهما مغاير له مفهوما، باعتبار إضافته إلى الآخر.
نعم الممتنع هو أن يراد من العين معنى الذهب بعينه، ومن الذهب كذلك، فإن حاصل الحمل - حينئذ - يصير أن الذهب ذهب، ونحن لا نقول بإرادة معنى العين بعنوان كونه الذهب، ولا بإرادة معنى الذهب بعنوان كونه الذهب، بل نقول: بإرادتهما منهما بعنوان المسمى أو المعنى، أو المنفهم، كما عرفت، فحينئذ، فلا ريب في تغايرهما، فيصح الحمل بهذا الاعتبار.
وأما قوله: إنه إن كانا متغايرين، فلا يثبت الوضع لهذا الموضوع، فهو بإطلاقه محال، فإنه مسلم فيما إذا كان التغاير بينهما في الحقيقة والهوية، بأن كان كل من الموضوع والمحمول حاكيا عن حقيقة غير ما يحكي عنها الآخر، كما في المتساويين والعامين المطلق.
وأما فيما إذا كان التغاير بالاعتبار، وبملاحظة التصور الذهني، مع اتحادهما في الحقيقة، كما فيما نحن فيه، فلا يعقل ثبوت حكم لأحدهما، بدون ثبوته للآخر، إذ المفروض كونهما حاكيين عن أمر واحد، وحقيقة واحدة.
فإذا ثبت الوضع لأحدهما فهو في الحقيقة ثابت لهذه الحقيقة الوحدانية التي هي متحدة مع الآخر أيضا في الواقع، ومغايرة له بالاعتبار الذهني الموهوم.
وبعبارة أخرى: المفروض أن المراد بأحدهما عين المراد بالآخر، فثبوت الوضع لأحدهما عين ثبوته للآخر، وإلا فالتغاير أمر اعتباري التجأنا إليه لتصحيح الحمل.
وإن شئت التوضيح لما حققنا، فلنأتيك بذكر مقدمة ليرتفع بها الإجمال، ويتضح الحال: وهي أن كل قضية حملية، لا بد فيها من مغايرة ما بين الموضوع والمحمول، لئلا يلزم حمل الشيء على نفسه، ومن اتحاد ما بينهما، لئلا يلزم حمل الشيء على المباين له، إذ الحمل معناه الحكم بالاتحاد بين الموضوع والمحمول، فمع عدم الاتحاد
112

وجه، كيف يجوز الحكم باتحادهما؟ ثم إن الاتحاد والتغاير المعتبرين في القضية لا يجوز كونهما من جهة واحدة للزوم التناقض، فلا بد من الاختلاف في جهتيهما وطرفيهما، ولا ريب أيضا أن ظرف الاتحاد، إما الوجود ذهنا، أو خارجا، وإما نفس الأمر، فإن الاتحاد النفس الأمري غير الاتحاد الوجودي، فإنه لم يؤخذ فيه الوجود شرطا، أو شطرا أصلا، وأما ظرف التغاير المعتبر، فهو منحصر في الوجود الذهني، أو النفس الأمري، وأما التغاير في الوجود الخارجي، فلما كان يلزمه التغاير في الذهن، ونفس الأمر، فهو خارج عن التغاير المعتبر فيما نحن فيه، لاستلزامه التباين بين الموضوع والمحمول في جميع الجهات المانع عن الحمل، فلذا لا يجتمع مع الاتحاد في الذهن، أو نفس الأمر.
فعلى هذا، فيصير الأقسام الصحيحة من الأقسام المتصورة في القضية الحملية منحصرة في ثلاثة:
الأول: اختلاف الموضوع والمحمول - في نفس الأمر - المعبر عنه بالحقيقة والهوية، وفي - الوجود الذهني - المعبر عنه بالمفهوم، مع اتحادهما - في الوجود الخارجي - المعبر عنه بالمصداق، وذلك في القضايا الخارجية، كقولنا: النار حارة، والشمس مضيئة، والقمر منير، والكوكب طالع، والسقمونيا مسهل، والسم مهلك، والفاكهة الفلانية حامضة، أو حلو، أو مر، وغير ذلك من القضايا التي لا اتحاد بين الموضوع والمحمول فيها في نفس الأمر والحقيقة، ولا في الذهن، وإنما الاتحاد بينهما في الخارج فقط، ضرورة عدم لزوم تلك المحمولات من الحرارة، والإضاءة والإنارة، والطلوع، والإسهال، والإهلاك، والحموضة، لموضوعاتها في الذهن، وعدم اتحادها معها في الحقيقة والهوية، فإن لكل واحد منها حقيقة مغايرة لحقيقة موضوعه.
الثاني: اختلافهما في الوجود الذهني فقط، مع اتحادهما في نفس الأمر والخارج أيضا، لعدم الانفكاك بين الاتحاد النفس الأمري والخارجي، كما عرفت، وذلك في القضايا الواقعية، كما في قولنا: الأربعة ضعف الاثنين، والإنسان حيوان ناطق، أو بشر، والحمار حيوان ناهق، والأسد حيوان مفترس، وغير ذلك من التعاريف اللفظية المقصود بها شرح الاسم، أي بيان مسمى الموضوع في القضية فإن الموضوع والمحمول فيها متحدان في الخارج ونفس الأمر، واختلافهما إنما هو في المفهوم وفي الذهن بتأويل المراد من كل منهما بالمسمى بهذا اللفظ، أو بمعنى هذا اللفظ، أو بالمنفهم منه، فاختلافهما حينئذ بالإضافة والتخيل الذهني.
113

الثالث: اختلافهما في نفس الأمر والخارج كليهما، مع اتحادهما في - الذهن، ذلك في القضايا الذهنية، كقولنا: الإنسان نوع، أو كلي، والحيوان جنس، أو كلي، وأمثالهما، مما كان المحمول فيها من الأمور التي لا وجود لها إلا في الذهن.
فإذا عرفت هذه فاعلم: أن القضية الحملية إذا كانت من القسم الأول، أو الثالث فثبوت وصف أو حكم لواحد من مفهومي الموضوع والمحمول لا يقتضي ثبوتهما لمفهوم الآخر، لاختلاف كل من المفهومين بحسب نفس الأمر، وكون كل منهما لحقيقة، ومرآة لها غير الحقيقة التي يحكي عنها الآخر، فعدم اقتضاء ثبوت الوضع للمحمول
في قضية عدم صحة السلب، ثبوته للموضوع فيما إذا كانا من قبيل المتساويين أو العامين المطلق لذلك.
وأما إذا كانت القضية من القسم الثاني، فلا يعقل الانفكاك بين ثبوت حكم أو وصف لأحدهما، وبين ثبوتهما للآخر، لكون كل منهما عين الآخر بحسب الحقيقة، وكونهما مفهومين مختلفين إنما هو باعتبار ملاحظة الأمر الخارج عن الحقيقة، وانتزاعهما من الاعتبار الخاص، لتصحيح الحمل، ولا ريب أن ثبوت الحكم لأحدهما ليس بعنوان هذا العنوان المنتزع، بل بعنوان حقيقته وهويته، والمفروض اتحاد حقيقتهما، فثبوت حكم أو وصف لأحدهما عين ثبوته للآخر لذلك.
وقد عرفت أن الذي يدعيه من كون عدم صحة السلب علامة للوضع فيه، هو هذا القسم من الحمل، فإذا ثبت وضع العين للذهب، أعني الجسم الخارجي المخصوص المقابل لمعنى الفضة، فبعدم صحة سلبه بتأويله إلى مسمى العين، لتصحيح الحمل على الذهب بتأويله إلى مسماه يثبت اتحاد حقيقتهما، فيكون المسمى بالذهب عين المسمى بالعين، فيثبت أن العين موضوع لما وضع له الذهب. هذا جواب بالحل والتحقيق.
وأما ثانيا: فبالنقض بجميع التعاريف اللفظية، فإنه لو كان المراد بالموضوع فيها غير ما أريد من المحمول، فلا يكون هذا شرحا للاسم، إذا المقصود منها ذلك، كما أشرنا إليه، فإن شرح الاسم عبارة عن بيان المسمى، ولا ريب أنه لا يجوز بيان شيء بشيء مباين ومغاير له، فمقتضى ذلك عدم ثبوت المسمى بهذا الحمل في تلك القضايا، وإن كان المراد بالموضوع عين ما أريد من المحمول، فيمنع ذلك من الحمل، فكلما يجيب هذا المورد عن الإشكال هنا، - فليجب - به عما نحن فيه، لاتحاد الموردين
114

في مناط الإشكال.
وأما الجواب عن الوجه الثاني، المحكي عن التفتازاني: فبأنه إن كان مراده بعدم صحة سلب الكلي عن الفرد وعدمها بالنسبة إلى الفرد بخصوصيته وملاحظة فرديته، فنمنع الصغرى، أعني عدم صحة السلب، لجواز السلب حينئذ قطعا وإن كان مراده عدم صحة السلب عنه، مع قطع النظر عن خصوصيته وتعريته عن ملاحظة الفردية، فالصغرى مسلمة، لكن الكبرى ممنوعة، أعني عدم كون عدم صحة السلب - حينئذ - علامة للحقيقة، إذ لا ريب أن الفرد إذا عري عن الخصوصية، فهو عين حقيقة الكلي، والمفروض كونه حقيقة، فيكون الفرد بهذا الاعتبار حقيقة بلا شبهة.
وأما ما ذكره من عدم صحة سلب الشيء عن مساويه، ففيه أنا نمنع الصغرى، لجواز السلب قطعا، فإن الضاحك غير الإنسان بلا شبهة، والاتحاد في الوجود الخارجي لا يمنع من السلب، فإنه بالنظر إلى نفس الأمر.
هذا، ولقد أجاب الشيخ محمد تقي (قدس سره) عن الوجهين بما يوجب ذكره الطول المخل، فإن شئت راجع ().
لكنه قدس سره لم يذكر الوجه الثاني من الإيراد، بل ذكر الوجه الأول، فأجاب عنه بما يرجع إلى الجواب عنه وعن الثاني.
ومن الطرق العقلية العلمية، الاطراد، وعدمه:
أما الأول: علامة الحقيقة. والثاني: علامة المجاز.
وموردهما: ما إذا استعمل لفظ في مورد باعتبار كون ذلك المورد فردا من كلي، مع العلم بعدم وضع اللفظ لهذا المورد، وأنه لو لا ملاحظة كونه فردا من ذلك، لما جاز استعمال اللفظ فيه أصلا، لكن حصل الشك في أن ذلك المعنى الكلي الذي هو ملاك جواز استعمال اللفظ في هذا المورد، هل هو معنى للفظ؟ فيكون المورد من أفراد المعنى الحقيقي، أو أنه معنى مجازي له؟ كنفس المورد وواسطة في جواز استعمال اللفظ في المورد، إما من باب إطلاق الكلي على الفرد، وطما من باب الاستعمال في خصوص الفرد على القول بجوازه، كما هو المشهور، فيكون المورد من أفراد المعنى المجازي، فطريق إعمال الأمارتين - حينئذ - الفحص عن الأفراد الأخرى، المشاركة لهذا المورد في
115

ذلك المعنى العام الذي هو ملاك جواز استعمال اللفظ فيه، فإن علم جواز استعمال اللفظ فيها أيضا بالاعتبار المذكور، بحيث لا يختص الاستعمال بهذا الاعتبار ببعضها دون بعض، بل أينما وجد ذلك الكلي يجز استعمال اللفظ باعتباره، فذلك هو معنى الاطراد، فيكون هذا دليلا على وضع اللفظ لذلك المعنى العام، وكون المورد من أفراد الحقيقة، وإلا - بأن علم باختصاص جواز الاستعمال بالاعتبار المذكور ببعضها، أو تخصيص المورد المذكور فقط، فذلك هو معنى عدم الاطراد، فيكون دليلا على مجازية اللفظ في المعنى العام، وكون المورد من أفراد المعنى المجازي.
ومثل السيد عميد الدين (1) للأول بلفظ العالم، لجواز استعماله في كل من تلبس بالعلم.
والعضدي (2) للثاني باسأل القرية، لعدم جواز اسأل البستان.
وفي كل من المثالين نظر:
أما الأول: فلأن المراد والغرض من اطراد استعمال العالم في كل من تلبس بالعلم، إما أن يكون استكشاف حال معناه الهيئي، وإما أن يكون استكشاف حال معناه المادي.
فعلى الأول: فلا ريب أنه ليس لخصوص هيئة العالم وضع، كما هو المشهور، حتى يراد بذلك استكشاف المعنى الذي وضعت له تلك الهيئة العارضة على تلك المادة المخصوصة، بل الموضوع في المشتقات هي الهيئة الكلية الصادقة على الجزئيات الإضافية العارضة للمواد الخاصة، كالعالم، والضارب، والقائل، والقاتل، وغير ذلك من الجزئيات الإضافية، وتلك الهيئة هي زنة الفاعل.
فإن أراد كون اطراد العالم في مصاديقه علامة لكون الهيئة الكلية موضوعة لمطلق من تلبس بالمبدأ، ففيه أن العالم بجميع جزئياته، مورد واحد من تلك الهيئة، وجواز استعمال الهيئة في تلك المادة المخصوصة، ولو في جميع جزئياتها الحقيقية من تلك
(1) منية اللبيب مخطوط في علائم الحقيقة والمجاز وإليك لفظه: ومن الأدلة على كون اللفظ حقيقة في المعنى المعين الاطراد كالعالم فإنه لما صدق على كل ذي علم حقيقة صدق على كل ذي علم أنه عالم وهو معنى الاطراد.
(2) شرح المختصر للعضدي مخطوط في مباحث الحقيقة والمجاز وإليك لفظه ومنها عدم اطراده بان يستعمل لوجود معنى في محل ولا يجوز استعماله في محل آخر مع وجود ذلك المعنى فيه كما تقول (وأسأل القرية) لأنه سؤال لأهلها ولا تقول اسأل البستان وإن وجد فيه ذلك وهذا لا ينعكس أي ليس الاطراد دليل الحقيقة فان المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع.
116

المادة لا يثبت الاطراد، حتى يكون دليلا على وضعها لمطلق من تلبس بالمبدأ، بل لا بد في ثبوته من إحراز جواز استعمالها في المعنى المفروض في سائر جزئياتها الإضافية أيضا بأن علم بكون القائل، والقاتل، والناصر، وغير ذلك من الجزئيات الإضافية مستعملة في من تلبس بمبادئها، حتى يثبت اطراد استعمال تلك الهيئة الكلية في المعنى المذكور في جميع مواردها، ومصاديقها، فعلى هذا كان ينبغي أن يمثل لذلك بزنة الفاعل، لا بالعالم، ويقال: إن استعمالها في المعنى المذكور مطرد في جميع مواردها، ومصاديقها من الجزئيات الإضافية.
نعم لو كان مذهبه ما اختاره الشيخ محمد تقي () قدس سره - من أن الموضوع في المشتقات كل واحد من الجزئيات الإضافية، والموضوع له فيها من تلبس بمبدأ خاص من مبادئها المخصوصة - لكان التمثيل متجها، إلا أن الظاهر انفراد الشيخ المذكور قدس سره بهذا المذهب، وموافقة السيد للمشهور.
وأما على الثاني: فلأن الذي ينبغي التمثيل به، إنما هو لفظ العلم، لا العالم، لأن مادة العلم الموجودة في ضمن العالم، مورد واحد من موارد استعمال لفظ العلم، فلا يكفي ثبوت الاطراد في مورد خاص منه بالنسبة إلى مصاديق ذلك المورد، فإن تلك المادة في ضمن تلك الهيئة الخاصة، أي هيئة العالم، جزئي من الجزئيات الإضافية لمادة العلم المطلقة، فحينئذ كان ينبغي أن يمثل بلفظ العلم، ويدعي ثبوت الاطراد فيه باعتبار استعماله في مطلق الاعتقاد الجازم، الأعم من الاعتقاد المتعلق بالمسائل الفقهية، أو الأصولية، ومن اعتقاد غيرها، في ضمن كل واحد من الهيئات، ومجردا أيضا، وبالنسبة إلى كل واحد من المعلومات، سواء كانت من المسائل الفقهية، أو الأصولية، أو العربية، أو غيرها، مع أن هذا بهذا التوجيه أيضا خارج عن مورد الاطراد على التحقيق، لما قد عرفت من أنه فيما إذا علمنا بعدم وضع اللفظ لخصوص مورد من الموارد، وإنما شككنا في وضعه للمعنى العام وعدمه، ولا ريب أن الشك في كون لفظ العلم موضعا لمطلق الاعتقاد الجازم، أو للاعتقاد الجازم بمسائل صناعة خاصة، يرجع إلى أن الموضوع هو الكلي، أو الفرد الخاص منه، فيكون شكا في وضع اللفظ للمورد الخاص، وعدمه.
ومن هنا ظهر خروج مطلق المورد عن محل الاطراد، وعدمه، لأن الشك في
117

جميعها من هذا القبيل، واختصاصهما بما إذا كان اللفظ موضوعا بالوضع العام، كما في جميع هيئات المشتقات من الأفعال، وأسماء الفاعل، والمفعول، والصفات المشبهة، وكان وضعه قريبا من الوضع العام ومتشبها به كما في المجازات، وكيف كان، فموردهما الأوضاع النوعية لا الشخصية.
أقول: لا يخفى ما في تعيينه دام عمره مورد الاطراد وعدمه فيما ذكره، لأنا لم نجد منهم من يفسره بما قد فسره، بل كل من راجعنا كلامه هنا، رأيناه مفسرا للإطراد باستعمال اللفظ في المعنى المفروض، أين ما وجد هذا المعنى، بحيث لا يختص استعماله فيه بحال دون حال، أو مورد دون مورد، ولا ريب أن الاطراد بهذا المعنى لا يختص بالهيئات، بل يجري في المواد أيضا، بل يجري في المعاني الجزئية أيضا، كما هو ظاهر كلام الشيخ محمد تقي (قدس سره) ()، بل صريحة في بيان معنى الاطراد، وهو أعني كلامه الذي يدل عليه صريحا، قوله (قدس سره) ويصح إطلاقه على مصاديق ذلك المعنى إذا كان كليا من غير اختصاص له ببعضها.
هذا مضافا إلى أن الدليل الذي ذكره المثبتون لكون الاطراد دليلا على الوضع جار في جميع الموارد، وتصوير الاطراد في المعنى الجزئي بأن نرى أن لفظا يستعمل في معنى جزئي في مورد، فنشك في أن هذا اللفظ علم لهذا المعنى الجزئي، أو المستعمل فيه مجاز، باعتبار وجود صفة فيه حال الاستعمال تكون هي علاقة بينه وبين المعنى الحقيقي للفظ، فإذا رأينا استعماله فيه - أيضا - مع فقد تلك الصفة، فيكون ذلك هو معنى الاطراد، فيكون دليلا على وضع اللفظ لنفس ذلك المعنى الجزئي من دون مدخلية لشيء من الأوصاف والأحوال، مثلا إذا رأينا استعمال لفظ الأسد في شخص شجاع، فشككنا في أنه استعمل فيه مجازا باعتبار الشجاعة، أو أنه علم له، وموضوع له بوضع آخر، فحينئذ إذا رأينا استعماله فيه بعد زوال الشجاعة منه - أيضا - فيثبت اطراده فيه، فيكون دليلا على كونه علما له.
نعم اختلف القائلون بكون الاطراد دليلا في أنه دليل مطلقا، أو في بعض الموارد، وهذا لا دخل له باختلاف معنى الاطراد.
هذا كله مضافا إلى أن ما فسره من مورد الاطراد، لا يشمل المبهمات، كما لا يخفى، لكون المصاديق فيها معاني حقيقية.
118

وكيف كان، فالأولى، بل المتعين إحدى العبارات المعروفة من الأعلام لاتحاد مفادها:
منها: ما ذكره الشيخ محمد تقي () (قدس سره) من أن المراد به معنى الاطراد، اطراد استعمال اللفظ في المعنى المفروض بحسب المقامات، بحيث لا يختص جوازه بمقام دون آخر، وصورة دون أخرى، ويصح إطلاقه على مصاديق ذلك المعنى، إذا كان كليا من غير اختصاص له ببعضها. انتهى.
فظهر مما ذكرنا وحققنا ضعف إخراجه (دام عمره) التمثيل بلفظ العلم أيضا عن محل الاطراد.
هذا كله في المثال الأول للعميدي (قدس سره).
وأما المثال الذي ذكره العضدي: فتوضيح النظر فيه بعد استظهار مراده، أنه في مثل اسأل القرية أقوال ثلاثة:
الأول: بقاء السؤال والإسناد على حقيقتهما، وثبوت التجوز في لفظ القرية بإرادة الأهل منها، لعلاقة المجاورة.
الثاني: بقاؤها على حقيقتها مع بقاء السؤال على حقيقته أيضا، والتجوز في الإسناد.
الثالث: بقاء الإسناد والقرية على حقيقتهما، والتجوز في السؤال باستعماله في حالة الترجي بين الشخص والقرية، بعلاقة مشابهته للترجي بين السائل والمسؤول، فكأنه قال: ترج القرية.
فإذا عرفت ذلك فاعلم: أن الوجه الأول مقطوع العدم، لعدم كونه مرادا له، لعدم صلاحيته لقوله، لعدم جواز إرسال البستان، فلو كان المراد إثبات عدم اطراد القرية في الأول، لوجب ذكر لفظ القرية في مورد النقض، بأن يقال: إن القرية مجاز في الأول، لعدم اطراده في مثل: اضرب القرية، أو باعت القرية، أو آجرت القرية، ونحوها، مما كان لفظ القرية فيه مذكورا.
وأما الثاني: فالظاهر عدم جوازه عنده، فالظاهر هو الوجه الآخر. فنقول:
حينئذ: إنه لا يخفى أنه إما عين المجاز في الإسناد، أو قريب منه في الإسناد عند من لا يرى جوازه في الإسناد هذا.
119

أقول: لا يخفى ما في هذا الإشكال من الوهن والركاكة، لأنا لم نتعقل أنه كيف يصير عينه أو قريبا منه، مع أن المعنى الذي ذكره عند التجوز فيه معنى تام مستقل، لا يرتبط بالمجاز في الإسناد في شيء، لأنه لا ريب في صحة إرادة المعنى المذكور من السؤال، ومع إرادتها لا تكون النسبة ثابتة لغير ما هي له.
هذا، ثم إنه بعد ما عرفت معنى الاطراد وعدمه، وموردهما، فاعلم أن الأقوال في كونهما علامتين وعدمه ثلاثة:
الأول: أنهما علامتان. الثاني: عدم كون شيء منهما علامة. الثالث:
التفصيل. ثم إن المفصلين بين قولين:
أحدهما: كون الاطراد دليلا على الحقيقة، وعدم كون فقده دليلا على المجاز، من هؤلاء السيد عميد الدين (1)، فلذا اقتصر بذكر المثال للاطراد بلفظ العالم، ومنهم العلامة في ظاهر التهذيب (2)، ومنهم الغزالي على ما حكى عنهم.
وثانيهما عكس ذلك، وهذا لجماعة من الخاصة والعامة، منهم الآمدي في الإحكام (3)، والحاجبي ()، والعضدي (4)، وشيخنا البهائي ()، وظاهر العلامة (رحمه الله) في النهاية () على ما نسب إليهم، ولهذا
اقتصر العضدي بذكر مثال عدم الاطراد.
حجة القول الأول من التفصيل، أما على كون الاطراد دليلا على الوضع، فهو ما يأتي في حجة القول المختار، وأما على عدم كون فقده دليلا على المجاز، فلوجوده في بعض الموارد، مع القطع بكون المورد معنى حقيقيا، كما في لفظ رحمان لعدم جواز استعماله في
(1) منية اللبيب: مخطوط. في علائم الحقيقة والمجاز إليك لفظه: ومن الأدلة على كون اللفظ حقيقة في المعنى المعين الاطراد كالعالم.
(2) تهذيب الأصول: 1 في البحث الرابع في الفرق بين الحقيقة والمجاز وإليك نصه: والاطراد دليل الحقيقة، فان العالم لما صدق على كل ذي علم حقيقة صدق على كل ذي علم.
(3) الإحكام في أصول الأحكام: 30، حيث قال ما لفظه: ومنها أن لا يكون اللفظ مطردا في مدلوله مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الاطراد. وذلك كتسمية الرجل الطويل النخلة، إذ هو غير مطرد في كل طويل.
(4) في حاشيته على شرح المختصر: مخطوط، وإليك لفظه: قال: ومنها عدم اطراده بان يستعمل بوجود معنى في محل ولا يجوز استعماله في محل آخر - إلى ان قال: - وهذا لا ينعكس، أي ليس الاطراد دليل الحقيقة.
120

غيره تعالى، مع كون غيره أيضا معنى حقيقيا، وكما في لفظي الفاضل والسخي، لعدم جواز استعمالهما فيه تعالى، مع أن استعمالهما فيه حقيقة، وكما في القارورة لعدم جواز استعماله في غير الزجاج، مع كونه حقيقة في الغير، وكذلك لفظ الدابة لعدم جواز استعماله في غير ذات القوائم، مع كونه حقيقة فيه أيضا، فإذن لا يختص عدم الاطراد بالمجاز، فلا يكون دليلا عليه.
حجة القول الثاني منه، على عدم كون الاطراد دليلا على الوضع، لحصوله في بعض المجازات، كما في استعمال الكليات في الأفراد، مع كون الأفراد معاني مجازية، كما في استعمال الأسد في الشجاع، وأما على كون فقده دليلا على المجاز، فهو ما يأتي في القول المختار.
حجة القول الثاني: على ما نسبت إلى السيد الكاظمي الشارح للوافية (1) إنما هو انتقاض كل من العلامتين بما عرفت.
والمختار من الأقوال هو الأول، وفاقا لجمع من أعلام المتأخرين، ومن المتقدمين على الظاهر، وأيضا الأقوى أنهما علامتان علميتان لا ظنيتان.
لنا على كون الاطراد علامة قطعية للوضع، أن ملاك جواز الاستعمال إما الوضع، أو العلاقة، ولا ريب أنه مع تحقق الوضع، فهو علة تامة لجواز الاستعمال أينما وجد، وأما العلاقة لما لم يكن لها انضباط، بل تختلف باعتبار اختلاف الموارد، حيث إن المعتبر منها هي العلاقة التي لا يستكثر العرف استعمال اللفظ في المورد لأجلها، ولا ريب أن إحراز هذه العلاقة يتوقف على الرجوع إلى أهل اللسان في خصوص كل مورد من الموارد، لعدم كفاية مطلق العلاقة الموجودة في المقام، فلا تصلح لكونها ملاكا لاطراد الاستعمال في كل مورد، فتنحصر علة الاطراد في الوضع، فحينئذ لو لم يحصل العلم من الاطراد يلزم تخلف المعلول عن العلة، وهو محال.
ومن هنا ظهر عدم كون الاطراد علامة قطعية لعدم الوضع، إذ مع وجود
(1) الوافي في شرح الوافية المخطوط: حيث قال في مبحث الوضع، وأما الاطراد فهو ان يكون المعنى الذي باعتباره صح الاستعمال، وذلك كالضارب صح استعماله في زيد الضارب مثلا، إلى ان قال: ويكفى هذا القدر في نقض طرد هذه العلامة، فان قلت: ليس نسبة أسد... قلت: إن الذين فردوا هذا الاصطلاح، وجعلوا الاطراد علامة للحقيقة، إنما أرادوا به اطراد المصحح للاستعمال وليس هو في المجاز إلا نوع العلاقة وهي غير مطردة كما عرفت.
ويمكن ان يكون هذا المطلب أيضا في كتابه المسمى ب‍ (المحصول في علم الأصول) المخطوط.
121

الوضع لا يعقل عدم الاطراد، كما عرفت، فيكشف ذلك عن عدم وضع اللفظ للمورد، فإن انتفاء المعلول يستلزم انتفاء علته عقلا.
وأما الجواب عن النقض على عدم الاطراد بلفظ رحمان، والفاضل، والسخي، وغيرها، مما عرفت، فما ذكره الآمدي (1) في الإحكام مما حاصله أن عدم الاطراد في الأمثلة المذكورة لأجل المنع الشرعي في الثلاثة الأول، وللمنع العرفي في الأخيرين.
لكن فيه: أنه إن كان المراد بالمنع الشرعي حرمة إطلاق رحمان على غيره تعالى، وحرمة إطلاق الفاضل، والسخي عليه تعالى، فلا ريب أنها لا تمنع من جواز الاستعمال، وصحته عرفا، وإن أراد به عدم صحة الاستعمال شرعا، بمعنى أنه نقل سبحانه لفظا من معناه اللغوي العام إلى ذاته المقدسة، وهجر عن معناه الأول، وهذا إنما يتم في لفظ (رحمان) دون غيره، وإن وجه غيره بأن إطلاق وصف عليه سبحانه تعالى موقوف على العلم بحصول المبدأ في ذاته المقدسة، فلما لم يمكن للممكنات العلم بذاته تعالى بما هي عليه، فلا يجوز لهم إطلاق وصف عليه من دون وصول إطلاقه منه تعالى، لعدم إحراز المبدأ فيه سبحانه تعالى.
ففيه: أن هذا يرجع إلى اشتراط إحراز معنى اللفظ في مورد الاستعمال، إذ بدونه يكون الإطلاق كذبا قبيحا، ومحرما عقلا وشرعا، ولا ريب أن المنع بهذا الاعتبار لا يختص بما ذكر، بل يجري في جميع الألفاظ في جميع الموارد، فإن إطلاق الفاضل، والسخي، وغيرهما من الألفاظ على أحد من دون العلم بحصول المعنى للمورد يكون ممنوعا بهذا الاعتبار.
وأما المراد بالمنع العرفي في الأخيرين، فإن كان مع فرض بقائهما على معناهما الأصلي، فلا يعقل كونه مانعا عن صحة الاستعمال، لأن الوضع علة تامة لها، وإن كان مع فرض هجرهما عن المعنى الأصلي، فهو متجه، لكن لا لمنع العرف، بل لعدم المصحح حينئذ. اللهم إلا أن يكون المراد بالمنع العرفي نقلهم اللفظ عن المعنى الأصلي، فإنه إيجاد للمانع عن صحة الاستعمال، فيكون منعا بهذا الاعتبار.
هذا، والتحقيق في الجواب أن يقال: إن لفظ (رحمان) على وزن فعلان، وهذا الوزن في الأصل لمن تلبس بالمبدأ، فالرحمن على هذا معناه الذات المتلبس بالرحمة، فنقول
(1) قال في الأحكام: 30، قلنا اما الإشكال الأول فقد اندفع بقولنا إذا لم يوجد مانع شرعي ولا لغوي وفيما أورد من الصور قد وجد المنع ولولاه لكان الاسم مطردا فيها.
122

حينئذ إنه إن ثبت نقل خصوص لفظ (رحمان) عن هذا المعنى الأصلي إلى خصوص ذاته المقدسة، بحيث هجر عنه، فلا ريب حينئذ في عدم جواز استعماله في غيره تعالى، لعدم المصحح له حينئذ، فحينئذ نمنع استعماله في غيره تعالى حقيقة، بل مجازا قطعا، فعدم الاطراد - حينئذ - لذلك، فيكون أمارة على المجاز، فلا وجه للنقض به، وإلا فلا ريب في صحة استعماله في غيره لوجود علتها، والمنع الشرعي تعبدا لا يوجب أن يكون الاستعمال غلطا عند العرف، فإذن نمنع عدم اطراده في غيره تعالى، بل نقول باطراده - حينئذ - فلا نقض.
وأما لفظ الفاضل، والسخي، فالجواب عن النقض بهما:
أما أولا: فبمنع المنع الشرعي من استعماله فيه تعالى، بل وجدنا في بعض الأدعية استعمال الفاضل فيه تعالى، وكذا وجدنا استعمال ذي السخاء فيه تعالى، كما في بعض فقرات الأدعية يا ذا الجود والسخاء.
لا يقال: إن إطلاق ذي السخاء عليه تعالى غير إطلاق السخي.
لأنا نقول: إن وجه المنع من إطلاق السخي ليس إطلاقه عليه باعتبار هيئته، لإطلاق هيئة فعيل عليه تعالى في غير تلك المادة كثيرا، وإنما هو من جهة المادة، فإذا ثبت إطلاق المادة واستعمالها فيه تعالى، يثبت جواز إطلاقها عليه في ضمن جميع الهيئات.
وأما ثانيا فعلى تسليم المنع فنقول: إنه لا يؤثر في عدم جواز الاستعمال عرفا مع بقاء الوضع الأصلي فيهما فعدم الاطراد ممنوع والاطراد ثابت عرفا، فيكون أمارة عليه.
وأما لفظا القارورة والدابة، فالجواب عنهما، بمنع بقائهما على معناهما الأصلي، بل هما منقولان عرفا، ومهجوران عن معناهما الأصلي، فيكونان في العرف مجازين في غير الزجاج، وذات القوائم، فعدم الاطراد مسلم ويكون دليلا على المجاز.
وأما الجواب عن النقض على الاطراد بما عرفت، فالتحقيق فيه أما في الكليات المستعملة في الأفراد:
فأولا: بالمنع من جواز استعمال اللفظ الموضوع للكلي في خصوص فرد منه، - كما عرفت سابقا -، لعدم الفائدة فيه، فاطراد الاستعمال بهذا المعنى ممنوع الجواز.
نعم المطرد هو إطلاق الكلي على الفرد من باب دالين ومدلولين، ولا ريب أن اللفظ حينئذ مستعمل في نفس الكلي لا الفرد، فمورد الاطراد نفس المعنى الحقيقي فلا نقض.
123

وأما ثانيا: فبالمنع من وقوع استعمال الكلي في الفرد، إذ القدر المعلوم من المحاورات العرفية إطلاق الكلي، وإرادة الفرد عنده، وأما إرادته من خصوص اللفظ، فلم يعلم بوقوعها إلى الآن في مورد من المحاورات العرفية، فإذن كيف يمكن دعوى استعمالها - أي الكليات - في الأفراد فضلا عن اطرادها.
وأما ثالثا: فبالمنع من ثبوت الاطراد على تسليم الجواز والوقوع، إذ لا ريب أن استعمال اللفظ في خصوص المعنى المجازي يرجع إلى الحمل الذاتي، وذلك لا يصح في الكل والفرد، إلا إذا كان الفرد مما يمكن دعوى انحصار الكلي فيه ادعاء، ولا يخفى أن تلك الدعوى لا تصح إلا إذا كان الفرد جامعا لجميع صفات الكلي، ولا ريب أنه ليس جميع أفراد الكلي بهذه المثابة، ففي المثال الأول لا يجوز ذلك بالنسبة إلى البليد، بل ينحصر مورده في الكامل في الإنسانية، فإذن لا اطراد، فلا نقض.
لا يقال: هذا تسليم الاطراد بالنسبة إلى الأفراد الكاملة، فيرد النقض بالنسبة إليها.
لأنا نقول: إن إرادة الأفراد الكاملة بعنوان الحصر الادعائي، ليست من المجاز في شيء، بل الأفراد حينئذ معان حقيقية للفظ، وهو مستعمل في حقيقته، وإنما وقع التصرف في أمر عقلي، وهو دعوى كون الفرد الكامل عين الكلي.
وبعبارة أخرى: إن اللفظ مستعمل في الفرد الكامل بعنوان كونه نفس الكلي، الذي هو المعنى الحقيقي لا بعنوان كونه فردا منه فلا مجازية في اللفظ أصلا، فالإطراد حينئذ لذلك فلا نقض على ذلك، لأنه لا ريب في كون الاستعمالات - الواقعة عن خطأ في الموضوع له، كأن رأى شبحا، فاعتقد أنه الأسد، فقال رأيت أسدا، ثم انكشف أنه الحمار مثلا، أو غيره - حقيقة، مع أن المستعمل فيه اللفظ غير الموضوع له، فإن السر فيها أيضا أنه استعمل الأسد مثلا في الحمار، بعنوان كونه الحيوان المفترس، لا بعنوان كونه حمارا.
وأما في النقض باطراد استعمال الأسد في الشجاع، فبأن الاطراد، كما عرفت معناه جواز الاستعمال أينما وجد ملاكه، ولا ريب أن ملاكه في مثل استعمال الأسد في الشجاع هي المشابهة، لا الشجاعة، فإن الشجاعة ليست من إحدى العلائق المجوزة للاستعمال المجازي، بل العلاقة المجوزة له في المقام هي المشابهة خاصة، التي هي من إحدى العلائق المعتبرة المجوزة له، ولا ريب أن استعمال لفظ الأسد لا يطرد في موارد هذا الملاك، لأن المشابهة لا تنحصر في الشجاعة، بل لها جهات أخر كضخامة الجثة، أو
124

بخر الفم، أو غير ذلك، فلو ثبت الاطراد في موارد ذلك الملاك، لجاز استعمال لفظ الأسد في كل ما يشابهه من وجه، ولو باعتبار الجثة، ولا ريب في انحصار الجواز بمورد خاص فيه وهو الشجاعة.
ولا يخفى أن ثبوت الاطراد في هذا المورد الخاص، لا يكون اطراد الاستعمال في موارد ملاكه.
وكيف كان فاستعمال الأسد في هذا المورد الخاص بجميع جزئياته وإن بلغت ما بلغت، استعمال له في أحد موارد الملاك المذكور، فإن هذا المورد بجميع جزئياته مورد واحد منه.
وبعبارة أخرى الشجاع مورد واحد من المشابه، وتعدد جزئيات الشجاع لا تحتمله موارد المشابه.
وهذا نظير ما أوردنا على العميدي في تمثيله للاطراد بلفظ العالم، بناء على كون المراد به استكشاف حال زنة الفاعل، حيث قلنا: إن العالم بجميع أفراده مورد واحد من زنة الفاعل، لا جميع موارده، حتى يثبت الاطراد فيها بمجرد اطراد العالم في أفراده.
ومن هنا ظهر ضعف تخيل أن المناط في استعمال الأسد في الشجاع هي الشجاعة، وهو مطرد في مواردها، فثبت التلازم والعلية بين الوضع والاطراد وجودا وعدما، فوجوده أمارة على وجوده وعدمه أمارة على عدمه.
ثم إنك عرفت أن حاصل ما ذكره الآمدي () في الجواب عن الإشكال بمثل رحمان، والفاضل، والسخي، وغيرها، يرجع إلى أن العلاقة المعتبرة في تشخيص المجاز هو عدم الاطراد الناشئ من عدم الوضع، وأما إذا كان ناشئا عن وجود المانع، مع وجود المقتضي، كما في الأمثلة المذكورة، فلا يكون دليلا عليه، فحينئذ يرد عليه مضافا إلى ما تقدم، أن كون عدم الاطراد - بهذا المعنى - علامة للمجاز مستلزم للدور، إذ المفروض كونه علامة لعدم الوضع المعبر عنه بالمجاز، ولا تكون علامة إلا إذا علم بكونه من جهة عدم الوضع، فيتوقف معرفة عدم الوضع على معرفة عدم الاطراد بالمعنى المذكور، ومعرفته كذلك موقوفة على العلم بعدم الوضع، فيلزم الدور مصرحا.
هذا، ثم إن الأقرب عندي في تعريف الاطراد وعدمه، وبيان موردهما، هو ما ذكرته نقلا عن الشيخ محمد تقي () (قدس سره) وهو المعتمد لجريان مناط الاعتبار في جميع
125

مواردهما، وهو الملازمة بين الاطراد والوضع وتساويهما، وكذلك تساوي عدمه لعدم الوضع.
وما عرفت من الإشكالات الراجعة إلى نفي التساوي بينهما، والتساوي بين عدمه وعدم الوضع، فقد عرفت الجواب عنها بحذافيرها. تم الكلام في العمدة من علائم الوضع وعدمه، وبقي الكلام في جملة منها سننبه إلى بعضها أيضا فيما يأتي.
ومن الطرق العلمية على ما اختاره (دام عمره) اختلاف الجمع،
فإنه من الأمارات الدالة على نفي الوضع بالنسبة إلى القدر المشترك بين المعنيين، كما في (أمر) فإنه إذا استعمل في الطلب يجمع على (أوامر) وإذا استعمل في الشأن يجمع على (أمور) بحيث لا يجوز إرادة عدد بالغ إلى مرتبة من مراتب الجمع ملفق من أفراد كلا المعنيين، من صيغة أحد الجمعين، بأن أريد بالأوامر فردان من معنى الطلب، وفردان أو فرد من الشأن، فذلك يكون أمارة على نفي وضع اللفظ للجامع بين المعنيين، فيدور الأمر فيه بين الاشتراك اللفظي والمجاز، فيقدم الثاني لكونه أولى.
والدليل على كونه أمارة حينئذ، أن المفروض تساوي نسبة القدر الجامع لجميع الأفراد، فلو فرض كون اللفظ موضوعا بإزائه لجاز استعمال أحد لفظي الجمع مطلقا، وإرادة مرتبة جمع من الأفراد مطلقا، سواء كانت من أفراد هذا المعنى، أو من أفراد ذلك، أو الملفق، (كرجل حيث إنه موضوع لمطلق الرجل ويجوز إرادة مرتبة من مراتب الجمع منه عند عروض هيئة (فعال) عليه مطلقا، سواء كانت - أي تلك المرتبة - من أفراد الرجل الأبيض، أو الأسود، أو الملفق، والدليل على جوازه واضح، إذ المفروض وضع المادة للقدر الجامع المساوي نسبته لجميع الأفراد، وأن هيئة الجمع موضوعة للدلالة على إرادة ما فوق الاثنين - من مدلول المادة مطلقا - من غير تقييد له بكونه من صنف دون آخر، فاختلاف الجمع يدل على اختلاف مدلول اللفظ في الموردين، وإلا لجاز التعبير بواحدة من الصيغتين.
والحاصل: أن حمل هذه الأمارة، فيما إذا كان للفظ مسميان حقيقة في أحدهما قطعا في الجملة، لكن الشك في أنه موضوع للجامع بينهما - فيكون وجه حقيقته في
126

المسمى المعلوم كونه حقيقة، إطلاقه عليه من باب إطلاق الكلي على الفرد أولا - فيكون إطلاقه عليه لأجل
وضعه لخصوصه، وأنه مجاز في المسمى الآخر، لكونه أولى من الاشتراك - أو مشترك لفظا بناء على منع الأولوية - فحينئذ إذا جمع اللفظ على صيغة مخالفة لصيغة جمعه لمسمى آخر هو فيه حقيقة، فهذا دليل على عدم كون اللفظ متواطيا، فهو حينئذ: إما مشترك لفظا، أو حقيقة ومجاز - بناء على أولوية المجاز، إذ لو كان متواطيا لجاز التعبير عن ذلك المسمى بصيغة جمعه للمسمى الآخر المعلوم كونه حقيقة فيه، لما عرفت من تساوي نسبة أفراد المتواطئ، بالنسبة إلى القدر الجامع، وأن هيئة الجمع لا تفيد إلا تعدد مدلول اللفظ، فاختلافها في المسميين دال على كون كل منهما مدلولا مستقلا للفظ.
أقول: الأقرب عندي منع الملازمة بين كونه متواطيا، وبين جواز التعبير عن المسمى الآخر بصيغة جمعه للمسمى المعلوم كونه حقيقة، إذ من المعلوم أن استعمال الهيئات كاستعمال المواد يتوقف على الوصول من أهل اللغة، ومن الجائز أيضا تخصيصهم هيئة خاصة من هيئة الجمع بالنسبة إلى اللفظ بما إذا أريد به الفرد الخاص من فردي معناه الكلي لا مطلقا، وتخصيصهم هيئة أخرى بما إذا أريد به المعنى الآخر، الذي هو الفرد الآخر من المعنى الكلي.
وكيف كان، فاختلاف الجمع بنفسه لا دلالة له على المدعى، ولا يفيد قطعا، بل ولا ظنا.
اللهم إلا أن يتمسك بالغلبة، بأن يقال: إن الغالب في أسماء الأجناس المتواطئة جواز التعبير على النحو المذكور.
وفيه أولا: منع الغلبة.
وثانيا: عدم إفادتها القطع، ولو أفادت ظنا لتوقف اعتباره على اعتبار مطلق الظن في اللغات، فيتوقف على مقدمة الانسداد لعدم ثبوت الدليل الخاص عليه.
وثالثا: إن هذا يكون استدلالا بالغلبة، لا بالعلامة، فتسقط العلامة عن كونها علامة، فافهم.
ثم إن اختلاف الجمع على تقدير كونه علامة لا ينعكس، بمعنى أنه ليس عدمه علامة لوضع اللفظ للجامع بين المعنيين، لأنه قد يجمع المجاز بصيغة جمع الحقيقة، كما في الحمر، والأسد، إذ لا ريب أن الحمار موضوع للحيوان الناهق، والأسد للمفترس، بحيث يكون استعمالهما في غيرهما مجازا، مع أنه يعبر عن المعنى المجازي فيهما عند إرادة
127

الجمع، بما يعبر به عن المعنى الحقيقي، وهو صيغة الفعل بضمتين في الأول، وصيغة الفعل بضم الأول وكسر () الثاني في الثاني، كما إذا أريد بالحمار جمع من البليد، فيقال رأيت حمرا مثلا، وكذلك الأسد إذا أريد به جمعا من الرجل الشجاع، فيقال رأيت أسدا يرمون مثلا.
ومن الطرق العلمية التزام التقييد:
أي لزوم تقييد اللفظ بقيد عند استعماله في المقيد، بحيث لا يجوز الاستعمال بدون ذلك القيد، فذلك علامة كون المطلق أي اللفظ مجردا عن القيد مجازا في المقيد، ومورده ما إذا علم بوضع اللفظ المطلق لمعنى، لكن يشك في أن المعنى الموضوع له اللفظ المجرد، هل هو المعنى المباين للمعنى المبحوث عنه؟ أو هو الأعم الشامل له؟ فحينئذ يرجع إلى استعمالات أهل اللسان ومحاوراتهم، فإذا علم أنهم لا يستعملونه في المعنى المبحوث عنه، إلا مع اقترانه بذلك القيد، فيكشف ذلك عن مجازية المطلق في المعنى المذكور، وأن الذي وضع له هو المعنى المباين له، ومثلوا لذلك بجناح الذل، ونار الحرب، وممن مثل له بهما العضدي، والحاجبي، والعلامة في محكي النهاية (1).
واعترض عليهم بعض المهرة بوجهين:
أحدهما: في التمثيل بالمثالين، وهو منع التزام التقييد فيهما، لقوله تعالى «كلما أوقدوا نارا أطفأها الله» ()، فإنه دليل على جواز قول القائل، أو قد العدو نارا بحرب، فأطفأ الله تلك النار، ولقوله تعالى «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ()».
وثانيهما: أنه لا بد في المجاز من القرينة، وهي لا تسمى قيدا، وحاصل هذا الوجه أن هذا ليس عنوانا آخر غير عنوان الاحتياج إلى القرينة، فينبغي التعبير حينئذ بالتزام القرينة، لا التقييد، لأن القرينة لا تسمى قيدا في الاصطلاح.
نقول: الظاهر بقاء الوجه الأول من الاعتراض على حاله، وأن التمثيل بهما ليس في محله، لكنه لا يقدح في المدعى، وهو كون التزام التقييد علامة المجازية المطلق في المقيد، حيث أن المنع في الوجه المذكور راجع إلى الصغرى، أي كون المثالين من أفراد تلك الكبرى المدعاة.
وأما الوجه الثاني: فيمكن الجواب عنه، بأن الظاهر أن المراد بالتقييد التقييد
(1) نهاية الأصول، المخطوط: 25 وإليك نصه:
الحادي عشر التزام تقييده دليل على المجاز من جناح الذل ونار الحرب.
128

بالإضافة، كما يشعر به تمثيلهم بما عرفت، ولا ريب أن المضاف إليه قيد للمضاف حقيقة، واصطلاحا، ولا يطلق عليه القرينة، وأيضا استعمال اللفظ معه في المقيد حقيقة فيه على التحقيق عندنا، وإنما يكون مجازا إذا استعمل فيه مجردا عنه، وأيضا المقصود من التزامه لزوم اتصاله باللفظ عند الإطلاق.
فظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين المجاز، من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الصارف في المجاز يسمى قرينة، وفيما نحن فيه قيدا لا غير، لما بينا من أن المراد التقييد بالإضافة، كما عرفت.
الثاني: أن اللفظ مجاز مع القرينة في غير الموضوع له، بخلاف ما نحن فيه، فإن اللفظ مع القيد حقيقة في المقيد، وإنما يكون مجازا إذا استعمل مجردا عنه.
الثالث: أن القرينة في المجاز، وإن كانت لازمة إلا أنه لا يجب اتصالها، واقترانها باللفظ عند الإطلاق، بل يجوز انفصالها عنه إذا لم يكن المقام مقام الحاجة، وكذا يجوز إتيانها بغير اللفظ.
هذا بخلاف ما نحن فيه، فإن مورده ما إذا كان القيد لازم الاتصال باللفظ بحيث لا يجوز ذكره منفصلا، وأيضا لا بد من كونه لفظا، وكونه مضافا إليه اللفظ.
أقول: بل يجب أن يكون لفظا خاصا أيضا، بمعنى أن يكون لفظا موضوعا لخصوص المعنى المقيد المبحوث عنه، كنار الحرب مثلا، حيث أن الحرب قيد لفظي متصل بالنار موضوع للمعنى المبحوث عنه، أي معنى الحرب الذي يبحث فيه أنه من أفراد النار، أو معنى مباين لها، فبلزوم كونه قيدا متصلا للنار - عند إطلاقه على المقيد - يعلم كون النار مجازا فيه لو استعمل فيه مجردا عنه، وأما مع اتصاله به فهو حقيقة فيه قطعا، بمعنى أنه - مقيدا بذلك القيد - موضوع للمعنى المبحوث عنه، وإلا لجاز التفكيك بينهما بأن يستعمل النار فيه مجردا مثلا، لكن التالي باطل بالفرض، لأنا نتكلم على هذا التقدير، بل موضوع العلامة هذا، فإن هذا معنى التزام القيد فيه، وبه يخرج عن الفرض، فالمقدم مثله، فيثبت نقيض المقدم، وهو المدعى، وكيف كان، فقد عرفت الفرق بين ما نحن فيه وبين المجاز من وجوه.
ومن هنا يظهر الفرق بينه وبين استعمال الكلي في الفرد، فإن القرينة على تعيين الفرد، وإن كانت لا بد منها،
لكن الحال فيها ما عرفت في قرينة المجاز من عدم لزوم اقترانها باللفظ لا غير.
129

ثم إنه يمكن التمسك في مورد العلامة المذكورة بظاهر الإضافة أيضا، فإنها ظاهرة في كونها بتقدير اللام، أعني كون المضاف إليه مباينا للمضاف، لا بيانية بتقدير (من) حتى يكون فردا منه، فيقال في مثل نار الحرب إن الظاهر من الإضافة كون الحرب مباينة للنار، فيثبت بذلك أيضا كون النار مجازا في الحرب، فإن ذلك وإن كان ظنا إلا أنه من الظنون المعتبرة ببناء العقلاء، لأنه من الظن الدلالي الناشئ من أصالة عدم القرينة، المجمع على اعتباره من كافة العقلاء، ففي مورد التزام التقييد علامتان لمجازية اللفظ المطلق في المعنى المبحوث عنه.
إحداهما علمية، وهي مجرد التزام القيد، فإنه بنفسه يفيد العلم بالمطلوب.
والأخرى ظنية، وهي ظاهر الإضافة بناء على أنها ظاهرة في ذلك الذي ذكرنا، أي المباينة بين مسمى الكلمتين.
ثم إنه جعل من فروع دلالة الإضافة على المباينة، خروج التكبير والتسليم عن حقيقة الصلاة، لظهور قوله عليه السلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) إذ لا ريب أن المراد بالتحريم والتحليل، المحرم والمحلل، وحيث أن التحريم والتحليل قد حملا عليهما، فيكونان أي المحرم والمحلل عين التكبير والتسليم، فإذا فرضنا أن الإضافة تفيد المباينة، فيستفاد من إضافة المحلل والمحرم اللذين هما عين التكبير والتحليل، خروجهما عن حقيقة الصلاة.
وأورد عليه المحقق ()، والعلامة ()، والمحقق الثاني () - فيما حكي عنهم - بأن الإضافة لا تدل إلا على المغايرة، وهي ثابتة بين الشيئين أو بين الشيء وجزئه، ولذا صح يد زيد ووجهه.
وفيه نظر: لأن إضافة اليد إلى زيد ليس من إضافة الجزء إلى الكل، لأن زيدا ليس موضوعا للجسم المشتمل على اليد، بل للذات المشخصة بالوجود الخاص الخارجي الممتاز عن سائر الموجودات.
والأولى الاستشهاد بمثل سقف البيت وحائطه، فإن السقف جزء البيت مع جواز إضافته إليه.
130

لا يقال: إن المراد بالبيت حين إضافة السقف إليه، إما أن يكون تمامه بجميع أجزائه التي منها السقف، وإما أن يكون المراد الأجزاء الباقية غير السقف، لكن الأول ممتنع، للزوم إضافة الشيء إلى نفسه، فإن إضافة السقف إلى جميع أجزاء البيت يلزمه إضافته إلى السقف أيضا، لأن هذا الجزء أعني السقف مباين للأجزاء الباقية، فيثبت المطلوب ويرتفع الإيراد.
لأنا نقول: إن المحذور مسلم على الفرض الأول، إذا لوحظ جميع أجزاء البيت باللحاظ التفصيلي، وأما إذا لوحظت على نحو الإجمال فلا، لتغاير السقف المضاف للسقف المراد حينئذ، لأن الثاني ملحوظ إجمالا، والأول تفصيلا، ولا ضير.
والحاصل: إن البيت موضوع لمعنى بسيط ذهني مركب خارجي، لأن الألفاظ الموضوعة للمركبات الخارجية، قد وضعت لها بلحاظ وحدتها الاعتبارية، فحينئذ تكون المعاني المركبة الملحوظة حال الوضع مباينة لأجزائها، فيصير كل معنى مركب بالنسبة إلى جزئه كالمتباينين، بل متباينين.
فان قلت: إن هذا رجع بالأخرة إلى دفع الإيراد، وإثبات أن الإضافة تفيد التباين بين المعنيين، فيكون ذلك دفعا لصورة التوجيه.
قلنا: إن الثمرة المذكورة مبنية على المغايرة والمباينة الحقيقية، ولا يجدي فيها المباينة الاعتبارية، وحاصل ما ذكر في دفع الجواب عن الإيراد على القسم الثاني، فتأمل حتى تفهم ().
ومن الطرق العلمية صحة التقسيم:
فإنها علامة علمية على كون القسمين فردين للمقسم، في مقابل من يزعم اختصاص وضع المقسم بأحدهما، هذا إذا علمنا بأن التقسيم باعتبار المعنى الحقيقي، كما إذا راجعنا العرف، فسألناهم عن أقسام الماء حقيقة، فقسموه إلى ماء سيل، وإلى غيره، فنقطع أن ماء السيل أيضا من أفراد المعنى الحقيقي للماء.
وأما إذا كان إحراز كون التقسيم على وجه الحقيقة بالأصل، كما إذا رأينا العرف يقسمون الماء إلى ماء السيل وغيره، ولم نعلم أنه باعتبار المعنى الحقيقي أو الأعم، فحينئذ حكمنا بكون التقسيم للحقيقة تمسكا بأصالة الحقيقة الراجعة إلى أصالة عدم
131

القرينة، فهي حينئذ لا تكون مفيدة للعلم.
نعم مفيدة للظن المعتبر المستند إلى أصالة عدم القرينة المعتبرة بإجماع العقلاء وأهل اللسان.
وكيف كان فحاصل كون صحة التقسيم علامة، أنها علامة للاشتراك المعنوي إذا دار الأمر بينه وبين الحقيقة والمجاز، وهذا مراد العلامة والفخر وجماعة من الأصوليين، من كون () صحة التقسيم دليلا على وضع اللفظ للقدر المشترك على ما نسب إليهم.
وتوضيح الحال، ورفع الإجمال عن المقال: أن صحة التقسيم دليل على كون القسمين فردين للمقسم بداهة، إذ لا يعقل تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، فإن علم أن التقسيم تقسيم للمعنى الحقيقي دل ذلك على نفي الحقيقة والمجاز، وإلا فلا بد في إثبات كون اللفظ حقيقة في المقسم من التماس دليل آخر كما ذكرنا، وحيث خفي المراد على بعض من أنكر عليهم فقال: إن صحة التقسيم لا تدل على كون اللفظ حقيقة في المقسم بنفسها، بل بعد البناء على مختار السيد، من أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، ولم يتفطن إلى أن هذا الكلام في مقام رفع احتمال كون اللفظ حقيقة في هذا القسيم ومجازا في الآخر، لا في مقام رفع احتمال كون اللفظ مجازا في المقسم، فتدبر.
ومن الطرق العلمية الاستقراء:
وهو تتبع موارد الاستعمالات، كما في استنباط الأوضاع النوعية، والقواعد الكلية كأوضاع المشتقات، وأوضاع الأحوال الإعرابية، مثل الرفع للمسند إليه، أعني الفاعل، والنصب للمفعول، وسائر متعلقات الفعل، وأما الأوضاع الشخصية المتعلقة بالمواد فلا مسرح له فيها.
وذكر بعض المحققين أنه يمكن استفادتها أيضا من الاستقراء بملاحظة استعمالات اللفظ في جزئيات معنى، فيعلم بوضعه لذلك المعنى الكلي الجامع.
وفيه: أن مجرد الاستعمالات في جزئيات معنى لا يفيد العلم بوضعه له إلا بعد مراعاة قواعد اخر، مثل أصالة عدم الاشتراك، ومرجوحية المجاز بالنسبة إلى الاشتراك المعنوي، فيخرج بذلك عن استناد العلم بالوضع إلى نفس الاستقراء، كما هو شأن العلامة.
132

لا يقال: إن هذا الإيراد مشترك الورود.
لأنا نقول: أما أحكام الإعراب والبناء، وسائر الأحكام اللفظية فلا يعقل تطرق الإيراد إليها، فإن معنى الاستقراء فيها تفحص الموارد الجزئية التي ثبتت لها هذه الأحكام فينتقل منها إلى ثبوته لكليها، وأما أوضاع
المشتقات فلعدم تطرق احتمال المجاز والاشتراك إليها.
أقول: فيه نظر بين، إذ لا ريب أن الاستقراء - أيضا - كسائر العلائم علامة للجاهل، ولا ريب أن احتمال الاشتراك أو المجاز قائم عنده، لجواز أن يكون زنة الفاعل موضوعة لمعنى آخر غير المتلبس بالمبدأ، فيكون استعمالها في المتلبس به مجازا، أو حقيقة بوضع آخر، وأيضا قد يقوم الاحتمال عنده من وجه آخر، وهو احتمال كونها حقيقة في المتلبس بالمبدأ حال النطق مثلا، دون غيره، أو حقيقة فيمن تلبس به حال النسبة، ويكون في غيره مجازا، أو حقيقة بوضع آخر.
وكيف كان فلا أرى مانعا من التمسك بالاستقراء في المواد أيضا، لعدم ظهور الفرق، ولو أثر الاحتمال المذكور لزم أن لا يكون علامة في الأوضاع النوعية أيضا.
ثم إن الاستقراء إن أفاد القطع بالمطلوب، كما هو الغالب ولو بضميمة الأصول المذكورة فهو، وإلا فيتوقف التمسك به على اعتبار الظن المطلق في باب اللغات، كما عرفت سابقا.
هذا، ثم إنه قد يستدل بالاستقراء على إثبات الوضع، لا لتعيين الموضوع له، كما استدل به لإثبات الحقيقة الشرعية، ومرجع ذلك إلى تتبع أحوال أرباب الحرف والصنائع في مخترعاتهم، لا إلى تتبع أحوال اللفظ، لكن ذكر هذا الاستقراء في علائم الحقيقة، كما صنعه بعض لا يخلو عن مؤاخذة.
ومن الطرق حسن الاستفهام:
وقد أكثر السيد () من الاستدلال به على الاشتراك اللفظي، وقد يستدل به على الاشتراك المعنوي إذا كان اللفظ في حيز الإخبار، دون الإنشاء.
وأورد عليه بأن الاستفهام يحسن عند مجرد الاحتمال، ولو كان مخالفا للظاهر، محتاجا إلى القرينة، ولو قيل: إن المراد بالحسن الحسن الملزم - بمعنى أن الدليل على الاشتراك اللفظي أو المعنوي وجوب الاستفهام على السامع، بمعنى قبح تركه منه
133

عند العقلاء من أهل اللسان، بحيث يقبح مبادرته إلى حمل الكلام على أحد المعنيين - اندفع الإيراد، كما لا يخفى.
نعم مجرد الحسن بمعنى الراجح، ولو مع جواز تركه عند العرف لا يدل على شيء من الاشتراكين، ولعل مراد المستدل هو الأول، دون الثاني. هذا، وقد يعرف كل من الحقيقة والمجاز بأمور أخرى غير منضبطة يمكن إرجاعها إلى بعض ما ذكرنا، فلا نطيل الكلام بذكرها لوضوحها في أفهام الناظرين، والله الهادي إلى الحق اليقين.
المقام الثاني: في علائم الحقيقة والمجاز عند الشك في المراد مع العلم بالوضع،
والمقصود هنا البحث عما يعول عليه في استكشاف مرادات المتكلم من الطرق العلمية، أو الظنية المعتبرة، لكن الأولى لعدم انضباطها، واختلافها باختلاف أحوال المتكلم، مقامات الكلام، وتفاوت أذهان السامعين، ونحوها من الخصوصيات التي لا يكاد يعقل دخولها تحت ضابط قانوني، بخلاف طرق العلم بالأوضاع كما ظهر، لم يتعرض لها القوم.
وأما الثانية أعني الطرق الظنية، فهي ما بين ما يفيد الظن بأصل الحقيقة، أو بتعينه، أو الظن بأصل المجاز، أو بتعينه بعد العلم به في لفظ واحد، أو في لفظين، ويتعلق به كثير من مباحث تعارض الأحوال المشتملة عليها كتب القوم.
والكلام في الكل تارة في الظن الذي قام القاطع على اعتباره، وأخرى في كل طريق ظني، وقد اشتهر في الألسنة - حتى كاد أن يلحق بالضروريات - اعتبار الظنون اللفظية في جميع المقامات المشار إليها، وقد يعبر عنها بالأصول اللفظية وسنشير إليها عن قريب.
وأما اعتبار مطلق الظنون لفظية كانت أو غير لفظية، فلم نقف على قائل به من باب دليل خاص نقلي أو عقلي، وإن كان بعض عبارات المحقق القمي (قدس سره) ظاهرا في ذلك إلا أنه يمكن تأويله ().
وكيف كان، فالظاهر مضافا إلى أنه يكفي في عدم الاعتبار عدم ثبوته، انعقاد الإجماع على بطلان ذلك.
نعم القول باعتبار مطلق الظن هو مجد في المقام الأول، أعني تشخيص
134

الأوضاع، لكنه في المقام مجمع على بطلانه ظاهرا.
ويتفرع على ذلك أن تعيين المراد من المجملات العرفية - كالحقائق المحفوفة بالقرائن الصارفة خاصة، والمشتركات اللفظية العارية عن قرائن التعيين، أو المطلقات المراد بها مقيدات مخصوصة معينة واقعية، غير معلومة في الظاهر - بمثل الشهرة، والمناسبات الذوقية - على ما هو المعهود المتعارف عند القصار - من أهل المكاشفة والاستحسان، من توجيه الأحاديث المشكلة التي ليست لها متفاهم عرفي، ببعض الوجودات المبنية على ما عقد عليه قلوبهم جهلا، أو ظنا من المبادي الذوقية الفاسدة، خروج عن المنهج القويم، وميل عن الصراط المستقيم.
نعم يتجه القول بحجية مطلق الظنون التي لم يقم دليل على عدم اعتباره، كالقياس، بناء على ثبوت انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية، فإن الظن بمرادات الشارع حينئذ حجة، من حيث كونه ظنا بالحكم الشرعي، فيخرج عن المقام الذي هو الاعتداد بالظن المطلق في المرادات من الحقائق والمجازات وكيف كان، فالمهم في المقام صرف الكلام إلى الظنون التي قام القاطع على اعتبارها بالخصوص، وهي منحصرة بحسب الاستقراء في ظنون ترجع جلها إلى
ظواهر الألفاظ في متفاهم أهل اللسان، وقد تسمى بالأصول اللفظية،
كما مر وهي كثيرة:
منها: أصالة الحقيقة عند عدم القرينة،
ويراد بها وجوب حمل اللفظ على إرادة معناه الحقيقي، إذا علم بتجرده عن القرائن الصارفة، واستدل عليها بوجوه:
الأول: ما ذكره العلامة في محكي النهاية (1) والتهذيب (2) من توقف حصول
(1) نهاية الوصول مخطوط: 23، وإليك نصه:
البحث التاسع: في أن المجاز على خلاف الأصل قد عرفت غير مرة من أن فائدة الوضع إعلام الغير ما في الضمير باللفظ الموضوع للمعنى فإذن الأصل الحقيقة تحصيلا لفائدة الوضع، ولأنها لو لم تكن أصلا لكان إما أن يكون المجاز هو الأصل أولا واحد منهما بأصل، والقسمان باطلان، أما الأول فبالإجماع، وبأنه مناف للحكمة، فإنه من الممتنع أن يضع الواضع لفظا لمعنى ليكتفي به في التعبير عنه ليكون استعماله فيما لم يوضع له أصلا في تلك اللغة، وأما الثاني فلأنه يحصل حينئذ التردد ويختل الفهم، ويصير كلام الشرع مجملا بين حقيقته ومجازه، وكذا جميع ما ينطق به العرب لتردد تلك الألفاظ بين حقائقها ومجازاتها، فكان لا يحصل الفهم إلا بعد الاستكشاف.
(2) تهذيب الأصول للعلامة الحلي (قده) وإليك لفظه:
البحث التاسع في أنه على خلاف الأصل وإلا لما حصل التفاهم حالة التخاطب.
135

التفهيم على ذلك، بيانه على ما في المنية (1): أن المجاز ليس أصلا، أي راجحا على الحقيقة إجماعا، فإذا لم يكن مرجوحا كان مساويا للحقيقة، فيتردد السامعون بين المعنى الحقيقي والمجازي، ولا يفهمون شيئا إلا بعد البحث والاستكشاف، وأما بطلان التالي فبالوجدان.
الثاني: ما ذكره أيضا فيهما من أن حمل اللفظ على المجاز لا يجوز، لأنه يلزم أن يكون حقيقة إذ لا معنى للحقيقة إلا ذلك، وزاد السيد العميدي، ولأن شرط الحمل على المجاز نصب القرينة والمفروض انتفاؤها.
الثالث: ما ذكره أيضا من أن المجاز يتوقف على وضع، ونقل، وعلاقة، ولا تتوقف الحقيقة إلا على الأول، فيكون أولى، وكأنه أراد أن قلة المؤن مما يؤثر في إرادة المتكلم، فيكون ما يحتاج إلى كثرة المؤن أبعد عن
إرادته.
هذا، وفي الكل تأمل، لأن القدر الثابت بتلك الوجوه بعد تسليمها إنما هو رجحان الحقيقة، والكلام في اعتبار هذا الرجحان، بحيث يوجب حمل اللفظ عليها، وإلا فيرد على الوجه الثاني مضافا إلى ذلك بأنه مصادرة محضة، فإن كون اللفظ المجرد محمولا على الحقيقة عين المدعى، وعلى الوجه الثالث مضافا إلى ما ذكر - أيضا - أن قلة المؤن
(1) منية اللبيب للعميدي مخطوط، في البحث التاسع من مباحث الحقيقة والمجاز، وإليك نصه:
أقول قد اشتمل هذا البحث على مسائل أربع:
الأول في أن المجاز على خلاف الأصل ويدل عليه ثلاثة أوجه.
أولها أنه لو لم يكن كذلك لم يحصل التفاهم حال التخاطب بالألفاظ التي لها مجازات يمكن إرادتها والتالي باطل فالمقدم مثله، أما الملازمة فلأن المجاز ليس أصلا أي راجحا على الحقيقة إجماعا فإذا لم يكن على خلاف الأصل أي مرجوحا كان مساويا للحقيقة وحينئذ يتردد سامعو اللفظ بين معناه المجازي والحقيقي فلا يفهمون شيئا منهما إلا بعد البحث والاستكشاف وأما بطلان التالي فبالوجدان.
وثانيها: أن اللفظ إذا تجرد عن القرينة فإما أن يحمل على حقيقته أو مجازه أو عليهما معا أولا على واحد منها والثلاثة الأخيرة باطلة، فمقتضى الأول إما بطلان حمله على المجاز فلأن شرطه وجود القرينة وحيث انتفت انتفى ولأن الواضع لو أمر بحمل اللفظ عند تجرده عن القرنية عليها لكان المجاز حقيقة، إذ لا معنى للحقيقة إلا ذلك، وإما بطلان حمله عليهما معا فلأن الواضع لو قال احملوه عليهما لكان اللفظ حقيقة في المجموع، ولو قال احملوه على هذا وذاك كان مشتركا والتقدير خلاف ذلك وأما بطلان عدم حمله على شيء منهما فلأنه يلزم تعطيل اللفظ وإلحاقه بالمهملات فظهر تعين حمله على الأول وهو المطلوب.
وثالثها: أن المجاز يتوقف على نقل لفظ عن معنى موضوع له إلى غيره لعلاقة بينهما فهو لا محالة يستدعى أمورا ثلاثة، وضعه أولا لمعنى، ونقله عنه إلى غيره، وعلاقة بين المعنيين، والحقيقة إنما تتوقف على الأول خاصة فكانت أرجح.
136

كيف يمكن كونها - مؤثرة في الإرادة.
ثم إن قوله وأما بطلان التالي فبالوجدان، كأنه إشارة إلى ما ذكر بعض فحول السادات، وهو الوجه الآتي.
الرابع: ما ذكره بعض فحول السادات، ولعله السيد الكاظمي (1) (قدس سره)، من أن سد باب التفاهم يوجب انتفاء فائدة البعثة، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وفساد النظام.
أقول: توضيح الاستدلال، أنه إذا لم يجز حمل الألفاظ على حقائقها عند التجرد، فيلزم سد باب التفهم، نظرا إلى قيام احتمال عدم إرادة الحقيقة في جل الألفاظ الصادرة إن لم نقل كلها، إما بأن يراد منها المعنى المجازي، أو لم يرد منها شيء أصلا، وحصول العلم في بعض المقامات بالمراد لا ينفع في أكثرها، فإذا انسد باب التفهم، فيخلو البعثة، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب عن الفائدة، فإن فائدتها تبليغ الأحكام إلى المكلفين، ومن المعلوم أن طريق التبليغ والتفهيم منحصر في الألفاظ وإلقاؤها مجردة عن القرينة، فإذا فرض انسداد باب التفهم منها فلا يحصل التبليغ بها.
ولو قيل إنه مع الشك في المراد يرجع إلى الرسول في بيانه، فهو مردود بأن البيان أيضا بلفظ مثل هذا اللفظ، فيتسلسل، أو يدور، وأما لزوم فساد نظام العالم فواضح.
هذا، وفيه: أن الترديد بين المجاز والحقيقة في الخطابات الشفاهية في غاية القلة والندرة، بل الغالب فيها كما نجد من أنفسنا حصول العلم بكون الحقيقة مرادة عند تجرد اللفظ عن القرينة، وحصول الترديد في بعض المقامات لا يوجب شيئا من المحاذير المذكورة.
الخامس: قوله تعالى «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه» () استدل به غير واحد من أفاضل المتأخرين، ولم يبينوا وجه الدلالة، مع أنها بمكان من الخفاء والسقوط،
(1) ذكره في الوافي في شرح الوافية للسيد محسن الأعرجي الكاظمي، مخطوط في مباحث الحقيقة، والمجاز في تأسيس الأصل عند دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز وإليك نصه:
وهذا الأصل بالمعنى الأول [أي العلم بالوضع والشك في المراد] مما لا نزاع لأحد فيه، كيف ولو لا ذلك لامتنعت فائدة الوضع وبطل التفاهم، بل وانتفت فائدة البعثة وإرسال الرسل وإنزال الكتب وفسد النظام.
137

مضافا إلى قصوره عن إفادة تمام المدعى، وهو متابعة أصل الحقيقة مطلقا، حتى في المحاورات والأقارير والدعاوي ونحوها، لأن غاية ما يمكن أن يتكلف من دلالته، أن يجعل معنى الآية أنه وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه، وبلوازم لسان القوم، من حمل الألفاظ المجردة عن قرينة المجاز على حقائقها، وهذا يقتضي حمل الخطابات الصادرة من ذلك الرسول المجردة عن قرينة المجاز على حقائقها، بأن لا يكون للرسول مؤاخذة عليهم لو أخطئوا في المراد، كما إذا انكشف الخطأ في حملهم، لا مطلق الخطابات، كما هو المدعى.
هذا مع أن الظاهر أن الآية مسوقة لبيان أنه تعالى أرسل إلى كل قوم رسولا منهم، تسهيلا لهم في أخذ معالم دينهم منه، لكونه نبيا لهم بلسانهم، ولاستئناسهم به لكونه منهم.
فحاصلها أنها في مقام الامتنان عليهم، حيث لم يحمل عليهم رسولا من غيرهم ليشق عليهم استفادة الأحكام منه، أو تبعيتهم له، لكونه من غيرهم.
نعم لو ثبت أن بناء العرف على حمل الألفاظ على حقائقها مجردة عن القرينة الصارفة، فيمكن الاستدلال بها على إمضاء الشارع هذا البناء، لكن بعد حملها على أن المراد بها إرسال كل رسول إلى قومه بلسانهم، وبلوازم لسانهم الثابت عندهم، وهو البناء المذكور، لكنه خارج عن المقام، لأنا في مقام إثبات أصل هذا البناء.
السادس: الإجماع القطعي.
وفيه أن المسألة في المقام ليست من الأمور التوقيفية الموظفة من الشارع ليدخلها الإجماع، ويكشف عن قول الإمام عليه السلام، بل هي - على فرض ثبوتها - من الأحكام العرفية. وكيف؟ فإجماع العلماء - من حيث كونه إجماع العلماء لا يرتبط بالمقام ولا حجية فيه، لعدم كشفه عن قول الإمام عليه السلام، الذي هو مناط الحجية، لعدم كون المسألة من الأمور الموظفة التي يكون بيانها من شأن الإمام عليه السلام.
نعم، لو أريد به إجماع أهل اللسان، فهو مع ثبوته يصلح دليلا.
لكن الكلام أولا - في تحققه، وثانيا - في تسميته إجماعا، فإنه خلاف الاصطلاح، فإن المصطلح عليه هذا اللفظ إنما هو اتفاق العلماء، من حيث كونه اتفاقهم.
وأضعف من ذلك، دعوى الإجماع على العمل بظواهر الكتاب، والسنة، فإنه مع كونه مردودا بما عرفت في الإجماع القطعي من عدم ارتباطه بالمقام، يرد عليه أن القدر
138

[المتيقن من ذلك] () على تقدير تسليمه وصلاحيته لكونها دليلا على المدعى، إنما هو اعتبار ظواهر الكتاب والسنة فحسب، فلا يثبت تمام المدعى، كظواهر المحاورات العرفية والأقارير والدعاوي ونحوها أيضا.
نعم يمكن الاستدلال بالإجماع على تقدير ثبوته، فيما إذا فرغنا عن اعتبار الظواهر عند العرف والعقلاء، ثم أردنا اعتبار ذلك شرعا أيضا بدليل الإجماع، بأن يتمسك به على إمضاء الشارع لطريقهم.
لكن هذا أيضا لا يستقيم للقطع بعدم انفراد الشارع في طريقة محاوراته، ومخالفة طريقته لطريقة أهل العرف في محاوراتهم، وهذا ضروري لا حاجة في إثباته إلى الاستدلال.
السابع: ما ذكره الشيخ محمد تقي () (قدس سره)، مما حاصله أن فائدة الوضع في غير المشتركات إنما هي تأدية المعنى المقصود بسهولة، وهذا إنما يحصل إذا جعل الواضع الألفاظ بأنفسهما كافية في تأدية المعاني الموضوع لها تلك الألفاظ، من غير حاجة إلى ضميمة قرينة، ولأنه تطويل بلا طائل، والغالب في الاستعمالات النظر إلى تلك الفائدة ومراعاتها، فإذا صدر اللفظ الموضوع لمعنى مجردا عن القرينة الصارفة، فمقتضى الغلبة كون المتكلم مريدا للحقيقة فإن إرادتها من هذا اللفظ الموضوع لها مجردا عن القرينة هي الفائدة المذكورة، هذا حاصل ما استفدنا من كلامه قدس سره.
لكن يرد عليه أن الغلبة المذكورة إنما تقتضي كون المتكلم مقتصرا بذلك اللفظ وحده عند إرادة الحقيقة، وأما إذا تعلق غرضه بإرادة المجاز، فالغلبة لا تنفي احتمالها.
نعم لو ثبت من الواضع أيضا عدم جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي بلا قرينة، وكان الغالب مراعاة ذلك، فهذا يفيد أن المقصود هو الحقيقة.
والحاصل أن مرجع الغلبة التي ادعاها، أن الغالب - فيما إذا كان المتكلم في مقام إرادة الحقيقة - إطلاق اللفظ مجردا عن القرينة الكاشفة عن الحقيقة، ولا ريب أن هذه لا تنفع - في المقام للشك - في كونه مريدا لها، فيكون الاستدلال بتلك الغلبة على كونه مريدا لها دوريا، كما لا يخفى.
نعم، لو ثبت أن الغالب - فيما إذا أطلق اللفظ مجردا عن القرينة الصارفة -
139

إرادة الحقيقة، فهذه تنفع في المقام.
هذا كله مضافا إلى أنه لو ثبت هنا غلبة تفيد إرادة الحقيقة، فهي إما أن تفيد القطع، وإما أن تفيد الظن.
أما على الأول: فهي مخرجة لما نحن فيه عن الفرض، لأنا نتكلم في اعتبار أصالة الحقيقة، مع كونها من الظنون، فإذا فرضنا وجود مثل هذه الغلبة، فالاستدلال بها على اعتبارها - مع فرض كونها ظنية - خارج عن طريقة العقلاء، لعدم الارتباط بين الدليل والمدلول.
وأما على الثاني: فلا ريب أنه لم يقم دليل خاص على اعتبار الظن الحاصل من الغلبة في المقام.
نعم يمكن القول به بناء على ثبوت الانسداد في الأحكام الشرعية، لكن أصالة الحقيقة - حينئذ - مستندة إلى هذا الظن، وليست من الظنون الخاصة، فتخرج عن مفروض الكلام في المقام، فإن الفرض إثبات اعتبارها بالخصوص، بحيث لا يتوقف اعتبارها على ملاحظة مقدمة الانسداد، هذه جملة ما ذكروه من الوجوه، وقد عرفتها بما فيها.
والتحقيق في الاستدلال أن يقرر هكذا: إنه إذا أطلق اللفظ مجردا عن القرينة، كما هو المفروض، فإن علم بإرادة المتكلم للمعنى الحقيقي فلا كلام، وهو خارج عن محل البحث، وإن شك في إرادته له - حينئذ - فمنشأ الشك أحد الوجوه على سبيل منع الخلو:
الأول: احتمال أن لا يكون المتكلم في مقام التفهيم، وهذا يتصور على وجوه:
الأول: أن يتعلق غرضه بنفس اللفظ لغرض من الأغراض العقلائية، كما في الأوامر الابتلائية.
الثاني: أن لا يكون له غرض صحيح أصلا، بل إنما تكلم به عبثا وسفها.
الثالث: أن يكون اللفظ صادرا منه سهوا أو غفلة ومن غير شعور إليه.
الثاني: احتمال أن يتعلق غرضه بتفهيم المعنى المجازي، بمعنى أنه في مقام التفهيم، لكن أراد من اللفظ المجرد المعنى المجازي، وهذا أيضا يتصور على وجهين:
الأول: أن يكون تركه ذكر القرينة لغفلة منه.
الثاني: أن يكون ذلك لتعمده عليه مع التفاته إلى الاحتياج إلى القرينة.
الثالث: احتمال تعلق غرضه بتفهيم المعنى المجازي في أول الأمر، لكن حصل
140

له البداء عن إفادته بعد ذكر اللفظ.
وبعبارة أوضح: إنه كان قبل تكلمه بهذا اللفظ مريدا لتفهيم المعنى المجازي، فأطلق اللفظ، وكان حين إطلاقه [مريدا ل‍] ذكر القرينة أيضا، لكن بعد إطلاقه حصل له البداء عن إفادته، وصرف افادته عنه.
فإذا عرفت تلك الاحتمالات الموجبة للشك في إرادة الحقيقة.
فنقول: لا شك ولا ريب أنه إذا كان المتكلم عاقلا شاعرا، كما هو مفروض البحث، فكل تلك الاحتمالات منفية في حقه ببناء العقلاء، والسيرة القطعية من كافة أهل اللسان في محاوراتهم، بحيث لا يلتفتون إلى شيء منها، ولا يتوقفون في حمل اللفظ على حقيقته - حينئذ - بواسطة واحد منها، بل الأصل المسلم المقرر عندهم، حمل كل كلام صادر من كل متكلم عاقل شاعر على كونه لأجل التفهيم، وأيضا كون غرضه متعلقا بإفادة المعنى لا بمجرد اللفظ، وأيضا الأصل المقرر - عندهم - البناء على عدم سهوه، أو غفلته بوجه من الوجوه، وكذا الأصل المسلم عندهم البناء على استمرار إرادته، وعدم الالتفات إلى احتمال البداء، وكذا الأصل المقرر عندهم، البناء على عدم تعمده لترك القرينة، المخل بتفهيم المراد، بل هذا الأصل قام البرهان العقلي القطعي الفطري على اعتباره، بحيث يحصل بملاحظته القطع بعدم تعمده لترك القرينة، وتقرير هذا البرهان من وجهين:
الأول: أنه مع كون المتكلم مريدا للمعنى المجازي، فلا ريب أن تركه القرينة عمدا نقض لغرضه الداعي إلى إطلاق نفس اللفظ، ولا ريب أن نقض الغرض من العاقل قبيح عقلا.
الثاني: أنه لا ريب أن إرادة كل فعل - مع عدم المانع منه - علة تامة لإيجاده، فإذا فرضنا أن المتكلم في مقام تفهيم المعنى المجازي، وأنه تعلق إرادته بذلك، والمفروض في المقام عدم المانع له من ذكر القرينة، فلا يمكن وإرادته هذه على حالها أن يترك القرينة تعمدا، لأنه موجب لتخلف المعلول عن علته، وهو مستحيل ذاتا عند العقل، فإن التفهيم الذي هو المعلول لا يتم، ولا يوجد إلا بذكر القرينة، فتركها مستلزم للمحذور المذكور، فالوجه الأول راجع إلى الاستحالة العرضية الناشئة من القبح، والثاني راجع إلى الاستحالة الذاتية الناشئة عن استلزام تخلف المعلول عن علته.
فبهذين الوجهين ظهر أنه لو انحصر منشأ الشك في إرادة الحقيقة في احتمال تعمد المتكلم بترك القرينة، يحصل القطع بإرادة الحقيقة، وأن الشك يكون بدويا، وإذا
141

التفت إلى أحد الوجهين المذكورين يحصل القطع بإرادة الحقيقة.
وكيف كان: فإذا عرفت أن الأصل المقرر - المسلم عند العقلاء، وأهل اللسان - البناء على عدم كل من الاحتمالات المذكورة، مع قيامها - أي قيام تلك الاحتمالات - في محاوراتهم في مثل المقام، أي فيما إذا أطلق اللفظ مجردا عن القرينة، مع تمكنهم من السؤال والفحص عنها، فثبت أن أصالة الحقيقة من الظنون المعتبرة التي لا يتوقف الركون إليها على ثبوت الانسداد في الأحكام.
نعم بعض تلك الاحتمالات، وإن كان بدويا، لكن كلها ليست كذلك، بل أكثرها مستمرة، غاية الأمر أن العقلاء لا يعتنون بها، لا أنهم لا يحتملونها، حتى يقال:
إنه خارج عن محل البحث، ولا ريب أن النتيجة تابعة في الظنية والقطعية لأخس مقدماتها، فإذا صار بعض مقدمات حمل اللفظ على حقيقته الذي هو النتيجة في المقام ظنية، فهو تابع لها، فيصير ظنيا بالظن المعتبر، لحصول الظن به - من الظنون المعتبرة خاصة.
والحاصل: أنه بعد ما ثبت أن مقدمات أصالة الحقيقة من الظنون الخاصة، الغير المتوقفة على الانسداد، فتكون هي أيضا من الظنون الخاصة فثبت المطلوب.
هذا، ولكن للنفس فيه تأملا وتزلزلا، فإن العقلاء، وأهل اللسان، وإن كانوا لا يتوقفون في حمل اللفظ على حقيقته في مقام الشفاه عند تجرده عن القرينة، بل استقرت طريقتهم على حمله عليها - حينئذ - بحيث لا يوجب أحد من الاحتمالات المذكورة توقفهم في فهم المراد، لكن لا ريب أن تلك الاحتمالات لبعدها غاية البعد، كانت بحيث يحصل القطع بعدمها غالبا، بحيث يكون احتمالها لمجرد الإمكان العقلي، مضافا إلى قيام البرهان العقلي على استحالة بعضها، كما عرفت، فحينئذ فالخطب في إثبات سيرتهم على حمل اللفظ على حقيقته مجردا عن القرينة، مع قيام تلك الاحتمالات، أو بعضها بحسب الواقع وبحسب اعتقادهم.
وبعبارة أخرى، إثبات أنهم يكتفون بظاهر اللفظ، مع عدم القطع بكونه مرادا، بسبب بقاء واحد من الاحتمالات، مع تمكنهم من تحصيل القطع بالسؤال، وإن كانت إرادته مظنونة، فإن هذه الصورة أقوى صور كون الظاهر غير معلوم المراد، ولا يبعد دعوى ثبوت ذلك في تلك الصورة المذكورة، وأما في غيرها من صورتي الشك بإرادة الحقيقة، أو الظن بعدم إرادتها، فدون إثباته فيهما خرط القتاد، إذ من المعلوم أن الأصل المذكور - أي
أصالة الحقيقة - ليس من الأحكام التعبدية المأمور بها
142

الشارع، بل هي من القواعد العرفية في محاوراتهم، ولا مرية أنه لا يعقل تعبد العقلاء بمجرد الشك من دون آمر لهم، كما هو المفروض، فكيف بما إذا كان الظن على الخلاف، وكيف كان فيمكن دعوى ما ذكر في الصورة الأولى، فإن بناء العقلاء على العمل بالظن في أمورهم. وأما في الأخيرين فلا.
وإن شئت توضيح الحال، فارجع إلى العرف فيما إذا أمر المولى عبده بقتل ولده، أو تخريب داره، وغير ذلك من الأمور العظيمة، وشك العبد في كون المراد ظاهر هذا الخطاب، ولم يستفد من المولى، مع تمكنه منه، ففعل بمقتضى ظاهر اللفظ الذي كان مشكوك الإرادة عنده، ثم انكشف أن مراد المولى كان غير ذلك الظاهر، فلا ريب أنه بعد اطلاع العقلاء على كون العبد شاكا في ذلك عند سماع الخطاب، وامتثل شاكا، فهم لا يرتابون في استحقاقه الذم واستحقاقه العقاب من مولاه. ولو كان ظاهر اللفظ حجة، من دون تقييده بالقطع، أو الظن بإرادته، لما كان للمولى عقابه وذمه، ولو عاقبه يقبحه العقلاء، وقد عرفت خلافهما.
ومن هنا ظهر ضعف القول باعتبار الأصل المذكور من باب الظن النوعي، فإن الظن النوعي شك فعلا في بعض صوره، مضافا إلى اجتماعه مع الظن بالخلاف، بل ملاحظة تلك الأمثلة توقفنا عن دعوى ما ذكر في الصورة الأولى أيضا.
وكيف كان، فإثبات ذلك، ولو في الصورة الأولى، فيما إذا لم يحصل العلم بكون الحقيقة مرادة، ولو مع الظن بإرادتها، مع التمكن من السؤال - كما هو المفروض - مشكل غاية الإشكال، فيشكل التمسك ببناء أهل اللسان، واستقرار سيرتهم على حمل الألفاظ على حقائقها مجردة عن القرينة في محاوراتهم الشفاهية، لما عرفت من أن الغالب حصول القطع لهم بالمراد حينئذ، بحيث يشذ الشك فيه غاية الشذوذ، ولم يعلم من حالهم البناء على ما ذكر في صورة الشك في كون الحقيقة مرادة، ولو مع الظن بإرادتها مع تمكنهم من السؤال، ومع ذلك لا يثبت كون أصالة الحقيقة في مقام الشفاه من الظنون الخاصة المعتبرة.
فإن قيل: إنا نجد في العرف أنه لو أمر المولى عبده بشيء، فترك العبد الإتيان بذلك الشيء معتذرا، بأني لم أتيقن بكون الظاهر مرادا، لم يعذر ويستحق الذم والعقاب عند العقلاء قطعا، فلو كان اعتبار الظهور اللفظي وأصالة الحقيقة متوقفا على العلم، لما كان وجه لذمه وعقابه.
قلنا: إن ذمه واستحقاقه العقاب - حينئذ - لأجل ظهور كذبه في - دعواه
143

عدم العلم، فإن منشأ احتمال خلاف إرادة الحقيقة - كما عرفت - يكون بمثابة من الضعف، لندرته وشذوذه، بحيث يحصل القطع بعدمه.
فإن قلت: إنا نرى أنه لو علم صدق العبد في مقالته، بحيث صدقه المولى أيضا لصح ذمه وعقابه أيضا.
قلنا: إن صحتهما حينئذ، لأجل تقصير العبد في فهم مراد المولى مع تمكنه من السؤال بسهولة، فلما لم يحتط، مع تمكنه منه، فصحتهما لذلك، لا لأجل كون الظاهر حجة عليه، فظهر أن الظاهر حينئذ ليس حجة لا للمتكلم ولا عليه، ولا للمخاطب ولا عليه.
فإن قيل: إن الذي ذكرته من وجوب الاحتياط والسؤال - عند طروء الإجمال - في كون الحقيقة مرادة تخريب لما بنى عليه المحققون، من الرجوع إلى أصالة البراءة فيما إذا كانت الشبهة من جهة إجمال النص، إذ مقتضى ما ذكرته وجوب الاحتياط ثمة.
قلنا: أولا: إن بناءهم على ما ذكرت في غير ما نحن فيه، فإنه مختص بالخطابات الغيبية، والذي ذكرنا إنما هو في الخطابات الشفاهية، ولا تنافي ولا تخريب.
وثانيا: إن العمل بأصالة البراءة مطلقا موقوف على الفحص عن المعارض، ثم بعد اليأس منه يرجع إليها، وذلك إنما يتصور في الخطابات الغيبية، وأما في الشفاهية التي هي محل الكلام، فلا ريب أنه بعد الفحص يتبين الحال، ويحصل القطع بالواقعة، فلا مجرى بعده لأصالة البراءة، هذا بخلاف الخطابات الغيبية، فإنه لا يحصل القطع غالبا، فيبقى لها المجال فيها.
وكيف كان، فحال المخاطب - في الخطابات الشفاهية - في وجوب السؤال عليه عن الواقعة من المتكلم، نظير حال أهل الجاهلية الذين كانوا في أول بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أخذ معالم دينهم منه صلى الله عليه وآله وسلم فيما إذا احتملوا حكما جديدا، فإنهم مع أن الشبهة في حقهم بدوية لم يجز لهم التقاعد عن السؤال، والرجوع إلى البراءة الأصلية إجماعا، وضرورة من الدين، بل كان يجب عليهم الرجوع، والسؤال عن حقيقة الحال عند قيام الاحتمال.
144

والنكتة في ذلك كله ما ذكرنا من توقف العمل على البراءة الأصلية على الفحص عن المعارض، وعن حقيقة الحال، ولما كان الحال يتبين بالسؤال للمخاطب فيما نحن فيه، وللمكلفين في ذلك الزمان، فلم يبق بعده مجرى لها حتى يرجع إليها.
هذا تمام الكلام في اعتبار أصالة الحقيقة بالنسبة إلى حال التخاطب في حق المشافه الذي هو المخاطب.
وأما غيره، فمع قطعه بعدم القرينة المكتنف بها الكلام حال الخطاب، فهي معتبرة، في حقه أيضا، سواء كان ذلك الغير حاضرا في مجلس الخطاب أو غائبا عنه، فإن الأصول المتقدمة - كما عرفت - تفيد كون الحقيقة مرادة للمتكلم عند تجرد اللفظ عن القرينة، فإذا قطع الغير بتجرده عنها حال التخاطب، تفيد تلك الأصول المعتبرة ما أفاده للمخاطب، من كون الحقيقة مرادة، فيرتب الغير - حينئذ - ما يترتب على إرادة الحقيقة من الأحكام، هذا كله فيما إذا قطع بعدم القرينة.
وأما إذا احتملت، فاعتبار أصالة الحقيقة حينئذ مبني على اعتبار أصالة عدم القرينة، فإن الأصول المتقدمة لا تقتضي كون الحقيقة مرادة حينئذ، فإنها إنما تقتضي ذلك في صورة القطع بعدم القرينة، وأما مع احتمالها فلا، لأنها لا تمنع عن إرادة غيرها مع نصب القرينة، فمعه كيف يجوز اقتضاؤها لنفي هذا الاحتمال؟ فإن كون المتكلم - في مقام التفهيم، أو عدم غفلته، أو عدم تعمده على ترك القرينة أو عدم بداء له - لا يقتضي شيء منها عدم إرادة المجاز مع القرينة.
والحاصل: إن احتمال عدم إرادة الحقيقة ناشئ من وجوه:
الأول: أن لا يكون المتكلم في مقام التفهيم وإرادة المعنى من اللفظ.
الثاني: كونه مريدا للمجاز مع سهوه أو غفلته عن نصب القرينة.
الثالث: كونه مريدا له، مع تعمده على عدم نصبها، إما سفها أو لبداء حدث له.
الرابع: كونه مريدا له، مع نصبه للقرينة، مع اختفائها على غير المتكلم.
ولا ريب أن الأصول المتقدمة إنما تفيد نفي احتمال الوجوه الثلاثة الأولى.
وأما الأخير فلا بد من نفي احتماله: إما بالقطع، أو بالأصل، فلما كان مفروض الكلام عدم القطع، فيتوقف نفي الأصل المذكور على اعتبار أصالة عدم القرينة، وستعرف الكلام فيها مفصلا إن شاء الله.
ومن الظنون اللفظية التي قام القاطع على حجيتها - في الجملة - أصالة عدم القرينة
145

، ويراد بها البناء على عدم القرينة عند احتمالها، وإنما خصصناها بالبحث، مع أنها كسائر الأصول المتوقف عليها أصالة الحقيقة، لأنه لا خلاف - ظاهرا - في اعتبار غيرها من الأصول المتقدمة، وإنما الخلاف فيها.
فنقول: الأكثرون، ومنهم شيخنا الأستاذ دام ظله على اعتبارها مطلقا ().
ويظهر من المحقق القمي (1) (قدس سره) ومن المعالم (2) أيضا على أظهر الاحتمالين فيه التفصيل بين من قصد إفهامه، وبين من لم يقصد، باعتبارها للأول وبعدمه للثاني.
والمحكي عن ظاهر بعض، والمحتمل من كلام صاحب المعالم التفصيل بين المشافه، وبين الغائب، باعتبارها للأول، دون الثاني.
حجة القول الأول: الاتفاق من العلماء، وأهل اللسان في كل زمان على اعتبارها مطلقا، غاية الأمر أن بناءهم على الفحص في الخطابات الغيبية، لكنهم بعده لا يتوقفون في حمل اللفظ على حقيقته لأجل احتمال القرينة، بل يبنون على عدمها حينئذ، ويحملون اللفظ على حقيقته.
والذي يمكن أن يوجه به التفصيل الأول، ما ذكره شيخنا الأستاذ (دام ظله) من تسليم الاتفاق فيما إذا كان احتمال القرينة من جهة احتمال الغفلة عنها، فحينئذ يبنى على عدمها، لأصالة عدم الغفلة، فإنها، كما كانت معتبرة بالنسبة إلى المتكلم، فكذلك معتبرة بالنسبة إلى غيره، وأما إذا كان الاحتمال المذكور ناشئا من احتمال اختفاء القرينة، لعروض مانع غير الغفلة، فلا اتفاق حينئذ، فيتوقف اعتبارها - حينئذ - على إثبات الانسداد في الأحكام، فيخرج عن محل الكلام، فإنه في إثبات كونها من الظنون المخصوصة الغير المتوقف اعتبارها على المقدمة المذكورة.
وأما التفصيل الثاني، فهذا التوجيه أنسب له منه بالنسبة إلى التفصيل
(1) القوانين ج 1: في آخر مسألة حجية الكتاب: 398، 403 عند قوله ومن جميع ذلك ظهر أن حجية ظواهر القرآن إلخ وكذا في أول مسألة الاجتهاد والتقليد ج 2: 306، 307 عند قوله: فإن قلت الدليل عليه انه ظاهر الكتاب مثلا وهو حجة إجماعا إلخ فراجع فان ما أفاده في هذا المبحث الأخير دال على التفصيل المنسوب إليه بنحو أوضح.
(2) معالم الأصول: 112 أصل ما وضع لخطاب المشافهة إلخ، بضم ما أفاده في مبحث خبر الواحد: 193 حيث قال: لأنا نقول أحكام الكتاب كلها من قبيل خطاب المشافهة وقد مر انه مخصوص بالموجودين في زمان الخطاب إلخ.
146

السابق، فحينئذ ينبغي توجيه بهذا الوجه أيضا.
ووجه الأنسبية سلامته - حينئذ - عما أورد شيخنا الأستاذ عليه - عند توجيه - التفصيل الأول من عدم جريانه في حق غير المشافه وإن قصد إفهامه.
وكيف كان، ففي كل من الوجهين نظر:
أما الأول: أعني حجة المشهور، فلأنه لم يتحقق لنا الاتفاق المذكور في صورة المشافهة، بأن يكتفي أهل اللسان في مقام الشفاه بظاهر اللفظ، مع احتمال إرادة خلافه، واختفاء القرينة لأجل الغفلة عنها من دون سؤال، مع التمكن منه بلا مشقة، مع أنه لا يتعقل التعبد بالشك من العقلاء من دون آمر لهم عليه، كما هو المفروض.
وكيف كان، فنحن نسلم أن عمل أهل اللسان - في محاوراتهم الخارجية - على حمل اللفظ على حقيقته من دون توقف، لكنه لم يعلم من حالهم أن ذلك لأجل حصول العلم لهم، نظرا إلى بعد احتمال الغفلة، بحيث يحصل القطع بعدمها عادة، ويكون احتمالها مجرد الإمكان العقلي، أو أنه مع قيام احتمال الغفلة.
وتمام الخطب إنما هو بإثبات الاحتمال الثاني، ولو في بعض الموارد.
ومن هنا ظهر اندفاع ما لو قيل بعدم قبول الاعتذار من العبد في تركه العمل بظاهر الخطاب الصادر من مولاه باحتمال إرادة خلافه، وغفلته عن فهم القرينة، لما قد عرفت من الجواب عن ذلك في أصالة الحقيقة.
وحاصله كما - هنا - إجمال جهة البناء، بأنه هل هو من جهة حصول العلم عادة، فلا يسمع دعوى العبد واعتذاره، أو من جهة قيام الظاهر حجة عليه مع احتمال إرادة خلافه، واختفاء القرينة، فإذا لم يثبت ذلك في بعض الموارد، فلا يمكن القول باعتبار الأصل المذكور مطلقا.
نعم الإنصاف ثبوت ذلك في الخطابات الغيبية، كما سيجيء بيانه، لكنه لا يكفي في دعوى الإطلاق.
وأما الوجه الثاني: فظهر الجواب عنه مما قررنا في الجواب عن الأول، من عدم ثبوت سيرة أهل اللسان - مع التمكن من تحصيل العلم بالسؤال بلا مشقة - على العلم بأصالة عدم القرينة، والبناء على عدم الغفلة مع احتمالها، فظهر بطلان التفصيلين كليهما.
أما الأول منهما: فلأن المدعى فيه إثبات اعتبار أصالة الحقيقة عند الشك بالنسبة إلى من قصد إفهامه، سواء كان مشافها أو غائبا.
147

وأما الثاني: فلاختصاص دعوى اعتبارها بخصوص المشافه، وقد عرفت عدم اعتبارها في حق المشافه، وركونه إليها عند الشك مع التمكن من تحصيل العلم، كما هو مفروض البحث.
هذا مضافا إلى ما يرد على الأول، من عدم ارتباط إجماع العلماء بما نحن فيه، إذ ليس الغرض إثبات اعتبارها تعبدا.
اللهم إلا أن يقال: إنه مع ثبوت اتفاقهم، فهو يكشف عن جبلتهم على العمل بها، واستقرار طريقتهم العرفية عليه، نظرا إلى أن اختلاف أمذقتهم وآرائهم - غاية الاختلاف - يمنع من الاتفاق عادة، لو لا اقتضاء جبلتهم ذلك.
مضافا إلى ما يرد على الوجه الثاني في الاستدلال به على التفصيل الأول، من اقتضائه عدم اعتبار الأصل المذكور بالنسبة إلى الغائب مطلقا، وإن قصد إفهامه، نظرا إلى أن مبنى التفصيل على استناد الأصل إلى أصالة عدم الغفلة فيعتبر، وعلى استناده إلى استصحاب عدم القرينة، فلا.
وكيف كان، فالتحقيق - في المقام - التفصيل بين المشافه والغائب، باعتباره للثاني، دون الأول، عكس التفصيل الثاني، والدليل على ذلك:
أما على عدم اعتباره للأول، فيما عرفت من عدم ثبوت بناء أهل اللسان على العمل به في حال الشفاه، مع التمكن من تحصيل العلم بلا مشقة.
وأما على اعتباره للثاني فإجماع العلماء على العمل به في الخطابات الغيبية، مع التمكن من تحصيل العلم بعد الظن بعدم القرينة، بحيث لا يتوقفون عن العمل، وحمل الخطاب على حقيقته باحتمال القرينة بعد الفحص عن مظانها، فإن اتفاقهم - مع اختلاف أمذقتهم - يكشف عن استقرار طريقتهم العرفية على ذلك، وإجماع أهل اللسان، وبناء العقلاء في كل زمان على ذلك.
ولا يرد عليه ما أوردنا على اعتبار الأصل في الخطابات الشفاهية، من أن عملهم لعله لحصول العلم بعدم القرينة، لأن القطع حاصل بأن الغالب في الخطابات الغيبية التي يعملون بظواهرها عدم حصول العلم، وقيام احتمال القرينة، ولو بعد الفحص.
لا يقال: إن حاصل ما ذكرت دعوى اعتبار الأصل المذكور من جهة الانسداد، فلا يكون من الظنون الخاصة.
لأنا نقول: نحن نسلم الانسداد، لكن ليس كل ظن يكون اعتباره من جهة الانسداد ظنا مطلقا، فإن المراد بالظن المطلق في المقام ما ثبت اعتباره لأجل انسداد باب
148

العلم بكل () الأحكام الشرعية، وإن كان مفتوحا في نفس الألفاظ، والانسداد الذي نحن نسلمه إنما هو في نفس الألفاظ، مع قطع النظر عن الأحكام الشرعية، وهذا لا يوجب كونه ظنا مطلقا، فإن الحكمة في اعتبار جميع الأصول العقلائية هو الانسداد الغالبي، لفظية كانت، كما في الأصول المعروفة في المقام، من أصالة عدم الغفلة، وعدم السهو، وعدم السفه، وغيرها، أو عملية كالاستصحاب، وأصالة البراءة - بناء على اعتبارهما - من باب الظن، وكالظن بالأمور المستقبلة، كالظن بالسلامة فإنه أيضا من الظنون المعتبرة العقلائية، والحكمة في اعتباره إنما هو انسداد باب العلم بالأمور المستقبلة غالبا، فذلك دعاهم على البناء عليه في جميع أمورهم.
ثم إنه لا يرد علينا - حينئذ - أنه كيف يمكن تعبد العقلاء بغير العلم في مورد يتمكنون منه، كما في بعض الموارد، فإن المدعى ثبوت الانسداد في الغالب، فهو اعتراف بانتقاضه في بعض الموارد فيرد المحذور.
وتوضيح دفعه: إنه لا ريب أنه ليس لحصول العلم أسباب منضبطة، في مقام استكشاف المرادات، بل أسبابه - في المقام - هي الخصوصيات اللاحقة لخصوص المقامات.
هذا بخلاف مقام استكشاف الأوضاع، فإنه - كما عرفت - له أسباب منضبطة، كالتبادر، وعدم صحة السلب، وغيرهما من الأسباب، بحيث لا يختص إفادتها العلم لشخص، دون شخص، أو حال دون حال، فلذا تعرضنا للبحث عن صغرياتها ثمة، وتركنا البحث عنها فيما نحن فيه، لعدم دخولها في المقام تحت ضابط قانوني، فإذا ثبت أنها ليس لها ضابط في المقام، فلا يختص صوره بإمكان تحصيل العلم، حتى يجب تحصيله فيها، إذ ربما يحصل العلم في بعض الصور لأحد ولا يحصل لغيره ذلك في ذلك البعض، وربما يحصل لشخص واحد في حال دون أخرى.
وكيف كان، فحصول العلم في بعض صور المقام اتفاقي، لا يدخل تحت قانون حتى يجب تحصيله، والتكلف وتحمل المشقة في جميع الموارد، لأجل احتمال خصوصية مفيدة للعلم في بعضها، موجب لاختلال النظام.
والحاصل: أنه إذا كان الداعي - إلى البناء على العمل بغير العلم - رفع الحرج والمشقة، وتسهيل الأمور فذلك أمر حسن عند العقل، بل واجب، فلا يرد السؤال
149

المذكور أصلا، لابتنائه على التعبد بغير العلم، من دون داع إليه، وغرض صحيح يقتضيه، وقد عرفت وجودهما في المقام. هذا، ثم إنه بقي الكلام في أن اعتبار أصالة الحقيقة من جهة أصالة عدم الغفلة، أو أصالة عدم القرينة، على القول بها مطلقا، أو بأحد من التفاصيل المتقدمة، هل هو على الإطلاق، ومن باب الظن النوعي بالمعنى الأعم الشامل لصورة الظن بالخلاف إلى أن يعلم بالقرينة على المجاز، أو من باب الظن النوعي بالمعنى الأخص المختص بغير صورة الظن بالخلاف الشامل لصورة الظن بالوفاق، ولصورة الشك بالمعنى المتعارف، أو من باب الظن الشخصي بالمعنى المعروف.
الأكثرون على الأول، لكنهم بين قولين، فالأكثر منهم على ذلك فيما إذا [لم] () يكتنف الكلام بشيء يصلح لكونه قرينة اعتمد عليها المتكلم، وأراد المجاز، كما في المجاز المشهور، فإن الشهرة - المكتنف بها اللفظ - تصلح لاعتماد المتكلم عليها، وإرادة المجاز، وكذلك الجمل المتعقبة بقيد يصلح لرجوعه إلى الجميع، أو إلى الأخير خاصة، فإن المشهور في أمثال المقام عدم حمل اللفظ على حقيقته بناء على عدم القرينة.
ثم المشهور منهم التوقف، وعدم حمله على المجاز أيضا، وبعضهم حمله على المجاز، كأبي يونس، والقول الآخر المقابل لقول الأكثر قول أبي حنيفة حيث إنه حمل اللفظ على حقيقته حينئذ أيضا.
وكيف كان، فقد عرفت الكلام مفصلا في المجاز المشهور، ومن الأكثرين الذاهبين إلى التوقف حينئذ الشيخ محمد تقي () (قدس سره) وشيخنا الأستاذ () دام ظله.
والمحكي عن أكثر المحققين كما في المفاتيح اختيار الثاني، أي الظن النوعي بالمعنى الأخص ومنهم المحقق الثاني في جامع المقاصد، والمقدس الأردبيلي في مجمع الفوائد، وصاحب المعالم، وصاحب الرياض على ما حكى عنهم في المفاتيح () فإن صاحب المفاتيح (قدس سره) نسب إليهم القول بالظن النوعي
150

وجعل الثمرة بين هذا القول، وبين القول الثالث - أي اعتبار الظن الشخصي - أنه يحمل اللفظ في الأمثلة المذكورة، وهي المجاز المشهور وأمثاله على المعنى الحقيقي على هذا القول، ويتوقف على القول الثالث.
أقول: في نسبته (قدس سره) هذا القول إليهم نظر، بل منع، فإن منهم صاحب المعالم، ولا يخفى أن كلامه في آخر مسألة الأمر في الفائدة التي ذكرها، التوقف في المجاز المشهور، فهو ظاهر في موافقته للقول الأول، ولعل غيره من المحققين المذكورين كلماتهم أيضا هكذا، فاستظهر السيد صاحب المفاتيح منها هذا القول، وكيف كان فنسبة هذا القول إلى صاحب المعالم لا أعرف له وجها.
وأما غيره فلا بد من الرجوع إلى كلماتهم، فلعله يظهر لنا غير ما ظهر للسيد المذكور (قدس سره).
والمحكي عن المحقق الخوانساري () والد جمال الدين الخوانساري (قدس سرهما) اختيار الثالث.
حجة كل واحد من الأقوال، إنما هي طريقة أهل اللسان، وسيرتهم، فإن كل واحدة من الجماعات يدعون سيرة أهل اللسان على طبق القول الذي اختاروه.
والذي يقوى في النظر هو القول الأول للأكثر، من حمل اللفظ على حقيقته مطلقا إلى أن يعلم بالقرينة فيما لم يكتنف اللفظ بشيء متصل من حال، أو مقال يصلح لكونه قرينة، فإن الذي نجده نحن من طريقة أهل اللسان - فيما يعتبرون أصالة الحقيقة، ولا يوجبون تحصيل العلم بالمراد - البناء على حمل اللفظ على ظاهره العرفي، وهو الظاهر الذي يفهمه العرف من اللفظ مجردا عن القرينة، وإن لم يحصل الظن لهذا الشخص، أو حصل له الظن بالخلاف من الأمور الخارجية الغير المكتنفة باللفظ، فظهر ضعف القول الثالث.
ولعل المحقق المذكور (قدس سره) نظر إلى الإشكال الذي أوردناه على اعتبار أصالة الحقيقة في حال التخاطب من عدم تعقل العقلاء التعبد بالشك. ولكن هذا الإشكال يناسب لاختيار التفصيل - ثمة - لا فيما نحن فيه، إذ بعد البناء على اعتبار أصالة الحقيقة، فلا ريب أنها لا تفيد القطع، بل المراد معها مشكوك، فلا وجه للتفصيل هنا لذلك.
151

وأما القول الثاني فظهر ضعفه من جهة اعتبار عدم الظن بالخلاف. ثم إنه يرد عليه الإشكال أيضا، في حمل اللفظ على الحقيقة في الأمثلة المذكورة، لما قد عرفت من أن بناء أهل اللسان على العمل بالظواهر العرفية، ولا ريب أنه بعد اكتناف اللفظ بشيء متصل يحتمل كونه قرينة، لا يبقى له ظهور عرفي حتى يعمل به.
ثم - ها هنا - تفصيل آخر للسيد المتقدم - أعني صاحب المفاتيح () (قدس سره)، وهو ان احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ، إن حصل من أمارة غير معتبرة، فلا يصح رفع اليد عن الحقيقة، وإن حصل من دليل معتبر، فلا يعمل بأصالة الحقيقة، ومثل له: بما إذا ورد في السنة المتواترة عام، وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العام، ولا يوجب الظن بالواقع.
والجواب عنه: ما ذكره شيخنا (دام ظله) في رسالته في هذا المقام فراجع ().
وكيف كان، فقد عرفت المختار - في اعتبار أصالة الحقيقة - من اختصاصها بالخطابات الغيبية، ولا ريب أن أهل اللسان لا يفرقون - حينئذ في العمل بالظاهر العرفي من اللفظ - بين كونه مظنونا أو مشكوكا أو موهوما بغير الظن المعتبر على خلافه.
ويكشف عن ذلك الرجوع إلى الفحص عن أحوالهم في مثل المكاتيب، والرسائل، حيث أنك تراهم يجعلون ظاهر اللفظ حجة، ويرتبون عليه أحكامه من غير أن يتوقفوا، مع الظن الغير المعتبر على خلافه.
ألا ترى أنه لو كتب أحد لآخر مكتوبا، وكتب فيه الشتم والسب على ثالث، فوقع المكتوب بيد ذلك الثالث، فلا يتوقف في جعله حجة على الكاتب، بحيث لو اعتذر الكاتب بأني لم أقصد من الكتابة الشتم، وإنما قصدت به المشق () لم يسمع منه ذلك، ويصح عقابه عند العقلاء. هذا،
ومن الظواهر اللفظية المجازات المحفوفة بالقرائن
وهذا ما هو المشهور من أن المجازات مع القرائن حقائق ثانوية، أي في حكمها، ويراد بها وجوب حمل اللفظ عليها، عند الخلو عن الصارف للفظ عن الظهور، الذي حصل له بواسطة قرينة، ولو مع عدم إفادة اللفظ العلم بكون الظاهر مع القرينة مرادا، وهو أي ظهور اللفظ مع القرينة على قسمين:
152

أحدهما: ما يرجع إلى أصالة الحقيقة في نفس القرينة، وهذا فيما إذا كانت القرينة لفظية.
وثانيهما: ما يرجع إلى غيرها، وهذا فيما إذا كانت حالية، ووجه رجوعه إلى أصالة الحقيقة - في القسم الأول - أنه إذا قيل: رأيت أسدا يرمي، ودار الأمر بين كون أسد مجازا في الإنسان الشجاع، أو كون يرمي مجازا في رمي التراب، كما هو عادة الأسد الغضبان، فظهور الأسد في الإنسان الشجاع مستند إلى أصالة الحقيقة في لفظ يرمي، وهذا القسم من المجاز معتبر عند أهل اللسان بعين اعتبار الحقائق، لأن السبب الداعي إليه، إنما هو متابعة أصالة الحقيقة التي مر بيان اعتبارها.
اللهم إلا أن يقال: إن الأدلة المتقدمة في اعتبار أصالة الحقيقة، لا تقتضي أزيد من وجوب حمل اللفظ على مدلوله المطابقي، وأما ترتيب معناه الالتزامي، وهو صرف لفظ آخر عن ظاهره، وكون المراد منه غير الظاهر، مع جريان أصالة الحقيقة فيه أيضا، فلا.
لكنه مدفوع بأن الأصول العقلائية كلها معتبرة عند العقلاء، وأهل العرف في جميع آثارها - سواء كانت مطابقية، أو التزامية - وإنما يتصور التفكيك فيما إذا كان الأصل معتبرا من باب التعبد الشرعي، وأما معارضة أصالة الحقيقة في لفظ آخر لنفسها في اللفظ الذي يكون قرينة، فهو مدفوع بأن اللفظ لا يكون قرينة إلا بعد كون دلالته نصا، أو أظهر بالنسبة إلى دلالة اللفظ الآخر، ولا ريب أنه لا اعتبار لأصالة الحقيقة بعد تعارض دلالة اللفظ بأقوى منها، بل يكون دلالة ذلك اللفظ واردة على أصالة الحقيقة في اللفظ، إذا كانت نصا، مع قطعية سندها وحاكمة عليها إذا كانت ظنية في الجملة.
وكيف كان، فلا كلام في تقديم دلالة أحد اللفظين على دلالة الآخر، وجعله قرينة عليه عند التعارض، إذا أحرز كون ذلك اللفظ نصا أو أظهر دلالة، وإنما الإشكال في المقامات الخاصة في تشخيص تلك الصغرى، إذ كما يقال: إن (يرمي) في (أسد يرمي) قرينة على الأسد، فكذلك يمكن القول بالعكس.
وما ربما يتوهمه بعض: من جعل المتأخر قرينة ممنوع بعدم الأولوية.
وكيف كان، فطريق إحراز الصغرى إنما هو بالرجوع إلى العرف، فكل ما كان من اللفظين أظهر دلالة من الآخر، فهو القرينة.
ثم إن القرينة إذا كان لفظية، فالظهور المجازي مستند إلى أصالة الحقيقة، كما
153

عرفت، وإذا كانت حالية، فهو مستند إلى تلك الحال، وكما أنه لا يجوز التأمل في الاعتماد على ظهور اللفظ في المعنى المجازي، وحمله عليه فيما إذا كانت القرينة لفظية، بعد إحراز كونها قرينة، بمعنى كونها أظهر دلالة، فكذلك لا يجوز التوقف في ذلك، فيما إذا كانت القرينة حالية، بعد إحراز كون تلك الحال بحيث توجب ظهور هذا اللفظ في المعنى المجازي عرفا.
أما على الأول: فلما عرفت من أن مرجع الظهور المجازي - حينئذ - مستند إلى أصالة الحقيقة، وقد عرفت اعتبارها.
وأما على الثاني: فلأن ما دل على اعتبار أصالة الحقيقة من بناء العقلاء من أهل اللسان، واستقرار سيرتهم في كل زمان جار فيه أيضا، وثابت بلا كلام، كما يظهر للمتتبع في محاوراتهم، وأما كون بناء العقلاء دليلا، فهو أمر واضح لا يحتاج إلى الاحتجاج عليه ضرورة إمضاء الشارع لبنائهم مطلقا.
ثم إن قرائن المجاز لا تدخل تحت ضابطة، بل تختلف باختلاف المقامات، أما إذا كانت لفظية فواضح، إلا أن يجعل الضابط كون اللفظ بحيث يصرف اللفظ الآخر عن ظاهره، لكن كونه كذلك لا يدخل تحت ضابطة، بل هو يتبع الموارد الجزئية.
وأما إذا كانت حالية، فالأمر فيها أوضح، لعدم دخولها تحت ضابطة أصلا، إلا بالتوجيه المتقدم، من كون الحال مثلا بحيث توجب صرف اللفظ عن ظاهره عرفا مثلا، أو تعينه في المعنى الآخر.
نعم قد يتصور الانضباط في بعض أفرادها، كما في المجاز المشهور، فإن الشهرة حالة للفظ توجب تعيين اللفظ في المعنى المجازي بعد قيام قرينة صارفة له عن حقيقته على المشهور، أو بدونها على قول أبي يونس.
وكيف كان، فهي موجبة لظهور اللفظ في المعنى مطلقا، أو مع قيام قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي في جميع الموارد، بحيث لا يختص كونها موجبة للظهور المذكور مطلقا، أو مشروطا، على اختلاف الرأيين ببعض صورها، دون بعض، وكما في الأمر الواقع عقيب توهم الحظر، فإن وقوعه في هذا المقام حالة توجب ظهوره في الإباحة ورفع الحظر، دون الوجوب.
ثم إن القرينة حالية كانت، أو مقالية، قد تكون مانعة عن مقتضى وضع اللفظ وكونه مرادا منه، وقد تكون معينة لغير مقتضى اللفظ، وهو المعنى الغير الموضوع
154

له، بعد قيام ما منع اللفظ عن مقتضى وضعه، وقد تكون موصوفة بكلتا الصفتين، فعلى الأول صارفة محضة، وعلى الثاني معينة كذلك، وعلى الثالث موصوفة بكلتيهما، فعلى الأول: فهي موجبة لظهور اللفظ في غير الموضوع له إجمالا، وعلى الثاني: موجبة لظهوره فيه تفصيلا، بعد قيام قرينة صارفة له عن الموضوع له، وأما على الثالث: فهي بنفسها موجبة لظهور اللفظ في غير الموضوع له تفصيلا فالنسبة بينهما أي الصارفة والمعينة عموم من وجه.
وكيف كان، فكلما ظهر اللفظ في غير المعنى الموضوع له إجمالا أو تفصيلا، ولو بانضمام شيء آخر، فهذا الظهور متبع يجب ترتيب آثاره عليه حسب ما يقتضيه المقام، وبحسب الإجمال والتفصيل، وقد عرفت الدليل على ذلك.
ثم إنه إذا قامت قرينة صارفة للفظ عن معناه الحقيقي، واتحد المجاز، فلا إشكال حينئذ في حمل اللفظ على ذلك
المعنى المجازي، فتلك القرينة الصارفة - حينئذ - معينة أيضا، وإن تعدد، فقالوا: الحمل على أقرب المجازات، ويعنون به الأقرب إلى نظر العرف، بمعنى أنه يحمل اللفظ - حينئذ - على أظهر المجازات عندهم، بعد قيام القرينة الصارفة على عدم إرادة الحقيقة.
ثم سبب ظهور إرادة هذا المعنى المجازي حينئذ من اللفظ، وصيرورته أظهر من بين المجازات مرجعه - على المشهور - إلى أحد الأمور الثلاثة:
الأول: الأقربية من حيث الاستعمال، بمعنى أكثرية استعمال اللفظ في هذا المعنى من استعماله في المجازات الأخرى الثاني: أقربيته من حيث الاعتبار، أي كونه أقرب إلى الحقيقة من حيث الاعتبار العقلي.
وبعبارة أخرى: كونه آكد علاقة للمعنى الحقيقي من بين المجازات، فذلك يوجب أقربيته في نظر العرف حينئذ.
الثالث: ما لا يكون شيئا منهما، وليس نوعا مندرجا تحته جزئيات هذا القسم، وإنما تتميز تلك الجزئيات بنفس النتيجة المذكورة، أعنى ظهور اللفظ في ذلك المعنى المجازي الخاص من بين المجازات.
وبعبارة أخرى: إنه كلما وجد مورد في العرف، فيما إذا تعدد المجازات، بعد قيام القرينة الصارفة، يفهمون من اللفظ أحدها بخصوصه، مع انتفاء الأمرين المذكورين بينه وبين المعنى الحقيقي، فالسبب الموجب لذلك الظهور حينئذ، الذي لا نعلمه تفصيلا،
155

داخل في هذا القسم، وربما يطلق على هذا القسم التبادر تسمية للشيء باسم مسببه، فإن التبادر حقيقة هو هذا الظهور، وذلك القسم سببه فتسميته به بالاعتبار المذكور.
ووقع التعبير عنه بذلك في كلام بعض السادة الأجلاء، حيث قال: إن سبب ظهور اللفظ في المعنى المجازي في صورة تعدده أحد أمور ثلاثة:
الاشتهار، والقرب، والتبادر، وأراد بالاشتهار الأقربية من حيث الاستعمال، وبالقرب الأقربية من حيث الاعتبار، وبالتبادر القسم الأخير.
هذا، ولكن الحق عدم كون القرب الاعتباري سببا للتعيين والظهور، نعم هو يكون منشأ للأقربية الاستعمالية بمعنى أنه شرط شرط فيها، فإنه يتوقف استعمال اللفظ في الغير الموضوع قليلا أو كثيرا بملاحظته، إذ لولاه لما جاز الاستعمال المجازي، لتوقفه على العلاقة المؤكدة بين المعنى الأصلي والمجازي، لكنه ليس بنفسه صالحا للتعيين، وظهور اللفظ في الأقرب من جهته.
وما ذكرنا - من المنع - لا ينافي ما ذكره أهل البيان: من أن وجه الشبه - بين المشبه والمشبه به - لا بد أن يكون من أظهر أوصافه، ليكون سببا للانتقال من المشبه به إلى المشبه، فإن غرضهم الأظهرية في نظر العرف، دون الواقع، ونظر العقل.
ثم إنه تظهر الثمرة بين ما اخترنا - في الأقربية الاعتبارية - وبين القول الآخر في حديث الرفع، وأمثاله مما قامت القرينة فيه على تعذر حمل اللفظ على الحقيقة، مع وجود أقرب اعتبارا من بين المجازات، فعلى ما اخترنا لا يحمل الحديث على رفع جميع الآثار، لكونه أقرب إلى نفي الحقيقة، بل يحمل على الأمر الظاهر عند العرف في مثل هذا التركيب إن كان كالمؤاخذة، وإلا فالتوقف.
ثم إنه يترتب على كون الظهور العرفي معينا للمعنى المجازي حمل قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم () على حرمة وطئها، لأنه الأظهر عرفا من بين سائر المحتملات، وكذا حمل قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة) () على حرمة أكلها، لكونه أظهر عرفا في مثل هذا التركيب، بعد تعذر الحقيقة، فإن الحقيقة في المثالين متعذرة الإرادة، لأن الحرمة من صفات الفعل لا الذات، فلا يجوز اتصافها بها.
ثم ليعلم أن مثل هذا الظهور من القسم الثالث، فإن سببه ليس الأقربية
156

الاستعمالية، ولا الاعتبارية على القول باعتبارها، ومن هذا القبيل قوله عليه السلام (لا غيبة لفاسق) فإن ظهوره في نفي الحرمة غير مسبب عن شهرة الاستعمال أو القرب الاعتباري.
وكيف كان، فالمدار في تعيين اللفظ في أحد المجازات، بعد تعذر حمله على الحقيقة على الظهور العرفي للفظ في هذا المعنى المجازي، سواء كان مسببا من كثرة الاستعمال، أو من القرب الاعتباري، أو من غيرهما، فإن الغرض من نفي كون القرب الاعتباري منشأ للظهور، إنما هو نفي الملازمة، كما كانت حاصلة بين الشهرة، والمجاز المشهور، لا نفي إمكانه أو وقوعه أحيانا.
تذنيب:
إذا وقع التعارض بين تلك الأسباب، أعني الشهرة والأقربية الاعتبارية على القول بها، وغيرهما، فيقدم الظهور المسبب عن الأول، ثم المسبب عن الثالث، وأما المسبب عن الثاني، فعلى فرض تسليم كونه سببا له فهو متأخر عن الجميع، فلا يرجع إليه إلا بعد فقد الآخرين.
خاتمة:
في تعارض الأصول اللفظية، وما يجري مجراها من الأصول المستعملة، في إثبات الأوضاع ونفيها، كأصالة عدم الاشتراك والنقل، إذا فهم المراد من استعمالها، ويدخل فيه البحث المعروف بتعارض الأحوال، لأن المراد بهذه الأحوال أمور يخالف كل واحد منها أصلا من الأصول اللفظية، كالاشتراك، والنقل، والتخصيص، والإضمار، والمجاز، فمعارضة بعضها مع بعض يرجع إلى تعارض الأصول اللفظية، فإن تعارض الاشتراك مع النقل يرجع إلى معارضة أصالتي عدمهما وهكذا... وقد يعبر عنها بمسائل الدوران، وإنما أفردوا التخصيص والإضمار، مع أنهما قسمان من المجاز، لاختصاصهما بمزايا ليست في سائر الأقسام، كذا قيل.
لكن الأظهر في وجه الإفراد، هو أن كون التخصيص خصوصا المتصل منه مجازا مختلف فيه، والإضمار أيضا خارج عن حد المجاز المعروف في الحقيقة، وإنما يطلق عليه المجاز في الإعراب توسعا، فهو ضرب آخر غير المجاز المعروف المحدود في كلامهم.
157

وإنما أفردوا البحث عن التقييد، والنسخ، مع أنهما أيضا من أحوال اللفظ، مع وقوع التعارض بينهما وبين غيرهما من الأحوال الخمسة المتقدمة، لأن النسخ ليس قسما آخر من الأحوال، بل هو داخل في التخصيص، فالبحث عن حكم معارضة التخصيص مع غيره يغني عن البحث عن حكم تعارض النسخ، مع سائر الأحوال المتقدمة، إذ ليس له خصوصية زائدة من بين أفراد التخصيص، فيكون حكمه حكم مطلق التخصيص، وإفرادهم له بالبحث ليس من جهة البحث عن معارضته مع سائر الأحوال غير التخصيص، بل الغرض الممهد لأجله مبحث بناء العام على الخاص، أو النسخ إنما هو بيان الحال في معارضة أفراد التخصيص بعضها مع بعضها، فيقال فيما إذا ورد عام، ثم ورد خاص: فهل يحكم بالتخصيص الأفرادي بحمل العام الأول على هذا الخاص، أو بالتخصيص الأزماني، فيجعل الخاص نسخا للعام.
والغرض فيما نحن فيه - أعنى تعارض الأحوال - بيان الحال عند تعارض أنواع تلك الأحوال، لا أفرادها بعضها مع بعض، فظهر أن إفراد النسخ بالبحث - في مبحث بناء العام على الخاص - ليس إفرادا من الجهة المبني عليها بحث تعارض الأحوال.
وأما إفراد التقييد، فلطول البحث فيه بحيث لا يسعه المقام هنا، فإن الجواب السابق لا يتمشى هنا، فإن الغرض في مبحث المقيد والمطلق، هو الغرض في تعارض الأحوال من معرفة حكم معارضة التقييد مع غير نوعه، فإن التعارض هناك بين التقييد في المطلق، أو المجاز في المقيد.
وكيف كان، فبملاحظة دخول النسخ، والتقييد في الأحوال، فيما نحن فيه ترتقي أقسام تعارض الأحوال إلى أحد وعشرين قسما، كما يظهر بالتأمل، ولعل الذي حصر الأقسام في العشرة، أهمل هذين، أي النسخ والتقييد فيما نحن فيه، إذ بعد إهمالهما ترتقي أقسام تعارض سائر الأحوال إلى عشرة، وبزيادتها يزيد أحد عشر.
ثم إن تنقيح المقال في تعارض الأحوال يتوقف على مراحل ثلاث:
الأولى: في تأسيس الأصل، فيما إذا تكافأت اثنتان منها، إما لعدم مزية لأحدهما على الأخرى أصلا، أو بناء على عدم اعتبار المزية، والترجيح في المقام، واختصاص اعتباره بتعارض الأخبار.
الثانية: في ذكر المزايا والمرجحات النوعية، وأما الشخصية التي تفيد الظن الفعلي بأحد الطرفين، فهي باعتبار عدم انضباطها، لم تصلح لتعلق غرض الأصوليين بذكرها في المقام.
158

الثالثة: في اعتبار تلك المزايا وعدمه، ومسألتنا هذه إنما هي المرحلة الثالثة، فلنقدم الكلام في المرحلة الأولى، وقبل الشروع لا بد من تمهيد مقدمة:
وهي أن محل النزاع في تعارض الأحوال وتكافئها أعم من أن يكون التعارض بين الحالين ذاتيا - بمعنى كونه ناشئا عن مقتضى ظاهري اللفظين، كما في أسد يرمي، فإن التعارض بين مجازية الأسد في الشجاع وبين مجازية يرمي في رمي التراب، وبقاء الأسد على حقيقته ناشئ عن مقتضى ظهور اللفظين، فإن ظاهرهما متنافيان بالذات، لا يجوز الجمع بينهما عقلا - أو عرضيا مسببا عن العلم الإجمالي بعدم إرادة ظاهر أحد الخطابين، فإن الأمر حينئذ دائر بين التصرف في ظاهر ذلك الخطاب، وجعله هو المعلوم بالإجمال، وبين التصرف في ظاهر هذا الخطاب، بسبب العلم الإجمالي بحيث لولاه لا يمكن الجمع بينهما.
وهذا كما في قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وبعولتهن أحق بردهن) () إذ لا ريب أنه لا تنافي بالذات بين بقاء العام الذي هو المطلقات على عمومه، وبين بقاء الضمير على ظاهره، وهو اتحاده لما أريد من المرجع بأن يكون المراد بالمطلقات أعم من الرجعية والمطلقة بالطلاق البائن، كما هو ظاهره، ويكون المراد بالضمير في بعولتهن مطلق المطلقات - كما ذكر - متحد الضمير مع ما أريد من المرجع، فلا يلزم خلاف أصل في شيء منهما، لكن لما قام الإجماع على اختصاص جواز الرجوع بالرجعيات، فلا يمكن حينئذ أن يراد بالضمير مطلق المطلقات، بل لا بد من أن يراد به الرجعيات خاصة، فبذلك يدور الأمر بين الاستخدام وبين التخصيص في العام، إذ لو أريد من العام مطلق المطلقات، يلزم الاستخدام في الضمير، لعدم مطابقته حينئذ لما أريد من المرجع، وإن أريد اتحاده لما أريد منه، وعدم الاستخدام يلزم التخصيص في العام.
فقد عرفت أن العلم الإجمالي بمخالفة أحد الظاهرين، أحدهما العموم، وثانيهما ظهور الضمير في مطابقته لما أريد من مرجعه أوجب هذا التعارض، وإلا فلا تعارض بينهما بالذات كما عرفت.
هذا، ثم إن النزاع في المقام فيما إذا لم يكن في بعض تلك الأحوال مسببا عن الشك في الآخر، فالأصل في الشك السببي مقدم على الشك في المسبب، كما تحقق ذلك في
159

تعارض الاستصحاب، بل الأمر هنا أوضح، لأن الأصول اللفظية كلها أمارات ظنية، ولا يعقل الظن بوجود المسبب، مع الظن بعدم السبب، بل يرتفع الأول بالثاني عقلا، والمفروض حصول الظن من الأصل النافي للسبب، فيرتفع الذي كان الشك فيه مسببا عن الشك في ذلك السبب.
ومن هذا الباب دوران الأمر بين تخصيص العام المتعقب بالضمير، وبين ارتكاب الاستخدام في الضمير، وبقائه على حاله، كما في الآية المتقدمة حيث أن حمل المطلقات على ظاهره - الذي هو العموم - يوجب الاستخدام في ضمير (بعولتهن) للإجماع على عدم الرجوع في جميع أقسام المطلقة، كما عرفت، فيدور الأمر بين تخصيص العام مع بقاء الضمير على حقيقته، أعني المطابقة للمراد بالمرجع، وبين إبقائه على العموم، والتزام الاستخدام في الضمير، لكن الشك في الثاني لما كان مسببا عن الشك في التخصيص، فبأصالة عدمه يثبت الاستخدام، وإن كان التخصيص في نفسه أرجح من المجاز مطلقا، فإن الظن بالمزيل، يرفع الظن بالمزال، وإن كان أضعف الظنون، وكذلك الأصل فيه يرفع الأصل في الثاني، وإن كان أضعف اعتبارا من الأصل في الثاني.
ويظهر لمراعاة القاعدة المذكورة - أعني تقدم الأصل في المزيل على الأصل في المزال - ثمرات كثيرة في مسائل العدة في غير الرجعيات في الفقه، إذ عليها يتمسك بعموم المطلقات الذي هو موضوع حكم التربص بثلاثة قروء على إثبات ذلك الحكم، أي التربص بثلاثة قروء في مطلق المطلقات، إلا ما قام الدليل على خروجها، وعلى عدمها، إما بالحكم بحقيقة الضمير، بأن يكون المراد بالمطلقات خصوص الرجعيات، أو بالتعارض بين تخصيصه وبين الاستخدام، والتوقف، فلا يجوز التمسك به في إثبات ذلك الحكم في غير الرجعيات.
أما على الأول: أي على الحكم بتخصيصه، وبقاء الضمير على ظاهره، فظاهر، لسكوته حينئذ عن حكم غير الرجعيات.
وأما على الثاني: أي على التعارض والتكافؤ، فلإجماله في إرادة العموم.
فإذا عرفت هذه كلها، فلنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول بعون الله وحسن توفيقه:
160

إن جملة القول في الأحوال المتكافئة
أن الأصول اللفظية إذا تعارض بعضها مع بعض، وتكافئا - من حيث المرجحات المعتبرة - احتمل فيه وجوه، أو أقوال، على أظهر الاحتمالين:
الأول: إلحاقها بالأخبار المتعارضة المتكافئة في الحكم بالتخيير.
وهذا، وإن لم نجد به مصرحا إلا أنه يظهر من كلماتهم في تعارض القراءات السبع، مع اختلاف الحكم الشرعي باختلافها.
ووجه الاستظهار أمران:
أحدهما: أن المشهور تواتر القراءات السبع كلها، وهذا يقتضى أن يكون النزاع في تعارضها من حيث مداليل تلك القراءات وظواهرها، فيدخل فيما نحن فيه، لأن الكلام في المقام في تعارض الظواهر اللفظية، وظواهر القراءات من جملتها.
هذا، لكن الحق عدم توقف الاستظهار المذكور على ثبوت تواترها، بل مع ثبوت جواز الاستدلال بها، وجعل المتعارضين منها بمنزلة آيتين قطعيتين، أيضا يتم الخطب، إذ مع ثبوت ذلك لا يكون ملاحظة التعارض والترجيح راجعا إلى الصدور قطعا، بل راجع إلى جهة الدلالة والظهور، أو الأعم منه، بحيث يشمل الترجيح، من حيث كون القراءة موضوعا للحكم الفرعي، لكن الحق أنه بعد فرضها كالمتواتر في الأخبار من جهة الصدور، فلا وجه للتوقف في جواز القراءة بكل منهما، فإنهما حينئذ بمنزلة آيتين يجوز القراءة بأيهما شاء، وترجيح القراءة بالقراءة من الإشمام الظاهر أنه من جهة الصدور على القول بعدم التواتر، وعلى عدم ثبوت كونها في حكم المتواتر، كما يدل عليه بعض الأخبار، من أن القرآن واحد، ونزل من عند الواحد. وسيأتي تمام الكلام فيه.
وثانيهما: أن المشهور في تعارض القراءات التخيير، كما في الأخبار مع عدم تقييدهم له بما إذا كان القراءات موضوعا للحكم الفرعي، بل ظاهر إطلاق كلامهم ثبوت التخيير عند التعارض بالنسبة إلى جميع الأحكام المترتبة على لفظ القراءات، بأن يكون موضوعا للحكم الفرعي، وإلى الأحكام المرتبة على معناه بأن يكون القراءات طريقا إليها، وحجة في إثباتها، فمقتضى الأمرين وجود القائل بالتخيير فيما نحن فيه، لعدم الفرق بين ظواهر ألفاظ الكتاب وبين غيرها، إذ بعد فرض تواتر القراءات، فيكون القراءتان المختلفتان سيما فيما إذا كان الاختلاف من جهة المادة، آيتين مستقلتين حقيقة، فيقع التعارض بين ظاهري الخطابين المفروغ عن صدورهما، فيدخل فيما نحن فيه، لأن
161

الكلام فيه في تعارض ظاهري الخطابين ذاتا أو عرضا، كما عرفت بعد البناء على صدورهما.
ثم إنه بناء على ثبوت تواتر القراءات، فإن ثبت جواز الاستدلال بكل منها، فيمكن الاستظهار المذكور أيضا، إذ به يعلم أنه ليس النزاع في ترجيح نفس إحدى القراءات على الأخرى، بل الترجيح والتعارض إنما هو من حيث التمسك بظواهرها.
وأما مع عدم ثبوت ذلك أيضا، فيشكل الاستظهار، لدوران الاحتمال بين أن يكون انتزاعهم () وملاحظتهم التعارض والترجيح، من حيث السند والظهور، وبين أن يكون الاستدلال بظاهرها.
هذا مع أنه يحتمل حينئذ أن يكون ذلك - أي البحث وملاحظة التعارض والترجيح - من حيث جواز القراءة بها وعدمه، بأن يكون القراءة موضوعا للحكم الفرعي، ولم يكن غرضهم إثبات كون القراءات طرقا، وموضوعات للحكم الأصولي، أعني الطريقية، والاستدلال، واستكشاف الأحكام الفرعية بها.
هذا، ولكن يمكن تنزيل كلامهم - ثمة -، على القول بعدم التواتر، وعدم ثبوت الاستدلال بها، فيخرج عما نحن فيه، ويؤيده أو يدل عليه قولهم بالتخيير ثمة بعد فقد المرجحات الغير الراجعة إلى الدلالة فراجع وتأمل.
قال السيد الكاظمي، في شرح الوافية (1) على ما حكى عنه قدس سره، لما كانت القراءات السبع المعتبرة. كلها قرآنا، كانت إذا اختلف اثنتان منها في حكم، بمنزلة خطابين متعارضين، والضابط في ذلك عند الأكثرين التخيير.
وذهب قوم من العامة إلى التساقط والرجوع إلى الأصل، ثم لما كان ذلك مبنيا على تكافؤ القراءات وانتفاء الترجيح، وكان
(1) الوافي في شرح الوافية (مخطوط) في تعارض القراءات وإليك نصه:
فالمشهور التخيير... لما كانت القراءة المعتبرة كلها قرآنا كانت إذا اختلفت ثنتان منها في حكم بمنزلة خطابين متعارضين والضابط في ذلك عند الأكثرين التخيير، وذهب قوم من العامة إلى التساقط والرجوع إلى الأصل ثم لما كان ذلك مبنيا على تكافؤ القراءات وانتفاء الترجيح وكان ذلك على إطلاقه محل نظر رجح العلامة رحمه الله القراءتين المذكورتين لظهور المرجح بالسلامة مما استقامت السنة الفصحاء على خلافه من الإمالة والإشمام ونحوهما فيجب الأخذ بما يقتضيانه دون ما عداهما فقد ظهر المستند الذي يجب التعويل على مثله فالأولى الرجوع فيه إلى تفسير حملة الذكر عليهم السلام أي في الحكم الذي اختلف باختلاف القراءة وأنت تعلم ان الرجوع إلى ما ثبت عنهم كاف في الباب ولا يتوقف على التفسير.
162

ذلك على إطلاقه محل نظر، رجح العلامة القراءتين المذكورتين، لظهور المرجح بالسلامة مما استقامت ألسنة الفصحاء على خلافه في الإمالة والإشمام ونحوهما، فيجب الأخذ بما تقتضيانه دون ما عداهما، وأراد بالقراءتين قراءة عاصم، وقراءة حمزة ().
وأنت خبير بأن السلامة من مثل الإمالة والإشمام لا توجب الترجيح في مقام الاستدلال على الحكم الفرعي، بعد فرض كون القراءتين متواترتين، كما هو ظاهر قوله بمنزلة خطابين متعارضين، فإن الظاهر منه أنه أراد بالخطابين الآيتين المتواترتين، مع أنه لا يختلف المعنى باختلاف القراءة من حيث الإشمام والإمالة وعدمهما، كما لا يخفى.
والظاهر أن نظر العلامة (قدس سره) في الترجيح إلى بعض ما يترتب على القرآن غير الاستدلال على الحكم من الأحكام الفرعية الثابتة له، كالقراءة في الصلاة، وأمثال ذلك مما يكون نفس القراءة فيه موضوعا للحكم، لا طريقا إليه، وهو ترجيح في محله - على تقدير كون الإمالة - مثلا من منافيات الفصاحة، لأن الأفصح من آيات القرآن أولى بترتب آثار القرآنية عليه، فتأمل.
نعم لو تبين أن القراءات السبع مطلقا، أو عند التعارض فيما يختلف فيه الحكم الشرعي غير متواترة، كانت السلامة من مثل الإمالة مرجحة.
هذا ما عرفت في تعارض القراءات، ولكن القول بالتخيير مع التكافؤ لم نجد قائلا به في تعارض الأحوال المتكافئة، كما أشرنا إليه سابقا.
الثاني: من الاحتمالات، أو الأقوال إلحاقها بالأصول العلمية المتعارضة في الحكم بالتساقط مطلقا، حتى في نفي الثالث، وقد ينزل عليه ما سمعت عن بعض العامة، كما هو الظاهر، مع احتمال أن يكون المراد التساقط في مورد التعارض، لا مطلقا، حتى في نفي الثالث أيضا الذي يتفقان فيه.
الثالث: التوقف بمعنى تساقطهما في إثبات شيء من مورديهما لا مطلقا.
وهذا الاحتمال الأخير مما نسب إلى بعض العامة، كما عرفت فإن المنسوب إليهم في تعارض القراءات التساقط، وهو لما كان محتملا لكل واحد من الاحتمالين الأخيرين، وهما الثاني والثالث، وإن كان أولهما أظهر، فلذا جعلنا الاحتمالات أو الأقوال ثلاثة، بناء على دخول النزاع في القراءات فيما نحن فيه - كما عرفت -.
163

وتظهر الثمرة بين الاحتمال الثاني، وبين الثالث فيما إذا كان الأصل مخالفا لكلا الظاهرين، بأن يكون أحد الخطابين دالا على الوجوب والآخر دالا على التحريم، إذ على الأول منهما يرجع إلى الإباحة التي هي مخالفة للأمرين، وعلى الثاني وهو الثالث لا يجوز التعدي عن كليهما معا، بل يجب العمل بأصل موافق لأحدهما دون المخالف لهما.
وأما فيما إذا كان الأصل موافقا لأحدهما فلا ثمرة بين الاحتمالين، إذ على التقديرين يجب العمل بهذا الأصل.
أما على الاحتمال الثاني فلانحصار الأصل الذي يرجع إليه عند تساقطهما وفرضهما كأن لم يكونا.
وأما على الثالث فواضح.
ثم إني بعد ما تلقيت منه (دام عمره) ما نقله عن السيد المتقدم، وجدت كتاب المحصول () للسيد المذكور (قدس سره) فراجعت كلامه في مسألة تواتر القراءات، فوجدت كلامه - ثمة - صريحا في وجود القول بالتخيير، وبالتساقط في مقام الاستدلال بالقراءتين المختلفين بعد فرض اعتبارهما من حيث الصدور، وجعلهما بمنزلة آيتين، فإنه (قدس سره) بعد ذكره أدلة الطرفين على تواتر القراءات وعدمه قال:
وثمرة هذا البحث تقع في مقامين.
أحدهما: التلاوة.
والثاني: استنباط الأحكام.
والخطب في الأول سهل لتخيير التالي بعد الإعراض عن الشاذ المفروض كما عرفت.
وأما الثاني: فالوجه - بناء على ما نطقت به أخبارنا - من أن القرآن أمر واحد - وهو التخيير أيضا، فإنهما بمنزلة خطابين متعارضين، غير أنه لا بد هاهنا من الترجيح أولا، والأخذ بالراجح، وإنما يتخير بعد التكافؤ، وقد رجح العلامة (قدس سره) قراءة عاصم بطريق أبي بكر، وقراءة حمزة، وكأنه للسلامة مما استقامت ألسنة بعض على خلافه، من الإمالة والإشمام ونحوهما وأنه المرجح.
وأوجب صاحب الوافية (1) التوقف، فيما لم يرد تقريره () عنهم عليهم السلام.
(1) وافية الأصول، مخطوط، وإليك نصه: والأولى التوقف في صورة التعارض.
164

وليس بالوجه: لما ثبت من الإذن بما يقرأ الناس على الإطلاق نصا وتقريرا وإجماعا، فكان الأخذ بهما، والتقرير عليهما، بمنزلة ورودهما.
أقصى ما هناك ان الواقع أحدهما، كما في كل خطابين متعارضين، وكما أنهم خيرونا في المتعارضين لرفع الحيرة، مع أن الواقع أحدهما، لاستحالة تناقضه كذلك ما كان بمكانتهما. والمعروف بين القوم أن القراءتين بمنزلة آيتين، نطق بهما الكتاب، فإذا كان اختلافهما مفضيا إلى الاختلاف في الحكم، عملوا بما يقتضيه ذلك النحو من الاختلاف، فخصصوا إحداهما بالأخرى، وقيدوا، كما خصصوا قراءة الأكثرين (حتى يطهرن) بالتخفيف بقراءة بعضهم بالتشديد، وإن كان بالتنافي عملوا بمقتضاه من التخيير، كما هو المعروف، أو التساقط، كما ذهب إليه بعضهم، ولهم في ذلك مذهب آخر غريب منهم، انتهى موضع الحاجة من كلامه (قدس سره).
وأنت ترى أن قوله: والمعروف بين القوم أن القراءتين بمنزلة آيتين إلى آخر ما ذكرنا منه (قدس سره) نص في فرض الكلام، بعد اعتبارهما في ظاهريهما، فاستظهار القول بالتخيير يكون قويا.
وأما القولان الآخران، أعني التوقف، أو التساقط رأسا، فيحتملهما قوله: أو التساقط، ويظهر نسبة القولين المذكورين - أعنى التخيير، أو التساقط - إلى القوم في المقام المفروض، الداخل فيما نحن فيه، واختيار القول بالتخيير - حينئذ - من المحقق النراقي (1) أيضا ناسبا التخيير إلى أبيه (قدس سره) أيضا.
(1) فانه قال رحمه الله في كتاب مناهج الأحكام والأصول في المقصد الثالث في الفصل الأول تحت عنوان منهاج:
اختلفوا في القراءات إلى أن قال: ثم اعلم إنه قد ورد في بعض الأخبار بعض كلمات القرآن مخالفا لجميع القراءات ففي مثله هل اللازم متابعة الحديث أو موافقة القراءات، الصحيح هو الثاني، لأن الوارد في الأخبار أن القرآن كان كذا، وهذا لا يدل على وجوب قراءته هكذا، فلا يعارض ما مر من الإجماع والأمر بالقراءة كما يقرؤه الناس، ثم إن تجويز القراءة بكل من القراءات إنما هو لأجل الجهل بالواقع، ومن باب الضرورة، وإلا فكلامه سبحانه واحد لا اختلاف فيه، ولا يخفى أن ما ذكر إنما هو حكم القراءة، وأما العمل فلا شك في أن العمل بالقرآن على ما هو الموافق للقراءات جائز، على القول بجواز العمل بظاهر الكتاب، للإجماع المركب، بل البسيط فلا إشكال فيما لم يختلف القراءات فيه، أو اختلف بما يوجب اختلاف الحكم، وقد استشكلوا فيما أوجبه واختار والدي العلامة رحمه الله أن اللازم فيه الترجيح إن كان مرجح شرعي وإلا فالتخيير، ولا يخفى أن لزوم الرجوع إلى التخيير عند فقد المرجح إنما هو على فرض ثبوت عموم حجية هذا القرآن الموجود بحيث يشمل ما وقع فيه التعارض بين القراءات وسيجئ تحقيق القول فيه.
هذا ما عثرنا عليه في هذا الكتاب وله كتب أخرى، في علم الأصول حسب ما أشار إليها في كتابه
المرسوم بعوائد الأيام مثل أساس الأحكام، وشرح تجريد الأصول، ومفتاح الأحكام ولكن ما عثرنا على نسخة منها.
165

ويظهر من المحقق القمي () (قدس سره) ذلك أيضا، أي وجود القولين المذكورين في المقام المفروض في مسألة تواتر القراءات، فإن كلامه مطلق غير مقيد بالتخيير، أو التساقط، من حيث التلاوة، فيدل بإطلاقه على وجود القولين من حيث التلاوة، ومن حيث الاستدلال أيضا، فراجع.
ثم أقول: إن الظاهر من المحكي من العلامة (1) (قدس سره) أنه (قدس سره) رجح بالسلامة من الإمالة والإشمام، تلاوة إحدى القراءتين على الأخرى، لا جواز الاستدلال بإحداهما دون أخرى، فإن كلامه المحكي عنه إن أحب القراءات إلي قراءة عاصم بطريق أبي بكر وقراءة حمزة.
هذا، ثم إنه تظهر الثمرة بين القولين الأخيرين، أعني التوقف، والتساقط رأسا، فيما إذا كان مقتضى الأصلين كلاهما، مخالفين للأصل، كأن يكون مقتضى أحدهما الوجوب، ومقتضى الآخر التحريم، فعلى التوقف يتساقط الأصلان في إثبات شيء من مؤداهما المطابقيين، لكنهما معا دليل على نفي الثالث أعني الإباحة، وعلى التساقط يفرضان كأن لم يكونا، ويعمل على ما يقتضيه الأصول العملية في المقام من التخيير، أو اختيار احتمال التحريم، إذا علم بثبوت أحدهما واقعا إجمالا، وإلا فيرجع إلى أصالة البراءة، ويحكم بالإباحة وأما فيما إذا كان أحدهما موافقا للأصل العملي، فلا ثمرة بين القولين حينئذ:
أما على القول بالتوقف فواضح، إذ قد عرفت أن مقتضاه عدم الرجوع إلى ثالث، فيعمل بمقتضى الأصل العملي في مؤداهما، فيؤخذ بما وافق الأصل، من الأصلين المتعارضين، بمعنى أنه يعمل على طبقه، لا أنه يجعله دليلا على إثبات مؤداه واقعا.
وأما على القول الآخر، فلأن فرضهما كأن لم يكونا يقتضي الأخذ بما يقتضيه الأصل العملي، والمفروض أنه موافق لأحدهما، فيؤخذ بمقتضاه، ويعمل على طبقه.
(1) منتهى المطلب: 273 في الفرع السادس: يجوز ان يقرأ بأي قراءة شاء من السبع لتواترها أجمع ولا يجوز أن يقرأ بالشاذ وان اتصلت روايته لعدم تواترها وأحب القراءات إلي ما قرأه عاصم من طريق أبي بكر بن عياش وقراءة أبي عمرو بن أبي العلاء فإنهما أولى من قراءة حمزة والكسائي لما فيهما من الإدغام والإمالة وزيادة المد وذلك كله تكلف ولو قرأ به صحت صلاته بلا خلاف.
166

فإذا عرفت ذلك كله، فلنرجع إلى تحقيق الحال في الأقوال فنقول:
إن الحق أوسطها، أعني التوقف في الاستدلال بواحد من الأصلين على إثبات شيء من مؤداهما، والاستدلال بهما معا على نفي الثالث، فنبتدئ أولا بذكر ضعف القولين الآخرين، ثم نحتج على ما اخترناه من البين.
أما ضعف الأول منهما - أعني التخيير في الاستدلال بأيهما شاء -، فبيانه أن المراد بالتخيير فيهما، إما التخيير الواقعي الناشئ عن كون المصلحة في السلوك على طبق كل منهما:
إما مع عدم إمكان تدارك مصلحة كل منهما بمصلحة الآخر بأن يكون تعارضهما من باب تزاحم الواجبين، بحيث لو أمكن الجمع بينهما لكان العمل بكليهما مطلوبا، كما في كل واجبين متزاحمين، كتزاحم إنقاذ الغريقين، فيكون التخيير واقعيا عقليا ناشئا عن عجز المكلف عن الجمع بينهما.
وإما مع إمكان تدارك المصلحة في كل منهما بمصلحة الآخر، فيخرجان عن حقيقة التعارض، فيكون التخيير شرعيا واقعيا، كما في خصال الكفارة.
وإما التخيير الظاهري - الناشئ عن قيام المصلحة بأحدهما خاصة في الواقع - الثابت بحكم العقل، كما ثبت في كل طريقين علم بكون أحدهما موصلا وخلو الآخر عن مصلحة الإيصال، مع عدم ما يرجح كون أحدهما بخصوصه هو الطريق الموصل وإما بدليل شرعي، كما في تعارض الأخبار على المشهور، والمختار والحق انتفاؤه في المقام بجميع معانيه الأربعة المذكورة.
أما التخيير الواقعي، فبطلانه بكلا قسميه في المقام أوضح من أن يذكر، إذ لا ريب أن العمل بالأصول اللفظية عند العرف ليس إلا لمجرد الكشف عن المراد، والطريقية المحضة، ولا مرية أن طريقة الشارع في المحاورات - وما يتعلق بها - ليست طريقة مغايرة مجعولة منه، فلا تعبد منه بالعمل بالأصول اللفظية أيضا، ولا شك أن تلك المصلحة - أعني الكشف والطريقية - لا يعقل قيامها بكل من الطريقين المتعارضين، ضرورة استحالة تناقض الواقع، فلا معنى للتخيير الواقعي حينئذ بوجه، ومعلوم أن القائل به لا يريد هذا المعنى قطعا.
ومن هنا ظهر أنه لو قلنا بالتخيير في الأصول العملية لا يلزمنا القول فيما نحن فيه، لقيام احتمال السببية في الأصول العملية، دون الأصول اللفظية، مع أن الحق في الأصول العملية أيضا عدم التخيير والتساقط رأسا.
167

وتوضيح الفرق بينها وبين الأصول العملية أن العمل بالأصول العملية حكم شرعي أمكن فيه القول بالتخيير عند التعارض عملا بعموم دليله بقدر الإمكان، كما ذهب إليه بعض، هذا بخلاف العمل بالأصول اللفظية، فإن العمل بها من جهة بناء العقلاء، فالحوالة فيها على العرف، دون الدليل الشرعي.
وأما التخيير الظاهري، فلا ريب في بطلانه أيضا بكلا قسميه.
أما العقلي، فلانحصاره فيما لا مندوحة فيه، بسبب العلم الإجمالي بانحصار الواقع في مفاد أحد الطريقين، مع
عدم الترجيح في البين، فهو لا يتم في جميع صور تعارض الأصول اللفظية، لفقد العلم الإجمالي المذكور في أكثرها، مع أن التخيير - حينئذ أي عند العلم الإجمالي المذكور - ليس تخييرا في العمل بالأصلين، بل هو في العمل.
وبعبارة أخرى: إنه ليس في جواز الاستدلال بالأصلين اللفظين المتعارضين، بل إنما هو في العمل بمقتضى الأصول العملية، فالعمل - حينئذ - حقيقة على الأصول العملية.
وأما الشرعي منه، كما هو الظاهر من القائل، فأقصى ما يتخيل دلالته عليه من الأدلة الشرعية، إنما هي الأخبار الواردة في تعارض الخبرين وتكافئهما، بأن يدعى دلالتها على ثبوت التخيير - هنا أيضا - بفحواها، بمعنى دلالتها على ثبوت الحكم بكل طريقين متكافئين، من باب تنقيح المناط، بأن يقال: إنه قد ثبت التخيير بالأخبار في تكافؤ الخبرين، ولا ريب أن اعتبار الأخبار - أيضا - من باب الطريقية المحضة، لا السببية، كما يظهر من أدلة اعتبارها، حيث سئل فيها عن الوثوق بالراوي، وفي بعضها فرض السائل مورد السؤال الثقة، والظاهر من الثقة هو مطلق من يحصل بقوله الاطمئنان، فاسقا كان أو عادلا، ومن الأخبار العلاجية أيضا كما يظهر للمتأمل، فلهذا يعمل بخبر من يثق به، ولو كان فاسقا، ولا يقتصر بخبر العادل، فيتعدى حينئذ من تكافؤ الخبرين إلى تكافؤ كل طريقين وأمارتين، ويحكم بالتخيير مطلقا، لعدم خصوصية لتكافؤ الخبرين كغيره بالفرض، إذ مع احتمالها يرجع الأمر إلى احتمال اعتبار الأخبار من باب السببية، وهو خلاف الفرض، وخلاف ظاهر ما دل على اعتبارها.
وفيه أن الظاهر من أدلة اعتبار الأخبار، وإن كان ما ذكر، ونحن نقول به إلا أن هذا ظاهر، وليس بمقطوع، وخلاف الظاهر منها احتمال اعتبارها من باب
168

السببية، إذ من المحتمل أن يكون المراد بالثقة في الأخبار هو العادل، كما في قول السائل حيث سأل عن الوثوق بالراوي، وهذا الاحتمال، وإن لم يمنع من البناء على حجية خبر مطلق الثقة في الأخبار، لكنه مانع من التعدي فيما نحن فيه جدا، لكون استفادة المناط - حينئذ - عن ظن، فيكون إثبات الحكم في الفرع من باب تخريج المناط لا تنقيحه، وهذا ليس إلا القياس المتفق على بطلانه.
وأما ضعف القول بالتساقط رأسا، كما هو المختار في تعارض الأصول الشرعية العملية، فلما عرفت أن الأصول اللفظية إنما هي أمارات وطرق عقلائية، ولا ريب أن الأمارة كما تكشف عن الملزوم، وهو المعنى المطابقي فيما نحن فيه، كذلك تكشف عن لازمه أيضا، وهو نفي الثالث أيضا، فكل واحد من الخطابين المتعارضين بتعارض الأصلين فيهما يكشف بسبب الأصل الموافق له عن إرادة معناه المطابقي والالتزامي، لكنه لما وقع التعارض بينهما في مدلوليهما المطابقيين، فيتعذر الاستدلال بواحد منهما في إثبات مدلوله المطابقي لذلك، وبالاستدلال بهما على نفي الثالث، الذي هو مدلولهما الالتزامي، فلا مانع منه، فإن سقوط الاستدلال بهما فيما يخصان به من المعنى المطابقي - بسبب التعارض - لا يوجب سقوطهما في الاستدلال بهما على نفي الثالث.
والحاصل أنه يجب العمل - عرفا وشرعا - أيضا - من جهة الإمضاء - بالأصول اللفظية، وترتيب ما تقتضيه، وتكشف عنه عليها مطلقا، سواء كان المنكشف من المداليل المطابقية أو الالتزامية، فإذا وقع التعارض بين آيتين منها، فهو مانع عن الاستدلال بهما في مدلوليهما المطابقيين، وأما فيما دلتا عليه التزاما، فلا مانع منه، فيجب العمل عليهما فيه عرفا وشرعا، ضرورة إمضاء الشارع لطريقة العرف في محاوراتهم، وأصولهم المعتبرة عندهم، وليس تعارض الأصلين اللفظين إلا كتعارض الأمارتين الشرعيتين كالبينتين، بأن قامت إحداهما على كون المال الفلاني لزيد، والأخرى على كونه لعمرو، فإن تعارضهما يمنع عن العمل بمدلوليهما المطابقيين وهو كونه لزيد أو لعمرو، وأما فيما دلتا عليه التزاما أعني عدم كونه لبكر، فهما متفقان فيه، ولا مانع من العمل بكلتيهما فيه، فيجب العمل بهما فيه، لئلا يلزم طرح الأمارة المعتبرة، من دون تعارض.
فظهر أنه لا مجال للتساقط رأسا في الأصول اللفظية، فيدور الأمر فيهما بين التخيير أو التوقف، والتساقط فيما يخص به المتعارضان، وعدم الرجوع إلى ثالث،
169

لما عرفت أن الأول على خلاف الأصل، لا بد في ثبوته من دليل، وعرفت عدم ثبوته، فانحصر الأمر فيها في التساقط في الجملة، على النهج المذكور.
هذا بخلاف الأصول العملية، فإن الأمر فيها دائر بين التخيير أو التساقط رأسا، كما هو المختار فيها، ولا مجال للتوقف فيها، لأنها لم تعتبر بعنوان الطريقية إلى الواقع دائما، بل إنما هي ظاهرية متعلقة بعمل المكلف عند الشك، ولا ريب أنه لا يعقل التوقف في العمل، لعدم خلو المكلف عن الفعل المطابق لأحد الأصلين العمليين أو لغيرهما، فإن اختار العمل بواحد منهما، فهو معنى التخيير، وإن اختار الرجوع إلى غيرهما، فهو معنى تساقطهما رأسا.
ووجه الأول - أي التخيير - دعوى شمول أدلتها الدالة على وجوب العمل بها، لمورد التعارض أيضا، ولما لم يمكن العمل بكلا المتعارضين معا، فلا بد من إيقاع العمل على طبق أحدهما، لئلا يلزم مخالفة الأدلة رأسا، فإن هذا المقدار من امتثالها مقدور، فيجب، ولما لم يكن ترجيح لأحدهما بالفرض، فيثبت التخيير بينهما.
ووجه الثاني: منع دلالة الأدلة على اعتبارها حينئذ، كما هو الظاهر فيفرضان حينئذ كأن لم يكونا، فيعمل بما يقتضيه المقام من أصل عملي آخر، أو أصل من الأصول العقلية، كالبراءة مثلا أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام.
هذا حال الأصول اللفظية العقلائية الممضاة من الشارع، وقس عليها حال سائر الأصول العقلائية في غير الألفاظ وحال الأصول الشرعية التأسيسية العملية.
وأما الطرق الشرعية التأسيسية من الشارع، كالأخبار في الأحكام الكلية أو الموضوعات الشرعية كذلك، وكالأمارات في الموضوعات الخارجية، فهي لما كان لها جهة تشبه بالأصول العملية، من حيث عموم أدلتها - بحسب الظاهر - لمورد التعارض أيضا، فيحتمل فيها التخيير حينئذ، بتقريب ما مر في وجه التخيير في الأصول العملية، ولما كان لها أيضا جهة تشبه بالأصول والطرق العقلائية الإمضائية، نظرا إلى أن اعتبارها إنما هو من باب الطريقية المحضة، بحيث لم يلاحظ فيها مصلحة سوى الكشف، كما يظهر ذلك للمتأمل في أدلتها، فيحتمل فيها التوقف عند التعارض، كما هو الأظهر، الذي يقتضيه الأصل في تعارض كل طريقين وتكافئهما، ولو لا أخبار التخيير في تعارض الأخبار، لكان القول به متيقنا حينئذ، وإنما خرجنا عنه لأجلها، فلا بد في ثبوت التخيير في غيرها من الطرق والأمارات عند التكافؤ من الدليل كما
170

هناك، وإلا فالأصل المحكم هو التوقف فيما يخص به المتعارضان، وكونهما دليلا على نفي الثالث.
وكيف كان، فبعد ما عرفت بطلان التخيير والتساقط فيما نحن فيه، فالحجة على القول المختار انحصار الاحتمال فيه عقلا، إذ لا واسطة عقلا بين القولين المذكورين بينه، فإبطالهما يستلزم ثبوته ضرورة استحالة
ارتفاع النقيضين هذا ما أفاده دام عمره.
لكن للنفس فيه تأمل نظرا إلى الفرق بين الأصول اللفظية وبين غيرها من الطرق والأمارات، إذ من المعلوم أنه لا شك في مراد البينتين المتعارضتين من كون غرض كل واحدة منهما إثبات مورد النزاع لذيها، ونفيه عن ذي البينة الأخرى وعن الثالث أيضا، فلما وقع التعارض بينهما في مدلوليهما المطابقيين، ولم يمكن الجمع بينهما ولا العمل بإحداهما خاصة لعدم الترجيح، فسقطتا عن الاعتبار لذلك في مدلوليهما المطابقيين، وأما في مدلوليهما الألتزاميين فلما لم يكن مانع عن العمل بهما فيهما مع العلم بكونهما مقصودين لهما، فيجب العمل بهما فيهما، فيتمسك بهما على نفي الثالث.
هذا بخلاف الأصول اللفظية، إذ من المعلوم أن كشفها عن المداليل الالتزامية تابع لكشفها عن مداليلها المطابقية، والمفروض وقوع التعارض بينها فيها، فيصير اللفظ مجملا في مدلوله المطابقي، فيسري الإجمال إلى الالتزامي أيضا، إذ لعل المراد من كل واحد من الخطابين - حينئذ - معنى لا يعاند الثالث، فيسقط الأصلان المتعارضان عن الكشف والطريقية - حينئذ - رأسا، وإذ لا كشف فيهما، فلا يلزم الاستدلال بهما على نفي الثالث، بل ولا يجوز، لأن العمل بالأصول اللفظية من باب الطريقية والكشف، فإذ ليس فليس.
نعم يتجه نفي الثالث فيما إذا كان التعارض عرضيا مسببا عن العلم الإجمالي بانحصار الواقع في ظاهر أحد الخطابين، لكن ليس ذلك حينئذ بسبب الاستدلال بالأصلين، بل إنما هو بمقتضى العلم بعدم الثالث تفصيلا، فإن العلم الإجمالي المذكور تفصيلي من هذه الجهة، وإنما إجماله من جهة تردد المعلوم كونه هو الواقع بين مفاد هذا الخطاب وبين مفاد ذاك.
والحاصل أن الأصول اللفظية طريقيتها بالنسبة إلى المداليل الالتزامية ليست أصلية في عرض كشفها عن المداليل المطابقية، بل إنما هي تابعة لطريقيتها حينئذ إلى المداليل المطابقية، فإذا سقطت عن كونها طريقا إلى المدلول المطابقي بسبب التعارض،
171

وصار اللفظ مجملا فيه، فلا يعقل - حينئذ - طريقيتها وكشفها عن المدلول الالتزامي، فإنه كان لازما عند العقل لإرادة الملزوم، فإذا لم يعلم إرادته فلا يعقل الظن من اللفظ بإرادة اللازم، فعلى هذا، فالحق هو التساقط رأسا.
ثم إنه (دام عمره) أجاب عن ذلك بأن المدار في اعتبار الأصول اللفظية إنما هو على طريقة العقلاء، وأهل اللسان، ونحن نراهم أنهم حينئذ يتمسكون - على نفي الثالث - بالخطابين المتعارضين.
وفيه أنه لم يتحقق لنا الآن منهم ذلك، بل لا يعقل منهم، من دون آمر لهم عليه، كما هو المفروض في الأصول اللفظية، فإن عملهم في أمورهم على الظن، وقد عرفت انتفاءه في اللازم بسبب ابتلاء الأصل في الملزوم بمثله.
اللهم إلا أن يقال: إن التعارض مانع من إفادة الخطابين الظن الفعلي، وقد ثبت أن المدار في ظواهر الألفاظ - على ما هو التحقيق - على الظن النوعي، وهو غير مانع منه، فالأصلان المتعارضان يفيدان الظن النوعي بمدلول اللفظ مطابقة والتزاما، ومقتضاه وجوب العمل بظاهر الخطابين، إلا أنه لما وقع التعارض بينهما فيمنع من الاستدلال بكليهما في مدلولهما المطابقي، لأن الواقع واحد، لا يمكن التناقض فيه والمفروض عدم الترجيح لأحدهما، وأما في مدلولهما الالتزامي، فلا مانع من الاستدلال فيجب فتأمل.
ثم إنه ينبغي التنبيه على أمور:
الأول:
أنه لا فرق فيما اخترنا من التوقف بين ظواهر الكتاب عند التعارض وبين غيرها، بل جار في مطلق الظواهر، وكذا القولان الآخران.
نعم ربما يتوهم أنه ثبت التخيير في الكتاب عند تعارض القراءات بتقريرهم عليهم السلام، كما يدل عليه الأخبار، فيثبت في غير ما اختلف فيها القراءات من الآيات المقطوعة المتواترة بالأولوية، فإن ثبوته فيما علم كونه قرآنا أولى من ثبوته فيما لم يعلم بعد، ومقتضى ذلك:
أولا: التزام التخيير في خطابات الكتاب المتعارضة مطلقا لا التوقف.
وثانيا: الاقتصار على ذلك في خطابات الكتاب فحسب، لعدم الدليل عليه في غيرها، فيحصل الفرق بين ظواهر الكتاب وغيرها، فلا يلزم الالتزام بأحد الأقوال الالتزام به مطلقا.
172

لكنه مدفوع، أولا: بأن الكلام إنما هو في الاستدلال بالظواهر، والذي دلت عليه الأخبار تقريرهم عليهم السلام تلاوة القراءات المختلفة والتخيير فيها بقولهم عليهم السلام (اقرأ كما يقرأ الناس) () لا جواز الاستدلال، كما هو محل الكلام، فلم يثبت التخيير فيها، حتى يتمسك بالأولوية على ثبوته في الآيات القطعية.
وثانيا: أنه على فرض ثبوت التخيير في ظواهر الكتاب المتعارضة، وجواز الاستدلال بها، فأي فرق بينها وبين غيرها من الظواهر اللفظية، كظواهر السنة، إذ لا ريب أنه ليس العمل بظواهر الكتاب من باب التعبد الشرعي، بل إنما هو من باب الطريقية، وبناء العقلاء عليه من هذه الجهة، فلا فرق حينئذ بينها وبين غيرها في مناط العمل.
الأمر الثاني:
أنه لا فرق فيما اخترناه من التوقف في تكافؤ الأصلين بين ما إذا كان الخطابان كلاهما محلا للابتلاء، بمعنى تضمن كل واحد منهما توجها إلى المكلف، وبين ما إذا لم يكونا كذلك، بأن خرج أحدهما عن مورد الابتلاء، كأن يكون أحدهما في الأحكام، والآخر في القصص، فوقع التعارض بينهما بالعرض - أعني بسبب العلم الإجمالي - بمخالفة ظاهر أحدهما، ولا يجوز قياس الأصول اللفظية بالأصول الشرعية العملية أو الأمارات والطرق الشرعية.
أما الأصول العملية، فهي حقيقة أحكام ظاهرية، وليس لها جهة كشف أصلا، فتعارضها يرجع إلى تعارض الحكمين الشرعيين، فإذا فرض ابتلاء المكلف بأحدهما أي أحد الأصلين المتعارضين، فالمتوجه إليه - حينئذ - إنما هو هذا الذي ابتلي به دون الآخر، فهو غير مكلف بالحكم الآخر، وغير متوجه إليه ذلك، فلا تعارض بينهما، بل المتعين عليه هذا الأصل المبتلى به، كما إذا علم إجمالا بنجاسة ثوبه أو ثوب زيد مع عدم ملاقاته لثوب زيد، فإنه ليس حينئذ مكلفا باستصحاب طهارة ثوب زيد، حتى يعارض استصحاب طهارة ثوبه، بل المتوجه إليه الآن إنما هو استصحاب طهارة ثوب نفسه، فهو المتعين عليه.
وأما الأمارات والطرق الشرعية، فلأن جعلها حقيقة إنما يرجع إلى أحكام ظاهرية مماثلة للأحكام الواقعية، فإن معنى جعل البينة أمارة إيجاب الشارع العمل على
173

طبقها، وترتيب آثار الصدق عليها، لا إحداث صفة الكشف فيها، فإنها غير قابلة للجعل، فيكون الحال في تعارضها أيضا حال الأصول العملية، من حيث رجوع التعارض فيها - أيضا - إلى تعارض الحكمين، فيتجه
التفصيل فيها، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد اللحمين اللذين كان كل منهما لمسلم فاشترى أحدهما، فإن المتوجه - حينئذ - إنما هو ترتيب آثار هذه اليد على ما أخذ منها، دون اليد الأخرى، فيحل له أكل هذا اللحم من دون توقف على تبين حاله، ليعلم أنه ليس المعلوم بالإجمال.
والحاصل: ان التعارض في الأصول والطرق الشرعية مرجعه إلى تعارض الأحكام الفرعية، ولا ريب أنه إذا لم يتوجه عليه أحد الحكمين المتنافيين فالمتعين في حقه إنما هو الحكم الآخر، هذا بخلاف الأصول اللفظية فإنها لما كانت طريقيتها بأنفسها، ولم يكن للشارع فيها جعل أصلا إلا إمضاءه عمل العقلاء عليها فتعارضها لتكاذب الأمارتين، فكل واحد من الأصلين اللفظيين المتعارضين يكذب الآخر. ولو لم يكن متضمنا لحكم على المكلف لكان كل من الخطابين - حينئذ - مجملا في مفاده، سواء كان التعارض ذاتيا أو عرضيا، ومعه يسقط الاستدلال بالخطاب الذي هو مورد الابتلاء، إذ مداره على الظهور، وإذ ليس فليس.
ومن هذا ظهر وجه اختيار شيخنا - دام ظله - لما اخترنا من عدم الفرق في رسالة أصالة البراءة (1)، وضعف ما اختاره من التفصيل في مسألة حجية ظواهر الكتاب (2).
(1) فرائد الأصول: 256 في مبحث العلم الإجمالي في التدريجيات عند قوله: اللهم إلا أن يقال: إن العلم الإجمالي بين الشبهات التدريجية (إلى أن قال) لكن الظاهر الفرق بين الأصول اللفظية والعملية، فتأمل.
وإن شئت بيان الفرق في كلام الشيخ (ره) فلاحظ كلام المحقق الآشتياني في بحر الفوائد: 118، وكلام المحقق الآخوند (ره) في حاشيته على فرائد الأصول: 147.
(2) فرائد الأصول: 40، الثالث: وقوع التحريف في القرآن على القول به (إلى أن قال): مع أنه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة أمكن القول بعدم قدحه لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلقة بالأحكام الشرعية التي أمرنا بالرجوع فيها إلى ظواهر الكتاب فافهم. للتفصيل ومعرفة كلام الشيخ (ره) راجع كلام المحقق الآشتياني في بحر الفوائد: 98 - 102، كما أنه إن شئت تفصيل كلامه في بحث الابتلاء في الأصول العملية في كون الأصل جاريا في طرف الابتلاء دون الآخر لاحظ كلامه في الرسائل: 251، وفي أول مبحث البراءة: 191 عند قوله: وأما الدليل الدال على اعتباره فهو وان كان علميا إلا أنه لا يفيد إلا أحكاما ظاهريا حيث أن هذه العبارة تدل على رجوع جعل الأمارات والطرق إلى جعل أحكام ظاهرية مماثلة للأحكام الواقعية.
174

الأمر الثالث:
إن البحث عن تعارض الأصول اللفظية، وترجيح بعضها على بعض إنما هو على القول باعتبار الظواهر اللفظية من باب الظن النوعي بأحد معنييه، وأما على القول به من باب الظن الفعلي إما بالخصوص، كما اختاره المحقق الخوانساري () قدس سره، أو من جهة دليل الانسداد، فلا ينفع المزايا الآتية الموجودة لأحد الأصلين في حمل اللفظ على المعنى المطابق له، بل المدار على الظن الفعلي، فإن حصل لأحد الخطابين - ولو كان على خلاف - فهو المتبع، وإن لم يحصل أصلا فالأصل هو التساقط رأسا، وفرضهما كأن لم يكونا، وعدم الركون إلى شيء من الأصول أو المزايا الآتية.
اللهم إلا أن يبحث من حيث كون الأصول أو المزايا مفيدة للظن الفعلي وعدمه.
المرحلة الثانية في تحقيق الحال في رجحان الأحوال بعضها على بعض نوعا،
وهذا هو المقصود في مبحث تعارض الأحوال المعروف عندهم، فتلك المرحلة باعتبار وقوع الكلام فيها من هذه الجهة هو هذا المبحث المعروف، كما أشرنا إليه سابقا، وتوضيح المقال يحل العقال عن القلم وإطلاق عنانه إلى مسائل الدوران.
فالأولى منها: دوران الأمر بين الاشتراك والنقل،
كأن كان اللفظ موضوعا في الأصل لمعنى، ثم حصل له وضع جديد في معنى آخر تعيينا أو تعينا حاصلا بغلبة استعماله فيه مجازا إلى أن وصل حد الحقيقة، بمعنى أنه حصل له علقة بالنسبة إليه أيضا، والأول أعني الوضع التعييني أعم من أن يكون من الواضع أيضا أو من أهل العرف العام أو الخاص.
لكن في تحقق الاشتراك وتصوره فيما إذا كان وضع اللفظ للمعنى الثاني من العرف العام أو الخاص، مع تأخر زمانه عن وضعه للمعنى الأول إشكال، فإنه إما تعييني وإما تعيني حاصل بغلبة استعمال اللفظ مجازا، فعلى الأول لا معنى لتعيين اللفظ في المعنى بعد وضعه للمعنى الأول، إلا تخصيصه بهذا المعنى، ولا ريب أن بقاء وضعه حينئذ للمعنى الأول أيضا يناقض تخصيصه به، فيلزمه عقلا هجر اللفظ عنه حينئذ، فيعين النقل.
175

وأما على الثاني: فلأن اللفظ ما بلغ إلى مرتبة توجب اختصاصه بهذا المعنى، فلا () يمكن كونه حقيقة فيه، بل مجازا، وإذا بلغ وحصل الاختصاص، فهو يناقض بقاء وضعه للمعنى الأصلي، كما أشرنا إليه في مبحث المنقول والمشترك، فلا واسطة عقلا في حال اللفظ بالنسبة إلى هذا المعنى بين النقل وبين المجازية.
وكيف كان، فالاشتراك إنما يتصور من واضعين ابتداء، أو واضع واحد بوضعين كذلك، كما سيأتي في كلام السيد المحقق الكاظمي قدس سره ().
أما على الأول: فلأن اختصاص اللفظ بكل من المعنيين - حينئذ - غير ملحوق باختصاصه بالمعنى الآخر، حتى يناقض حصوله في أحدهما بقاءه في الآخر، بل اختصاص كل من المعنيين باللفظ في مرتبة واحدة، لكن لا يكون شيء من الإختصاصين تاما لحصول التزاحم بينهما.
وأما التخصيصان الموجبان لهما، فلا نقصان في شيء منهما أصلا، بحيث لو انفرد كل منهما لكان سببا للاختصاص التام، إلا أن حصولهما في آن واحد صار مانعا عن حصول الاختصاص التام بشيء () منهما.
والحاصل: أن غرض كل واحد من الواضعين - حينئذ - حصول الاختصاص التام بين اللفظ وبين ما يريد وضعه له، وأوجد سببه من غير نقصان فيه إلا أنه زوحم بوجود سبب أعم مثله في مرتبة ().
وأما على الثاني: فلأنه وإن لم يتصور فيما إذا كان غرضه حصول الاختصاص التام بين اللفظ وبين كل واحد من المعنيين لاستلزامه اجتماع إرادة المتناقضين في إرادته، نظرا إلى أن إرادة اختصاصه - بهذا المعنى - معناه عدم إرادة شركة الغير له في اللفظ، وإرادته اختصاصه - بذلك المعنى أيضا - معناه إرادة عدم شركة غيره في اللفظ، فيلزم كونه مريدا لاختصاص اللفظ بكل من المعنيين، ومريدا لعدم اختصاصه بشيء منهما، إلا أنه يتصور فيما إذا كان غرضه حصول الاختصاص بين اللفظ وبين كل
176

من المعنيين في الجملة.
وبعبارة أخرى يكون غرضه نفي شركة معنى ثالث مع المعنيين في هذا اللفظ.
هذا، لكن الإنصاف عدم ورود الإشكال المذكور على الفرض الثاني، أعني حصول الوضع للمعنى الثاني من العرف العام أو الخاص بالوضع التعييني بالتوجيه المذكور، فإن المناقضة المدعاة إنما هي على فرض إرادة الواضع الثاني بقاء اللفظ في المعنى، واختصاصه به بنحو ما كان أولا من الاختصاص التام، وكان غرضه - أيضا - تخصيص اللفظ بالمعنى الثاني بالتخصيص التام، بمعنى نفي شركة غيره معه في اللفظ.
وأما إذا كان غرضه بقاء اختصاص اللفظ في المعنى الأصلي في الجملة، وحصوله للمعنى الثاني كذلك، فلا منافاة، ولا تناقض أصلا، بل لا ينبغي التأمل في وقوعه، فإن الأعلام المشتركة كلها من هذا القبيل، فإن عمرا إذا سمى ابنه زيدا، فإذا رزق بكر ولدا أيضا، فيسميه زيدا، فلا ريب أنه لا يقصد هجر اللفظ عن ابن عمرو، بل غرضه اشتراك ابنه مع ابن عمرو في هذا الاسم فتدبر.
وكيف كان فمثال ما نحن فيه على ما ذكروه قوله عليه السلام (الطواف بالبيت صلاة) () لدوران الأمر في الصلاة بين أن تكون مشتركة بين المعنى اللغوي والشرعي، فيكون الحديث مجملا، وبين أن تكون منقولة إلى المعنى الشرعي، فيكون مبينا، ودليلا على اعتبار ما اعتبر في الصلاة في الطواف أيضا بمقتضى التنزيل، إما مطلقا نظرا إلى عموم المنزلة، وإما بعض أوصافها وشروطها الظاهرة، كالطهارة من الحدث، والخبث مثلا إن لم نقل بعمومها.
وقد يورد عليهم، مضافا إلى ما مر، إيراد ان في خصوص المثال المذكور: أولهما:
أن الظاهر - بل كاد أن يكون مقطوعا - أن كون الصلاة حقيقة شرعية في الأركان المخصوصة، على القول
بها، ليس بسبب وضع تعييني من الشارع، بل هي حاصلة بسبب غلبة استعمالها فيها إلى أن أغنيت عن القرينة، فإذن انحصر سبب الحقيقة بالغلبة، فلا يعقل الاشتراك حينئذ، كما عرفت سابقا، بل الاحتمال معين في النقل خاصة، فلم يظهر ثمرة المسألة في المثال المذكور، لأنه ليس من أفرادها، لما ذكر.
177

ويعضدنا في ذلك ما حكي عن السيد المحقق الكاظمي في المحصول (1) ما هذا لفظه: وكان ينبغي أن يكون الرجحان للأول، أعني الاشتراك، لأصالة عدم الهجر، لكن حدوث المعنى الآخر - إن كان في العرف العام، ويكون بالتجوز والاشتهار، حتى يهجر الأول، ويختص بالثاني - استلزامه للنقل ظاهر، وإن كان باصطلاح خاص من شرع أو غيره، فلا معنى لصيرورته حقيقة في المعنى الثاني - عندهم - إلا تخصيصه به، حتى إذا استعملوه في الأول كان مجازا، وإنما يتصور الاشتراك من واضعين ابتداء، أو واضع واحد بوضعين كذلك. انتهى كلامه (قدس سره) فإن حصره تصوير الاشتراك فيما ذكره ظاهر في نفيه عن غيره مطلقا حتى بسبب الاشتهار.
وأما الكلام في الحصر المذكور، فقد عرفت الحال فيه، من أن الحق فيه التفصيل كما عرفت.
وكيف كان، فمفهوم ما حصره (قدس سره) في غاية المتانة فيما إذا كان سبب العلقة الوضعية غلبة الاستعمال، وأما في غيره فقد عرفت الكلام فيه.
ومما يؤيد ما ذكرنا من نفي احتمال الاشتراك في لفظ الصلاة، على القول بكونه حقيقة شرعية، بل يدل عليه إطباقهم في مسألة الحقيقة الشرعية على وجوب حمل الحقائق الشرعية على معانيها الجديدة، وأنه ثمرة البحث في المسألة، ولا ريب أنه مع إمكان اجتماع الوضع الجديد مع الوضع القديم حتى يكون اللفظ مشتركا بينهما، لا وجه للحمل المذكور بقول مطلق، بل لا بد من التفصيل بين بقاء الوضع الأولي، فعدم الحمل، وهجره فالحمل.
(1) المحصول في علم الأصول، مخطوط، في تعارض الأحوال، وإليك نصه: الخامسة بين الاشتراك والنقل يكون للفظ معنى ثم يصير له معنى آخر فلا يعلم هل هجر الأول، فيكون منقولا، أو لم يهجر بعد، فيكون مشتركا، وكان ينبغي أن يكون الرجحان للأول، لأصالة عدم الهجر، لكن حدوث المعنى الآخر - إن كان في العرف العام، وما ليكون إلا بالتجوز والاشتهار حتى يهجر الأول، ويختص بالثاني - استلزامه للنقل ظاهر، وإن كان باصطلاح خاص - من شرع أو غيره - فلا معنى لصيرورته حقيقة في المعنى الثاني عندهم إلا تخصيصه به، حتى إذا استعملوه في الأول كان مجازا، وإنما يتصور الاشتراك من واضعين ابتداء أو من واضع واحد بوضعين كذلك، وقد اشتهر التمثيل له بلفظ الصلاة، واستظهار الثمرة في الترجيح بمثل قوله عليه السلام (الطواف بالبيت صلاة) من حيث إنه إن كان منقولا دل على وجوب الطهارة بالطواف، لأنها من أخص لوازم الصلاة، وأظهرها وإن كان مشتركا لم ينهض لذلك لإجماله، وأنت تعلم أن اسم العبادة على القول بثبوت الحقيقة الشرعية يكون من المنقولات، وعلى القول بنفيها يكون حقيقة في المعنى اللغوي، وليس لاحتمال الاشتراك فيه مجال.
178

هذا كله مضافا إلى عدم الفائدة في المثال المذكور على القول بتصور الاشتراك، واحتماله فيه، فإنه على كونه مشتركا أيضا محمول عند الإطلاق على المعنى الشرعي للقرينة، وهو كونه ملقى إلى المتشرعة، فتأمل.
وثانيهما: أن لفظ الصلاة ليس مشتركا بين المعنى اللغوي والشرعي باتفاق المثبتين للحقيقة الشرعية والنافين لها، بل إما مجاز في المعنى اللغوي بكونه منقولا منه، وإما مجاز في المعنى الشرعي ببقاء وضعه للمعنى اللغوي.
هذا، ثم إن الظاهر من الاشتراك في المقام أعم من الاشتراك المعروف ومن المرتجل إذ هو على مذهب المحققين كلا أو جلا قسم من المشترك، وكيف كان، فنحن نفصل المقال لكشف الحال، حسب ما يعيننا المجال:
فنقول: إن الدوران بين الاشتراك بالمعنى الأعم الشامل للارتجال وبين النقل يتصور في فروض:
الأول: أن يكون اللفظ حقيقة في الصدر الأول في معنى، ثم عرض له في العرف العام أو الخاص وضع آخر لغير ذلك المعنى، وشك في بقاء الوضع الأول، فيكون مشتركا، أو هجره، فيكون منقولا.
وفيه أقوال حينئذ: اختيار الاشتراك مطلقا، واختيار النقل كذلك، والتفصيل بين ما إذا حدث المعنى الثاني في عرف غير عرف المعنى الأول، وبين ما إذا حدث في ذلك العرف، فحكم بالنقل في الأول، وبالاشتراك في الثاني.
حجة الأول: أن فائدة النقل أكثر من فائدة الاشتراك، إذ على تقديره يحمل اللفظ على المعنى الثاني، المنقول إليه عند تجرده عن القرينة من غير توقف، بخلاف الاشتراك لحصول الاحتمال معه، فيكون النقل أولى.
حجة الثاني: ان الاشتراك أكثر وأغلب، فيكون أولى من النقل، فإن أكثريته دليل على أحسنيته وأولويته، ولم يتمسك أحد من الفريقين بالأصول الجارية في المقام على إثبات المرام، مع أنها خير ما يعول عليه في أمثال المقام، وعليه ديدنهم في سائر مباحث الألفاظ.
ولعل نظرهم إلى أن الأولوية والرجحان، هو المحكم في المقام، لأنه ظن اجتهادي بالنسبة إلى ما يقضي به الأصول العدمية، فيكون نسبته معها نسبة الأدلة الاجتهادية مع الأصول العملية، ولا ريب أنه مع جريان الأول لا موضوع للثاني ولا
179

مورد.
وكيف كان، ففي كل من الوجهين نظر، بل منع، فإن تلك الاستحسانات أي ربط لها بالترجيح، والحكم بأن لفظ الصلاة مثلا منقولة أو مشتركة، وأن حكم الله في الطواف اعتبار الوضوء باعتبار كون النقل أمرا حسنا ذا مزية كاملة.
وما يقال في تقريب هذه المرجحات من المدعي، من أن ذا المزية الكاملة أولى بإرادة المتكلم، خصوصا الفصيح الحكيم، فيحصل الظن بالمراد، فهو على تقدير صحته لا مساس له بما نحن فيه، فإن الذي يقع موردا لإرادة المتكلم فيما نحن فيه، إنما هو أمر واحد، وهو المعنى الثاني، ولا يتفاوت فيه الحال بالنسبة إلى إرادة المتكلم، إذا تعلق غرضه به بين أن يكون اللفظ مشتركا بينه وبين المعنى الآخر، وبين كونه منقولا إليه مختصا به.
والحاصل: ان المرجحات المذكورة - على تقدير صحة التعويل عليها - يؤخذ بها فيما إذا دار أمر الشخص بين النقل والاشتراك، ولا ريب أن ذلك الدوران لا يتفق لمتكلم عند إرادته للمعنى الثاني أبدا، بل هذا إنما يتصور في حق الواضع للفظ - للمعنى الثاني - فيما إذا كان وضع اللفظ له حاصلا بالوضع التعييني، لا التعيني الحاصل بسبب الغلبة، فإن النقل والاشتراك لما كانا من أقسام الوضع، فيرجعان إلى فعل الواضع، كسائر أفعاله الاختيارية، فحينئذ يمكن أن يكون كون النقل أكثر فائدة مثلا مرجحا لصدور الوضع منه على سبيل النقل وهجر اللفظ عن المعنى الأصلي.
وبالجملة، الدوران بين النقل والاشتراك، وإرادة المعنى من اللفظ إنما هي فعل المتكلم، ولا يتصور فيها ذلك الدوران، فإذن لا ربط للمرجحات المذكورة فيما نحن فيه، لأنا في مقام تشخيص الإرادة من اللفظ المردد بين كونه مشتركا أو منقولا.
اللهم إلا أن يقال: إن الشك في إرادة المعنى الثاني مسبب عن الشك في كون اللفظ منقولا إليه، أو مشتركا بينه وبين المعنى الآخر، فإنه لو علم النقل، لكان إرادته معلومة من اللفظ المجرد عن القرينة، كما هو المفروض، ولو بحكم الأصل المحكم - أعني أصالة الحقيقة - فإذا رجحنا بتلك المرجحات أن الذي صدر من الواضع بالنسبة إلى المعنى الثاني إنما هو النقل، فيرتفع ذلك الشك فيحمل اللفظ عليه حينئذ.
لكن الإنصاف، عدم جواز الركون إلى مثل هذه المرجحات، وعدم إفادتها شيئا حتى الظن، فإن كلا من النقل والاشتراك مما يصلح لتعلق غرض عقلائي به، إذ كما يقال: إن فائدة النقل رفع الإجمال عن اللفظ، وتعيين المراد، وإفهامه، كذلك
180

يقال: إن فائدة الاشتراك بيان المعنى بنحو الإجمال، فإن كلا من التعيين والإجمال ليسا بأنفسهما حسنين، أو قبيحين، أو مختلفين، بل إنما يختلف حكمهما باختلاف مقتضيات الأحوال، فقد يقتضي الحال الإجمال، وقد يقتضي التفصيل والتعيين.
وكيف كان، فلا مزية للنقل من هذه الجهة على الاشتراك.
مع أن هذه على تسليمها لا تتم مطلقا، حتى فيما احتمل النقل بسبب غلبة الاستعمال، بأن احتمل حدوث الوضع للمعنى الثاني بسبب الغلبة لما قد عرفت أن الدوران المذكور، إنما يتصور في فعل الواضع، ولا ريب أنه لا واضع في النقل التعيني، فإن السبب لحصول العلقة إنما هو غلبة الاستعمالات، ولا يعقل الترديد المذكور عند المستعملين كما عرفت، فإن أولوية النقل في الوضع التعييني لا تثبت كون اللفظ حينئذ منقولا إلى المعنى الثاني، لاحتمال أن العلقة قد حصلت بسبب غلبة الاستعمال، وعلى تقديرها لا ربط للأولوية المذكورة في تعيين كون اللفظ مهجورا عن المعنى الأصلي بسبب الغلبة.
هذا في صورة احتمال ذلك، فكيف بما إذا علمنا بانحصار سبب العلقة بين اللفظ وبين المعنى الثاني في الغلبة.
اللهم إلا أن يقال: إنه لا يحتمل الاشتراك حينئذ، كما هو المختار المشار إليه سابقا، وفي مسألة المنقول والمشترك، فيخرج عن الفرض فيما نحن فيه، فتدبر.
والتحقيق: ان المعتمد في استكشاف الأوضاع أو المرادات، إنما هي الوجوه الآتية الراجعة إلى آثار المدلول، دون الوجوه الآتية الراجعة إلى مقتضياته. وكيف كان، فالحق، في الفرض المذكور هو تقديم النقل مطلقا.
ولنا على ذلك: غلبة النقل في مثل المقام مطلقا.
وربما يتمسك على تقديم الاشتراك بأصالة عدم الهجر، وبقاء اللفظ على المعنى الأصلي، لكن ما ذكرنا من الغلبة، إما واردة على هذا الأصل، بناء على كون الأصول العقلائية، كالشرعية أحكاما تعليقية معلقة على عدم وجود دليل وأمارة، فإن الغلبة أمارة فلا يبقى للأصل المذكور موضوع حينئذ، وإما حاكمة عليه، بناء على اعتبار تلك الأصول من باب الغلبة، وكونها طرقا ظنية لا أحكاما عقلية، فإن مرجع الأصل المذكور - حينئذ - إلى غلبة جنسية، وهي غلبة بقاء كل شيء على ما كان، وعلى حالته السابقة، أو نوعية، وهي غلبة بقاء الاعدام على حالتها السابقة وعدم انقلابها،
181

فإن تلك الغلبة أخفى من الأولى، فإنها كانت أعم من الوجودات، وهذه مختصة بالعدميات، والأصول اللفظية كلها عدمية داخلة تحت كل واحدة من الغلبتين في الأولى بعنوان كونها أفراد من نوعها، وفي الثانية بعنوان كونها أفراد منها.
وكيف كان، فمرجع هذا الأصل إلى غلبة جنسية أو نوعية، والتي ادعيناها من الغلبة صنفية مختصة بخصوص الفرض المذكور، ولا ريب أنها حاكمة على غيرها نوعية كانت أو جنسية.
حجة القول بالتفصيل على الظاهر - وإن لم يذكرها المفصل - الغلبة في الموضعين، فإن الغالب فيما إذا حدث وضع اللفظ للمعنى الثاني من أهل عرف المعنى الأول هو الاشتراك، وفيما إذا حدث من غيره هو النقل، مضافا إلى ظهور حال ذلك الغير في ذلك، فإن الخارج من عرف إذا تصرف في لفظ من الألفاظ المستعملة في ذلك العرف ووضعه لمعنى، فالظاهر من حاله أنه أراد نسخ الاصطلاحات الثابتة لهذا اللفظ من قبل إلى الآن، وهجره عن معانيه المتقدمة، وهذا الظهور - أيضا - قسم من الظهورات المعتبرة منشؤه حال الشخص، لا الغلبة ولا غيره.
وفيه: ان الغلبة وظهور الحال كلاهما مسلمان في الفرض الثاني، لكن الغلبة في الفرض الأول على عكس ما ذكر من غلبة الاشتراك، فإن الغالب فيه أيضا النقل.
وكيف كان، فالذي ادعيناه من الغلبة الصنفية - آنفا - موجود في المقامين، فلا وجه للتفصيل المذكور، فتأمل.
الفرض الثاني: أن يكون للفظ معنى في الصدر الأول، وعلم نقله منه إلى غير ذلك المعنى، لكنه يشك في أن هذا المعنى الثاني المنقول إليه، هل هو معناه بحسب اللغة أيضا، وفي الصدر الأول، بأن يكون اللفظ في الأصل مشتركا بينه وبين المنقول منه، فيكون تعينه في المعنى الثاني من باب اختصاص اللفظ المشترك بأحد معنييه بسبب غلبة الاستعمال، لا من باب النقل الاصطلاحي، أو أنه معنى حادث للفظ في العرف بأن يكون في الأصل معناه متحدا، فنقل في العرف من ذلك المعنى إلى المعنى الثاني، فيكون من باب النقل الاصطلاحي.
والحق - في هذا القسم أيضا - تقديم النقل، والحكم باتحاد المعنى الأصلي، لغلبة اتحاد معاني الألفاظ، مضافا إلى أصالة تأخر وضع اللفظ للمعنى الثاني المنقول إليه، ومضافا إلى ندرة اختصاص اللفظ المشترك بأحد معنييه.
182

وتظهر الثمرة بين الاحتمالين، فيما إذا علم بصدور الخطاب قبل زمن تعين اللفظ في المعنى الثاني، فعلى القول بتقديم الاشتراك يكون الخطاب مجملا، لتردده بين أن يكون المراد به المعنى الأول، أو الثاني، مع عدم القرينة، وعلى ما اخترنا مبينا محمولا على المعنى الأول.
وكذا فيما إذا جهل تاريخ النقل، فإن الخطاب - حينئذ على ما اخترنا - يدخل في صغريات مسألة تعارض العرف واللغة، فيأتي فيه الأقوال الثلاثة ثمة، فتظهر الثمرة على القول بتقديم اللغة حينئذ، فإن الخطاب على احتمال الاشتراك مجمل، وعلى ما اخترنا من اتحاد المعنى [مبين] ()، فعلى هذا القول يحمل على المعنى الأول المهجور عنه اللفظ، وأما على القول بالتوقف ثمة فلا ثمرة.
هذا، ثم إنه لا يختص ثمرة الاحتمالين بما إذا كان اللفظ متعينا في المعنى الثاني عند العرف، بل تظهر فيما إذا حصل عند أهل اللغة، فالخطاب مع العلم بصدوره - قبل حصوله - محمول على المعنى الأول على ما اخترنا، ومجمل على الاحتمال الآخر، وكذا مع جهل تاريخ الصدور، فإنه على ما اخترنا يمكن حمله حينئذ على المعنى الأول، تمسكا بأصالة تأخر حصول وضع اللفظ للمعنى الثاني، بخلاف الاحتمال الآخر، إذ عليه وإن كان يجري أصالة تأخر تعين اللفظ في المعنى الثاني إلا أنه يوجب إجمال اللفظ حينئذ، كما لا يخفى.
الفرض الثالث: إن علم باختصاص اللفظ ووضعه لمعنيين في الآن، لكن يشك في أن وضعه لهما من الواضع، وأنهما المعنيان الابتدائيان، فيكون مشتركا بينهما لغة، أو أن () الذي وضع له هو في اللغة معنى ثالث نقل في العرف منه إليهما، فيكون منقولا إليهما ومشتركا بينهما عرفا.
مقتضى الأصل، وفاقا للشيخ محمد تقي () (قدس سره) تقديم الاشتراك اللغوي، فإن أصالة تأخر وضع اللفظ لهذين المعنيين، وإن كان مقتضى الاشتراك العرفي، إلا أن في قبالها أصلين آخرين مقتضيين للاشتراك اللغوي، وهما أصالة عدم وضع اللفظ للمعنى الثالث في اللغة، فإن أصالة تأخر الوضع مثبتة لوضع اللفظ لغة في
183

معنى ثالث، والأصل عدمه، وأصالة بقاء الوضع اللغوي على حاله وعدم تغيره، فإن النقل موجب لتغيره، فواحد من هذين الأصلين يعارض أصالة التأخر، ويبقى الأصل الآخر سليما عن المعارض، فيعين به الاشتراك اللغوي.
وتظهر الثمرة فيما إذا علم بصدور الخطاب قبل تعين اللفظ في المعنيين مع جهل التاريخ، بناء على تقديم المعنى اللغوي.
المسألة الثانية: الدوران بين الاشتراك والتخصيص.
وقد ذكروا أن التخصيص أولى من الاشتراك، واستدلوا عليه بما يرجع إلى أن التخصيص أفيد من المجاز، الذي هو أفيد من الاشتراك، فيكون أولى من الاشتراك، لأن الخير من الخير من شيء خير من ذلك الشيء بالضرورة.
هذا، وقد عرفت ضعف الركون إلى هذه الوجوه، وأمثالها من الوجوه الآتية، لعدم صلاحيتها لتغليب أحد الجانبين، وعدم ارتباطها بالمقام في شيء، فالأولى الركون إما إلى الأصول أو الغلبة.
فنقول: مقتضى الأصول هنا التوقف، لأن كلا من الاشتراك، والتخصيص مخالف للأصل، إلا أن يرجح الاشتراك، بأن التخصيص أكثر حوادث من الاشتراك، لأنهما وإن تساويا في الاحتياج إلى القرينة، وملاحظتها، وسائر ما يتفرع على وجود القرينة، إلا أن التخصيص قسم من المجاز، وهو يستدعي وجود أمر زائد على دواعي الكلام في نفس المتكلم، والأصل عدمه.
وفيه أنه معارض بأصالة عدم الوضع، فافهم.
وأما الغلبة فهي في جانب التخصيص، لكونه أكثر دورانا في لسان العرب، فيكون أرجح، وكيف كان فقد مثل له مثالان:
أحدهما قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) () وذلك أن النكاح إن كان حقيقة في العقد خاصة، فمقتضى ذلك الحمل عليه، والتزام التخصيص بإخراج المعقود عليها من دون وطء، وإن كان مشتركا بين العقد والوطء، كانت الآية في المعقودة المجردة عن الوطء مجملة، كذا قالوا.
وفيه: ان الواجب - على فرض الاشتراك - الحمل على المعنى الذي لا يلزمه
184

تخصيص، وهو الوطء، لأن المشترك إذا كان أحد معنييه مستلزما لتخصيص، ونحوه من الأمور المخالفة لأصل الحقيقة تعين الآخر.
أقول: لا يختص الإجمال في لفظ النكاح، حينئذ بالمعقود عليها من دون وطء، بل مقتضى الاشتراك إجماله في كلا المعنيين.
فإن قيل إن إرادة الوطء منه معلومة قلنا فعدم إرادة العقد معلوم أيضا، لعدم جواز استعمال المشترك في معنييه.
وثانيهما: قول القائل جمع الأمير الصاغة، إذا أريد به صاغة البلد، وشك في أنه عام مخصص بصاغة البلد، أو مشترك بين العموم والخصوص.
وفي كل من المثالين نظر: أما الأول، فلما ذكره بعض السادة (1) المحققين، من أن النكاح في اللغة حقيقة في الوطء خاصة، وفي الشرع حقيقة في العقد خاصة، فأين احتمال الاشتراك، ولو احتمل بقاء وضعه للمعنى اللغوي، مع ثبوت حقيقته في العقد شرعا، فيدور الأمر بين الاشتراك والنقل، فأين هذا من الدوران بين الاشتراك والتخصيص.
وفيه: انا نختار الفرض الثاني، أعني احتمال بقاء وضع اللفظ للمعنى الأصلي، لكن قوله: فأين احتمال التخصيص ممنوع، فإن النقل لا ينافي التخصيص، بل يمكن معه تصور دوران الأمر بين الاشتراك والتخصيص أيضا، كما إذا كان المعنى الثاني عاما مع إرادة بعض الأفراد منه، كما في المثال المذكور، فيلزم التخصيص على فرض النقل، فيدور الأمر بين الثلاثة، لكن محل البحث إنما هو دوران الأمر بين الاشتراك والتخصيص، وإن كان التخصيص لازما للنقل، لكن الكلام من جهة النقل غير منظور إليه.
وكيف كان، مع احتمال بقاء الوضع للمعنى الأول يتصور الدوران بين
(1) ولعله السيد الكاظمي (قدس سره) في المحصول (مخطوط) في تعارض الأحوال - السادسة بين الاشتراك والتخصيص - فانه بعد ذكره للآية الشريفة بعنوان أنه قد اشتهر التمثيل لذلك بقوله تعالى «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم» أورد على الاستدلال بها للمقام بما هذا نصه: (وفيه أن الحقيقة الشرعية متى ثبتت تعين النقل، سواء قلنا إن الوضع فيها بطريق التعين أو التعيين، وإن لم تثبت تعين حمله على المعنى اللغوي، على أن هذا تعارض بين النقل والاشتراك، أقصى ما هناك أنه على النقل لا بد من اعتبار التخصيص، ثم نقول: إن ثبت النقل في الشريعة، وبطل احتمال الاشتراك - كما هو الظاهر - فلا تعارض، وإن لم يثبت تعين الحمل على المعنى اللغوي - كما هو الضابط - ولا تعارض.
185

الاشتراك والتخصيص في المثال المذكور، لكن يشكل التمسك - حينئذ - بغلبة التخصيص على تقديمه على الاشتراك، فإنه مسبب عن النقل، ولا ريب أن الاشتراك أكثر من النقل، فيقدم على النقل، فلا بد من البناء على عدم التخصيص، لانتفاء سببه، وكيف كان، فغلبة الاشتراك في المثال حاكمة على غلبة التخصيص.
لكن يمكن دفعه: بأن الغالب من الاشتراك غير مثل هذا الاشتراك، فإن الغالب في مثل المقام النقل، وهجر اللفظ عن معناه الأصلي، بل عرفت - في مسألة النقل - امتناع بقاء وضع اللفظ للمعنى الأول، مع وصوله إلى حد الحقيقة في المعنى الثاني، إذا كان سبب الاختصاص غلبة الاستعمال.
ومن هنا يظهر أنه لو كان النكاح حقيقة في العقد بالوضع التعيني الحاصل بغلبة الاستعمال، لا معنى لاحتمال الاشتراك، والظاهر أن النكاح من هذا القبيل، فيتجه قول السيد (قدس سره). وأما الثاني فلقيام القرينة العقلية على إرادة الخصوص منه، لاستحالة جمع جميع صاغة جميع البلدان، فتنتفي الثمرة بين الاحتمالين، وإن كان الدوران حاصلا بينهما.
ثم إن الدوران بين الاحتمالين - أعنى الاشتراك والتخصيص - قد يكون في لفظ واحد، وقد يكون في لفظين، مثال الأول: ما تقدم من قوله تعالى (ولا تنكحوا) () الآية، ومثال الثاني: قول السيد لعبده مثلا (أكرم العلماء، ولا تكرم زيدا) على أن يكون زيد مرددا بين كونه علما للعالم الفلاني خاصة، وبين كونه مشتركا بينه وبين الشخص الآخر غير العالم، فعلى الأول يجب تخصيص العلماء بغير زيد العالم، وعلى الثاني محمول على عمومه، ويحمل زيد على الشخص غير العالم، بناء على ما اخترناه في محله، من أن المجمل في أحد الخطابين مبين بخطاب آخر مبين، ويحمل على ما لا ينافي العموم.
ثم التحقيق في القسم الأول، - أما بمقتضى الأصول - التوقف، لأن التخصيص والاشتراك كلاهما مخالفان للأصل، فأصالة عدم كل منهما يعارض أصالة عدم الآخر.
اللهم إلا أن يرجح أصالة عدم التخصيص، نظرا إلى أنه قسم من المجاز، ولا
186

ريب أنه لا بد فيه من ملاحظة بعض النكات البديعية، وتعلق الغرض بإفادتها، ولا كذلك على احتمال الاشتراك، إذ لا بد فيه من قرينة معينة فحسب، من دون ملاحظة شيء من الأغراض البديعية، فالأصل عدم ذلك الغرض الزائد وملاحظته، فيثبت الاشتراك.
هذا مضافا إلى أن في تقديم التخصيص مخالفة للأصل مرتين:
أحدهما: أصالة عدم التخصيص، وأصالة عدم ملاحظة الغرض الزائد، كما عرفت.
وثانيهما: أصالة عدم النقل، فإن التخصيص مسبب عن النقل.
لا يقال: فعلى هذا فأصالة عدم التخصيص غير جارية لما تقرر في محله من أن الأصل في المسبب لا يجري إذا جرى في سببه، سواء كان الأصل في المسبب موافقا للأصل في السبب أو مخالفا.
لأنا نقول: هذا مسلم فيما إذا لم يبتل الأصل في السبب بمعارض، وأما مع ابتلائه به فالأصل في المسبب جار بلا شبهة، هذا مقتضى الأصول.
وأما الغلبة، فهي من جانب التخصيص، وقد عرفت ما فيها في خصوص المثال المذكور، ولا يكاد يتصور لدوران الأمر بين الاشتراك والتخصيص في لفظ واحد مثال من غير سنخ المثال المذكور، بأن يكون التخصيص مسببا عن غير النقل.
وأما القسم الثاني، أعني دوران الأمر بين الاشتراك والتخصيص في لفظين، كما في المثال الذي ذكرنا، وهو قولنا: أكرم العلماء، ولا تكرم زيدا، إذا احتمل () اشتراك زيد بين الشخص الفلاني العالم وبين غيره، فلنقدم الكلام أولا في مقتضى الغلبة، لقلته بالنسبة إلى الكلام في مقتضى الأصول.
فنقول: لا يخفى أن الغلبة من جانب التخصيص، فهي تقتضي تقديمه، لكن يشكل الركون إليها في هذا القسم، لما قد عرفت في مبحث المجاز المشهور من عدم صلاحية الشهرة لكونها صارفة، إلا على قول أبي يونس، وقد عرفت ضعفه، ولا ريب أن الركون إليها - في هذا القسم - معناه صرف العام عن عمومه إلى التخصيص، وإنما اعتمدنا عليها في القسم الأول، لأن المقابل لها فيه إنما هو غير التخصيص لا العموم.
187

وبعبارة أخرى: إن إرادة الخصوص معلومة في القسم الأول، لكن الشك في أنها من باب التخصيص، أو من باب استعمال اللفظ المشترك في أحد معنييه، هذا بخلاف هذا القسم، فإن اللفظ المحتمل فيه التخصيص وضعه للعموم قطعي، لم يعلم إرادة الخصوص منه بعد، فالركون إلى الغلبة يقتضي صرفه عن ظاهره.
والحاصل: إن الشهرة يركن إليها فيما إذا قامت قرينة صارفة على خلاف ظاهر اللفظ، فيتردد المراد بين مجازات، فتكون هي معينة لإرادة المجاز الغالب في إرادته، لا في الظواهر الأبكار التي لم يعرضها ما يصرفها عما هي ظاهرة فيه.
وأما الأصول، فمقتضاها تقديم التخصيص في العام، لكن بملاحظة مقدمتين وعلى تسليمهما:
الأولى: إن أصالة العموم من الأصول بإرجاعها إلى استصحاب عدم المخصص، كما في الأصول الجارية في مقام تعيين الأوضاع، حيث إنها راجعة إلى الاستصحاب على تأمل.
الثانية: تعميم قاعدة المزيل والمزال، بأن يقال: إنه كلما تسبب الشك في شيء عن الشك في شيء آخر، فالأصل في ذلك الشيء الآخر مزيل للأصل في الأول مطلقا، سواء كان بين أنفسهما - أيضا - سببية واقتضاء أولا. فبملاحظة هاتين المقدمتين وتسليمهما، لا بد من الحكم بالتخصيص في العام، إذ لا ريب أن الشك في العموم مسبب عن الشك في الاشتراك في لفظ آخر، كلفظ زيد في المثال المذكور، إذ لو أحرز كونه متحد المعنى باختصاص وضعه للشخص العالم يتعين كونه مخصصا للعام، وإلا لزم اللغو في ذلك اللفظ، نظرا إلى أنه لم يرد منه هذا المعنى الذي هو من أفراد العام، ويلزم خلوه عن إفادة المعنى، لعدم معنى آخر له بالفرض، ولا ينعكس التسبيب بأن يقال: إن الشك في الاشتراك مسبب عن الشك في العموم فإن تخصيص العام لا ينافي اشتراك زيد، لإمكان إرادة الشخص العالم منه، فلا يجوز أن يقال: الأصل عدم التخصيص، فيثبت الاشتراك في زيد.
وكيف كان، فإذا ثبت أن الشك في التخصيص مسبب عن الشك في اشتراك زيد، والمفروض أن أصالة العموم من الأصول، لا الأمارات، فأصالة عدم الاشتراك مزيل لأصالة العموم - المعبر عنه بأصالة عدم التخصيص - فثبت التخصيص.
188

وإنما اعتبرنا المقدمة الأولى، لأنه لو بني على كون أصالة الظهور التي من أفرادها أصالة العموم من الأمارات، بأن يكون المدار في اعتبارها على الظن ولو نوعا، لا يبقى معنى لأصالة عدم الاشتراك، وكونها مزيلة لأصالة العموم، فإن أصالة العموم - حينئذ - نسبتها إلى أصالة عدم الاشتراك من نسبة الدليل إلى الأصل، ولا ريب أن موضوع دليل اعتبار الأصل مقيد بعدم الدليل، فمعه لا اعتبار للأصل أصلا، سواء كان الشك في مجراه سببا للشك في العموم أولا بل يكون الدليل طريقا إلى ثبوت مؤداه فتنبه ومن هنا يظهر أن تقديم المشهور للتخصيص على الاشتراك في المقام، لو كان مع فرض كون أصالة العموم أمارة، لا وجه للتقديم، بل ينبغي العكس.
وأما وجه اعتبار المقدمة الثانية فواضح، إذا لو لم نقل بتعميم القاعدة المذكورة، واقتصرنا فيها بما إذا ثبت الاقتضاء في نفس المزيل والمزال، كما رجحناه سابقا، وأشرنا إلى اختياره في عدة مواضع، في مقام الرد على من تمسك بالقاعدة المذكورة بمجرد ثبوت التسبيب من حيث الشك، لكن الذي يرجح في النظر الآن تعميم القاعدة المذكورة، وفاقا لشيخنا الأستاذ (1) دام ظله.
ثم إن الظاهر أن أصالة العموم، كسائر الأصول اللفظية الجارية في تعيين المراد أمارة، لا أصل تعبدي، لما عرفت من أن دليل اعتبارها كسائر الأصول اللفظية إنما هو بناء العقلاء وسيرتهم، ولا ريب أنه لا يعقل التعبد في أفعالهم من دون آمر لهم، كما هو المفروض المسلم في الأصول، فيجب البناء على العموم.
ثم إنه هل يثبت به اشتراك اللفظ الآخر أولا؟ الظاهر هو الثاني، لعدم ثبوت بناء العقلاء من أهل اللسان على إثبات ذلك بمجرد أصالة العموم.
نعم لو علم الاشتراك، وتردد اللفظ بين أن يكون المراد به الخاص، الذي هو أحد أفراد العام، وأن يكون المراد به المعنى الآخر، فيمكن التمسك بأصالة العموم في رفع الإجمال عن اللفظ الآخر، وحمله على المعنى الآخر الذي لا ينافي العموم.
ثم إن حال الاشتراك مع سائر المجازات غير التخصيص، كحاله مع التخصيص، فإن أصالة الحقيقة في غير العمومات أمارة على إرادة مؤداها، فلا يبقى معها لأصالة عدم الاشتراك بعد مورد.
(1) فرائد الأصول: 45 عند قوله: ولذا لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثم ورد قول آخر من المولى (لا تكرم زيدا) واشترك زيد بين عالم وجاهل فلا يرفع اليد عن العموم بمجرد الاحتمال إلخ.
189

المسألة الثالثة: الدوران بين الاشتراك والمجاز،
ويقع الكلام فيها تارة مع قطع النظر عن الاستعمال، وتارة بالنظر إليه.
فعلى الأول: لا خلاف في تقديم المجاز، بل صرح بعضهم على ما حكى عنه بخروجه عن مسألة الدوران، وقد أكثر الكلام في ذلك - أعنى تقديم المجاز - بعض أفاضل المتأخرين، حتى أنه استدل عليه بالأدلة الأربعة.
لكن فيه ما عرفت سابقا، من عدم ارتباط الأدلة الشرعية كالكتاب والسنة والإجماع بما نحن فيه، لما عرفت من أن دليل اعتبار الأصول الجارية في الألفاظ، سواء كانت في مقام تعيين الأوضاع، أو في تعيين المراد، إنما هو بناء العقلاء من أهل اللسان، وسيرتهم لا غير.
وأما على الثاني: فيرجع البحث إلى كون الاستعمال دليلا على الوضع وعدمه، وقد عرفت الكلام فيه في مسألة الاستعمال بحذافيره، وعرفت الأقوال فراجع، فمن رجح ثمة كونه دليلا - كالسيد - (1)، يحكم فيما نحن فيه بالاشتراك، ومن لا يرجحه لا يحكم به، بل إما متوقف، أو مقدم للمجاز، كما هو المختار.
المسألة الرابعة: الدوران بين الاشتراك والإضمار:
اعلم أولا: أنه لا يخفى أن الإضمار إنما هو عدم ذكر لفظ تعلق الغرض بمعناه أيضا، ولا ريب أن عدم الذكر موافق للأصل، فما وجه تسميته وجعله مخالفا للأصل؟ ويمكن توجيهه بوجهين:
الأول: أن الإضمار وإن كان في نفسه أمرا عدميا، فيكون موافقا للأصل من هذه الجهة، لكنه مسبب عن أمر وجودي، وهو ملاحظة غرض زائد، كما في المجازات، فإنه لو لم يكن غرض المتكلم متعلقا بأمر زائد عن إفادة المطلب، لما أضمر، فكونه مخالفا للأصل من هذه الجهة، فيكون معناه كونه مستلزما لمخالفة أصل، أي الاستصحاب.
الثاني: أن يكون المراد بكونه مخالفا للأصل، كونه مخالفا للقاعدة، بإرادة القاعدة من الأصل، فإن قاعدة التجاوز تقتضي أن يكون المبادي، أي الألفاظ بمقدار المعاني، بأن يأتي المتكلم بألفاظ تفي بتمام مراده، فحذف بعض تلك الألفاظ مخالف لتلك القاعدة.
(1) الذريعة المجلد الأول: 13 وإليك لفظه: ولهذا نقول: إن ظاهر استعمال أهل اللغة اللفظة في شيء دلالته على أنها حقيقة فيه إلا أن ينقلنا ناقل عن هذا الظاهر. (وقد أشرنا إلى موارد كثيرة أخرى إن شئت فراجع الهوامش في تلك المسألة).
190

وكيف كان، فقد مثل للدوران في تلك المسألة بقوله صلى الله عليه وآله (في خمس من الإبل شاة) ()، فإن كلمة في إن كانت مشتركة بين الظرفية والسببية، كما عن الكوفيين، صارت الرواية مجملة، من حيث دوران الواجب في زكاة الإبل بين مقدار الشاة أو نفس الشاة، وإن كانت مختصة بالظرفية ومجازا في السببية، كما عن البصريين، فيتعين كون الواجب هو مقدار قيمة شاة من خمس من الإبل، فيلزم الإضمار بتقدير المقدار، وقد صرح بعض المحققين على ما حكي عنه بأنه على تقدير الاشتراك لا إجمال، بل المراد به حينئذ هو نفس الشاة.
ولعل نظره إلى ما تقرر في محله، من أنه إذا كان حمل المشترك على أحد معنييه مستلزما لمخالفة أصل، فذلك الأصل يرجح المعنى الآخر الموافق له، ولما كان حمل كلمة في على الظرفية مستلزما للإضمار، لعدم معقولية الظرفية الحقيقية، إذ مقتضاها كون الشاة في خمس من الإبل بعنوان الظرفية والمظروفية، وهو غير معقول، فلا بد من إضمار المقدار المخالف للأصل.
هذا بخلاف ما لو حملت على السببية فإنها حينئذ سليمة عما ذكر، فيكون معنى الحديث أنه تسبب خمس من الإبل شاة، فيكون الواجب هو نفس الشاة لا قيمتها المتعلقة بخمس من الإبل بعنوان المالية المشاعة وهذا جيد.
ثم إنه تظهر الثمرة فيما إذا باع واحدا من الأباعير، فعلى إرادة الظرفية، فالزكاة متعلقة بنفس الأباعير، فلو لم يكن المشتري عالما بالحال ثم اطلع عليه، فله أن يفسخ البيع لخروج بعض المبيع، ولو إشاعة مستحقا للغير أعني الفقراء.
وكيف كان، فقد اختلفوا في المقام، فقال العلامة (قدس سره) في التهذيب () على ما حكي عنه، الإضمار أولى من الاشتراك، لاختصاص الإجمال ببعض الصور في الإضمار وعمومه في الاشتراك، وقد عرفت ما في هذا النحو من الاستدلال على الترجيح.
مضافا إلى عدم تماميته في نفسه، فإنه إن أراد بعموم الإجمال في المشترك عمومه بالنسبة إلى ما لم يقم قرينة التعيين فهو مسلم.
191

لكنه لا يختص بالاشتراك، بل الإضمار أيضا هكذا، فإنه ما لم يقم قرينة على تعيين المضمر، من عقل، أو نقل، أو حال، أو مقال، فهو أيضا مجمل كالمشترك ما لم يقم عليه قرينة التعيين، وإن ادعى عموم الإجمال بالنسبة إلى جميع صور إطلاق المشترك حتى إذا قام قرينة التعيين واختصاصه في الإضمار ما لم يقم قرينة التعيين، فهذا مما نقطع بعدم إرادته ممن دونه في الفضل والكمال، فكيف به (قدس سره).
والحاصل، انه لا فرق بين الاشتراك والإضمار في اختصاص الأصل فيهما بصورة عدم قيام قرينة التعيين، وارتفاعه عنهما فيما قامت تلك القرينة.
وكيف كان، فالصواب أن يجعل المرجع والمآب في الباب أحد الأمرين على سبيل منع الخلو، وهما الأصول والغلبة، لا الرجوع إلى الوجوه الآتية، فإنها لا تفيد ترجيح إرادة المعنى الفلاني عند المتكلم.
فنقول: أما الأصول - على ما اختاره المحقق القمي () رحمه الله - فمقتضاها التوقف، إذ كل من الاشتراك والإضمار خلاف الأصل، فيتعارضان ولا ترجيح، فيجب التوقف.
وربما يناقش في الثاني - أعني أصالة عدم الإضمار - بأن الإضمار عدم الذكر، فهو موافق للأصل، فلا وجه لجعله مخالفا له.
وجوابه يظهر مما قدمناه من الوجهين، لكونه مخالفا للأصل.
وكيف كان فالأظهر تقديم الإضمار على الاشتراك، إذ الشك فيه مسبب عن الشك في الاشتراك، فبأصالة عدمه يثبت اتحاد المعنى، فيتعين الإضمار، فأصالة عدم الاشتراك مزيل لأصالة عدم الإضمار.
وأما الغلبة، فهي أيضا تقتضي تقديم الإضمار، لأن المرجع حقيقة إلى الدوران بين اتحاد المعنى وتعدده، ولا ريب أن الغالب هو الاتحاد، فيثبت بها اختصاص كلمة (في) مثلا بالظرفية إذ المفروض كون وضعها لها متيقنا.
تنبيه: اعلم أنه إذا وقع التعارض بين أصل من الأصول الجارية في تشخيص الظواهر، كأصالة عدم النقل، وأصالة عدم الاشتراك، وبين أصل من الأصول الجارية في
192

تشخيص المرادات، فلا بد من النظر في أن مرجع التعارض بينهما إلى مزاحمة الأول لنفس الدلالة التي يقتضيها اللفظ، أو إلى مزاحمته لكون تلك الدلالة مرادة.
والقسم الأول إنما يتصور في لفظ واحد، ومثاله الحديث المتقدم، وهو قوله عليه السلام (في خمس من الإبل شاة)، فإن أصالة عدم الاشتراك التي في لفظة (في) معارضة بأصالة عدم الإضمار فيها، ولا ريب أن أصالة عدم الاشتراك مزاحمة لدلالة كلمة (في) على السببية.
والقسم الثاني مورده لفظان، ومثاله قول المولى لعبده (أكرم العلماء) و (لا تكرم زيدا)، فيتردد لفظ (زيد) بين كونه مشتركا بين العالم الفلاني المسمى به، وبين غيره، من غير أفراد العالم، وبين اختصاص وضعه بزيد العالم، فيلزم على الثاني تخصيص العلماء بغير زيد العالم، بخلاف الأول، فأصالة عدم التخصيص التي هي من الأصول الجارية في تشخيص المراد في لفظ (العلماء) معارضة بأصالة عدم الاشتراك في لفظ (زيد) ولا ريب أن أصالة عدم الاشتراك مزاحمة لكون زيد العالم مرادا من العلماء، لا لدلالة العلماء على العموم، إذ لا تنافي بين كون زيد متحد المعنى، وبين كون العلماء دالا على العموم بحسب الوضع.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أنه إذا رجع التعارض إلى القسم الأول، فلا شبهة أن الأصل في جانب الوضع مزيل للأصل في تشخيص المراد، فإن الشك في المراد - حينئذ - مسبب عن الشك في دلالة اللفظ، وأنه ظاهر في ما ذا؟ فإذا جرى الأصل المشخص له، فلا يبقى للأصل الآخر مورد، وإذا رجع إلى القسم الثاني، فلا شبهة في أن الأصل المشخص للمراد قاهر على الأصل الجاري في تشخيص الظاهر، ومزيل له بعكس السابق، بناء على كون الأصول الجارية في تشخيص المرادات أمارات، بأن يكون اعتبارها من باب الظن، وكون الأصول الجارية في تشخيص الظواهر معتبرة من باب التعبد العقلائي، فإن نسبة الأولى إلى الثانية - حينئذ - من نسبة الدليل إلى الأصل، ولا ريب أنه ينتفي موضوع الأصل بالدليل.
وأما إذا قلنا: إن الثانية أيضا أمارات كالأولى، فيتكافأ الأصلان كتكافئ سائر الأمارات، وإنما لم نذكر هذا التفصيل في القسم الأول، لأن مرجع التعارض فيه حقيقة إلى تعارض أصلين من الأصول الوضعية، وأن الأصل المشخص ليس في عرض الأصل الآخر المعارض له المشخص للظهور، بل إنما هو مترتب ومتفرع على أصل
193

وضعي، يرجع التعارض حقيقة إلى ما بينه وبين الأصل الآخر الذي هو مثله، فإذا فرض ترجيح الأصل الآخر عليه، فلا يبقى للأصل المشخص للمراد مورد، لانتفاء مبناه بترجيح غيره عليه، فلا فرق حينئذ بين أن تكون الأصول الوضعية معتبرة من باب الظن أو من باب التعبد، فتدبر.
المسألة الخامسة: الدوران بين النقل وبين التخصيص، أو بينه وبين التقييد
مقتضى الغلبة تقديمهما على النقل، ولأنهما قسمان من المجاز، والمجاز مقدم على النقل، كما سيأتي، فهما مقدمان عليه، بل هما أولى بالتقديم، لكونهما أرجح من سائر المجازات.
وأما الأصول فهي معارضة، لأن كل واحد من التقييد والنقل أو التخصيص مخالف للأصل.
لكن الأقوى تقديم أصالة عدم النقل على أصالة عدم التخصيص أو التقييد إذا كان الدوران بينهما وبين النقل التعيني، والتساقط إذا كان الدوران بينهما وبين النقل التعييني، وسيأتي وجه التفصيل في المسألة الآتية، فإن التقييد والتخصيص قسمان من المجاز، مع احتمال تقديمهما عليه حينئذ أيضا بملاحظة أن الشك فيهما مسبب عن الشك في النقل، فمع جريان أصالة عدم النقل لا يجري أصالة عدم المخصص أو التقييد ولعله الأظهر.
ومثال دوران الأمر بين التقييد والنقل، هي الألفاظ التي ادعى كونها حقائق شرعية، حيث أنها في الأصل موضوعة للمعاني الكلية، لكن الشارع علق أحكامه على بعض أفرادها، فوقع الشك في أنها نقلت في لسانه إلى تلك الأفراد، أو أريدت الأفراد مجازا بمعنى أن المراد هي المعاني الكلية المقيدة بتلك القيود، وأنها أي تلك الألفاظ باقية على أوضاعها اللغوية، كما يقوله الباقلاني (1).
المسألة السادسة: الدوران بين النقل والمجاز،
ذهب جلهم إلى تقديم المجاز، نظرا إلى أن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان بخلاف المجاز، فإنه أمر معهود لا يتوقف على
(1) وإليك بنص كلامه على ما في هامش المنية المخطوطة في مبحث الحقيقة الشرعية عند قوله فمنعه القاضي أبو بكر مطلقا، قال: إن الشرع لم يستعملها إلا في الحقائق اللغوية، والمراد بالصلاة المأمور بها هو الدعاء، ولكن أقام الشرع أدلة أخرى على أن الدعاء لا يقبل إلا بشرائط مضمومة إليه.
وفي شرح الوافية للسيد الأعرجي هكذا: وبالجملة فالنفي إنما نسبه الآمدي والرازي وغيرهما إلى القاضي أبي بكر.
وفي كتاب تيسير التحرير الجزء الثاني: 15 - 17 أيضا نسبه إليه.
194

ذلك، فلما لم يثبت الاتفاق المذكور، فالحمل على المعهود المتعارف.
وفيه ما لا يخفى: أما أولا، فلأن النقل - أيضا - أمر معهود متعارف.
وثانيا: أن توقفه على اتفاق أهل اللسان ممنوع، بل قد يحصل من شخص واحد متبع يتبعه الباقون من أهل اللسان في الاستعمال، سيما إذا كان النقل من أهل اصطلاح خاص.
والتحقيق أن يقال: إن الدوران بينهما - أي المجاز والنقل - إما في لفظ واحد، وإما في لفظين، فعلى الأول، إما أن يكون النقل المبحوث عنه تعينيا أو تعيينيا، وعلى الأول يتصور صورتان:
الأولى: أن يعلم بمقدار من استعمالات اللفظ في المعنى - المبحوث عنه - غير كاف في حصول النقل، ولو مع عدم القرينة المتصلة، ويشك في حصول أزيد من هذا المقدار إلى حد يوجب النقل عادة.
الثانية: أن يعلم بتحقق مقدار من استعمالاته فيه، بحيث لو فرض حصولها بدون القرينة المتصلة (1) لكانت موجبة للنقل يقينا، لكن يشك في صفة هذه الاستعمالات المجازية، بأنها هل حصلت مع القرينة المتصلة، فلم يتحقق النقل، أو مع المنفصلة فيتحقق النقل.
ففي الأولى، التعارض بين أصالة عدم الاستعمالات الزائدة على القدر المعلوم الآتية إلى النقل، وبين أصالة عدم القرينة في الاستعمال الخاص، المبحوث عن كونه على وجه الحقيقة من جهة حصول النقل، أو على وجه المجاز من حيث عدم النقل.
ولا ريب أن العمل بالأول متعين، فإن مخالفته منحلة إلى مخالفات لأصول كثيرة بتعدد الاستعمالات المشكوكة الزائدة عن المقدار المعلوم، مضافا إلى استصحاب بقاء الوضع، وعدم هجر اللفظ عن المعنى الأصلي، ومضافا إلى الغلبة في جانب المجاز، وأصالة عدم القرينة - في الاستعمال الخاص المذكور - تعارض مع مثلها بالنسبة إلى واحد من الاستعمالات المشكوكة، فيبقى الأصل سليما عن المعارض، مضافا إلى ما عرفت من الغلبة واستصحاب عدم هجر اللفظ عن معناه الأصلي.
هذا مع أن أصالة عدم النقل، لما كانت من الأصول الوضعية، فهي مزيلة
(1) هذا بناء على المختار من اشتراط - كون الاستعمالات المجازية محصلة - بالقرائن المنفصلة، وإلا فجماعة لم يفرقوا بينها، وحكموا بحصول النقل بها مع المتصلة منه طاب ثراه.
195

لأصالة عدم القرينة - في الاستعمال المفروض الخاص - كما عرفت وجهه آنفا.
وفي الثانية التعارض بين أصالة بقاء الوضع الأول، وبين أصالة عدم القرينة في الاستعمال الخاص، فان الأصل لا يجري في الاستعمالات المعلومة القابلة للنقل، لو كانت بلا قرينة متصلة.
وكيف كان، فالأقوى تقديم المجاز على النقل، فان الأصلين المذكورين، وإن كانا متعارضين ومقتضاه التساقط، إلا أن أصالة عدم النقل مزيل لأصالة عدم القرينة، مضافا إلى غلبة المجاز.
وأما على الثاني - أي على كون النقل تعيينيا - فيتعارض أصالة عدم النقل مع أصالة عدم القرينة في الاستعمال المذكور، ولا يجري أصالة عدم الاستعمالات الآتية إلى النقل، لعدم الحاجة إلى تلك الاستعمالات في النقل التعييني.
وكيف كان، فمقتضى التعارض التساقط والتوقف، إلا أن أصالة عدم النقل مزيلة لأصالة عدم القرينة - كما عرفت - وإنما لم نتمسك - هنا - بغلبة المجاز، لأن النقل التعييني ليس فعل المستعمل، والغلبة إنما تجري في فعل المستعمل، فهي لا تقتضي عدم النقل، إذ لا منافاة بين غلبة المجاز عند المستعملين، ونقل الناقل الذي هو واضع في الحقيقة اللفظ في غير معناه، فتأمل.
وأما إذا كان الدوران بينهما في لفظين، فان فرض بينهما تسبيب، بأن يكون الشك في مجازية أحد اللفظين مسببا عن النقل في لفظ آخر، فالمحكم هو الأصل السببي، لكونه مزيلا للأصل الآخر، وإلا، فالمحكم هو الأصل اللفظي على القول بكون الأصول اللفظية أمارات، وكون الأصول الوضعية أصولا، فعلى هذا ينعكس الأمر، فيكون الأصل اللفظي مزيلا للوضع.
وأما على كون الأصول الوضعية - أيضا - أمارات، وعلى كون الأصول اللفظية - أيضا - أصولا، لا أمارات فيقع التعارض ويحصل التكافؤ، ومقتضاه التوقف، وفرضهما كأن لم يكونا.
وقد حكم بعض السادة الأجلاء (1) بتقديم المجاز للغلبة، وهو حسن فيما إذا لم
(1) الظاهر أنه هو السيد الكاظمي الشهير بالمقدس البغدادي في المحصول، مخطوط: ولفظه «وهذا كما يرى اللفظ مستعمل في غير معناه المعروف له مع وجود العلاقة وظهور مخايل الهجر والوجه الحكم بالمجازية وإن بلغ إلى أعلى مراتب الشهرة لأن المجاز هو الأصل حتى يعلم النقل ويتحقق الهجر كما في الألفاظ الشرعية وقد يتصور
196

يكن الشك في النقل مسببا عن الشك في المجازية، والا فمعه أصالة الحقيقة واردة على أصالة عدم القرينة، بناء على كونها من الظنون الاجتهادية، لا أصلا تعبديا.
المسألة السابعة: الدوران بين النقل والإضمار
قال السيد صاحب المفاتيح (1) (قدس سره) على ما حكي عنه بتقديم الإضمار للغلبة.
وفيها منعها إن لم نقل بتعكيس الغلبة، بأن يقال الغالب النقل.
لكن الإنصاف التوقف من حيث الغلبة، لعدم تحققها في شيء من الجانبين.
وأما الأصول، فهي لتعارضها، وإن اقتضت التساقط، إلا أن الشك في الإضمار مسبب عن الشك في النقل، فبأصالة عدمه يثبت الإضمار، ومثال ذلك: قوله تعالى (وحرم الربا) () فان الربا لغة الزيادة وقد استعمل في لسان الشارع في العقد المشتمل عليها، فنشك في أن استعماله في نفس العقد على سبيل الحقيقة في لسان الشارع تعيينا أو تعينا أو أنه مجاز، فيكون مقتضاه الحمل على معناه اللغوي عند التجرد عن القرينة، فعلى ثبوت النقل لا يلزم مخالفة لظاهر نسبة (حرم) فان إيقاع العقد من الأفعال القابلة لتعلق التكليف به، وعلى عدم ثبوته، وحمل اللفظ - أعني لفظ (الربا) - على نفس الزيادة يلزم إضمار من الأخذ وغيره من الأفعال المناسبة للمقام.
وربما نوقش في المثال بأن المراد - على تقدير بقائه على المعنى الأول - لا يلزمه إضمار أيضا، لأن نسبة الأحكام إلى الأعيان كقوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم.) (). - مثلا - حقيقة ثانوية، فالمثال من باب الدوران بين النقل مع الشك في الإرادة، كما إذا توقف صحة الكلام على أحد أمرين تجوز في مقام، ونقل في مقام آخر، وفرض أن المعنى يختلف باختلافهما، ولا ريب في رجحان التجوز هنا أيضا لأن أقصى ما فيه أن تأول المتكلم واستعمل اللفظ فيما يناسب معناه، وأين هذا من دعوى انتقال اللفظ عن حقيقته وهجرها وصيرورته حقيقة في معنى آخر رجما بالغيب، لمجرد تصحيح معنى الخطاب مع أن لصحته وجها آخر معتادا لا مئونة فيه وهو المجاز».
(1) مفاتيح الأصول: 93 فإنه قال: مفاتيح: إذا دار الأمر بين الإضمار والنقل كما في قوله تعالى (حرم الربا) فإنه يحتمل أن يكون الربا باقيا على حقيقته اللغوية وهي مطلق الزيادة، ويضمر أخذ الزيادة، فيحرم دون أصل العقد، ويحتمل صيرورة لفظ الربا حقيقة شرعية في العقد المخصوص، فيحرم أصل العقد، فصرح به في يب بأولوية الإضمار على النقل، واحتج عليه بتوقف النقل على اتفاق أهل اللسان عليه بخلاف الإضمار.
وفيه نظر، ولو قيل بترجيح النقل لكثرته لم يكن بعيدا، إلا أني لم أعثر على قائل به.
197

الشرعي في لفظ الربا، والعرفي في التركيب.
وفيه ما لا يخفى، لأن ثبوت الحقيقة العرفية للمركب على وجه يكون منقولا عرفيا بمعزل عن الصواب، نعم لو ادعى أنه حقيقة في ذلك لغة وعرفا - بناء على أن وضع التركيب ليس إلا للنسبة ومجاري النسب بيد العرف - لكان حسنا.
المسألة الثامنة: الدوران بين التخصيص والمجاز
مثاله قوله تعالى: (اقتلوا المشركين) () بعد الاتفاق على اختصاص الحكم بغير أهل الذمة، فقيل: إن المشركين مستعمل فيمن عداهم مجازا، وقيل: إنه مستعمل في معناه العام وخرج أهل الذمة بالدليل.
وقد يناقش بأن المشركين إذا استعمل فيمن عداهم، فهو مخصص أيضا، فلا ينفك المجاز عن التخصيص، ويشهد له قولهم إن العام المخصص مجاز في الباقي.
ثم قال: ذلك المورد انه من باب الدوران بين الحقيقة الشرعية - أي نقل المشركين في لسان الشارع إلى غير أهل الذمة - وبين التخصيص.
وفيه منع كون استعمال العام في الخاص تخصيصا، إذا كان بطريق العهد، وكذا استعماله في فرد أو فردين بعلاقة الكل والجزء، ولذا يجوز أن يراد بالعام على أحد هذين الوجهين فرد، أو فردان أو ثلاثة، مع عدم جواز تخصيص الأكثر، ومن جملتها الآية (الناس قد جمعوا لكم) () حيث أن المراد به نعيم بن مسعود، فلا وجه للمناقشة المذكورة، كما لا وجه لادعاء الحقيقة الشرعية في المشركين.
نعم لا يظهر الثمرة بين الاحتمالين في المشركين، للعلم بخروج أهل الذمة منه يقينا، وإنما الشك في كيفية خروجه.
وكيف كان، فالمشهور تقديم التخصيص على المجاز مطلقا، وذهب بعض المتأخرين (1) إلى التوقف في بعض صور المسألة، ونسب القول بالتوقف مطلقا إلى المحقق
(1) وهو المحقق النراقي في مناهج الأصول في مبحث تعارض الأحوال وإليك نصه: منهاج تعارض المجاز والتخصيص على وجوه:
الأول أن يتعارضا في لفظ واحد، بأن يتعلق حكم على عام، وعلم عدم تعلقه بجميع أفراده، فيحتمل تخصيص البعض، واستعمال العام في البعض مجازا، وهذا هو الذي ذكره الأكثر.
الثاني: أن يتعارضا في لفظ واحد في معنيين، بأن علم عدم تعلق الحكم بجميع أفراد المعنى الحقيقي فيحتمل
تخصيص العام وإرادة مجاز آخر، وبه صرح في المنهاج وشرحه.
والثالث: أن يتعارضا في لفظين، وله قسمان، لأن اللفظين إما في كلام واحد، بأن يتعلق حكم على عام، وعلم عدم تعلقه بمعناه الحقيقي على جميع أفراد العام، وكان للفظ الدال على الحكم معنى مجازي صح تعلقه بالجميع، وبهذا الوجه صرح المحقق الخوانساري (قدس سره) في شرح الدروس، أو يكونا في كلامين، وهو أيضا قسمان:
أحدهما: أن يتعارض حديثان مثلا، ولم يندفع التعارض، إلا بارتكاب تخصيص في أحدهما أو تجوز في الآخر وثانيهما: أن يتعارض حديثان، وكان أحدهما عاما مخصصا والآخر مستعملا في المعنى المجازي، فيكون لأحدهما مرجح على ترجيح أحدهما، ويستفاد هذا من كلام والدي العلامة طاب ثراه الأنيس.
ولكن في كون الأخير من باب تعارض المجاز والتخصيص نظر، بل كذلك سابقه مطلقا - ثم - فذهب الأكثر إلى تقدم التخصيص وتوقف فيه صاحب المعالم والوافية والمحقق الخوانساري، ويظهر أيضا من بعض كلمات أنيس المجتهدين وهو الحق.
198

الخوانساري ()، وصاحب المعالم ()، والوافية (1).
وظاهر ما حكي عن المحقق، لا يساعد على التوقف في جميع صور المسألة.
وأما صاحب الوافية فقوله بالتوقف مبني على عدم تعويله على شيء من المرجحات في المقام بقول مطلق، فهو مخالف في المرحلة الثالثة في مرحلتنا هذه.
وأما صاحب المعالم، فهو وإن لم يصرح بما نسب إليه، لكنه يلزمه ذلك، فإنه توقف في دوران الأمر بين التقييد والمجاز في لفظين، مع أن هذه الصورة أظهر مورد تقديم التقييد على المجاز، وكذا من أظهر صور تقديم التخصيص على المجاز، ولا ريب أن التقييد أولى من التخصيص، فإذا توقف في تقديم التقييد على المجاز، فيلزم التوقف في تقديم التخصيص عليه بطريق أولى. وكذا إذا لم يقدم التخصيص على المجاز في تلك الصورة، فلا يقدم عليه في غيرها من الصور بطريق أولى، فيلزم من انضمام هذه المقدمات أن صاحب المعالم قائل بالتوقف في مسألتنا هذه.
وكيف كان، فتوضيح الحال في المسألة هو أن التخصيص قد يكون ابتدائيا (2)،
(1) الوافية، مخطوط في تعارض الأحوال وإليك لفظه: والأولى التوقف في صورة التعارض إلا مع أمارة خارجية، أو داخلية توجب صرف اللفظ إلى أمر معين، إذ مما ذكروا في ترجيح البعض على البعض من كثرة المئونة وقلتها، وكثرة الوقوع وقلته، ونحو ذلك لا يحصل الظن فإن المعنى الفلاني هو المراد من اللفظ في هذا الموضع، وبعد تسليم الحصول أحيانا لا دليل على جواز الاعتماد على مثل هذه الظنون في الأحكام الشرعية، فإنها ليست من الظنون المسببة عن الوضع.
(2) التخصيص الابتدائي هو الوارد على العام الذي لم يرد عليه بعد تخصيص سوى ذلك (منه ره).
199

وقد يكون ثانويا، والمجاز أيضا قد يكون في لفظ العام، أو في لفظ آخر، في خطاب، أو في خطابين، وقد يضاف إليها كونه شائعا، كالأمر في الندب أو غير شائع، وليس بجيد، لأن الكلام هنا مع قطع النظر عن خصوصيات المجاز والتخصيص.
ومن هنا يظهر، أن تقسيم التخصيص إلى قريب وبعيد ليس في محله، ففي المسألة صور:
منها: الدوران بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز في لفظ واحد، سواء اتحد الحكم، كما في الآية السابقة - أعني قوله تعالى: (اقتلوا المشركين) ()، أو اختلف، كما إذا ورد (أكرم الشعراء) وعلم عدم وجوب إكرام بعضهم كالجهال على تقدير كون المراد بالشعراء معناه المعروف، ووجوب إكرام جميعهم على تقدير كون المراد به العلماء مجازا.
ويظهر الثمرة في العلماء الغير الشعراء، فعلى الأول لا يجب إكرامهم، وعلى الثاني يجب.
وكيف كان، فالأظهر رجحان التخصيص على المجاز، لغلبته حتى قيل: إنه ما من عام إلا وقد خص، وربما يعارض هذا بما ادعاه ابن جني من أغلبية المجازات.
وفيه: بعد المنع من تحقق تلك الغلبة، أن المراد بها غلبة المجاز بالمعنى الأعم، الشامل للتخصيص أيضا قبال الحقيقة، فلا تعارض. سلمنا أن مراده غلبة المجاز المقابل للتخصيص، لكن نقول: إن غير واحد من العلماء صرحوا بغلبة الحقائق، فيتعارض النقلان، أي نقلي الغلبة، لكن الترجيح لما ذهب إليه المعظم من غلبة الحقائق، سلمنا، لكنهما متعارضان، فيبقى غلبة التخصيص سليمة عن المعارض، فيرجح التخصيص على المجاز.
وكيف كان، فغلبة التخصيص في العمومات توجب رجحانه على المجاز، مضافا إلى غلبة إرادة الحقيقة التي غير العموم، فإنها تقتضي بقاء مادة (الشعراء) مثلا على حقيقتها، فهي بانضمام غلبة التخصيص في العموم ترجح إرادة الحقيقة من المادة، ويخصص العام.
هذا، مضافا إلى أن النسبة بين العموم وغيره من الظواهر، من نسبة الأصل إلى الدليل، فلذا يعد العموم
كالإطلاق من الأصول في مقابل المخصص والمقيد.
200

ومنها: الدوران بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز، في لفظين في خطاب واحد، كما إذا ورد (أكرم العلماء)، ثم قام الدليل القطعي من الخارج على عدم وجوب إكرام طائفة منهم، فحينئذ يدور الأمر بين التجوز في هيئة أكرم بحمله على الاستحباب مثلا، وبين التخصيص في العلماء بإخراج الطائفة المذكورين منه، وإبقاء الهيئة على ظاهرها.
والأقوى في هذه الصورة أيضا تقديم التخصيص للغلبة، ولقاعدة التسبب، إذ الشك في التخصيص مسبب عن الشك في المجاز في اللفظ الآخر، فإذا جرى أصالة الحقيقة في السبب، وهو اللفظ الآخر، يتعين التخصيص، فإن الأصل المذكور - حينئذ - مزيل لأصالة عدم التخصيص لكونه سببا، فتأمل.
مضافا إلى ما عرفت من كون العموم مع سائر الظواهر كالأصل والدليل.
ومنها: الدوران بين التخصيص الابتدائي والمجاز في لفظين في خطابين، وهذا هو مسألة بناء العام على الخاص، في العام والخاص المتنافيين الظاهر، كما إذا ورد جواز إكرام العلماء، ثم ورد لا تكرم النحويين، فدار الأمر بين التخصيص في العلماء، وبين المجاز في لا تكرم بحمله على الكراهة، وهذه الصورة أظهر صور تعارض التخصيص والمجاز، في رجحان التخصيص على المجاز.
ويرجح التخصيص على المجاز - مضافا إلى ما سبق في الصور السابقة من الغلبة عند العرف والعقلاء، وقاعدة السبب، مع تأمل في الثاني منهما هنا أيضا - أن الخاص حاكم على العام، فإن العمل بعموم غلبة استعمال العام في الخاص، وندرة استعماله في العموم معلق على ورود المخصص. فإذا ورد المخصص، فإن كان قطعيا من جميع الجهات، فهو وارد على العام، وإن كان ظنيا في الجملة، إما من جهة الصدور، وإما من جهة الدلالة، كما فيما نحن فيه، فهو حاكم على العام بمعنى أنه رافع لحكمه، وهو وجوب العمل به عن مورده.
وكيف كان، فهذه الصورة حكمها الظاهر أنه اتفاقي - أعني ترجيح التخصيص -.
فإذا عرفت الحال في الدوران بين التخصيص الابتدائي وبين المجاز، فقس عليها الحال في الدوران بين التخصيص الثانوي، وبين المجاز في جميع الصور المذكورة.
وقد يناقش في الاستدلال بالغلبة المذكورة هنا بأن غاية ما يقتضي رجحان
201

التخصيص على المجاز في العمومات التي لم تخصص بعد، وأما فيما خصصت ودار الأمر بين تخصيصها زائدا على ما علم وبين المجاز فلا.
ويمكن الذب عنه بأنه إذا ثبت ترجيح التخصيص في العام الذي لم يخصص، ففي غيره بالأولى لوهن العموم بعد تطرق التخصيص إليه، حتى أنه قيل بخروجه بذلك عن الحجية في الباقي.
وفيه نظر: فإن مرجع ذلك إلى التمسك بالأولوية، لا بالغلبة وتسليم عدم جريانها هنا، فالأولى التمسك في المقام بغيرها، من قاعدة التسبيب فيما يجري فيها من الصور، ومن قاعدة الحكومة مع إمكان التمسك بالأولوية أيضا.
المسألة التاسعة: الدوران بين التخصيص والإضمار،
قيل المعروف تساوي احتماليهما، والمحكي عن ظاهر كلام الأكثر بناء ترجيح التخصيص على الإضمار على مساواة الإضمار مع المجاز، فعليه يقدم على الإضمار، لما عرفت من رجحانه على المجاز، والراجح على شيء راجح على ما يساوي ذلك الشيء، وإلا، فمع ترجيح الإضمار على المجاز - كما عن المنية (1) - فهما متساويان لا رجحان لأحدهما على الآخر، مثاله: قوله صلى الله عليه وآله (لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل) فإن الإجماع قائم على عدم وجوب العزم من الليل في صوم التطوع، فحينئذ لا بد، إما من تخصيص الصيام بالواجب وإما من إضمار الكمال، حتى يصلح لشموله للتطوع أيضا، فإن التطوع إذا لم يعزم به من الليل لا يكون كاملا.
وتظهر الثمرة في الصيام الواجب، حيث أنه على تخصيص الصيام به النفي على حقيقته، فالصوم الواجب الذي لم ينو من الليل ليس بصوم شرعا، بمعنى أنه ليس بصحيح، وعلى إضمار الكمال، فالحديث ساكت عن حكم الصوم الذي لم ينو من الليل، من حيث الصحة والفساد، إذ غاية ما يدل عليه الحديث حينئذ، إنما هو نفي الكمال، وهو لا يدل على صحته، أو على فساده، فإنه أعم منهما، يجوز اجتماعه مع كل
(1) منية اللبيب المخطوط، في تعارض الأحوال: وسابعها: معارضة التخصيص للإضمار كقوله عليه السلام «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل» فيقول الخصم: إنه يتناول بعمومه الفرض والنفل وخص النفل بجواز عقد نيته إلى الزوال، فيبقى حجة في الفرض، فيقول الآخر: بل يجوز التأخير في الفرض أيضا إلى الزوال، لأن في الخبر إضمارا، وتقديره لا صيام كاملا أو فاضلا، فالأول أولى بدليل إن التخصيص أولى من المجاز المساوي للإضمار. والأولى من المساوي لشيء يكون أولى من ذلك الشيء.
202

واحد منهما، فلا يجوز الاستدلال به حينئذ، لا على صحته، ولا على فساده، بخلاف الأول، إذ عليه يكون دليلا على فساده.
هذا، وفي التمسك به لما نحن فيه نظر، لأن الشك في التخصيص مسبب عن الشك في الإضمار، فبأصالة عدم الإضمار يتعين التخصيص، فيخرج عن محل الكلام، لما عرفت في أول عنوان تعارض الأحوال أن النزاع فيما لم يكن بين حالين من الأحوال المخالفة للأصل تسبيب.
ومن هنا يظهر ورود هذا الإشكال في بعض الصور المتقدمة التي عرفت قاعدة التسبيب فيها.
لكن الإنصاف منع التسبيب هنا، بل الشك فيهما مسبب عن ثالث، وهو مراد المتكلم مع أنه يرد عليه عكس التسبب، إذ كما يقال: إن الشك في التخصيص مسبب عن الشك في الإضمار، كذلك يمكن أن يقال: بالعكس وليس الأصل أولى من العكس، فتدبر.
وكيف كان، فالظاهر رجحان التخصيص على الإضمار من غير توقف على رجحان المجاز عليه للغلبة، ولحكومة أصالة عدم الإضمار على أصالة العموم.
لكن قد يستشكل في ترجيحه على الإضمار في الحديث المذكور، نظرا إلى أنه مع الإضمار إنما ارتكب خلاف أصل واحد، ومع التخصيص، لا بد من التزام أمرين مخالفين للأصل لا محالة، أحدهما نفس التخصيص: والثاني أحد الأمور الثلاثة - على سبيل منع الخلو -: نقل الصيام إلى الصحيح شرعا، أو استعماله فيه مجازا، أو إضمار الصحة، وذلك لعدم حمله على معناه لغة، وهو مطلق الإمساك، إذ عليه لا يقبل التخصيص، للزوم الكذب، للقطع بعدم انتفاء مطلق الإمساك في الصيام الواجب الغير المنوي من الليل، فلا بد من إرجاع النفي إلى الصحة، إما بإضمارها في الكلام، وإما باستعمال الصيام في الصحيح مجازا، وإما باستعماله فيه من جهة كونه حقيقة شرعية، فيكون هذا إشكالا آخر على التمثيل بذلك الحديث، وكيف كان، فالقاعدة تقتضي رجحان الإضمار في الحديث.
ويمكن التفصي عنه، بأنه لو لم يكن غلبة للتخصيص، لكان الأمر كما ذكر، إلا أنها لما كانت موجودة، فتكون مرجحة للتخصيص، ولا يعارضها أصالة أحد الأمور الثلاثة المتقدمة، لأنها واردة عليها حيث إنها أمارة، وتلك من الأصول، فتأمل.
203

ثم إنه ظهر من تقرير الإشكال، أن التمثيل بالحديث على مذهب الصحيحي في أسماء العبادات سالم عن هذا
الإشكال، إذ بعد البناء على ثبوت الحقيقة الشرعية في الصيام مثلا، فلا يجري أصالة عدم نقله، لثبوته بالدليل فينحصر الدوران فيما بين التخصيص والإضمار.
المسألة العاشرة: الدوران بين المجاز والإضمار،
مثاله قوله تعالى: (واسأل القرية) لدوران الأمر فيه بين إرادة الأهل من القرية مجازا، وبين إضمار الأهل، لعدم قابلية القرية من حيث هي للسؤال.
وقد يناقش بأن لفظ القرية قيل إنه نقل إلى الأهل، كما قيل إن لفظ جماعة نقل إلى بيوتهم، كما يقال أحرق الجماعة أي بيوتهم، فعلى هذا يخرج عن كونه مثالا لما نحن فيه، بل يدور الأمر فيها أي القرية بين النقل والإضمار.
وفيه: منع احتمال نقل القرية، بل هي باقية على معناها الأصلي.
نعم لا ثمرة في جعل مناط التمثيل لفظ القرية، للقطع بعدم ثبوت الحكم لنفس القرية، بل لسكانها.
والأولى جعل مورد التمسك لفظ السؤال، ويقال: إن الأمر دائر بين إضمار أهل، وبقاء السؤال على حقيقته، وبين التجوز في السؤال، بإرادة السؤال الصوري منه، وعدم الإضمار، فتظهر الثمرة بينهما حينئذ، إذ على الإضمار يكون المكلف به السؤال الحقيقي، فلا بد من سؤال أهل القرية، وعلى المجاز يكون السؤال الصوري، ويحصل الامتثال بمجرد السؤال الصوري، ومعنى السؤال الصوري أن يجعل ما لا يصلح للسؤال منزلة من يصلح له، فيسأل منه ما يسأل ممن يصلح له، وهذا شائع في العرف.
وكيف كان، فلا يخفى أن كلا من المجاز والإضمار خلاف الأصل، ولا رجحان لأحدهما على الآخر، فيتساويان، فيجب التوقف، لكن في كون الإضمار مخالفا للأصل مطلقا تأمل، إذ لو قام دليل على المحذوف، فلا حاجة إلى ذكره، فلا يكون تركه مخالفا للظاهر، بل قد يعد ذكره لغوا حينئذ بخلاف المجاز، لخروجه عن مقتضى الظاهر على كل حال.
نعم لو قيل بثبوت الوضع النوعي في المركبات، وجعلت الهيئة الموضوعة هي ما كانت طارئة على الكلمات التي يراد بيان معانيها الإفرادية، للتوصل إلى المعنى المركب بعد ملاحظة وضع الهيئة، من دون إسقاط شيء منها، كان في الحذف خروج عن ظاهر
204

الوضع، إلا أنه أجاز الواضع ذلك مع قيام القرينة، فتأمل. هذه حال الدورانات العشرة المعروفة، وقد عرفت أن النسخ والتقييد - أيضا - من الأحوال التي يحصل من ملاحظتها إحدى عشرة صورة أخرى، خمس منها تحصل من ملاحظة النسخ مع ملاحظة كل من الأمور الخمسة المذكورة، وخمس أخرى من ملاحظة التقييد معها، والحادية عشرة من دوران الأمر بينهما.
الأولى: الدوران بين الاشتراك والنسخ،
وحكى تصريح المنية (1) بمرجوحية النسخ بالنسبة إلى الجميع، ولعله لندرته بالنسبة إلى كل منها، واستدل الفخر الرازي، على ما حكي عنه على ترجيح الاشتراك، بأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد والقياس بخلاف التخصيص.
ورده العلامة (قدس سره) واعترض عليه: بأن هذا دليل على رجحان التخصيص عليه، لا رجحان الاشتراك (2).
ويمكن توجيه كلامه بأنه مسوق لدفع توهم المساواة بين التخصيص والنسخ، باعتبار كون النسخ - أيضا - تخصيصا، ولو بحسب الأزمان، لا أن مراده الاستدلال به على ترجيح الاشتراك، بل كان الترجيح عنده مسلما، وإنما ينبه بهذا الكلام إلى دفع التوهم المذكور.
ويمكن أن يوجه كونه دليلا على مدعاه، لكن بانضمام مقدمة أخرى، وهي مساواة الاشتراك للتخصيص بأن يكون إحدى المقدمتين مصرحة، والأخرى مطوية، فعلى ملاحظة تلك المقدمة يتم المطلوب، لأنه إذا رجح التخصيص على النسخ، فيلزمه
(1) منية اللبيب مخطوط في تعارض الأحوال وإليك نصه: واعلم أن المراد بالتخصيص في هذه المعارضات إنما هو التخصيص في الأشخاص، أما التخصيص في الأزمان - وهو النسخ - فهو مرجوح، وكل من الاحتمالات الخمسة أولى منه عند معارضته إياه. واحتج فخر الدين على أن الاشتراك أولى من النسخ، بأن النسخ يحتاج فيه ما لا يحتاج في تخصيص العام بدليل جواز تخصيص العام بخبر الواحد والقياس، وعدم جواز النسخ بهما، والعلة في ذلك أن الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل، وبعد التخصيص لا يصير كالباطل، واعترضه المصنف طاب ثراه بأن ذلك إنما يدل على كون التخصيص أولى من النسخ وليس فيه دلالة على كون الاشتراك أولى من النسخ الذي هو المطلوب.
(2) نهاية الوصول: 36 مخطوط، في مبحث تعارض الأحوال وإليك نصه:
وفيه نظر، فان هذا يقتضي ترجيح التخصيص على النسخ وأن التخصيص أولى من الاشتراك والنسخ، وهذا لا يقتضي رجحان الاشتراك على النسخ، ولا العكس، بل الوجه توقف الاشتراك على الوضع، وتوقف النسخ عليه وعلى رفعه الحكم.
205

رجحان الاشتراك عليه أيضا بمقتضى وجه المساواة، لكن قد عرفت منع المساواة بينهما، وترجيح التخصيص على الاشتراك.
وكيف كان، فمثال ما نحن فيه ما لو قال النبي صلى الله عليه وآله: صلوا في الوقت الفلاني، ثم قال بعد ذلك، طوفوا في ذلك الوقت، إذ احتمل كون الطواف مشتركا بين معناه المعروف، وبين المعنى الآخر، كالصلاة مثلا، فلو بنى على الاشتراك لم يلزم نسخ، لإمكان حمله على الصلاة المأمور بها في الخطاب الأول، وإلا تعين النسخ مع وجود شرائطه، كحضور وقت العمل، لمنافاة الأمر به في الوقت الخاص، لبقاء الأمر بالصلاة في ذلك الوقت، فيجب نسخ وجوب الصلاة في ذلك الوقت.
ومثاله أيضا ما إذا قال المولى (اجعل ثوبي جونا) وعلمنا بوضع الجون للأحمر، ثم قال بعد ذلك، اجعله أسود، فشك حينئذ في وضع الجون للأسود أيضا، حتى يكون مشتركا بين المعنيين، فيكون قوله الثاني قرينة معينة لإرادة ذلك من أول الأمر، أو أنه نسخ الحكم الأول بذلك من غير أن يكون هناك اشتراك بين المعنيين، وليفرض هناك انتفاء العلاقة المصححة للتجوز، لئلا يقوم احتمال المجاز أيضا.
والأولى تقرير المثال الأول - أيضا - هكذا، بأن يقال: إنه صلى الله عليه وآله قال أولا: صلوا في الوقت الفلاني، وعلمنا بوضع الصلاة للأركان المخصوصة، ثم قال:
طوفوا في ذلك الوقت، فشك، في أن الصلاة مشتركة بين الأركان المخصوصة وبين الطواف، وأريد منها الطواف من أول الأمر، ويكون الأمر بالطواف قرينة معينة على إرادة الطواف منها، أو أن وضعها مختص بالأركان المخصوصة، فأريد منها تلك الأركان، فيكون الأمر بالطواف نسخا له، وليفرض - هنا - عدم العلاقة بين الصلاة والطواف، أو فرض القطع بعدم استعمالها في الطواف مجازا، بحيث دار الأمر فيها بين الاشتراك والنسخ. ثم إنه بقي ست صور أخرى من صور الدورانات الإحدى عشرة خمس منها بملاحظة دوران الأمر بين التقييد وغيره، غير النسخ، وواحدة بملاحظة دوران الأمر بينه وبين النسخ.
ومجمل الكلام في الخمس وتحقيقه، أن التقييد أرجح من غيره، من الأمور الخمسة المخالفة للأصل، لأن التخصيص أرجح من بين الأمور الخمسة، والتقييد أرجح من التخصيص، أما رجحان التخصيص على غيره فقد مر.
206

وأما رجحان التقييد على التخصيص، فلأنه إذا دار الأمر بينهما، فهو إما أن يكون في خطابين أو في لفظين في خطاب، وإما أن يكون في لفظ واحد، مثاله في خطابين أن يقول (أكرم العلماء) ثم قال: (إن ضربك رجل فلا تكرمه) فدار الأمر بين تخصيص العام في الأول بغير الضارب بحمله على العلماء الغير الضاربين، وبين تقييد الرجل في الثاني بغير العالم.
ومثاله في لفظين في خطاب، أن يقول (أعط كل واحد من العلماء عبدا)، وعلمنا من الخارج أنه لا يجوز
إعطاء عبد حبشي زيدا العالم، فدار الأمر بين تقييد العبد بغير الحبشي وإدخال زيد في العموم وبين إطلاقه وإخراج زيد من العموم.
ومثاله في لفظ واحد قوله تعالى (أوفوا بالعقود) فإنه بعد قيام الإجماع والنص على عدم وجوب الوفاء بالبيع قبل التفرق من مجلسه، يدور الأمر بين تخصيص العام بغير البيع، وبين تقييد الحكم بما بعد التفرق من مجلس العقد بالنسبة إلى كل عقد، هكذا مثلوا لذلك.
ولكن الإنصاف، أنه ليس من مثال ما نحن فيه في شيء، أما أولا فلأنه ليس الدوران فيه في لفظ، بل في لفظين، أحدهما: صيغة الأمر، وهو (أوفوا) وثانيهما: اللفظ العام وهو (العقود).
اللهم إلا أن يقال: إنه لا معنى لتقييد الأمر، بل تقييد كل حكم باعتبار تقييد متعلقه، وهو تابع له، فيرجع التقييد فيه إلى تقييد متعلقه، وهو في المثال مادة العقد، فيدور الأمر بين تقيد مادة العقد بغير البيع، وإبقاء الهيئة المفيدة للعموم على عمومها، وبين تخصيصها بغير البيع، فافهم.
وأما ثانيا: فلأنه ليس الدوران هنا بين التقييد والتخصيص، فإن الذي يقتضيه العام، إنما هو شموله لكل فرد من أفراد العقد حتى البيع، وثبوت الحكم لكل فرد في الجملة، وأما إن الحكم ثابت لكل فرد في جميع الأحوال، فليس من مفاد العام، بل هو مقتضى إطلاق الأمر، وهو أوفوا، وقيام الدليل الخارجي على عدم ثبوته في فرد من أفراد العام، كالبيع في بعض حالاته إنما يوجب تقييد الأمر بالنسبة إلى المادة المذكورة، ولا دخل له بتخصيص العام، لأنه لم يقتض ثبوت الحكم للبيع في خصوص المادة المذكورة حتى ينافيه الدليل الخارجي، فأين الدوران بين التقييد والتخصيص
207

هذا، وكيف كان، فلا شبهة في رجحان التقييد على التخصيص في الصورتين الأوليين - أعني صورة الدوران بينهما في خطابين أو في لفظين في خطاب - أما أولا، فلغلبة التقييد على التخصيص، وأما ثانيا، فلأن إطلاق المطلق على المختار إنما هو مقتضى الحكمة، وعدم العثور ببيان بعض الأفراد، وعموم العام بمقتضى الوضع، فإذا كان العموم منتهيا إلى الوضع، فيكون بيانا لجميع الأفراد، فحينئذ لا مورد، ولا موضوع للإطلاق، فالعموم وارد على الإطلاق، فيجب التزام التقييد.
وهذا هو السر في تجويزهم التقييد حتى يبقى () فرد واحد ويؤيد ذلك كونه حقيقة في بعض الأفراد، كما هو المختار، وكونه موضوعا للطبيعة المهملة دون التخصيص، ومنعوا عن تخصيص الأكثر، فيجب - على المثال الأول - تقييد الرجل بغير العالم، وفي المثال الثاني تقييد العبد بغير الحبشي.
والحاصل: أن العام بالنسبة إلى المطلق من قبيل الدليل، والأصل العملي، كما أن إطلاق المطلق دليل في مقابل الأصول العملية، نظرا إلى كون المقام مقام البيان، فعدم التقييد دليل على عدمه.
وأما في الصورة الأخيرة - أعني فيما إذا كان الدوران في لفظ فالظاهر رجحان التخصيص - إذ بعد قيام الدليل على خروج بعض الأفراد من تحت العام بالنسبة إلى بعض الأحيان، لا بد من الحكم بخروجه مطلقا إذ المفروض عدم اعتبار الأزمنة قيدا للفرد بحيث يكون ذلك الفرد المخرج بالنسبة إلى هذا الجزء من الزمان فردا من العام، وبالنسبة إلى الزمان الآخر فردا آخر، بل الزمان مأخوذ بنحو الظرفية، فالزمان - حينئذ - وإن طال، فهو بطوله اعتبر أمرا واحدا، ولم يلاحظ كونه مشخصا للفرد بوجه بل اعتبر من باب اللابدية، حيث إن الفعل لا بد له من زمان.
وكيف كان، فالزمان غير منظور إليه بوجه في الفردية، فلازم ذلك خروج الفرد المخرج عن تحت العام مطلقا.
نعم لو ثبت اعتبار الزمان في الفردية يكون الفردية بالنسبة إلى كل زمان فردا مغايرا له بالنسبة إلى الزمان الآخر، إما بأن يكون اللفظ عاما بالوضع بالنسبة إلى الأزمان، وأما بسبب القرينة، فلا ريب أن خروج الفرد بالنسبة إلى بعض الأزمنة لا يستلزم خروجه بالنسبة إلى البعض الآخر، فيحكم بدخوله في العام الأفرادي بالنسبة
208

إلى الأزمان الأخرى، لكنه خارج عن عنوان المطلق، بل هو أيضا عام كالعام الأفرادي، وقيام الدليل الخارجي على رفع الحكم عن بعض الأزمنة تخصيص لا تقييد فيكون الأمر دائرا بين التخصيصين أفرادي وأزماني والثاني أولى.
ثم إن الدليل على كون المطلقات من قبيل الأول - أعني مما لم يعتره الزمان، إلا بعنوان الظرفية - الإجماع على استصحاب عدم النسخ في المطلقات فلو كان الزمان بعنوان الفردية، ويكون كل فرد منه فردا وموضوعا آخر لم يجر استصحاب عدم النسخ، لكونه إسراء لحكم من موضوع إلى آخر.
ثم إنا قد أشرنا سابقا إلى الإشكال في كون (أوفوا بالعقود) من مثال الوجه الثالث.
ولكن يمكن دفعه بأنه لا شبهة في أنه بعد قيام الإجماع والنص على عدم وجوب الوفاء بالبيع قبل التفرق، يدور الأمر بين حمل القضية على السالبة بانتفاء الموضوع، بإخراج البيع رأسا عن العقود، أو حملها على السالبة بانتفاء المحمول، بأن يحكم بنفي الحكم، وهو وجوب الوفاء عن صورة الاجتماع أعني قبل التفرق، بالنسبة إلى كل عقد، والثاني ليس إلا التقييد.
فمن هنا ظهر ما ذكره بعض المحققين، من أن الدوران ليس بين التقييد والتخصيص، والمحكي عن السيد الصدر - الشارح للوافية (1) المنع، ونسبه إلى الماتن على ما فهم منه، حيث قال: إن تلك المزايا لا توجب رجحان أحد المعاني على الآخر في الاعتقاد، والذي يوجبه إنما هي غلبة الإرادة، ولا ملازمة بينها وبين المزايا المذكورة، ولو سلمت الملازمة المذكورة، فهي بإطلاقها ممنوعة، بل المسلم منها إنما هو بالنسبة إلى أقل قليل من العرب، ولم يعلم كون الشارع منهم، ولو سلم كونه منهم، فلا دليل على اعتبار هذا الظن الحاصل من تلك الغلبة. انتهى كلامه (قدس سره).
وفيه: أنه إن أريد بالمزايا التي ذكرها القوم من المزايا الآتية، فعدم إيجابها لرجحان معنى في الاعتقاد - فيما يختلف المعنى باختلاف الأحوال - مسلم
(1) شرح وافية الأصول للسيد صدر الدين مخطوط، ولا يخفى أن هذا المحكي ليس بنص كلامه، بل هو نقل بالمعنى، ونص العبارة آت عن قريب في متن كلام المقرر: 241 عند قوله: وقال الشارح بعد شرح ما ذكر في المتن.
209

حيث إن غرض المتكلم أولا وبالذات إفادة مطلبه، فلا يرفع عنه بإتيان شيء يعد أحسن من شيء آخر عند المحاورة، وأما فيما لم يختلف المعنى باختلافها فممنوع، إذ لا ريب أنه لا يختل مراده على الوجهين، فيدور الأمر بين إيراد مراده بأحسن الوجهين وأرجحهما، أو بمرجوحهما، ولا ريب أن الأرجحية حينئذ بنفسها مقتضية للعدم من ذاتها، إذا كان عاقلا غير عابث.
وإن أريد ما اخترناه من المزايا الآتية من الغلبة، والأصول، فعدم إيجابها لما ذكر ممنوع، كما اعترف به، بل هي موجبة لرجحان ذاتها إلى الاعتقاد مطلقا.
وأما منعه الكبرى فالجواب عنه ما سيجيء من الأدلة الدالة عليها.
وكيف كان، فلنا على الكبرى المذكورة وجوه أربعة، منها ما ذكره القمي قدس سره في القوانين ():
أحدها: الإجماع العملي من العلماء.
الثاني: دليل الانسداد.
الثالث: الاستقراء في حال الشارع، وتتبعه حيث إنه علم - بالاستقراء من حاله - اعتبار الغلبة، ويؤيده الخبر المروي في الجلد المطروح، حيث ذكر فيه: إنه إذا كان الغالب فيها المسلمون فهو طاهر.
وفي كل منها نظر:
أما الإجماع، فلعدم تحققه لنا.
وأما دليل الانسداد، فلأنه - بناء عليه - يلزم باتباع الظن الفعلي، ولا يؤخذ بالظنون النوعية، فهو إن كان حاصلا في أحد الطرفين يؤخذ به، ويطرح الآخر، وإلا فيطرح الطرفان.
وأما الاستقراء، فقطعيته ممنوعة، وغايته حصول الظن منه، فيكون طرحا.
المرحلة الثالثة في اعتبار المرجحات، المزايا المشار إليها في المرحلة الثانية،
فنقول:
ظاهر المشهور اعتبارها، حيث إنهم عقدوا مسألة تعارض الأحوال لتشخيص المزايا، وسكتوا عن البحث في كبراها، ولم يعقدوا لها بابا، كما عقدوا لصغراها، فذلك
210

يكشف عن أن الكبرى مسلمة عندهم، وإنما النزاع في تشخيص صغريات المزايا، والمرجحات المذكورة.
والمحكي عن السيد الصدر، الشارح للوافية، وعن الماتن أيضا، المنع من صحة التعويل على تلك المرجحات.
قال الماتن (). الأولى التوقف في صور التعارض، إلا مع أمارة خارجية، أو داخلية توجب صرف اللفظ إلى أمر معين معللا بأن ما ذكروه في ترجيح البعض على البعض، من كثرة المؤن وقلتها، وكثرة الوقوع وقلته، ونحو ذلك لا يحصل منه الظن، بأن المعنى الفلاني هو المراد من اللفظ في هذا الوضع.
وقال الشارح () - بعد شرح ما ذكره الماتن:
إن حاصل الوجهين، يعني الوجهين المذكورين لترجيح الإضمار على الاشتراك وبالعكس: إن المتكلم يختار الأفيد، والأقل مفسدة، والأحسن، إلا عند الضرورة، فيكون في كلامه أكثر وأغلب، وعند الاحتمال يحمل على الأغلب، وعلى هذا فقس.
ونحن نقول: إن من ملاحظة هذه الوجوه يحصل لنا اعتقاد أن اللائق - والحري، وما ينبغي أن يكون هو غلبة ما فيه الرجحان، وأما وقوع هذه الغلبة، فلا يحصل لنا الظن به، لأنا كثيرا ما نرى أمورا نعلم فيها مرجحات على نحو خاص، ثم نرى الواقع على خلافه.
ألا ترى أن كل عاقل يحصل له اعتقاد أن اللائق تقديم أبناء الدين على أبناء الدنيا، لمرجحات كثيرة مع أن الواقع على خلافه، ومثل هذا كثير، فنمنع الوقوع هنا أيضا، فلو أعرضت عن هذا، وتمسكت بترجيح الغالب بحسب الواقع فنقول:
القدر المسلم هو غلبة المجاز على غيره من الخمسة، أما غلبة غيره على غيره فلا.
ثم غلبة المجاز إنما تكون في أكثر كلام أقل العرب (1)، فعلى المجتهد المعول
(1) قال السيد صدر الدين في هامش كتابه (وهو شرح الوافية) في مقام بيان قوله (أقل العرب) ما هذا نصه:
قولنا (إن غلبة المجاز إنما تكون في أكثر كلام أقل العرب إلخ) المراد من أقل العرب الخطباء، وأهل الإنشاء من أرباب الرسائل والشعراء، وهم الذين أساس تكلمهم على إفادة المزايا التي تكفل ببيانها البيانيون، ولو لا الضرورة لأتوا بكلام يفيد أصل المعنى بغير مزية إلخ.
211

على مثل هذا الظن، أن يثبت أن الشارع من هذا الأقل، إذ ليس أكثر العرب أكثر كلامهم إلا المعاني الحقيقية من اللغوية وغيرها، فليس المتجوز الأعم الأغلب من أفراد المتكلم، حتى يحمل من لا يعلم حاله عليه، ومن أين لنا إثبات هذا.
ثم ذكر أن الشارع ليس من هذا الأقل - لأن غرضه الأصلي تفهيم المعاني، لا فوائد المجاز، واستوضحه.
ثم قال: فظهر من مجموع هذا الكلام بطوله، أن العلة التي من أجلها يقدم الحقيقة على غيرها، ويظن أنها المراد، هي جعل المتكلم الأصل والقاعدة في كلامه إرادتها، وأنه لا يعدل عنها إلا لضرورة وداع ليسا موجودين هنا، ولهذا أشار المصنف (قدس سره) إلى منع إفادة هذا المرجحات الظن بالمراد، وبعد التسليم إلى منع اعتباره إذ الإجماع الذي هو الدليل - في الحقيقة - لم يثبت في غيرها. انتهى موضع الحاجة على ما حكي عنه.
وحاصل ما عن الماتن والشارح (قدس سرهما): أولا منع الصغرى ثم منع كبراها.
نقول: فيما ذكره الشارح أنظار، لا بأس بالإشارة إليها:
الأول تمثيله بتقديم أبناء الدنيا لما نحن فيه، إذ لا ريب أن ذلك لدواع نفسانية وأغراض دنيوية، بحيث لولاها، لما ارتكبوا ذلك أبدا، فحينئذ نقول:
إن تقديم المتكلم ذا المزية على غيره في مقام التكلم، إما فيما لا يختلف المعنى المقصود تفهيمه بسبب التقديم، أو فيما يختلف.
أما على الأول: كما في مثال (اسأل القرية) فالذي ذكره (قدس سره) ممنوع، بل يجب تقديم الراجح، لأن المتكلم العاقل الفصيح لا يعدل عن طريق الأفصح إلى غيره إلا لضرورة، فإذا فرضنا أن مراده لا يختل بإيراد المراد بأفصح الطريقين، فلا يعقل منه اختيار المرجوح، ولا يعقل هنا دواع نفسانية، توجب اختياره، كما فيما ذكره من المثال.
وأما على الثاني، فهو مسلم فإن الغرض الأصلي من إيراد الكلام تفهيم المعنى المراد، فلا يجوز اختيار الراجح، إذا كان اختياره مفوتا لغرض التفهيم، لكن هذا وارد على القوم، حيث اعتمدوا على الوجوه الآتية لعدم صلوحها، لكنها مرجحة لذيها على غيره، كما ذكرنا في المرحلة السابقة.
212

لكنا في هذا المقام نعتمد على الغلبة إن كانت - أعني غلبة الإرادة - ولا نستعمل ما ذكروه من الوجوه الآتية في استكشاف المراد، وأما اعتبار تلك الغلبة فسيجيء الكلام فيه الثاني: قوله القدر المسلم هو غلبة المجاز على غيره من الخمسة، إذ لا يخفى أن التخصيص والتقييد أغلب من غيرهما، حتى المجاز، وإن أراد بالمجاز ما يشملهما لم يبق لقوله من الخمسة معنى، كما لا يخفى.
الثالث: قوله (وأما غلبة غيره على غيره فلا). إذ لا يخفى أن غلبة بعضها على بعضها الآخر مما لا ينكره ذو نصفة، كالتقييد بالنسبة إلى غيره، بل التخصيص بالنسبة إلى غير التقييد.
الرابع: قوله (وأغلبية المجاز إنما تكون في أكثر كلام أقل العرب، فإن أغلبية المجاز على الإضمار، أو النقل لا يختص بكلام متكلم، وأي عربي ظهر أن الإضمار مثلا في كلامه بقدر المجاز، وعلى هذا فقس.
الخامس: قوله (إذ ليس أكثر العرب أكثر كلامهم إلا المعاني الحقيقية، من اللغوية وغيرها... إلخ) إذ لا يخفى ما فيه من الخلط والاشتباه، إذ الكلام ليس في أغلبية المجاز من الحقيقة، ولم يقل أحد بترجيحه عليها، كما سبق، بل الكلام في أغلبية المجاز - مثلا - بالنسبة إلى سائر الوجوه المخالفة للأصل، ولا يقدح في هذه الغلبة، كون الحقائق أغلب.
السادس: (قوله ومن أين إثبات هذا) فإنه إن أراد إثبات أن الشارع من الأقل الذي يغلب مجازات كلامه على حقائقه، فقد عرفت خروجه عن محل الكلام، وإن أراد إثبات كونه من الأقل الذي يغلب مجازات كلامه على سائر الوجوه المخالف للأصل، فقد ظهر أن أغلبية المجاز من الإضمار لا يختص بعربي دون عربي.
السابع: قوله (إذ الإجماع الذي هو دليل الحقيقة لم يثبت في المجاز) لأنا قد أسلفنا الكلام في وجه التعويل على أصالة الحقيقة أنه ليس دليلا تعبديا من الشارع من الإجماع، وغيره، بل هو من الأصول العدمية التي ثبت اعتبارها ببناء العقلاء وقد ظهر مما ذكرنا - في مسائل الدوران - أن جملة من الترجيحات مستندة إلى تلك الأصول أيضا، فلا يبقى مجال لمطالبته بالدليل، إلا ما عدا تلك الجملة، مما لا ينهض فيه أصل سالم عن مزاحمة المعارض، وقد ظهر أن ما عدا تلك الجملة
213

- أيضا - بين ما يستند إلى بناء العقلاء والغلبة، وبين ما يستند إلى خصوص الغلبة، مثلا إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر، كقوله (أكرم العلماء) (ولا تكرم زيدا) فهذا مما استقر فيه بناء العرف والعقلاء إلى ترجيح التخصيص على ارتكاب التجوز في المخصص، فالترجيح في مثله أيضا مستند إلى الدليل، وهو بناء العرف والعقلاء.
بل يمكن الاستدلال فيه بالأصل أيضا، لأن الشك في التخصيص فيه مسبب عن الشك في التجوز، فأصالة الحقيقة في المخصص محكمة على أصالة عدم التخصيص، فكل ما هو من هذا القبيل من المرجحات المذكورة يشارك مع أصالة الحقيقة في الدليل، سواء كان هو الإجماع، أو غيره، فلم يبق إلا الموارد التي لا مدرك للترجيح فيها سوى الظن الحاصل من الغلبة الذي منع (قدس سره) من اعتباره، مثل ترجيح النقل على التخصيص، وترجيح التخصيص على غيره في غير مسألة العام والخاص المتنافيي الظاهر، وغيرهما من الترجيحات المستندة إلى صرف الغلبة، فلا بد من إقامة الدليل على اعتبار الغلبة في مقام ترجيح بعض الأحوال على بعض.
فالتحقيق في جواب السيد الشارح للوافية، وعن الماتن، لو كان مذهبه كما فهمه الشارح - أعني منع اعتبار المرجحات، وعدم صحة التعويل عليها - أن مرجع المرجحات المذكورة إلى أحد الأمور الثلاثة على سبيل منع الخلو: الأصل السليم عن المعارض، وبناء العقلاء، والغلبة.
لا شبهة في وجوب التعويل عليها إذا كانت راجعة إلى أحد الأولين - أعني الأصل السليم عن المعارض، وبناء العقلاء - فإن العمل بالأصول اللفظية، والوضعية متفق عليه من الكل، لا ينكره أحد، حتى السيد المذكور، والغرض من الدليل السليم في المقام، مع أن تعارض الأحوال يرجع إلى تعارض الأصول، إنما هو الأصل السببي، المزيل لصاحبه المعارض له، كما في المثال المتقدم، حيث عرفت أن أصالة الحقيقة في المخصص مزيلة لأصالة العموم في العام، فيجب اختيار التخصيص.
وأما المرجحات الراجعة إلى الغلبة المجردة، فالدليل على صحة التعويل عليها أنها توجب ظهور اللفظ في المعنى المطابق للغالب، فيكون الظن الحاصل منها من الظنون اللفظية، التي قامت الضرورة على اعتبارها، كما مر.
وإن أبى وامتنع السيد المذكور من ذلك، فنقول: قد قام الإجماع على العمل
214

بالغلبة في مقام التعيين، كما يستفاد من المحقق القمي () (قدس سره) وإن كان ظاهر كلامه عدم ظهور الخلاف، لكن التأمل يشهد بأن مراده الإجماع.
وإن أبي السيد ذلك - أيضا - نقول: قد قام الإجماع على العمل بأقوى الدليلين، ولا يخفى أنه إذا تعارض الأصول في الدورانات فالغلبة موجبة لقوة ذيها على غيره.
وإن أبى عن ذلك - أيضا - نقول: إنه لا ريب أن تعارض الأحوال مرجعه إلى تعارض الأصول، ولا يخفى أنه إذا كان أحد الأصلين سببيا يجب الأخذ بمؤداه، لكونه مزيلا لصاحبه، وفي الحقيقة هذه الصورة خارجة عن صور التعارض.
وإن لم يكن أحدهما سببيا، وتحقق التعارض بينهما، فلا بد من التمشي بقاعدة التعارض، فنقول: إن الأصل عند تكافؤ أصلين من هذه الأصول إما التخيير، كما في صورة تكافؤ الأدلة، وإما التوقف.
فعلى الأول: لا شبهة في وجوب الأخذ بذي المزية لأنه الأصل حينئذ فإن التخيير إن كان شرعيا فلا يشمل أدلته لصورة وجود المرجح، وإن كان عقليا لا يحكم العقل به - حينئذ - فيتعين الأخذ بالراجح.
وكيف كان، فوجوب الأخذ بالمرجح حينئذ موافق للأصل - أعني القاعدة العقلية - لا يحتاج ثبوته إلى دليل، وقولهم: إن المرجح كالدليل إنما هو بالنظر إلى الصورة الثانية.
وأما على الثاني: فثبوت الترجيح والتعويل عليه، وإن كان محتاجا إلى الدليل - كما في تعارض الأدلة - إلا أن الأخذ بالأصل المطابق للغلبة حينئذ واجب، لكن لا من حيث حجية الغلبة ووجوب الأخذ بها، بل لأن اعتبار الأصول العدمية الجارية في باب الألفاظ - كما مر بيانه سابقا في مبحث العلائم - إنما هو بملاحظة الغلبة، حيث إنها أصول عقلائية، ولا يعقل تعبدهم بمجرد الشك، بل عملهم في أمورهم إلى الغلبة، فمناط عملهم بالأصول المذكورة إنما هو وجود الغلبة في مجاريها، فتعارض تلك الأصول يرجع إلى تعارض الغلبتين، فإذا فرضنا وجود الغلبة الشخصية في مجرى أحدهما - أي أحد الأصلين المتعارضين - فالغلبة النوعية الموجودة في مجرى الآخر مزاحمة بتلك الغلبة الشخصية، فإذا زوحمت هذه بتلك، فتسقط عن الاعتبار قطعا، فيبقى
215

الأصل المطابق لتلك الغلبة الشخصية سليما عن المعارض، فيكون واجب العمل، لوجود مناط الاعتبار فيه، وهو الغلبة الغير المزاحمة بأقوى منها، فحينئذ نحن نعكس الأمر ونقول: إن المتيقن حينئذ اعتبار الأصل المطابق لتلك الغلبة الشخصية لوجود مناط الاعتبار فيه، فنطالب السيد المذكور بدليل اعتبار الأصل الآخر حتى يصح معارضته لهذا الأصل.
والحاصل أنا لا نقول بحجية تلك الغلبة الشخصية، حتى يطالبنا أحد بالدليل، بل نقول بحجية الأصل المطابق لها، لوجود مناط اعتبارها، فعلى السيد إثبات اعتبار الأصل الآخر أو إثبات حجية الغلبة النوعية في مجراه، وأنى له بإثبات شيء منهما.
هذا، ثم احتج المحقق القمي () (قدس سره) على وجوب الأخذ بالغلبة المذكورة بالإجماع على ما يستفاد منه، وبدليل الانسداد، ويظهر ذلك من قوله: خصوصا عند من يجعل الأصل العمل بالظن، وبالاستقراء الكاشف عن اعتبار الغلبة عند الشارع مطلقا.
أقول: الإجماع العملي من العلماء السابقين لا يبعد دعواه.
وأما الاستدلال بدليل الانسداد، فلا وجه له، إذ عليه يدور العمل مدار الظن الفعلي فإن وجد في أحد الطرفين، فهو المتعين، وإلا، فالحكم التساقط، ولا معنى لملاحظة التعارض حينئذ، إلا على مذهب بعض، حيث أجرى الدليل المذكور بالنسبة إلى الظن النوعي أيضا، وتمسك به على حجية الظن النوعي، وأما اعتبار الغلبة
خصوصا عند الشارع، وخصوصا اعتباره عنده مطلقا، لا دليل عليه. والاستقراء الذي ادعاه (قدس سره) لم نظفر عليه.
أقول: الإنصاف عدم جواز التعويل على الغلبة بمجردها ما لم يجعل اللفظ من الظواهر العرفية - ولو نوعا - في المعنى المطابق لها، أما عدم جواز التعويل في غير الصورة المذكورة، فلعدم الدليل عليه، لعدم ثبوت ما ذكر من الإجماعين بإطلاقهما، بحيث يدخل فيهما محل النزاع، وأما اعتبارها في الصورة المفروضة، لا لكونها غلبة، بل لأجل أن الظن الحاصل بسببها من اللفظ ظن لفظي، وقع الإجماع على العمل به.
تذنيب: ينبغي التنبيه على أمور غير مذكورة في كلمات القوم:
الأول:
إن ما ذكرنا من المرجحات المذكورة في المرحلة السابقة إنما هي
216

مرجحات بحسب النوع، فالأحوال الراجحة بسببها على غيرها إنما يؤخذ بمقتضاها ما لم يكن مرجح شخصي للحالة المرجوحة في خصوص المورد، وأما إذا كان لها مرجح شخصي يرجحها على الحالة الراجحة بحسب النوع، كما إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز - مع كون ذلك المجاز مجازا مشهورا - كما في قوله (يجوز إكرام العلماء، ولا تكرم زيدا العالم) وفرضنا كون النهي مجازا مشهورا في الكراهة، فدار الأمر بين التجوز في النهي، أو تخصيص العام بإخراج زيد منه، وغير ذلك من المرجحات الشخصية، كما إذا دار الأمر بين تخصيص الأكثر - على القول بجوازه - وبين التجوز، كما إذا قال (يجوز إكرام العلماء، ولا تكرم الفساق منهم) وفرضنا كون الفساق أكثر أفراد العام فإن التخصيص، وإن كان بحسب النوع راجحا على المجاز، إلا أن هذا القسم منه مرجوح بالنسبة إليه، وكما إذا دار الأمر بين التخصيص - بإخراج فرد هو أليق لثبوت الحكم له - وبين التجوز، كما إذا قال (أكرم العلماء) فقام الدليل على عدم وجوب إكرام زيد العالم الذي هو أعلم وأتقى من غيره من العلماء، فدار الأمر بين التجوز في الأمر بحمله على الاستحباب، فلا تخصيص، أو تخصيص العام بإخراج زيد منه، وإبقاء الأمر على ظاهره، وغير ذلك من الخصوصيات اللاحقة لخصوص المورد، الموهنة للمرجحات النوعية.
فالأقوى حينئذ التفصيل، بأنه إن كان ذلك المرجح الشخصي بحيث يوجب ظهور اللفظ في مقتضى الحالة المرجوحة، بحيث يعد اللفظ بسببه من الظواهر العرفية في ذلك المعنى، فلا شبهة في وجوب الأخذ به، لدخوله في مطلق الظهور اللفظي الذي قام الأدلة القطعية على اعتباره، كما في تعارض المجاز المشهور مع التخصيص - على غير مذهب أبي حنيفة - إذ حينئذ لا بد من الأخذ بالعموم وارتكاب التجوز.
أما على مذهب أبي يونس، فواضح، حيث إنه مع قطع النظر عن الدوران يحمله على المعنى المجازي، فكيف بصورة التعارض.
وأما على مذهب المشهور - القائلين بالتوقف فيه عند عدم الدوران - فلأن أصالة الحقيقة في اللفظ الذي صار مجازا مشهورا - بسبب مزاحمة الشهرة - قد زالت عن القوة، فلا يمكن معارضتها لأصالة الحقيقة في العام، فأصالة العموم سليمة عن المعارض، فحينئذ يجب الأخذ بها، ولازم كونها معتبرة كونها بيانا للفظ الذي صار مجملا بسبب مزاحمة الشهرة لأصالة الحقيقة فيه حيث أن الأصول اللفظية أمارات، فهي
217

على فرض اعتبارها تكشف عن مداليلها المطابقية والتضمنية والالتزامية، ويجب الأخذ بتلك المداليل بأسرها، ولا ريب أن حمل اللفظ المذكور على المعنى المجازي من المداليل الالتزامية لأصالة العموم عند التعارض، فيكون العام بيانا لذلك اللفظ.
وكيف كان، فهذا داخل فيما ذكر شيخنا دام ظله في آخر مسألة حجية الظواهر، وحاصل ما ذكره (دام ظله) أنه إذا ورد خطاب وله ظهور، ثم ورد خطاب آخر منفصل عن الخطاب المذكور، ويكون ذلك الخطاب مجملا يحتمل كونه قرينة لصرف هذا الخطاب عن هذا الظهور، لا التوقف في ذلك الظهور، بل ربما ينعكس الأمر، ويكون هذا الظهور بيانا لذلك الخطاب المجمل.
وكيف كان، فالضابط - لهذا القسم من المرجح الشخصي - هو أن يكون بحيث يوجب إجمال اللفظ، ويوهن أصالة الحقيقة فيه، بحيث يصير احتمال إرادة الحقيقة به مع احتمال المعنى المخالف للأصل سواء، فحينئذ يبقى الأصل الآخر في جانب الآخر سليما عن المعارض، فيكون اللفظ الآخر ظاهرا في معناه الحقيقي، فيجب ارتكاب خلاف الظاهر في اللفظ الذي صار أصالة الحقيقة فيه مزاحمة بالموهن، وحمله على المعنى المخالف للظاهر بكون اللفظ الآخر حينئذ بيانا له لما مر.
والظاهر أن هذا القسم - من الشخصي - إنما مورده في دوران الأمر بين الأحوال في لفظين في خطابين، وأما في لفظ واحد، أو في لفظين في خطاب واحد، فالظاهر عدم تحققه فتدبر.
وأما إذا لم يكن المرجح الشخصي بهذه المثابة، فيكون هذا على قسمين:
أحدهما: ما يوجب أقربية مفاد الحالة المرجوحة بالنسبة إلى الواقع، ولا يوجب ظهور اللفظ فيه، ولا الظن بكون الحالة المرجوحة ملحوظة في نظر المتكلم، كما إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز، وقامت شهرة الفتوى من العلماء على طبق المجاز، بمعنى أن المشهور أفتوا بما يوافق المجاز.
وثانيهما: ما لا يوجب أقربية المضمون إلى الواقع، لكنه موجب للظن بأن المتكلم أراد المجاز - مثلا - لا التخصيص، وليس بحيث يعد اللفظ معه من الظواهر العرفية في المعنى المجازي.
أما القسم الأول منهما، فلا ريب في عدم الاعتداد به وعدم كونه من الظنون المخصوصة من الظنون اللفظية، بل هو ظن خارجي، متعلق بالحكم الشرعي يدور
218

حجيته مدار حجية الظن بالأحكام الشرعية، بل هو في الحقيقة ليس مرجحا للحالة المرجوحة أيضا، إذ المفروض عدم إفادة الظن بها.
وأما القسم الثاني: ففيه وجهان، بل وجوه:
الأول: تقديم الحالة المرجوحة، والبناء على ما يقتضيه إلحاقا لما نحن فيه بصورة التعارض بين وجوه الترجيح في الاخبار، حيث إن العمل هناك على المرجح الشخصي عند التعارض بينه وبين المرجح النوعي، ولقيام الإجماع على العمل بأقوى الدليلين.
الثاني: التوقف، وهذا مبني على القول باعتبار الظواهر اللفظية في صورة الظن بالخلاف.
الثالث: عدم الاعتداد به، وفرضه كأن لم يكن، والأخذ بالحالة الراجحة، نظرا إلى أن العمل بالظواهر اللفظية، سواء كانت من جهة الوضع، أو من جهة المرجحات النوعية، انما هو باعتبار كونها ظنا نوعيا بالمعنى الأعم، بحيث يؤخذ بها عرفا ما لم يقترن اللفظ بما يصلح أن يكون صارفا عن هذا الظهور.
ولا يخفى أن مثل هذا المرجح الشخصي، لا يصلح لكونه قرينة صارفة للفظ حتى يوجب إجماله، لأن اللفظ أيضا بسبب المرجح النوعي من الظواهر العرفية في المعنى المطابق له، ولم يقم دليل على اعتبار الظن
الحاصل منه، بملاحظة المتكلم الحالة المرجوحة حتى يقدم على المرجح النوعي.
أولى الوجوه أخيرها لضعف الوجهين الأولين.
أما الأول منهما، فلأن قياس ما نحن فيه بالأخبار قياس محض، وأما الإجماع المذكور، فلأن معقده إنما هو الأقوائية من حيث الدليلية، والمفروض أن المرجح الشخصي لا يوجب ظهور اللفظ في المعنى المطابق له حتى يصير اللفظ بسببه أقوى دلالة على المعنى المذكور من دلالته، أو دلالة اللفظ الآخر على المعنى الآخر على المعنى المطابق للترجيح النوعي، فيكون داخلا في معقد الإجماع، أما الثاني فلفساد مبناه.
الأمر الثاني:
أنه قد يقع التعارض والدوران بين حالات لم يتعرض القوم لبيانها، ولعله لوضوح حكمها بملاحظة ما ذكروا في الأحوال السبعة المعروفة المتقدمة من وجه الترجيح، والتوقف، وهي أي الحالات المشار إليها الكناية، والتعريض، والسخرية، والاستهزاء والتلويح وغيرها من الوجوه البديعية، التي ليست من المداليل المطابقية للفظ، والظاهر أن التقية والإرشاد، والامتحان، وغيرها، من جهات صدور
219

الكلام الخارجة عن المدلول المطابق له من هذا القبيل.
وكيف كان، فهذه الوجوه ليست مباينة للحقيقة والمجاز، بل النسبة بينها وبين كل منهما، هي العموم من وجه، فإنها قد تؤدي بإيراد الكلام على وجه الحقيقة، وقد تؤدي بإيراده على وجه المجاز، فمحل افتراق الحقيقة عنها، ما إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي، وتعلق غرض المتكلم بتفهيم المعنى الحقيقي نفسه.
ومحل افتراق تلك الوجوه عن الحقيقة، ما إذا تؤدي تلك إلى المجاز مع استعمال اللفظ في معناه المجازي، ومحل اجتماعهما، ما إذا تؤدي إلى الحقيقة مع استعماله في معناه الحقيقي، كما إذا قال: (أكرم جبان الكلب أو كثير الرماد) مريدا به الكناية، بمعنى أن غرضه إكرام السخي، وكذا لو قال: (أكرم طويل النجاد) متعلقا غرضه بالشجاع، فإن الظاهر وفاقا للسكاكي، وجمع من المحققين أن الكناية ليست مجازا في الكلمة، بمعنى أنها من حيث هي لا توجب المجازية في الكلمة كغيرها من الوجوه المذكورة، بل المجازية منها لا بد لها من سبب آخر، فلذا تجامع مع كل منهما كسائر أخواتها.
نعم هي كأخواتها مجاز بمعنى آخر فإن الحقيقة لها إطلاقان:
أحدهما: انه يراد بها الكلمة المستعملة فيما وضعت له.
وثانيهما: انه يراد بها الكلام المسوق لبيان صرف المدلول المطابقي له، ويعبر عنه أيضا ببيان الواقع.
والمجاز أيضا له إطلاقان مقابلان لإطلاقي الحقيقة والكناية، وسائر أخواتها، مجازات بالمعنى الثاني، المقابل للحقيقة بإطلاقها الثاني.
فإذا عرفت افتراق الوجوه المذكورة عن الحقيقة، واجتماعها معها، فقس عليه معرفة افتراقها عن المجاز واجتماعها معه.
وكيف كان، فافتراق تلك الوجوه عن كل واحد من الحقيقة والمجاز، واجتماعها مع واحد منهما، إنما هو باعتبار تعلق غرض المتكلم بتفهيم المدلول المطابقي للفظ حقيقة أو مجازا، وبشيء خارج عن مدلوله المطابقي، فعلى هذا، فالمقسم بينها، وبين الحقيقة والمجاز إنما هو غرض المتكلم لا المستعمل فيه، فإنه مقسم فيما بين الحقيقة والمجاز، لا بينهما وبين الوجوه المذكورة، لكونها تابعة لغرض المتكلم، لا المستعمل فيه.
ثم إن النسبة بينهما وبين سائر الوجوه المعروفة المذكورة سابقا، المخالفة للأصل، غير المجاز، كالتخصيص، والتقييد، والإضمار، وغيرها هي أيضا عموم من وجه، لجواز
220

تأديتها بكل واحد منها، كجواز تأديتها بوجه الحقيقة والمجاز.
فإذا عرفت هذه، فلنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: إنه إذا دار الأمر بين حمل الكلام على أحد تلك الوجوه، وبين حمله على غيرها، فإما أن يعلم المستعمل فيه اللفظ، من أنه هو المعنى الحقيقي، أو المعنى المجازي، أولا.
فعلى الأول: فإما أن يكون المستعمل فيه اللفظ هو المعنى الحقيقي، ويتردد الأمر بين حمل اللفظ على الفرد من ذلك المعنى، الذي لا يلزمه شيء من الوجوه المذكورة، وبين حمله على الفرد الذي يلزمه شيء منها، كما إذا قال المولى لعبده (كل السقمونيا) فشك في أن غرضه هو الإرشاد، أو أنه الإطاعة والانقياد، مع أن الأمر على التقديرين مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو الطلب الحتمي، خلافا لبعض، حيث ذهب إلى أنه مجاز في الإرشاد، وكما إذا قال (أكرم الفساق) فشك في أن غرضه امتحان العبد أو أنه إكرام الفساق حقيقة، وكما إذا قال: (أكرم كل طويل النجاد) فشك في أن غرضه إكرام كل شجاع، وأنه أراد لازم معنى هذا اللفظ كناية، أو أن غرضه المدلول المطابقي، وهو إكرام كل طويل السيف، ولو كان جبانا، وكما إذا قال الإمام عليه السلام (إذا توضأت فامسح تمام الرأس) فشك في أن غرضه التقية، أو أنه بيان الحكم الواقعي.
وإما أن يكون المستعمل فيه هو المعنى المجازي، وتردد الأمر بين حمل اللفظ على المعنى المجازي الذي لا يلزمه شيء من الوجوه المذكورة، وبين حمله على المعنى المجازي الذي يلزمه شيء منها.
الظاهر، بل المعلوم من العرف، وأهل اللسان في كلا هذين المقامين عدم المصير إلى شيء من الوجوه، وعدم التوقف، بل المتعين عندهم - حينئذ - حمل اللفظ على المعنى العاري منها.
والسر في ذلك أن تلك الوجوه، وإن لم تكن منافية لأصالة الحقيقة في الكلمة في المقام الأول، ولا لأصالة الظهور فيها في المقام الثاني، إلا أنها منافية لأصالة الحقيقة بالمعنى الثاني الجارية في كل كلام سواء كانت مفرداته مستعملة في معانيها الحقيقية أو المجازية، فكما لا شك، في اعتبار الظهور العرفي في المفردات، فكذلك لا شك في اعتبار الظهور العرفي الثابت في الكلمات.
أما الصغرى، فبالوجدان، فإن الظهورات العرفية لا تختص بالمفردات، بل هي ثابتة في الكلام، ومنشؤها غلبة حالات المتكلم على طبقها.
221

وأما الكبرى فبالاتفاق عليها حتى من بقية الأديان، وكفى به دليلا.
لا يقال: إن المتيقن من معقد الإجماع هي الظهورات اللفظية، وأما مثل هذه الظهورات فلم يعلم ثبوته لها.
لأنا نقول: إن هذه بحيث توجب ظهور اللفظ في الأغراض المطابقة لها، فتدخل في الصغرى المذكورة.
ويظهر - من شيخنا الأستاذ دام ظله - موافقته لنا من كلام له في مسألة التعادل والتراجيح ()، حيث إنه وافقنا في جزئي من جزئيات مسألتنا هذه، وهو فيما إذا دار الأمر بين حمل الكلام على التقية، وبين حمله على بيان الواقع، فاختار (دام ظله) البناء على غير التقية، وحمله على بيان الواقع.
ثم إنا لم نتمسك بالأصول كما تمسكنا بها في دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز، لأنها هنا متعارضة، فإن غرض المتكلم تعلق بشيء بالفرض، إلا أنه مردد بين كونه المدلول المطابقي، أو الخارج منه، وهما متباينان لا يجري في تعيينه شيء من الأصول، وتمسكنا بها هناك لأجل أن المجاز بالنسبة إلى الحقيقة يحتاج إلى غرض
زائد غير إفادة المطلب.
وأما على الثاني: أعني ما إذا لم يعلم المستعمل فيه، فهاهنا صورتان:
إحداهما: أن يدور الأمر بين حمل اللفظ على الحقيقة مع سلامتها عن كل واحد من الوجوه المذكورة، وبين حمله على المعنى المجازي، مع التزام شيء منها، والحكم هنا أيضا واضح، حيث إن أصالة الحقيقة معتبرة، مع احتمال المجاز الشائع العاري عن تلك الوجوه، فكيف بما إذا احتمل مع استلزامه لشيء منها، وكيف كان فأصالة الحقيقة بالمعنيين جارية هنا، فلا مجال للشبهة في الترجيح.
وثانيتهما: أن يدور الأمر بين حمل اللفظ على حقيقته مع استلزامه لشيء من الوجوه المذكورة، وبين حمله على أحد الوجوه المعروفة المتقدمة من المجاز، والإضمار، والتخصيص، والتقييد، وغيرها مع سلامتها عن تلك الوجوه، وهذه الصورة هي التي ينبغي ذكرها في طي مسائل الدوران المعروفة، حيث إن مرجع الدوران والتعارض - كما عرفت سابقا - إلى تعارض الأصول، والدوران بين الأحوال المخالفة لها، وهذه
222

الصورة كذلك، حيث أن الدوران فيها حقيقة بين تلك الوجوه المخالفة للأصل - بمعنى الظهور العرفي - وبين الوجوه المعروفة للأصول، والتعارض إنما هو بين الأصل في الكلام، وبين الأصل في الكلمة، بخلاف الصور الثلاث المتقدمة، حيث إن أحد طرفي الدوران فيها موافق للأصل.
وكيف كان فالترجيح في هذه الصورة محل الإشكال، والأولى فيها التوقف، والحكم بالإجمال فإن الأخذ بأحد الأصلين المتعارضين ليس بأولى من الأخذ بالآخر، لعدم المرجح لواحد منهما، من غلبة أو أصل من الأصول.
ثم إنه وقع التعارض بين أحد تلك الوجوه، وبين الآخر منها، فالحكم التوقف، لعدم المرجح أصلا.
الأمر الثالث:
ان الأظهر أن التضمين حقيقة - كما سيأتي تحقيقه في مسألة الاشتراك إن شاء الله - في استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لكنه بالنسبة إلى غيره من الاستعمالات الحقيقية نادر جدا، فلا يصار إليه عند الشك، ولا يتوقف أيضا، بل يجب حمل اللفظ على غيره للغلبة الموجبة لظهوره في غيره عرفا، وإنما الإشكال فيما إذا دار الأمر بينه وبين غيره من الوجوه المخالفة للأصل، من الوجوه المعروفة، أو الوجوه التي ذكرناها، ولم يتعرض أحد منهم لبيانه أيضا.
وكيف كان، فالأولى حينئذ - أيضا - التوقف والإجمال، لأن الإضمار، وإن كان حقيقة من حيث الكلمة إلا أنه خلاف الظاهر عرفا، فيتعارض الأصلان من دون مرجح لأحدهما فيجب التوقف.
الأمر الرابع:
أنه قد يشكل الأمر فيما إذا دار الأمر بين حمل اللفظ على أحد الوجوه المخالفة للأصل من الوجوه المعروفة وغيرها، أو حمله على السهو أو الغلط أو النسيان من المتكلم.
أصل ينقسم الحقيقة باعتبار الواضع إلى لغوية وعرفية بكلا قسميها العام والخاص، كالشرعية، والنحوية، وغيرهما من الحقائق المختصة بواحدة من الطوائف الخاصة.
والأولى: هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له لغة.
والثانية: هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له عرفا، أعني عند كافة العرب.
والثالثة: هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح خاص.
223

وقولنا: لغة وعرفا، وفي اصطلاح خاص، كلها أحوال عما وضعت له - الكلمة وقيود له، لا عن الكلمة مطلقا، أو باعتبار استعمالاتها بحيث ترجع القيود إلى الاستعمال، لأن وصف الكلمة بكونها حقيقة لغوية، أو عرفية، باعتبار استعمالها في معناها، لغة، أو عرفا، من أي مستعمل كان، فإذا استعمل اللغوي الكلمة الموضوعة عرفا في ذلك المعنى العرفي، فهذه حقيقة عرفية لا لغوية، وكذا لو استعمل العرف الكلمة الموضوعة لغة فيه، فإنها حقيقة لغوية، لا عرفية.
ثم إن المراد بالوضع هنا ما يعم التعيني أي الاختصاص والعلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى، سواء كانت مسببة عن وضع وتخصيص، أو من الاستعمالات الآتية إليه، لا معناه الأخص الظاهر منه عند الإطلاق، وهو تخصيص اللفظ بالمعنى، المعبر عنه بالتعييني، لعدم صلاحيته لجعله مقسما بين هذه الأقسام الثلاثة، فإن أكثر الحقائق العرفية لا سيما العامة، إنما هي بسبب غلبة الاستعمالات المجازية الآئلة إلى حصول العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى، التي يستغنى بها عن القرينة، وقل المرتجل منها غاية القلة.
وكيف كان، فالأقسام الثلاثة متباينة لا يصدق أحدها على الآخر بوجه.
وما ترى من قولهم في مسألة تعارض العرف واللغة: إنه إذا اتحد العرف واللغة، فالحكم كذا، وإذا اختلف فكذا، لا يعنون به صدق أحدهما على الآخر، بحيث يصدق في لفظ أنه حقيقة لغة وعرفا، بل المراد أنه إذا ثبت للفظ معنى لغة، ولم يحدث في العرف له معنى جديد، فالحكم حمل اللفظ على المعنى اللغوي المعلوم له، وهذا هو معنى الاتحاد مسامحة.
ولقد أحسن وأجاد من عرفها - أي الأقسام الثلاثة - بأنها إما مستعملة في معناها لغة، فهي حقيقة لغوية، أولا، وعلى الثاني، فهي إما مستعملة في معناها في العرف العام، فهي العرفية العامة، أولا، بأن تكون مستعملة في معناها في اصطلاح خاص، فهي عرفية خاصة، فانه (قدس سره) قد عرفها بعبارة أوجز مما ذكرنا، مع اشتمالها على إشارة إلى التقسيم الدائر بين النفي والإثبات، وهو من أحسن التقسيمات، وأصرح دلالة على ما ذكرنا، من أن النسبة بين الأقسام الثلاثة إنما هي التباين الكلي.
وكيف كان فهو (قدس سره) أفاد التعريف، والتقسيم بعبارة واحدة أوجز مما
224

ذكرها غيره.
ثم إنه قد يستشكل في التقسيم بعدم كونه حاصرا لجميع أقسام الحقيقة، فإن منها الأعلام الشخصية، ولا توصف بكونها حقائق لغوية، أو عرفية عامة أو خاصة، مع أنها حقائق قطعا.
لكنه مدفوع بأنا نلتزم بخروجها، ولا ضير فيه، بل ولا بد منه.
وتوضيح الدفع: إن اللغة لها إطلاقات، فإنها في الأصل الله جة، يقال (لغا، يلغو) إذا لهج بالكلام.
وفي الاصطلاح تطلق تارة على ما يقابل العرف، فيقال: هذا معناه كذا لغة، يعنون بها أنه كذلك في لسان أهل اللغة، وتارة على مطلق اللسان واللهجة، فيقال هذا معناه كذا، في لغة طائفة فلانية، أي في لسانهم، والمقسم في المقام، إنما هو اللغة بإطلاقها الثالث، ولا ريب أن الأعلام الشخصية خارجة عنه، فإنها لا تعد لسانا، ولا تنسب إلى طائفة دون أخرى.
فلذا لو ذكر العجمي الأعلام الموضوعة عند العرب، لا يقال: إنه تكلم بالعربي، فلذا يعبر عن المعاني الجزئية الموضوعة لها تلك الأعلام بتلك الأعلام نفسها، بخلاف المعاني الكلية الموضوعة لها أسماء الأجناس، حيث ان التعبير عنها يختلف باختلاف ألسنة المتكلمين، ولو تكلم عجمي وعبر عن المعاني الكلية بأسماء الأجناس
الموضوعة لها في لغة العرب، يقال: إنه تكلم بالعربي.
وكيف كان، فعدم تغيير الأعلام، وعدم تبدلها بتبدل المتكلمين دليل على خروجها من المقسم.
ثم إن المجاز له تقسيمات ثلاثة:
الأول: باعتبار النسبة،
كما في الحقيقة فينقسم من تلك الجهة إلى لغوي، وعرفي عام أو خاص.
فالأول هي الكلمة المستعملة في خلاف ما وضعت له لغة لعلاقة بينه وبين ما وضعت له.
والثاني: هي الكلمة المستعملة في خلاف ما وضعت له عند العرف العام لعلاقة بينهما.
والثالث: هي الكلمة المستعملة في خلاف ما وضعت له في اصطلاح خاص
225

لعلاقة بينهما.
فمن هنا ظهر أن النظر في النسبة إنما هو إلى المعنى المجوز عنه، وأنه المناط فيها، دون العلاقة، أو وضع اللفظ في المعنى المجازي، بمعنى ترخيص استعماله فيه.
أما العلاقة، فلأنها من الأمور الواقعية التي ليست مسببة من فعل أحد حتى تنسب إلى أحد دون آخر، بل ثابتة بين المعنيين، بحيث يستوي فيها العرب والعجم، عند استعمال اللفظ الموضوع لأحدهما في الآخر، فإن كل واحد منهما إنما يلاحظ حينئذ تلك العلاقة، فلا يجوز انتساب المجاز إلى أحدهما دون الآخر، وكذلك أهل اللغة والعرف، فإن كل واحد منهما لا بد له من ملاحظة تلك العلاقة حينئذ، فلا يجوز الانتساب إلى أحدهما دون الآخر.
وأما الترخيص فلأن الظاهر، بل المعلوم كما عليه المحققون أن الصادر من الواضع، إنما هو فعل واحد، وهو تخصيص اللفظ بالمعنى الموضوع له لا فعلان، أحدهما ذلك، والآخر أن يقول رخصت استعماله في خلاف هذا المعنى لعلاقة، وأن استعمال الألفاظ في خلاف معانيها الحقيقية إنما [هو] بمقتضى جبلة الناس، في كل لغة ولسان، ومركوز في أذهانهم، فلا يجوز الانتساب من هذه الجهة أيضا فتعين ما ذكرنا.
وحاصله: إن النظر في النسبة إنما هو إلى نسبة المعنى المجوز عنه.
التقسيم الثاني: باعتبار المحل،
فينقسم بهذا الاعتبار إلى مفرد، ومركب، وإلى المفرد والمركب معا، فإن التجوز إن كان في الكلمة باستعمالها في خلاف ما وضعت له، فيسمى المجاز مفردا، حيث إن المجازية في جزء الكلام ومفرده، وإن كان في التركيب أي الإسناد، بإسناد مفاد الكلمة إلى غير من هو له، فيسمى المجاز مركبا، حيث إنه في التركيب دون المفردات، وإن كان في كليهما، فيسمى مجازا في كليهما، حيث إنه في كليهما.
مثال الأول: قولنا (رأيت أسدا يرمي) حيث إن المجازية في الكلمة دون النسبة.
ومثال الثاني: قولهم (أنبت الربيع البقل) وقوله تعالى (وأخرجت الأرض أثقالها) () حيث أن المنبت حقيقة ليس الربيع، والمخرج ليست الأرض، وكذا قوله (وأنشبت المنية أظفارها).
226

وأما الثالث: فمثل له دام عمره بقوله (أحياني اكتحالي بطلعتك) حيث إن نسبة الإحياء إلى الاكتحال بالطلعة أي الرؤية نسبة إلى غير ما هو له، وإنه مجاز في الكلمة أيضا، حيث إنه الإحياء بمعنى السرور يعني سرني رؤيتي وجهك.
أقول: لا يخفى أنه لا يجمع المجازية من جهتين في كلمة واحدة في المثال المذكور، لأنه إذا كان الإحياء بمعنى السرور فنسبته إلى الرؤية حقيقة قطعا، فهو مجاز في المفرد فقط، وإن كان مستعملا في معناه الحقيقي، فهو مجاز في النسبة فقط، فأين هذا من كونه مجازا من جهتين، وكيف كان، فالتمثيل ليس بمهم.
التقسيم الثالث، أعني سبب المجازية:
فينقسم بهذا الاعتبار إلى المجاز بالحذف، وإلى المجاز بالزيادة، وإلى المجاز بالنقل، فإن سبب المجازية، إما الحذف، كما في الإضمار، مثاله قوله تعالى (اسأل القرية) () حيث إن مجازيته من إسناد الشيء إلى غير من هو له، بسبب حذف الأهل، وأما الزيادة كقوله تعالى (ليس كمثله شيء) () حيث إنه مجاز بسبب زيادة الكاف حيث انها غير محتاج إليها، إذ ليس الغرض التشبيه بمثل مثله، بل الغرض نفي المثل.
وأما المجاز بالنقل، فهو كل كلمة مستعملة في خلاف ما وضعت له، ووجه تسميته بذلك أن استعمال الكلمة في خلاف ما وضعت له نوع نقل لها عن محلها إلى غيره، فكان المعنى الأصلي هو محل للكلمة الموضوعة له، فاستعمالها في غيره نقل لها عن محلها إلى غيره.
ثم إنه قد يستشكل في هذا التقسيم بعدم كونه حاصرا، حيث إن استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي معا، وكذا استعمال المشترك في أزيد من معنى، وكذا التضمين كلها مجازات على المشهور، مع أن مجازيتها ليست بأحد الأسباب المذكورة.
لكنه مدفوع بأنها داخلة في القسم الأخير لوجهين:
أحدهما أن اللفظ في الأمثلة المذكورة، وإن لم ينقل عن ذات المعنى الأصلي إلى غيره، بل مستعمل فيه، ولو مع استعماله في غيره أيضا، إلا أنه منقول عن الموضوع له بوصف كونه موضوعا له، حيث إنه لم يكن ذات المعنى الأصلي لا بشرط، بل هي مع
227

انضمام قيد الوحدة فاستعمال اللفظ فيه - وفي غيره معا - ينافي الوحدة، فيلزم الخروج، ونقله عن محله، فتأمل.
وثانيهما: ان المجاز تارة يطلق ويراد منه الكلمة المستعملة في خلاف ما وضعت له، كما أن الحقيقة قد تطلق ويراد منها مقابل ذلك.
وتارة يطلق ويراد منه اللفظ المستعمل على خلاف المتعارف كإطلاق الحقيقة على ما يقابله - كما مر بيانه سابقا - والمقسم في كل من التقسيمات الثلاثة إنما هو المجاز بإطلاقه الثاني، وإلا لما صح تقسيمه إلى المفرد والمركب، حيث إن المركب ليس من أقسام المجاز بالمعنى الأول، بل قسيم له، وكذا ما صح إلى المجاز بالزيادة، أو النقيصة، لأنهما خارجان عن المجاز بالمعنى الأول، فحينئذ يدخل الأمثلة المذكورة في المقسم، هكذا قال (دام عمره).
أقول: لا يخفى ما فيه لأن المستشكل سلم دخولها في المقسم، واستشكاله في عدم دخولها في أحد الأقسام الثلاثة، وهذا البيان لا يقتضي دخولها في أحدها فيبقى الإشكال على حاله، وإني أشرت إلى ما فيه لكنه (دام عمره) طفر عن جوابه، ودخل في مطلب آخر.
وكيف كان، فالإشكال في محله، والوجه الأول أيضا غير سديد لأن الوحدة ليست جزء من الموضوع له.
فإن قيل: إن الأمثلة المذكورة لما كانت خارجة عن النحو المتعارف، فهي منقولة بهذا الاعتبار عما ينبغي أن تكون عليه إلى غيره، فتدخل في القسم الثالث.
قلنا: فعلى هذا يصير الأقسام الثلاثة كلها مجازات بالنقل، ولا يختص الاسم بالأخير، لأن القسمين الأولين أيضا مجازان بهذا المعنى.
وكيف كان، فهذا هو معنى المقسم بين الثلاثة، فلا يجوز انقسامه إلى نفسه وإلى غيره.
فإن قيل: إن التقسيم مبني على أن استعمال اللفظ في المعنى المجازي والحقيقي ليس بمجاز، بل مجاز وحقيقة معا، فالمثال الأول باعتبار استعماله في خلاف ما وضع له مجاز بالنقل، فداخل في القسم الأخير، وعلى أن استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى حقيقة، فيخرج المثال الثاني عن المقسم، فلا إشكال، وعلى أن التضمين حقيقة، فيخرج عن المقسم.
228

قلنا: الذي قسم المجاز إلى تلك الأقسام هو السيد العميدي (1) (قدس سره) وهو معترف بمجازية المثالين الأولين.
نعم لا يرد الإشكال بالنسبة إلى الأخير، حيث إنه لم يعلم منه اختيار كون التضمين مجازا، فلعله حقيقة عنده، كما هو الظاهر عندي أيضا وفاقا لبعض المحققين.
أصل:
لا كلام، ولا شبهة في ثبوت الحقيقة اللغوية، وإنما النزاع في موضعين:
الأول: ثبوت الحقيقة العرفية العامة، فقد منعها بعض الأخباريين محتجا باستحالة اتفاق كافة العرف العام على وضع لفظ لمعنى عادة، وليس بجيد، لأنه إن كان مراده السلب الكلي، ففساده أوضح من أن يذكر، إذ لا يجري ما ذكره في الحقائق العرفية التي صارت كذلك بواسطة غلبة الاستعمالات المجازية، لأنها لا تحتاج إلى اجتماع العرف جميعا، بل، ولا إلى اتفاق طائفة منهم، بل يتوقف على استعمالاتهم المجازية الآئلة إلى حصول العلقة بين اللفظ، وبين المعنى الجديد.
هذا مضافا إلى وقوع بعض الأمثلة منها، كلفظ الدابة والقارورة وغيرهما.
وإن كان مراده السلب الجزئي - أعني نفي الحقيقة العرفية من جهة الوضع التعيني.
ففيه: أنه لا يجب في ثبوت الحقيقة العرفية بالوضع التعييني اجتماع كافة العرب، بل يكفي فيه أن يعين رئيسهم لفظا بإزاء معنى من المعاني ويتبعه الباقون في الاستعمال.
وكيف كان، فدعوى الاستحالة محتجا بما ذكر لا وجه لها، لعدم الحاجة إلى ما
(1) منية اللبيب مخطوط في ذيل قول العلامة في التهذيب البحث الخامس في أقسام المجاز وإليك نصه: واعلم أن المجاز ينقسم تارة باعتبار ما يقع فيه التجوز، وتارة باعتبار ما به يقع التجوز من المتكلم، أما الأول، فنقول:
التجوز إما أن يقع في مفردات الألفاظ، وإما أن يقع في تركيبها، وإما أن يقع فيهما معا، والأول كإطلاق لفظ الأسد على الشجاع، والحمار على البليد، والثاني مثل (طلعت الشمس، وأخرجت الأرض أثقالها) وقول الشاعر.... والتجوز إنما هو في التركيب، وهو اسناد الطلوع إلى الشمس، والإخراج إلى الأرض.... وأما الثالث، فكقوله أحياني اكتحالي بطلعتك، فان كل واحد من هذه الألفاظ لم يرد منه حقيقة... إلا أن المجاز في هذه المفردات وضعي، وفي التركيب عقلي لما عرفت، وأما الثاني، وهو التقسيم العارض للمجاز باعتبار ما به يقع التجوز من المتكلم، فهو إما للزيادة، وهو أن يضيف إلى الكلمة ما لولاه لكانت جارية على حقيقتها كقوله تعالى «ليس كمثله شيء...» وإما النقصان وهو أن يحذف عن الكلمة ما لو كان مضافا إليها لكانت جارية على حقيقتها، كقوله تعالى «واسأل القرية» فانه لو قيل واسأل أهل القرية لجرت الكلمة على حقيقتها، وأما على هذا النقصان فيجب حمل لفظ القرية على المجاز.
229

ذكر، فإن كان ولا بد من المنع، فليمنع من الوقوع لا الإمكان.
ثم إنه قد وقع النزاع بينهم في مسائل خاصة في كونها حقائق عرفية.
منها: نسبة الأحكام إلى الذوات، كقوله تعالى «حرمت عليكم أمهاتكم» فقد ادعي كونها حقائق في نسبتها إلى أظهر أوصاف تلك الذوات، كالوطء في المثال المذكور، وكالأكل في قوله تعالى «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير».
وتظهر الثمرة بين القولين عند تجردها عن قرينة المراد، فعلى القول بكونها حقائق عرفية فيما ذكر، فمحمولة عليه، فلا إجمال في أمثال تلك الخطابات، وعلى القول الآخر - أعني عدم ثبوت كونها حقائق عرفية - فيأتي فيها ما يأتي في المجاز المشهور، لأنها منه، حيث إن استعمالها في نسبتها إلى أظهر الأوصاف، وهو الفعل المناسب للذات شائع، بحيث صارت من المجازات المشهورة، فهي حينئذ مجملة على المشهور، ومحمولة على هذا المعنى المجازي الشائع على قول أبي يونس، وأما على قول أبي حنيفة، فلا ريب أنه لا بد من الحكم بالإجمال في خصوص تلك الأمثلة، حيث إن حملها على حقيقتها، وهو نسبتها إلى نفس الذوات متعذر لعدم صلاحيتها بنفسها لتلك الأحكام.
وكيف كان، فثمرة القولين ظاهرة على قول المشهور، وعلى قول أبي حنيفة، وأما على قول أبي يونس، فلا، حيث أنه موافق في النتيجة مع القول بكون تلك الأمثلة حقائق عرفية فيما ذكر.
ثم الأظهر عدم ثبوت كونها حقائق عرفية فيما ذكر، والظاهر حينئذ أيضا عدم دخولها في مسألة المجاز المشهور، حيث ما عرفت في محله أن النزاع فيها فيما إذا دار الأمر بين حمل اللفظ على حقيقته، وبين حمله على معناه المجازي المشهور، ولا ريب أن الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، لأن عدم إرادة المعنى الحقيقي هنا معلوم، وهو حملها على نفس الذوات، وإنما الدوران بين نفس المجازات، فالأمر دائر فيها بين حملها على أظهر الأوصاف، وبين حملها على جميع الأوصاف، والأفعال المتعلقة بالذوات، كما في حديث الرفع.
فعلى عدم كونها حقائق عرفية، فالحق أن الكلام فيها هو الكلام في حديث الرفع، وأنها من هذا الباب، وضابط هذا الباب قيام القرينة على عدم إرادة الحقيقة، وحصول الدوران بين المجازات.
ولا يخفى أن الحكم حينئذ الحمل على أقربها، لو كان أحدها أقرب، فحينئذ
230

لا بد من حمل تلك الأمثلة على أقرب المجازات، إلا أن يدور الأمر فيها من جهة أخرى، وهي أنه أقرب المجازات - اعتبارا - هو حملها على جميع الأوصاف والأفعال، وأقربها استعمالا هو الفعل المناسب، فيدور الأمر بينهما.
لكن الحق هو حملها على الفعل المناسب الظاهر من بين الأفعال فإن الذي يوجب ظهور اللفظ بعد قيام القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي هو غلبه الاستعمال، لا الاعتبار، فعلى هذا القول في حديث الرفع يكون المراد رفع المؤاخذة، لا جميع الآثار، كالقضاء، والإعادة، والضمان مثلا، فعلى ما حققنا لا ثمرة بين القولين، إذ على عدم ثبوت الحقيقة العرفية في الأمثلة المذكورة هي محمولة على نسبتها إلى الفعل المناسب الظاهر.
ومنها: خصوص لفظ الأم، حيث أنه لغة موضوع لمطلق ما يلد، إلا أن استعماله في العرف سائغ في الإنسان، فقد يدعى كونه من الحقائق العرفية في خصوص من يلد من الإنسان.
وتظهر الثمرة في الحديث الذي جاء في كراهة تفريق الأولاد عن الأمهات، فعلى ما يدعى، فهو محمول على بيان كراهة التفريق بين الأولاد والأمهات من خصوص الإنسان، فيستدل به لذلك، وعلى الاحتمال الآخر، فلا يختص الاستدلال به في إثبات الحكم في خصوص الإنسان، بل يكون بإطلاقه دليلا عليه مطلقا.
هذا، وأقول: الأقوى حينئذ انصرافه إلى الأمهات من الإنسان، لأنها الشائع في استعمال الأم، فيكون دليلا للحكم في خصوص الإنسان إلا على الاحتمالين.
ومنها: ألفاظ المقادير والكميات، فإنها موضوعة لغة للمقادير المعينة الغير القابلة للزيادة والنقصان، ولو بيسير، لكن العرف يتسامحون في إطلاقها على المقادير الناقصة أو الزائدة، بالنسبة إلى ما وضعت لها لغة من المقادير المعينة، إذا لم يبلغ الزيادة والنقصان إلى حد لا يجوز التسامح.
وبعبارة أخرى إذا لم تكونا فاحشتين، فهل استعمالها في المسامحات العرفية حقيقة أو مجاز، وعلى الأول، فهل ذلك بوضع جديد لها في العرف، فيما ذكر تعيينا بأن تكون مرتجلة أو تعينا بغلبة الاستعمال، أو بوضع قديم لها في اللغة، بأن تكون مشتركة لفظا بين المقادير المعينة، وبين ما ينقص منها أو يزيد بيسير، ومعنى بأن
تكون موضوعة للقدر المشترك بين الزائد والناقص احتمالات.
231

والتحقيق في المقام أن المقادير المنفصلة، وهي أسماء العدد لم يثبت فيها هذا التسامح، بل المعلوم جريان استعمال العرف لها على طبق ما وضعت لها من مراتب العدد.
وأما المتصلة، وهي الألفاظ الموضوعة لمقادير لم يلحظ فيها التعدد، بل الملحوظ فيها أجزاء مجتمعة بهيئة الاجتماع، كلفظ (المن، والقفيز) ونحوهما من الألفاظ الموضوعة لمقدار خاص من المكيلات والموزونات، وكلفظ (الفرسخ والميل والشبر والقدم) ونحوها من الألفاظ الموضوعة لمقدار خاص من المساحات، فالذي نراه من عمل العلماء فيما إذا وقعت تلك الألفاظ في حيز الحكم الشرعي، وصارت موضوعة له أنهم يعملون فيها الدقة الحكمية، بحيث لا يجوزون التسامح ولو بيسير، غايته كما في مسألة القصر، حيث إنه منوط في الأدلة الشرعية بثمانية فراسخ، ونراهم أنه لو نقص منها شبر، لا يحكمون بتعين التقصير.
وكيف كان فالمعلوم من حالهم أنهم يلاحظون بالدقائق الحكمية فيها.
والذي يظهر من الإطلاقات العرفية التسامح بما لا يعتد به، ألا ترى أنه لو قال أحد: مشيت فرسخا، وكان المقدار الممشي عليه أقل من فرسخ بمائة قدم، لا يكذبه العرف حينئذ، بل يصدقونه مع أن العلماء لا يغتفر عندهم شبر في الزيادة والنقصان فيما إذا وقع الفرسخ في حيز الحكم الشرعي.
وبالجملة فعمل العلماء مناف للإطلاقات العرفية، وكون تلك الألفاظ حقائق عرفية في تلك المسامحات، كان يقتضي أن يكون عمل العلماء على طبقها، حيث إنه إذا وقع التعارض بين حمل اللفظ في الخطابات الشرعية على معناه اللغوي، وبين حمله على معناه العرفي، فالأصل حمله على الثاني، كما سنتلوا عليك في مبحث تعارض العرف واللغة.
ويمكن التوفيق بينهما بوجوه:
أحدها: التزام كون تلك الألفاظ منقولة من معانيها اللغوية إلى القدر المشترك بين الزائد والناقص الذي يقبل هذا التسامح، لكن مصير العلماء إلى معانيها اللغوية، إنما هو بسبب قيام قرينة عامة عندهم على إرادة المعاني اللغوية في الخطابات الشرعية من إجماع ونحوه.
وثانيها: التزام كونها مشتركة لفظا لغة بين المعاني المذكورة وبين
232

والناقص، وإنما حمل العلماء لها على الأول في الخطابات الشرعية لأجل قرينة عامة.
وثالثها: التزام كونها مشتركة لفظا عرفا، بحيث يبقى وضعها على المعاني المذكورة، لكن لا كسائر المشتركات، بل بنحو ما نختاره في ألفاظ العبادات، من كونها بحيث يكون بعض معانيها أظهر من غيره عند الإطلاق، ومصير العلماء إلى حملها على المعاني المذكورة، لكونها أظهر من القدر المشترك.
ورابعها: التزام كونها مجازات في الزائد والناقص، فيكون مصير العلماء إلى ما ذكر بحسب القاعدة، وهي حمل اللفظ على حقيقته عند الإطلاق والتجرد عن قرينة المجاز.
وخامسها: منع استعمالها في العرف في هذه التسامحات، بل هي مستعملة عندهم أيضا في المعاني المذكورة، لكن إطلاقهم لها فيما إذا زادت أو نقصت بيسير، إنما هو لأجل التصرف في أمر عقلي، وادعاء كون هذا الزائد أو الناقص بيسير هو المعنى الحقيقي، فإطلاقهم لها عليه إنما هو بعد هذا التصرف.
وكيف كان، فطائفة من الاستعمالات الحقيقية بحيث لا يكون مورد الاستعمال فيها هو المعنى الحقيقي حقيقة، مع أنها استعمالات حقيقية بمعنى أن المراد منها مورد الاستعمال بعنوان كونه هو المعنى الحقيقي، وهذا الاستعمال حقيقة قطعا، والاستعمال من باب الحقيقة الادعائية من هذه الطائفة نظير استعمال اللفظ في معنى بعنوان كونه حقيقة مع اعتقاد كونه هو فتبين أنه غيره.
إذا عرفت هذه، فاعلم أن الأظهر هو الوجه الأخير.
أما بطلان الأول: فلأصالة عدم النقل مضافا إلى الدليل على عدمه، وهو عدم صحة سلب تلك الألفاظ عما وضعت له لغة.
وأما بطلان الباقي: فلأصالة عدمها، فإنها بأسرها مخالفة للأصل لا يصار إليه إلا لدليل، ولم يقم دليل على واحد منها.
هذا مضافا إلى الدليل على عدمها، وهو صحة الاستثناء مطردا من تلك الألفاظ، فإنها علامة لكون المستثنى منه موضوعا لعام أفرادي أو أجزائي، ولما لم يكن المقادير من العام الأفرادي، فهي دليل على كون تلك الألفاظ حقيقة في معنى مركب ذي أجزاء يشمل ما يستثنى منه، فإذا قيل عندي رطل إلا مثقالا، فهي دليل على كون الرطل موضوعا لما يتضمن هذا المثقال أيضا، فيتعين بصحة الاستثناء عرفا كون تلك
233

الألفاظ باقية على معانيها اللغوية ومستعملة فيها عرفا أيضا.
وبهذه يندفع الوجه الأول أيضا.
نعم لا يجوز التمسك بصحة الاستثناء على نفى الوجه الثاني على القول بكون المشترك عاما لجميع معانيه، كما هو مذهب بعض، ولعله الحاجبي أو العضدي، ولا على نفي الوجه الأول، على قول سيبويه، حيث إنه يجوز الاستثناء من المشتركات المعنوية التي هي العمومات البدلية.
لكن هذان القولان على خلاف التحقيق، مع أنه يرد على الوجه الأول: أنه لا يعقل القدر الجامع بين الزائد والناقص، فلا يعقل كون تلك الألفاظ حقيقة عرفا في القدر المشترك.
القول في الحقيقة الشرعية:
وتحقيقه يتوقف على رسم مقدمة، ومقامات
: أما المقدمة ففي تعريفها
فاعلم أن لها حدودا عديدة، وتعاريف شتى من العامة والخاصة، فلنقتصر من كل منهما بواحد حذرا من الإطناب الممل، والإيجاز المخل: فأجود ما من العامة - ما ذكره الفاضل الباغنوي (1): (من أنها هو اللفظ المستعمل في وضع أول شرعي).
وفيه من العيب ما لا يخفى من وجوه:
الأول: أن وظيفة التحديد إذا كان المحدود نوعا بيان الجنس إجمالا منضما إلى فصل يميزه عما عداه من الأنواع، بأن يكون تحديد النوع بعد الفراغ عن معرفة الجنس في الخارج، فيشار بذكر الجنس إجمالا إلى أن جزء هذا النوع هو الجنس المعلوم مفصلا في الخارج، كما في تعريف الإنسان حيث تقول: إنه حيوان ناطق، وهكذا في غيره، وهو كما ترى قد خالف تلك الوظيفة، حيث عبر عن الجنس الذي هو مطلق الحقيقة بتعريفه تفصيلا، فتأمل.
الثاني: انه لا بد أن يكون المعرف أجلى دلالة من لفظ المعرف بالفتح، لتحصيل الغرض من التعريف، ولا ريب أن المفهوم من الحد المذكور عرفا مساو للفظ المحدود، وهو الحقيقة الشرعية، من حيث وضوح الدلالة،
وخفائها، فإن قوله: هو اللفظ
(1) وهو صاحب الحاشية على شرح المختصر للعضدي المعروف ب‍ (ملا ميرزا جان) وإليك لفظه: والحقيقة الشرعية على ما مر إليه الإشارة هي اللفظ المستعمل في وضع أول هو الوضع الشرعي، والمراد بالوضع الشرعي أن الواضع هو الشارع لا المتشرعة من الفقهاء والمتكلمين والأصوليين، ويرادفه الاسم الشرعي.
234

المستعمل في وضع أول مساو للفظ الحقيقة، وقوله: شرعي مساو للفظ الشرعية، من حيث وضوح الدلالة وخفائها، نعم الفرق بين الأولين بالإيجاز والإطناب، فحينئذ يرد عليه أن العدول عن الأول إلى الثاني مع تساوي دلالتهما من أقبح المعايب، فتأمل.
الثالث: انه لا بد أن يكون الفصل بحيث يميز المحدود عما عداه، وقوله:
(شرعي) أعم منه، حيث إن المراد به ما كان مسببا من فعل الشارع، والمفهوم من قوله المذكور عرفا، أعم منه لصحة إطلاقه على الحقيقة المتشرعية، فإنه يصح إطلاق الشرعي على ما كان مسببا منهم، ومن فعلهم، من حيث كونهم متشرعين.
الرابع: ان الوضع ظاهر في التعييني، فيختص الحد بالمنقولات الشرعية التعينية، مع أن المحدود أعم منها، وهو من أفضح الفساد في التعاريف.
اللهم إلا أن يدعى نقله إلى الأعم، وهو نفس العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى، سواء كانت مسببة من فعل الواضع، أو من غلبة الاستعمالات ولا يبعد.
الخامس: ان قوله (أول) الظاهر منه عدم كون الوضع مسبوقا بوضع آخر، كما مر في مبحث الحقيقة والمجاز في كلام العضدي (1)، حيث إنه عرف الحقيقة بأنه اللفظ المستعمل في وضع أول، ولا مرية أن حمله عليه هنا موجب لخروج المحدود بجميع أفراده من الحد، حيث إنه لا حقيقة شرعية إلا أنه مسبوق بوضع لغوي، وإن حمل على عدم ملاحظة سبق وضع عليه، فمع أنه خلاف الظاهر بلا قرينة تدل عليه موجب لخروج المنقولات الشرعية تعيينا أو تعينا من الحد، مع أن كل أفراد المحدود الموجودة في الخارج أو جلها منها.
اللهم إلا أن يراد به الأول بحسب الرتبة، وهو الوضع الحقيقي المقابل لوضع المجازات، فيندفع الإشكال المذكور، فإنه يقال لوضع المجازات، إنه وضع ثانوي فبمقابلته لوضع الحقائق يصير ذلك - أوليا - أي متقدما عليه من حيث الرتبة - ولعله هو المراد، وكأنه أظهر بقرينة المقام، وإن كان لفظ الأول متساوي الدلالة السببية إلى التقدمات الأربعة الزماني، والمكاني، والشرقي، والرتبي المعبر عنه بالذاتي.
السادس: ان كلمة (في) إما مختصة بالظرفية أو مشتركة بينها وبين السببية،
(1) شرح المختصر للعضدي مخطوط في تعريف الحقيقة وإليك لفظه: وفي الاصطلاح اللفظ المستعمل في وضع أول أي بحسب وضع أول، كما يقال: هذا يستعمل في وضع الشرع أو وضع اللغة لكذا.
235

على التقديرين لا بد أن يراد بها السببية، فحينئذ يرد على الأول أنه أراد المجاز في التعريف بلا قرينة، وعلى الثاني أنه أراد المشترك بدونها، وكلاهما باطل، فتأمل.
هذا مع أنه يلزم مجاز آخر على التقديرين، وهو إضمار مفعول ثان للاستعمال، وهو المستعمل فيه، فيكون التقدير هو اللفظ المستعمل في معنى في وضع... إلى آخره.
ثم إن مرجع الوجه الثاني إلى آخر الوجوه المذكورة إلى عدم صراحة التعريف في الدلالة على المراد، مع اهتمامهم بها في الحدود، كاهتمامهم بها في العقود.
وقد يورد على طرد الحد بدخول الأعلام الشخصية التي وضعها الشارع.
ويدفعه ظهور اعتبار الحيثية في الحد، ولا مرية أن وضع الشارع للأعلام الشخصية ليس من حيث كونه شارعا، فتأمل ().
ثم إنه يرد على أخذ الأولية في التعريف بالمعنى الذي ذكرنا - أعني التقدم الرتبي - أن مقتضاه حمل وضع المجازات الشرعية وضعا ثانويا شرعيا بمقتضى المقابلة، ليس بجيد، فان وضع المجازات إنما هو عبارة عن ترخيص استعمالها، وهو بيد العرف، وليس من قبل الواضع في أي لغة واصطلاح. ومدار النسبة في المجازات على حقائقها، فكل مجاز يكون حقيقة المجوز عنها لغوية، يكون ذلك المجاز لغويا، أو شرعية، فيكون شرعيا، لا على واضعها، ومرخص استعمالها، وما يقال من أن وضع المجازات وضع ثانوي، يريدون به الثانوي بقول مطلق، لا الثانوي اللغوي أو يعممون اللغوي، بحيث يشمل أهل العرف أيضا هذا ما عن العامة.
وأما الخاصة - حفهم الله تعالى برضوانه - فأسلم ما [ورد] منهم المذكور في محكي النهاية (1) من أنها (هو اللفظ المستعمل شرعا فيما وضع له في ذلك الاصطلاح وضعا).
ولا يخفى ما فيه أيضا، فإن الظاهر منه أن قوله (شرعا) قيد للاستعمال، فيرد عليه حينئذ أنه إن كان المراد خصوص الشارع على ما هو الظاهر منه فيختل التعريف طردا وعكسا.
(1) نهاية الوصول إلى علم الأصول مخطوط، 28، وإليك نصه: البحث الثالث: في الحقيقة الشرعية، وهي اللفظة المستعملة شرعا فيما وضعت له في ذلك الاصطلاح وضعا أولا سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة أو معلومين لكنهم لم يضعوا اللفظ بإزاء ذلك المعنى أو كان أحدهما معلوما والآخر مجهولا، قد وقع الاتفاق على إمكانها وإنما النزاع في وقوعها إلخ.
236

أما الأول، فلدخول الحقائق اللغوية أو العرفية المستعملة في لسان الشارع فيه، إلا أن قيد ذلك الاصطلاح يخرجها، فإن استعماله إياها حينئذ ليس على اصطلاحه، بل تبع فيه العرف أو اللغة.
فأما الثاني، فلخروج الحقائق الشرعية بأسرها، إذا استعملها غيره.
وإن كان المراد به الأعم الشامل للمتشرعة أيضا، فكذلك لانتقاضه عكسا بالحقائق الشرعية التي استعملها غير المتشرعة من فرق الكفار.
وكيف كان، إن يجعل المدار في نسبة الحقيقة حال المستعمل لم ندر له فائدة، مضافا إلى ما يلزمه من الفساد كما عرفت.
وكيف ما كان، فالأجود أن تعرف بأنها (اللفظ المستعمل في معنى كلي تعين له من قبل الشارع في زمانه).
وتقييد المعنى بكونه كليا لإخراج الأعلام الشخصية التي وضعها الشارع، كأسمائهم عليهم السلام فإن اعتبار الحيثية لا يوجب خروجها مطلقا، وإن كان مخرجا لبعضها، كالحسن والحسين عليهما السلام وأمثاله، لكنه لا يخرج مثل لفظ أمير المؤمنين، فإنه موضوع له عليه السلام من حيث الشرعية فان النبي صلى الله عليه وآله أمر الناس بأن يدعوه بهذا الاسم مريدا به أن منصب علي هذا، فكان غرضه صلى الله عليه وآله من ذلك تسميته عليه السلام بهذا الاسم تعظيما له وتنبيها على أنه عليه السلام أميرهم يجب اتباعه فجهة الشرعية لو لم تكن أقوى في هذا الاسم من الحقائق الشرعية الموضوعة للأجناس لم تكن أقل.
والمراد من قولنا من قبل الشارع أعم من أن يكون مسببا من فعله نفسه تعيينا أو تعينا، فيدخل في الحد ما كان تعينه بسبب غلبة استعمالات تابعي الشارع تبعا له، فحاصل المراد: أنه ما كان تعينه من نفس الشارع أو من أحد تابعيه أو جميعهم تبعا لاستعمال الشارع للفظ مجازا، بحيث حصلت العلقة باستعمالاتهم كذلك في زمان الشارع.
ومن هنا ظهر أن المدار في النسبة في الحقائق على حيث التعيين وجهته، لا [على] ما عرفت من العلامة (قدس سره) نفسه.
وقولنا في زمانه فصل مخرج للحقائق المتشرعية حيث إنها من قبل الشارع بالمعنى الأعم، إلا أنها ليست في زمانه.
237

ثم إن الحقيقة الشرعية، لما كانت منسوبة إلى الشارع، كما هو قضية حدها، فينبغي الإشارة إلى معناه:
فنقول: إن الشارع مشتق من الشرع، وهو في الأصل الطريق الحسي الذي يمر عليه، وفي الاصطلاح: هو الدين وطريق عبادته سبحانه تعالى فهو منقول من الطريق الحسي إلى المعنوي، فإن الدين لما كان معناه طريق العبادة والإطاعة، فهو طريق معنى.
وأما الشارع، فالمحكي عن صريح بعضهم هو النبي صلى الله عليه وآله، بل حكي نسبة بعض الأفاضل إياه إلى ظاهر كلام القوم. والمحكي عن بعض أنه حقيقة عرفية فيه صلى الله عليه وآله، والظاهر أن مراده أن لفظ الشارع حيث إنه على زنة الفاعل بحسب وضعه الهيئي ظاهر في الله تعالى، كما فهمه الشيخ محمد تقي (قدس سره) فيكون معناه جاعل الشرع أي الدين، وهو الله سبحانه، لا غير، بناء على بطلان التفويض كلية، أو في الجملة أيضا، بناء على عدم كفاية اتصافه صلى الله عليه وآله بالمبدأ في الجملة في صدق الاسم عليه، مع القول بالتفويض في الجملة.
ويؤيد كونه هو الله قوله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) () وقوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا) () الآية وورود الشارع في أسمائه تعالى.
لكن هذا لا ينفي جواز استعماله في النبي صلى الله عليه وآله أيضا، بل تدل على بطلان التفويض كلية، وعلى بطلان انحصار إطلاقه عليه صلى الله عليه وآله.
وقد يتخيل أن معنى الشارع هو مبين الشرع، بمقتضى الوضع الهيئي استنادا إلى أن شرع في الأصل بمعنى سن، وهو بمعنى بين، كما في القاموس، وزنة الفاعل يقتضي تلبس الذات واتصافها بالمبدأ، فإذا صار المبدأ معناه التبيين، فيكون معنى الشارع بمقتضى الهيئة حينئذ هو المبين، وهو النبي صلى الله عليه وآله.
وفيه أولا: منع كون شرع بمعنى بين، ومجئ سن بمعناه لا تستلزمه.
وثانيا: ان مادة الشرع منقولة من المعنى اللغوي إلى الدين كما أشرنا إليه، فالذي ذكره على تسليمه، إنما هو مقتضى وضعه اللغوي لا الاصطلاحي.
وثالثا: انه لا مرية أنه على فرض تسليمه لا يختص بالنبي صلى الله عليه وآله، بل على الأئمة عليهم السلام أيضا، فإنهم أيضا مبينون للشرع، وهو باطل إجماعا، فالملزوم
238

كذلك، بل يجري في العلماء أيضا، وهو من أفضح الأغلاط، اللهم إلا أن يراد به المبين للشرع من أول الأمر بعد عدم ظهوره رأسا.
وكيف كان، فالحق ما أشرنا إليه من كون الشرع منقولا، ثم الحق صدق الشارع من حيث وضعه الهيئي على الله تعالى، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله كليهما حقيقة.
وذلك لأن زنة الفاعل موضوعة للدلالة على الذات المتلبسة بالمبدأ، ولا ريب أن التلبس به يختلف باختلاف موارد المشتقات، ففي بعضها بعنوان الإيجاد والجعل، وفي آخر بعنوان الملكة، وفي ثالث بعدم الإعراض، وفي رابع بعنوان الاستصحاب، وغير ذلك، وما نحن فيه من الرابع، فالشارع هو صاحب الشرع أي الدين وهو أعم، فافهم.
ثم إنه يلزم [من] اختصاص الشارع به سبحانه تعالى، أحد المحذورين في حد الحقيقة الشرعية، إما ارتكاب المجاز بحمله على الأعم، أو التزام خروج الحقائق الشرعية النبوية من المحدود، وكلاهما باطل.
أما الأول فواضح، وأما الثاني فللإجماع على دخولها فيه، بل الحق ان الحقيقة الشرعية بأسرها من غيره سبحانه تعالى، فإن غاية ما وصل منه تعالى هي استعمالات تلك الألفاظ، ولا ريب أنه لا يتحقق الحقيقة بالاستعمال مرة، أما تعينا، فواضح، لتوقفه على غلبة الاستعمالات بلا قرينة متصلة، وأما تعيينا [فلأن] ما اقترنت به تلك الاستعمالات إنما هي قرينة المراد، وأما القرينة على وضعه تعالى تلك الألفاظ لتلك المعاني، فمما نقطع بعدمها.
وأما على اختصاصه به صلى الله عليه وآله، وإن لم يلزم محذور، حيث إن الاستعمالات القرآنية ليست حقائق شرعية، بل هي مجازات لغوية، وإنها ثبتت في لسان النبي صلى الله عليه وآله، ومن بعده من الأئمة عليهم السلام على قول، إلا أن أصل الاختصاص ممنوع جدا، فالأجود ما اخترناه من التعميم، وعليه أيضا لا يرد شيء من المحذورين.
هذا إذا قلنا بأن الشرع عبارة عن الأحكام الواقعية المجعولة من الله سبحانه تعالى، بمعنى أن صيرورتها شرعا لا يتوقف على تبليغها إلى العباد، وإلا فإن بنينا على مدخلية ذلك في اتصافها بكونها شرعا، كما هو الظاهر، حيث إنه منقول عن الطريق
239

الحسي إلى المعنوي، الذي هو الدين، وهو لا يكون طريقا إلا بعد وصوله إلى العباد، فنحن مستريحون عن المناقشات طردا، لصحة إطلاق الشارع على الله تعالى وعلى النبي صلى الله عليه وآله حقيقة، وذلك لأن معنى الشرع حينئذ هو الحكم المجعول البالغ إلى العباد، فله جزء ان الجعل، والبلوغ، والأول من فعل الله سبحانه، والثاني من فعل النبي صلى الله عليه وآله، فيصح نسبة هذا المركب إلى كل واحد من موجدي جزئيه.
لا يقال: إن الأفعال مستندة إلى الجزء الأخير من العلة كما في الإحراق. فإنه لا يقال الجامع الحطب أنه محرق بل يطلق على ملقي النار خاصة وهكذا فيما نحن فيه فلا بد ان يطلق الشارع على النبي خاصة.
لأنا نقول: هذا في الأفعال التوليدية، وأما في المركبات فالحق ما ذكرنا، كما في بناء الدار، إذا بناها بناءان، فإنه يطلق على كل واحد منهما أنه بناها وما نحن فيه منها.
ثم إن المحكي عن المعتزلة تقسيم الموضوعات الشرعية على وجوه أربعة: لأنها إما أن يعرف أهل اللغة لفظها ومعناها، أولا يعرفون شيئا منهما، أو يعرفون اللفظ دون المعنى، أو بالعكس، وخصصوا الثلاثة الأخيرة باسم الدينية، فيكون أخص مطلقا من الشرعية بالمعنى المعروف، وهو الأعم الشامل الجميع الأقسام الأربعة.
وربما قيل باختصاص الشرعية بالقسم الأول من الأربعة خاصة، فتكون مباينة للدينية، لكن الاختصاص ممنوع، بل هو إطلاق آخر للشرعية.
هذا لكن في التقسيم المذكور ما لا يخفى:
أولا: إذ لا وجود لقسمين من الأقسام الأربعة ضرورة أنه ليس في الألفاظ الشرعية لفظ مخترع لا يعرفه أهل اللغة، كما اعترف به الجماعة، فلا يوجد من أقسام الدينية قسمان.
ثانيا: إذ من المعلوم أن جل المعاني الشرعية أو كلها أمور مستحدثة من الشارع، لا يعرفها أهل اللغة، فحينئذ لا يكاد يتحقق مصداق للحقيقة الشرعية، غير ما فرض حقيقة دينية، فيتحد مصداقا الحقيقتين في الخارج وحينئذ فلا وجه لجعل النزاع في الحقيقة الدينية مغايرا للنزاع في الشرعية، كما وقع في المختصر، على ما حكي عنه وغيره، حيث أسند القول بثبوت الدينية إلى المعتزلة بعد اختياره القول بثبوت الشرعية.
وقد يوجه ذلك، بأن كثيرا من تلك المعاني أمور معروفة قبل هذه الشريعة،
240

ثابتة في الشرائع السابقة، وهي معلومة عند العرب، وربما يعبرون عن كثير منها بالألفاظ الشرعية أيضا، إلا أنه حصل هناك اختلاف في مصاديق تلك المفاهيم بحسب اختلاف الشرائع، كاختلاف كثير منها في هذه الشريعة بحسب اختلاف الأحوال والمفهوم العام متحد في الكل فما لا يكون معروفا أصلا مندرج في الدينية.
وفيه بعد الغض عن صحة الوجه المذكور انه لا ينطبق عليه ظاهر كلماتهم حيث نصوا على حدوث المعاني الشرعية ومع ذلك فمع البناء على كون النزاع في المسألة في الإيجاب والسلب الكليين كما سيجيء بيانه لا يتحقق وجه لما ذكره أيضا لاندراج الدينية إذن في الشرعية، فيقول بها من يقول بها كليا وينفيها من ينفيها كذلك، إلا أن تخص الشرعية بما يقابل الدينية، وهو خلاف ظاهر كلماتهم في حدود الشرعية.
ثم إنه قد حكي عن المعتزلة أيضا: أن ما كان من أسماء الذوات - كالمؤمن والكافر، والإيمان، والكفر، ونحوها - حقيقة دينية، بخلاف ما كان من أسماء الأفعال، كالصلاة، والزكاة، والمصلي، والمزكي، ونحوها.
والظاهر بقرينة الأمثلة المذكورة أنهم أرادوا بأسماء الذوات ما كان متعلقا بأصول الدين، وما يتبعها مما لا يتعلق بالأعمال، وبأسماء الأفعال ما كان متعلقا بفروعه مما يتعلق بأفعال الجوارح ونحوها.
وفيه حينئذ - مع ما فيه من ركاكة التعبير - أن دعوى الفرق بين ما كان متعلقا بأصول الدين، وما يتعلق بالفروع، بكون الأول مما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه، بخلاف ما تعلق بالثاني من وضوح الفساد بمكان لا يحتاج إلى البيان.
وكيف كان، فالمحصل من هذا الكلام: أن الحقيقة الدينية عندهم ما تعلق بأصول الدين، بخلاف ما تعلق بالثاني، ويكون الشرعية أعم من ذلك، أو خصوص ما تعلق بأفعال الجوارح - بناء على الاحتمال المتقدم - فتكون مباينة، لها فتعبيرهم عنها - بأنها ما لا يعرف أهل اللغة لفظها أو معناها أو كلاهما - فاسد كما عرفت.
المقام الأول - في تحرير محل النزاع في المسألة.
فنقول: ظاهر بعضهم كصاحب المعالم () وغيره: أن الألفاظ المتداولة في ألسنة المتشرعة الصائرة حقيقة في خلاف معانيها اللغوية، ومنقولة في هذا الزمان بأسرها محل النزاع.
241

وهو من الفساد بمكان لا يحتاج إلى البيان، ضرورة أن بعض هذه الألفاظ سيما في ألفاظ المعاملات، من المصطلحات الجديدة الحادثة من الفقهاء المتأخرين عن زمن الأئمة عليهم السلام، وبعضها محل الشك في أن الشارع استعمله ولو مجازا أولا؟ فضلا عن بلوغه حد الحقيقة في لسانه، وبعضها مما يشك في بلوغه في الاستعمال إلى حد يمكن معه النقل بعد إحراز استعمال الشارع له في الجملة، فكيف يمكن دعوى ان جميعها محل النزاع، مع أن ظاهر كلام القائلين بالثبوت هو الثبوت مطلقا ولا يلتزم به أحد، لما عرفت.
وكيف كان، فلا يمكن جعل النزاع فيها كلية، فتعين البعض، لكنه أيضا لا يكاد يتبين أنه أي بعض من أبعاضها، فإنه إما باختصاص خصوصيات ذلك البعض، وهي الألفاظ الخاصة فردا فردا، وإما ببيان تلك الخصوصيات بالعنوان الكلي الحاكي عنها، والأول متعذر أو متعسر غايته، والثاني لا يكاد يمكن لعدم ضابط وجامع لتلك الخصوصيات، بحيث يكون مرآة لها حاكية عنها بأسرها.
وقد تصدى بعض المحققين () في حاشيته على المعالم لبيان الضابط بأنه ما يجمع شروطا ثلاثة:
أحدها: كونه من الألفاظ المتداولة في ألسنة المتشرعة من قديم الزمان أي مبدأ وقوع النزاع في الحقيقة الشرعية، نظرا إلى انتفاء التفاوت (1) فيما نحن فيه عن ذلك الزمان إلى الآن.
وثانيها: أن تكون مستعملة في المعاني الجديدة الشرعية بالغة إلى حد الحقيقة عند المتشرعة في ذلك الزمان.
وثالثها: غلبة استعمال تلك الألفاظ في لسان الشارع في المعاني الشرعية بحيث يكون استعماله إياها في غيرها نادرا انتهى.
ولقد أجاد النظر في فهم محل النزاع، لكن اشتراطه بكونه جامعا للشرطين الأولين ليس بجيد، لعدم مدخليتهما في محل النزاع.
فالحق أن مدار البحث على الشرط الثالث الذي ذكره، وهو تداول استعمال
(1) قوله نظرا إلى انتفاء التفاوت: وجه انتفاء التفاوت ان النزاع في الحقيقة الشرعية إنما هو بالنسبة إلى زمان الشارع وثبوتها يتوقف على شيوع استعمالها وتداولها في زمان الشارع، فلازمه تداوله في كلا الزمانين (منه رحمه الله).
242

الشارع تلك الألفاظ في المعاني الجديدة الشرعية، وغلبتها بحيث يمكن معها النقل، والضابط هو هذا، وأخذ الشرطين الأولين معه كأخذ الحجر مع الإنسان، ووضعه في جنبه.
ثم إن مراد النفاة للحقيقة الشرعية، يحتمل وجوها ثلاثة:
أحدها: منع استعمال الشارع تلك الألفاظ في المعاني الجديدة الشرعية رأسا، وأنها مستعملة في معانيها اللغوية، والخصوصيات الثابتة اللاحقة لها شروط ثبتت من الخارج، كما هو ظاهر كلام القاضي الباقلاني.
وثانيها: التزام استعمال الشارع إياها فيها في الجملة، لكن مع منع بلوغه في الكثرة إلى حد يمكن معه النقل.
وثالثها: التزام أصل الاستعمال مع بلوغه في الكثرة إلى حد يمكن معه النقل، لكن مع منع شرط النقل، وهو كون الاستعمالات المذكورة مجردة عن القرائن المتصلة.
هذا، لكن مما ذكرنا من الضابط لمحل النزاع يظهر أن المراد هو الوجه الأخير، إذ بعد فرض كون محل النزاع ما بيناه، فلا بد أن يكون أصل الاستعمال كذا، وبلوغه في الكثرة في لسان الشارع إلى حد يمكن معه النقل مفروغا عنهما عند الفريقين.
لكن الثمرة التي ذكروها للمسألة، هي حمل الخطاب المجرد عن القرينة على المعنى اللغوي، على القول بعدم الثبوت لا تلائمه، إذ لا ريب أن الاستعمال إذا وصل إلى الحد المذكور في الكثرة، فاللفظ معه لو لم يكن حقيقة ومتعينة في المعنى المستعمل فيه، فهو مجاز مشهور لا محالة، وحكمه كما عرفت عند المشهور، وعلى المختار الإجمال عند عدم القرينة.
هذا بخلاف أحد الوجهين الأولين، فإنها ملائمة لكل واحد منهما، أما على الأول منهما فواضح، وأما على الثاني، فلعدم بلوغ الاستعمال إلى حد يوجب كون اللفظ مجازا مشهورا في مورد الاستعمال.
ومن هنا ظهر اختلاف مؤدى الوجهين الأولين مع الأخير هذا.
وكيف كان، فكأن أصل استعمال الشارع تلك الألفاظ في المعاني
243

الجديدة إجماعي، كما هو ظاهر جمع منهم صاحب المعالم () (قدس سره)، فيخرج الوجه الأول عن احتمال كونه محلا للنزاع، لكن أحد النقلين عن الباقلاني (1) إنكار أصل الاستعمال، وهو ينافي ثبوت الاتفاق المذكور، فيقع التدافع بين دعوى الاتفاق المذكور، وبين النقل المزبور.
ويمكن التوفيق بينهما بوجوه:
الأول - ما ذكره المير السيد شريف () (قدس سره)، بعد ما التفت إلى التنافي المذكور، من أنه قد يكون الشخص مدعيا للاتفاق إلزاما لمطلبه على خصمه، مع مخالفة ما يدعيه من الاتفاق لاعتقاده، فحينئذ لا منافاة بين نفس دعوى الاتفاق، مع عدم الاعتقاد بثبوته، وبين النقل المذكور.
وفيه ما لا يخفى على ذي مسكة.
الثاني: ما ذكره بعض المحققين في حاشيته على المعالم ()، من أن عدم التفات المدعي للإجماع إلى النقل المذكور، إما لعدم ثبوته عنده، أو لوهنه أو لوضوح فساده، فتأمل.
الثالث: ما ذكره بعض المتأخرين من أن غرض الباقلاني منع استعمال تلك الألفاظ في المعاني المباينة للمعاني اللغوية، لكنه لا يمنع من استعمالها في المعاني الشرعية الجديدة بطريق التقييد، بأن يكون مورد الاستعمال هو المعنى اللغوي مقيدا بالخصوصية التي أضافها الشارع، بأن يكون تقيدها داخلا في مورد الاستعمال، ونفسها خارجة، ولا ريب أن المستعمل فيه حينئذ هو المعاني اللغوية.
نعم لو أخذت هي مركبة مع تلك الخصوصيات، بأن يكون مورد الاستعمال
(1) وإليك نص كلامه - على ما ذكره في هامش منية اللبيب، المخطوط، في مبحث الحقيقة الشرعية عند قوله وأما إمكانها أي الحقيقة الشرعية فمتفق عليه بين الأصوليين، والخلاف إنما هو في الوقوع، فمنعه القاضي أبو بكر مطلقا:
(قال إن الشرع لم يستعملها إلا في الحقائق اللغوية، والمراد بالصلاة المأمور بها هو الدعاء، ولكن أقام الشرع أدلة أخرى على أن الدعاء لا يقبل إلا بشرائط مضمومة إليه).
وفي شرح الوافية للسيد الأعرجي هكذا: (وبالجملة فالنفي انما نسبه الآمدي والرازي وغيرهما إلى القاضي أبي بكر). ونسبه إليه في تيسر التحرير أيضا الجزء الثاني: 15 - 17. ان شئت فلاحظ.
244

المجموع منهما، بحيث يكون كل واحد جزء منه، فهذا ما أنكره الباقلاني، حيث إنه مباين للمعنى اللغوي.
وكيف كان فهو لا ينكر أصل الاستعمال المجازي في تلك الألفاظ، بل يمنع من استعمالها في المجاز المباين للمعاني اللغوية. والذي ادعى الإجماع عليه - أيضا - هو مطلق الاستعمال المجازي، لا خصوص المباين، فلا منافاة، وهو حسن، فتأمل.
ثم إن الوضع المدعى ثبوته لتلك الألفاظ في محل النزاع، الحق أنه أعم من التعييني، كما سيجيء، إن شاء الله، وإن كان ظاهر بعض أدلة النافين خصوصه، كقولهم لو ثبت لفهمه المخاطبون، ولو فهم للنقل إلينا.
ثم النزاع لا يختص بألفاظ الكتاب خاصة، أو بألفاظ الأخبار النبوية خاصة، أو بكليهما خاصة، بل أعم من كل منهما، بحيث يشمل ما قد صار حقيقة في المعنى الجديد باستعمالات الصحابة، والتابعين تبعا لاستعمال الشارع المجازي.
المقام الثاني في ثمرة المسألة،
فاعلم أنها على ما ذكره، إنما هو حمل الخطابات الصادرة من الشارع المجردة عن القرائن على المعاني الجديدة - على القول بثبوت الحقيقة الشرعية فيها - وحملها على المعنى اللغوي على القول بعدم ثبوتها.
ولا يخفى ما فيها في كل من طرفيها:
أما طرفها الثاني - وهو حمل الخطابات المذكورة على المعنى اللغوي - فقد عرفت ما فيه آنفا، من عدم انطباقه على محل النزاع حيث إنك عرفت أن الحكم - حينئذ - هو التوقف والإجمال - على المشهور - لصيرورة اللفظ حينئذ مجازا مشهورا، لا محالة، فتأمل.
وأما طرفها الأول: فلتوقفه على العلم بتأخر صدور الخطاب عن زمان حصول النقل، ولا يكاد يتمكن من تحصيله في مورد من الموارد، والا فمع الجهل به، فالأصل هو التوقف، والإجمال لتكافؤ أصالة تأخر كل من الأمرين لأصالة تأخر الآخر.
ولو قيل بأن مقتضى الأصلين - حينئذ - هو التقارن، ولازمه حمل الخطاب على المعنى الجديد.
ففيه: أنه بعد تسليم اعتبار هذا الأصل لا يجوز التمسك به.
أما على الوضع التعييني في الحقائق الشرعية، كما هو ظاهر بعض أدلة المثبتين، فلا يكاد يعقل التقارن، لأن الصادر من الشارع في آن واحد فعل واحد، وهو إما
245

الوضع، بأن يقول: وضعت هذا اللفظ لذلك المعنى، أو الاستعمال، بأن يقول: صلوا مثلا مريدا بها الأركان المخصوصة، ولو بضميمة القرينة.
هذا، لكن الإنصاف إمكانه - حينئذ - لما سيجيء إن شاء الله من إمكان إحداث الوضع التعييني بنفس الاستعمال، نعم يرد عليه ما يرد على الوضع التعييني مما سيجيء.
وأما إذا كان الوضع تعينيا كما هو الظاهر، على فرض ثبوت الحقيقة الشرعية، فلأنه إن أمكن بعد التقارن بأن يكون الاستعمال الأخير - المجازي المحصل للنقل - هو هذا الاستعمال، لكنه يلزمه تعدد استعمال اللفظ في لسان الشارع، وإلا لما أمكن النقل، ومعه لا يجوز الحكم بتقارن هذا الاستعمال للوضع دون غيره، أو بالعكس للعلم الإجمالي بأن المقارن له هو أحد هذه الاستعمالات، لاستحالة تقارن الجميع معه عقلا، مع عدم ما يدل على عدم تعين المقارن فأصالة التقارن في كل استعمال معارضة بمثلها في الآخر، ولا يجوز العمل بالأصلين معا لمخالفته للعلم الإجمالي.
وهذا الإشكال يتوجه على تقدير الوضع التعييني - أيضا - مع العلم بتعدد استعمال اللفظ في لسان الشارع، وأما مع القطع بوحدته حينئذ، فلا، بل يمكن إثبات التقارن، والأخذ بلازمه، وأما في صورة الشك في الاتحاد والتعدد، فلا يبعد الحكم بالتقارن أيضا، والأخذ بلازمه نظرا إلى إلحاقه بصورة القطع بالاتحاد بمقتضى الأصل.
وربما يقال علي فرض ثبوت الوضع التعيني إن الظاهر من حال الشارع تقدم النقل على جميع الاستعمالات الصادرة منه، وحصوله من أول الأمر لحصول الداعي إليه من أول الأمر، فيرتفع الإشكال رأسا.
وفيه أن الداعي إليه إنما هو شدة الحاجة إلى استعمال تلك الألفاظ، وهي لم تكن حاصلة من أول الأمر، ضرورة أن بناء الشارع على بيان الأحكام تدريجا، وتكليف الناس بها كذلك، وشدة الحاجة إنما تحصل إذا أراد بيانها في وقت واحد.
وقد يناقش في المقام: تارة بأن الحمل على الحقيقة الشرعية مطلقا، مبني على تقدم عرف المتكلم على المخاطب، وعلى القول بتقديم عرف المخاطب أو التوقف يشكل الحكم المذكور مع كون المخاطب من أهل العرف واللغة.
وأخرى بأن غاية ما ثبت إنما هي الكبرى - أعني صيرورة الألفاظ المتداولة في لسان الشارع حقائق في المعاني الجديدة - لكنها لا تكفي في ترتب الثمرة المذكورة، إلا
246

بعد إحراز أن هذا اللفظ الوارد في خطاب الشارع من الألفاظ المتداولة، وإحراز هذه الصغرى - في خصوص الموارد فردا فردا - دونه خرط القتاد.
وقد أجيب عن الأولى: بأن الحقيقة الشرعية ليست كغيرها من العرفيات، بل لا بد من حمل كلام الشارع عليها - مع الإطلاق - على كل حال إذ هو ثمرة وضعها لذلك، ولذا لم يتأمل أحد في ذلك مع حصول التأمل في تقديم أحد العرفين. انتهى.
لكنه كما ترى إنما يناسب الوضع التعييني.
والتحقيق في الجواب: الترديد بأن المخاطب إن كان من التابعين والأصحاب، فهو تابع في المحاورة والخطاب للشارع، ولا يغاير اصطلاحه في محاورته اصطلاح الشارع، فحينئذ يدخل المقام في تعارض العرف الخاص واللغة بالنسبة إلى شخص واحد، وهو المتكلم الذي هو الشارع في المقام، فانا نشك في أنه هل تكلم على اصطلاحه أو على مقتضى اللغة، ولا ريب في تقديم العرف الخاص كما مر آنفا.
وإن لم يكن المخاطب من التابعين، بل كان محاورته على طبق اللغة، فهذا يدخل في تعارض العرف الخاص واللغة في شخصين، وقد عرفت أن الحق فيه التوقف، لكن هذا لا يوجب المناقشة في ثمرة المسألة إذ يكفي فيها ظهورها في بعض الموارد.
وأما الجواب عن المناقشة الثانية: فبأن إحراز الصغرى في كل من المطالب والمباحث لا بد منه، بحيث لولاه لا يحصل ثمرة البحث، لكنه لا يصير مناقشة في الثمرة إذ المفروض حصولها مع إحراز الصغرى، والمناقشة إنما تتجه إذا لم تظهر الثمرة عند إحرازه الصغرى أيضا.
هذا مع أن دعوى امتناع تمييز الصغريات - مطلقا - دونها خرط القتاد، ضرورة إمكان العلم ببعضها، فتظهر الثمرة في ذلك البعض، فلا تخلو المسألة عن الثمرة بحيث يكون البحث فيها لغوا.
المقام الثالث: في أقوال المسألة،
فنقول: الموجود عند المتقدمين إلى زمان صاحب المعالم قولان: النفي المطلق، والإثبات كذلك () والمشهور في ذلك الزمان هو الثاني، بل ادعى اتفاق المتقدمين عليه مع نسبة القول الأول إلى المتأخرين، وقد حدثت من المتأخرين تفاصيل عديدة ()، وأقوال شتى غير هذين في بادي الرأي.
247

منها: التفصيل بين ألفاظ العبادات والمعاملات، فقيل بالثبوت في الأولى وبالنفي في الثانية.
ومنها: التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران كالصلاة، والزكاة، والصوم والوضوء والغسل ونحوها، وبين غيرها مما ليس بتلك المثابة فقيل بالثبوت في الأولى دون الثانية.
ومنها: التفصيل بين عصر النبي صلى الله عليه وآله، وبين عصر الصادقين عليهما السلام وما بعده فقيل بنفي الحقيقة في الأولى إلى زمان الصادقين، وثبوتها في زمانهما عليهما السلام وما بعده.
ومنها: التفصيل الملفق من التفصيل في الألفاظ والأزمان، وهو التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران في زمان النبي صلى الله عليه وآله، وفيما عداها في عصر الصادقين عليهما السلام، ومن بعدهما فقيل بالثبوت في الأولى دون الثانية.
ومنها: التفصيل بين الأزمان والألفاظ أيضا، فقال: إن الألفاظ المتداولة على السنة المتشرعة مختلفة في القطع بكل من استعمالها ونقلها إلى المعاني الجديدة بحسب اختلاف الألفاظ والأزمنة اختلافا بينا، فأن منها ما يقطع بحصول الأمرين فيها في زمان النبي صلى الله عليه وآله، ومنها ما يقطع باستعمال النبي صلى الله عيلة وآله إياه في المعنى الشرعي، ولا يعلم صيرورته حقيقة إلا في زمان انتشار الشرع وظهور الفقهاء والمتكلمين. ومنها: ما لا يقطع فيها باستعمال الشارع، فضلا عن نقله، ومنها ما يقطع فيها بتجدد النقل والاستعمال في أزمنة الفقهاء هذا تمام ما نسب إليهم من الأقوال، لكن المتأمل المدقق يعلم أن تلك التفاصيل ليست تفاصيل في المسألة، فلا تعد هذه أقوالا مقابلة للقولين الأولين.
وتوضيح ذلك: أن محل النزاع على ما عرفت ليس مطلق الألفاظ في مطلق الأزمنة، بل هي الألفاظ المتداولة في زمان النبي صلى الله عليه وآله، فحينئذ يصير كل من التفاصيل المذكورة بيانا لمحل النزاع، وراجعا إلى أحد القولين الأولين.
أما التفصيل الأول، فلوضوح خروج ألفاظ المعاملات عما حققنا من ميزان محل النزاع، فإنها ليست الألفاظ المتداولة في ذلك الزمان، فعلى هذا يرجع هذا القول إلى القول بالإثبات المطلق، فإن محل النزاع هي الألفاظ المتداولة، وهي ألفاظ العبادات، فالقول بصيرورتها حقائق شرعية قول بها مطلقا في محل النزاع.
248

وأما التفصيل الثاني، فانطباقه على القول بالإثبات المطلق أوضح، فإن الألفاظ الكثيرة الدوران، التي ذهب المفصل إلى ثبوت الحقيقة الشرعية فيها، هي محل النزاع في المسألة وغيرها خارجة عنها.
وأما التفصيل الثالث، فكذلك أيضا بمعنى أنه راجع إلى القول بالنفي المطلق لأن غير زمان النبي صلى الله عليه وآله خارج عن محل النزاع في مسألتنا هذه، فيكون إنكار الحقيقة الشرعية في زمانه صلى الله عليه وآله أجمعين - نفيا لها مطلقا.
وأما التفصيل الرابع، فهو أيضا راجع إلى القول بالإثبات المطلق، كالأول والثاني، وأما التفصيل الخامس، فحاصله هو التفصيل الرابع طابق النعل بالنعل.
إلى هنا تمت هذه المسألة.
249

في مبحث المشتق
بسم الله الرحمن الرحيم القول في المشتق، وهو كما ذكره جماعة اللفظ المأخوذ من لفظ، ويسمى الأول أصلا، والثاني فرعا، ولا بد بينهما من مناسبة في المعنى، ليصح الأخذ والاشتقاق، وفي الزبدة (): أنه فرع وافق الأصل بأصول حروفه، إلى غير ذلك من التعاريف.
لكنها مع عدم سلامة كلها، أو جلها، عن المناقشات غير محتاج إليها في المقام، لأن الغرض من تحديد الشيء هو التوصل به إلى معرفة حال جزئياته، وجعله مرآة في تميزه عن غيره بواسطة انطباق الحد عليها، وأقسام المشتق من الأسماء، والأفعال مما لم يقع الخلاف فيها من أحد، فلا حاجة إلى التعريف، والنقض والإبرام، فينبغي صرف الهمة إلى ما هو الغرض الأصلي في المقام.
فنقول: إن تحقيق المرام، يتوقف على تقديم أمور:
الأول: المقصود بالبحث في المقام،
ليس تحقيق معاني مبادئ المشتقات موادها، فإن الكافل له إنما هو كتب اللغة، ولا معرفة كيفية اشتقاقها فان المرجع فيها، إنما هو في التصريف، بل الغرض إنما هو معرفة معانيها من حيث أوضاعها النوعية، وهي معاني هيئاتها الكلية، الطارئة على مواردها الجزئية، الموضوعة لمعانيها بالأوضاع الشخصية.
الثاني: النزاع في المقام ليس في مطلق المشتقات، بل في غير الأفعال،
أما هي، فلا خلاف في أن الماضي منها لقيام المبدأ بفاعله في الماضي، وأن إطلاقه على غيره إنما هو تجوز، أو تأويل، كإطلاقه على المستقبل تنزيلا له منزلة الماضي لتيقن وقوعه، وأن المضارع منها لقيامه به في الحال، أو الاستقبال، على سبيل الاشتراك، وأما الأمر والنهي، فتحقيق الحال فيهما محول إلى مباحثهما المنفردة لهما.
الثالث:
الظاهر عموم الخلاف لا سمي الفاعل، والمفعول، والصفة المشبهة، واسم الفعل، والأوصاف المشتقة، كالأصغر والأبيض والأحمر ونحوها، والمشتقات من أسماء الأعيان، كلابن، وتامر، وتمار، وعطار، وحائض، بناء على كونه مشتقا من
250

الحيض بمعنى الدم، لا بمعنى السيلان، وإلا لدخل في اسم الفاعل المشتق من الأحداث، واسم المكان، والآلة، وصيغ المبالغة، وأما اسم الزمان، فهو خارج عن محل النزاع قطعا.
فلنا: هنا دعويان:
الأولى: عموم النزاع لغير الأخير.
الثانية: خروج الأخير عنه.
لنا على الأولى عموم وإطلاق الأدلة، والعنوانات، لاقتضاء أدلتهم عموم الدعوى، وعدم تقييدهم للعناوين ببعض من الأقسام.
هذا مضافا إلى تصريح جماعة منهم بذلك التعميم.
وربما يقال: بخروج اسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم الفعل عن محل البحث لظهور الوضع للأعم في الأول، وبخصوص الحال في الأخيرين.
ويدفعه المحكي عن بعض الأفاضل من ابتناء كراهة الوضوء بالماء المسخن بالشمس بعد زوال السخونة على النزاع في المسألة، مع أنه من اسم المفعول.
وذهب التفتازاني (1) إلى اختصاص النزاع باسم الفاعل الذي بمعنى الحدوث، وأما الذي بمعنى الثبوت كالمؤمن، والكافر، والنائم، واليقظان، والحلو، والحامض، والحر، والعبد، ونحوها، فهو خارج عنه لاعتبار الاتصاف بالمبدأ في الحال فيه في بعض الموارد جدا، كالأولين، والأخيرين من أمثلته واعتبار الاتصاف به في البعض الآخر، مع عدم طرو المنافي على الحمل كالباقي من أمثلته.
وعن ثاني الشهيدين (2) (قدس سرهما)، وجماعة من المتأخرين اختصاصه بما إذا لم يطرأ على المحل ضد وجودي بتوصيف الزائل، وأما مع طروه، فلا كلام في عدم صدق المشتق عليه حقيقة.
وعن الشيرازي في المحصول (3)، دعوى الاتفاق على المجازية حينئذ، وحكي
(1) في شرحه على شرح المختصر والتحقيق ان النزاع حقيقة في اسم الفاعل الذي بمعنى الحدوث، لا في مثل المؤمن والكافر والنائم إلخ.
(2) تمهيد القواعد المذكور في كتاب الذكرى: 10 القاعدة التاسعة عشرة قاعدة: إطلاق المشتق كاسم الفاعل واسم المفعول إلى أن قال: ومحل الخلاف ما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي يناقض المعنى الأول أو يضاده كالزنا والقتل والشرب.
(3) مخطوط، فقد نسب إليه الشهيد في القواعد حيث قال: فإنه يكون مجازا اتفاقا على ما ذكره في المحصول.
251

ارتفاعه عن بعض أفاضل المتأخرين المقارب عصره بعصرنا.
وعن ثاني (1) الشهيدين أيضا، والغزالي، والأسنوي (2)، اختصاصه بما إذا كان المشتق محكوما به، وأما إذا كان محكوما عليه، فلا كلام في صدقه مع الزوال هذا.
وقد عرفت أن هذا كله خلاف التحقيق، مع أن الاستدلال بعموم آيتي الزنا ()، والسرقة () على عدم اشتراط بقاء المبدأ صريح في عموم النزاع للأخير.
وأما على الثانية فأن الذات المعتبر تلبسها بالمبدأ في صدق المشتق حقيقة في اسم الزمان نفس الزمان، ومن المعلوم عدم قابليته للبقاء حتى يقع النزاع في صدق الاسم عليه حقيقة بعد الانقضاء، حسب ما هو الشأن في سائر المشتقات فحينئذ، فإن أريد إطلاق الاسم على الزمان الذي وقع فيه الفعل، فهو حقيقة دائما، ولو بعد انقضائه، وإن أريد إطلاقه على الزمان الآخر، فلا شبهة في مغايرته لذلك الزمان، فلا معنى لاحتمال كون الإطلاق على وجه الحقيقة، وهذا ظاهر إلى ما لا مزيد عليه.
وكيف كان، فتعيين محل النزاع من هذه الحيثية ليس بمهم لنا، إنما المهم تحقيق الحال في كل من الحالات والأقسام، حسب ما اقتضاه الدليل. وسيأتي التعرض لكل منهما عن قريب إن شاء الله.
الرابع: المراد بالحال في عنوان كلامهم - الآتي في المقام - ما يقابل الماضي والاستقبال، ولا يخفى أنه لمقابلته أمر إضافي، فهو في كلام المطلقين يحتمل وجهين:
أحدهما: حال النطق - أعني زمان التكلم - كما هو الظاهر منه عند الإطلاق، فمفهوم المشتق على القول بكونه حقيقة في خصوص ذلك، هو المتلبس بالمبدأ حال الإطلاق، بمعنى إضافته حينئذ على الوجه الآتي.
ثانيهما: زمان اتصاف الذات بالمبدأ على وجه كان مصححا للاشتقاق، وموجبا لجواز الإطلاق في سائر الصيغ المشتقة منه، كالماضي والمضارع حقيقة أو مجازا
(1) تمهيد القواعد: 10 عند قوله في القاعدة التاسعة عشرة، هذا كله إذا كان المشتق محكوما به إلخ.
(2) ما عثرنا على كتابه، ولكن عثرنا على مقالته في شرح الوافية للسيد صدر الدين المخطوط في ذيل قول الوافية (وفي تمهيد الأصول إن النزاع إنما هو فيما إذا كان المشتق) وإليك نصه: وفي تمهيد الأصول إلخ، أقول قال الأسنوي في شرح المنهاج إن محل الخلاف ما إذا كان المشتق محكوما به، وأما إذا كان متعلق الحكم كقولك السارق تقطع يده فحقيقة مطلقا.
252

فمفهوم المشتق على القول بكونه حقيقة في ذلك، هو المتلبس بالمبدأ في الجملة، مع قطع النظر عن حصوله في أحد الأزمنة.
وبهذا الاعتبار يصح تقييده بكل واحد منها، فيقال زيد ضارب في الحال، أو الأمس، أو الغد، لأن النسبة بين الحال بهذا المعنى، وبين كل من الحال، والماضي، والاستقبال، بالمعنى الأول كنسبة كل من مقابليه مع كل واحد من تلك هي العموم من وجه، فمعنى القول بكون المشتق حقيقة في خصوص الحال بهذا المعنى، أن إطلاقه إنما يكون حقيقة، إذا أريد به صدقه على المتصف بالمبدأ باعتبار الحال الذي يطلق عليه اللفظ بحسبه، سواء كان ذلك الحال ماضيا، أو حالا، أو مستقبلا بالمعنى الأول.
فمدار الحقيقة على هذا، إنما هو على اتحاد حال قيام المبدأ بما يطلق عليه المشتق، مع حال إرادة صدقه عليه، فقولك زيد كان ضاربا أمس أو سيصير ضاربا حقيقة، إذا كان زيد متصفا بالضرب في الأمس، أو بعد زمان النطق، ومجاز إن لم يتصف به في المثال الأول عنه قبل () الأمس، وكذا إن لم يتصف به بعد زمان النطق في الثاني، سواء اتصف به في زمان النطق، أو قبله، أو لا.
وكيف كان، فالمحكي عن ظاهر أكثر العبارات، وعن صريح بعض، مضافا إلى ظهور لفظ الحال، كما مر، أن المراد هو حال النطق، وربما يشعر به ما يأتي من الاحتجاج بقول بعض النحاة لصحة قولنا ضارب أمس، على كون المشتق حقيقة في الماضي، وما حكي عن جماعة من كون ضارب - في قولنا ضارب غدا - مجازا، بل المحكي عن العضدي () حكاية الاتفاق عليه، فان هذا كله لا يتم إلا على إرادة حال النطق، إذ الاحتجاج المذكور، وكذا حكمهم بالمجازية لا ينطبقان إلا عليه، إذ إطلاق الضارب في المثالين ليس إلا باعتبار حال التلبس، فلا يصح جعله من إطلاق المشتق على الماضي بالنسبة إلى حال التلبس في المثال الأول، ولا يجتمع الحكم بمجازيته في الثاني، مع إرادة حال التلبس من لفظ الحال المذكور في عنوان المسألة، لما سيأتي من الاتفاق على كون إطلاق المشتق حقيقة في الحال، مع إمكان دفع الثاني باحتمال كون المراد إرادة الزمان من نفس اللفظ، وجعل لفظ الغير قرينة عليه، لما سيجيء من
253

الاتفاق على المجازية، أو باحتمال كون المراد المجازية فيه من حيث وضعه التركيبي، لا الأفرادي، نظرا إلى أن القضية الحملية - المجردة عن الرابط الزماني - ظاهرة في ثبوت المحمول للموضوع أو نفيه عنه في حال النطق، فإرادة ثبوته له في المستقبل في قولنا (زيد ضارب غدا) مجاز بالنسبة إلى وضع الكلام، وان كان المفرد مستعملا في معناه الحقيقي، والأول أقرب للتوجيه، فان الحكم بمجازية (ضارب في المثال، ودعوى الاتفاق عليها، كالصريح، بل صريح في مجازيته بالنظر إلى الوضع الأفرادي، إذ المجازية من جهة التركيب، إنما هي بالنسبة إلى المركب من الطرفين. فلذا لا تسري إلى أحد الطرفين.
هذا، والتحقيق: أن المراد إنما هو حال التلبس - أعني زمان اتصاف الذات بالمبدأ - وفاقا لجمع من المحققين من متأخري المتأخرين، وللمحكي عن جماعة من السابقين.
لنا على ذلك بعد تصريح جماعة به عدم الخلاف ظاهرا في كون المشتق حقيقة في حال التلبس أعم من أن يكون في حال النطق، بل المحكي عن جماعة من الأصوليين دعوى الاتفاق عليه، فيكون هذا قرينة على ما قلنا إذ لا
ريب أن إطلاق المشتق في غير الحال محل الخلاف، كما سنتلوا عليك، وحمله على خصوص حال النطق لا يكاد يجتمع مع عدم ظهور الخلاف في كون المشتق حقيقة في المتلبس في غيره أيضا، فكيف بالاتفاق عليه، وقول جماعة منهم بأن إطلاق المشتق باعتبار الاستقبال مجاز، وإن كان يوهم خلاف ما ذكرنا، إلا أنه بعد التأمل في كلماتهم بملاحظة ما قلنا يظهر أن مرادهم غير ما يتوهم.
وكيف كان، فلا بد حينئذ من حمل ما صدر عن بعضهم مما يوهم ذلك على ما لا ينافي ما قلنا، ومما يمكن حمل القول المذكور عليه هو صورة إرادة الزمان من نفس اللفظ، ومنه حمله على المجازية في الهيئة التركيبية.
لكن يبعد الأول، أنه لا يختص المجازية حينئذ بالاستقبال، بل حال النطق أيضا كذلك، إذ لا شبهة في أن إطلاق المشتق على المتلبس في حال النطق مع إرادة الزمان من نفس اللفظ مجاز.
وأما الثاني، وإن كان محتملا إلا أنه ضعيف في نفسه جدا، لأن الهيئة موضوعة لمجرد نسبة المحمول إلى الموضوع، وظهور ثبوت الأول للثاني في حال النطق من الهيئة إنما هو لظهور الحمل في ذلك إذا خلت القضية عن الرابط الزماني، لا لظهور القضية، وهي الهيئة المركبة.
254

ولو سلمنا ذلك، فنقول: إن المجازية في الهيئة في قولنا (زيد ضارب غدا) إنما هي فيما إذا جعل (غدا) قيدا، فلا إشكال في كون الإطلاق حقيقة على تقدير وضع الهيئة بإزاء المتلبس بالمبدأ في حال النطق، فافهم جيدا.
ومما حققنا ظهر أيضا أن مجمل الاحتجاج المتقدم الدال على كون المراد بالحال هو حال النطق، إنما هو اشتباه الأمر على المستدل، نظرا إلى ظهور لفظ الحال، وظهور بعض العبارات مع الغفلة عما ذكرنا من القرينة الصارفة عنه المعينة للمراد فيما قلنا.
الخامس: لا إشكال في عدم دلالة الاسم المشتق على واحد من الأزمنة، والا لانتقض حد الفعل والاسم طردا وعكسا، كما هو ظاهر.
هذا مضافا إلى اتفاق أهل العربية وعلماء الأصول عليه، وان كان ربما يتوهم من قولهم: المشتق حقيقة في حال النطق أو الماضي؟ وقوع الخلاف فيه من علماء الأصول، لكنه فاسد، لأن مورد الخلاف غير صورة إرادة الزمان من نفس اللفظ، كما حكي التصريح به عن جمع من المحققين.
نعم قد يشكل بما يظهر من عبارات النحاة من أن اسم الفاعل والمفعول يعملان إذا كانا بمعنى الحال والاستقبال ولا يعملان إذا كانا بمعنى الماضي، وربما يندفع بوجوه مخدوشة كلها.
والأولى في دفعه أيضا ما مر من الحمل على غير إرادة الزمان من نفس اللفظ.
وكيف كان، فحال الاسم المشتق بالنسبة إلى الزمان، كحاله بالنسبة إلى المكان في عدم الدلالة عليه، فيكون الحال فيه نظير الحال في الأسماء والجوامد، فكما أنها لا تدل إلا على الذوات المتصفة بأوصافها العنوانية باعتبار حال إرادة صدقها على تلك الذوات من غير دلالة على الزمان كعدم دلالتها على المكان، فكذلك هذا، فإنه كما سيأتي لا يدل إلا على الذات المتصفة بالمبدأ باعتبار الحال المذكور، فبذلك يتبين عدم وقوع الخلاف في المشتق المتنازع فيه من جهة اعتبار الزمان في مفهومه وعدمه.
السادس: لا خلاف في المشتق المتنازع فيه في المقام من جهة كونه حقيقة في قيام المبدأ بنفس الذات أو الأعم، فان هذا النزاع لا يختص بخصوص المقام، بل إنما هو في مطلق المشتقات، بحيث يدخل فيه الأفعال أيضا، ومرجع هذا الخلاف إلى أنه هل يعتبر في إطلاق المشتق مطلقا حقيقة قيام المبدأ حقيقة بالذات المحكوم عليها بالمشتق أولا؟ بل يكفي قيامه بها تسامحا؟ بمعنى أن يكون المورد مما يتسامح فيه عرفا في الحكم بقيام
255

المبدأ بها؟ أي يجوز التسامح كذلك؟ فيكون - قولنا: زيد أحرق الخشب أو يحرقه أو محرقه - مجازا على الأول، لقيام المبدأ الذي هو الإحراق بالنار حقيقة، وحقيقة على الثاني، لصحة الحكم بقيامه بالذات المحكوم عليها في المثال تسامحا.
والأشاعرة لما بنوا على القول الأول، فالتزموا بالكلام النفسي لله تبارك وتعالى، حيث إن كلامه اللفظي ليس قائما بذاته المقدسة، بل حاصل في غيره كالشجرة وأمثالها، مع إطلاق الصيغ المشتقة منه عليه تعالى في القرآن وغيره من الأدعية المأثورة، والاخبار المتواترة، كقوله تعالى «وكلم الله موسى تكليما» وكلفظ متكلم في الأدعية، ومقتضى أصالة الحقيقة في تلك الإطلاقات كون المراد بالكلام غير اللفظي، وهو ما قام بذاته المقدسة، فثبت الكلام النفسي.
وتحقيق الكلام في هذا النزاع، وإن كان له مقام آخر، إلا أن الحق هو القول الثاني، لعدم صحة السلب في المثال المتقدم عرفا، وكفى بها حجة ودليلا. وأما بطلان الكلام النفسي، فموضع تحقيقه إنما هو علم الكلام، فراجع مع أنه بديهي بين الإمامية.
مضافا إلى اتفاق المعتزلة من العامة عليه - أيضا - فحينئذ لو بنينا على القول الأول في الخلاف المذكور، فيكون هذا قرينة على التجوز في الإطلاقات المذكورة.
وكيف كان، فتارة يلاحظ الحقيقية والمجازية في المشتق باعتبار التلبس المأخوذ في مفهومه وضعا. وأخرى من جهة اعتبار حصول هذا التلبس وفعليته لما يطلق عليه باعتبار حال إرادة صدقه عليه كذلك.
ومرجع الخلاف المذكور إنما هو إلى الأول، وحاصله: ان المعتبر في المشتق وضعا هل هو تلبس الذات المحكوم عليها بالمبدأ بالدقة العقلية؟ بأن يكون عبارة عن قيامه بنفسها أو الأعم من ذلك كما مر؟ والذي نحن بصدده في المقام هو الثاني، إذ الكلام في الأول لا يختص بخصوص الاسم المشتق، بل في مطلق المشتقات، بخلاف الثاني لعدم الخلاف في اعتبار التلبس في الأفعال، باعتبار حال إرادة صدق النسبة الحكمية، فإطلاقها في غير صورة اتحاد حال صدق النسبة - مع حال إرادة ذلك الصدق - لا يكون إلا بتجوز أو تأويل.
وكيف كان، فلما كان الحيثيتان المذكورتان مختلفتين، فتحقق كل واحدة من صفتي الحقيقية والمجازية من إحداهما لا يستلزم تحقق مثل هذه الصفة أو ضدها من الأخرى، فيجوز تحقق إحداهما من كلتيهما، أو تحقق إحداهما من إحداهما، والأخرى من
256

الأخرى، فالمجازية في الاسم المشتق من الأولى لا يستلزمها من الثانية، التي هي محط النظر في المقام فافهم.
إيقاظ: كما يعتبر تلبس الذات المحكوم عليها بالاسم المشتق بالمبدأ، باعتبار حال إرادة صدقه عليها على الأقوى، كما يأتي تحقيقه، كذلك يعتبر اتصافها به حال إرادة صدق النسبة الحكمية في الأفعال، بلا خلاف، كما مرت الإشارة إليه.
ثم إن الزمان المأخوذ في الأفعال من المضي والحال والاستقبال، هل هو بالنظر إلى حال النطق أو إلى الأعم منه الشامل لغيره من الحالات وجهان، بل قولان:
أولهما: لبعض على ما حكى عنه بعض () المحققين من المتأخرين.
وثانيهما: على ما علم لهذا المحقق () ولبعض آخر منهم.
والذي يمكن الاحتجاج به للأول ظهور هذه الأفعال في المضي، أو الحال، أو الاستقبال، من حيث حال النطق، وتبادرها منها كذلك عند إطلاقها، وتجردها عن القرينة.
والذي يمكن أن يقال للثاني: دعوى تبادر القدر المشترك منها، مع قطع النظر عن الخصوصيات اللاحقة لها، ومنع كون التبادر المذكور وضعيا، بل يدعى كونه إطلاقيا مسببا عن إطلاقها، وتجريدها عن القيد، كما ادعاه المحقق المذكور وغيره ممن تبعه.
والأظهر الأول، فإن التبادر المذكور موجود، كما اعترف به المحقق المذكور ومن تبعه أيضا، والظاهر كونه مستندا إلى جوهر اللفظ، لا إلى شيء آخر، فيكشف عن الوضع، لخصوص أحد الأزمنة باعتبار حال النطق.
ودعوى تبادر القدر المشترك منها - كدعوى كون التبادر المذكور إطلاقيا - في غاية السقوط، أما الأول فواضح. وأما الثاني فلأن منشأ الانصراف، إما غلبة الاستعمال، أو الوجود، أو الكمال على ضعف في الأخير، وتأمل في الثاني، وإما مجرد تجريد اللفظ عن القيد.
لا معنى لدعوى الثاني والثالث.
257

وأما الأول، فلم يعلم بلوغه إلى هذه المثابة، مع إمكان منع أصله.
وأما الأخير فهو إنما يكون منشأ لانصراف اللفظ إلى بعض الأفراد، إذا كان فصل ذلك البعض - ومميزه عما عداه من الأفراد - أمرا عدميا، بخلاف الفرد الآخر، بأن يكون مميزه أمرا وجوديا زائدا على ما كان عليه الفرد الأول، وأما إذا كان المميز في كل منهما أمرا وجوديا مضادا لما في الآخر، فلا معنى لانصراف المطلق إلى أحدهما خاصة، لعدم انطباقه حينئذ على أحدهما بتمام قيوده المعتبرة فيه حتى ينصرف إليه كذلك.
وكيف كان، فالمتبادر من تلك الأفعال عند إطلاقها وتجريدها عن كافة القرائن هو ما ذكرنا واما إذا قيدت بما لا يمكن معه إرادة الزمان بملاحظة حال النطق كقولنا جاء زيد وهو يتكلم أو سيجيء عمرو وقد أكرمك فينقلب ظهورها في حال النطق إلى الظهور في حال آخر غيره كما يظهر من المثال الأول ان المراد بقوله يتكلم انما هو حال المجيء أو بقوله وقد أكرم الماضي بالنسبة إلى مجيء عمرو الذي لم يتحقق بعد وهذا الظهور انما هو مستند إلى القرينة وهو قوله جاء في الأول وقوله سيجيء في الثاني.
هذا، لكن هذا النزاع لا أرى له من ثمرة، فان ظهورها في الزمان الملحوظ بلحاظ حال النطق عند تجردها مسلم على القولين إلا أنا ندعي استناده إلى وضع اللفظ وهم يدعون استناده إلى القرينة، وكذا ظهورها في غير حال النطق مع التقيد كما في المثالين إلا أنا نقول: إن القيد المذكور من قبيل قرينة المجاز وهو يقولون: إنه من قرينة تعيين الفرد للمعنى الحقيقي الأعم.
السابع: لا خلاف في المقام من جهة اعتبار قيام المبدأ بمعناه الحقيقي بالذوات، أو كفاية قيامه به، ولو بمعناه المجازي، وعلى فرضه، فهو كسابقه ليس مقصورا ومختصا بالاسم المشتق، بل جار في مطلق المشتقات، بحيث يدخل فيه الأفعال.
وحاصله: أنه هل يكفي في صحة الاشتقاق اشتمال المشتق على مبدئه بمطلق معناه ولو مجازيا؟ ليكون هذا المقدار من المناسبة بين الأصل والفرع مصححا للاشتقاق أو يعتبر اشتماله عليه بمعناه الحقيقي فقط، فلو أريد غيره لم يصح.
وكيف كان، فالكلام في المقام بعد الفراغ عنه وعن سابقه أو بعد الغض عنهما، فانا نتكلم في أن مفاد هيئة المشتق المتنازع فيه ما ذا من حيث حصول التلبس
258

وفعليته، ولو مع غلطية استعماله أو المجازية فيه من حيث التلبس لكن الاستعمال على وجه الغلط، لما لم يكن محلا للغرض، فلا بد من فرضه صحيحا.
والحاصل أنه بعد فرض استعمال المشتق على قانون الاشتقاق - بأن يكون المراد بالمبدأ فيه معنى مناسبا لمعنى المبدأ مجردا، ولو مجازيا بالنسبة إليه على القول بكفايته أو خصوص معناه الحقيقي على القول باعتباره، بعد فرض تلبس الذات المحكوم عليها بالمشتق بالمبدأ، ولو مع توسع في التلبس، إذ غايته لزوم المجازية من تلك الجهة، لا من جهة ما نحن فيه - نتكلم في أنه هل يشترط بقاء المبدأ في الذات المطلق عليها المشتق بالنسبة إلى حال إرادة صدقه عليها - أي تلبسها به - حينئذ بمعناه الذي اعتبر ثبوته للذات في الأفعال، وبالتلبس الذي اعتبر هناك؟ وإلى هذا أشرنا فيما تقدم على وجه كان مصححا للاشتقاق وموجبا لجواز الإطلاق في سائر الصيغ.
ثم إن تحقيق الحال في الخلاف المذكور أيضا، وإن كان له مقام آخر، إلا أن الحق كفاية قيام المبدأ بالذات بمعناه المجازي في صحة الاشتقاق، لأن أدل الدليل على جواز الشيء وقوعه، وقد وقع ذلك في موارد لا تحصى، مضافا إلى عدم ظهور الخلاف فيه من أحد.
منها: الأوصاف الموضوعة للحرف والصنائع، كالخياط والنساج، والصباغ، وغيرها، إذ لا ريب أن أصل المبدأ فيها موضوع لفعل النسج والخياطة والصباغة، مع أن المراد به في ضمن تلك الصيغ صنعتها.
ومنها: الأوصاف الموضوعة للملكات كالفقيه والمتكلم ونحوهما، فان المبدأ فيهما لنفس العلم الفعلي، أو التكلم كذلك، مع أن المراد به في ضمنهما هو ملكتهما لا غير.
هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع في المقام. فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنهم
اختلفوا في كون المشتقات من الصفات حقيقة في خصوص الحال، أو في الأعم منه، الشامل للماضي أيضا، على أقوال،
يأتي تفصيلها، بعد اتفاقهم ظاهرا على مجازيته في الاستقبال، عدا ما حكي عن ظاهر الكوكب الدري (1) من احتمال كونها حقيقة في الاستقبال أيضا، لذكره على ما حكي عنه أن إطلاق النحاة يقتضي أنه إطلاق حقيقي.
(1) في الوافية حسب ما عثرنا في نسخة مشتملة على متن الوافية وشرحها للسيد صدر الدين، فقد نص في المتن بما هذا لفظه: وقال صاحب الكوكب الدري: إطلاق النحاة يقتضي أنه إطلاق حقيقي.
259

ولا ريب في ضعفه بعد صدق هذه النسبة إليه، لأنه إن أراد أن الحكم بمجيء المشتق للاستقبال كنصهم بمجيئه للماضي والحال ظاهر في كونه حقيقة فيه.
ففيه أولا: أن بناءهم على بيان موارد الإطلاقات، لا الموضوع له، كما يشهد به تتبع كلماتهم في بيان معاني غير المشتق المتنازع فيه من الأفعال، والأسماء، والحروف، لوضوح أن بعض هذه المعاني ليس مما وضع له اللفظ، فلا ظهور في حكمهم بما ذكر.
وثانيا: أنه يحتمل أن يكون المراد إطلاقه على المتلبس في الاستقبال، باعتبار تلبسه فيه، بأن يكون المراد بالاستقبال هو بالنظر إلى حال النطق، إذ قد عرفت أنه لا منافاة بينه وبين الحال بالمعنى المتنازع فيه، فيدخل - حينئذ - في المورد المتفق عليه من كون المشتق () فيه.
وإن أراد الاستناد إلى إطلاقهم اسم الفاعل على ضارب غدا، كما قد يحكى فيه.
ففيه أن هذا الإطلاق يتصور على وجوه:
الأول: أن يراد به كون الذات المحكوم عليها بضارب، كونه كذلك في الغد، باعتبار حصول هذا العنوان له بعد الغد، إما لعلاقة الأول: أو بعنوان مجاز المشارفة.
الثاني: أن يراد به كونه كذلك في الغد، باعتبار حصول العنوان له في الغد.
الثالث: أن يراد به كونه كذلك حال النطق، لكن يحتمل [كون] الغد قيدا للمحمول لا ظرفا للنسبة، فيكون المراد زيد الآن هو الضارب في الغد.
الرابع: أن يراد به كونه كذلك حال النطق، باعتبار حصول العنوان له في الغد وجعل الغد قرينة على تعيين زمان صدق النسبة له لا قيدا للمحمول ولا ظرفا للنسبة الحكمية، فنقول، حينئذ: إن إطلاقهم بعد تسليم كونه حجة، إنما ينهض دليلا له، لو علم أن إطلاقهم المذكور مبني على الوجه الأول أو الأخير، وأما الثاني والثالث، فلا ريب في كونهما حقيقيين لدخولهما في مورد الاتفاق، حيث إن الإطلاق فيهما إنما هو بالنظر إلى حال التلبس، أما الثاني فواضح، وأما الثالث، فلأنه لا ريب أن زيدا الضارب في الغد يقينا يصدق عليه الآن حقيقة أنه الضارب في الغد، لكونه متلبسا الآن بهذا العنوان المقيد، وسيأتي لذلك مزيد تحقيق إن شاء الله.
260

وكيف كان، فمخالفته على فرض صدقها لا تضرنا في المقام، لشذوذه، فيكفي اتفاق الباقين للكشف عن مجازية المشتق في الاستقبال بالنظر إلى حال التلبس معه.
مضافا إلى ما سنقيمه من الأدلة المحكمة عليه فانتظر.
وبالجملة فاعتبار التلبس في الجملة في المقام المردد بين خصوص حال إرادة صدق المشتق، وبين الأعم منه، الشامل للماضي بالنسبة إلى هذا الحال متفق عليه بين الأقوام، وإنما اختلفوا في أن المعتبر منه، هل هو حصوله في خصوص حال إرادة صدق المشتق بحيث لا يكفي حصوله قبله، مع انقضائه حينئذ، أو حصوله في الجملة من غير خصوصية للحال المذكور بحيث يكفي حصوله بالنسبة إلى الماضي بالنسبة إليه مع انقضائه، فمن يقول بكون المشتق حقيقة في خصوص الحال يعتبر الأول، ومن يقول بكونه حقيقة في الماضي أيضا يكتفي بالثاني.
وكيف ما كان، فهم بعد اتفاقهم على التلبس بالمبدأ في الجملة، وكون الإطلاق على المستقبل بالنظر إلى حال إرادة الصدق مجازا، كاتفاقهم على كون إطلاقه حقيقة في الحال أي إطلاقه على من تلبس بالمبدأ باعتبار حال إرادة الصدق، اختلفوا في كونه حقيقة في خصوص الحال بمعنى اعتبار تلبس الذات المطلق عليها المشتق بالمبدأ باعتبار حال إرادة الصدق، من دون كفاية حصوله لها قبله، أو في الأعم منه ومن الماضي، بالاشتراك المعنوي، بمعنى كفاية حصوله لها في قطعة من الزمان آخرها حال إرادة صدق المشتق عليها على أقوال:
ثالثها: كونه حقيقة في الماضي أيضا، إن كان المبدأ فيه مما لا يمكن بقاؤه، كالمصادر السيالة الغير القارة، وإلا، فمجاز حكي عن جماعة حكايته، وعن العلامة (قدس سره) في النهاية (1) نسبته إلى قوم، إلا أنه قال علي ما حكي عنه في أثناء احتجاجه إن الفرق بين ممكن الثبوت وغيره منفي بالإجماع، وهو يومئ إلى حدوث هذا القول.
رابعها: إنه حقيقة فيه إن كان الاتصاف أكثريا بحيث يكون عدم الاتصاف في جنب الاتصاف مضمحلا، ولم يكن الذات معرضة عن المبدأ وراغبة عنه، سواء كان المشتق محكوما عليه، أو به، وسواء طرأ القيد الوجودي على المحل أولا، اختاره
(1) النهاية: 20 وقال قوم إنه يشترط إن أمكن والا فلا - وقد استدل العلامة على بطلانه بعد أسطر بالإجماع - وقال قده: لأنا نقول: إجماع أهل اللغة ينفي ذلك.
261

الفاضل التوني رحمه الله في محكي الوافية (1).
خامسها: التفصيل بين المشتقات المأخوذة على سبيل التعدية، ولو بواسطة الحروف، والمأخوذة على سبيل اللزوم، فالأولى للأعم، والثانية لخصوص الحال، نسب إلى غير واحد، وحكى القول به - أيضا - عن بعض الأفاضل () في تعليقاته على المعالم.
سادسها: إيكال الحال في كل لفظ من ألفاظ المشتقات، أعني جزئياتها المتشخصة بالموارد المختلفة إلى العرف، فلا ضابطة حينئذ في تمييز ما هو حقيقة في الأعم عن غيره، بل كل لفظ حقيقة فيما يتبادر منه عرفا، فان تبادر منه الأعم فهو له، أو خصوص الحال، فهو له خاصة، فيقال في نحو القاتل والضارب والآكل والشارب والبائع والمشتري: إنها حقيقة في الأعم، وفي نحو النائم، والمستيقظ، والقائم، والقاعد، والحاضر، والمسافر: إنها حقيقة في خصوص الحال، حكي هذا عن بعض، مع عدم التصريح باسمه، وعن الحاجبي (2)، والآمدي (3) التوقف في المسألة، وحكي أيضا بعض الأقوال في المقام غير ما تقدم من غير تعيين لكيفية القول، ولا لقائله، ولا فائدة في التفتيش عن حاله.
وكيف كان، فالمعروف بين الأصوليين هما القولان الأولان:
أحدهما: عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق، ووضعه للقدر المشترك بين الماضي والحال مطلقا، وهو المعروف بين الأصوليين، وقد حكي نص جماعة عليه من
(1) الوافية للفاضل التوني، مخطوط وإليك نصه والحق أن إطلاق المشتق باعتبار الماضي حقيقة إذا كان اتصاف الذات بالمبدأ أكثريا بحيث يكون عدم الاتصاف بالمبدأ مضمحلا في جنب الاتصاف ولم يكن الذات معرضة عن المبدأ وراغبة عنه سواء كان المشتق محكوما عليه أو محكوما به إلخ.
(2) لاحظ شرح العضدي على مختصر بن حاجب، مخطوط وهذا لفظه: مسألة: اشترط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة ثالثها ان كان ممكنا، اشترط المشترط لو كان حقيقة وقد انقضى لم يصح نفيه وأجيب بأن المنفي الأخص فلا يستلزم نفي الأعم إلخ وقال العضدي في مقام بيان مختار المصنف ما هذا نصه: فتقدير كلامه اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة فيه مذاهب: أحدها اشتراطه وثانيها: نفيه وثالثها: انه لو كان البقاء ممكنا اشترط وإلا فلا، وكأن ميل المصنف إلى التوقف ولذلك ذكر دلائل الفرق وأجاب عنها.
(3) الأحكام في أصول الأحكام، الجزء الأول: 48 - 50، فإنه بعد رده وجوه الأقوال في المسألة قال: هذا ما عندي في هذه المسألة، وعليك بالنظر والاعتبار.
262

المحققين منهم العلامة (قدس سره) في عدة من كتبه (1) وعن شرح الوافية للسيد صدر الدين (2) أنه المشهور بين المعتزلة والإمامية، وعن المبادئ أنه مذهب أكثر المحققين، بل حكي عن ظاهر السيد العميدي () وغيره: دعوى الإجماع، وحكي أنه (قدس سره) قال في شرح كلام المصنف، هذه المسألة من المسائل الأربع (3): وهي أنه لا يشترط في صدق اللفظ المشتق بقاء المعنى المشتق منه، وهو مذهب أصحابنا والمعتزلة، وأبي علي سينا، خلافا لجمهور الأشاعرة.
وثانيهما: اشتراط البقاء ومجازية إطلاق المشتق على الماضي مطلقا، وعزي هذا إلى الرازي والبيضاوي والحنفية، وجمهور الأشاعرة، وإليه ذهب أكثر أفاضل من تأخر.
هذا، والظاهر انحصار القول بين المتقدمين في هذين، وأن الأقوال الأخرى محدثة ممن تأخر عنهم من إلجاء كل واحد من الطرفين في مقام العجز عن رد شبهة خصمه، وسيأتي توضيح فساده مفصلا.
وكيف كان، فالذي ينبغي اختياره ويساعد عليه الدليل إنما هو القول الثاني من الأولين - أعني اشتراط بقاء المبدأ ومجازية المشتق - فيما انقضى عنه المبدأ مطلقا.
لنا تبادر المتلبس بالمبدأ من هيئات المشتقات مع قطع النظر عن خصوصيات الموارد المفروضة لها، بمعنى أنه متى لوحظت تلك الهيئات في حد أنفسها، ولو في ضمن مادة لا نعلم معناها يتبادر منها المتلبس بتلك المادة، نجد ذلك من أنفسنا بعد تخلية الأذهان، ومن العرف العارفين باللسان، فإنه إذا أطلق نحو ضارب وقائم وعالم مع قطع النظر عن الأمور الخارجية يتبادر عندهم منها جميعا ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (زننده،
(1) منها كلامه في نهاية الوصول: 20 والأقرب عدم الاشتراط لنا وجوه إلخ.
ومنها في التهذيب حيث قال: ولا يشترط البقاء في الصدق.
ومنها في مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 67 حيث قال: ولا يشترط بقاء المعنى في صدقه.
(2) شرح الوافية للسيد صدر الدين مخطوط، في بحث المشتق وإليك نصه: ثانيها (أي ثاني الأقوال) حقيقة مطلقا إلخ، هذا هو المشهور بين المعتزلة والإمامية.
(3) منية اللبيب، مخطوط، في بحث المشتق، وإليك نصه: هذه المسألة الثانية من المسائل الأربع: وهي أنه لا يشترط في صدق لفظ المشتق على سبيل الحقيقة بقاء المعنى المشتق منه وهو مذهب أصحابنا والمعتزلة وأبي علي ابن سينا خلافا لجمهور الأشاعرة.
263

وايستاده، ودانا) ولا ريب أن هذه العناوين لا تصدق حقيقة إلا على المتلبس بموادها ومبادئها حال إرادة صدقها عليه، إذ الصدق حقيقة لا يتحقق إلا بكون ما يحمل هي عليه من أفرادها حقيقة ومندرجا تحتها، ولا ريب أن من انقضى عنه المبدأ بالنسبة إلى حال النسبة وإرادة صدقها عليه ليس من أفرادها - حينئذ - حقيقة، فان مفاهيمها هي المتلبس بالمبدأ، فمن انقضى عنه المبدأ لا يكون متلبسا به حال النسبة لارتفاع الوصف العنواني عنه - حينئذ - فليس من أفراد المتلبس به حينئذ.
وبالجملة: الحال في الأسماء المشتقة، كالحال في الأسماء الجوامد، من حيث وضع كل واحدة منهما للمتصف
بالوصف العنواني، إلا أن الوصف العنواني في الأولى هو المبادئ والمصادر المأخوذة منها هذه، وفي الثانية هي وجوه الذوات الموضوعة لها تلك، باعتبار تلك الوجوه، كالإنسانية لذات الإنسان، والكلبية لذات الكلب، والفرسية لذات الفرس، وهكذا، فإنها لم توضع لنفس تلك الذوات لا بشرط، بل باعتبار اتصافها بهذه الأوصاف، فلذا ينتفي الأسماء عند انتفائها، مع بقاء جوهر الذوات كالكلب المستحيل ملحا أو ترابا، وهذا هو السر في تبادر المتلبس المتصف بالمبدأ من الأولى، فحينئذ، فلا يصح إطلاقها حقيقة إلا باعتبار حال التلبس، ليكون ما أطلقت هي عليه داخلا ومندرجا في مفاهيمها، كما لا يصح إطلاق الجوامد حقيقة أيضا إلا باعتبار حال تلبس الذوات بالأوصاف العنوانية.
وكيف كان، فلا فرق بينهما من الحيثية المذكورة، فإنه كما لا يتبادر من الكلب والفرس والبقر وغيرها إلا (سگ، واسب، وگاو) وليست هي إلا عبارة عن المتصف بالوصف العنواني، فلا يجوز إطلاقها على من انقضى عنه هذا الوصف حقيقة، فكذلك لا يتبادر من الضارب والعالم والقائم إلا (زننده، ودانا، ونشسته) وهي لا تكون إلا عبارة عن المتصف بالضرب، أو العلم، أو القيام، فلا يصح إطلاقها حقيقة على المنقضي عنه المبدأ، إذ نحن ادعينا التبادر المذكور من الهيئات المذكورة، مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجة اللاحقة لبعض الموارد، فلا يرد النقض علينا بتبادر الأعم في بعض الأمثلة، كما ورد على من ادعاه في خصوص أمثلته خاصة.
وسيجئ دفع تبادر الأعم في رد بعض الأمثلة أيضا من نفس الهيئة، بل بواسطة خصوصية لاحقة للمادة، أو لمورد خاص من موارد استعمالها.
وكيف كان، فبعد حصول التبادر المذكور من نفس الهيئة ثبت وضعها
264

لخصوص الحال في جميع الموارد، وفي جميع حالاتها، لاتفاقهم ظاهرا على اتحاد الوضع فيها، كما ادعاه شيخنا الأستاذ، وسيدنا الأستاذ (دام ظلهما) فيكون المسألة من دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز، وبين الاشتراك.
ومع التنزل عنه، فلا ريب في اتفاقهم على اتحاد جهة الوضع في جميع الموارد على ما يظهر من كلماتهم، فراجع وهو يكفينا فيما نطلبه.
نعم ربما يتوهم تعدد جهة الوضع من التفاصيل المتقدمة بالنظر إلى الألفاظ أو الحالات.
لكنه مدفوع أولا: بما أشرنا إليه من أنها محدثة من المتأخرين من إلجاء كل من الطرفين في مقام العجز عن رد شبهة خصمه.
وثانيا: بانحصار القول بين المتقدمين بين اثنين كل منهما نقيض الآخر مطلقا.
وثالثا: بحصول التبادر المذكور منها في جميع الموارد على نحو سواء، مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجة اللاحقة للمورد.
ورابعا: بأن تعدد جهة الوضع بالنسبة إلى الموارد المختلفة لا يعقل مع اتحاد نفس الوضع، وقد عرفت الاتفاق على اتحاد هذا.
وخامسا: صحة سلبنا تلك الأوصاف عمن انقضى عنه المبدأ بالنسبة إلى زمان انقضائها عنه، فإنه يصح أن يقال لما كان ضاربا أمس: أنه ليس بضارب الآن بمعنى سلب مطلق هذا الوصف عنه في الآن بجعل الآن ظرفا للنفي لا قيدا للمنفي، حتى يقال: إن سلب المقيد لا يستلزم المطلق، وإلا أمكن العكس فيما إذا كان ضاربا الآن مع عدم اتصافه به قبل، فيقال: إنه يصح أن يقال: إنه ليس الآن ضاربا بضرب الأمس، وهو مقيد، فنفيه يستلزم نفي المطلق، فهو ليس ضاربا الآن بقول مطلق، مع أن صدق الضارب عليه باعتبار الأمس حقيقة إجماعا، لكونه مطلقا عليه باعتبار حال التلبس.
وقد يورد على ما قلنا من صدق السلب المذكور، مع جعل الآن في المثال ظرفا للنسبة - أعني سلب المحمول - لا قيدا للمحمول بمنع الصدق، وأنه أول الدعوى إذ القائل بعدم اشتراط بقاء المبدأ، يقول بصدق الضارب عليه الآن مع تلبسه به في الماضي.
وفيه ما لا يخفى من الركاكة، فان القائل بعدم اشتراط البقاء يلزمه ذلك، حيث إن الموضوع له عنده هو القدر المشترك بين المتلبس بالمبدأ، وبين من انقضى عنه
265

المبدأ، وهو من برز عنه المبدأ في قطعة من الزمان آخرها حال التلبس به، ونحن لما علمنا من وجداننا، ومن العرف - أيضا - جواز سلب الضارب عمن انقضى عنه الضرب بعد انقضائه عنه نخطئ هذا القائل لعلمنا حينئذ باشتباه الأمر عليه، وإن لم نقدر على إلزامه بما وجدنا، حيث إنه يدعي أني وجدت عدم جواز السلب المذكور.
وكيف كان، فلا يليق أن يتفوه بهذا الإيراد، فإنا لم ندع الاتفاق على صدق هذا السلب، حتى من هذا القائل، حتى يقال ذلك.
وقد يجاب - أيضا - بعد تسليم صدق النفي على الوجه المذكور، بأن قضية ذلك صدق السلب في الوقت الخاص، وأقصى ما يلزم من ذلك صدق السلب على سبيل الإطلاق العام، وهو غير مناف لصدق الإيجاب كذلك، ضرورة عدم تناقض المطلقين المختلفين في الكيف، وإنما يناقض المطلقة العامة الدائمة المطلقة المخالفة لها في الكيف.
ويدفعه أن المطلقين إنما لا يتناقضان في حكم العقل، لا في حكم العرف، ضرورة وجدان التناقض بين قولك زيد ضارب وزيد ليس بضارب، وهو المحكم في المقام. أقول: المطلقتان العامتان لا تناقض بينهما عقلا، إذا لم تقيد كلتاهما بوقت خاص، بأن يكون كل واحدة منهما مقيدة وموقتة بعين ما وقتت به الأخرى ولم تكن الجهة فيهما أيضا واحدة.
وأما إذا وقتتا بوقت، وكانت الجهة والحيثية فيهما واحدة مع اتحاد الموضوع والمحمول فيهما، كما في قولك: زيد ضارب الآن وليس بضارب الآن، ويكون وجه السلب وجهته هي كون زيد مصداقا للمعنى الحقيقي للضارب، بأن يكون المراد أنه فرد من المعنى الحقيقي للضارب، وليس بفرد منه، فلا ريب في تناقضهما - حينئذ - في نظر العقل، إذ ليس نقيض الشيء إلا رفعه، ولا ريب أن كل واحدة من القضيتين في المثال على الوجه المذكور رافعة للأخرى عقلا.
وقول أهل الميزان: إن نقيض المطلقة العامة هي الدائمة المطلقة لا ينافي ما ذكرنا، فان غرضهم بيان نقيضها بالقضية المتعارفة عندهم، لانحصار النقيض فيها، فإنهم كثيرا ما أعرضوا عن ذكر بعض القضايا في مباحث العكوس والأقيسة، لعدم كون ذلك البعض من القضايا المعروفة المنضبطة في تلك المباحث عندهم.
والحاصل انه لما كان المناقض للمطلقة العامة من القضايا المعروفة المنضبطة عندهم في مبحث التناقض هي الدائمة المطلقة لا غير، فذكروا: إن نقيضها هذه - أي
266

نقيضها - من بين تلك القضايا المعروفة.
فان قيل: إن حاصل ما ذكرت مناقضة المطلقة العامة لمثلها، واعترفت بأن أهل الميزان بناؤهم على ذكر القضايا المتعارفة، فلم يذكروا أن نقيض المطلقة العامة قد يكون مثلها، مع أنها من القضايا المعروفة.
قلت: هذه مغالطة ظاهرة، فان مرادنا: أن بناءهم في كل مبحث ذكر ما هو المتعارف المنضبط في هذا المبحث، والمطلقة العامة من القضايا المعروفة في مبحث تعداد القضايا، وأما في مبحث التناقض، فهي ليست من النقائض المنضبطة لمثلها، فان مناقضتها لمثلها في بعض الصور، بخلاف الدائمة المطلقة لكونها مناقضة لها دائما، فلذا تركوا هذه وذكروا تلك.
فإذا ثبت ذلك، فقد ظهر فساد الجواب المذكور، فإنا قد وجدنا صحة نفي قولك: (زيد ليس بضارب الآن)، مع جعل الآن ظرفا للنسبة إذا أردت النفي، من جهة كونه من مصاديق ما وضع له هذا اللفظ، فيمتنع حينئذ عقلا صدق قولك:
(زيد ضارب الآن) على الوجه المذكور.
هذا، ثم إنه قد يذكر بعض الوجوه الأخرى للقول المختار، أعرضنا عنه حذرا من إطالة الكلام، مع عدم الحاجة إليه في المقام، لكفاية ما مر في إثبات المرام من الوجهين.
وبأولهما ظهر - أيضا - كون المشتق حقيقة فيمن يتلبس بالمبدأ، بعد حال النطق أو التلبس به قبله، إذا كان إطلاقه عليه باعتبار حال التلبس.
مضافا إلى قيام الإجماع - ظاهرا - على كونه حقيقة في حال التلبس، الشامل لهما، وإلى عدم صحة سلبه عنه في مثل: (زيد كان ضاربا أمس)، أو إنه ضارب غدا إذا أريد به إطلاقه عليه بالنسبة إلى حال التلبس، بأن يكون هو الغد والأمس.
وربما يقال حينئذ: إن اللازم عدم صحة سلب المطلق، لا المقيد، والذي هنا هو الثاني، وهو لا يدل على المدعى، ألا ترى أنه لا يصح السلب عن المعنى المجازي، مع اقتران اللفظ بالقرينة، كما في (أسد يرمي) حيث أنه لا يصح سلبه عن الرجل الشجاع.
267

وهو مدفوع: بنحو ما مر في الجواب عن الإيراد على التمسك بصحة السلب عمن انقضى عنه المبدأ.
وتوضيحه: إن ما ذكر مسلم إذا كان الغد والأمس في المثال قيدا للمسلوب، كما في المنقوض به، وهو قوله: (أسد يرمي)، وأما إذا كانا قيدين للسلب كما هو المراد، فلا يتم المطلوب لإطلاق المسلوب.
فبهذا كله ظهر ضعف توهم المشتق حقيقة في حال النطق، بتوهم أن معقد الإجماع على كونه حقيقة في الحال ذلك، كظهور ضعف توهم كونه حقيقة في المستقبل بالنسبة إلى حال التلبس، كما مر وكيف كان، فمدار حقيقة الإطلاق ومجازيته على ما حققنا على ملاحظة حال التلبس وعدمها، سواء وافق حال النطق أو خالفه، فربما يكون الإطلاق مجازيا بالنسبة إلى حال النطق، كما إذا أطلق باعتباره مع انقضاء المبدأ، أو قبل حصوله، كما يختلف الحال أيضا في الماضي والمستقبل بالنسبة إليه.
وإن شئت توضيح ذلك فنقول:
إطلاق المشتق باعتبار حال النطق يتصور على وجوه:
أحدها: أن يطلق ويراد به المتلبس به في حال النطق على وجه يكون الزمان مأخوذا في مفهوم اللفظ، على وجه الشطرية أو الشرطية،
وهذا لا شبهة في مجازيته، فإنه وإن أطلق باعتبار حال التلبس - إذ المفروض اتحاده مع حال النطق - إلا أنك عرفت خروج الزمان عن مفهوم المشتق، فاعتباره في مفهوم اللفظ موجب لمجازيته.
ثانيها: أن يطلق ويراد به المتلبس به في حال النطق،
مع اتحاده مع حال التلبس، من غير أن يؤخذ الزمان قيدا في مفهوم اللفظ بأحد الوجهين المذكورين.
والفرق بين حال التلبس - بقول مطلق - وهذا الإطلاق واضح، إذ المعتبر في الأول مجرد التلبس، وفي الثاني التلبس المخصوص الحاصل في حال النطق، ولا ملازمة بين هذا وأخذ الزمان في مفهوم اللفظ، فان المدلول هو التلبس الحاصل في حال النطق، مع قطع النظر عن حصوله فيه، نظير اسم الجنس المنكر، حيث إنه
268

موضوع للماهية الحاضرة في الذهن، مع قطع النظر عن حضورها فيه، بخلاف علم الجنس، فإنه موضوع لها بلحاظ حضورها فيه.
وكيف كان، فهذا الإطلاق لا شبهة في كونه حقيقة لكونه إطلاقا في حال التلبس.
ثالثها: أن يراد به المتلبس بالمبدأ في حال النطق، على وجه يراد بالمشتق مجرد المتلبس بالمبدأ، وأريد خصوص الحال من الخارج على حسب إطلاق الكلي على الفرد،
ولا شبهة في كون ذلك أيضا حقيقة، لكنه حقيقة خارج عن إطلاق المشتق في حال النطق.
وكيف كان، فبهذا التشقيق والتفصيل ظهر أن حال النطق لم يقع موردا للوفاق، حسب ما عرفت أن مدار الحقيقة في بعض هذه الأقسام - وهو الثاني والثالث - كون الإطلاق واقعا في حال التلبس، وظهر ضعف ما ذكره بعض المحققين () في تعليقاته على المعالم، أن إطلاق المشتق باعتبار حال النطق حقيقة في الجملة فإنه إما نفس الموضوع له أو مندرج فيه.
وأما إطلاق المشتق - باعتبار الماضي - بالنسبة إلى حال النطق، فهو أيضا يتصور على وجوه:
أحدها: أن يطلق ويراد به المتلبس بالمبدأ في الماضي المنقضي في الحال، على أن يكون الزمان مأخوذا في مفهوم اللفظ بأحد الوجهين المتقدمين،
ولا إشكال في مجازيته، لما مر من خروج الزمان عن مفهوم المشتق، فاعتباره فيه مستلزم لمجازيته، ولكن في محكي شرح الوافية، وقوع الخلاف فيه، ولا ينبغي أن يصغى إليه.
ثانيها:
أن يطلق ويراد به المتلبس بالمبدأ في الماضي، مع انقضائه عنه في الحال، بعلاقة ما كان، ولا ريب في كونه مجازا على جميع الأقوال، إلا على القول بكون المشتق حقيقة في خصوص الماضي لا غير لو ثبت، كما يظهر احتماله من كلمات بعض، وينبغي أن يقطع بعدمه.
269

ويمكن اعتبار الإطلاق على وجه لا يكون مجازا في اللغة، بادعاء بقاء المبدأ، واندراج ما انقضى عنه المبدأ في المتلبس به في الحال، فيكون التجوز عقليا.
ثالثها:
أن يطلق ويراد به المتلبس به في الماضي، بملاحظة تلبسه به فيه، من غير أن يؤخذ الزمان قيدا في مفهومه، نظير الوجه الثاني من وجوه الحال، ولا ريب في كونه حقيقة، حيث إنه باعتبار حال التلبس.
رابعها: أن يطلق ويراد به المتلبس بالمبدأ مع تقيد المبدأ بالماضي،
كقولك: (زيد ضارب في الأمس)، بجعل (في الأمس) قيدا للضرب المأخوذ في الضارب، ولا خلاف في كونه حقيقة (1) إذ التصرف وقع في المادة لا الهيئة، لكن هذا يخرج عن صورة إطلاق المشتق على الماضي، بل هو إطلاق له باعتبار الحال، إذ يصير ضارب في الأمس بمنزلة محمول مفرد، فيكون مفاد القضية اتصاف الموضوع بهذا المحمول المقيد الآن، لخلوها عن الرابطة الزمانية، لأن الأمس - حينئذ - قيد للمحمول لا ظرف للنسبة.
وأما إطلاقه بالنسبة إلى الاستقبال بالنسبة إلى حال النطق، فيتصور أيضا على وجوه أربعة، كما في الماضي، مع تبديل علاقة ما كان هناك بعلاقة الأول هنا، ولا كلام ظاهرا في مجازية غير الأخير من الوجوه، وإطلاق نقل الإجماع في المستقبل يعم الجميع، وأما الأخير، فلا ينبغي الشك في كونه حقيقة. وهنا قسم آخر من الإطلاق يختص به، وهو إطلاقه على المتلبس في المستقبل بعلاقة المشارفة، ولا ريب في مجازيته أيضا.
(1) قولنا لا خلاف في كونه حقيقة حق على تقدير صحة الاتصاف، بمعنى أنه لو صح اتصاف (زيد) الآن بالضرب، الذي صدر عنه في الأمس مثلا، فإطلاق الضارب عليه الآن حقيقة اتفاقا، لكونه مطلقا عليه بالنسبة إلى حال تلبسه بالمبدأ، غاية الأمر أنه مقيد، وهو لا يوجب الفرق، إلا أن الإشكال بعد في صحة هذا الاتصاف، حيث ان معناه بالفارسية (زيد اكنون زننده الست بزدن ديروز)، ولا أرى صحة ذلك لما فيه من الركاكة، كما لا يخفى.
وان كان ولا بد فليطلق ضارب على (زيد) باعتبار تلبسه أمس، فيجعل الضارب بالأمس معرفا الآن لزيد، كما سيأتي تصوير هذا النحو من الإطلاق، لكنه حينئذ يخرج عن صورة إطلاق المشتق مع بعد المبدأ، وكيف كان فمعنى المثال على هذا بالفارسية (زيد زننده ديروز است) ولا ركاكة فيه. لمحرره عفا الله عنه.
270

والفرق بينه وبين الإطلاق على المتلبس في المستقبل باعتبار اتصافه فيه واضح.
ثم إنا، وإن مثلنا في الوجهين المتقدمين - أعني التبادر وصحة السلب - بأمثلة هي من أسماء الفاعلين، لكنها إنما هي من باب مجرد التمثيل، وإلا فهما جاريان في جميع ما هو المتنازع فيه في المقام، كاسمي الآلة والمكان، والصفات المشبهة، وصيغ المبالغة لتبادر المتلبس بالمبدأ فيها أيضا جدا، وصحة سلبها عما انقضى عنه المبدأ، كصحته عما لم يتلبس به بعد، إلا أن الاتصاف فيها مختلف.
فإنه في الأول بعنوان الظرفية كالمنام، والمأمن، والملجأ، والمسكن، والمسجد، فإن معانيها المتبادرة منها ما يعبر عنه بالفارسية: خوابگاه، وآسودهگاه، وپناهگاه، نشيمنگاه، ومسجدگاه.
وفي الثاني بعنوان الآلية، كالميزان والمقراض والمنشار، وغير ذلك من الأمثلة الموازنة لها، أو المخالفة لها في الزنة، لمجيء اسم الآلة على غير وزن مفعال كمثقب على زنة مفعل، فإن معانيها المتبادرة منها هي ما تقع بها هذه الأفعال.
فإن قيل: إن هذا التعبير يوهم أخذ الذات في مفاهيمها، وسيجئ بطلانه.
قلنا: ليس لنا عبارة أخرى مؤدية للمقصود على ما هو عليه، لا في لغة العرب ولا الفرس، إذ التعبير عنها ب‍ (ترازو وأره) ليس عن المقصود بوجهه، فإن (أره وترازو) في الفارسية من الأسماء الجامدة، لا الأوصاف، لكن بحسب اللب يظهر للمتأمل أنها بسيطة جدا.
وإن شئت عبرت عنها بالفارسية (آلت كشش، وآلت پراكنده، وآلت جدائي) فإنها أيضا أوصاف، وعنوانات بسيطة، يعبر عن الذوات بها، لاتحادها معها في الوجود.
وفي الثالثة بلحاظ قيام المبدأ بالذات، كما في أسماء الفاعلين، فان معانيها المتبادرة منها هكذا، كما في الحسن والشجاع والقبيح، فان المتبادر منها هو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (خوب وبد ودلير) فإنها أوصاف وعناوين للذات منتزعة عن
271

قيام المبدأ بالذات على نحو الثبوت، كما أن مفاهيم أسماء الفاعلين وجوه منتزعة من قيام المبدأ بالذات على وجه الصدور، مقابل أسماء المفعولين فإنها وجوه منتزعة عن قيام الذات على وجه الوقوع.
وأما الرابعة: فالمعتبر فيها إنما هو كثرة الاتصاف بالمبادئ على نحو قيامها بالذات صدورا أو ثبوتا، فإنها تبنى من الأفعال اللازمة والمتعدية كلتيهما، وإنما لم نكتف فيها بمجرد التلبس، بل جعلنا المدار على كثرته، لأن معنى (القتال والضراب) ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (زياد كشنده وزياد زننده) لا الاتصاف بنفس المبادئ حال النسبة، فإنه ربما يتحقق التلبس بها حينئذ، مع كون الإطلاق مجازيا، وهذا فيما سلب صفة كثرة الاتصاف عما أطلقت عليه حينئذ، وانقضت عنه، أو لم يتحقق فيه هذه الصفة بعد.
وكيف كان، فالمدار في حقيقة إطلاقها ومجازيته، إنما هو على تحقق الصفة المذكورة حال النسبة، وإن كان يلزمها الاتصاف بالمبدأ حينئذ أيضا، فإن المعنى الإضافي لا يتحقق بدون تحقق ما أضيف إليه.
ثم إن المعتبر في أسماء التفضيل إنما هو أكثرية الاتصاف بالمبدأ بالنسبة إلى اتصاف الغير به حال النسبة، ولازم ذلك أيضا كصيغ المبالغة، الاتصاف بنفس المبدأ أيضا بتقريب ما مر.
وتوضيحه: أن أفضلية شيء من شيء - في وصف - يلزمها تحقق ذلك الوصف في المفضل والمفضل عليه حال النسبة، وإلا لم يبق موضوع للأفضلية، وعدم كفاية مجرد تحقق المبدأ في الحال المذكور في صدقها حقيقة وأما المعتبر في أسماء الآلة، فهو اتصاف الذات بالمبدأ بعنوان كونها آلة لإيجاده بالنسبة إلى حال النسبة.
وخلاصة الكلام في المرام: أن مدار حقيقة إطلاق المشتق إذا كان من أسماء الفاعلين، والمفعولين، والصفات المشبهة، على تلبس ما أطلق عليه بنفس المبدأ حال النسبة، سواء حصلت له كثرة الاتصاف به أولا، وإذا كان من صيغ المبالغة، فالمدار على اتصاف الذات بكثرة الاتصاف بالمبدأ بالنسبة إلى
272

المذكور وإن خلي عن المبدأ.
وإذا كان من اسم المكان، كما إذا كان من اسم الزمان، فالمدار على الاشتغال بالمبدأ حال النسبة، فلا يكفي حصوله قبله مع انقضائه أو بعده.
وإذا كان من أسماء الآلة فالمدار على ما عرفت (1).
حجة القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ مطلقا وجوه:
الأول: ثبوت الاستعمال في كل من المضي والاستقبال، والأصل صحته، لبطلان احتمال الاشتراك اللفظي، إما لأنه خلاف الأصل، أو للاتفاق على عدمه في المقام، ودوران الأمر بين المعنوي والحقيقة والمجاز هو وضعها - أي المشتقات - للقدر المشترك بينهما.
وفيه: أن الأصل المتصور لهذا القول في المقام، ليس إلا أصالة عدم ملاحظة الواضع للخصوصية، وهي معارضة بأصالة عدم ملاحظته العموم، وأصالة عدم سراية الوضع إلى غير المتلبس، والإنصاف: أن الأصل غير مساعد لشيء من القولين، فلا يتوهم - أيضا - أن مقتضاه ثبوت الوضع لخصوص المتلبس، بتوهم أن أحد الأصلين المذكورين يعارض ما تمسك به للقول الآخر ويبقي الآخر سليما، فينهض على إثبات القول المختار، فإن عدم سراية الوضع لغير المتلبس لازم لعدم ملاحظة العموم، ومن المعلوم أن اللازم والملزوم لا يكون كلاهما مجريين للأصل، بل هو جار في الملزوم فقط، والمفروض تساقطه في المقام، لمعارضته بأصالة عدم ملاحظة الخصوصية.
وتخيل أنه بعد منع مانع من جريان الأصل في الملزوم، فهو يجري في اللازم، فيتم المطلوب لسلامته عن المعارض، مدفوع: بأن ذلك في الأصول المبنية على التعبد، وأما في التي يكون اعتبارها مبنيا على الظن كما في المقام فلا، إذ لا يعقل الشك في الملزوم مع الظن باللازم، مع أنه تابعه، فتأمل.
والتحقيق: أن التعويل على هذه الأصول على فرض سلامتها في غاية
(1) قد اعتبر بعض في أسماء الآلة شأنية ما أطلقت عليه للآلية مع إعداده لذلك، من دون اعتبار فعليتها له، وسيجئ ما فيه في طي التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة، فانتظر، لمحرره عفا الله عنه.
273

الضعف والسقوط.
أما أولا: فلمنع كونها مفيدة للظن الذي هو مناط اعتبارها، ولو نوعا.
وأما ثانيا: فلمنع قيام دليل على اعتبارها على تسليم إفادتها للظن، فإن الدليل عليه ليس إلا بناء العقلاء في ما بينهم، ولا ريب أن القدر المتيقن منه إنما هو في أصالة عدم النقل، ولا يبعد كون أصالة عدم الاشتراك أيضا كذلك، أما غيرهما فلا، بل المظنون تركهم العمل عليها.
هذا إذا أريد بالأصل استصحاب العدم.
وإن كان المراد القاعدة المستفادة من الأمارات، كما يقال، أو قيل: إن مقتضاها كون الوضع للأعم، وهي غلبة الوضع للأعم فيما إذا ثبت الاستعمال في كل من معنيين بينهما جامع قريب، أو بعيد، مع ثبوت الاستعمال في نفس الجامع، أو بدونه أيضا، على اختلاف الآراء، كما اشتهرت في ألسنة متأخري المتأخرين.
ففيه: أولا: منع أصل الغلبة.
وثانيا: منع نهوض دليل على اعتبارها في المقام.
ثم إنه قد حكي عن بعض الأفاضل التمسك بالقاعدة المذكورة على إثبات الوضع للمتلبس، قال: في مقام الاستدلال على ما صار إليه بوجوه:
الأول: إن الأصل فيما إذا أطلق اللفظ على أمرين أو أمور، وكان بينهما جامع قريب قد استعمل فيه وضع اللفظ بإزاء القدر الجامع دفعا للمجاز والاشتراك (إلى أن قال): ومن الواضح، إطلاق المشتق باعتبار الماضي، والحال، والاستقبال، فيجب وضعه للمفهوم العرضي البسيط، انتهى.
مراده بالمفهوم البسيط هو مفهوم المتلبس.
وأنت خبير باشتباه الأمر عليه، لأن مقتضى دليله ثبوت الوضع للأعم من المتلبس في الحال، الشامل له بالنسبة إلى الماضي والاستقبال.
اللهم إلا أن يقال: باشتباه الحاكي، بأن كلام المستدل في مقام الاستدلال على نفي أخذ شيء من الأزمنة في مفهوم المشتق، وأن مراده بقوله:
274

(وهو المفهوم البسيط)، هو البسيط من هذه الحيثية، فيتم كونه قدرا مشتركا بين الثلاثة، لكن مع ملاحظة المضي والحال والاستقبال، بالنسبة إلى حال النطق، بقرينة قوله: (وهو المتلبس)، إذ لا ريب أن مصداق المتلبس منحصر في الحال بالنسبة إلى التلبس والصدق، فيكون حاصل مراده: أنه بعد الفراغ عن إثبات كون المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدأ باعتبار حال التلبس ماضيا كان أو حالا أو مستقبلا، بالنسبة إلى حال النطق استدل على خروج وعدم أخذ شيء من الأزمنة عن مفهومه، ولا يبعد ذلك.
لكن يرد عليه، منع الدليل المذكور صغرى، وكبرى، كما مر.
ثم إنه قد يقال، أو قيل: بأن مقتضى القاعدة المذكورة - أعني الغلبة - وضع المشتق لخصوص حال النطق، لغلبة الحقيقة والمجاز على الاشتراك المعنوي عند الدوران.
وفيه: أيضا ما مر صغرى، وكبرى.
هذا ما عرفت من حال الأصول الاجتهادية المبنية على الظن، وأما الأصول التعبدية، فلا موافقة لها كلية في مقام العمل لأحد من القولين، وإن أمكن دعوى غلبة موافقتها للمذهب المختار.
الثاني: تبادر الأعم.
الثالث: عدم صحة سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ، وقد سبق ما يغني عن الجواب عنهما.
الرابع: أنه لو كانت في الحال خاصة، لكان إطلاق المؤمن على النائم والغافل مجازا، ومن المعلوم خلافه بالإجماع، وضرورة العرف.
وفيه: أن الإيمان هو التصديق بالجنان، وهو لا يزول بالنوم ونحوه، لبقائه في الخزانة قطعا، غاية الأمر عدم الالتفات إليه، وهذا واضح.
وقد أجيب عنه ببعض الوجوه أيضا لا طائل في ذكره.
الخامس: أنه لو لم يكن موضوعا للأعم، لما صح الاستدلال بآيتي السرقة والزنا على وجوب الحد على الزاني والسارق وإن انقضى عنهما المبدأ، والملازمة
275

ظاهرة، وبطلان التالي أظهر.
وفيه: أن غاية ما ذكره، إنما هو لزوم إرادة الأعم بل خصوص إرادة من انقضى عنه المبدأ، وهو لا يقتضي ثبوت الوضع للأعم، وسيجئ (1) ما يتضح به الجواب عن الدليل مستقصى فانتظر.
حجة مشترطي البقاء فيما إذا كان المبدأ مما يمكن بقاؤه دون غيره: أنه لو اعتبر البقاء مطلقا، لما كان للمتكلم والمخبر والماشي والمتحرك ونحوها، حقيقة، التالي باطل بالضرورة، فكذا المقدم.
بيان الملازمة: أن مبادئها مركبة من أجزاء يمتنع اجتماعها في الوجود.
وفيه: أن البقاء يختلف باختلاف المواد، فإنه في المبادئ الملكة، البقاء عبارة عن بقاء نفس المبدأ بالدقة العقلية، وفي غيرها يصدق حقيقة عند العرف على مجرد التشاغل بالمبدأ مع عدم الفراغ منه.
وكيف كان، فالتلبس المعتبر في الأسماء المشتقة هو المعتبر في الأفعال، فالتلبس في كل اسم مشتق على نحو ما اعتبر في الفعل المتحد معه في المادة، فكما أن (يضرب زيد) لا يصدق حقيقة إلا فيما إذا كان مشتغلا ومتلبسا بالضرب حقيقة، لا تسامحا، فكذلك (زيد ضارب) وكما أن يتكلم أو يمشي يصدقان حقيقة على من لم يفرغ، ولم يعرض عن التكلم والمشي، فكذلك متكلم وماشي.
حجة القول: بأنه حقيقة في الماضي إذا كان الاتصاف أكثريا، ويعتبر البقاء في غيره:
أنهم يطلقون المشتقات على المعنى المذكور من غير قرينة، كما في لفظ الكاتب، والخياط، والقارئ والمتعلم، وغيرها.
وفيه: أن الملحوظ في الأمثلة المذكورة وأمثالها إنما هو التلبس بملكات مبادئها، لا نفس المبادئ، حتى يدفع بما ذكر، ولا ريب أنها لا تصدق على من انقضى عنه تلك الملكات جدا.
(1) يجيء، ذلك في أوائل التنبيه الأول من تنبيهات المسألة. لمحرره عفا الله عنه.
276

وكيف كان، فالتصرف في تلك الأمثلة وقع في المادة لا الهيئة، ومحل البحث هو الثانية.
هذا، مع أن دليله يقتضي نقيض مدعاه، إذ لا ريب أنه على تقدير الوضع للقدر المشترك لا بد من نصب قرينة مفهمة لإرادة خصوص من انقضى عنه المبدأ، كما فرض التجرد عن القرينة في تلك الحال، فعدم نصب القرينة - حينئذ على ما قرره - يقتضي الوضع لخصوص الماضي، وهو كما ترى.
حجة القول باعتبار البقاء في المشتقات المأخوذة على سبيل اللزوم دون غيرها، التبادر الحاصل بملاحظة استقراء موارد الاستعمالات الجارية بين العرف،
فإن المتبادر من مثل: الحسن والقبيح والأبيض والأسود، وأمثالها، كالنائم والمستيقظ، هو المتلبس بتلك المبادئ في حال النسبة، فيكون إطلاقها على غيره مجازا، بخلاف مثل القائل والضارب والمضروب، والمهدي إليه،
والممرور به، وأمثال ذلك، فإن المتبادر منها الأعم الشامل للماضي أيضا، فهذان التبادران يكشفان عن أن هذه الهيئات لها وضعان نوعيان بالنسبة إلى تلك الطائفتين من المواد، وان كانت الصيغة واحدة، والموضوع في أحدهما هو الأول، وفي الثاني هو الثاني.
وجوابه: قد علم مما حققنا سابقا، من تبادر المتلبس بالمبدأ حال النسبة مطلقا، مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجية، وصحة سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ كذلك.
ولعل منشأ اشتباه الأمر على المستدل أنه كثيرا يطلقون المشتقات على الذوات في الحال، بمعنى أن ظرف النسبة حال النطق مع مضي المبدأ عنه حينئذ، كما في موارد النداء بتلك العناوين، كأن تدعو زيدا بقولك: يا ضارب عمرو، ويا مضروب بشر، ويا قاتل بكر، ومنه قولك في مقام السؤال من أحد المعصومين عليهم السلام، كنداء علي عليه السلام بقولك: يا قالع الباب، يا هازم الأحزاب، ويا بائتا على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله، ومنه قولك في مقام نداء الحسين عليه السلام تندبا: يا قتيلا بكربلاء، ويا مسلوب العمامة والرداء،
277

وهكذا، وسيجئ دفع هذا التوهم، وبيان أن المستعمل فيه اللفظ في كافة تلك الأمثلة إنما هو الذات باعتبار حال التلبس.
وأما القول السادس: أعني إيكال كل لفظ من الألفاظ إلى فهم العرف.
والمتبادر منه عندهم، فلم ينقل عنه فيما رأيت حجة، ولازمه التزام شخصية أوضاع المشتقات، بأن يكون كل هيئة من هيئاتها مع كل مادة لها وضع مستقل، وإلا لم يعقل إيكال كل لفظ، ولعله [لا] قائل بهذا، وقد عرفت ظهور الاتفاق، بل الاتفاق على عدمه.
تنبيهات
الأول:
قد حققنا وضع المشتق للمتلبس بالمبدأ، وأن إطلاقه إنما يكون حقيقة إذا كان باعتبار حال التلبس، فيكون إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ، كإطلاقه على من لم يتلبس به بعد مجازا.
لكن ربما يستشكل بإطلاقه على من انقضى عنه المبدأ كثيرا - غاية الكثرة - بحيث يبعد كون تلك الإطلاقات بأسرها مجازية، كما في موارد النداء، أي موارد وقوع المشتق منادى، وفي موارد وقوعه معرفا للذات، كقولك: هذا قاتل عمرو، أو هو ضارب بكر، وأنت معطي المال، وأمثال ذلك، وفي موارد الاستفهام، كقولك: أأنت ضارب زيد؟ أو معطي عمرو درهما؟ ونحوهما، إذ لا يخفى أن حال النسبة في تلك الأمثلة إنما هو حال النطق، مع أن حال التلبس قبل ذلك، لانقضاء المبدأ عن الذوات المطلق عليها المشتق في تلك الموارد جدا.
لكنه مدفوع: بأن المشتق في تلك الموارد غالبا لم يطلق إلا على المتلبس بالمبدأ، لا المنقضي عنه المبدأ.
أما في موارد النداء، فلا يخفى أن المقصود بالنداء هو الشخص المتلبس بالمبدأ، لا المجرد عنه، وأن اللفظ قد أطلق عليه باعتبار حال التلبس، إلا أنه لما علم من الخارج اتحاد هذا الشخص المجرد الآن عن المبدأ للمتلبس به من قبل، الذي هو المقصود بالنداء، فيصير هذا منشأ لتوهم إطلاقه على هذا الشخص الموجود الآن، فيقال: إنه أطلق على من انقضى عنه المبدأ، مثلا قولنا: (يا قالع الباب، ويا
278

هازم الأحزاب)، مريدين به أمير المؤمنين عليه السلام، بمنزلة قولك: (أدعوك أيها الذي هو قالع الباب في ذلك الزمان، وهازم الأحزاب كذلك)، بجعل الزمان المذكور ظرفا للنسبة، فيكون من قبيل (ضارب أمس)، فإن الأوصاف الواقعة مناداة تنحل إلى مفاد موصول صلته هذا الوصف، ويكون ذلك الوصف محمولا على العائد لا الموصول.
نعم، لما كان المعتبر حضور المنادى، إذ النداء من مقولة الخطاب مع الحاضر، فلا بد في تلك الموارد من التصرف بوجه آخر، ليصح وقوع ذلك الشخص المتلبس بالمبدأ من قبل. المتحد للموجود الآن منادى، بأن يفرض حاضرا، بمعنى تنزيل وقت التلبس بمنزلة حال النطق، فيلزمه حضور المتلبس حينئذ حكما، أو أن يفرض المنادي (بالكسر) نفسه حاضرا في ذلك الزمان.
ومن هنا يكون إطلاقه في موارد النداء مع عدم تلبس الذات بالمبدأ بعد حقيقة أيضا، فيما إذا كان تلبسها به بعد مقطوعا به، كقولنا: (يا قائما بالقسط، ويا حاكما بين العباد، ويا شديد العقاب)، وأمثال ذلك مريدين بها الله تعالى، مع أنه تعالى، الآن ليس متلبسا بتلك المبادي، مع أن إطلاقه على من لم يتلبس به بعد مجاز اتفاقا.
فان الوجه في ذلك أيضا، أن نفرضه سبحانه تعالى باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف في يوم القيامة مغايرا له سبحانه تعالى باعتبار عدم اتصافه بها بعد، فندعوه تعالى بالاعتبار الأول، فيكون المقصود بالنداء والمراد باللفظ، هو القائم بالقسط في ذلك الزمان، لا الآن، فيكون إطلاقه باعتبار حال التلبس، ولأجل ذلك يطلق الأسماء الجوامد في موارد النداء وغيرها، مع أن الشخص لا يصدق عليه الآن هذا الاسم حقيقة، كقولك: (هذه زوجة زيد، أو زوجة عمرو) بعد طلاقها مع أن الأسماء الجوامد لا خلاف فيها ظاهرا في اعتبار حصول الوصف العنواني لما يطلق عليه بالنسبة إلى حال النسبة.
وأما في موارد وقوعه معرفا: فالأمر فيها أوضح، فإنه باعتبار قيامه بالذات الحاضرة بالنسبة إلى الماضي جعل معرفا لها الآن، باعتبار اتحاد هذه الذات الآن
279

لها في الماضي، فقولك: (هذا ضارب زيد) بمنزلة (هذا هو ضارب زيد أمس) بجعل أمس ظرفا للنسبة، فأنت فرضت هذه الذات المشار إليها ذاتين متغايرتين بالاعتبار، إحداهما محمولة على الأخرى فإن المحمول هي الذات المتلبسة بالمبدأ أمس، والموضوع هي الحاضرة، حملت الأولى على الثانية لاتحادها معها، فصارت معرفة لها لذلك فيكون معنى المثال المذكور بالفارسية (اين آنست كه زننده زيد بود).
وأما في موارد الاستفهام: فالأمر أجلى من سابقه، فإن السائل بعد ما فرض شخصا متلبسا بالمبدأ في الزمان الماضي، يسأل عن اتحاد هذه الذات الحاضرة مع تلك، فقولك: (أأنت ضارب زيد) معناه بالفارسية (آيا تو آنكسى كه زننده زيد بود پيش؟).
وكيف كان، فالمشتق في موارد التعريف والاستفهام، مع انقضاء المبدأ حال الإطلاق لم يطلق إلا على المتلبس، إلا أنه جعل المتلبس معرفا للمجرد عن المبدأ في الأولى، ومسئولا عن اتحاده معه في الثانية، فلذا قد يقع معرفا له، أو مسؤولا عن الاتحاد معه، فيما إذا لم يتلبس به بعد، إذا كان تلبس هذه الذات بعد مقطوعا به في الأول، وتلبس ذات ما مرددة بين هذه الذات وغيرها في الثاني، مع أن إطلاقه على من لم يتلبس بعد مجاز اتفاقا، كما عرفت وسمعت مرارا.
وأما في موارد النداء: فالغالب إطلاقه على المتلبس على الوجه الذي قررناه، ولا ضير في إطلاقه في بعض الموارد على غير المتلبس، بعلاقة ما كان، فيما إذا كان قد انقضى عنه المبدأ، أو بعلاقة الأول أو المشارفة،
فيما إذا لم يتلبس بعد، لقلة مورده، فلا يلزم منه الاستبعاد المذكور.
مع أنه يمكن أيضا تصوير إطلاقه على غير المتلبس على وجه الحقيقة بنحو آخر، بحيث لا يلزم منه المجازية في اللغة، وهو أن يدعى كون المنقضي عنه المبدأ، أو الذي لم يتلبس به بعد متلبسا به الآن، فيطلق عليه المشتق بعد هذا التصرف، فيكون التجوز حينئذ عقليا، وهذا هو معنى المجازية في التلبس فقط.
وبالجملة: نحن لا ندعي كون الإطلاق على الوجوه المذكورة موافقا
280

للظاهر، بل نسلم كونه مخالفا له من الوجوه الأخرى فإن فرض ذات واحدة اثنتين، أو ادعاء فردية ما ليس بفرد، مخالف للظاهر يقينا، وإن لم يكن مخالفا لظاهر المشتق، إلا أن القرينة قائمة في الموارد المذكورة، في بعضها غالبا، كما في موارد النداء، وفي بعضها دائما، كما في الأخيرتين على ارتكاب نوع من وجوه خلاف الظاهر، موجب لحقيقة إطلاق المشتق بعده، فافهم.
الثاني:
بعد ما ثبت كون المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ حال تلبسه به بالتقريب الذي تقدم، فلا بد من حمله عليه في كل مورد لم يقم قرينة لفظية أو عقلية على خلافه، كما في الحكم بوجوب قتل القاتل، أو إقامة الحد على السارق والزاني، ونحوهما مما لا يمكن ترتب الحكم عليه حال قيام المبدأ بالذات، من جهة عدم استقرار المبدأ بها بقدر فعل القتل أو الحد قطعا، فإن القاتل قبل تحقق القتل منه ولو كان مشتغلا بالجزء الأخير من مقدماته لا يكون قاتلا قطعا، وبعد تحقق هذا الجزء الأخير، فلا ريب في تحققه معه، ولا ريب في انقضائه حينئذ بمجرد تحققه، فلا يبقى لموضوع الحد أو القتل، لو علقا على قيام المبدأ بالقاتل والسارق وجود، فلا يمكن امتثال هذا الحكم، فحينئذ فالعقل حاكم بكون المراد خلاف الظاهر يقينا، وإلا لغا الحكم، فلذا يتمسكون بآيتي الزنا، والسرقة على وجوب الحد على من انقضى عنه الزنا والسرقة.
وكيف كان، فهذا مما لا إشكال فيه وإنما الكلام في كيفية الاستعمال، وأنه هل وقع التصرف في المادة في هذه الموارد، أو الهيئة، وهذا وإن لم يكن فيه فائدة مهمة، إلا أنه لا بأس به والتعرض له في الجملة:
فنقول: قد قيل أو يقال: إن التصرف فيها في المادة، لا الهيئة، بمعنى أنها عارضة عليها بعد تقييدها بالزمان الماضي، فيقال: إن المراد بالقاتل مثلا إذا أطلق على من انقضى عنه المبدأ، كما في الآية هو المتلبس الآن بالقتل الواقع أمس، فلا يلزم مجاز في الهيئة.
لكن فيه ما لا يخفى من الركاكة كما أشير إليه آنفا.
ويمكن أن يقال: إن إرادة المعنى من اللفظ شيء، والحكم على هذا
281

المعنى شيء آخر، فيمكن أن يراد من الزاني والقاتل - مثلا - معناهما الحقيقي، وهو الموصوف بهما، ويحكم عليه بوجوب الحد، أو القتل مع تقييد ظرف الامتثال بحال انقضاء المبدأ.
لكن فيه: أنه مستلزم للتكليف بغير المقدور، وموجب لإعادة ما هو المحذور، ضرورة عدم إمكان هذا المعنى بعد انقضاء المبدأ، إذ المفروض قوامه بقيام المبدأ، فكيف يعقل بقاؤه بعد انقضائه.
والذي يقتضيه التحقيق: أن يوجه إطلاق المشتق في المفروض، بحيث لا يستلزم المحذور المذكور، بأنه مستعمل في المتلبس بالمبدأ حال تلبسه به، لكن الحكم لم يتعلق بالذات المطلق هو عليها بهذا العنوان، حتى يكون الموضوع حقيقة هو هذا العنوان، فيعود المحذور، بل علق على الذات بشرط حصول الاتصاف لها بالعنوان المذكور، مع عدم اعتبار بقاء الاتصاف، فيكون موضوع الحكم هو الذات لا العنوان، أو هي مقيدة به، ويكون النكتة في تعليق الحكم على العنوان المذكور في الظاهر، مع أن موضوعه هي الذات واقعا، تعريف الذات التي هي موضوع لهذا الحكم بهذا العنوان، مع التنبيه على مدخلية هذا العنوان في ثبوت الحكم المذكور ولو بنحو السببية في الوجود، فإن تعليق الحكم على الوصف مشعر بسببية هذا الوصف وجودا لا محالة (1). وإنما الخلاف في أنه يفيد السببية في جانب العدم، بأن
(1) ومن هنا ظهر جواب آخر عن القائلين بكون المشتق حقيقة في الأعم من حال التلبس الشامل للماضي في احتجاجهم، بأنه لو لا ذلك لما صح التمسك بآيتي الزنا والسرقة على وجوب الحد على من انقضى عنه المبدأ.
وملخص الجواب أن هذا يرد على تقدير كون العنوان قيدا لموضوع الحكم وواسطة في العروض، والأمر ليس كذلك، فان العنوان علة الثبوت والمفروض إنما هو الذات باقية بعد زوال العنوان.
وقد يقرر هذا الاستدلال بنحو آخر، وهو أنه لو لا ذلك لما صح الاستدلال بالآيتين على وجوب حد الزاني والسارق مطلقا، لانصرافهما إذن بمقتضى الوضع إلى من تلبس بالزنى والسرقة حال نزول الآية، فلا يندرج غيرهم فيها، والتالي باطل، وهذا التقريب مبني على حمل المشتق في الآيتين على حال النطق.
والجواب عنه أولا: أن المراد بالمشتق إذا وقع محكوما عليه كما في الآيتين المتلبس بالمبدأ مع قطع النظر عن حصوله في أحد الأزمنة، فيعم الأفراد المتحققة في الماضي والحال والمقدرة.
وثانيا: أن ذلك لو تم لدل على بطلان الوضع باعتبار حال النطق، ولا يلزم منه الوضع للأعم، لثبوت الواسطة، وهي ما اخترنا من وضعه باعتبار حال التلبس.
282

يفيد انتفاء هذا الحكم بانتفاء الوصف أولا.
وإيراد ما هو شرط للحكم واقعا بصورة موضوع الحكم وعنوانه شائع كشيوع عكسه، وهو إيراد ما هو موضوع وعنوان للحكم واقعا بصورة الشرط، وهذا هو الشرط الذي يقال: إنه لتحقيق الموضوع، فيحكمون بعدم المفهوم له لذلك، فعلى هذا، يصير معنى قوله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما.) ().
- والله أعلم - أنه إن زنت امرأة أو زنى رجل فاجلدوهما، ولا ريب أن هذين الموضوعين، أعني الرجل والمرأة باقيان بعد انقضاء المبدأ عنهما.
لكن لا يخفى أن هذا التوجيه كسابقيه إنما يوجب إطلاق المشتق على الحقيقة، وعدم خلاف ظاهر في هيئته، لكن لا بد من التزام خلاف الظاهر بوجه آخر، فإن ظاهر تعليق الحكم على شيء، كون ذلك الشيء هو الموضوع لهذا الحكم على ما هما عليه من الإطلاق والتقييد، فإرادة تعليقه على غيره واقعا - كما في التوجيه الأخير - أو تقييده واقعا، مع أنه مطلق في الظاهر - كما في الأول - أو تقييد الحكم في الواقع مع أنه مطلق في الظاهر، كلها خلاف الظاهر، فلذا نفينا الفائدة من التعرض له.
ثم إنه ربما يتصرف في الموارد المذكورة في الهيئة، كما في مجاز المشارفة، فيقال: (زيد غريق) مع أنه بعد لم يغرق، فيستعمل اللفظ ويراد به غير المتلبس لإشرافه على التلبس، وكما في صورة استعماله فيمن لم يتلبس بعد بالمبدأ بعلاقة الأول إلى التلبس.
والفرق بينهما أن العلاقة في الثاني إنما هي بحسب قرب الزمان، وفي الأول بملاحظة الذات نفسها، بمعنى أنه يلاحظ الذات اثنتين باعتبار حالتين، فيستعمل وثالثا: أن الاستدلال بالآيتين على ثبوت الحكم لمطلق الزاني والسارق [يتوقف] على وضع اللفظ للأعم، لجواز أن يكون نظرهم في ذلك إلى إثبات الحكم لمن تلبس بالمبدأ حال نزول الآيتين بهما ولغيرهم بأصالة الاشتراك في الحكم الجمع عليه، كما هو الشأن في استدلالهم بمطلق الخطابات الشفاهية على ثبوت الحكم لعامة المكلفين.
ورابعا: أن هذا على فرض تماميته يدل على إرادة الأعم من الآيتين، وهي تستلزم وضع اللفظ له، لكونها أعم من الحقيقة. لمحرره عفا الله عنه.
283

اللفظ في إحداهما لمشابهتها بالأخرى، كما في قوله تعالى (إني أراني أعصر خمرا) () وكما إذا استعمل في غير المتلبس بعلاقة ما كان، والعلاقة فيه أيضا إنما هي بملاحظة الذات على نحو ما عرفت.
هذا كله إذا لم يكن على وجه الادعاء والتنزيل، وإلا فلا يكون مجازا في الكلمة، كما لا يخفى.
والظاهر أن أكثر الاستعمالات العرفية الغير المنطبقة على المشتقات من حيث أوضاعها النوعية في الظاهر، إما لانقضاء المبدأ عما أطلقت عليه، أو عدم تلبسه به بعد بالنسبة إلى حال النسبة مبنية:
إما على وجه جعل المشتق معرفا لهذه الذات المجردة عن المبدأ باعتبار ثبوته لها من قبل، أو بعد ذلك، مع تيقن ثبوته لها، مع إطلاقه على الذات المتلبسة به حال النسبة، وجعله لاتحادها مع هذه الذات معرفا لتلك.
وهذا على قسمين بحسب الموارد:
أحدهما: أن يراد به تعريف الذات من حيث هي، من غير اعتبار كونها محكوما عليها بحكم، كما مر أمثلته في التنبيه السابق كقولك (هذا ضارب زيد، أو هو قاتل عمرو).
وثانيهما: أن يراد به تعريف الذات باعتبار كونها محكوما عليها بحكم، كما تقول: (جاءني ضارب زيد) مريدا به المتلبس بالضرب قبل، المتحد لهذا الجائي من حيث الذات، فتجعله بذلك الاعتبار معرفا لهذه الذات المحكوم عليها بالمجيء، أو تقول: (اضرب قاتل عمرو) قاصدا ضرب الذات الموجودة الآن المنقضي عنها القتل، لكن علقت الحكم على هذا العنوان في الظاهر مريدا به المتلبس به حال تلبسه به لنكتة التعريف، أي تعريف الذات المحكوم عليها الآن بالضرب، أو لنكتة الإشعار بمدخلية هذا العنوان لوجوب الضرب أيضا، إذا كان سبب أمرك بضربه كونه قاتلا لعمرو، كما وجهنا الآية المتقدمة به، كما عرفت.
ومثل ذلك يجري في المنادى أيضا، سيما في موارد الندب كقولك (يا
284

معطي الفقراء) مريدا بالنداء حقيقة هذا الشخص المنقضي عنه الإعطاء حال النداء، وإنما ناديته بهذا العنوان تنبيها على أنه هو الذي كان يعطي الفقراء، والآن صار فقيرا مثلا، مع إرادة الذات المتلبسة بالإعطاء في ذلك الزمان من هذا الوصف، وجعله بهذا الاعتبار معرفا لمن تدعوه، لاتحاده مع تلك الذات المتلبسة بما ذكر في ذلك الزمان.
وإما على التنزيل والادعاء.
وإما على تصرف في المادة، كما في موارد استعمالها في ملكات مبادئها، كالكاتب، والشاعر والفقيه، وأمثالها مما يراد بها التلبس بملكة المبدأ، لا بنفسه، أو فيمن أخذ مبادئها حرفة، وصنعة، كالبناء والنساج والكاتب، وأمثالها، إذا أطلقت على هذا الوجه، وكما في استعمال البقال والتمار، وأمثالهما من المشتقات المأخوذة من أسماء الذوات في مزاولة مع البقل والتمر، إلى غير ذلك مما يعرف وجوه التصرف فيها حسب موارد استعمالها، فإن أسماء الآلة إذا أطلقت ولم يرد بها المتلبس بالآلية حال النسبة، كالمقراض لغير المتلبس بآلية القرض حال النسبة، فلا بد أن يكون التصرف فيها بنحو آخر، كأن يقال: إنها مستعملة فيما له شأنية الآلية مع إعداده لذلك أو بدونه.
وقد جعل بعض المتأخرين المدار في صدق أسماء الآلة حقيقة على شأنية الآلية مع الإعداد لها، بمعنى أنه جعل معناها المتلبس بشأنية كونه آلة لإيجاد المبدأ مع كونه معدا للآلية، فيعتبر في صدقها حقيقة على ما أطلقت عليه من تحقق هذين الشأنية، والإعداد فيه حال النسبة، وعلى هذا فإطلاقها على هذا الوجه ليس من وجوه التصرف فيها، وإنما يكون من ذلك - بناء على ما اخترنا - من أن المعتبر فيها التلبس بالآلية فعلا (1).
لكن هذا القول ليس بجيد، كما لا يخفى، إذ ليس المتبادر من نفس تلك
(1) وعلى ما اخترنا من اعتبار التلبس في أسماء الآلة بالآلية حال النسبة، فلا يصدق على ماله شأنية ذلك مع عدم تلبسه به حينئذ، ويصدق عليه على القول الآخر، وأما بالنسبة إلى ما لا يكون له الصلاحية لذلك حال النسبة، كإطلاق الميزان مثلا على قطع منتشرة من الخشب والحديد مع كونها ميزانا قبل، أو سيصير ميزانا، فالإطلاق مجازي على القولين، لمحرره عفا الله عنه.
285

الهيئات عرفا، مع قطع النظر عن خصوص بعض الموارد، إلا المتلبس بآلية إيجاد المبدأ حال النسبة، فيكشف ذلك أن المعتبر في وضعها لغة ذلك، فحينئذ لو كان مفاد تلك الهيئات في بعض الموارد غير منطبق على ذلك، فهو إما لأجل قرينة متحققة في خصوص المورد، وإما لأجل حدوث نقل ووضع طار بسبب غلبة استعمال العرف لها في المورد الخاص في المعنى المخالف لما ذكرنا، كما هو ليس ببعيد فيها بالنسبة إلى مادة الوزن، والثقل، والثقب والنشر، كالميزان والمثقال والمثقب والمنشار، فإن المتبادر منها عرفا هو ما يصلح لآلية إيجاد هذه المبادئ مع كونه معدا لذلك وإن لم يتلبس بالآلية فعلا.
والكاشف عن كون هذا التبادر من نفس اللفظ عدم صحة سلب تلك الألفاظ عما له شأنية الآلية مع إعداده لها، وان لم يكن متلبسا بها حال النسبة، وصحة سلبها عما له شأنية ذلك مع عدم إعداده له، بل الظاهر منها كما يظهر للمتأمل هي الذوات المعدة لما ذكر، من دون التفات إلى عنوان كونها آلات، فإن المتبادر منها، ما يعبر عنه بالفارسية، ب‍ (ترازو، ومته، وأره) فهي على هذا كأسماء الجوامد الموضوعة للذوات، فيخرج عن كونها أوصافا بالمرة، فإن الدال حينئذ هو أمر واحد، وهو المركب من الهيئة والمادة المخصوصة، فيكون وضعها حينئذ شخصيا.
ولعل منشأ تخيل البعض ملاحظة بعض الأمثلة الخاصة المقرونة بالقرائن المفيدة لما زعم، أو المنقولة إليه.
وكيف كان، فقد عرفت وجه التصرف في أسماء الآلة بناء على المذهب المختار فيها.
ويقرب منه وجه التصرف في أسماء المكان، فإنه أيضا إطلاقها على غير المتلبس بظرفية المبدأ حال النسبة باعتبار صلاحية الظرفية لذلك.
وكيف ما كان، فإن شئت توضيح الكلام فيما ذكرنا فنقول:
إنه لا ريب أن مبادئ المشتقات مختلفة، فقد يكون المبدأ فيها وصفا، كالأبيض والأسود ونحوهما، وقد يكون قولا كالمتكلم والمخبر، وقد يكون فعلا
286

صدوريا متعديا إلى الغير، كالضارب والناصر والقاتل ونحوها، وقد يكون ثبوتيا غير متعد إلى الغير، كالقائم والقاعد والمضطجع، والمستلقي ونحوها، ويعبر عن الجميع بالحال، وقد يكون ملكة، كالعادل والمجتهد ونحوهما، إذا أريد التلبس بملكة الاقتدار على مبادئها، وقد يكون حرفة وصنعة على أنحاء خاصة، كالبناء والكاتب والنساج، ونحوها من المشتقات المأخوذة من المصادر من أسماء الفاعلين، وصيغ المبالغة، إذا أريد بالأولى التلبس بمبادئها بعنوان أخذها حرفة، وبالثانية التلبس بمبادئها بعنوان كثرة أخذها حرفة، لا مجرد التلبس بأخذها حرفة لا بشرط، وإلا فيلزم التصرف في الهيئة المفيدة لكثرة التلبس، لكونها حينئذ لمجرد الوصف، كما هو الغالب في استعمال أسماء الحرف التي على هذا الوزن عرفا، سواء كانت مأخوذة من المصادر كالنساج والبناء، حيث إن الغالب استعمالها فيمن تلبس بأخذ مبادئها حرفة من دون اعتبار الكثرة، أو من أسماء الذوات كالبقال والعطار والتراب والزبال، حيث إن الغالب عرفا في استعمالها أيضا إرادة التلبس بأخذ بيع تلك الذوات، أو نقلها حرفة، بل الظاهر هجر تلك الهيئة، أعني زنة فعال عرفا عن معناها الأصلي، ونقلها إلى مجرد المعنى الوصفي المجرد عن الكثرة، فيما إذا أريد بالمبدأ الحرفة، مصدرا كان، أو اسم ذات، كما لا يبعد دعوى طروء الوضع عليها عرفا بواسطة غلبة الاستعمال للتلبس بأخذ المبدأ حرفة فيما إذا كان المبدأ من أسماء الذوات، بحيث يكون استعمالها حينئذ في التلبس على وجه الحال، بأن يراد التلبس ببيع هذه الذوات مجازا محتاجا في الانفهام إلى القرينة الصارفة.
ولا يبعد دعوى ذلك أيضا في بعض أمثلتها المأخوذة من المصادر، كالنساج والبناء والخراط والغسال ونحوها.
وكيف كان، فكلامنا الآن مع الغض عن ذلك كله، فتأمل (1) أو من
(1) وجه التأمل أنه يمكن نقل المادة في الصورتين في ضمن تلك الهيئة إلى الحرفة، لغلبة استعمالها فيها في ضمن الهيئة، فالهيئة على ما استظهرنا إنما هي منقولة إلى مجرد التلبس بالمبدأ إلى التلبس بمعنى خاص.
هذا مع إمكان نقل المجموع من الهيئة والمادة إلى التلبس بمعنى خاص، فتأمل لمحرره عفا الله عنه.
287

أسماء الذوات (1)، كاللابن والتامر، ونحوهما من أسماء الفاعلين المأخوذة منها، وكالبقال والعطار، ونحوهما مما مر من صيغ المبالغة المأخوذة منها إذا أريد بها كلها، التلبس بأخذ بيع تلك الأعيان حرفة، وقد عرفت ما في الثانية.
وأما الأولى، أعني أسماء الفاعلين المأخوذة من أسماء الذوات، فلا تصرف من العرف في هيئتها أصلا، والغالب استعمالها في التلبس الحالي، أعني إرادة مجرد التلبس مع تلك الأعيان، وهذا هو الظاهر المتبادر منها عرفا، فيكون أخذ مبادئها حرفة خلاف الظاهر المحتاج إلى القرينة الصارفة عما ذكر، لكنه لا يوجب التصرف في الهيئة، فإنها لمجرد التلبس بالمبدأ بمعناه ولو مجازا، وهذا باق على جميع التقادير.
وقد يجتمع في المبدأ الواحد الوجوه الثلاثة، أعني الحال والملكة والحرفة، بمعنى أنه يصلح لإرادة التلبس بكل واحد من تلك الوجوه، كما في الكاتب والقارئ والمدرس وأمثالها، أو الاثنان منها، كما في العالم والفقيه والمجتهد ونحوها، لصلاحيتها لإرادة التلبس الحالي، والتلبس بملكة الاقتدار على مبادئها، ومن المعلوم عدم التصرف في الهيئة من جهة أحد الوجوه الثلاثة (2) في جميع الصور.
أما في صورة إرادة التلبس الحالي فواضح، إذا كان المبدأ من المصادر، وأما إذا كان المبدأ من أسماء الذوات فالتصرف أنما وقع في المبدأ من حيث إخراجه عن معناه الأصلي وهو الذات إلى غيره، وهو الفعل المتعلق بالذات المناسب لتعلقه بها، كالبيع، بل يمكن عدم التزام التصرف في المادة أيضا، بتقريب ما يقال: في مثل قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) () فإن الأم فيه في معناه الأصلي، وكذا الحرمة، إلا أنه تجوز في أمر عقلي، وهو نسبة
(1) قولنا (أو من أسماء الذوات) عطف على قولنا المذكور سابقا، أعني من المصادر في قولنا: (من المشتقات المأخوذة من المصادر من أسماء الفاعلين أو صيغ المبالغة)، لمحرره عفا الله عنه.
(2) بمعنى أن شيئا منها لا يستلزم التصرف في الهيئة، بان يكون التصرف مسببا عنه وإن أمكن التصرف فيها بواسطة امر خارجي، كنقلها إلى غير معناها الأصلي بواسطة غلبة الاستعمال في هذا الغير، كما مرت الإشارة إليه في بعض الأمثلة، لمحرره عفا الله عنه.
288

الحرمة إلى الأم التي هي من الذوات، فلا مجاز في الكلمة، أصلا، وأما تفهيم المقصود الواقعي، وهو حرمة وطء الأمهات، فالتعويل فيه على القرينة العقلية الدالة على امتناع إرادة حرمة الذوات نفسها، بضميمة ظهور الوطء من بين الأفعال المتعلقة بها، وتكون الأولى صارفة، والثانية معينة، فأريد من كل واحد من الطرفين معناه الأصلي، وأريد الدلالة على المقصود بالقرينة.
فعلى هذا يقال فيما نحن فيه أيضا: إن الهيئة لإفادة التلبس بمعروضها، وأريد بها هذا المعنى، والمبدأ للذات، وأريد به هذه، لكن التعويل في تفهيم المقصود - وهو التلبس بالفعل المتعلق بالذات - على العقل، حيث إنه لا يصح الاتصاف بنفس الذات، بمعنى أنه مستحيل عقلا، فيكشف ذلك عن التجوز في النسبة الضمنية بين الهيئة - والمادة، وأن المراد غير إرادة التلبس بنفس [المادة] () فيكون هذا بضميمة ظهور البيع، لكونه متعلقا لمفاد الهيئة بالنسبة إلى سائر الأفعال دالا على المراد، فلا مجاز لغة في شيء من المادة والهيئة أصلا، بل هو عقلي فحسب، كما في الآية، إلا أن الفرق بينهما أن التجوز ثمة وقع في النسبة التامة بين الموضوع والمحمول، وهنا وقع في النسبة الناقصة الضمنية الحاصلة بين الهيئة والمادة.
هذا كله إذا أريد بالمشتق التلبس الحالي.
وأما إذا أريد به التلبس بالمبدأ باعتبار الملكة أو الحرفة، فلا يلزم أيضا في الهيئة تصرف أصلا، وإن كان، فهو في المادة، فإنه إن أريد بها الملكة فالهيئة لإفادة التلبس بها، أو الحرفة فكذلك، فلم يخرج عما يقتضيه وضعها الأصلي.
ثم إن المبدأ إذا أريد به الحال، فقد عرفت أنه لا مجازية فيه حينئذ مطلقا، من حيث اللغة، وإنما كان يلزم التجوز العقلي في بعض الموارد، وهو ما إذا كان من أسماء الذوات.
وأما إذا كان للملكة أو الحرفة، فلا إشكال في مجازيته لغة بالنظر إلى معناه الأصلي.
289

لكنه قد يدعى طروء الوضع من العرف عليه بواسطة غلبة الاستعمالات بالنسبة إلى الحرفة أيضا، مع بقاء معناه الأصلي، فيكون في العرف مشتركا لفظا بينهما، بل قد يدعى هجره عن المعنى الأصلي إلى خصوص الحرفة في أسماء الحرف التي على وزن فعال، كنساج وتمار وبقال، وغيرها.
والحق عدم عروض الوضع الجديد له مطلقا (1)، فيما إذا كان المبدأ في ضمن غير فعال من هيئات المشتق.
نعم قد يتعدى في بعض الأمثلة دعوى إجماله حينئذ عرفا، لغلبة استعماله في غير الحال، الموجبة للتوقف والإجمال، فيكون مجازا مشهورا.
وأما إذا كان في ضمن هيئة فعال، فالظاهر هجره عرفا عن المعنى الأصلي، إلى الحرفة، بحيث يظهر منه هذه عند الإطلاق، ويحتاج انفهام معناه الأصلي، وهو الحال، إلى القرينة الصارفة عن ذلك مطلقا، بالنسبة إلى المصادر وأسماء الذوات، لكن لا مطلقا، بل فيما يطلق على الحرفة غالبا، كالنساج والبناء والبقال والعطار، لا مثل القتال والأكال والسيار ونحوها، لعدم غلبة استعمالها فيما ذكر، بل الغالب إرادة المعنى الحالي، ومن المعلوم أيضا عدم التصرف في هيئة فعال، الموضوعة للمبالغة في تلك الأمثلة.
وكما في صيغ المبالغة (2)، المأخوذة من أسماء الذوات مطلقا، فإن الغالب إرادة الحرفة منها مع ما عرفت بالنسبة إلى الهيئة فيها أيضا.
والدليل على ذلك التبادر من تلك المواد عند الإطلاق، وصحة سلب تلك الصيغ حينئذ عمن تلبس بالمبدأ بمعناه الحالي، فإنه يصح أن يقال لمن تلبس بفعل النسج مثلا. أو بيع التمر، من دون أخذهما حرفة: إنه ليس بنساج، أو تمار، ولا يصح أن يقال: إنه ليس بناسج، وتامر.
(1) أي سواء كان بطريق الاشتراك أو النقل، وسواء كان المبدأ من أسماء الذوات أو المصادر، لمحرره عفا الله عنه.
(2) وكيفية نقل تلك الألفاظ إلى ما ذكر: أن العرف أطلقوها على من تكرر منه صدور المبدأ وتلبس به في أغلب الأحوال، فمن اتخذ الفعل حرفة وصنعة إلى حد استغنى ذلك عن القرينة، صارت حقائق عرفية فيما قلنا. لمحرره عفا الله عنه.
290

وأما عدم ثبوت طروء الوضع عرفا لغير ما ذكر بالنسبة إلى غير الحال من الملكة والحرفة، فلأنه لو ثبت، فهو إما بطريق الهجر والنقل، وإما بطريق الاشتراك اللفظي، كما قيل.
والأول مفقود في المقام، فإن لازمه تبادر غير الحال، بحيث يتوقف انفهام الحال على القرينة، وليس كذلك في المقام، فإنه إما مجمل بالنسبة إلى الحال وغيره، كما هو كذلك في كثير من الأمثلة، وإما ظاهر في الحال، كما في بعض أمثلته الأخرى، فانتفاء اللازم يكشف عن انتفاء الملزوم.
والثاني باطل في نفسه لما حققنا في محله - في مسألة المجاز المشهور - أنه لا يمكن الاشتراك بواسطة غلبة الاستعمال، فإن اللفظ، ما لم يهجر عن معناه الأصلي - بغلبة الاستعمال - لا يعقل اختصاصه بالمعنى الثاني أيضا، فراجع.
هذا مضافا إلى تبادر الحال في بعض الأمثلة.
نعم لا يبعد دعوى النقل في مثل: العادل والمجتهد - في عرف المتشرعة - إلى الملكة، لكن الكلام في ثبوته بالنظر إلى العرف العام.
احتج مدعي الاشتراك (1) ()، بأنه إذا قيل: (رأيت كاتبا، ولقيت قارئا)، يتوقف العرف في المراد، وينتظرون القرينة لتعيين المراد من الحال والحرفة، فيكشف ذلك عن اشتراك المبدأ فيهما، وفي أمثالهما عرفا بين الحال والحرفة.
وفيه - مضافا إلى ما عرفت - ان التوقف والإجمال لا يصلح لأن يكون علامة للاشتراك، لكونه أعم منه، لوجوده في المجاز المشهور أيضا، والعلامة لا بد أن تكون مساوية للمدلول، أو الأخص، فلذا لم يعده أحد من علائم الاشتراك.
(1) مدعي الاشتراك حسبما نسبه المحرر هو الآخوند المولى أحمد الخوانساري (ره)، وقال في طبقات أعلام الشيعة 1: 70 رقم 140 (الشيخ المولى أحمد الخوانساري) ما ملخصه: بأنه كان من أعلام الشيعة في القرن الثالث بعد العشرة، ومن فحول علماء عصره الجامعين المتفننين، أخذ العلم عن جماعة من الأعاظم كالمولى أسد الله البروجردي الملقب بحجة الإسلام وشريف العلماء المازندراني... وله آثار منها [مصابيح الأصول] كتب المجلد الأول منه تلميذ المصنف الشيخ عبد الحسين البرسي عن خط أستاذه، وكتب عليه ما سمعه من الدروس في [1273] وله أيضا الأدعية المتفرقة...
291

نعم لو استدل بتبادر كل من المعنيين من اللفظ، بمعنى تصورهما من نفس اللفظ عند الإطلاق مع التوقف في أن
أيهما المراد، حيث إنه يجوز إرادة أكثر من معنى، لاتجه الاستدلال، لكن الواقع ليس كذلك.
هذا، ثم إن الظاهر أنه لم يقع الخلاف من أحد في مجازية المبدأ الصالح لإرادة الملكة فيها في العرف أيضا، وإنما اختلفوا في ثبوت الوضع بالنسبة إلى الحرفة فيما يصلح لإرادتها وعدمه اشتراكا أو نقلا، فيكون إطلاق المبدأ على الملكة في نحو كاتب وقارئ مجازا قطعا، إذا أريدت الملكة من نفس اللفظ، لعدم ثبوت الوضع لها بوجه، مضافا إلى تبادر الغير.
لكن الظاهر بناء الإطلاق في صورة حصول الملكة، دون الحال على تنزيل من له ملكة التلبس بالمبدأ منزلة المتلبس به فعلا، وإرادة الحال من المبدأ بهذا الاعتبار، فيلزم التجوز بحسب العقل دون اللغة.
وكيف كان، فالنسبة بين الحال وبين كل من الملكة والحرفة، كالنسبة بين الأخيرتين، هي العموم من وجه.
والأمر واضح بالنسبة إلى الحال وغيرها.
وأما الأخيرتان، فمحل الافتراق فيهما من جانب الملكة، الاجتهاد والعدالة، ومن جانب الحرفة ما لا يحتاج في حصوله إلى تحصيل ملكة، مثل بيع التمر والخبز ونحوهما. ومورد الاجتماع فيهما الحرفة التي يحتاج تحصيلها إلى صرف العمر في مدة طويلة لتحصيل قوة يقتدر بها على الفعل، كالخياطة والحياكة والصباغة ونحوها.
ثم إن مورد الخلاف في المسألة (1) يعم جميع الأقسام، كما أشرنا إليه في تحرير النزاع، كما صرح به غير واحد منهم، لإطلاق العنوانات، وعموم الأدلة وتمثيلهم بالألفاظ الموضوعة بإزاء الملكات والحرف، وبيان الثمرة على حسب اختلاف المبادئ، كما ستعرف، فما ذكره بعض الأعلام من اختصاص النزاع بما يكون المبدأ فيه حالا، استنادا إلى حصرهم الخلاف فيما تلبس بالمبدأ وانقضى عنه
(1) تحقيق مقال متضمن لدفع بعض ما ربما يتخيل من اختصاص محل النزاع في المسألة ببعض الوجوه.
لمحرره عفا الله عنه.
292

ذلك، نظرا إلى عدم تحقق الزوال إلا في الحال لعدم زوال الملكة والحرفة، ليس بجيد.
ويرد مستنده، بأنه لا ريب في إمكان زوال كل من الملكة والحرفة بعد حصولهما، إذ الأولى: قد تزول بالنسيان الحاصل من ترك الاشتغال بالفعل في مدة طويلة، كما تزول الثانية أيضا بالإعراض وترك الاشتغال، مع عدم قصد العود والاشتغال بما يضادها من الحرف والصنائع، بل بدونه أيضا، مع قصد الإعراض وترك الاشتغال، فإن زوال كل شيء بحسبه، فالنزاع يعم الجميع، إلا أن التلبس بالمبدأ يختلف باختلاف المبادئ، ولا كلام لنا باعتبار ذلك. فافهم واغتنم.
الثالث: ()
الذوات الخارجية أعني الجزئيات الحقيقية التي تكون معروضة للمبادئ في الخارج، غير داخلة في مفهوم المشتق، بلا خلاف أجده، ولا بد من خروجها وإلا لزم أن تكون المشتقات موضوعة للخصوصيات على سبيل عموم الوضع، وخصوص الموضوع له، ولا قائل به، بل الظاهر اتفاقهم على كون المفهوم فيها كليا، ولذا وقعت موضوعات للقضايا المعتبرة في المحاورات الدالة على ثبوت المحمولات لكل فرد من أفراد الموضوع، ولولاه للزم استعمالها في أكثر من معنى واحد، حيث يراد بها جميع الخصوصيات، وهذا باطل.
وأيضا لو ثبت ذلك لزم حمل الذات على الذات وتوصيفها بها في قولك:
(زيد ضارب) و (زيد القائم) ولا ريب في فساده.
وحمل المشتق في المثالين على المجرد عن الذات - بقرينة الحمل والتوصيف - مستلزم للتجوز في الاستعمالات الغير المتناهية الثابتة في المحاورات، ولا يلتزم به أحد جدا.
هذا مضافا إلى كفاية الأدلة الآتية في مورد الخلاف عن التكلم هنا.
وكيف كان، فكما لا ينبغي الريب في عدم أخذ الذوات الخارجية في مفاهيم المشتقات، كذلك لا ينبغي [الريب] في عدم دلالتها على شيء من
293

خصوصيات الذوات، مثل كون المعروض جسما في نحو الأبيض والأسود، وإنسانا في نحو الضاحك والكاتب، وهكذا، لعدم حصول الانتقال إلى نحو ذلك من خصوص الألفاظ المشتقة قطعا، وإلا لزم أن لا يصح قولك: الجسم الأسود والأبيض، لكونه حينئذ من باب توصيف الأعم بالأخص، كقولك: الحيوان الإنسان، ولا ريب في بطلان التالي، ضرورة صحة التوصيف في المثال ونحوه.
مع أن المعتبر في المفهوم إن كان هو العنوان الخاص، من حيث وجوده في الخارج، فيلزم حمل الذات على الذات وتوصيفها بها، على حسب ما مر بيانه في رد دخول الجزئيات الحقيقية في مفهوم المشتق. وإن اعتبر لا بشرط، فلا يصح، لأن المبادئ غير جارية على تلك العنوانات في الذهن، بل من عوارض الماهيات الخارجية، فكيف يعتبر في المشتق تلبسها بالمبادئ إذ على هذا يصير قولك:
الأسود، معناه مفهوم الجسم المتصور في الذهن المتلبس بالسواد، وهذا مما يضحك الثكلى، ضرورة عدم إمكان عروض المبدأ الذي هو السواد بالمفهوم الذهني، وإنما هو عارض لجزئياته الحقيقية المتحققة في الخارج، وهكذا في سائر أمثلة المشتقات.
وكيف كان، فهذا بديهي لا حاجة فيه إلى تجشم الاستدلال، فلنأخذ بالكلام فيما هو محل للخلاف في المقام.
فنقول: إنهم بعد اتفاقهم ظاهرا على خروج الذوات الخارجية عن مفهوم المشتقات - كما عرفت - اختلفوا في اعتبار الذات المبهمة المفسرة بالشيء في بعض العبارات في مفهوم المشتقات على أقوال:
أحدها: الدخول مطلقا، وهو المحكي عن العلامة (قدس سره) في التهذيب () وابن الحاجب في المختصر والعضدي في شرحه (1).
(1) مختصر الأصول لابن الحاجب وشرحه للعضدي وسماه ب‍ (حواشي بر شرح مختصر) الجزء الأول: 171، 172، وإليك نصهما: اما نص المختصر لابن الحاجب فهذا لفظه: المشتق ما وافق أصلا بحروفه الأصول ومعناه وقد يزاد بتغيير ما وقد يطرد كاسم الفاعل... إلى آخره. واما نص العضدي في شرحه فهذا لفظه: أقول: اشترط في المشتق أمور (إلى أن قال:) ثالثها الموافقة في المعنى، بأن يكون فيه معنى الأصل، إما مع زيادة كالضرب والضارب، فإن الضارب ذات ثبت له الضرب.
294

ثانيهما: الخروج مطلقا، وهو المحكي عن جماعة من المحققين، وعن المحقق السيد الشريف (1) والعلامة الدواني، واختاره بعض المحققين من المتأخرين - أيضا - في تعليقاته على المعالم ().
ثالثها: التفصيل بين أسماء الآلات وغيرها فقيل بالأول في الأولى، وبالثاني في الثانية، وخير الثلاثة أوسطها، وفاقا لشيخنا الأستاذ وسيدنا الأستاذ دام ظلهما أيضا.
لنا على ذلك وجوه أولها: التبادر، فإن المتبادر من نفس الألفاظ المشتقة هي العنوانات العرضية الجارية على الذوات على أنحاء الجريان، بحسب اختلاف المشتقات، لا ذات ما مع تلك العنوانات، فإنا لا نفهم من الضارب، والقاتل والراكب والكاتب مثلا - إلا ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (زننده وكشنده وسواره ونويسنده) كما مر، ولا ريب أن هذه المعاني مفاهيم عرضية تجري على الذوات على سبيل الحمل والتوصيف، لكونها من وجوه الذوات الصادقة عليها ومن مزاياها الحاكية عنها، فإن لكل شيء عنوانات ووجوها صادقة عليه، يعبر عنه بكل واحد من تلك الوجوه، لاتحاده معه في الوجود، كما يعبر عن زيد، تارة بكاتب وأخرى بقارئ وثالثة بضاحك، ورابعة بعالم، وخامسة بأنه ابن فلان، أو أبوه أو صاحبه، أو عدوه، وسادسة بإنسان أو حيوان أو ضاحك، إلى غير ذلك من الوجوه الصادقة عليه من الوجوه العرضية، كما هو مفاد المشتقات، ومفاد بعض الجوامد، كالابن والأب والزوج والزوجة وأمثالها، أو الذاتية كما هو مفاد الغالب منها، كما في الحيوان والإنسان
والحجر والشجر والماء والتراب، وغير ذلك مما لا يكون الموضوع له فيها هو نفس الذات بما هي، بحيث لا تختلف باختلاف بعض الوجوه الصادقة عليها المتحققة لها في حال، وتبدلها إلى وجه آخر، بل باعتبار وجه خاص من تلك الوجوه، بمعنى أن الموضوع له في هذا القسم أيضا هو نفس الوجه الخاص الصادق
(1) شرح المطالع: 11 انظر عبارة السيد في الهامش فإنه قال عند قول الشارح (والمشتق وان كان في اللفظ مفردا إلا أن معناه شيء له المشتق منه) بما هذا لفظه: يرد عليه ان مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا... إلى آخره.
295

على الذات، لا هي معه أو بشرطه، فيكون الحال فيها من هذه الجهة هو ما اخترنا في المشتقات من خروج نفس الذوات عن حقيقة اللفظ، وإنما الموضوع له اللفظ هو الوجه لا غير.
إلا أن الوجه المعتبر في المشتقات من الأمور الغرضية، نظير بعض الجوامد - كما مر - وفي هذه من الأمور الذاتية - فإنها هي الصور النوعية التي يختلف الشيء باختلافها، فيتبعه الاختلاف في صدق الاسم، ولذا لا يصدق الكلب على المستحيل منه ملحا، أو ترابا، وكذا في أمثالها.
وبالجملة، فالحال في الجوامد، - بكلا قسميها - إذا لم يكن من الأعلام الشخصية هو ما حققنا في المشتق، من جهة كون الموضوع له هو الوجه.
وأما الأعلام، فالظاهر أن الغالب اعتبار عنوان خاص فيها أيضا، ووضع الاسم لذلك العنوان المتحد مع ذات الشخص.
نعم يمكن أن يضع أحد لفظ زيد - مثلا - لذات ابنه الذي سيولد من غير ملاحظة عنوان شطرا أو شرطا، أو وضع اللفظ لنفس هذا العنوان، فيدل اللفظ حينئذ على الذات أصالة، كما أنه دال عليها في المشتقات وأمثالها من الجوامد مما يكون الموضوع فيها هو نفس الوجه تبعا - من باب الالتزام - نظرا إلى عدم إمكان انفكاك تلك الوجوه عن ذات ما، واتحادها معها، كما عرفت.
وكيف كان، فلما كانت الذات معروضة لتلك الوجوه العرضية المستفادة من المشتقات، ككونها معروضة لغير تلك الوجوه في غير المشتقات، والارتباط التام حاصل بين العارض والمعروض، فيحصل الانتقال إلى ذات ما، من الانتقال إلى المفهوم العرضي - على سبيل الالتزام - كما في غيره من لوازم المعاني، وهذا هو المنشأ لتوهم الدخول.
وتعبير بعضهم عن معنى اسم الفاعل بمن قام به المبدأ، وعن معنى اسم المفعول بمن وقع عليه، إنما هو لتسهيل البيان وتفهيم المعنى، وتعريفه على الوجه الأوضح لضيق مجال البيان بالنسبة إلى نفس المعنى، لا أنه تفسير لمعنى اللفظ، ويكفي في مقام التعريف انطبقا المعرف - بالكسر - على المعرف، وصدقه عليه،
296

وإن كانا متغايرين في الحقيقة، فان الصدق يحصل بمجرد اتحاد كلا الأمرين في الوجود، وان كانا في الواقع موجودين بوجود واحد. فلذا يجوز تعريف الضاحك بأنه الإنسان، أو حيوان ناطق - مثلا - ويجوز العكس أيضا، فيقال: الإنسان هو الضاحك.
فنقول فيما نحن فيه إنه لما كان تحقق الوجوه المذكورة مستلزما لتحقق الذات معها، لكونها من عوارضها، والمفروض أنهما موجودان بوجود واحد، فكلما صدقت هي صدقت الذات، فيصح تعريف المصداق الخارجي بكل منهما، لكونه متحدا مع كل منهما فعلى هذا، لا يكشف تعريف شيء بأمر عن اعتبار جميع ما ينحل إليه هذا الأمر في المعرف، بل هو أعم.
هذا، مع أن انحلال معنى إلى أجزاء - بالدقائق الحكمية - لا يوجب اعتبار تركب المعنى المذكور من تلك الأجزاء عند الوضع، ليكون كل جزء جزء من الموضوع له من حيث إنه الموضوع له، بل ربما يضع الواضع لفظا لمعنى لا يدري أن حقيقته ما ذا، وإنما يلاحظ هذا المعنى بوجه من وجوهه، ككونه معنى اللفظ الفلاني في اللغة الفلانية، كأن يضع لفظ الذئب - مثلا - لما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (گرگ) مع ملاحظته بهذا الوجه، أي ما يعبر عنه ب‍ (گرگ) بل الغالب في الأوضاع البشرية ذلك، فإنهم كثيرا ما يضعون لفظا لمعنى لا يعرفون حقيقته، وإنما يعرفها الحكيم، والعرف أيضا لا يفهمون تلك المعاني، إلا على وجه لاحظه الواضع.
وكيف كان، فالمدار في بساطة معنى اللفظ وتركبه على ملاحظة الواضع، لا على انحلال المعنى - في نظر العقل - فلذا لم يقل أحد بكون دلالة الإنسان على الحيوان أو على الناطق تضمنا، مع أن معناه - في نظر العقل - ينحل إليهما.
وعلى فرض تسليم أن المدار - فيما ذكر - على التركب والبساطة - في نظر العقل () - مع أنه لم يقل به أحد، فلا يرد علينا في المقام شيء، لما قد عرفت من خروج الذات عن حقيقة معاني تلك الألفاظ، وانما هي معروضة لها لا تنفك عنها.
297

الثاني: أن الذات لو دخلت في مفهوم المشتقات، فالدال عليها إما المادة أو الهيئة أو هما معا والكل باطل.
أما الأول، فلأن المادة لو دلت عليها بالوضع، للزم أن تكون داخلة في مفهوم المصادر أيضا، لأن معاني المواد - في ضمن المشتقات - عين معاني المصادر بالاتفاق، كيف؟ وقد ذهب جماعة إلى أن المواد - في ضمنها - غير موضوعة بوضع على حدة، بل وضعها وضع المصادر، ولا يعقل معه المغايرة في المفهوم باعتبار اختلاف الهيئة، واللازم باطل بالاتفاق على عدم دخول الذات في مفهوم المصادر، وبأنها لو دلت عليها لدلت على النسبة أيضا، فلم يبق فرق بينها وبين المشتقات.
وأما الثاني: فللاتفاق على أن الهيئة في المشتقات لا تفيد أزيد من الربط بين الحدث والذات، مضافا إلى قضاء التتبع في سائر الهيئات الموضوعة بعدم وضع هيئة بإزاء معنى مستقل، وقد صرحوا بأن معاني الهيئات معان حرفية، فتأمل (1).
أما الثالث: فلأن مدلول المشتقات موزع على الهيئة والمادة فمدلول المادة هو الحدث، ومدلول الهيئة الربط والنسبة، والتفكيك بهذا النحو ثابت بضرورة اللغة، سواء قلنا: بأن وضع المواد في ضمن المشتقات وضع المصادر، أو أنها موضوعة بوضع آخر.
الثالث: ان مفهوم المشتق على هذا التقدير إما الذات المبهمة من حيث اتصافها بالمبدأ، بأن يكون التقيد بالاتصاف داخلا والقيد خارجا، أو مجموع ذات ما والمبدأ والنسبة، فيكون مركبا من الأمور الثلاثة، وكلاهما باطل.
أما الأول: فلاستلزام خروج المبدأ عن مفهوم المشتق، وهو باطل بالضرورة والاتفاق.
وأما الثاني: فلأن قضيته في مقام الحمل في نحو قولك: زيد ضارب، أن يلاحظ إطلاق كل من الأجزاء الثلاثة على أمر من الأمور الخارجية، فيطلق ذاتا ما في المثال على خصوص زيد والمبدأ الكلي على المبدأ الخاص اللاحق به، والنسبة
(1) سيجيء وجه التأمل. لمحرره قدس سره.
298

الكلية على الربط الحاصل بين المبدأ والذات، لأن قضية الحمل اتحاد المحمول مع الموضوع في الوجود الخارجي، ومن البين أن هذا المفهوم المركب غير متحد مع ذات زيد التي هي موضوع القضية، بل كل جزء منه متحد مع شيء في الخارج على حسب ما ذكر.
لا يقال: إن هذا لازم على القول بعدم الدخول مطلقا أيضا بالنسبة إلى المبدأ والربط، فإن المفهوم حينئذ أمر
بسيط منتزع من الأمر الخارجي بملاحظة اتصافه بالمبدأ، واتحاده مع الموضوع بالاعتبار، لعدم وجود متأصل لهذا المعنى العرضي - في الخارج - على حسب الذاتيات، حتى يعتبر اتحاده على سبيل الحقيقة.
ولا يندفع بذلك ما يلزم من المحذور على فرض تركيب المفهوم، لأنه لازم للإطلاق الدال على الاتحاد في الجملة، ومع فرض بساطة المفهوم لا يكون إلا باعتبار واحد، بخلاف صورة التركيب، فإن الإطلاق حينئذ بالاعتبارات الثلاثة (1).
الرابع: ما استفدناه من المحقق السيد الشريف - في حاشيته على شرح المطالع - على قول الشارح في شرح كلام المصنف في تعريف النظر، بأنه ترتيب أمور حاصلة في الذهن يتوصل بها إلى تحصيل غير الحاصل.
قال الشارح: وإنما قال: أمور، لأن الترتيب لا يتصور في أمر واحد، والمراد بها ما فوق الواحد، ثم قال: والإشكال الذي استصعبه قوم بأنه لا يتناول التعريف بالفصل وحده، ولا بالخاصة وحدها، مع أنه يصح التعريف بأحدهما على رأي المتأخرين، حتى غيروا التعريف إلى تحصيل أمر، أو ترتيب أمور، فليس من تلك الصعوبة في شيء.
أما أولا: فلأن التعريف بالمفردات إنما يكون بالمشتقات، كالناطق
(1) وحاصل الفرق بين القولين أن النسبة بين المحمول والموضوع في قولك (زيد ضارب) هي النسبة بين الكل والجزء على القول بدخول الذات في مفهوم المشتق، فلا يصح الحمل، لأن قضيته اتحاد المحمول مع الموضوع، والكل والجزء ليسا كذلك، بل جزء منه متحد مع الموضوع ومن نسبة الكلي إلى الجزئي على ما اخترنا، لبساطة المعنى حينئذ وصدقه على زيد الذي هو الموضوع، فيصح الحمل لاتحاد الموضوع والمحمول في الوجود حينئذ، لمحرره عفا الله عنه.
299

والضاحك والمشتق، وإن كان في اللفظ مفردا، إلا أن معناه شيء له المشتق منه، فيكون من حيث المعنى مركبا ().
فأورد السيد على هذا الجواب، بأن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا، وإلا لكان العرض العام داخلا في الفصل، ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشيء انقلب مادة الإمكان الخاص ضرورية، فإن الشيء الذي له الضحك هو الإنسان، وثبوت الشيء لنفسه ضروري، انتهى ().
وحاصل الوجه المستفاد - من كلام السيد - أنه لو اعتبر الشيء أو الذات في مفهوم المشتق، فهو إما مفهوم أحدهما أو مصداقه الخارجي، وكلاهما باطل.
أما الأول: فلأن من المشتقات الناطق، ولازمه أخذ مفهوم أحد الأمرين في مفهوم الناطق، ولا ريب أن مفهوم الشيء، أو الذات من الاعراض العامة، فيلزم دخول العرض العام في الفصل، وهو الناطق، للاتفاق على كونه فصلا للإنسان، واللازم باطل بالاتفاق، وبديهة العقل، إذ فصل كل شيء هو المقوم لذلك الشيء، ويستحيل كون الأمر العرضي مقوما لمحله.
وما يقال: من أن المراد بالناطق - الذي يعد ذاتيا - هو النطق، ليس بشيء، فإن الذاتي يحمل على ما تحته من غير تأويل، ولا يصح حمل النطق كذلك.
وربما قيل: بأن المصطلح عند أهل الميزان في نحو الناطق ما تجرد عن الذات، وهذا هو الذي حكموا بكونه ذاتيا لما تحته.
وفيه ما لا يخفى، ضرورة بقاء الناطق على المعنى الأصلي في ألسنتهم، وعدم ثبوت اصطلاح جديد منهم فيه بوجه، وإنما يقولون بكونه فصلا بمعناه اللغوي.
وأما الثاني: فلأنه مستلزم لانقلاب كل قضية ممكنة بالإمكان الخاص إلى الضرورة، كما في قولك: (زيد ضارب أو كاتب أو ضاحك)، فان الشيء أو الذات الذي له الضحك - على هذا - عين زيد ونفسه، وثبوت الشيء لنفسه ضروري، واللازم باطل بالاتفاق على أن ثبوت تلك المحمولات لتلك الموضوعات
300

ممكن بالإمكان الخاص، بمعنى أن شيئا من وجوده وعدمه ليس بضروري، فتأمل.
الخامس: أن الذات المبهمة لو كانت داخلة في مفهوم المشتقات للزم توصيف الأعم بالأخص في نحو قولك: ذات أسود، أو شيء أبيض، فيلزم أن لا يصح، لعدم صحة التوصيف على الوجه المذكور، كما في قولك: الحيوان الإنسان، واللازم باطل، لصحة التوصيف في نحو المثالين بالاتفاق، بل الضرورة.
لا يقال: إن توصيف الأعم بالأخص شائع في المحاورات، كما في قولك:
حيوان ناطق، فكيف يقال بعدم جوازه؟ لأنا نقول: الممنوع منه هو الأعم والأخص بحسب المفهوم، لا المصداق كما في قولك: الحيوان الإنسان، حيث أن مفهوم الحيوان جزء لمفهوم الإنسان، بخلاف حيوان ناطق، فإن مفهوم ناطق يباين مفهوم الحيوان، بمعنى أنه ليس أحدهما جزء للآخر، وإنما يتصادقان في أمر واحد، وهو الإنسان فلا نقض.
السادس: انه لو كانت الذات داخلة في مفهوم المشتق، لزم تكرار الذات في حمل المشتق، في قولك: زيد ضارب - مثلا - ولازمه حمل الذات على الذات، مع أن القائم بزيد ليس إلا الوصف، لاستحالة قيام الذات به، كما هو واضح، أو تجريد المشتق عن الذات، فيكون مجازا، وهو ضروري البطلان، وهذا بخلاف ما لو قلنا: بخروج الذات وعدم اعتبارها شطرا، حتى يكون دلالة اللفظ عليها بالتضمن، أو شرطا فيدل عليها بالالتزام البين، وهذا واضح.
هذه جملة وجوه القول المختار، متلقى بعضها من الأعلام الأخيار، لكن المعتمد على الأول، وكفى به حجة ودليلا، وينبغي الاعتماد على الثالث أيضا، وبعده على الخامس، ثم السادس (1).
وأما الثاني والرابع، وان كانا لا بأس بهما في مقام المخاصمة والإلزام على الخصم، إلا أن الإنصاف يأباهما.
أما الأول منهما، فلأن المتبادر من هيئات المشتقات ليس إلا المفاهيم
(1) الترتيب بين تلك الوجوه بالنظر إلى كون بعضها أجلى من بعض. لمحرره عفا الله عنه.
301

المنتزعة من قيام المبدأ بالذات على أنحاء القيام باختلاف الهيئات والمبادئ لا ربط المبادئ إلى الذوات، ليكون معانيها حرفية، فإن المتبادر من هيئة اسم الفاعل مطلقا من المجرد والمزيد فيه، وكذا هيئات الصفات المشبهة - هو كلي المفهوم المنتزع من قيام المبدأ نفسه بالذات، على نحو الصدور في الأولى، وعلى نحو الثبوت في الثانية، وهو المتلبس على أحد الوجهين بالمبدأ المطلق الشامل لجميع المبادئ، ويكون كل واحد من المبادئ قرينة معينة للفرد الذي أطلقت عليه تلك الهيئات، من باب إطلاق الكلي على الفرد، وتعيين الفرد بدال آخر، وهو المبدأ الخاص، فيكون استفادة الفرد من خصوص الأمثلة من دالين، فالهيئة في الضارب مطلقة على المفهوم الكلي وتحيث الخصوصية وهو (زننده) من مادة الضرب، وهكذا في سائر الأمثلة.
والمتبادر من هيئة اسم المفعول من المجرد والمزيد فيه أيضا، إنما هو المفهوم الكلي المنتزع من قيام المبدأ بالذات على نحو الوقوع، وهو المتلبس بالمبدأ المطلق على هذا النحو، وتفهم خصوصية الأفراد من خصوص المواد، كما ذكر.
والمتبادر من صيغة المبالغة هو كلي المفهوم المنتزع من قيام بالمبدأ الذات على نحو الكثرة، وهكذا إلى آخر الهيئات.
وبعبارة أوضح: إن الذوات الخارجية قد تتلبس بمبدأ الضرب على نحو الصدور، وقد تتصف بمبدأ القتل كذلك، وقد تتصف بمبدأ الأكل كذلك، وهكذا إلى آخر المبادئ، وأنت إذا لاحظت تلبسها بواحد من تلك المبادئ الخاصة على الوجه المذكور، تنتزع من قيام هذا المبدأ الخاص بها - على النحو المذكور - عنوانا بسيطا عاما
صادقا على ذات أخرى غير هذه إذا تلبست بهذا المبدأ - على هذا النحو - وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (زننده) إذا تلبست الذات بالضرب على النحو المذكور وب (كشنده) إذا تلبست بالقتل على النحو المذكور، وهكذا، فتنتزع بملاحظة تلك التلبسات عناوين خاصة.
ثم إذا لاحظت تلك العناوين ترى بينها قدرا جامعا جدا، ولو طالبتنا بالتعبير عنه، فالعذر ضيق مجال التعبير، والحوالة على الوجدان.
302

فنقول: إن هيئات أسماء الفاعلين والصفات المشبهة موضوعة لهذا القدر الجامع بين العنوانات المذكورة المنتزعة من قيام المبادئ الخاصة بالذوات، وقس عليها الحال في مفهوم الصفات المشبهة، فإنه أيضا أمر منتزع من قيام المبدأ بالذات على نحو الثبوت فيجري فيها الكلام إلى آخره.
ثم إن الذوات قد تتلبس بمبدأ الضرب على نحو الوقوع، وقد تتلبس بمبدأ القتل على نحو الوقوع، وقد تتلبس بمبدأ الجرح على هذا النحو، وهكذا إلى آخر المبادئ المجردة.
وأنت بعد ما لاحظت قيام الضرب بها - على النحو المذكور - تنتزع منه عنوانا بسيطا صادقا على غير تلك الذات إذا تلبست به - على هذا النحو - وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (زده شده) أو قيام القتل بها - على النحو المذكور - فتنتزع منه عنوانا كذلك، يعبر عنه بالفارسية ب‍ (كشته شده) أو قيام الجرح فتنتزع عنوانا يعبر عنه بالفارسية ب‍ (زخم خورده) وهكذا إلى آخر المبادئ المجردة، وأنت ترى عنوانا جامعا بين تلك العناوين بالوجدان.
فنقول: إن هيئة مفعول موضوعة لهذا العنوان الجامع، وقس عليه الحال في هيئة اسم المفعول من المزيد فيه.
وأنت بعد هذا البيان تعرف الحال بمقايسة ما ذكرنا في صيغ المبالغة، وأسماء المكان والآلة والتفضيل، فلا نطيل الكلام.
فخلاصة الكلام: أن كل واحد من هيئات المشتقات موضوعة للقدر الجامع بين تلك العنوانات المنتزعة، الخاصة بالنسبة إلى هذا القدر الجامع، والعامة بالنسبة إلى ما تحتها قطعا، لقضاء التبادر، ومعه لا يصغى إلى دعوى عدم وضع الهيئات مطلقا لمعنى مستقل، وتصريح جماعة بذلك إما محمول على هيئات الأفعال فقط، أو على خلاف التحقيق.
هذا، وأما الوجه الثاني من الوجهين الذي هو رابع الوجوه المتقدمة، فوجه الضعف فيه: أن الضروري إنما هو ثبوت نفس الذات لنفسها، وأما ثبوتها مقيدة بوصف، فهو ممكن بالإمكان الخاص.
303

هذا، مع أنه على تسليمه يرد على من اعتبر خصوصية ذات من الذوات الخارجية، والمدعي للاعتبار لا يدعيها، بل الذي يدعيه إنما هو اعتبار ذات مبهمة مترددة بين الذوات الخارجية، نظير النكرة، لا مفهوم الذات، ليرد الشق الأول من الدليل، ولا خصوصية من خصوصية الذوات، ليرد الشق الأخير، إذ لا ريب أن الذات المبهمة على هذا القول في (ضارب) في قولك: زيد ضارب، ليست ضرورية الثبوت لزيد - بمعنى أن يكون اتحادها معه ضروريا - بل يمكن الاتحاد وعدمه بالإمكان الخاص، فكيف بوصف هذه الذات المبهمة، فافهم.
وكيف كان، فالتبادر يغنينا عن تكلف بعض الوجوه.
مضافا إلى كفاية غيره من الوجوه المتقدمة، غير ذينك الوجهين، فحينئذ لا ينبغي الارتياب في خروج الذات عن مفهوم المشتقات.
لا يقال: فعلى هذا ما الفرق بين المصادر والمشتقات؟ إذ المتصور في المقام إنما هو الحدث والذات، فإذا خرجت الثانية عن مفهومها، فلا يبقى فرق بينها وبين المصادر، فما الفارق حينئذ في صحة إطلاقها على الذوات الخارجية، وحملها عليها دون المصادر؟ فان كان مناط صحة الإطلاق والحمل فيها هو عدم انفكاكها عن الذات، فهو موجود في المصادر أيضا، وإن كان غيره فبينه.
لأنا نقول: الفارق أن مفاهيمها - كما عرفت - هي الأوصاف الجارية على الذوات القائمة بها قيام الحال بالمحل، بخلاف المصادر فإنها موضوعة لنفس الحدث المتغاير في الوجود مع الذات، وان كان له قيام بالذات، إلا أنه لم يلاحظ في وضعها.
مضافا إلى أن هذا القيام يغاير قيام الحال بالمحل، الذي هو المعتبر في المشتق، فإنه من قيام الأثر بذي الأثر (1).
ومن هنا لا يصح حمل المصادر على الذات، إلا بطريق المبالغة، فيكون حمل هو هو، ويصح حمل المشتقات عليها بالحمل المتعارفي دائما.
(1) قيام الحال بالمحل إنما هو بصحة حمل الحال عليه بالحمل المتعارفي المصداقي، ولا ريب أنه لا يصح حمل الأثر على ذيه، فيقال لزيد الضارب أنه ضرب لمحرره عفا الله عنه.
304

والحاصل أن مفهوم المشتقات عبارة عن الوصف على مصطلح النحويين، ومفهوم المصادر هو الوصف المقابل للذات، والأول لما كان من وجوه الذات وعناوينه فالمصحح لحمل المشتقات على الذوات هذا، بخلاف المصادر، حيث إن معناها الحدث المغاير للذات في الوجود والخارج عنها، غير المنطبق عليها بوجه، ولذا لا يصح حمله عليها، ضرورة أن قضية الحمل الاتحاد في الوجود، وقيام المحمول بالموضوع بنحو من القيام، وإن اعتبر التغاير بينهما - حقيقة أو اعتبارا - بحسب المفهوم، حتى يصح الحمل.
وكيف كان، فالمراد بصحة الحمل في المقام إنما هو صحته بالحمل المتعارفي، المعبر عنه بحمل ذو هو، المقابل لحمل هو هو، لا ما سبق إلى بعض الأوهام من أن حمل ذو هو، هو أن يقدر ذو في طرف المحمول، بأن يكون مأخوذا في مفهومه، حتى يكون معنى (ضارب) ذو ضرب، وإلا لعاد المحذور، من أخذ الذات في مفهوم المشتق المانع من الحمل.
فبهذا كله اتضح الفرق والفارق، ومناط صحة الحمل في المشتقات دون المصادر (1).
وهذا الذي ذكرنا يجري في الأفعال أيضا، فإن الذات خارجة عنها، ولذا يصح حملها على الذوات، بل يجري في غير الأسماء الموضوعة للذوات الخارجية، - وهي الأعلام الشخصية - أيضا، كما مرت الإشارة إليه آنفا، كالحيوان والإنسان، والرجل والمرأة ونحوها، فإن الموضوع في جميعها نفس عنوانات الذوات الخارجية ووجوهها، لا هي من حيث هي، ولا باعتبار العنوان شرطا أو شطرا، ومن هنا يكون حملها على الذوات من الحمل المتعارف.
وتوضيح ذلك: أن الأمر في وضع غير المصادر من الأسماء لا يخلو عن
(1) وقد يدفع الإشكال المذكور بأن المأخوذ في مفهوم المصادر المجردة هي الأحداث بشرط (لا)، وفي مفهوم المصادر التي في ضمن المشتقات هي الأحداث لا بشرط، فلذا يصح حملها على الذوات.
وفيه ما لا يخفى على المتأمل، وسيجئ توضيح ضعفه في المبحث الآتي في المشتق فانتظر لمحرره عفا الله عنه.
305

أمرين:
أحدهما: أن يلاحظ الواضع نفس الذات ويضع اللفظ لها، من حيث هي هي مجردة عن جميع العنوانات، وهذا لا يكون إلا في الأعلام الشخصية، كزيد وعمرو - مثلا - وأما الزيدية والعمرية، فليستا مما تقبلان اعتبارهما في الوضع، فإنهما وصفان منتزعان بعد التسمية والوضع.
ثانيهما: أن يلاحظ وجها من وجوه الذات، وعنوانا من عناوينها المتكثرة الصادقة عليها، ويضع اللفظ له لرفع الحاجة عند إرادة تعريف الذات والإشارة إليها بوجهها، كما في غير الأعلام من أسماء المشتقات وغيرها، وإن
كان بينهما فرق من جهة أخرى، وهي أن المبدأ في المشتقات أمر متأصل متقدم على المشتق، ويعتبر المشتق بعد ملاحظة انتسابه إلى الذات، ولذا سميت المشتقات بها، وفي الجوامد أمر منتزع من نفس العنوان، الذي وضع له اللفظ كالإنسانية في الإنسان، والحيوانية في الحيوان، وهكذا، فالأمر فيها بعكس المشتقات، فلا يكون لها مبدأ حقيقة، ولذا سميت جوامد، وحكم بكون الاشتقاق في مثل الرجولية والإنسانية ونحوه جعليا.
هذا بالنسبة إلى غير أوصاف الله تعالى.
وأما حملها، فيكون من حمل هو هو، وإن كان المحمول بصورة المشتق، فيقال: الله تعالى قادر أو عالم، ونحو ذلك من أوصاف الذات، وإنما لم يعبروا بقول: (الله تعالى علم أو قدرة) حفظا على القاعدة النحوية بحسب الصورة، من حيث إن بناءهم على عدم صحة حمل زنة المصدر على الذات.
ثم إنه مما حققنا ظهر مزيد توضيح لاندفاع ما يقال: من أن المشتق مشتمل على نسبة ناقصة تقيدية، كما ظهر ضعف ما قيل: من أن المشتق، وإن كان بسيطا إلا أنه في ظرف التحليل مركب من الذات والصفة، ضرورة عدم قضاء تحليل المعنى بخروجه عما عليه، مع ما عرفت من خروجها حقيقة في ظرف التحليل، وأنها معروضة لتلك العنوانات متحدة معها، لا مأخوذة في مفهوم
306

المشتقات أو في حقائقها، فافهم واغتنم.
احتج القائلون بالدخول أيضا بوجوه:
الأول: التبادر،
فان المتبادر من لفظ المشتق عند الإطلاق هو ذات ثبت لها المبدأ وجوابه: أن ذاتا ما تفهم من نفس مفهوم المشتق من جهة كونها معروضة له، لا من حاق اللفظ، فالدلالة التزامية لا تضمنية.
الثاني: إجماع النحاة
حيث فسروا اسم الفاعل بمن قام به المبدأ واسم المفعول بمن وقع عليه.
وجوابه: علم سابقا، وتوضيحه: أن التعبير بذلك لتسهيل البيان، وإلا فظاهر قولهم المذكور كون المدلول في الاسمين هو ذات ما، من حيث قيام المبدأ بها، أو وقوعه عليه على وجه يكون التقيد داخلا والقيد خارجا، ولا يقول به أحد من الفريقين.
هذا مع أن إجماعهم لا يعبأ به بعد قيام الأدلة القاطعة على خلافه.
الثالث:
أنه لو لم يكن الذات داخلة في مفهوم المشتق، للزم كونه مجازا في نحو قولك: جاءني العالم، أو الأبيض، أو الأسود، ونحو ذلك مما يراد به الذات قطعا، التالي باطل اتفاقا، فكذا المقدم.
وفيه: أن المشتق - في الأمثلة المذكورة وأمثالها - إنما يراد به المفهوم المجرد عن الذات، ويطلق على الذات الخارجية من باب إطلاق الكلي على الفرد، كما عرفت.
الرابع:
أنه لو كان مفهوم المشتق هو المفهوم العرضي المجرد عن الذات، لما صح تعلق الأحكام به لعدم مقدوريته.
وفيه: أنه إذا أريد بالمشتق الحكم عليه بشيء يطلق على الذوات الخارجية، - من باب إطلاق الكلي على الفرد - يكون المتعلق للحكم هي تلك الذوات، لا المفهوم، كما في الجوامد الموضوعة للمعاني الكلية.
مع أن عدم صحة الحكم بنفس تلك المفاهيم مسلم إذا كان بشرط عدم
307

الذوات الخارجية. وأما لا بشرط، فلا شبهة في مقدوريته باعتبار ذات من الذوات، التي هي من أفرادها، وإلا يجري ذلك في غير المشتقات من الأسماء الموضوعة للمفاهيم الكلية.
الخامس:
أنه لو لم يؤخذ ذات ما في مفهومها، لزم أن لا يصح استعمالها بدون ذكر المتعلقات من الذوات، إذ مفهوم المشتق - حينئذ - هو مجرد المبدأ والربط، ومن البين أن الربط بين الشيئين أمر إضافي، لا يمكن تعقله بدون تعقل المنتسبين، فكان بمثابة المعاني الحرفية، والتالي باطل قطعا، إذ كثيرا ما يستعمل المشتق في المحاورات بدون ذكر الذات، كما في قولك: جاءني العالم، ورأيت الأبيض، ومررت بالأسود ونحو ذلك.
وجوابه: قد مر في طي أدلة المختار، من أن مفهوم المشتق أمر بسيط عرضي ينتزع من قيام المبدأ بالذات - في الخارج - يعبر عنه بالفارسية في لفظ ضارب، مثلا ب‍ (زننده) وهذا المعنى أمر مستقل بالمفهومية، كسائر معاني الأسماء، ولا يتوقف تعقله على تعقل الغير، حتى يكون من المعاني الحرفية، بل إنما يتوقف تحققه في الخارج على وجود غيره، كما في مطلق الأعراض، فعدم الاستقلال باعتبار الوجود الخارجي، لا باعتبار المفهومية، وليس ما شأنه ذلك من المعاني الحرفية، وإلا لدخل كل اسم لا يتحصل معناه في الخارج إلا بتحصل الغير، كالإضافيات والأسماء الموضوعة للأعراض في الحروف، وهو باطل.
نعم يلزم ذلك لو كان مفهوم المشتق مجرد النسبة والربط، كما لو كان هو المبدأ من حيث قيامه بالذات، يلزم تضمنه للمعاني الحرفية كالمبهمات، ولا نقول نحن بشيء منهما، لظهور المغايرة بين هذين وبين ما اخترنا، فإن مرجع المفهوم - على ما ذكرنا - إلى المبدأ بملاحظة قيام المبدأ بالذات، لا من حيث كونه كذلك، وبينهما فرق بين، لاعتبار الحيثية في الوضع على الوجه الثاني، دون الأول، نظير الحضور الذهني بالنسبة إلى الجنس المنكر والمعرف، فافهم.
حجة التفصيل على الدلالة بالنسبة إلى أسماء الآلات تبادر الذات المبهمة منها، وعلى عدمها في غيرها بعض ما مر من أدلة المختار.
308

وفيه: ما مر من أن تبادر الذات، إنما هو لشدة الارتباط بين العارض والمعروض، لا من نفس اللفظ.
مضافا إلى كثرة الإطلاق على الذات، وندرة إرادة المفهوم العرضي اللا بشرط فيها - أي أسماء الآلات - فإنه أيضا قد يوجب التبادر، ويحتمل القول بحصول النقل عرفا من جهة شيوع الإطلاق في خصوص أسماء الآلات.
تذنيبان:
الأول:
قد فرع على المسألة، أعني اشتراط بقاء المبدأ فيما أطلق عليه المشتق حقيقة وعدمه، كراهة الوضوء بالماء المسخن بالشمس بعد زوال السخونة عنه، على القول بعدم اشتراط البقاء، وزوالها () على القول بالاشتراط.
وكذا كراهة التخلي تحت الأشجار المثمرة بعد ارتفاع الثمرة، وكراهة سؤر آكل الجيف بعد ترك الأكل، وكذا الحال في الوقوف والوصايا والنذور المتعلقة بالعناوين المشتقة - على ما ذكره بعض المتأخرين () من مقاربي عصرنا - كالطلبة والمشتغل والعالم والمدرس وغير ذلك من المشتقات.
لكن التأمل التام يقضي بظهور الثمرة على بعض الوجوه لا مطلقا.
وتحقيقه: أن الوصف العنواني الذي هو مدلول المشتقات، ويجري على الذوات، ويعبر عنها بها، ويعلق الحكم عليه، إما أن يعلم بعدم مدخليته للحكم، بل يكون عنوانا وقع لمجرد تعريف الذات التي هي الموضوع حقيقة، كما في قول القائل: اقتل الجالس في الدار، إذا كان الجالس فيها من أعدائه، وإما أن يعلم بمدخليته في الجملة.
وعلى الثاني: إما أن يكون العنوان علة لثبوت الحكم حدوثا أو بقاء أيضا، فيكون واسطة في الثبوت، كما في السارق والزاني في الآيتين ونحوهما، أو لم يكن علة، بل إنما هو أخذ قيدا لموضوع الحكم، فيكون واسطة للعروض، كما في قولنا: العادل مقبول الشهادة، والمجتهد ينفذ حكمه.
309

وإما أن يشتبه الحال، بحيث لا يعلم بمدخليته في الحكم على أحد الوجهين وعدمها، فيقع فيه الإشكال.
أما الصورة الأولى، فالحكم فيها باق بعد زوال العنوان على جميع الأقوال، إذ متعلقه هي الذات، وهي لا تختلف ببقاء العنوان وزواله، فلا تظهر فيها فائدة الخلاف.
وأما الثانية، وهي أن يعلم بكونه علة لثبوت الحكم، وأن الموضوع نفس الذات، فان علم فيها بكونه علة للثبوت () فقط دون البقاء، فالحكم ما ذكر في الصورة الأولى.
وإن علم أنه علة للحدوث والبقاء كليهما، كالتغير الموجب لنجاسة الماء الراكد الكر، حيث إن بقاء النجاسة يدور مدار بقائه على الأظهر، فلا إشكال في زوال الحكم بعد زواله على جميع الأقوال أيضا.
وإن اشتبه الحال في كونه علة للبقاء أيضا، فالحكم ببقاء الحكم حينئذ يدور مدار ما اختاره الفقيه في مسألة الاستصحاب، فان ثبت اعتباره في مثل المقام يحكم بالبقاء، وإلا فلا، سواء كان من القائلين باشتراط بقاء المبدأ أو من غيرهم، فلا ثمرة هنا أيضا بين القولين.
وأما الثالثة: وهي أن يعلم بكونه قيدا للموضوع فقط، فهذه هي مورد ظهور الثمرة، فعلى القول بوضع المشتق لخصوص حال النطق يلزم اختصاص الحكم بمن كان متلبسا بالمبدأ في هذا الحال، وعلى القول المختار من وضعه لحال التلبس يعم الخطاب لمن يتلبس به في الماضي أو الحال أو الاستقبال مع اختصاص الحكم بحال التلبس، لا مطلقا.
ويتفرع على هذين القولين زوال الحكم بزوال المبدأ، لانتفاء موضوعه حينئذ، وعلى القول بوضعه للقدر المشترك بين الماضي والحال يلزم بقاء الحكم بصدق العنوان حقيقة بعد زوال المبدأ، فالموضوع باق.
وأما الرابعة: وهي أن لا يعلم بمدخلية العنوان في الحكم، ولا في
310

الموضوع، فيظهر الفائدة فيها أيضا، إذ اللازم على القول باشتراط بقاء المبدأ حينئذ زوال الحكم بعد زوال العنوان للشك في بقاء الموضوع، ولا يمكن استصحابه، لاشتراط بقاء الموضوع فيه على الأقوى: وهو غير معلوم، لتردده بين الذات المطلقة والمقيدة، فافهم.
اللهم إلا أن يكون لا يعتبر ذلك، لكن الكلام في الثمرة بين القولين مع قطع النظر عن الأدلة الخارجية، ولا ريب في ظهوره - كما عرفت - مع قطع النظر عن الاستصحاب، وعلى القول بعدم اشتراط البقاء، كان الحكم باقيا لبقاء الموضوع على التقديرين على حسب ما مر.
فبهذا كله عرفت أن تفريع الحكم بتلك العناوين على المسألة بقول مطلق ليس بجيد.
ثم إنه لا يخفى عليك تطرق الإشكال - فيما فرعوا على المسألة - من بقاء كراهة الوضوء بالماء المسخن بالشمس بعد زوال سخونته، وبقاء كراهة البول تحت الشجرة المثمرة المرتفعة عنها الثمرة.
أما الأول، فلأن المبدأ في المشتق المذكور ليس قابلا للبقاء قطعا، بل هو نظير القتل قبل وجوده لا وجود له، وبمجرد وجوده ينعدم.
نعم الأثر الحاصل من التسخين والتسخن قابل للبقاء، لكنه ليس من محل النزاع في شيء. نعم لو دل دليل على كراهة الوضوء بالماء السخين جرى النزاع فيه ويظهر الثمرة فيه.
وبالجملة التسخين والتسخن والسخونة نظير التمليك والتملك والملكية، فهل ترى أحدا يقول: بقابلية بقاء الأولين، والمفروض أن المسخن من التسخين، الذي هو فعل الشمس في محل الكلام، المنعدم بمجرد وجوده، فلو دل دليل على كراهة الوضوء بالماء المسخن علم أن المراد ما انقضى عنه المبدأ بحكم العقل، فلا يمكن جعله من ثمرات النزاع في المسألة.
مع أنه لم يرد في شيء من الاخبار كراهة الوضوء بالماء المسخن، وأما اختلاف العلماء، فهو مبني على اختلافهم في فهم الأخبار، ولا يستلزم ذلك كونه من هذه
311

الجهة.
وأما الثاني: فلأن الظاهر من تعلق الكراهة بالبول تحت الشجرة المثمرة هي التي تكون مثمرة حال البول.
توضيح ذلك: أن الشجرة المثمرة قد تطلق على ما يكون مثمرة بحسب جنسها، أي ما يكون لها شأنية الإثمار في مقابل ما لا يقبل جنسها لذلك، كالناجو () مثلا، وقد تطلق على ما تكون مثمرة بحسب نوعها، في مقابل ما لا يقبل نوعه لذلك، كالنخل الفحل مثلا، وقد تطلق على ما تكون مثمرة بحسب صنفها على حسب اختلاف الأصناف في القرب والبعد، وقد تطلق على ما تكون مثمرة فعلا.
والأخبار الواردة في كراهة البول تحت الشجرة المثمرة على ضربين:
أحدهما: ما يمنع من البول تحت الشجرة المثمرة.
وثانيهما ما دل على كراهة البول تحت الشجرة التي عليها ثمرة. وحمل المطلق على المقيد وإن لم يكن ثابتا في المكروهات والمندوبات والمباحات، إلا أن الظاهر بعد التأمل في الأخبار كون النهي عن البول تحت الشجرة المثمرة من جهة تنفر الطباع عن أخذ الثمرة.
فعلى القولين في المشتق لا كراهة إذا لم يكن عليها ثمرة، فلا معنى لجعل الفرع المذكور من ثمرات الخلاف في المسألة، والله العالم.
الثاني:
حكى بعض الأعلام () عن بعض جريان الخلاف المتقدم في المشتقات في الجوامد أيضا، ولعل نظره في ذلك إلى الذوات التي تتصف ببعض الأوصاف في بعض الأحوال، ويختلف التسمية باعتباره، مثل كون هند زوجة زيد، باعتبار حصول علقة النكاح بينهما، وكون المائع خمرا باعتبار إسكاره، ونحو ذلك. وأما غير ذلك من الذوات، فلا يتصور فيها زوال الوصف مع بقاء الذات بوجه.
312

اللهم إلا أن يريد بذلك تغير صورها النوعية، كما إذا وقع الكلب في المملحة فصار ملحا، أو صارت العذرة ترابا أو دودا، ونحو ذلك.
ولكنه حينئذ في غاية السقوط، ضرورة عدم صدق الكلب والعذرة مع انتفاء الصورة النوعية، إذ التسمية تدور مدارها وجودا وعدما.
نعم ربما يتوهم ذلك في نحو الزوجة والخمر، مما يكون التسمية فيه دائرا مدار ثبوت حالة، أو وصف، لكنه ليس بشيء أيضا، إذ الظاهر عدم الخلاف في كون الجوامد حقيقة في حال التلبس، لا حال النطق، وإلا لزم كون الإطلاق في نحو قولك: (هذا كان خمرا في الأمس، ويكون خلا في الحال) و (هند كانت زوجة زيد أمس، والآن مطلقة) مجازا، وهو باطل بضرورة اللغة والعرف.
وأما احتمال كونها حقيقة باعتبار التلبس في الماضي بالنسبة إلى حال النسبة فبعيد جدا غاية البعد، مضافا إلى قضاء التبادر عرفا بخلافه، ولذا خصوا النزاع في كلماتهم بالمشتقات.
وما قد يرى من نحو قولهم: (هند زوجة زيد)، بعد طلاقها بائنا، بل بعد تزويجها بغير زيد، ونحو ذلك مبني على ما ذكرنا في طي التنبيه الأول والثاني، من أن المراد تعريف هذه الذات الموجودة الآن باعتبار اتحادها لما كانت معروضة للوصف العنواني قبل ذلك، فلفظ (زوجة زيد) قد أطلق على تلك الذات التي كانت لها هذه الصفة في ذلك الزمان، فجعلت تلك باعتبار اتحادها لهذه الذات معرفة لها، كما في قولك: (هذا ضارب عمرو)، في المشتق، وفي الجوامد نحو قولك: (هذه حديقة عمرو، أو دار زيد، أو كتابه)، بعد خروجها عن ملكها إلى ملك الغير، فليس لهذا الإطلاق دلالة على كون الجوامد حقيقية باعتبار التلبس في الماضي بالنسبة إلى حال النسبة.
والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
313

بسم الله الرحمن الرحيم
«في الصحيح والأعم» ()
أصل: اختلفوا في أن الألفاظ التي تصرف الشارع فيها ظاهرة في الصحيح أو الأعم على أقوال
، وتتم البصيرة بتقديم مقدمات:
الأولى: في تفسير الألفاظ المأخوذة في العنوان.
فنقول: أما المراد من تصرف الشارع في اللفظ فأعم من اختراعه وضعا جديدا لأحد المعاني العرفية، كألفاظ العبادات بناء على مشروعية معانيها في الأمم السابقة، ومن اختراعه معنى جديدا لأحد الألفاظ العرفية، كألفاظ العبادات بناء على حدوث مشروعية معانيها في شرعنا.
ومعنى الاختراع - وإن كان هو الخلق والإيجاد الخاص - يصدق على الأحكام التكليفية ولا يطلق على وضع اللفظ وتغيير المعنى، ضرورة عدم تعلق شيء باللفظ والمعنى بواسطة الوضع والتغيير وراء التصور والملاحظة، إلا أنا اقتفينا بآثار القوم في إطلاق الاختراع عليها مجازا.
وكيف كان فوجه تقييد الألفاظ بتصرف الشارع هو إخراج ألفاظ المعاملات وبعض ألفاظ العبادات التي مثل الزيارة والدعاء وتلاوة القرآن، ونحوها مما استعمله الشارع في معانيها اللغوية، واعتبر في صحته شرعا شروطا خارجية، كما هو مذهب القاضي () في مطلق ألفاظ العبادات.
ووجه خروجها عن محل النزاع أنه لا مسرح لتوهم ظهورها في الصحة الشرعية بعد فرض خروج الصحة الشرعية عن مدلولها، واما ظهورها في الصحة اللغوية وعدمه فالمتكفل له مسألة كون الوضع للمعاني الواقعية أم لا.
ومما يشهد على خروج ألفاظ المعاملات عن النزاع، أنه لم يقل أحد
314

بإجمال ألفاظ المعاملات ممن قال بإجمال ألفاظ العبادات بناء على الصحيحي، وسيأتي تمام الكلام على ما يوهم دخولها في آخر المسألة.
وأما المراد من الظهور، وفاقا لما يظهر من الهداية () والضوابط () والإشارات () والموائد ()، فأعم من الوضع، كما هو المناسب لقول المثبتين للحقيقة الشرعية، ومن الانصراف إلى أقرب المجازات، كما هو المناسب لقول نفاته، فالعدول عن تعبيرهم بالتسمية إلى التعبير بالظهور مراعاة للمذهبين، وتصحيحا لهذا النزاع على كلا المذهبين.
وأما عدول بعض آخر عن التسمية إلى التعبير بالاستعمال، فمنظور فيه، إذ لا مجال لإنكار أصل استعمال الشارع هذه الألفاظ كلا أو بعضا في غير الصحيحة، وإنما النزاع في تعيين أن الموضوع له أي من الصحيح والأعم عند المثبتين للحقيقة الشرعية، وفي تعيين أن أقرب المجازات وأشيعها أي من الصحيح والأعم عند نفاتها، حتى يحمل إطلاق كلمات الشارع على المتعين منهما، مع أن التعبير بالتسمية واستدلال كل من الفريقين بالتبادر، وعدم صحة السلب لا يقتضى ابتناء هذا النزاع على ثبوت الحقيقة الشرعية، كما زعمه الفصول () وغيره، بل أقصى ما يقتضي هو ابتناؤه على ثبوت الحقيقة المتشرعية.
ثم ليعلم أن المراد من أقرب المجازات المتصور فيه النزاع إنما هو الأقربية الحاصلة من غلبة الاستعمال، دون الأقربية الاعتبارية حتى تندفع بعدم اعتبارها في ثبوت الأوضاع، ولا الأقربية الحاصلة من انحصار علاقة المعنى اللغوي في أحد المجازين، وكون إطلاقه على الآخر من باب المسامحة ومشابهته للمجاز الأول، حتى تندفع بابتنائه على القول بجواز سبك المجاز من المجاز، والمشهور عدمه، وعلى ثبوت
315

مسامحة العرف في الشروط، كما في الأجزاء ولم يثبت إلا في بعض الشروط التي يعد المشروط الفاقد لها متحدا مع الواجد لها، والمفروض أن ذا الشروط من العبادات أكثر من ذي الأجزاء منها.
ثم ليعلم أن نزاع الصحيحي والأعمي إنما هو في خصوص الألفاظ الصالحة للاتصاف بالصحة والفساد، دون ما لا يصلح، كالكفر والفسق والعدالة، بخلاف النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية فإنه يعمها أيضا.
وأما المراد من الصحيح، فعن أكثر الأصوليين أنه ما ليس بمعيوب، أعني تام الأجزاء والشرائط، وعن المحقق البهبهاني (1) أنه ما ليس بناقص، أعني التام الأجزاء فقط.
وأما الصحة المصطلحة عند الفقهاء والمتكلمين في إسقاط القضاء وموافقة الأمر فليس معنى حقيقيا للصحة، بل هو من آثارها ومعلولاتها، وعلى تقدير كونه معنى حقيقيا للحصة لا يعقل أخذها بهذا المعنى جزء، أو شرطا في موضوع الطلب،
(1) مع التتبع الشديد لمظانه لم نعثر على محل ما نسب إليه، بل المستفاد من أربعة موارد خلافه:
المورد الأول: ما أفاده في حاشيته على المعالم في مبحث دلالة النهي على الفساد عند قول صاحب المعالم (اختلفوا في دلالة) حيث قال: لا يخفى أن الصحة في العبادات عبارة عن كونها مطابقة لأمر الشارع وطلبه... إلخ.
المورد الثاني: ما أفاده في حاشيته على المدارك: 299 في صلاة العبيد حيث قال: مع أن كون الصلاة اسما لمجرد الأركان محل نظر، بل ربما كان اسما للمستجمع لشرائط الصحة كما عليه بعض الفقهاء بل هو أظهر بالنظر إلى الدليل كما حقق في محله.
المورد الثالث: ما أفاده في شرح المفاتيح في موارد عديدة مثل ما أفاده في كتاب الصلاة في صلاة الجماعة: 285 حيث قال: وفيه أن الأصح كون الصلاة اسما للمستجمع لشرائط الصحة، ومثل ما أفاده في نواقض الصلاة: 303 حيث قال: وهي بأن ثبت كونها اسما لخصوص الصحيحة المستجمعة لشرائط الصحة كما هو الأقوى بالنظر إلى الأدلة مثل التبادر وصحة السلب وغيرهما المورد الرابع: ما أفاده في كتابه في علم الأصول الموسوم ب‍ (الفوائد الحائرية): 125 من مجموعة رسائله.
في الفائدة الثالثة: حيث قال: لكن الفقهاء من المتشرعة وقع بينهم نزاع في أن ألفاظ العبادات هل هي أسام للصحيحة المستجمعة لشرائط الصحة أم تكون أسامي للأعم منها؟ فعلى هذا يشكل الثبوت من هذه الطريقة هذا إذا وقع النزاع في شرائط الصحة - إلى أن قال بعد ذكره الحجة على مذهب الأعمي والإشكال عليه -: وحجة المذهب الأول التبادر عند الإطلاق وصحة السلب عن العاري عن الشرائط وكون الأصل في مثل: (لا صلاة إلا بطهور) الاستعمال في نفي الحقيقة لأنه المعنى الحقيقي.
نعم يمكن ان يكون ذلك على وجه الحكاية عنه من بعض تلامذته كصاحب موائد العوائد.
316

لكونها من آثار وجود المطلوب وآثار وجود المطلوب متأخرة عن المطلوب بمرتبتين:
أحدهما مرتبة اتصافه بالمطلوبية.
والآخر مرتبة اتصافه بالموجودية، وأخذ الأثر المتأخر قيدا لمؤثره المتقدم دور صريح، ضرورة لزوم توقف الأثر على المؤثر قضاء لحق عليته له، وتوقف المؤثر على الأثر قضاء لفرض جزئيته له، فانحصر تصوير المراد من الصحة المأخوذة قيدا لموضوع الطلب في الصحة اللغوية وهو ما ليس بمعيوب، أعني تام الاجزاء والشرائط، أو ما ليس بناقص، أعني تام الاجزاء فقط.
والأعم في قبال الصحيح بالمعنى الأول هو الصحيح بالمعنى الثاني، وفي قبال الصحيح بالمعنى الثاني هو ما يحصل معه التسمية في عرف المتشرعة الأعم من حيث الاجزاء والشروط الزائدة على المسمى، ويسمى بالأعم
بالمعنى الأعم.
317

المقدمة الثانية: في تصويرات كل من قولي الصحيح والأعم، وتشخيص المراد منها في محل النزاع.
فنقول:
أما القول بالصحيح بالمعنى الأخص فيتصور على وجوه:
أحدها: إرادة الماهية المستجمعة لجميع الأجزاء المعتبرة فيها من غير اعتبار للشرائط.
ثانيها: إرادة الصحة الواقعية المستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط العلمية والواقعية المعتبرة في حق المختار القادر العالم به.
ثالثها: إرادة كل فرد من أفراد الصحة الواقعية المستجمعة لجميع الأجزاء والشروط الواقعية المختلفة بحسب اختلاف حال المكلفين في الصحة والمرض، والحضور والمسافرة، والعلم والجهل، والتمكن وعدمه.
رابعها: إرادة القدر الجامع بين أفراد تلك الصحة المختلفة بحسب اختلاف حال المكلفين.
أما الوجه الأول:
فقد زعم المحقق البهبهاني () انحصار مراد الصحيحيين فيه على ما حكي عن ظاهر كلامه.
ولكنه مدفوع بوجوه:
الأول: استدلال الصحيحيين طرا بحديث (لا صلاة إلا بطهور، ولا صلاة إلا إلى القبلة) ونحوهما، ولو لم يكن المراد من الصحة تام الأجزاء والشرائط لما صح استدلالهم على التسمية لها بنفي الاسم عند انتفاء الشرط في الحديث.
الثاني: تصريحهم في بحث المجمل والمبين على أن حديث (لا صلاة إلا بطهور) عرفية خاصة في نفي الصحة على قول الصحيحي، ومجاز لغوي فيه على قول الأعمي، ولو لا أن المراد من الصحة هو تام الأجزاء والشرائط لما صح نفي الصحة حقيقة بواسطة انتفاء الشرط.
318

الثالث: تصريح صاحب الهداية () والفصول () والضوابط (1) والإشارات () وغيرهم على كون المراد من الصحة المعنى الأخص، بل لم ينسب تصوير النزاع في المعنى الأعم إلا إلى ظاهر البهبهاني (قدس سره).
واما الوجه الثاني:
فقد زعم أستاذنا العلامة (دام ظله) انحصار مراد الصحيحيين فيه دافعا لاستلزام عدم صحة عبادات أولي الأعذار المعلوم صحتها نقلا وفتوى واتفاقا، بمنع الملازمة إن أريد من صحتها الصحة الواقعية الثانوية المستلزمة لترتب آثار الصحة الواقعية الأولية، لكونها بدلا عنها، ومنع بطلان التالي إن أريد من صحتها الصحة الواقعية الأولية مؤيدا بإطلاقهم البدلية والإسقاط والإجزاء على عبادات أولى الأعذار.
ولكن لا يخفى ما في الالتزام بأن مرادهم من الصحة، الصحة الواقعية المستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط الواقعية والعلمية المعتبرة في حق المختار القادر العالم بها، وأن ما عداه من عبادات أولي الأعذار إبدال عنه من التكليف والتمحل، بل لم يطرق أسماعنا اعتراف أحد من الصحيحيين به.
واما الوجه الثالث:
وإن أمكن إرادته إلا أنه لم يلتزم به أحد من الصحيحيين، حذرا عن استلزامه على القول بثبوت الحقيقة الشرعية تعدد وضع الصلاة مثلا إلى مالا يحصى، وعلى القول بالعدم استعمال لفظ الصلاة مثلا في أكثر من معنى مجازي في إطلاق واحد.
واما الوجه الرابع:
فمقتضى ما في الموائد من تعيين الطريق في إرادته، ومن تصريح أستاذ أساتيذنا الأعلام به، ومن إرساله إرسال المسلمات بين الصحيحيين، كونه هو مراد الصحيحيين، لا غير، وبعد ذلك لا مجال للإشكال في
(1) انظر ضوابط الأصول: في مبحث الصحيح والأعم في تحرير محل النزاع عند قوله: «ثم الظاهر أن المراد بالصحيح هو الصحيح بالمعنى الأخص لا الأعم.». وقد فسر الصحيح بالمعنى الأخص بالصحيح بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط معا وبالمعنى الأعم بالصحيح بالنسبة إلى الأجزاء فقط.
319

تعيين مراد الصحيحيين فيه، وإنما الإشكال فيه من جهتين، وهما الموجبان لتفصي بعضهم عن تعيين مراد الصحيحيين فيه.
الجهة الأولى من الإشكال: عدم تعقل الجامع بين أفراد الصلوات الصحيحة من ذوي الأعذار وغيرهم، لأن الجامع لا يمكن ان يكون ماهية الطلب، ولا الأمر، إذ يلزم تقدم الأمر على صدق الاسم، ولا القابلية لتعلق الأمر، فكل ما رآه الشارع قابلا لأن يكون متعلقا للأمر أطلق عليه اسم الصلاة، فإنه إن كان المراد بها القابلية التي تحتاج في فعليتها إلى ما عدا التسمية، فهي الجامعة بينها وبين الفاسدة، وإن كان المراد ما لا تحتاج في الفعلية إلى ما عدا التسمية، ففيه أن التسمية غير محتاج إليها في الطلب الواقعي.
والتزام أن الطلب الواقعي لا يتعلق على () الصحيح بخلاف الظاهري، كما ذكر في الفصول () لا معنى له، لأن الطلب الظاهري المطابق للواقع يتعلق بما تعلق به الطلب الواقعي والتفكيك غلط.
ويندفع هذا الإشكال بأن الجامع غير منحصر في ذوي المحاذير المذكورة، بل هو أمر ملزوم للأمر والطلب مساو له، وهو الحسن والمصلحة وأمثالهما.
الجهة الثانية للإشكال: هو أن فرض الجامع أمرا ملزوما للأمر والطلب مساويا له، وهو الحسن والمصلحة، مستلزم لذهاب الصحيحيين طرا إلى الاحتياط عند الشك في الجزئية والشرطية، من حيث أن الموضوع حينئذ يكون من قبيل المبين مفهوما، المجمل مصداقا، كالطهور المأمور به لأجل الصلاة، فلا محالة يكون الحكم في مثله الاشتغال، والحال أن أكثر الصحيحيين ذاهبون إلى البراءة وآبون عن الاحتياط.
ويندفع هذا الإشكال أيضا بمنع الملازمة، بأن المراد من كون الصحيح موضوعا لذلك الأمر الملزوم للأمر والطلب، وهو الحسن والمصلحة المساوية له، ليس اندراج وصف الصحة أو الحسن في المعنى، بل تفصيله أن الشارع قد استعمل
320

الألفاظ أولا في هذه المعاني في حق المستجمع لجميع الشرائط ثم شرع أحكام المعذورين شيئا فشيئا بالتدريج، فمرة أجاز صلاة ناسي القراءة حتى ركع، ويوما حكم بإجزاء صلاة المتيمم، ورخص للمريض الصلاة قاعدا في قضية وهكذا، ولم يكن ذلك منه إلا بالأحكام التكليفية، لا بالأوضاع اللغوية، ولكن العرف أعني المتشرعة من الأصحاب والتابعين استعملوا هذه الألفاظ في جميع المعاني توسعا، فلعله صار باستعمال واحد حقيقة، وإن قلنا ببقاء الألفاظ على معانيها، للقول بوجود المعاني أو بعضها في الشرائع السابقة، فالشارع قد وسع في الاستعمال، ولكن الاستعمال في جميع هذه المعاني لم يكن من () سبب الاشتراك اللفظي، ولا المعنوي، بل كان شبيها باستعمال أسماء الإشارة والضمائر قد استعملت في معانيها من حيث اجتماعها تحت أمر واحد، وتحقق حسن مشترك بينها في الجميع، ولكن هذا الأمر البسيط الجامع من قبيل آلة الملاحظة.
فان قلت: إذا قلنا بوجود الماهيات في الشرائع السابقة، فالجامع بين ما في أيدينا وما في أيدي الأمم الماضية هو الجامع بين صحيحة العبادات منا وفاسدتها، لأن ما في الشرائع السابقة فاسدة في شريعتنا، فكيف وسع الشارع
في الاستعمال من حيث الجامع.
قلت: إن الشارع لاحظ الجامع من حيث اندراج ما في الأمم السالفة فيه من حيث إنه صحيح عند الأمم مع قطع النظر عن فسادها عندنا، كاندراج الفاسد عند مجتهد الصحيح عند آخر في الجامع في زمان واحد.
وبالجملة: فالصحة الواقعية الأولية لم تؤخذ قيدا للموضوع له اللفظ حتى يكون الشك في حصولها شك في حصول المصداق، فيوجب الاحتياط، بل المأخوذ قيدا له إنما هو المقدار المعلوم من الأدلة الخارجية المقتضية لدفع الزائد بالبراءة عند الشك بعد الفحص.
ولا يخفى أن هذين الإشكالين اللذين دفعناهما بحمد الله من عمدة ما حمل بعض الأعلام إلى التفصي عن الصحيحيين بالقول بالأعم فلا تغفل عما قررنا في
321

دفعهما. هذا كله في تصويرات القول بالصحيح وتشخيص المراد منها في محل النزاع.
وأما القول بالأعم فيتصور أيضا على وجوه:
أحدها: كونها موضوعة للمستجمعة لجميع الأجزاء المعتبرة فيها من غير اعتبار للشرائط في وضعها،
فيكون الجامع بين الأفراد هو الأجزاء المعتبرة دون الشروط، وهذا الوجه وإن خص مراد الصحيحيين به بعض، إلا انه لم يخص مراد الأعميين به أحد، بل ممن أبى عن تخصيص مراد الأعميين به أستاذنا العلامة دام ظله وفاقا للهداية () وغيرها.
ثانيها: كونها موضوعة بإزاء الأعم من الصحيحة والفاسدة من غير مراعاة لجميع الأجزاء والشرائط،
بل إنما يعتبر ما يحصل معه التسمية في عرف المتشرعة، وهو المحكي عن العلامة في غير موضع من النهاية وولده في الإيضاح والعميدي في موضع من المنية والشهيد الثاني في التمهيد والبهائي (قدس سره) والقاضي أبي بكر وأبي عبد الله البصري () وغير واحد من فضلاء المتأخرين منهم صاحب القوانين () والضوابط (1) والإشارات (). وبالجملة فهذا الوجه مما لا إشكال في تعيين مراد الأعميين به، بعد تصريح هؤلاء الأجلة من الأعميين بتعيينه فيه، وإنما الإشكال فيه من جهتين:
أحدهما: في تعيين معنى اللفظ حينئذ، حيث أن حوالة تعيينه إلى عرف
(1) ضوابط الأصول: مبحث الصحيح والأعم في مقام بيان أدلة الأعميين حيث قال: فاعلم أن الحق أنها أسام للأعم بوجوه: الأول... إلى أن ينتهى كلامه إلى الوجه الثالث عشر.
322

المتشرعة مستلزم للدور، لتوقف تعيين ما اعتبره الشارع في التسمية على عرف المتشرعة، وتوقف عرفهم بمعرفته على بيان الشارع لهم، إذ لم يكن الأمر موكولا إليهم.
وأجيب عنه في الموائد والضوابط () بأن الضابط لتعيينه ما يصدق معه الاسم عرفا على أن يكون الصدق العرفي كاشفا لا عنوانا حتى يلزم الدور، فالحوالة في الحقيقة على الشرع، نظير حوالة اللغات على العرف مع توقيفيتها، فكما يكون العرف مرآة للغة، كذلك عرف أهل الشرع يكون مرآة لاصطلاح الشارع.
وثانيها: في تعقل الجامع المحصل للصدق العرفي بين الأفراد الصحيحة والفاسدة، حيث إنه لا يصح فرض الأركان المخصوصة جامعا:
أما أولا: فلعدم تحقق صدق الاسم عرفا بمجرد تحقق الأركان الأربعة، أو الخمسة، بل يحتاج إلى القدر الزائد المحصل لصدق الاسم عرفا.
وأما ثانيا: فلأن فرض الأركان موضوعا للفظ الصلاة يستلزم عدم صحة عدهم ما عدا الأركان من سائر الأجزاء أجزاء، لخروجها عن المسمى كالشرائط، ومن المعلوم من ملاحظة الشرع تسمية القراءة وأمثالها أجزاء للصلاة.
وأجيب في الهداية () عن الوجه الثاني:
أولا: بمنع كون سائر الأجزاء أجزاء لمطلق الصلاة، بل القدر الثابت، كونها أجزاء للصلاة الصحيحة.
وثانيا: بمنع كونها أجزاء للصلاة مطلقا، بل يمكن كونها أجزاء ما دامت موجودة، وإذا انعدمت لا ينعدم الاسم بانعدامها، نظير ما وقع في كثير من الأوضاع، كلفظ البيت، حيث وضع لما قام به الهيئة المخصوصة المعروفة في العادة، وتلك الهيئة قد تقوم بجميع الأركان والجدران، وقد تقوم بمجرد الأركان وبعض الجدران، وقد تقوم بذلك وببعض آخر على اختلاف وجوده، إلا أن وجود
323

الأركان ونحوها قد اعتبرت في تحقق مفهومه، لتقوم الهيئة بها بحيث لا حصول لها بدونها وأما البواقي فغير مأخوذة بالخصوص، فإن حصلت كانت جزء لقيام الهيئة بها حينئذ أيضا، وإلا فلا، واختلاف الهيئة مع زيادة ما تقوم به ونقصه لا توجب اختلاف المعنى، إلى آخر كلامه.
أقول: أما الجواب الأول، فيندفع بأن عدم اعتبار تلك الأجزاء في مسمى مطلق الصلاة يستلزم كون استعمالها في المستجمع للأركان وغيرها - كما هو الغالب - مجازا، لأن أجزاء الصلاة ونحوها أجزاء خارجية متباينة، وليست من الأجزاء التحليلية المتحدة في المصداق، فإطلاق اللفظ الموضوع لبعضها على الكل مجاز، بل قد يكون غلطا، وليس من قبيل إطلاق الجنس على النوع، أو النوع على الصنف، أو الفرد، كما قد يتوهم.
وأما الجواب الثاني: فهو وإن كان وجيها، إلا أن الإيراد الأول، أعني عدم اتحاد تحقق الأركان مع صدق الصلاة، كاف في عدم صحة فرض الأركان جامعا.
ولا يصح أيضا فرض معظم الأجزاء المحصلة للصدق جامعا على وجه يكون اللفظ موضوعا للتام، ويستعمل في الفاسد والناقص حقيقة من باب المسامحة العرفية، نظير استعمال ألفاظ الموازين والمقادير على الزائد والناقص بيسير، كما هو معنى قولهم: المسمى شرعي والتسمية عرفية.
ووجه عدم صحة فرض ذلك: أن تحقق مسامحة استعمال التام في الناقص منوط، أولا: بمعرفة خاصية التام. وثانيا: بتحققها في الناقص، والمفروض عدم وجود المناط في ألفاظ العبادات، لأن المسامح في استعمالها، إن كان هو الشارع، فالمفروض عدم ترتيبه خاصية التام على الناقص.
وإن كان هو العرف، فالمفروض عدم معرفتهم بخواص أحكام الشرع، وهذا هو السر فيما اشتهر في ألسنة العلماء من أن الأحكام الشرعية مبتنية على التدقيقات العقلية، لا على المسامحات العرفية، وهو لا ينافي قولهم الأخير بأن الأحكام الشرعية مبتنية على حسب متفاهم العرف، لا على التدقيقات الحكمية.
324

وذلك: لأن تشخيص موضوعات الأحكام من وحدة الموضوع وتعدده، وبقائه وانعدامه في جريان الاستصحاب وعدمه، وفي إثبات الحكم وعدمه، تارة يتوقف على تشخيص صدق الحكم على ذلك الموضوع وعدمه، بواسطة تشخيص وجود المناط فيه وعدمه، كموضوع الكرية لحكم الطهارة، والنصاب لحكم الزكاة، والمسافرة لحكم القصر، وتارة لا يتوقف على تشخيص صدق الحكم والمناط، كموضوع النجاسة لحكم الاجتناب.
والمراد من الأحكام الشرعية المبتنية على التدقيقات العقلية، لا على التسامحات العرفية، إنما هو القسم الأول.
والمراد من الأحكام الشرعية المبتنية على حسب متفاهم العرف، إما هو القسم الثاني، فعدم إجراء حكم السفر، والكر، والنصاب، على موضوعاتها الناقصة عن مقاديرها بمقدار شعيرة ليس من جهة مجرد عدم صدق الموضوع بحسب التدقيق العقلي، بل إنما هو من جهة ضميمة عدم صدقه العرفي بعد توقف مسامحة العرف
على إحرازه تحقق المناط في المسامح فيه، المفروض قصور فهمهم عن مناط الأحكام الشرعية، فضلا عن إحرازهم تحققه فيه، وان صدق الموضوع عليه مع الغض عن حكمه الشرعي، وعدم إجراء حكم النجاسة على الدخان المتصاعد عن النجس والبخار الحاصل منه مع عدم انفكاكها عن اجزاء متصاغرة جدا من العين النجسة، ليس من جهة مجرد عدم صدق موضوع الحكم والعين النجسة عليها بحسب العرف، بل إنما هو من جهة ضميمة عدم صدقه العقلي لأجل ترتب حكمه الشرعي بعد قصوره عن مناط ترتبه وان صدق عليه مع الغض عن حكمه الشرعي.
وبالجملة فتشخيص موضوعات الأحكام الشرعية موكول على حسب متفاهم العرف ومسامحاتهم، والمراد من قولهم ليست منوطة بالمسامحات العرفية، إنما هو عدم إناطتها بالمسامحات العرفية التي لا مسرح لتحققها في الأحكام الشرعية، فالمراد من هذا السلب السلب بانتفاء الموضوع لا الحكم، ولهذا ترى الفقهاء يحكمون باستصحاب حكم الكرية على ما يتناقص من الماء بمقدار ما يتسامح العرف في إطلاق الكرية عليه.
325

ومحصل الكلام أن المراد من ابتناء الأحكام الشرعية على المسامحات العرفية لا التدقيقات العقلية هو ابتناؤها على متفاهم العرف الغير الناشئ عن تنزيلاتهم، والمراد من عدم ابتنائها على المسامحات العرفية هو عدم ابتنائها على تفاهمهم الناشئ عن تنزيلاتهم، فلا منافاة بين القولين.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من الإشكال في صحة فرض الجامع () هو الأركان المخصوصة أو معظم الأجزاء على وجه يكون الوضع للكل واستعماله في الناقص من باب المسامحة، ونقول في رفع الإشكال عن تصحيح فرض الجامع على مذهب الأعمي بإمكان فرضه معظم الاجزاء المحصلة للصدق العرفي، لكن لا على وجه يكون الوضع للكل واستعماله في الناقص من باب المسامحة حتى يرد الإشكال المذكور، بل على وجه يكون الوضع للكل من حيث المعظم، فيكون سائر الأجزاء معتبرة في المسمى لا في التسمية، نظير وضع البيت، والأعلام الشخصية حسب ما مر توضيحه بما لا مزيد عليه، فتعين أن الأقرب إلى قول الأعميين هو الأعم العرفي لا الأركاني، بحكم العرف الكاشف عن الشرع.
والثمرة، بين الأعم العرفي والأركاني نظير ثمرة الصحيح والأعم في الإجمال والبيان، فإن اللفظ على الأركاني مبين من جميع الوجوه، لانحصار الأركان شرعا في النية، والتكبير، والقيام، والركوع، والسجود، بخلافه على الأعم العرفي، فإن اللفظ قد يجمل () عند الشك في محصلية صدق الاسم بمرتبة من مراتب الأجزاء كما يجمل على الصحيحي.
326

المقدمة الثالثة: في تأسيس أن الأصل هل هو مع الصحيحي، أو الأعمي أو مع كليهما، أولا أصل في البين.
لينعرف المرجع مع الغض عن الأدلة أو مع فرض تصادمها وعدم المرجح.
فنقول: أما الأصل العملي فإن قلنا بأنه البراءة عند الشك في الجزئية والشرطية الناشئ عن إجمال الخطاب، فهو مع كل من الصحيحي والأعمي.
وإن قلنا بأنه الاشتغال، فان كان إطلاق ألفاظ العبادات واردا مورد حكم آخر فهو أيضا مع كل من الصحيح والأعم، وإلا فالبراءة مع الأعمي، والاشتغال مع الصحيحي، ومن المعلوم أن المجرى مجرى البراءة عند الشك في الاشتغال.
وأما الأصل اللفظي، فأصالة عدم الإجمال، أعني غلبة البيان في الألفاظ، وكذا أصالة الحقيقة في الاستعمال، أعني غلبة الاشتراك المعنوي من الاشتراك اللفظي ومن الحقيقة والمجاز، فيلحق المشكوك الصالح لكل منهما بالأعم الأغلب مع الأعمي، لا غير.
وأما ما يتوهم للصحيحي من أصالة عدم الوضع للأعم، فمعارض بمثله، ومن أصالة عدم التقييد، بتقريب أنها لو كانت أسامي للأعم لزم تقييدات كثيرة في الماهيات، وهو خلاف الأصل، وعلى الصحيحي لا يلزم تقييد أصلا، فممنوع بأن مجرى أصالة عدم التقييد إنما هو في تشخيص المرادات، وكلامنا في تشخيص الأوضاع، وتشخيص المراد فرع تشخيص الوضع.
ووجه ذلك: أن اعتبار أصالة عدم القرينة وعدم التقييد في إثبات المرادات إنما هو من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وقبح الإغراء بالجهل الذي لا مسرح لادعائه في إثبات الأوضاع، ولهذا لم يعدوا أصالة عدم التقييد في جملة علائم الوضع فيما مر.
327

المقدمة الرابعة: في بيان الأقوال في المسألة وهي أربعة:
أحدها: القول بظهور ألفاظ العبادات في الصحيح المستجمع لجميع الأجزاء والشروط المعتبرة في الصحة،
وهو المشهور بين الخاصة والعامة.
فمن الخاصة المحكي عنهم السيد، والشيخ، والعلامة في النهاية، والعميدي في المنية، والشهيد الثاني في المسالك، والشريف، والفقيه ()، وجماعة من الأساطين، منهم صاحب الهداية ()، والفصول ()، والموائد ()، وأستاذ أساتيذنا الأعلام (قدس سره).
ومن العامة المحكي عنهم أبو الحسين البصري، وعبد الجبار، والآمدي، والحاجبي والأسنوي، وغيرهم ().
وثانيها:
القول بظهورها في الأعم من الصحيح والفاسد من غير مراعاة لجميع الأجزاء والشرائط، بل المعتبر ما يحصل معه التسمية في عرف المتشرعة، وهو المحكي عن العلامة في غير موضع من النهاية ()، وولده في الإيضاح ()، والعميدي
328

في موضع من المنية ()، والشهيد الثاني في التمهيد ()، والشيخ البهائي ()، والقاضي أبو بكر، وأبو عبد الله البصري ()، وغير واحد من فضلاء المتأخرين، منهم صاحب القوانين ()، والمناهج (1)، والضوابط ()، والإشارات ()،
وثالثها:
القول بظهورها في الصحيح من حيث الأجزاء دون الشروط وهو المحكي عن المحقق البهبهاني () قدس سره وقد مر بعده.
ورابعها:
التفصيل: بين لفظ الحج وسائر ألفاظ العبادات، كما نسب إلى الشهيد في القواعد () وشارحها (). وأصح الأقوال القول بالصحيح بالمعنى الأخص، وفاقا لمن ذكر من الأساطين لوجوه:
ومنها: شهادة الوجدان، والاستغراق على أن كل من يخترع ماهيات مركبة ويريد التعبير عنها لبيانها وبيان أجزائها، وشروطها، وأحكامها، وخواصها، ومطلوبيتها، نصب على وجه الوضع أو التجوز ألفاظا بإزاء المركب التام من تلك
(1) مناهج الأحكام والأصول في مبحث الصحيح والأعم وهذا لفظه: منهاج: قد وقع الخلاف في الألفاظ الموضوعة للمعاني المخترعة من الشارع «إلى أن قال» واختار جماعة أنها أسماء للأعم... وهو الحق، لنا الاستقراء المفيد للعلم، بيانه: أنا نرى أن كل من يخترع شيئا مركبا (إلى ان قال) فلا يشك أحد في صحة الإطلاق الحقيقي للاسم على الناقص وعدم صحة السلب، بل لا يشك في الوضع للأعم مع عدم مشاهدته الواضع ولا علمه بكيفية الوضع وهذا عادة الناس سلفا وخلفا.
329

الماهيات اقتصارا على قدر الحاجة، وإن استعمله في الناقص كان تسامحا منه حقيقيا إذا كان الناقص مما يترتب
عليه ثمرة التام وتسامحا مجازيا إذا لم يترتب عليه ثمرة التام.
والفرق بين التسامحين، عدم احتياج الأول في الاستعمال إلى ترخيص الواضع، ولا إلى قرينة، واحتياج الثاني إليها، لكون الأول تصرف معنوي وهو ادعاء الاتحاد بين المعنيين، والثاني تصرف لفظي، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وقد يورد على الدليل المذكور بأنه أخص من المدعى، إذ غاية مفاده ثبوت ظهور الألفاظ في الصحيح من حيث الأجزاء، لا مطلقا من حيث الأجزاء والشروط.
ويمكن دفعه بضميمة وهن القول بالفصل وندوره الملحق بالعدم، أو بضميمة عدم الفرق بين الأجزاء والشروط في المركبات الشرعية وإن وجد الفرق بينهما في المركبات العرفية في الدخول في التسمية.
ومنها: أن مسير حاجة الشارع إلى بيان الصحيح من العبادات، وانحصار غرضه وطلبه في الصحيح منها لا غير، يقتضي انحصار التسمية في الصحيح لا غير، ومنها: تبادر المعاني الصحيحة، وعدم تبادر المعنى الأعم منها، وقد بالغ في الضوابط () في الإيرادات على التبادر، كما بالغ في الهداية () لردها.
والسر في ادعاء الطرفين هو أن المتبادر من ألفاظ العبادات مثلا أمور ثلاثة:
أحدها: التام المستجمع لجميع الأجزاء الواجبة والمندوبة، وهكذا، كتبادر الماء الصافي من لفظ الماء، وهذا تشكيك خطوري يزول بأدنى التفات ولا عبرة به.
330

ثانيها: الصحيح المستجمع للأجزاء والشروط التي لها مدخل في الصحة وترتب الآثار، وهذا كتبادر المطلق من الماء.
وثالثها: تبادر الجامع بين الفاسد والصحيح، وهذا عندنا مسامحة صرفة، وعند الأعمي مسامحة وضعية وإن لم يكن لنا مستند بعد الإنصاف وإمعان النظر في محاورات أهل الشرع ومقايستها على محاورات العرف.
والفرق بين المسامحتين، إجراء أصالة عدم الأولى عند الشك دون الثانية.
والقول بأصالة عدم ضم شيء آخر إلى اللفظ في حصول تبادر الأعم، وأصالة كون تبادره وضعيا معارضة بأصالة عدم استقلال اللفظ في إفادته، وأصالة كون تبادر الصحيح وضعيا.
مضافا إلى أن الأصل لا يثبت الأوضاع إلا إذا أريد منه الغلبة المحصلة للظن، ومع تسليم تلك الغلبة فجريان الأصل في تبادر الصحيح مقدم على جريانه في تبادر الأعم، لأن الشك في تبادر الأعم من قبيل الشك المسبب عن الشك في كيفية تبادر الصحيح، وقد تقرر في محله أن الأصل في الشك السببي مقدم على الأصل في الشك المسببي.
وفي ذلك كله تأمل، بل الأصل في التبادر المشكوك كونه وضعيا أو إطلاقيا ناشئا عن الانصراف هو الوضعي لأصالة عدم شيء من سببي الانصراف وهما غلبتا الوجود والاستعمال وأصالة عدم بلوغهما الحد الموجب للانصراف على تقدير الوجود.
ومنها: أن استعمال ألفاظ العبادة في الصحيحة منها أغلب جدا من استعمالها في الفاسدة إلى الحد الموجب لإلحاق الفاسد بالنادر بأن ندر في الاستعمال وإن كان في الوجود بالعكس، ولا ريب أن أغلبية الاستعمال من علائم الحقيقة غالبا وأندرية الاستعمال من علائم المجاز غالبا، والظن يلحق المشكوك بالأعم الأغلب وأما أغلبية الفاسد على الصحيح في الوجود فلا يقاوم أغلبية الاستعمال في العكس كما لا يخفى.
ومنها: صحة سلب الاسم عن الفاسدة في عرف المتشرعة، بل ووقوع
331

سلبه عنها في لسان الشارع.
أما صحة السلب عرفا فلجواز قول المتعبد عبادة فاسدة من الصلاة، والصوم، والوضوء، والغسل، والتيمم، ونحوها ما صليت ولا صمت، ولا تعبدت، ولا توضأت، ولا اغتسلت، ولا تيممت، ونحوها، ولم يكذب في عرف المتشرعة، وجواز قوله صليت، ونحوه، لا ينافي ذلك، لأن صحة السلب نص في الدلالة على المجازية، والاستعمال أعم من الحقيقة لجواز تأخير القرينة والبيان عن وقت الخطاب، والممنوع تأخيرهما عن وقت الحاجة.
وأما وقوع السلب شرعا، فتارة بالالتزام، وتارة بالمطابقة، أما وقوعه التزاما، فلأن اللازم بطريق عكس النقيض من قوله تعالى (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ()، و (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) () ومن قوله عليه السلام (الصلاة عمود الدين ()، والصلاة قربان كل تقي ()، والصوم جنة من النار () إلى غير ذلك من ألفاظ العبادات المعرفة بلام الجنس في الآيات والأخبار المتكثرة جدا في الأبواب المتفرقة هو أن كل ما لم ينه عن الفحشاء، أو لم يكن كتابا موقوتا، أو قربان كل تقي، أو جنة من النار، فليس بصلاة ولا صوم.
وأما وقوعه مطابقة فكقوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بطهور ()، ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ()، ولا صلاة لمن لم يقم صلبه ()، ولا صلاة إلا إلى القبلة ()
332

وقوله عليه السلام في حد الركوع والسجود ومن لم يسبح فلا صلاة له () ولا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل) () إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع في الأخبار الظاهرة في نفي الحقيقة بانتفاء بعض الأجزاء والشرائط ويتم الكلام في البعض الآخر بعدم القول بالفصل.
وأما ما أورد على الاستدلال بتلك الروايات من منع دلالتها على نفي الماهية، وأن مفادها نفي صفة من صفاتها الخارجة عن الماهية، كالصحة والكمال، بدعوى نقل تلك التركيب عرفا إلى المعنى الثاني، أو شهرتها عرفا فيه، أو اقترانها بما يقتضي حملها عليه من أحد القرائن الحالية، ككون وظيفة الشارع بيان الأحكام الشرعية، دون الموضوعات اللفظية، كما قيل نحوه فيما أثبت فيه ذلك كقوله عليه السلام (الطواف في البيت صلاة ()، والاثنان فما فوقهما جماعة) (). حيث حمل على إرادة بيان الفضيلة دون بيان مسمى الموضوعات اللفظية، أو أحد القرائن العقلية، كعدم إمكان حمل شيء من الروايات على نفي الماهية، لاستلزام الدور من توقف القول بالصحيح على نفيها الماهية، وتوقف نفيها الماهية على القول بالصحيح، أو كعدم حمل بعضها على نفي الماهية، لصحة الصلاة في صورة نسيان الفاتحة، أو عدم التمكن من قراءتها، أو كون المصلي مأموما، وكذا الرواية الأخيرة، إذ قد يصح الصوم مع عدم بيتوتة من الليل، بتقريب أنه لو بنى على ظاهر العبارة لزم ان لا تكون الصلاة الفاقدة للفاتحة صلاة، ولو كان الفقد لنسيان، أو لعذر، ولا قائل به، والقول بتقييدها بصورة العمد والقدرة مجاز ليس بأولى من حملها على نفي الكمال، إذ لا بعد في كون الصلاة الفاقدة للفاتحة نسيانا أو لعذر دون الصلاة المشتملة عليها في الكمال، بدعوى عدم ترجيح التخصيص على هذا المجاز، لشيوعه
333

حتى قيل فيه بالنقل، مضافا إلى كونه تخصيصا بالأكثر، وعلى فرض جوازه بعيد، ولا أقل من مساواته لذلك الاحتمال الكافي في هدم الاستدلال.
فقد أجيب عن الأول: بأن دعوى نقلها عرفا في نفي وجود الصفة مع انتفاء القرائن الخاصة مما لا شاهد عليه،
والأصل عدمه، بل ملاحظة فهم العرف المجرد عن القرائن - في مثل قولك: لا وصول إلى الدرجة العالية إلا بالتقوى، ولا روح للعمل إلا بالإقبال، ولا قبول للطاعة إلا بالولاية، إلى غير ذلك من الأمثلة المتكثرة - شاهد على خلافه، ومجرد استعمالها في عدة مقامات قضت القرائن الداخلية، أو الخارجية بإرادة نفي الصفة، نظرا إلى القطع ببقاء الذات لا يقضي بعدم انصرافها إلى ما وضعت له مع انتفاء القرينة، كيف وليس بأشيع من تخصيص العام واستعمال الأمر في الندب ولم يقل أحد فيهما بالنقل.
وعن الثاني: بأن دعوى شهرتها عرفا في نفي الصفة على تقدير تسليمها في هذا الزمان غير قادح بالاستدلال، وفي زمان صدور تلك التراكيب عن الشارع مستلزم لبلوغها مرتبة النقل في هذا الزمان، لقرب مرتبة الشهرة من مرتبة النقل جدا وقد عرفت خلافه.
وعن الثالث: أولا بمنع انحصار وظيفة الشارع في بيان الأحكام، بل بيان الموضوعات المستنبطة أيضا لا تخرج عن وظيفته، وإنما الخارج عنها هو بيان الموضوعات الصرفة.
وثانيا: سلمنا خروج بيان الموضوعات المستنبطة في الجملة، لكن لا نسلم خروج الموضوعات المخترعة التي لم يعرفها العرف واللغة، بل بيان تلك الموضوعات كبيان نفس الأحكام ليس إلا من شأنه ووظيفته.
والفرق بين ما نحن فيه وبين المثالين المذكورين من حيث اللفظ هو الفرق بين النكرة في سياق النفي والإثبات، ومن حيث الخارج بمانعية القطع من حمل المثالين على بيان الموضوع، دون مانعيته من حمل ما نحن فيه عليه.
وعن الرابع: بمنع توقف نفي الماهية في تلك الروايات على القول بالصحيح، بل موقوف على الأخذ بظهور اللفظ، والبناء على أصالة الحقيقة.
334

وعن الخامس: مضافا إلى اختصاصه ببعض الروايات، وسلامة الاستدلال بالبعض الآخر أنه مدفوع بالإجمال والتفصيل.
أما إجماله فلفهم كافة الأصحاب وغيرهم من الرواية دلالتها على وجوب الفاتحة في الصلاة، ولو حمل على نفي الكمال لم يكن دالا على وجوب الفاتحة وهو كما ترى إسقاط للرواية عن الإفادة.
وأما تفصيله: فلأنه لا يرفع اليد عن المقتضي إلا بقدر مانعية المانع، ومع ذلك كيف يصح مانعية الأدلة الدالة على صحة الصلاة الفاقدة للفاتحة نسيانا أو مأموما عن مطلق ظهور الرواية في نفي الماهية حتى في صورة العمد، بل أقصى مانعيتها هو تقييد إطلاق نفيها الماهية بصورة العمد، لا صرفها عن مطلق نفي الماهية إلى الحمل على نفي الكمال مطلقا حتى في صورة العمد، وعلى ذلك فالأمر متعين في التقييد، لا دائر بينه وبين المجاز حتى يحتاج إلى الترجيح، مع أن الترجيح على تقدير الدوران مع التقييد لا المجاز، لما عرفت من أن دعوى شيوعه في هذا الزمان غير مرجح لتقديمه على التقييد في زمان الصدور، وشيوعه في زمان الصدور مستلزم لحصول نقله في هذا الزمان.
وأما دعوى لزوم التخصيص بالأكثر فناظر إلى فرض المخصص عنوان ناسي الفاتحة وعنوان صلاة المأموم فلم يبق سوى عنوان العامد، وأما بالنظر إلى فرضه مصاديق الناسي، والمأموم، فلا إشكال في أن مصاديق نسيان الفاتحة والمأموم لم يبلغ معشارا من مصاديق غير الناسي لها وغير المأموم وقد تقرر أن الاستهجان العرفي إنما هو في التخصيص بالأكثر من حيث العنوان والمصاديق معا، وأما من حيث العنوان فقط كما فيما نحن فيه، فلا استهجان فيه، كما لا استهجان في التخصيص بالأكثر من حيث المصاديق فقط، كما لو كان خروج تلك المصاديق بعنوان واحد، كما إذا قيل أكرم الناس ودل دليل على اعتبار العدالة.
هذا تمام عمدة أدلة الصحيحيين وأما غير العمدة فوجوه:
منها: أنه لو لم توضع لخصوص الصحيحة لزم ارتكاب التقييد في الأوامر المطلقة، ضرورة عدم تعلقها بالفاسدة وهو خلاف الأصل.
335

وفيه ما مر تفصيله في مقدمة تأسيسنا الأصل في المسألة من كونه أولا:
معارض بغلبة البيان في الألفاظ وندور الإجمال فيها.
وثانيا: بأن مجرى أصالة عدم التقييد إنما هو في تشخيص المرادات وكلامنا في تشخيص الأوضاع بالتوجيه المتقدم فليراجع.
ومنها أن من البديهي أن الصوم والصلاة ونحوهما، من العبادات، وأن الفاسد ليس عبادة، ينتج بقاعدة الشكل الثاني كون الصوم، والصلاة، ونحوهما ليست بفاسدة، فيختص الاسم بالصحيحة إلى غير ذلك من الوجوه المبسوط ذكرها، وذكر ما فيها في كتاب الهداية، وغيرها سيما الضوابط ومن شاء فليراجع.
حجة الأعميين بالمعنى الأعم وجوه:
منها: قضاء الاستقراء في أوضاع الألفاظ العرفية من الدرهم، والدينار، والحنطة، والشعير، والدار والخان، والحمام، والبيع، والشراء، والأكل، والشرب، والضرب، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الألفاظ العرفية الموضوعة للأعم من الصحيح والفاسد، والمؤثر وغيره، فإذا كان المعيب من كل شيء من تلك المسميات الكثيرة الغالبة داخلا في مصداق الألفاظ الموضوعة بإزائها عرفا كان المعيب من مسميات ألفاظ العبادات المشكوك دخوله في مصداق ألفاظها الموضوعة لها شرعا كذلك إلحاقا للمشكوك بالأعم الأغلب.
والجواب عنه أولا: بمنع أصل الاستقراء ودخول المعيب من كل شيء في مصداق اللفظ عرفا، بل غاية ما يسلم إنما هو دخول الناقص فيه من باب المسامحة العرفية التي لا مسرح لوجودها في الأمور الشرعية، لما عرفت من أن مسامحة العرف فرع معرفتهم بوجود خواص المسامح فيه في المسامح له، ومن المعلوم عدم معرفة العرف بخواص الأحكام الشرعية ومصالحها، فضلا عن إحرازهم وجودها، أو من باب المسامحة المجازية بعلاقة المشاكلة التي تنافي المدعى.
وثانيا: بمنع دلالة الاستقراء في الأوضاع العرفية على إلحاق المشكوك من الأوضاع الشرعية بها، لعدم تجاوز الظن الحاصل من الاستقراء في أحوال نوع إلى إلحاق المشكوك من النوع الآخر به، ولو سلم تجاوزه سمي بالقياس، لا
336

الاستقراء، والقياس ليس من علائم الوضع، لإمكان تخلفه عنه، بل ولا من دلائله لمنع حصول الظن منه فتأمل.
وثالثا: سلمنا اقتضاء الاستقراء في الأوضاع العرفية إلحاق الألفاظ الشرعية بالألفاظ العرفية، لكون عرف الشارع نوعا من العرف العام لا نوعا آخر، لكنه مبني على ثبوت وضع الشارع في تلك الألفاظ، واما بناء على ثبوت مجرد استعمال الشارع إياها فلا يقتضي الاستقراء في الأوضاع إلحاق الاستعمال بها، كما لا يخفى.
ومنها: قضاء أمارات الحقيقة به من التبادر، وعدم صحة السلب، وصحة التقسيم، والاستثناء، وحسن الاستفهام، وقضاء دلائل الحقيقة به، من أصالة كون ما يصح استعماله في معنيين، أو تقييده بكل من المعنيين حقيقة في القدر المشترك بين الأمرين، حذرا من الاشتراك والمجاز، ومن مقايسة الألفاظ الشرعية على الأعلام
الشخصية، والماهيات الكلية في الإطلاق وضعا على النواقص، كإطلاق زيد ونحوه على ناقص بعض الأجزاء الغير الرئيسة، وإطلاق الناطق والحيوان على ناقص الإدراك والإحساس.
والجواب أما عن التبادر، وعدم صحة السلب فبمنع كونهما حقيقيين وأن الأمر بالعكس.
وتفصيله: بأن صحة الإخبار بأن فلانا يصلي، أو يصوم، أو نحوه، مع عدم علم المخبر بصحة الفعل، بل ومع علمه بفساده:
أولا: من جهة رجوع استعمال اللفظ في تلك الإطلاقات إلى الاستعمال في العبادات الصحيحة، لكون الإطلاق على المصداق المخصوص تبعا لاعتقاد العامل كونه مصداقا للصحيحة ولا تجوز فيه، كما لا تجوز في استعمال اللفظ في غير الموضوع له عنده تبعا للوضع الثابت في عرف آخر، نعم فيه مخالفة للظاهر تكفي النسبة المذكورة شاهدة عليه.
وثانيا: سلمنا الاستعمال في الأعم، وعدم رجوعه إلى الاستعمال في الصحيح، ولكن لا نسلم كونه من جهة الوضع، بل من جهة قيام القرينة الحالية
337

في مقام الإخبار، على أن المقصود بالإخبار عنها بيان حال الفاعل لها من تلبسه وتشاغله بها من غير تعرض لبيان الصحة والفساد.
وأما عن صحة التقسيم والاستثناء وحسن الاستفهام، فبمنع دلالتها على وضع المقسم والمستثنى منه والمستفهم عنه للعموم، بل غايته الاستعمال وهو أعم من الحقيقة والمجاز.
وأما عن أصالة كون ما يصح استعماله في شيئين، أو اتصافه بشيئين حقيقة في القدر المشترك فبأنه:
أولا: مشروط بثبوت الاستعمال في القدر المشترك على وجه الغلبة، أو على قدر المعتد به، ولم يثبت، والأصل عدمه.
وثانيا: أن الأصل على فرض وجود شرطه لا يقاوم الأدلة المذكورة.
وأما عن المقايسة فأولا: بمنع حصول الظن منه، فإن العقل لا مسرح له في إثبات التوقيفيات وهو معنى قولهم لا يثبت اللغات بالترجيح.
وثانيا: بأن مقايسة وضع المركبات الشرعية على وضع الأعلام الشخصية ليس بأولى من مقايسته على وضع سائر المركبات العرفية الموضوعة بإزاء التام وما يحذو حذوه في الخواص والمنفعة.
وثالثا: سلمنا، لكن القياس كالأصول لا يقاوم أدلتنا المذكورة.
ومنها: أنها لو كانت موضوعة للصحيحة لزم أن يكون متعلق النذر واليمين، فيما لو نذر أو حلف أن لا يصلي في مكان مرجوحه، هو الصلاة الصحيحة، والتالي باطل، فالمقدم مثله.
أما الملازمة فلأن التقدير وضعها للصحيحة، وأما بطلان اللازم، فلأن تعلق النذر واليمين بها يستلزم النهي عنها، وهو يستلزم فسادها، يستلزم عدم تعلق النذر واليمين بها، وعدم الحنث بفعلها، إذ التقدير تعلقها بالصحيحة لا غير، وهو باطل بالاتفاق، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.
والجواب عنه أولا: بالنقض بما لو قيد مورد النذر واليمين بالصحة، مع أن
338

مجرد عدم انعقاد النذر واليمين إلا برجحان المتعلق، وكون المقصود الانعتاق ()، قرينة كافية في انصراف إطلاق موردهما إلى الصحة.
ووجه نقضه به، أنه لو التزم حينئذ بعدم صحتها فيه، نظرا إلى انعقاد النذر أوردنا عليه ما أورد علينا من أنه كيف يتحقق الحنث بإيقاع ما ليس من أفراد المحلوف بتركه، ولو التزام بحصتها ومنع انعقاد النذر لاتجه لنا الالتزام به على التقدير الأول أيضا.
وثانيا: بالحل وهو أنه إن أريد من الصلاة الصحيحة اللازمة في مورد النذر واليمين تام الأجزاء والشرائط الأصلية، فبطلان التالي ممنوع، وإن أريد الأعم منه ومن المستجمع حتى للشروط اللاحقة من طرو النذر واليمين، فالملازمة ممنوعة، لأن المراد من الصحة المأخوذة قيدا في ألفاظ العبادات هي الحسن والمصلحة الواقعية الملزومة للأمر والمساوية له لو لا المانع الاختياري من النذر وشبهه، فالمراد من الصحيح في محل النزاع هو تام الأجزاء والشروط الأصلية، دون المستجمع حتى للشروط اللاحقة المنتزعة من طرو الموانع الاختيارية من النذر وشبهه، وعلى ذلك فيحنث الناذر بترك الصلاة في مكان مرجوح بفعله فيه وإن وقع فاسدا من جهة خصوص طرو النذر، لكونه من أفراد الصحيح المحلوف على تركه قبل طرو تلك الجهة الخاصة، كما يحنث الناذر بترك المكروهات، أو المباحات في يوم معلوم بإتيانه في ذلك اليوم مكروها، أو مباحا قبل النذر والحلف، مع أن المأتي به ليس من المكروهات والمباحات، ومع ذلك لا تجوز في لفظ المكروه ولا المباح المتعلق للنذر والحلف المفروضين، فكذا الحال فيما نحن فيه من العبادة المحلوف على تركها في المكان المرجوح.
نعم لو لم يتمكن الحالف من قصد القربة في إتيان العبادة المحلوف على تركها إلا مع زعمه عدم الفساد كان أثر النذر والحلف فيه مجرد الفساد من غير حنث، كما زعمه الفصول () رحمه الله.
339

ولكنه مدفوع بإمكان تحقق نية القربة من العالم بالفساد أيضا، كما لا يخفى.
وثالثا: سلمنا استعمال مورد النذر واليمين في الأعم من الصحيح والفاسد، ولكن الاستعمال أعم من الحقيقة، بل الدعوى المذكورة من بطلان اللازم واستحالة استعمال موردهما في الصحيح - على فرض تسليمها - قرينة تعيين المجازية فيه، على أن استعمال مورد النذر واليمين في الأعم يستلزم تعلقهما بقسميه من الصحيح والفاسد، فيعود الإشكال المذكور بالنسبة إلى تعلقهما بالصحيح إلا أن يقيد بالفاسد حذرا من التناقض.
ومنها: أنها لو كانت أسامي للصحيح للزم التفتيش عن صحة صلاة المصلي في إبراء الذمة بإعطائه شيئا من حقوق المصلين بالنذر وشبهه، وفي جواز الاقتداء به، ولو كان المصلي في أعلى مراتب العدالة.
أما الملازمة فلأن عدالة المصلي إنما تعصم من تعمده الإتيان بالفاسد.
وأما إتيانه بما يحكم المقتدي والناذر بصحته فلا.
وأما بطلان اللازم فلأنا لم نقف إلى الآن على من التزم بهذه التصفحات والتفتيشات وقال بتوقف البراءة عليها.
والجواب عنه أما إجمالا: فبأن اللازم المذكور مشترك الورود بين الصحيحي والأعمي، أما وروده على الصحيحي فلوضع مورد النذر واليمين لخصوص الصحيح، وأما على الأعمي فلانصراف مورد النذر إليه بقرينة عدم انعقاد النذر إلا بالراجح، ولا رجحان في غير الصحيح، وثبوت الإطلاق للأعمي لا يشخص موضوع صحة مورد النذر حتى يختص الصحيحي بالتفتيش في تشخيصه، بل الإطلاق الثابت للأعمي مستلزم لإبراء النذر بإعطاء المنذور لكل من صلى، ولو تبين فساد صلاته قبل الإعطاء، وهو من أقبح المفاسد اللازمة عليه.
والقول بأن القدر المعلوم خروجه عن مورد النذر - بقرينة عدم انعقاد النذر بغير الراجح - هو معلوم الفساد،
فيبقى غيره تحت الإطلاق، مدفوع بأن الباعث على خروج ذلك إنما هو فساده من غير مدخلية لنفس العلم فيه، وإنما العلم به طريق
340

إليه، فإذا لم يكن هناك طريق إلى ثبوت الفساد ولا الصحة وجب الوقف، لا الحكم بالصحة.
وأما تفصيلا، فأولا: بالنقض بأنه لو لزم التفتيش المذكور لتشخيص الصحة - على القول بالصحيح - للزم على القول بالأعم أيضا فيما لو نذر شيئا لمن يصلي صلاة واجبة أو مندوبة، ضرورة عدم اتصاف الفاسدة بشيء منهما مع أنا لم نقف على من التزم التفتيش فيه، ولا على من التزم التفصيل بينه وبين الصورة المتقدمة.
وثانيا: بالحل وقربه في الهداية.
أولا: بأن عدم التفتيش والبحث في المقامين إنما هو من مقتضيات أصالة صحة أفعال المسلمين المقررة في الشرع.
والقول بأن أقصى ما يقتضيه الأصل المذكور هو الحمل على الصحة عند العامل، لا الحامل، مدفوع بأن الذي يظهر من ملاحظة الطريقة الجارية هو الحمل على الصحة الواقعية.
كيف، ولو لا ذلك لم يقم للمسلمين سوق، لاختلافهم في أحكام الذبائح، والجلود، وغيرها، وكثير من العامة لا يشترطون الإسلام في المذكي ويحللون ذبائح أهل الكتاب، وجماعة منهم يقولون بطهر جلد الميت بالدباغ، فلو لم نقل بأصالة فعل المسلم على الصحة الواقعية لم يجز لنا أن نأخذ منهم شيئا من اللحوم والجلود مع عدم علمنا بحقيقة الحال، وهو خلاف الطريقة الجارية من لدن أعصار الأئمة عليهم السلام، بل يجري ذلك بالنسبة إلى أهل الحق أيضا، لاشتباه العوام في كثير من الأحكام، فيزعمون صحة ما هو فاسد عند العلماء، فإذا كان مفاد الأصل المذكور مجرد إفادة الصحة بزعم العامل، صعب الأمر جدا، ولم يمكن الحكم بصحة شيء من العقود والإيقاعات، ولم يجز أخذ شيء من اللحوم والجلود ولو من أهل الحق إلا بعد التجسس عما يعتقده ذلك الشخص، وهو مما يقتضي الضرورة بفساده.
وثانيا: سلمنا أن مقتضي الأصل هو الصحة عند الفاعل، لا الحامل،
341

لكن نقول: إن هذه الصحة وإن فرض مخالفتها للصحة الواقعية، إلا أنه بعد كونها تكليفا شرعيا وواقعيا ثانويا في حق معتقده من ملاحظة المقدمتين المشهورتين للمجتهد أو المقلد، لا يبعد شمول الصحة الواقعية لها، وإمضاء ترتب آثار الواقع الأولي عليه للغير.
نعم لو لم يكن تكليفا شرعيا ولا ثانويا في حقه، صح الحكم بفساده شرعا، كما في صلاة المخالفين وإن بذلوا جهدهم في تحصيل الحق، وقلنا بإمكان عدم الوصول حينئذ إلى الحق، إذ غاية الأمر حينئذ معذوريتهم في عدم الإتيان بما تعلق بهم من التكاليف الواقعية، وذلك لا يقضي بتعلق التكليف بالإتيان بما زعموه، كما هو الحال بالنسبة إلى سائر الأديان انتهى محصل جوابي صاحب الهداية، وقد وافقه على الأول منهما صاحب الفصول، والموائد، قدس سرهما.
ولكن لا يخفى ما فيهما من بعد الأول وأبعدية الثاني.
أما وجه بعد الأول، فلأن مفاد أصالة الصحة المقررة في الشرع لأفعال المسلمين:
إما إثبات حكم الصحة من الحلية والإباحة الظاهرية على أفعالهم المشتبهة من غير إثبات موضوع الصحة اللازم للحكم عقلا، لكون الملازمة من آثار الحكم الواقعي، لا الظاهري.
وإما إثبات حكم الصحة من الحلية والإباحة الظاهرية الملازمة لإثبات موضوع الصحة أيضا، دون إثبات موضوع الفعل وعنوانه اللازم للصحة عقلا، لكون الملازمة من آثار الصحة الواقعية لا الظاهرية وإما إثبات الصحة الواقعية الملازمة لموضوع الفعل أيضا، وأصالة الصحة بالمعنى الأول لا تعارض أصالة الفساد في المعاملات والعبادات المشتبهة صحتها، وبالمعنى الثاني وإن عارضه وكان حاكما عليه، إلا أنه لا يثبت موضوع الصلاة التي هي مورد النذر حتى يبرأ الناذر بإعطاء المنذور لفاعلها، فانحصر ابتناء الجواب المذكور على أصالة الصحة بالمعنى الثالث، وأنى له بتعيينه فيه، فإن أقصى
342

قوله عليه السلام (ضع أمر أخيك على أحسنه) () هو المعنى الثاني، أعني إثبات الصحة الظاهرية الغير الملازمة لإثبات موضوع الصلاة التي هي مورد النذر، لكون الملازمة من آثار الصحة الواقعية لا الظاهرية، فعاد الإشكال في إبراء الناذر بإعطاء المنذور لفاعل تلك الصلاة المشتبهة على القول بالصحيح.
نعم يندفع هذا الإشكال على القول بالأعم خاصة حيث أنه يحرز الموضوع بالإطلاق، والصحة بالأصل، وأما القائل بالصحيح فليس له إطلاق يحرز به الموضوع حتى يجديه الأصل، بل الألفاظ عنده مجملة.
واما وجه أبعدية الثاني: فلما سيأتي في محله من أن أقصى مفاد أدلة الاجتهاد إنما هو إمضاء الحكم المجتهد فيه بالنسبة إلى ذلك المجتهد ومن يقلده، فلا يتجاوز إلى الغير ولو قلنا بموضوعية ما في يد المجتهد من الطرق الظاهرية، فإن موضوعية ما في يده أيضا لا تتجاوز إلى غيره.
والتفرقة المذكورة بين خطأ اجتهاد أهل الحق وخطأ اجتهاد أهل الخلاف لا يرجع إلى محصل بعد فرض مساواتهما في القصور وعدم التقصير، فمعذورية المخطئ في اجتهاده من غير تقصير إنما ثبتت في حق نفسه ومن يقلده، ولا دليل على تجاوزها إلى الغير لا عقلا ولا شرعا، إن لم يكن الدليل على خلافه، ولا فرق في كون الخطأ من اجتهاد أهل الحق أو أهل الخلاف.
غاية الفرق أن يقال بترتب الأجر على اجتهاد أهل الحق مضافا إلى معذوريتهم في الخطأ دون ترتبه على اجتهاد أهل الخلاف بناء على اختصاص حديث (ان لله في كل واقعة حكما فمن أصابه فله أجران ومن لم يصبه فله أجر) بأهل الحق.
وحينئذ فالصواب في الجواب الحلي: أما في مسألة النذر، فبمنع ملازمة القول بالصحيح لوجوب التفتيش، بتقريب ان تعسر اطلاع أغلب الناس على مصداق الصلاة الصحيحة ولو عند الفاعل، وجريان طريقتهم، بل وطريقة الشارع على المسامحات، وعدم التدقيقات الموجبة للعسر والحرج، قرينة على أن مقصودهم
343

في موارد النذر واليمين مطلق ما يصدق معه الصلاة الصحيحة شرعا ولو في حق الغير، فإن مجرد ذلك كاف في الرجحان الشرعي المتوقف عليه انعقاد النذر واليمين.
مضافا إلى أن مجرد عدم تفتيش الناذر والحالف عن أحوال المصلي في إعطائه المنذور والمحلوف عليه كاف في قرينيته على ذلك بالنسبة إلى الحاكم، وأما بالنسبة إلى نفسه فلا نأبى من الالتزام بالرجوع إلى قصده فيما بينه وبين ربه، وبلزوم التفتيش عليه لو قصد الموضوع الخاص.
لا يقال: إن مطلق ما يصدق معه الصلاة الصحيحة شرعا معنى مجازي لا ينصرف إليه إطلاق مورد النذر.
لأنا نقول أولا: قد عرفت في مقدمات المسألة، أن الجامع الموضوع بإزائه ألفاظ العبادات عند الصحيحي ليس هو الصحيح الواقعي الأولي الثابت في كل واقعة في حق العالم والجاهل، بل هو أعم منه ومن الصحيح عند مجتهد، الفاسد عند آخر، بل ومن الصحيح في الأمم السالفة، الفاسد في هذه الأمة، كما نص عليه من
الصحيحيين صاحب الهداية والموائد.
وثانيا: سلمنا، لكن القرينة المذكورة من المسامحات وعدم التدقيقات الموجبة للعسر والحرج كافية في الانصراف.
وأما في مسألة الاقتداء به، فبمنع ملازمة القول بالصحيح لوجوب تفتيش المأموم عن صلاة الإمام في جواز الاقتداء به أيضا، بتقريب أن غلبة مراعاة أئمة الجماعات الاحتياط والآداب في الصلوات التي يقصدون فيها الإمامة موجب لاعتقاد المأمومين تطبيق الإمام صلاته على حسب معتقدهم في العمل وإن كان مخالفا لهم في القول، وهذا الاعتقاد الحاصل من الغلبة الثابتة في نوع الأئمة هو الباعث لعدم التفتيش عن حال صلواتهم لمن أراد الائتمام بهم، ولو أبيت عن حصول هذا الاعتقاد في خصوص بعض المقامات ()... على الركوع الزائد الفاسد بالنهي عنه، وهذا الإطلاق حقيقي لا صوري،
344

لعدم بطلان الصلاة بمجرد إيجاد صورة الركوع لأجل الهوي إلى السجود، أو أخذ شيء من الأرض.
والجواب عنه أولا: بخروج نحو الركوع والسجود عن أسماء العبادات، بل هي أسماء لأجزاء العبادات، ومن البين عدم تعلق أمر بالخصوص على أجزاء العبادات حتى يعتبر الصحة والفساد فيها من حيث هي.
وثانيا: سلمنا دخولها في أسماء العبادات، لكنها خارجة عن المعاني المستحدثة بتصرف الشارع، كالزيارة والدعاء وتلاوة القرآن ونحوها، من ألفاظ العبادات الباقية في معانيها الأصلية، واعتبر الشارع في صحتها شروطا خارجية، كألفاظ المعاملات.
وثالثا: سلمنا كل ذلك لكن استعمال الركوع في الركوع الزائد الفاسد إنما هو تبع لمعتقد عامله وقصد أنه من مصاديق الركوع، فيندرج في الحقيقة الادعائية.
ورابعا: سلمنا عدم التبعية في الاستعمال، لكن ومع ذلك الاستعمال أعم من الحقيقة لاحتمال المجازية.
ومنها: أنها لو كانت موضوعة للصحيح للزم من قوله عليه السلام (دعي الصلاة أيام أقرائك) ونحوها من جميع أقسام النهي عن العبادة واحد من المحاذير الثلاثة على سبيل منع الخلو:
إما دلالة النهي على الصحة من جهة المادة نظرا إلى امتناع تعلقه بغير المقدور وهو الصحيحة، ولا يقول به أحد من الفريقين سوى أبي حنيفة وصاحبيه.
وإما تخريج النهي عن حقيقته في الإنشاء إلى الإخبار، والإرشاد بمانعية الحيض، وشرطية خلوه في الصلاة، فيكون معنى (دعي الصلاة أيام أقرائك) لا صلاة أيام أقرائك، وهو من المجازات البعيدة، بل عديمة النظير.
وإما تخريج المنهي، وهو الصلاة عن حقيقته المفروضة، وهي الصحيحة إلى المجاز الراجح المساوي احتماله لاحتمال الحقيقة، فإن بيان نصف الفقه من الطهارة إلى الديات إنما هي بلفظ المناهي، فيلزم مجازية متعلق النهي في
345

جمع تلك المناهي، ولعله أبعد من سابقه، فيتعين كونها اسما للأعم حذرا من لزوم شيء من المحاذير المذكورة.
ويمكن للصحيحي الجواب أولا: بمنع استلزام الصحيحة لشيء من المحاذير المذكورة.
أما المحذور الأول، وهو دلالة النهي على الصحة في العبادات فلابتناء لزومه على امتناع تعلق النهي بالأعم من الصحيح والفاسد وهو ممنوع:
نقضا: بوقوع تعلقه بالأعم في جميع ألفاظ المعاملات بوفاق من الخصم، فلو لا جوازه لما وقع أصلا ورأسا، لعدم جواز تخصيص المانع العقلي من جوازه، وهو امتناع تعلق النهي بالممتنع وغير المقدور.
وحلا: بأن الممتنع هو تعلق النهي بغير الصحيح وغير المقدور قبل النهي، لا غير المقدور بعد النهي وبواسطة عروض النهي، وإلا لامتنع عروض الفساد على شيء من المناهي بتطرق النواهي حتى في مثل نكاح المحارم، وارتكاب الجرائم، ومن ذلك يعلم أن الصحة الاستصحابية والمقدورية القبلية كافية في صحة النهي قطعا وجزما.
وأما المحذور الثاني، وهو لزوم تجريد النواهي عن الإنشاء إلى الإخبار عن نفي الماهية أو الصحة أو الكمال، فلابتنائه على القول بعدم اجتماع الإرشاد مع الطلب، ولا مانع من اجتماعهما عندنا في الإلزامات الإرشادية، بل لو سلمنا كونهما مانعتي الجمع، كما عن الفصول، فلا نسلم بطلان ما زعمه المستدل من المحذور اللازم، وهو تجريد النواهي عن الطلب، لمنع كونه من المجازات البعيدة العديمة النظير، لكفاية الإرشاديات له نظيرا على زعم من زعم عدم اجتماعها مع الطلب.
وأما المحذور الثالث، فكذلك ممنوع اللزوم أولا، وممنوع البطلان ثانيا، فإن تعلق النواهي بغير الصحيح من أول الفقه إلى آخره ليس بأكثر من استعمالها في التنزيه والكراهة ونحوهما من المعاني المجازية كما لا يخفى.
346

ومنها أنها لو كانت أسامي للصحيحة للزم أن يكون لكل صلاة ماهيات متكثرة بحسب اختلاف أحوال المكلفين، كالحاضر، والمسافر، والحافظ، والناسي، والشاك، والصحيح، والمريض، والمضطر، والآمن، والخائف إلى غير ذلك مع اشتمال كل واحد من هذه الأقسام على أقسام عديدة، أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فلاستلزامه - على القول بثبوت الحقيقة الشرعية - تعدد وضع الصلاة مثلا إلى مالا يحصى، وعلى القول بالعدم استعمال لفظ الصلاة مثلا في أكثر من معنى مجازي في إطلاق واحد.
والجواب عنه أنه إن أريد لزوم ماهيات متعددة على وجه الاستقلال، فالملازمة ممنوعة بما عرفت في مقدمات المسألة من إمكان فرض جامع مشترك بين أفراد الصلاة الصحيحة، المختلفة بحسب اختلاف أحوال المكلفين وهو المصلحة المحصلة للتقرب، الملزومة للطلب، المختلف باختلاف
أحوال المكلفين، المساوية له، فيكون الزيادات والنقيصات على القول بالصحيح أيضا من طوارئ الماهية وعوارضها، ولا اختلاف في الماهية بحسب اختلافها.
وإن أريد لزوم ماهيات متعددة على وجه البدلية عما هو المعتبر في حق المختار المستجمع لجميع الشرائط، والفاقد لجميع الموانع، فبطلان اللازم ممنوع، لعدم استلزام تعدد ماهية العبادة على وجه البدلية لتعدد الوضع، أو استعمال اللفظ في أكثر من معنى مجازي، وذلك لإمكان اندراج الأبدال في مصداق المبدل منه كاندراج الحقائق الادعائية والزعمية في مصاديق الحقائق.
ومنها: أنها لو كانت موضوعة لخصوص الصحيحة لزم دخول وصف الصحة في مفاهيمها، وهو باطل لاستلزامه الدور، وتكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلقة بها، لتوقف الطلب حينئذ على الصحة، والصحة على الطلب.
والجواب عنه بمنع الملازمة بما تقدم في المقدمات من أن المراد [من] () الصحة المأخوذة في مسمى الألفاظ ليست هي الصحة المصطلحة عند المتكلمين
347

والفقهاء من موافقة الأمر أو إسقاط القضاء حتى يستلزم ما ذكر، بل هي الصحة اللغوية المقابلة للمعيوب،
أعني تام الأجزاء والشروط حسبما عرفت.
ومنها: أنها لو كانت موضوعة للصحيح للزم أن يدل النهي على صحتها، والتالي باطل، فالمقدم مثله إلى غير ذلك من الوجوه التي استقصى تفصيلها وتفصيل ما فيها كتاب الهداية.
حجة القول بالتفصيل بين الأجزاء والشروط
أما في اعتبار الأجزاء فبظهور عدم تحقق الكل مع انتفاء الجزء، فإذا تحققت الجزئية لم يعقل صدق الكل حقيقة بدونه، وأما في عدم اعتبار الشروط فبظهور خروج الشروط عن ماهية المشروط، كيف، ولو لا ذلك لما تحقق فرق بين الجزء والشرط، وامتناع وجود المشروط بدون الشرط لا يقتضي أخذه في مفهوم لفظ المشروط.
والجواب أما عن عدم إمكان تحقق الكل مع انتفاء الجزء، فبما مر في تصوير القول بالأعم، من إمكان منع كون الأجزاء الغير المقومة أجزاء لمطلق الصلاة، بل القدر الثابت كونها أجزاء للصلاة الصحيحة أولا.
ومن إمكان منع كونها أجزاء للصلاة مطلقا، بل القدر الثابت كونها اجزاء ما دامت موجودة، وإذا انعدمت لا ينعدم الاسم بانعدامها، نظير ما وقع في كثير من الأوضاع العرفية كلفظ البيت ونحوه، حسبما تقدم تفصيله ثانيا.
وأما عن خروج الشروط عن ماهية المشروط فبما تقدم من أن دخول التقيد بالشروط في مسمى اللفظ كاف في إثبات مذهب الصحيحي بالمعنى الأخص وإن خرجت نفس الشروط عنه، وفي هذا المقدار من الفرق بين الأجزاء والشروط كفاية واضحة كما لا يخفى.
حجة التفصيل بين لفظ الحج وسائر ألفاظ العبادات،
المستفاد من كلام الشهيد على تقدير إفادته له، هو وجوب المضي في فاسد الحج دون فاسد سائر العبادات.
وأنت خبير بأن وجوب المضي في فاسد الحج لا يقتضي كونه موضوعا
348

بإزاء الأعم، فإنه مع انتقاضه بفاسد الصوم حيث يجب المضي فيه مدفوع بعدم دليل على الملازمة.
تذنيب:
قال الشهيد (في القواعد) () الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود، لا تطلق على الفاسد إلا الحج، لوجوب المضي فيه، فلو حلف على ترك الصلاة، والصوم اكتفى بمسمى الصحة، وهو الدخول فيها، فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث، ويحتمل عدمه لأنها لا تسمى صلاة شرعا، ولا صوما مع الفساد، وأما لو تحرم في الصلاة، أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعا انتهى.
أقول: هذا الكلام منه موهم لأمور:
الأول: ما وقع فيه الفصول () وغيره، من نسبة التفصيل في المسألة بين الحج وسائر ألفاظ العبادات إلى الشهيد، والموهم لذلك من كلامه هو ظاهر نفي الإطلاق، وتفريع مسألة الحنث عليه.
ويدفع هذا الوهم أن تعليل الإطلاق بوجوب المضي قرينة لفظية على كون مراده الإطلاق على وجه المطلوبية، لا التسمية وأن أقربية شأن الشهيد سيما في القواعد إلى الاستقراء في المطلوبات الشرعية من الاستقراء في المسميات قرينة حالية على أن مراده ما ذكر، ومع قيام هذه القرينة الحالية والمقالية، لا وجه بل لا مسرح لإبقاء كلامه على ظاهره، من بيان حال التسمية، ثم توجه الإيراد عليه بعدم مساعدته التعليل، كما ارتكبه الفصول وغيره.
الثاني: ما وقع فيه القوانين ()، من نسبة القول بثبوت الحقيقة الشرعية في المعاملات إلى الشهيد رحمه الله ومن اختياره له، والموهم لذلك من كلامه هو المركب مما يوهم الأمر الأول، ومن أقربية عطف سائر العقود على الصلاة من عطفه على الماهيات الجعلية.
349

ويدفع هذا الوهم أولا: بقيام القرينة الحالية والمقالية المذكورة على دفع الجزء الأول مما يوهمه.
وثانيا: بقيام الدليل الخارجي على دفع الجزء الآخر مما يوهمه، بتقريب أن أقربية عطف سائر العقود على الصلاة من عطفه على الماهيات أقربية اعتبارية، لا ربط لها بدلالة الألفاظ التوقيفية.
مضافا إلى ما ادعاه الفصول ()، وأستاذنا العلامة من عدم الظفر بحكاية القول بثبوت الحقيقة الشرعية في المعاملات عن أحد، مع أن مجرد أصالة عدم النقل كافية في عدم ثبوته.
وأما ما ثبت لها في الشرع من شرائط مستحدثة، فإما خارجة عن معانيها شرعا ولغة، كما عليه المشهور، أو محققة لمعانيها اللغوية من الآثار، أو العقد المستتبع للآثار، كما عليه الفصول ()، وعلى أي من التقديرين فليست منقولة عن معانيها اللغوية إلى معان شرعية.
أما على الأول: فلخروج التقيد بها عن معانيها شرعا ولغة، أما لغة فظاهر، وأما شرعا فلدخوله في وصفها الخارجي، وهو الصحة، لا في ذاتها الشرعية، فإرادة الشارع المعاني المشروطة من ألفاظ المعاملات من قبيل الدالين والمدلولين لا دال ومدلول.
وأما على الثاني: فلدخول التقيد بها في معانيها اللغوية على الوجه الآتي بيانه.
الثالث: التفرقة بين ما إذا كان المركب من الأجزاء في حيز النفي وبين ما إذا كان في حيز الإثبات، والموهم لذلك صريح إفتائه بلزوم الحنث بمجرد الدخول على وجه الصحة في العبادة، المحلوف على تركها وإن أفسدها في البين، وعدم لزوم الإبراء بمجرد الدخول على وجه الصحة في العبادة المحلوف على إتيانها.
ويؤيد التفرقة المذكورة أمران:
350

أحدهما: افتراق الفعل في سياق النفي من الفعل في سياق الإثبات في الدلالة على العموم عرفا وعدمه.
ثانيهما: افتراق مقدمات الفعلية للحرام من المقدمات الفعلية للواجب في قيام الأدلة الأربعة على الحرمة في الأول، دون الوجوب في الثاني كما سيأتي تفصيله في محله.
وأما ما أورد في القوانين () من أن البناء على عموم سياق النفي يقتضي لزوم الحنث بمجرد الدخول في الفعل المحلوف على تركه ولو على وجه الفساد والمنع من الدخول، ومن المعلوم بل المصرح به في كلام الشهيد هو عدم حنثه في تلك الصورة قطعا، فمدفوع بأن القدر المعلوم خروجه عن مورد النذر بقرينة عدم انعقاد النذر بغير الراجح هو هذه الصورة، فيبقى غيرها تحت إطلاق النفي كما لا يخفى.
الرابع: من موهمات كلام الشهيد، ما وقع فيه صاحب القوانين () أيضا، من إجراء نزاع الصحيح والأعم في ألفاظ المعاملات أيضا، وعدم اختصاصه بألفاظ العبادات، ومن اختياره له.
والموهم لهذا الأمر من كلامه هو الموهم للأمر الأول، والدافع له هو الدافع له.
مضافا إلى أنه يكفي في دفعه، أنه لم يعهد القول بإجمال ألفاظ المعاملات عن أحد من العلماء، مع اتفاقهم على أن ثمرة نزاع الصحيح والأعم هو الإجمال والإطلاق، فعدم صدور القول بإجمال ألفاظ المعاملات عن أحد أقوى شاهد على عدم إجراء نزاع الصحيح والأعم في ألفاظ المعاملات، وعلى دفع كل ما يوهم جريانه فيها من كلام الشهيد، والمحقق ()، وغيرهما حيث قالوا: بانصراف البيع وسائر العقود إلى الصحيح، دون الفاسد، ومن
كلام الشهيد في المسالك () حيث قال: عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح، مجاز في الفاسد،
351

لوجود خواص الحقيقة والمجاز فيها، للتبادر في الصحيح، وصحة السلب عن الفاسد، ومن ثم حمل الإقرار به عليه حتى لو ادعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا، ومن كلام الفقهاء في مقام التحديد حيث قالوا: البيع مثلا لغة كذا، وشرعا كذا، إلى غير ذلك من الكلمات الموهمة إجراء نزاع الصحيح والأعم في المعاملات.
أما وجه الإيهام فلما فيها من إيهام استناد تبادر ألفاظ المعاملات في الصحيح، وانحصار مسمياتها فيه إلى تصرف الشارع، المنوط به عنوان مسألة الصحيح والأعم.
وأما وجه دفعه فأما على ما عليه المشهور - من أن الشروط المستحدثة من الشارع شروط لصحتها وإمضائها - فباستناد تبادرها وانحصار مسمياتها في الصحيح إلى أن الظاهر والغالب من حال المسلم وأهل الشرع في العقود والإيقاعات، إرادة الصحيح، لا الفاسد، أو إلى تصرف المتشرعة بنقلهم إياها إلى الصحيح، أو تغليبهم استعمالها في الصحيح.
وأما على ما عليه الفصول () - من أن الشروط المستحدثة من الشارع شروط لتحقق معانيها اللغوية - فباستناد تبادرها وانحصار مسمياتها في الصحيح إلى الوضع اللغوي لا إلى تصرف الشارع، لأن بيان الشارع الشروط حينئذ إنما هو لأجل الكشف عن المعاني الأصلية، إرشادا للعرف إليها ودفعا لخطئهم في مصاديقها، كما في تحديده الحيض بأن أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام، وغير ذلك من الألفاظ اللغوية التي بينها الشارع على وجه التنبيه والتعليم لمعانيها الأصلية لها بخواصها الشرعية، فهما واحد بالذات، مختلفان بالاعتبار، فمن حيث أنها متصورة بالوجه اللغوي لغوية، وبالوجه الشرعي شرعية، ولا استبعاد في خفاء بعض المعاني اللغوية وقواعدها على العرف، بل قد اتفق رجوعهم في معرفة بعض الألفاظ اللغوية وقواعدها إلى المعصوم عليه السلام، في حكايات لم يحضرني الآن مظان تفصيلها من كتب التواريخ واللغة، كما لا يخفى على المتدرب فيها.
352

بقي الكلام في الفرق والثمرة بين الصحيح والأعم:
فنقول: إن بينهما فرقا موضوعيا وفرق حكميا.
أما الفرق الموضوعي ففي استلزام القول بالصحيح لإجمال اللفظ، واقتضاء القول بالأعم لبيانه وإطلاقه، ما لم يطرأ عليه الإجمال العرضي، كالتقييد بالمجمل، أو ورود الإطلاق مورد حكم آخر، أو نحو ذلك مما يسقط اعتبار إطلاق اللفظ ويلحقه بالمجمل في الحكم.
وأما الفرق الحكمي بينهما، فيظهر في المشكوك جزئيته وشرطيته، حيث أن كل من قولي الصحيح والأعم يستلزم وجوب الإتيان به على وجه، وعدم وجوب الإتيان به على وجه آخر.
وتفصيل ذلك أن يقال: أما القول بالصحيح فيستلزم وجوب الإتيان به من باب الاحتياط، بناء على رجوع مسألة الشك في الشرطية والجزئية إلى مسألة الشك في المصداق والمكلف به، وعدم وجوب الإتيان به لأصالة البراءة، بناء على رجوعه إلى مسألة الشك في التكليف، كما هو المشهور المنصور.
وأما ما صدر عن صاحب الهداية () وغيره، من ترتب الاحتياط على القول بالصحيح مطلقا فمبني اما على مختاره، أو مختار من أخذ ذلك منه على وجه الاقتباس، من رجوع الشك في الشرطية والجزئية إلى الشك في المصداق لا المفهوم.
ولنا على تزييف مبناهم المذكور، أن المعيار المائز بين الشك في المصداق والمفهوم، كون الشك في المصداق ناشئا عن عروض الأمور الخارجية، كالظلمة ونحوها وفي المفهوم ناشئا عن الجهل بالمراد من اللفظ، ومن البين أن الشك في الشرطية والجزئية على القول بالصحيح ناشئ عن الجهل بالمراد، لا عن الأمور الخارجية، كالظلمة ونحوها حتى يكون من قبيل الشك في المصداق.
وأما القول بالأعم، فلا يستلزم وجوب الإتيان بالمشكوك جزئيته أو
353

شرطيته بأصالة الإطلاق، بناء على إحراز الأجزاء المقومة التي يتوقف عليها صدق الاسم بالدليل الاجتهادي، وبأصالة البراءة بناء على إحرازها بالبراءة، ويستلزم وجوب الإتيان بالمشكوك جزئيته أو شرطيته من باب الاحتياط، بناء على إحراز تلك الأجزاء التي يتوقف عليها صدق الاسم بالاحتياط.
وذلك لأن الأجزاء المقومة التي يتوقف عليها صدق الاسم، إن أحرزت بالدليل الاجتهادي حصل للفظ إطلاق وارد على البراءة عند الشك في سائر الأجزاء والشروط الغير المقومة، وإن أحرزت بالدليل الفقاهتي، كان المعول عليه عند الشك في سائر الأجزاء الغير المقومة هو ذلك الدليل الفقاهتي، إن كان هو البراءة فالبراءة، أو الاحتياط فالاحتياط، فإن صدق اللفظ وإطلاقه من الآثار الخارجية والواقعية التي ليس من شأن الدليل الفقاهتي إثباتها ولو كان الدليل الفقاهتي هو الاحتياط، ضرورة أن أثر الاحتياط، وهو الإتيان بجميع ما يحتمل اعتباره في الصدق، لا يجعل المحتمل جزئيته أو شرطيته جزء أو شرطا للماهية، كما توهمته في سابق الزمان تبعا لغيري.
هذا، وقد رتب على الإطلاق المبتني على القول بالأعم والإجمال المستلزم للقول بالصحيح أحكام أخرى.
منها: ترتب لزوم وقف المساجد على صلاة من لم يعلم فساد صلاته فيها بإذن الواقف، القائمة مقام القبض المتوقف عليه لزوم الأوقاف، بناء على القول بالأعم، وعدم ترتب لزومه عليه ما لم يتفتش عن صحة صلاته، بناء على القول بالصحيح.
فإن قلت: إن للقائل بالصحيح أن يحرز الصحة بقاعدة حمل أفعال المسلمين على الصحة، فلا احتياج له بالتزام التفتيش حتى يفترق بينه وبين القائل بالأعم.
قلت: قد تقدم أن قاعدة الحمل على الصحة لا يستلزم تحقق موضوع الصلاتية إذا كان مستندها الأخبار الشرعية، دون العقل والغلبة الظنية الغير الثابتة الحجية إلا أن يدعى بأن لزوم وقف المساجد غير مبتن على تحقق موضوع
354

الصلاة فيها بإذن الواقف، بل يكفي في لزومه مجرد أن يتحقق فيها بإذن الواقف صلاة مشروعة ولو في حق بعض دون بعض، كما ادعاه الأستاذ دام ظله إلا أنه لم يأت له ببينة وبرهان.
ومنها: ترتب جواز الاقتداء بكل من لم يعلم فساد صلاته، وجواز إعطائه الحق المنذور للمصلين على القول بالأعم، وعدم جوازهما إلا بعد التفتيش عن صحة صلاته في الواقع على القول بالصحيح، وقد مر تفصيل منع ترتب هذين الحكمين على القولين المذكورين، فلا نطيل بالإعادة.
ومنها: ترتب الفرق والثمرة الحكمية بين قولي الصحيح والأعم في بعض صور الواجب المشكوك نفسيته وغيريته.
وتفصيل ذلك: أن المشكوك إما معلوم الوجوب ومشكوك النفسية والغيرية كوجوب غسل الميت، أو معلوم الوجوب نفسا ومشكوك الغيرية باعتبار آخر، كوجوب الإسلام، أو بالعكس كوجوب الوضوء وغسل الجنابة.
أما المشكوك في القسم الأول: فيحمل على النفسي، بناء على القول بالأعم لأصالة الإطلاق وعدم التقييد.
لا يقال: إن الأصل المثبت غير حجة.
لأنا نقول: عدم حجية الأصل المثبت إنما هو في الأصول العملية التي مستندها الأخبار التعبدية، وأصالة الإطلاق وعدم التقييد من الأصول اللفظية التي مستندها الظن والغلبة.
وأما بناء على القول بالصحيح، فإن قلنا بلزوم الاحتياط في مسألة الشك في الشرطية والجزئية، بني على الغيرية، بمقتضى الاحتياط وأصالة البراءة عن النفسية.
وإن قلنا بالبراءة في تلك المسألة، كما هو المختار، فقد يقال بالاحتياط ها هنا، نظرا إلى استلزام العمل - بمقتضى البراءة عن الغيرية وبمقتضى البراءة عن النفسية - لمخالفة العلم الإجمالي، فلا بد من الرجوع إلى قاعدة الاحتياط بعد تساقط الأصلين المتعارضين، وعدم المرجح بينهما.
355

ولكنه مدفوع: بأن العقل لا يحكم بحرمة مخالفة العلم الإجمالي إلا إذا استلزم مخالفة خطاب تفصيلي، كما في الشبهات الموضوعية على ما هو المختار، ومخالفة العلم الإجمالي الحاصل من إعمال الأصلين فيما نحن فيه لا يستلزم مخالفة خطاب تفصيلي، إذ المراد من الخطاب التفصيلي تعلق الأمر، أو النهي بعنوان خاص، كاجتنب عن النجس والحرام في الشبهات الموضوعية، وليس فيما نحن فيه تعلق خطاب بعنوان النفسية أو الغيرية بالخصوص، وإنما هو بالانتزاع.
فظهر من ذلك أن ليس في الشبهات الحكمية خطاب تفصيلي أبدا، فيجوز فيها مخالفة العلم الإجمالي بإجراء البراءة عن غيرية المشكوك الموجبة لعدم وجوب إتيانه في أول الوقت، وبإجراء البراءة عن نفسيته الموجبة لعدم وجوب إتيانه في آخر أوقات الإمكان المظنون فيه الموت.
وأما المشكوك في القسم الثاني: أعني معلوم الوجوب نفسا ومشكوك الغيرية باعتبار زائد وعدمه، فيحمل على عدم الغيرية، بناء على القول بالأعم لأصالة الإطلاق وعدم التقييد.
وأما بناء على القول بالصحيح، فيبنى فيه على الغيرية أيضا، بناء على القول بالاحتياط في مسألة الشك في الشرطية، وعلى العدم بناء على القول بالبراءة فيها، كما هو المختار.
وأما المشكوك في القسم الثالث: أعني معلوم الوجوب غيرا ومشكوك النفسية وعدمه، فيبنى فيه على العدم سواء فيه القول بالصحيح والأعم، لمجرى البراءة عند الشك في التكليف إلا عند بعض الأخبارية البانين على الاحتياط في صورة الدوران بين الوجوب وعدمه.
ومنها: ترتب الفرق والثمرة الحكمية بين قولي الصحيح والأعم في بعض صور المشكوك كونه شرطا علميا، أو واقعيا، حيث إن الشرطية إن ثبتت بالدليل اللبي اقتصر فيه على الشرطية حال العلم، بناء على القول بالأعم، لأصالة الإطلاق وعدم التقييد بأزيد من حال العلم.
وأما على القول بالصحيح، فإن قلنا بلزوم الاحتياط في مسألة الشك في
356

الشرطية بنى على الشرط الواقعي، للاحتياط.
وإن قلنا بالبراءة فيه، كما هو المختار، بنى على الشرط العلمي، لكن لأصالة البراءة، لا لأصالة الإطلاق، إذ لا إطلاق للصحيحي.
وإن ثبتت الشرطية بالدليل اللفظي بنى فيه على الشرط الواقعي مطلقا.
أما على القول بالأعم، فلحكومة إطلاق الشرط الشامل لحال العلم والجهل على إطلاق المشروط المبتني على القول بالأعم.
وأما على القول بالصحيح فللأولوية وسلامة إطلاق الشرط عن شائبة إطلاق المشروط.
وعلى هذا القياس والتفصيل يظهر الفرق والثمرة الحكمية بين قولي الصحيح والأعم، في المشكوك كونه شرطا أو جزء في حال الاختيار فقط، أو في حال الاختيار والاضطرار معا.
وتظهر الثمرة بين الحالين في سقوط أصل التكليف بالمشروط عند عدم التمكن من الشرط وعدمه.
ثم إن الحكم في الجزء المشكوك ركنيته وعدم ركنيته قيل كالحكم في المشكوك كونه شرطا اختياريا، أو شرطا مطلقا في ترتب الفرق، والثمرة الحكمية بين قولي الصحيح والأعم إذا ثبتت الجزئية بالدليل اللبي، وعدم ترتبه عليها إذا ثبتت بالدليل اللفظي على حسب ما فصل.
ولكن التحقيق عدم ترتبه عليها مطلقا، أي سواء ثبتت الجزئية بالدليل اللفظي أو اللبي، وذلك لأن الركنية التي اصطلحها الفقهاء، فيما يبطل العبادة بنقصه عمدا وسهوا هي عين معنى الجزئية الحقيقية، وأما الجزئية التي اصطلحها في مقابل الركنية بما يبطل العبادة بنقصه عمدا لا سهوا، فهو تقييد في معنى الجزئية لا يحمل عليه إطلاقها إلا بالنص الخارج، كقوله عليه السلام (لا تعاد الصلاة إلا من خمسة الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود).
والحاصل أن السهو ليس كالاضطرار في إمكان إسقاط حكم الجزئية به، فإن السهو والنسيان لا يمكنه إسقاط الجزء عن الجزئية، والحكم بالإجزاء في المأتي به
357

ناقصا بعد الالتفات لنقصانه الا بنص خارج، بخلاف الاضطرار، فإنه يسقط الجزء عن الجزئية، ويحكم بإجزاء ما أتى به ناقصا، وعدم وجوب إعادته بعد رفع الاضطرار.
وبالجملة فالعلم والجهل لا يغيران الأحكام الواقعية، بخلاف القدرة والاضطرار، فإن الأحكام الواقعية تتغير بهما، كما تتغير بتغير موضوعاتها من السفر والحضر ونحوهما، وعلى ذلك فحكم الجزء المشكوك ركنيته وعدم ركنيته، هو الحمل على الركنية الموجبة لبطلان العبادة بنقصه عمدا وسهوا، سواء ثبتت الجزئية بدليل لبي أو لفظي مطلقا، أما على القول بالأعم فلحكومة معنى الجزئية على إطلاق العبادة، وأما على القول بالصحيح فبالأولوية وسلامة معنى الجزئية عن إطلاق العبادة.
ومنها: ما حكي عن بعض المتأخرين من ترتيبه حكمين آخرين على مسألة الصحيح والأعم، مدعيا أنه لم يسبقني إليهما أحد.
أحدهما: ترتيب عدم شرطية تقديم فعل المأمور به في صحة ضده الخاص من العبادات على القول بالأعم، ورجوعه إلى مسألة لزوم الاحتياط أو البراءة - في مسألة الشك في الشرطية والجزئية - على القول بالصحيح بناء على القول بالتوقف - في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص - وأما بناء على عدم التوقف - في تلك المسألة - فلا يترتب شيء على القولين.
ثانيهما: ترتب جواز اجتماع الأمر والنهي على القول بالأعم، وترتب النزاع في الجواز والعدم على القول بالصحيح، بتقريب أن النزاع في تلك المسألة لما كان مرجعه إلى النزاع في الصغرى، أعني النزاع في تعلق الطلب بالطبائع أو الأفراد، كان مقتضى الإطلاق المبتني على القول بالأعم هو تعلق الطلب بالطبائع، ومقتضى الإجمال المستلزم للقول بالصحيح، هو إمكان تعلقه بالأفراد وعدمه.
انتهى.
ولكن نقول: أما ترتيب الحكم الأول على قول الصحيح والأعم، فهو من جزئيات ما ذكرناه، تبعا لمن سبق - من ترتيب كلي الشك في الشرطية والجزئية عليهما، فليس مما لم يسبقه فيه أحد إلا في خصوص التمثيل بذلك المثال الجزئي.
358

وأما الحكم بترتيب جواز اجتماع الأمر والنهي على الإطلاق المبتني على القول بالأعم فممنوع، وذلك لعدم الخلاف ظاهرا في وجود المقتضي لجواز الاجتماع من الإطلاق على القول بالأعم، ومن الأصل على القول بالصحيح، وإنما الخلاف في وجود المانع العقلي من امتناع تعلق الطلب بالطبيعة وعدمه، حسبما يأتي تفصيله، وإذا ثبت المانع العقلي فلا يترتب على وجود المقتضي أثر، سواء كان المقتضي هو الإطلاق أو غيره.
هذا كله في الثمرات الحكمية المبتنية على الفرق الموضوعي، وهو الإجمال والإطلاق المترتبان على قولي الصحيح والأعم، من حيث الأجزاء والشروط، ومنها يعلم حال ما يترتب على قولي الصحيح والأعم من حيث الشروط، لا الأجزاء من ترتب الإجمال والإطلاق بالنسبة إلى الشروط لا الأجزاء المبتني عليهما جميع الثمرات الحكمية بالنسبة إلى الشروط، لا الأجزاء.
هذا كله مما لا إشكال فيه، إنما الإشكال في التعبير المائز بين مصداق الشرط عن مصداق الجزء من كلام الشارع، وإن علم من الخارج تحديد الشرط بما كان خارجا عن ماهية المشروط، والجزء بما كان داخلا فيه، إلا أنه لم يحصل من التعبيرات الواردة في ألفاظ الكتاب والسنة ما يفيد امتياز الشرطية عن الجزئية إلا من الخارج، حيث إنه كثيرا ما يعبر عن الشرطية والجزئية بتعبير واحد، كما في قوله عليه السلام (لا صلاة إلا بطهور) () و (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) () بل قد يعبر عن الجزء بما يقتضي الشرط، وعن الشرط بما يقتضي الجزء، إذ كما يمكن أن يقال: يجب الطمأنينة في القيام بعد الركوع، يمكن أن يقال: يجب المقدار الزائد عن تحقق طبيعة القيام بعد الركوع، فانحصر سبيل الامتياز بينهما في الخارج عن التعبير والثمرات المتوقفة على الامتياز، من جريان قاعدة الفراغ عند الشك، وغير ذلك مما لا يخفى.
359

ثم اعلم ان كل ما ذكرنا من الفروق الحكمية التكليفية أو الوضعية، بين قولي الصحيح والأعم إنما هي مبنية على تقدير بقاء الفرق الموضوعي بينهما بالإجمال والبيان، وأما بالنظر إلى زوال ذلك الفرق الموضوعي بينهما بواسطة عروض الموانع الخارجية على بيانها وإطلاقها، فلا شبهة في انتفاء الفروق الحكمية المذكورة طرا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الموانع التي ادعى طروها على اعتبار الإطلاق المبتني على القول بالأعم إذا أحرز صدق الاسم بالدليل الاجتهادي لا الفقاهتي كثيرة، إلا أن المرضي منها هو ما ارتضاه الأستاذ تبعا لأساتيذه الأعلام، من ورود إطلاق ألفاظ العبادات الواردة في الكتاب والسنة مورد حكم آخر، من بيان تشريع أصل العبادة، كقوله: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) () (وأمر بالعرف) () و (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ()، (ولله على الناس حج البيت) () نظير قول الطبيب للمريض: اشرب الدواء غدا، أو من بيان أصل ما يقتضيه الفعل من الخواص، والترك من المضار، كقوله صلى الله عليه وآله (الصلاة عمود الدين) ()، (وأن صلاة فريضة خير من عشرين أو ألف حجة) () (ومن تركها فهو كذا وكذا) () نظير توصيف الطبيب خواص الدواء إما قبل بيانه له حتى يكون إشارة إلى ما يفصله له حين العمل، وإما بعد البيان حتى يكون إشارة إلى المعهود المبين له في غير هذا الخطاب.
فالأوامر الواردة بالعبادة في الكتاب والسنة، ليست في مقام بيان الإطلاق وكيفية المأمور به، بل في مقام بيان حكم آخر من أحد الوجهين المذكورين
360

المنضم إلى إحدى الإشارتين المذكورتين، كما يؤيده كثرة تكرر الأمر بالعبادة في الكتاب والسنة، وكثرة طرو التقييدات عليه بعد مجلس الإطلاق.
ومن جملة الموانع المدعاة ما قد يقال: من أن العلم الإجمالي بأن المراد من الصلاة، ونحوها من مطلقات الكتاب والسنة شيء معين عند المتكلم يوجب إجمال المطلق، فلم يبق مسرح للتمسك بإطلاقها.
ولك أن تجيب عنه أولا: بالنقض بأن المراد من جميع الألفاظ الصادرة عن المتكلم شيء معين عنده من المعاني الحقيقية والمجازية.
وثانيا: بالحل، وهو أن إجمال الإرادة لا يوجب إجمال الدلالة بعد ثبوت ظهورها ولو بالأصل، كما أن إجمال الدلالة لا يوجب إجمال الإرادة بعد ظهورها، بل كل منهما يستتبع الآخر، فيرتفع بذلك إجماله إلا في صورة تساويهما في الإجمال.
ومن جملة الموانع: دعوى طرو التقييد على ألفاظ العبادات بالأجزاء والشروط الكثيرة، الموجبة لوهن إطلاقها، وسقوطه عن درجة الاعتبار، ومقتضاه رجوع القول بالأعم بالأخرة إلى إجراء حكم الإجمال، المستلزم للقول بالصحيح في مقام العمل، فلم يبق بينه وبين القول بالصحيح فرق سوى الإجمال الذاتي والعرضي.
وللأعمي أن يجيب أولا: بمنع الصغرى، أعني منع طرو التقييدات الكثيرة على جميعها، وان كان في بعض الألفاظ محتملا.
وثانيا: بمنع الكبرى، أعني منع مانعية طرو التقييدات الكثيرة عن الإطلاق، ووهنها فيه، وإن بلغت في الكثرة إلى حد لم يبق تحت الإطلاق سوى فرد واحد، بل الظاهر من أساتيذنا الأعلام دعوى الوفاق، على أن ذلك من فروق المطلق عن العام وأن كثرة التخصيصات موجبة للوهن في العموم، وكثرة التقييدات غير موجبة للوهن في الإطلاق، سيما على القول بأن المطلق حقيقة في المقيد، بل لو سلم الوهن فإنما هو في خصوص ما إذا بلغ التقييد في الكثرة إلى حد العجز عن إحصائه.
361

ومن جملة الموانع المدعاة ما يقال: من أن اعتبار إطلاق ألفاظ العبادات على القول بالأعم إنما هو فرع معرفة العرف بمعانيها، والمفروض عدم حصول معرفتهم بها حتى يجوز التمسك بإطلاقها.
وللأعمي أن يجيب بحصول معرفتهم بها بعد زمان الصادقين عليهم السلام، بل وقبله أيضا.
فإن قلت: إن حصول المعرفة بمعانيها في زمان الصادقين عليهم السلام لا يثمر جواز التمسك بإطلاقها في زمان الصدور.
قلت: حدوث حصول المعرفة بالمعنى الأعم بعد زمان الصدور بواسطة كثرة الاستعمال، أو بيان المعصومين عليهم السلام، ليس موجبا لحدوث صدق اللفظ في الأعم وإطلاقه فيه، بل إنما هو كاشف عن صدقه وإطلاقه فيه في زمان الصدور، وان لم يعرفه العرف في ذلك الزمان، مع أن التحقيق معرفتهم في زمان الصدور بمعنى الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، ونحوها من المعاني المشروعة في الأمم السابقة.
ومن جملة الموانع المدعاة دعوى طرو التشكيك على مصاديق مطلقات ألفاظ العبادة بواسطة غلبة استعمالها الشارع في الصحيحة، ومن المعلوم أن اعتبار الإطلاق فرع تواطؤ صدق المطلق على أفراده بالسوية وعدم طرو التشكيك عليه.
وللأعمي أن يجيب أولا: بمنع بلوغ الاستعمال في الصحيح إلى حد يوجب تشكيك المطلق، وانصرافه إلى الصحيح من غير قرينة، كما عرفت منه هذا المنع عند الاستدلال على مذهبه.
وثانيا: بدعوى حدوث تشكيكه الحاصل من غلبة الاستعمال في الصحيح بعد زمان الصدور بكثير، وهو لا يصلح للقدح في جواز التمسك بإطلاقها الثابت حين زمان الصدور.
ومن جملة الموانع دعوى طرو التقييد على إطلاقها بالأخبار
362

المجملة، من حيث اشتمالها على الأمر بافعال لم يتميز الواجب عن المندوب فيها، كقوله صلى الله عليه وآله (صلوا كما رأيتموني أصلي) () وقوله عليه السلام في صحيحة حماد (هكذا صلى) () مشيرا إلى فعله عليه السلام، وقوله عليه السلام (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) () مشيرا إلى فعله عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وآله (خذوا مناسككم عني) ().
وللأعمي أن يجيب أولا: بمنع طرو التقييد على الإطلاقات بالأخبار البيانية المذكورة.
وتفصيل هذا الجواب: أما عن قوله صلى الله عليه وآله (صلوا كما رأيتموني) فبأنه.
أولا: محتمل لمطلوبية مقدار ما يحصل معه التسمية مما رأوه، دون مطلوبية ما يزيد على المسمى مما هو غير معين، فيكون قوله (كما رأيتموني) بيانا لمسمى المطلق، لا تقييدا له بما هو مجمل.
ولكن هذا الجواب مبني على أن يكون صدور قوله عليه السلام (صلوا كما رأيتموني) واقعا في أوائل البعثة، ليكون من جملة التكاليف المبينة شيئا فشيئا، ولم يثبت وقوعه فيها، بل الثابت في صحيحة حماد وبيان الوضوء عدم الوقوع فيها، مع أنه لو ثبت وقوعه فيها، لكن لم يثبت وقوع التشريع في العبادة الارتباطية شيئا فشيئا، فإن القدر المتيقن ثبوته في العبادات الاستقلالية.
وثانيا: محتمل لأن يكون المراد الإخبار عن أن الملائكة صلوا في ليلة المعراج كما رأيتموني أصلي، فيكون صلوا فعل ماض لا أمر، كما يرشد إليه كونه في ذيل حكايات ليلة المعراج، ولكن لا مسرح لهذا الاحتمال في صحيحة حماد، وخبر
363

بيان الوضوء.
وثالثا: سلمنا، لكن المطلوب من تلك الأحاديث إن كان تطبيق عمل المصلي على عمله عليه السلام في جميع خصوصيات الحركة والسكون، والوقف والوصل، وغير ذلك من الكيفيات الخاصة المتعذرة للمكلف، فمن المعلوم امتناعه مطلقا سواء كان الطلب للوجوب أم للندب، وإن كان المطلوب وجوب التطبيق عليه بحسب القدرة والإمكان، فمن المعلوم منعه، للعلم الإجمالي باشتمال فعله عليه السلام على كثير من المستحبات، فلا وجه لوجوبها على المكلف، وإن كان المطلوب استحباب التطبيق عليه بحسب القدرة والإمكان، فمن المعلوم عدم لزوم الإتيان بمعلوم الاستحباب، فضلا عن مجهوله ومجمله.
ورابعا: بأن المراد من قوله صلى الله عليه وآله كما رأيتموني أو كما أصلي ليس التشبيه الحقيقي، بل هو للترغيب والتهييج، كقولك للمريض: اشرب الدواء كما أشرب أنا، ويقرب من ذلك قولهم (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم) فإن الكاف فيه ليس للتشبيه في جميع الخصوصيات، بل للتشبيه من جهة خاصة من الكيفية أو الكمية، ضرورة أفضلية المشبه من المشبه به.
وأما عن قوله صلى الله عليه وآله (خذوا مناسككم عني):
فأولا: بأن المقصود الأخذ بأحكام المناسك عنه، لا الأخذ بموضوعاتها عنه، سواء أريد من المنسك المذهب الذي يلزم العمل به، أو ما يختص بأفعال الحج وعباداته.
وثانيا: بأن المقصود من الأخذ عنه ردع الأخذ بالقياس، والاستحسان، وسائر المصالح المرسلة التي هي دأب المخالفين، لا ردع الأخذ بالإطلاق والظهور فإن الأخذ بهما أخذ عنه، لا عن غيره.
وثانيا: لو سلم الأعمي طرو التقييد بتلك الأخبار البيانية المجملة على الإطلاقات، لكن له أن يجيب برفع إجمال تلك الأخبار الواردة في بيان العبادة فعلا بالأخبار الأخرى الواردة في بيان العبادة تقريرا، كقوله عليه السلام (الوضوء
364

غسلتان ومسحتان) () وقوله عليه السلام (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) ()، و (لا صلاة إلا بطهور) ()، و (لا صلاة إلا إلى القبلة) () إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في بيان الشروط والأجزاء الظاهرة في الاقتصار المقتضي للانحصار.
ومن جملة الموانع أن ألفاظ العبادة وإن كان بالذات لها إطلاق من حيث الوضع للأعم من الصحيح والفاسد، إلا أن وقوعها عقيب الأمر والطلب قرينة صارفة عن إطلاقها، ومعينة لإرادة الصحيح منها، ضرورة أن الشارع لا يأمر إلا بالصحيح.
وللأعمي أن يجيب أولا: بالنقض، بألفاظ المعاملات، بل بجميع المطلقات الواقعة عقيب الأمر والطلب، كقوله تعالى (أوفوا بالعقود)، و (أحل الله البيع). و (أعتق رقبة) إلى غير ذلك، حيث اتفق سيرة الفقهاء وديدن العلماء على الأخذ بإطلاقها مع وقوعها عقيب الأمر والطلب.
وثانيا: بالحل، وهو أن معنى الصحة إما موافقة الأمر، كما هو مصطلح المتكلمين، أو إسقاط القضاء، كما هو مصطلح الفقهاء، أو مفهوم تام الأجزاء والشروط النفس الأمرية، أو مصداقه الحاصل من صدق اللفظ المقيد بالأجزاء والشروط المعلومة من الأدلة الخارجية، لا الواقعية.
إذا عرفت ذلك فنقول: وقوع المطلق عقيب الأمر والطلب لا يصلح قرينة لتقييده بالصحة بأحد المعنيين الأوليين، لما مر من تأخر الصحة بأحد المعنيين الأوليين عن الطلب بمرتبتين، والمتأخر عن الشيء يمتنع عقلا أخذه في عرض الشيء وقيدا للشيء، ولا لتقييده بالصحة بالمعنى الثالث، فإنه وان لم يمتنع عقلا إلا أنه يقبح عرفا، ضرورة استلزام التقييد بالمعنى الثالث، وهو مفهوم تام الأجزاء والشروط الواقعية لازدياد القيد، وإجماله الموجب لإجمال المقيد، وأصالة الإطلاق وعدم التقييد وغلبة البيان تدفعه، فإن قرينة وقوع المطلق عقيب الطلب لا يقتضي
365

أزيد من تقييده بالمعنى الرابع وهو مصداق تام الأجزاء والشروط، المعلومة من الأدلة الخارجية ومن الواضح أن مقتضى ذلك بيان القيد وإطلاق المقيد، لا إجمال القيد وإجمال المقيد كما توهم.
وبالجملة فقرينة وقوع المطلق عقيب الطلب إنما تصلح لصرف الإطلاق بمقدار ما علم التقييد به من الأدلة الخارجية لا لصرف الإطلاق بالكلية ().
وأما ما أورد على الثمرة على قول الأعمي فأمتنها أيضا وجهان: حاصلهما دعوى إجمال الخطاب على هذا القول أيضا فتنفى الثمرة.
أولهما: أن الألفاظ على هذا القول وان كانت مبينة ذاتا لكنها صارت مجملة لعارض، وتقرير الإجمال بوجهين:
الأول: أن تلك الألفاظ على هذا القول ظاهرة بالذات في الطبائع المطلقة، لكنا نقطع بخروج كثير من أفرادها
عن تحت الأوامر الشرعية، بل بخروج أكثرها إجمالا فإن أكثرها فاسدة وهو لا يريد الفاسدة قطعا، وليس في المقام ما دل على تعيين تلك الأفراد المخرجة فتشتبه بغيرها من أفراد الطبيعة، فتكون الخطابات مجملة من باب العرض لإجمال مصاديق موضوعها.
الثاني: أن تلك الألفاظ على هذا القول وان كانت بأنفسها ظاهرة في الطبيعة الأعم من الصحيحة، لكن مراد الشارع في أوامره هي الصحيحة لا غير باتفاق الفريقين، فعلى هذا يلزم إجمال مفهوم المأمور على هذا القول أيضا فانتفت الثمرة.
والجواب عن الوجه الأول: أن العلم الإجمالي بخروج بعض الأفراد عن تحت العام، أو المطلق إنما يوجب إجمالهما وسقوطهما عن الاستدلال إذا لم يعلم بعد الفحص عن مظان هذا البعض بعدة أفراد خارجة عن تحتهما تكون بمقدار المعلوم الإجمالي، وأما مع العلم التفصيلي بعد الفحص بتلك العدة الموافقة لعدد المعلوم
366

بالإجمال فلا وجه للتوقف عن الاستدلال بهما بالنسبة إلى سائر الأفراد المشكوك خروجها، فإن الشك حينئذ بالنسبة إلى ما بقي من المحتملات بدوي، ومعه لا وجه للمنع من التمسك بهما على عدم ورود التخصيص أو التقييد بالنسبة إليهما كما سيأتي بيانه.
فحينئذ فإن كان المراد أن ما نحن فيه، أعني ألفاظ العبادات الواقعة في حيز الأوامر الشرعية من قبيل الأول إما بعدم العلم التفصيلي بشيء من الأفراد المخرجة أصلا، وإما معه، لكن لا بما يطابق المعلوم الإجمالي فمنعه ظاهر.
ولو سلمنا فهو إنما في بعض الموارد، وأما في أكثرها فالظاهر أنها من قبيل الشق الثاني أي العلم التفصيلي بالعدة الموافقة للمعلوم.
وإن كان مراده حينئذ تسليم أنها من القسم الثاني، لكن يمنع من التمسك به حينئذ فقد عرفت ما فيه.
وعن الوجه الثاني: أن الأوصاف العارضة للفعل إما مما ينتزع من الحكم المتعلق به، ككونه مأمورا به، أو منهيا عنه، وإما من قبيل الأغراض والغايات الداعية إلى تعلق الحكم به، ككونه مقربا، أو خضوعا، أو مبعدا وموقعا للمفسدة، وإما مما يعتبر في موضوعيته للحكم شطرا أو شرطا، ككونه مع الجزء الفلاني أو الشرط كذلك، سواء كان من الأمور الوجودية كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، أو من العدمية كعدم وقوعها في المكان المغصوب مثلا.
لا ريب في امتناع تقييده في هذا الخطاب (1) بما يكون من القسم الأول عقلا، لاستلزامه الدور ضرورة توقف حصوله على ورود الحكم، فلا يعقل تعلقه بشيء لا يصير موضوعا له إلا بنفس ذلك الحكم.
واما القسم الثاني، وإن أمكن تقييده به عقلا إلا أنه ممتنع عرفا، لاستهجانه عندهم، نظرا إلى أنه إن كان سببا تاما لحصول الغاية فيلغى اعتبارها
(1) وإنما قيدنا الامتناع بكونه في هذا الخطاب لإمكان ذلك بخطاب آخر متأخر عنه وكلامنا مع المعترض في الخطابات الابتدائية، وأما تقييده بالقسم الثاني فهو ممتنع، عرفا مطلقا لما عرفت من الوجه. لمحرره عفا الله عنه.
367

معه، إذ بدون ذلك أيضا يحصل الغرض، وإن لم يكن تاما في حصولها فلا ينفع ذلك الاعتبار، لأن الغاية ليست من فعل المكلف، بل هي أثر فعله، بل لا بد حينئذ من اعتبار شيء آخر يتم به سببيته لحصولها فيلغى اعتبارها على هذا التقدير أيضا.
وكيف كان فلا يعقل الشك في أن الشارع مثلا هل اعتبر أحد هذين الوصفين في موضوع الخطاب أو لا، بل ينبغي القطع بعدم اعتبارهما.
مثال الأول، كأن يقول الشارع: (صل) مريدا بها الصلاة المأمور بها أو يقول (لا تشرب الخمر) مريدا بها الخمر المنهي عنها.
ومثال الثاني: كأن يقول (صل) مريدا بها الصلاة المقربة إلى حضرته أو الناهية عن الفحشاء، وكقول الطبيب: (كل السقمونيا) المسهل للصفراء، و (كل الرمان) المبرد.
واما القسم الثالث فهو مما يمكن فيه ذلك مطلقا فيمكن الشك في اعتباره في المأمور شطرا أو شرطا.
فحينئذ إن كان منشأ الشك اكتناف الخطاب واتصاله بشيء يمكن جعله قرينة على الاعتبار وإرادته من اللفظ في هذا الخطاب فيكون الخطاب مجملا، لسقوط اللفظ حينئذ عن الظهور العرفي الذي هو مناط الاعتبار في مطلق الظواهر اللفظية على المختار.
وإن كان منشأ الشك أمرا منفصلا عنه، من عقل، أو خطاب آخر، أو إجماع فهذا على ضربين:
الأول: أن يكون الشك بسبب هذا الأمر المنفصل من جهة الإجمال في مفهوم موضوع الحكم الذي دل عليه وهذا إنما يتصور في غير العقل.
الثاني: ان يكون الشك بسببه من جهة الأمر الخارجي.
فعلى الأول: لا ينبغي الشبهة في جواز الاستدلال بإطلاق هذا الخطاب، أو عمومه على نفي اعتبار المشكوك في موضوعه لعدم إيجاب ذلك سقوطه عن الظهور العرفي وهو الحجة.
368

بل ربما يجعل هذا الخطاب بظهوره قرينة على تعيين المراد في هذا الأمر المنفصل ورفع الإجمال عنه، كما إذا ورد (أكرم العلماء) ثم ورد (لا تكرم زيدا) وفرضنا أن زيدا مشترك بين شخصين، أحدهما من أفراد العالم والآخر من غيرها بأن يكون جاهلا مع عدم القرينة على التعيين، فإنه لا ينبغي التوقف عن التمسك بعموم العام على إثبات الحكم لزيد العالم أيضا بمجرد احتمال أن المراد من ذلك الخطاب المنفصل لعله زيد العالم، فيكون المراد بالعام غيره، فيكون موضوع الحكم مقيدا بكونه غير زيد.
وكذا الظاهر من العرف جعله قرينة على المراد من هذا المجمل، ولا بد من ذلك بعد اختيار أن الظواهر اللفظية انما اعتبرت من باب الكشف والطريقية ولو نوعا، كما هو المختار فإن كل ما اعتبر من هذه الحيثية فهو معتبر في جميع ما دل عليه مطابقة أو تضمنا أو التزاما، ولا ريب أن المفاد المطابقي للعام هو جميع الافراد التي منها زيد العالم، ولازم إرادة ذلك منه إرادة غير زيد العالم من الخطاب الآخر، وهو زيد الجاهل وإلا لزم التناقض.
وكذلك الحال فيما إذا كان الخطاب مطلقا، هذا إذا لم يعلم بتخصيص العام أو تقييد المطلق أصلا.
وأما إذا علم بأحدهما في الجملة وشك فيه بالنسبة إلى أزيد من القدر المعلوم، كما إذا علم بتقييد المطلق في قوله (صل بالطهارة بالنسبة إلى حال تيسرها، وشك فيه بالنسبة إلى حال التعسر نظرا إلى إجمال ما دل على اعتبارها بالنسبة إلى تلك الحالة، وكما إذا ورد (أكرم العلماء) وعلم بتخصيصه بالنسبة إلى مرتكبي الكبائر، وشك فيه بالنسبة إلى مرتكبي الصغائر لإجمال المخصص بالنسبة إليهم بان يكون من الألفاظ المجملة ذاتا أو لاكتنافها بما أوجب إجمالها، أو إجماعا () فالظاهر جواز التمسك بالعام والمطلق على نفي التقييد والتخصيص بالنسبة إلى مورد الشك، إذ الشك بالنسبة إليه بدوي، كما إذا لم يعلم بالتخصيص أصلا وهو لا
369

يوجب ارتفاع مناط الاستدلال، كما أشرنا إليه آنفا، فإن خروج بعض الأفراد عن أحدهما لا يوجب إجمالهما بالنسبة إلى أزيد، بل هما حينئذ أيضا ظاهران عرفا في غير معلوم الخروج، وهو الحجة.
نعم يشكل التمسك بناء على أن اعتبار الظواهر اللفظية من باب أصالة عدم القرينة، بمعنى أن أهل العرف بنوا على حمل الألفاظ على ظواهرها عند عدم القرينة، فيحملونها عليها عند الشك استصحابا لعدم القرينة، وهذا الاستصحاب غير جار في المقام، إذ خروج الأزيد من المعلوم لا يحتاج إلى قرينة أخرى غير ما قامت على إخراج الأقل، بل القرينة متحدة على التقديرين قطعا، فالقرينة الواحدة متيقنة الوجود والأزيد متيقنة العدم، فلم يبق للأصل المذكور مورد أصلا فلا وجه للتمسك بهما بالنسبة إلى الأزيد من المعلوم.
لكنا مستريحون عنه، فإن الظاهر أن اعتبار الظواهر من جهة الكشف والطريقية النوعية، كما أشرنا إليه لا للتعبد بعدم القرينة، وهذا المناط موجود فيما نحن فيه فعلا.
أقول: يمكن المناقشة على ما اخترنا أيضا بمنع ظهور اللفظ حينئذ في إرادة الأزيد، ضرورة أن الظهورات اللفظية إما أن تكون مستندة إلى الوضع، أو إلى القرينة المتصلة وكلاهما مفقود في المقام.
أما الثاني: فبالفرض، فإن المفروض دعوى ظهور العام والمطلق بأنفسهما في إرادة المشكوك.
وأما الأول: فلأن العام إنما كان موضوعا لجميع الأفراد، والمفروض عدم إرادة الجميع وليس له وضع آخر بالنسبة إلى ما بقي، وكذا الكلام في المطلق حيث أنه لم يوضع للأخص.
ويمكن دفعها عن العام، بأن الظاهر أنه وإن كان موضوعا لجميع الأفراد، إلا أنه في قوة قضايا جزئية ومنحل إليها، فأكرم العلماء في قوة أكرم زيدا وأكرم عمرا أكرم خالدا وهكذا، فدلالته على كل من الأفراد تكون بطريق الاستقلال، فخروج بعضها لا يسقط أثر الوضع عن الباقية، فيكون العام حينئذ
370

ظاهرا في إرادتها لأجل الوضع.
وأما المطلق، فلا يجري فيه الجواب بناء على أن الإطلاق ليس بسبب الوضع ومأخوذا فيه، بل بسبب حكم العقل، نظرا إلى تجريد اللفظ عن القيد مع تساوي أفراد الطبيعة في إيجادها، والمفروض ثبوت القيد في المقام وأن الطبيعة ليست مطلوبة بما هي.
ويمكن أن يجاب بأن المعلوم تقييدها ببعض الصور لكن اللفظ مجرد عن القيد بالنسبة إلى المشكوك، فيحكم العقل بالإطلاق بالنسبة إليه فتأمل.
وكذا على أن يكون الإطلاق بسبب الوضع ومأخوذا فيه، بل وجود الإشكال حينئذ أظهر فإن المقيد خارج عن الموضع له، فلم يكن اللفظ دالا عليه بسببه، ولا بالقرينة، كما هو المفروض.
والأولى أن يقال: الظاهر أن المطلقات موضوعة في الأصل لنفس الطبائع اللا بشرط، لكنها ظاهرة عرفا في جميع الأفراد بسبب تجريدها عن القيد، بمعنى أن التجريد عندهم قرينة عامة على إرادة الجميع كسائر القرائن العامة، فكأنها موضوعة عندهم بالوضع الثانوي لما ذكر، إلا أن دلالتها على جميع الأفراد بطريق التعيين إذا وقعت في حيز النفي، وبطريق البدلية إذا وقعت في حيز الإثبات.
ثم إن دلالتها على كل واحد من الأفراد بطريق الاستقلال، بمعنى أنها في قوة القضايا الجزئية، كالعمومات، فيكون الفرق بينها وبين العمومات أن دلالة هذه على الجميع بواسطة القرينة ودلالة تلك عليها بسبب الوضع.
وأيضا دلالة هذه تختلف باختلاف مواردها بالنفي والإثبات من حيث العينية والبدلية ودلالة تلك من باب العينية مطلقا.
فنقول: حينئذ أن المقتضي للدلالة على الإطلاق وهو التجريد عن القيد، موجود بالنسبة إلى ما لم يعلم خروجه من الأفراد، فيقتضي أثره وهو ظهور اللفظ فيما لم يقيدها بالنسبة إليه، وهذا الظهور مستند إلى القرينة، فاندفع الإشكال فتأمل.
ومن هنا يظهر أن التخيير بين أفراد المطلقات الواقعة في حيز الأوامر الشرعية شرعي لا عقلي.
371

هذا، وأما على الضرب الثاني: وهو ما كان الشك بسبب الأمر المنفصل من جهة الاشتباه الخارجي، كأن دل دليل شرعي عام أو مطلق على حكم لموضوع عام أو مطلق، ثم دل دليل آخر منفصل من عقل أو نقل أو إجماع على ثبوت نقيض ذلك الحكم لموضوع آخر عام أو مطلق، فشك في ثبوت الحكم في الدليل الشرعي لبعض أفراد موضوعه، من جهة الشك واحتمال أن يكون بعض أفراد موضوع ذلك الدليل المنفصل داخلا في جملة أفراد العام أو المطلق في الدليل الشرعي المذكور، ويكون بعض المذكور هو هذا الفرد.
فهاهنا مقامات ثلاثة:
الأول: أن لا يحصل القطع بالدخول أصلا، بل يكون مجرد الاحتمال.
الثاني: أن يعلم به إجمالا مع ان يجد بعد الفحص عن مظانه عدة من الأفراد الداخلة مطابقة لمقدار المعلوم بالإجمال.
الثالث: أن يعلم به لكن لم يجد بعد الفحص مقدارا مطابقا له، إما بعدم وجدانه شيئا أصلا، وإما معه لكن لا بمقداره.
أما مثال كل منها في العرف:
فللأول: أن يقول المولى لعبده: أضف الجار أو جيراني، ثم علم العبد من عقله أو من كلام آخر أنه لا يريد إضافة عدوه، لكن شك في أن بعض الجيران من أعدائه أو ليس أحد منهم عدوا له، فلذا شك في وجوب إضافة بعضهم لاحتمال كونه عدوا لمولاه.
وللثاني: المثال المذكور مع علم العبد بعداوة البعض المعين من الجيران والشك في عداوة غيره.
وللثالث: أيضا المثال المذكور مع علم العبد إجمالا بعداوة بعضهم، ولم يبين له ذلك البعض أصلا، أو لم يجد بمقدار المعلوم الإجمالي.
لا إشكال في البناء على العموم أو الإطلاق في هذا الخطاب في المقام الأول والثاني.
أما الأول: فلعدم معلومية أصل التخصيص، فالأصل عدمه.
372

واما الثاني: فلما مر في مثله أن الشك في الزائد عن القدر المعلوم إجمالا بدوي، فيدفع بالإطلاق أو العموم، فإن التخصيص كما أنه خلاف الأصل كذلك زيادته خلاف أصل آخر كما عرفت مفصلا.
وأما المقام الثالث: فلا بد من البناء على إجمال الخطاب جدا، فإن العموم والإطلاق مثبتان للحكم للمشكوك بعد إحراز كونه فردا من أحدهما، وأما إذا كان الحكم معلوما، فاشتبه بعض الأفراد ببعض، فلا معنى للتمسك بهما في تعيين الفرد.
لا يقال: يجب البناء على الإجمال في المقامين الأولين أيضا، لأن الواجب على الشارع كغيره من الموالي إنما هو مجرد بيان الحكم لموضوع يعلمه المكلف، وأما بيان حال مصاديق ذلك الموضوع فلا، والمفروض في المقامين أنه حكم - مثلا - بثبوت الحكم لموضوع مبين وهو الجيران - مثلا -، والمفروض أيضا العلم بحكمه بحكم آخر، وهو حرمة الإضافة - مثلا - بالنسبة إلى موضوع آخر وهو العدو، وإنما وقع الشك في التخصيص وعدمه بسبب الاشتباه الخارجي لا لإجمال أحد الخطابين، ولا يجب عليه بيان المشتبه الخارجي،
فلا يجب عليه نصب القرينة والمخصص على تقدير دخول بعض أفراد ذلك الدليل المنفصل في ذلك العام، وهو الجيران، فيصير عدم القرينة قطعيا على تقدير التخصيص وعدمه، فلا يجري أصالة عدمها المعلق عليها اعتبار الظواهر اللفظية، فلا يجوز التمسك بالعام لفقد منشأ اعتباره وهو جريان أصالة عدم المخصص فتأمل.
لأنا نقول: الإشكال بعد تماميته فهو إنما يرد على من يعمل بالظواهر اللفظية من باب أصالة عدم القرينة.
واما على ما نراه من أن العمل بها إنما هو من باب الكشف والظن النوعي، فلا ريب في وجود هذا المناط بالنسبة إلى عموم العام في قوله: أضف جيراني، أو الجيران، لظهوره في تعلق الحكم بجميع الجيران وإرادتهم من الخطاب، والمفروض أن المانع إنما هو كون بعض أفراده من مصاديق الدليل الآخر أيضا، فيجتمع الأمر والنهي فيرفع الأمر عنه، وهذا المعنى بالنظر إلى الفرد المشكوك غير
373

معلوم، فيتمسك بظهور العام، نظرا إلى أن أصل التخصيص كزيادته خلاف الظاهر من العام، فيطرح احتمالهما ويؤخذ بالحجة وهو ظهور العام، فيتمسك به على إثبات حكمه للفرد الذي فرض فرديته له، وإنما الشك في كونه فردا لعنوان آخر أولا.
فلا يرد أيضا أن هذا إثبات وتعيين الموضوع بالعموم، فإن كونه من أفراد موضوع العام معلوم، وإنما الشك في حكمه، فيتمسك على إثبات ذلك الحكم له بالعموم، وان كان منشأ الشك في ثبوت الحكم له الاشتباه الخارجي.
فإذا تمهدت هذه كلها فنقول: إن المراد بالصحيح - في قوله المعترض وهو أن المراد هو الصحيح باتفاق الفريقين - إن كان الموافق للأمر، كما فسره به بعضهم ونسبه إلى الاصطلاح، فقد عرفت أن كون الشيء مأمورا به أو موافقا للأمر من الأوصاف المنتزعة من الأمر، فلا يعقل إرادته مقيدا بهذا الوصف للدور، فلا يعقل الشك في عدم اعتباره.
وإن كان المراد به ما فسره به بعضهم واخترناه أيضا، وهو المقرب أو الخضوع وأمثال ذلك، فقد عرفت أنه يمتنع حينئذ تقييد المأمور به بهذا الوصف عرفا، فإنه من الغايات والأغراض، فلا يمكن إرادة هذا العنوان أيضا.
وإن كان المراد ما فسره به بعضهم، من أنه تام الأجزاء والشرائط فسلمنا أن مراد الشارع هذا، إذ لا محذور حينئذ، فإن التقييد بهذا الوصف، أعني تمامية الأجزاء والشرائط - ليس كالتقييد بأحد الأولين، فإنه من الصنف الثالث الذي يصلح لكونه قيدا عقلا وعرفا، فإن تقييد الصلاة بذلك معناه إرادتها مع جميع أجزائها من الأركان وغيرها والأذكار والشرائط، كاستقبال إلى القبلة والطهارة وهكذا.
لكن نقول: إنه على قول الأعمي لما كان اللفظ موضوعا للأعم، فعند وقوعه في حيز الأوامر الشرعية ظاهر في أن الشارع أراد نفس الطبيعة، والمفروض أنه إنما يريد تام الأجزاء والشرائط لا غير، فيكون اللفظ دالا التزاما على كون الطبيعة تامة الاجزاء والشرائط، ومجرد احتمال اعتبار شيء آخر فيه شطرا أو
374

شرطا لا يوجب انتفاء هذا الظهور، أو سقوطه عن الحجية والاعتبار، فعلى هذا القول تحرز الصحة من ظاهر اللفظ، وعلى القول الآخر فلا، بل لا بد من الإجمال كما عرفت.
وإن ادعى المعترض العلم الإجمالي في كافة الأوامر الشرعية باعتبار أمور شطرا أو شرطا في ماهيات العبادات المأمور بها، مع عدم العلم بخصوص تلك الأمور من جهة إجمال ما دل على اعتبارها مفهوما أو مصداقا، ومع عدم إمكان تحصيل العلم التفصيلي بالفحص بعدة أمور مطابقة للمعلوم الإجمالي، فتكون الخطابات بأسرها مجملة لذلك، حيث إن المعلوم حينئذ أن الشارع لم يرد تلك الماهيات بما هي، بل مع تقيدها بتلك الأمور المجملة التي لا نعرفها بعينها، فتكون الألفاظ مجملة من جهة المراد.
ففيه: منع ظاهر، بل أكثرها أو كثير منها يمكن فيها العلم بعدة أمور معتبرة فيها مطابقة للمعلوم الإجمالي، فبقي اعتبار الأزيد محلا للشك البدوي كما عرفت سابقا، فيمكن التمسك بإطلاق المأمور به بالنسبة إلى هذا المشكوك، ونفيه به نظرا إلى أن زيادة التقييد كأصله مخالفة للأصل، فلا تنتفي الثمرة على هذا القول.
وإن ادعى ذلك في بعضها، فهو لا يوجب صيرورة الثمرة كالمعدومة، لحصولها في غير هذا البعض مع كثيرة مواردها.
وإن ادعى منع التمسك بالإطلاق أو العموم، ولو بعد العلم التفصيلي بعدة مخصصات أو مقيدات، مطابقة للمعلوم الإجمالي بالنسبة إلى الأزيد المشكوك الثبوت.
ففيه: ما عرفته سابقا، من أنه لا وجه للتوقف عن الاستدلال بأحدهما حينئذ.
وإن ادعى أن مجرد الشك في اعتبار أمور في المأمور به، ولو مع عدم العلم الإجمالي يسقط إطلاقه، أو عمومه عن التمسك به.
ففساده أوضح من أن يذكر.
الثاني: من وجهي الإيراد على الثمرة على هذا القول، أن غاية ما لهؤلاء - أي القائلين بوضع تلك الألفاظ للأعم - تبين مفاهيم تلك الألفاظ بمعنى العلم بما
375

وضعت لها تفصيلا، لكن هذا المقدار لا يكفي في جواز التمسك بها على نفي محتمل الشرطية أو الجزئية عند إطلاقها، فإن من شرائط التمسك بالإطلاق ظهور الخطاب في بيان حكم المطلق، فإن المعتبر في المطلق الذي يتمسك بإطلاقه أمور ثلاثة:
أحدها: تبين المفهوم.
والثاني: تجريد اللفظ عن القيد.
والثالث: ظهور الكلام بسياقه في أن المقام لبيان حكم المطلق، لا لبيان حكم آخر، أو يظهر ذلك من قرينة أخرى غير سياق الكلام بحيث توجب ظهوره في إرادة الإطلاق.
وكيف كان، فلا بد مضافا إلى الأمرين الأولين من إحراز أن الخطاب في بيان حكم نفس المطلق، ونحن لم نظفر بعد على حصول الشرط الأخير في واحد من ألفاظ العبادات المأمور بها في خطابات الشارع.
بل الظاهر عدمه في جميع الموارد، فإن خطابات الشارع الواقعة فيها تلك الألفاظ كما يظهر للمتتبع إما مما يكون في مقام مجرد التشريع وجعل الحكم لتلك الماهيات في الجملة، بمعنى أن الغرض في قوله: (صل) اسماع المكلفين أن الوجوب ثابت للصلاة في الجملة، وليس في مقام تعيين أنها واجبة مطلقا، أو باعتبار بعض أفرادها، بل يكون غرضه هو مجرد التشريع والإسماع، ثم بيان موضوع هذا الحكم من أنه الطبيعة مطلقا، أو هي مع أمور أخرى فيما بعد.
وإما مما يكون للعهد، بمعنى أنه بين الأجزاء والشرائط، وعرفها المكلفين المشافهين، ثم قال: (صلوا) مثلا، فأحال بيان مراده منه إلى ما عرفه سابقا وأحاله إليه، فيكون قوله: (صلوا) من قبيل قول الوعاظ في حثهم على فعل الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، فإن غرضهم ليس الحث على فعل مطلق تلك العبادات، بل على فعل أفرادها الخاصة المعهودة منها عند الناس المعلومة لهم قبل ذلك، فلا يجوز لأحد أن يحتمل ذلك في
كلام الوعاظ، فكذلك فيما نحن فيه.
وكيف كان فليس لنا التمسك بإطلاق واحد من ألفاظ العبادات الواردة في خطابات الشارع لذلك، لاستلزامه إجمالها حينئذ من حيث المراد فلم يبق فرق
376

بين هذا القول وبين القول بوضعها للصحيحة في جهة الإجمال.
فلا بد على القولين، في مقام تشخيص أجزاء العبادات وشرائطها، من الرجوع إلى الآثار المأثورة من الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم خصوصا أو عموما المحكية بألفاظ العبادات، فإن الغالب في الآثار الواردة في بيان الأجزاء والشرائط كونها ظاهرة في مقام تشخيص تمام الأجزاء والشرائط، فيصح التمسك بإطلاقها أو عمومها فيما يحتمل جزئية شيء أو شرطيته.
هذا، والإنصاف أنه لا محيص عن هذا الإشكال، لصدق ما تضمنه من الدعوى من وقوع ألفاظ العبادات واردة في مقام حكم آخر غير الإطلاق، فتصير المسألة معه عديمة الثمرة.
ومما يشهد على صدق الدعوى المذكورة، امتناع حمل الألفاظ المذكورة إذا وردت في حيز الأوامر الشرعية على الطبائع المطلقة اللا بشرط، لاستلزامه تخصيص الأكثر أو تقييده، ضرورة أن أكثر أفرادها فاسدة وخارجة عن الخطابات جدا، فلا بد من حملها على المعهود، أو على كونها في مقام التشريع مع سكوتها عن أن المراد مطلق الطبيعة، أو بعض الأفراد فرارا عن هذا المحذور، فتدبر وأنصف.
ثم إنه قد يجعل من ثمرات المسألة أمران:
الأول: جواز إجراء الأصل في نفي الجزئية والشرطية عند الشك فيهما على القول بوضعها للأعم، والبناء على الاشتغال على القول بوضعها للصحيحة، بل ظاهر كلام بعضهم انحصار الثمرة في ذلك.
وكيف كان فعلل ذلك بعضهم، بأنه على قول الأعمي لما كان المسمى معلوما، فيصدق الإطاعة بالإتيان به ما لم يعلم بفساده واعتبار أمر زائد على القدر المعلوم، فله أن يرجع إلى الأصل بالنسبة إلى ما شك في اعتباره شرطا أو شطرا.
هذا بخلاف القول الآخر أي وضعها للصحيحة إذ عليه ليس في المقام مسمى معلوم حتى يأتي به ويكون شكه راجعا إلى أمر زائد عن حقيقة المسمى، لأن المطلوب والمسمى واحد على هذا القول، فيكون الشك في أحدهما شكا في الآخر، فلا يصدق الامتثال على فعل ما يعلمها من الاجزاء والشرائط، للشك في
377

كونها العبادة الفلانية، فإن الآتي بما يعلمها من أجزاء الصلاة وشرائطها على هذا القول يشك في أنه أتى بالصلاة أولا، إذا شك في اعتبار أمر زائد، وقد نشأ ذلك من بعض من تأخر عن المولى البهبهاني (قدس سره).
ولعله استنبطه من بعض كلمات المولى المذكور في حواشيه على المدارك (1)، حيث أنه (قدس سره) ذكر في طيها في موارد الشك في جزئية شيء أو شرطيته في العبادات أنه لو قلنا بأن ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة فالحكم الاشتغال، ويجب الاحتياط بإتيان جميع المحتملات، فزعم ذلك البعض من مفهوم هذا الكلام أنه على القول بوضعها للأعم، فالمرجع إلى أصالة العدم ونفى ما يحتمل دخليته في العبادة بها، أبي لكن الإنصاف: أنه اشتباه صدر من قلة التدبر في سائر كلماته (قدس سره) فإنه (قدس سره) لما كان مذهبه في مسألة إجمال النص - في مبحث البراءة والاحتياط - هو الاحتياط مطلقا (2)، وكان اللازم على القول بوضع تلك الألفاظ للصحيحة الإجمال فقال: إنه على هذا القول يجب الاحتياط لدخولها حينئذ فيما اختاره ثمة، وأما على القول الآخر لما كانت الألفاظ تختلف حالها بالنسبة إلى الموارد في التبين والإجمال - كما عرفت - فتكشف عن ذلك بالنسبة إلى هذا القول، وليس في مقام بيان أنه على هذا القول، فالمرجع هو أصالة العدم مطلقا.
ثم إن القول بالرجوع إلى أصالة العدم لا يتم على القول بوضعها للأعم مطلقا أيضا، فإن الظاهر من أصالة العدم هي البراءة الأصلية، ولا ريب أنها من الأصول العملية، ولا مرية أنه إذا كان للفظ إطلاق، فالمرجع هو أصالة الإطلاق التي هي من الأصول الاجتهادية في نفي ما يحتمل الجزئية - أو الشرطية، لا أصل البراءة، لأن الأصول العملية لا مجرى لها إذا كان في المقام دليل اجتهادي أو أصل
(1) مدارك الأحكام: 166 انظر حاشيته عليه عند قوله: والأصل إنما يجري إذا كان اسما لمطلق الأركان لا خصوص الصحيحة منها... وعند قوله: إلا ان يتمسك بالأصل فلم يكن الرواية دالة ومع ذلك انما يتم التمسك به إذا كان الصلاة اسما لمجرد الأركان لا خصوص الصحيحة وإلا لا شكل التمسك فتأمل.
(2) قولنا مطلقا أي سواء كان الإجمال من جهة المفهوم المأمور به أو من جهة إجمال مصداقه مقابل القول بالاحتياط في الصورة الثانية أي الإجمال في المصداق لمحرره عفا الله عنه.
378

كذلك، مخالفة كانت أم موافقة.
ويمكن توجيه كلام هذا القائل بأحد وجهين على سبيل منع الخلو:
الأول: أن يكون هو ممن يرد جريان الأصول العملية مع وجود غيرها من الأدلة والأصول الأجتهاديتين في صورة الموافقة، وتكونان أي الأدلة والأصول الأجتهاديتين عند المخالفة حاكمتين عليها [لا واردتين ()] - كما هو المختار عندنا - فيصح الرجوع بالنسبة إلى كل من هاتين ومن الأصول المذكورة.
الثاني: أن يكون مراده بأصل العدم أعم من أصالة البراءة بحيث يشمل أصالة العموم والإطلاق أيضا، فإنهما أيضا راجعان إلى أصالة عدم المخصص والمقيد، ولعل الثاني أوجه.
ثم إنه يرد على الثمرة (1) أن الرجوع إلى أصل العدم - على القول بالأعم - إنما يتم فيما إذا كان في المقام إطلاق لفظي، وأما إذا لم يكن، بأن لم يكن لفظ أصلا، أو كان ولم يظهر كونه في مقام بيان [حكم] المطلق، واحتمل وروده في مقام بيان حكم آخر، فصار مجملا لذلك، فحينئذ لا يقتضي القول بأعمية الموضوع له جواز الرجوع إلى الأصل في نفي المحتمل شرطيته أو جزئيته، إذ غايته معرفة معنى اللفظ، ولا مرية أنها بنفسها غير كافية فيما ذكر، بل لا بد معها من ظهور الكلام في إرادة هذا المعنى، والمفروض إجماله.
وكيف كان، فالأعمية غير فارقة في هذا المقام، بل الفارق حينئذ ما اختاره الشخص من المذهب في مسألة إجمال النص، فعلى هذا فربما يكون الأعمي اشتغاليا، والصحيحي برائيا، لعدم ابتناء تلك المسألة على هاتيك، فتنفى الثمرة رأسا، نظرا إلى أن صورة وجود الإطلاق اللفظي أيضا غير محتاجة إلى التمسك
(1) قال دام ظله وهذا التوجيه على فرض تماميته إشكال عظيم على المشهور لا يكاد يمكن دفعه، فإنهم قائلون بالصحيح ومع ذلك ذهب أكثرهم إلى البراءة في مقام الشك في الجزئية والشرطية، بل هذا إشكال على كافة المتقدمين حيث أن الظاهر اتفاقهم على هذا القول، أي القول بالصحيح مع ذهاب أكثرهم إلى البراءة فيما ذكر، لكن سيجيء إن شاء الله تعالى دفع هذا التوجيه وإبطاله منا، فيثبت به لنا حق عليهم جزانا الله عنهم خير الجزاء بمحمد وآله الطاهرين لمحرره عفا الله عنه.
379

بأصل البراءة على القول بالأعم، لكفاية إطلاق اللفظ حينئذ في المطلوب.
وربما يوجه بأن المراد ليس جواز الرجوع إلى أصالة البراءة مطلقا على قول الأعمي، بل المراد أنه على هذا القول يمكن إجراء الأصل المذكور في الجملة ولو في بعض الموارد، بخلاف القول بالصحيحي، فإن لازمه الحكم بالاشتغال والبناء على الاحتياط بإتيان جميع المحتملات، من مشكوك الشرطية أو الجزئية.
وذلك: لأن مفهوم المأمور به على القول بوضع الألفاظ للصحيحة يكون مبينا، ويرجع الشك في الجزئية والشرطية إلى الشك فيما يتحقق به هذا المفهوم المبين، فيجب فيه الاحتياط اتفاقا.
هذا بخلاف القول بوضعها للأعم، فإن الشك في الشرطية والجزئية على هذا القول، قد يرجع إلى الشك فيما يتحقق به المأمور به مع تبين مفهومه، وقد يرجع إلى الشك في مفهوم المأمور به، وقد اختلفوا في البناء على الاحتياط أو البراءة في الصورة الثانية، فذهب إلى كل فريق، فلا يلزم الاحتياط على هذا القول، بل يمكن البناء على البراءة لوجود القول بها حينئذ.
أما تبين مفهوم المأمور به على القول بالصحيح، فيفرض بوجهين:
الأول: أن يجعل المأمور به عبارة عن أمر مركب من الأجزاء الخارجية، صادق على جميع أفراد العبادات، فإن المركب منها وإن كان في نفسه مجملا إلا أنه يمكن تأويله إلى المسمى أي مسمى اللفظ، أو المراد منه، وكل منهما مفهوم مبين ومتحد مع الموضوع له على هذا القول، فيرجع الشك في اعتبار شيء فيهما إلى الشك فيما يتحققان به.
أما اتحاد الأول معه فلأن المراد بالأمر حينئذ عين معنى اللفظ.
وأما اتحاد الثاني معه فواضح.
أقول: الظاهر أن فرض مفهوم المأمور به عبارة عن المركب من الأجزاء الخارجية نظرا إلى جعل الصحيح عبارة عن تام الأجزاء والشرائط، فإن المسمى هو الصحيح، وإذا فرضنا كونه مركبا مما ذكر، فلا بد أن يكون هو هذا المعنى، وإنما لم يعبر بتام الأجزاء والشرائط، لأنه مفهوم مجمل باعتبار إجمال أجزائه
380

وشرائطه.
الثاني: أن يجعل عبارة عن معنى آخر (1) غير المركب من الأجزاء الخارجية، بحيث يكون الأجزاء الخارجية أجزاء لفرده لا لنفسه، ويكون ذلك المعنى صادقا على كافة الأفراد، فيجعل ذلك المعنى عبارة إما عن عنوان المقرب أو الخضوع، أو غير ذلك مما مر في أول المسألة في تصوير القدر المشترك على القول المذكور بعد إبطال جعله عبارة عن تام الأجزاء والشرائط، وكل واحد من تلك العناوين مفهوم مبين يرجع الشك في اعتبار شيء في تحققه إلى الشك فيما يتحقق به، لا في نفسه.
هذا وأنت خبير بما في هذا التوجيه من التكلف والتعسف.
أما على فرض جعل المأمور به عبارة عن الأمر المركب من الأجزاء الخارجية، فلامتناع جعله عبارة عن عنوان المراد من اللفظ، لاستحالة اعتبار هذا العنوان في الإرادة، لتوقفه عليها، فإن المعنى إنما يصير مرادا بعد الإرادة وينتزع اتصافه بكونه مرادا منها، فيمتنع اعتباره بهذا العنوان في الأمر.
مضافا إلى أنه على تقدير صحته يمكن فرض مثله للأعمي أيضا، إذ على ذلك القول أيضا المأمور به هو المراد لا غير، فينفى الفرق بين القولين.
وأما على فرض جعله عبارة عن عنوان المسمى، فهو وإن [كان] ممكنا في مقام الإرادة، ولا يمكن فرض مثله للأعمي، لأن المسمى عنده أعم من المأمور به، إلا أنه يلزم المجازية في اللفظ، ولا يلتزم به الصحيحي، إذ لا ريب أن لفظ العبادة موضوع لذات المعنى لا بعنوان كونه مسمي له، لاستحالة اعتبار هذا العنوان في مقام التسمية، لتوقفه عليها، فإذا فرضنا أن المراد به المعنى بعنوان كونه مسمى له، فقد استعمل في غير معناه، فيكون مجازا.
هذا مضافا إلى ما يرد على التقديرين بعد تسليم صحة الأول وحقيقة الثاني، من منع الاتفاق على وجوب الاحتياط فيما شك فيما يتحقق به المأمور به مع تبين مفهومه مطلقا، بل القدر المسلم إنما هو فيما إذا كان من المفاهيم المتأصلة أي
(1) بسيطا كان ذلك المعنى أو مركبا من الأجزاء العقلية لمحرره عفا الله عنه.
381

الغير المنتزعة من المأمور به.
وأما إذا كان منتزعا منه مع إجمال نفسه، كما فيما نحن فيه فممنوع، بل هذه الصورة داخلة في إجمال مفهوم المأمور به، لرجوع الشك إلى المفهوم حينئذ حقيقة، فيمكن حينئذ الرجوع إلى البراءة، بناء على القول بها في إجمال النص من جهة المفهوم في مبحث البراءة والاحتياط، لا أنه يلزم الاحتياط.
وأما على فرض جعله عبارة عن معنى غير مركب من الأجزاء الخارجية، فلأنه لم يعين أن هذا المعنى أي معنى من المعاني المذكورة، بل لا يمكن العلم به في العبادات، لعدم دليل على تعيينه فيها على أن يكون هو المأمور به في الواقع ويكون الأجزاء الخارجية أجزاء لفرده المحصل له خاصة.
فعلى هذا فالشك في جزئية شيء أو شرطيته للعبادة، وإن كان راجعا إلى ما يتحقق به المأمور به، إلا [أن] نفس المأمور به أيضا مجمل من جهتين:
الأولى: أنه مردد بين ما يكون محصله الأجزاء والشرائط المعلومة المعبر عنها بالأقل، بمعنى أنه يكفي الأقل في تحققه من غير حاجة إلى الإتيان بالأمر الزائد المشكوك الاعتبار شرطا أو شطرا، وبين ما يكون محصله الأكثر لا غير بحيث لا يكفي في تحققه الأقل.
الثانية: أنه مردد بين ما يكون يحصل شيء منه بإيجاد الأقل على تقدير أن يكون محصله بتمامه الأكثر، وبين ما لا يكون كذلك، بمعنى أنه على التقدير المذكور لو أتى بالأقل فقط لا يحصل شيء منه أصلا.
وذلك: لأنه لا ريب أن كل أقل إذا أتى به محصل ومصداق لعنوان مغاير للعنوان الذي يحصله ويصدق هو عليه لو أتى به مع أمر زائد يعبر عنهما بالأكثر، فيكون كل أقل وأكثر محصلا لعنوان مغاير لما يحصله الآخر ويصدق هو عليه، ولا مرية أيضا أنه قد تكون النسبة بين العنوانين المذكورين هي التباين الكلي، بمعنى أن كلا منهما معنى بسيط، ينحصر صدقه في واحد من الأقل والأكثر، بأن لا يكون الأقل محصلا لما يحصله الأكثر أصلا، وكذلك الأكثر، وقد تكون النسبة بينهما هي العموم المطلق، بمعنى أنهما من قبيل المطلق والمقيد،
382

فيكون الأقل محصلا لذات المقيد، والأمر الزائد محصلا لقيده، فعلى تقدير أن يكون المأمور به هو المعنى الذي يحصله الأكثر يكون الأقل محصلا لشيء منه في الجملة، كالرقبة والرقبة المؤمنة، حيث أن مطلق الرقبة ولو كانت كافرة محصلة للرقبة المقيدة في الجملة، إلا أن قيده الزائد يحصل بأمر زائد وهو الإيمان.
وكيف كان فالمعنى المأمور به المفروض بملاحظة جهتي الإجمال فيه يتردد بين احتمالين:
على أحدهما: يكون الشك فيه من قبيل الشك في المتباينين اللذين لا يجري فيهما الأصل، وذلك بناء على احتمال أن يكون المعلوم الإجمالي أمرا بسيطا مطلقا (1)، ولا يكفي في حصوله الأقل ولو في الجملة على تقدير كونه هو المعنى الذي يحصله الأكثر.
وعلى ثانيهما: يكون الشك فيه، من قبيل الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين اللذين يمكن فيهما إجراء الأصل بالنسبة إلى الأكثر، بمعنى أنه لم يثبت الاتفاق على وجوب الرجوع إلى الاحتياط فيهما، ولو في الأجزاء العقلية، كما فيما نحن فيه، بناء على هذا الاحتمال، فإن المطلق والمقيد من قبيل الأقل والأكثر بالنسبة إلى الأجزاء العقلية.
مضافا إلى ما اطلعنا عليه من القول من جماعة بالرجوع إلى البراءة الأصلية فيهما مطلقا، ومنهم الشيخ الأستاذ دام ظله والسيد الأستاذ أدام الله ظلاله.
ولا شبهة أنه إذا تردد المعلوم الإجمالي بين احتمالين، يجري الأصل فيه بالنسبة إلى الأمر الزائد المشكوك اعتباره على أحدهما، يجوز إجراؤه بالنسبة إلى الأمر المشكوك، فيجوز فيما نحن فيه لتردده بين الاحتمالين المذكورين إجراؤه، بناء، على جواز إجرائه في الأقل والأكثر الارتباطيين في الأجزاء العقلية، ويكفينا في المقام إمكان () هو كذلك، بمعنى أنه ممكن، لعدم ثبوت الاتفاق على لزوم
(1) أي سواء كان هو المعنى الذي يحصل بالأقل أو الذي يحصل بالأكثر. لمحرره عفى الله عنه.
383

الاحتياط حينئذ كما هو مراد الموجه.
مضافا إلى ثبوت القول به من جماعة من الأعلام، مع ذهاب بعضهم إلى كون الألفاظ المذكورة أسامي للصحيحة، كشيخنا الأستاذ دام ظله.
وكيف كان فلا ملازمة بين القول بذلك وبين الرجوع إلى الاحتياط، فإن جواز الرجوع إلى الأصل وعدمه في الصورة المذكورة ليس مبنيا على مسألة الصحيح والأعم، بل متفرعا على مسألة جواز الرجوع إليه في الأقل والأكثر الارتباطيين في الأجزاء العقلية، ورب صحيحي اختار جوازه، فحينئذ بطل دعوى الملازمة بين الاحتياط وبين القول المذكور في الفرض المذكور.
وحاصل ما ذكرنا من منع الملازمة حينئذ رجع إلى منع الصغرى التي ادعاها الموجه، وهي تبين مفهوم المأمور به، وأن مجرد الشك فيما يتحقق به لا يكفي في إثبات ما ذكره مع إجمال مفهومه أيضا.
والفرق بينهما أن الحجة قد تمت من قبل الشارع في الصورة الأولى بالنسبة إلى المأمور به المعلوم الإجمالي، حيث أنه لا يجب عليه إلا بيان ما أمر به تفصيلا، بحيث يحصل منه العلم به كذلك، كما في الصورة المذكورة، أو بيانه إجمالا، كما في المتباينين بأن يحصل منه العلم به كذلك، واما بيان الفرد المحصل له فلا، فيجب بحكم العقل الإتيان بجميع ما يحتمل مدخليته في حصوله، ليحصل القطع بالامتثال.
هذا بخلاف الصورة الثانية، لعدم تماميتها بالنسبة إلى الأمر الزائد المشكوك اعتباره بأحد من وجهي البيان.
أما الأول: فواضح.
وأما الثاني: فلانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي، وهو التكليف بالأقل، وشك بدوي، وهو التكليف بالزائد المشكوك، فإن الأقل مكلف به على جميع التقادير، فيكون متيقنا في المطلوبية ويكون هو واجبا على التفصيل، ولو من باب المقدمة، كما في الفرض المذكور، حيث إن المفروض أن المأمور به معنى يحصل بالأجزاء الخارجية وليست هي من أجزائه، بل هي مقدمة لحصوله، فيكون
384

احتمال وجوب الزائد شكا بدويا، كما في الأقل والأكثر الارتباطيين في الأجزاء الخارجية، فحينئذ فالذي يحكم به العقل، من لزوم الإتيان به هو الأقل، للقطع باستحقاق العقاب على تركه كائنا ما كان، لتمامية الحجة بالنسبة إليه، وأما الزائد عليه فيحكم بالبناء على عدمه، لعدم الحجة عليه.
فطن قيل: فرق بين ما نحن فيه وبين الأقل والأكثر الارتباطيين في الأجزاء الخارجية، فإنه لما كان المأمور به ثمة عبارة عن المركب من الأجزاء الخارجية، فيكون الأقل متيقنا في المطلوبية.
هذا بخلاف ما نحن فيه، فإن الأقل ليس هو المعلوم الإجمالي مطلقا قطعا، فإنه عبارة عن معنى يكون مقدمته ومحصله، هو أو الأكثر، فهو متيقن في المقدمية للمطلوب، لا في المطلوبية، ولا عبرة بكونه قدرا متيقنا من هذه الجهة، فيكون الحال فيما نحن فيه كالحال في المتباينين، فيجب الاحتياط.
قلنا: إن مناط تمامية الحجة عند العقل وعدمها ليس هو الوجوب النفسي وعدمه، بل إنما هو مطلق المطلوبية (1)، وهو ثابت للأقل فيما نحن فيه، كما اعترف به هذا القائل.
مع أنه لو لم يكتف به لزومه وجوب الاحتياط في الأجزاء الخارجية أيضا، ضرورة أن الأقل ثمة ليس متيقنا في الوجوب النفسي، بل أمره مردد بينه وبين الغيري، لاحتمال أن يكون الواقع هو المركب من الأكثر، فيكون هو جزء من المأمور به ومقدمة له، فيكون الحال ثمة أيضا من قبيل المتباينين، ولا ريب أن الالتزام به رجوع عما اعترف به جواز الرجوع ثمة إلى الأصل بالنسبة إلى الزائد.
وان كان ولا بد من المنع والإيراد فلا بد من منع الرجوع إليه ثمة أيضا، وعدم كفاية المطلوبية المرددة بين النفسية والغيرية.
هذا، ويمكن منع الملازمة المذكورة بأن المعنى المذكور في الفرض المسطور مع
(1) لم يتبين لي بعد كفاية القدر المتيقن في مطلق المطلوبية في جواز الرجوع إلى البراءة الأصلية بالنسبة إلى الزائد المشكوك في الأجزاء الخارجية مضافا إلى الأجزاء العقلية، بأن يكون ذلك فارقا عند العقل بين الأقل والأكثر الارتباطيين وملحقا لهما بالإستقلاليين وبين المتباينين. لمحرره عفا الله عنه.
385

تسليم تعينه وفرض تبينه يحتمل أن يكون حصوله متوقفا على قصد الوجه في أجزاء ما يتحقق به وتمييز واجباته عن غيرها، لثبوت القول به من جماعة، وتحصيل هذا الشرط في المقام متعذر، إذ المفروض الشك في الأجزاء والشرائط الواجبة واشتباهها بغيرها، ولا ريب أنه لو كان مقيدا بهذا الشرط في الواقع، لارتفع التكليف عنه بتعذر هذا القيد، إذ المفروض تقيد مطلوبيته به، فمع تعذره لا يعقل التكليف بتحصيله، فإذا ارتفع التكليف عنه فهو مستلزم لارتفاعه عن ذات الفعل أيضا، فهذا الاحتمال يوجب الشك في التكليف بالعبادة فعلا، ولا يبقى معه علم إجمالي بالتكليف، لاحتمال ارتفاعه رأسا، ومقتضى الأصل حينئذ الرجوع إلى البراءة الأصلية رأسا حتى بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط المعلومة وإن قلنا بوضع الألفاظ المذكورة للصحيحة، حيث أن وجوبها مقدمة يستلزم الشك في وجوب المعنى المذكور نفسا () الشك في وجوبها مقدمة أيضا إلا أن الإجماع والضرورة قد قاما على عدم جواز طرح التكاليف رأسا في مقام هذا الشك، والقدر المتيقن منهما إنما هو وجوب الإتيان بالأقل فبطل دعوى الملازمة المدعاة، بل ثبت عكسها ومثال ما نحن فيه ما إذا اضطر إنسان إلى ارتكاب أحد أطراف الشبهة المحصورة اضطرارا مجوزا لارتكابه المحرم، كالعطش المشرف للإهلاك لو لم يشرب فإنه يجوز له تناول كل ما شاء من تلك الأطراف.
أما في صورة اضطراره إلى ارتكاب أحدها بالخصوص، كما إذا كان عنده إناءان مع علمه بنجاسة أحدهما إجمالا، ويكون أحدهما مملؤا من الماء، والآخر من مائع آخر طاهر بالأصل، جائز الأكل كذلك، لكنه لا يرفع العطش مع كون الشخص عطشان عطشا أشرف إلى الإهلاك فواضح، حيث إنه يجوز له تناول كل منهما، أما تناول الماء فلأنه على فرض نجاسته فهو حلال له الآن شربه يقينا، وأما المائع الآخر فلاحتمال أن يكون النجس هو الماء المقطوع بعدم حرمته على فرض نجاسته، فيكون هو فعلا شاكا في وجوب الاجتناب عليه بالنسبة إلى المائع الآخر، لعدم العلم الإجمالي له حينئذ به.
386

وأما في صورة اضطراره إلى ارتكاب أحدها على البدل، بمعنى أنه يكفي في قضاء ضرورته كل من الأطراف، كإناءين مملوءين عنده من الماء مع عطشه المشرف معه على الهلاك مثلا، فلأنه لما لم يعلم بتمييز الحرام عن غيره، والمفروض اضطراره إلى ارتكاب أحد الأطراف فيجوز له تناول أيها شاء منها ابتداء وقضاء وطره () به، ولا يعقل بقاء التكليف لما ارتكبه لو كان هو الحرام، وأما الأطراف الأخرى، فيكون الشك فيها بدويا، لاحتمال أن يكون المحرم هو الذي تناوله أولا، فهو الآن شاك في أن عليه شيئا أو لا؟ وإن شئت قلت: إنه جاز له تناول الجميع على البدل في ابتداء الأمر، فبعد ارتكابه أحدها يشك في تنجيز شيء عليه أولا، فيرجع إلى البراءة.
هذا، ولكن الإنصاف عدم استقامة هذا الجواب:
أما أولا: فلمنع وجوب قصد الوجه، واشتراط العبادة به، والقطع بعدمه، سيما في صورة عدم التمكن منه.
وأما ثانيا: فبعد تسليم احتمال وجوبه مطلقا فالرجوع إلى البراءة إنما يتم إذا قلنا أن تعذر أحد قيود المأمور به يقتضي ارتفاع التكليف عنه رأسا، وأنه لو ثبت التكليف بعده بالأجزاء الباقية فهو تكليف وحكم جديد لموضوع
آخر، فيقتصر في خلاف الأصل على المتيقن منه.
لكنه خلاف التحقيق، بل الحق أن تعذر أحد القيود كتعسره بسقوط ذلك القيد وحده، لا مطلقا، بل يبقى التكليف بالأجزاء الباقية الميسورة على حاله، نظير بقائه في سائر أفعال الوضوء عند تعسر مباشرة الماسح للممسوح على حاله.
وعلى هذا فلا ريب أن القيد المتعذر فيما نحن فيه هو قصد الوجه، فهو الساقط على تقدير اعتباره، وأما غيره فيجب تحصيله ولو بالاحتياط، فيجب الإتيان بالأكثر لاحتمال كونه هو تمام الباقي.
387

ويمكن أن يقال: إن ذلك مسلم في المركبات الخارجية، حيث أن المقيد والقيد عندهم فيها كأنهما فعلان وواجبان مستقلان، فلذا يبنون على وجوب ذات المقيد عند تعذر قيده أو تعسره.
وأما في المركبات العقلية، كما فيما نحن فيه بناء على تقييد المعنى المذكور بالقيد المذكور فلا، فإنهما يعدان أمرا واحدا عندهم فإذا تعذر أو تعسر أحدهما فارتفع التكليف عنه لذلك، فيبنون على عدم التكليف رأسا، بحيث لو ثبت التكليف عندهم بالباقي، وهو ذات المقيد فيرونه تكليفا حادثا لموضوع آخر غير الأقل، لارتفاع الأقل بارتفاع قيده، لكونه معه واحدا، فعلى هذا فمع تسليم الاحتمال المذكور اتجه الجواب بذلك في الفرض المذكور فيه.
الأمر الثاني (): امتثال النذر والبرء منه على القول بأن الألفاظ أسام للأعم إذا نذر أن يعطي لمن صلى أو زكى أو حج مثلا درهما، ثم رأى أحدا يفعل صورة أحد هذه الأفعال وشك في صحة الفعل الصادر منه، فأعطاه الدرهم المنذور، وعدم حصول الامتثال حينئذ بذلك على القول الآخر، لعدم إحراز متعلق نذره أصلا حينئذ، إذ الشك في الصحة على هذا القول راجع إلى المسمى فيشك حينئذ في كون الصادر منه صلاة، هذا بخلاف القول بالأعم، فإن كونه صلاة محرز بالحس وموضوع نذره هو الصلاة، فتبرأ ذمته بإعطائه الدرهم إياه، وأما الشك في الصحة فهو يرجع إلى أمر خارج عن المسمى.
وفيه: أن النذر إنما يدور مدار قصد الناذر، إذ لا ريب أنه قد يكون النذر متعلقا بالصحيح مع كون الناذر أعميا، وقد يكون متعلقا بالأعم مع كونه صحيحا، ومجرد وجود المسمى للفظ عند الناذر لا يكفي في امتثال نذره، بل لا بد لكل ناذر من امتثال نذره على طبق مقصوده.
فنقول: حينئذ إن قصد الناذر إن تعلق بالصحيح فلا بد من إحرازه، ولو كان أعميا، فإنه لولاه يشك في كونه موضوعا لنذره، ولا يحصل الامتثال للنذر إلا بتحصيل ما يعلم أنه موضوعه، ومجرد كونه مسمى اللفظ من غير تعلق القصد
388

به غير كاف، فلا فرق حينئذ بين الصحيحي وبين الأعمي.
وإن قصد الأعم بمعنى الأمر الشامل لهذا الفعل الصادر من هذا الشخص وان لم يسم صلاة حقيقة عند القائلين بالصحيح، فيكفي إعطاؤه حينئذ ولو كان الناذر صحيحيا، إذ ليس عليه إلا امتثال النذر حسب ما قصد، والمفروض تعلق قصده بهذا الفعل لا بالمسمى.
وإن أطلق فإن قلنا بانصرافه إلى الصحيح بناء على وضع اللفظ للأعم، فينفى الفرق حينئذ أيضا ويكون الحال كما في الصورة الأولى، وإلا فنسلم أنه يحمل نذره على الأعم لو كان أعميا، أو على الصحيح لو كان صحيحيا، ويحصل الامتثال على الأول، ولا يحصل على الثاني.
لكن ذلك ليس حقيقة من ثمرات مسألتنا هنا، بل هو ثمرة مسألة أصالة الحقيقة، أي الأصل في الاستعمال الحقيقة.
وربما يقال علي تقدير تعلق النذر بالصحيح بتوجه القصد إليه بالخصوص أو بناء على انصراف المطلق إليه، إنه على القول بوضع الألفاظ للأعم فقد أحرز الناذر موضوع نذره في الجملة بالحس، ويكون شكه راجعا إلى قصد وصف زائد، وهو الصحة، فيمكن له إحرازه بأصالة الصحة، فيحصل الامتثال حينئذ بإعطائه الدرهم للشخص المذكور.
هذا بخلاف القول الآخر، إذ عليه يكون الشك في الصحة راجعا إلى الشك في المسمى، ومعه لا يعلم بكونه صلاة وكونه متعلقا لنذره في الجملة، فإن الصلاة على مذهبه ليس إلا الصحيح، فبدون إحراز وصف الصحة لا تحرز الصلاة ولو في الجملة، ولا ريب أنه لا يجوز إحرازه حينئذ بالأصل المذكور، فإن إحرازه عبارة أخرى عن إحراز الصلاة التي هي من الموضوعات، وليس شأن الأصول العملية إثباتها.
وفيه: أن الأصول العملية كما اعترف به ليس شأنها إثبات الموضوعات، لكن المراد بالموضوعات التي لا يثبت بها غير الأحكام، الأعم من الذوات والأوصاف لا خصوص الذوات، كما يتوهم، ولا إثبات غير الأحكام
389

الشرعية المجعولة من الشارع للشيء على تقدير كونه هو الواقع، ولذا لو نذر أن يتصدق كل يوم من أيام حياة ولده بدرهم، فشك يوما في حياته، فلا يجوز التمسك باستصحاب الحياة على المختار على وجوب التصدق عنه بالدرهم في ذلك اليوم، فإن موضوع نذره هو يوم الحياة، ولا ريب أن الاستصحاب لا يجعل هذا اليوم يوم حياته له ولا يثبته، وليس وجوب إعطاء الدرهم أيضا من الأحكام الشرعية المجعولة لحياة ولده، بل هو من الأحكام الثانوية التي أمضاها الشارع، فحينئذ نقول:
إن أصالة الصحة لا يجوز التمسك بها على إثبات وصف الصحة، ولا على وجوب إعطاء الدرهم، فإنه ليس من الأحكام الشرعية المجعولة من الشارع في الصلاة الصحيحة مثلا.
نعم نفي الفساد بمقتضى الأصل المذكور ولازمه العقلي الصحة، لكنه لا يثبت به أيضا فإنه بالنسبة إليه مثبت. فإذا تمهدت هذه المقدمات، فلنشرع في المقام بعون الله الملك العلام فنقول: المنسوب إليهم في المسألة أقوال:
ثالثها: التفصيل بين الشرائط وبين الأجزاء بمعنى كون ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة بالنسبة إلى الثانية وللأعم بالنسبة إلى الأولى، وأشهرها بل المجمع عليه ظاهرا بين القدماء (1) هو وضعها للصحيحة مطلقا.
واحتج لكل واحد من الأقوال بالتبادر، وبعدم صحة السلب عن الفاسدة مطلقا للقول بوضعها للأعم مطلقا، وبه بالنسبة إلى الفاقدة للشرائط للقول بالتفصيل، وبصحة السلب عن الفاسدة مطلقا للقول بوضعها للصحيحة مطلقا، وبها عن فاقدة الاجزاء للقول بالتفصيل.
ولا يخفى ما في دعوى كل من الفرق الثلاث للتبادر على طبق مدعاها من التهافت والتنافي، وكذا في دعواهم عدم صحة السلب، أو صحته عن الفاسدة
(1) كما ادعاه بعض حيث قال: إن القولين الآخرين قد حدثا من المتأخرين. لمحرره عفا الله عنه.
390

مطلقا، أو عن الفاقدة للشرائط، ولا يكاد يمكن الجمع (1) بين تلك الدعاوي إلا بتكذيب إحداهما أو بتخطئتها حيث إنه لا يمكن حصول التبادر على طرفي النقيض، وكذا تحقق صحة السلب وعدمها بالنسبة إلى مورد واحد حقيقة، لكن التكذيب غير ممكن ضرورة أن كل واحدة من الفرق لم يتعمدوا الكذب، وإنما ادعوا ما ادعوا حسب معتقدهم، فحينئذ انحصر طريق الجمع في تخطئة إحدى الدعاوي في منشأ اعتقاد المدعي.
فنقول: إن ما يمكن به تخطئة القائلين بالأعم في دعواهم تبادر الأعم، وعدم صحة السلب عن الفاسدة هو أنهم
لما رأوا إطلاق تلك الألفاظ كثيرا على الفاسدة مع كونه واقعا مبنيا على التجوز أو التأويل، فاعتقدوا من ذلك أن هذا الإطلاق حقيقي وأنها موضوعة للأعم، فلما ارتكز في أذهانهم ذلك، فادعوا التبادر، وعدم صحة السلب عن الفاسدة لذلك، ضرورة أن من قطع بأن البليد حمار مثلا وارتكز في ذهنه ذلك، فمتى أطلق لفظ الحمار يتبادر عنده الأعم من الحيوان الناهق، وهو الحيوان القليل الإدراك، وكذا إذا راجع نفسه يراها ممتنعة عن نفي الحمار عن البليد.
وأما ما يمكن به تخطئة القائلين بالصحيح مطلقا على فرض إصابة القائلين بالأعم، وكون تبادر الأعم ناشئا من جوهر اللفظ فهو أن يقال: إنهم لما رأوا سلب تلك الأسامي عن الفاسدة في لسان الشارع، وكذا عند المتشرعة، مع أنه كان مبنيا إما على التجوز في أدوات النفي بحملها على نفي الصحة أو الكمال، أو على التأويل، بتنزيل الفاسدة منزلة المعدومة، فاعتقدوا غفلة عن حقيقة الحال أن هذا السلب على وجه الحقيقة والواقع، فقطعوا بوضعها للصحيحة، فلما ارتكز في أذهانهم ذلك، فادعوا التبادر، أو صحة السلب عن الفاسدة لذلك، أو اعتقدوا ما ذكر، نظرا إلى وجوه أخرى كدليل الحكمة الآتي وغيره، فلما قطعوا بوضعها للصحيحة من
(1) إذ لا ريب أن التبادر وعدم صحة السلب اللذين هما علامتان للوضع هما اللذان يستندان إلى ذات اللفظ، وكذا صحة السلب التي هي علامة المجاز، ولا ريب أنه لا يمكن تبادر معنى من جوهر اللفظ وعدم تبادره وصحة سلبه عنه بالنسبة إلى جوهر اللفظ لرجوعه إلى اجتماع النقيضين. لمحرره عفا الله عنه.
391

تلك الوجوه فادعوا التبادر، وصحة السلب عن الفاسدة.
واما ما يمكن به تخطئة القائلين بالتفصيل فهو أنهم نظرا إلى دليلهم الآتي - في آخر أدلة الأقوال - قطعوا بوضعها للصحيحة بالنسبة إلى الأجزاء، وللأعم بالنسبة إلى الشرائط، فلما ارتكز في أذهانهم ذلك، فادعوا التبادر، وصحة السلب وعدمها لذلك.
وكيف كان فلا فائدة مهمة في التعرض لذلك بل المهم تحقيق أن أيهم مصيبون في دعواهم، وأن الحق من الأقوال ما ذا؟ فنقول: الذي يشهد به المنصف المتأمل بعد تخلية الذهن عن شوائب الأوهام وغواشي الشبهات وإخراجه إلى النور من الظلمات، هو أنه لا يتبادر من تلك الألفاظ مجردة عن القرينة إلا ما أمر الله تعالى به، أعني ما يكون موضوعا لأمر الله تعالى وطلبه، بحيث لا نقصان فيه، ولا حالة منتظرة فيه إلى أمر آخر في توجه الأمر إليه من شرط أو جزء، وأنه يصح سلبها حقيقة عن فاقدة بعض الأجزاء، أو الشرائط المعتبرة في الفعل قبل تعلق الأمر به، وبعبارة أخرى: الشرائط الراجعة إلى قيود موضوع الأمر، لا المعتبرة في تحققه الخارجي (1).
نجد ذلك من أنفسنا، ومن الرجوع إلى عرف المتشرعة أيضا، فإنا نراهم أن المتبادر عندهم ما ذكرنا، وأن أنفسهم لا تمتنع عن نفي تلك الأسامي عن فاقدة بعض الأجزاء، أو شرط من الشرائط المذكورة.
فحينئذ إن عنى القائلون بالصحيح تبادر ما ذكرنا، وأن مرادهم بالصحيح ذلك، كما احتملناه في أول المسألة، بل استظهرناه فنعم الوفاق، وإن عنوا تبادر عنوان الموافق للأمر، كما هو أبعد الاحتمالين، فمع ما عرفت من امتناع جعل ذلك موضوعا له لتلك الألفاظ، يكذبه العيان والوجدان (2).
فمن هنا ظهر ضعف القولين الآخرين.
(1) فيخرج بذلك مثل نية القربة حيث أنها من الشرائط لكنها ليست مما اعتبرت في موضوع الأمر، لامتناع اعتبارها كما عرفت، فتكون هي من شرائط تحقق المأمور به فعلا في الخارج لا من شرائط تحقق مفهومه. لمحرره عفا الله عنه.
(2) أما العيان فمن العرف، وأما الوجدان فمن أنفسنا.
392

لا يقال: إن الذي اخترته التزام بوضعها للأعم، إذ لا ريب أن المعنى الذي يكون موضوعا لأمر الشارع وان لم يتصور فيه الفساد من جهة فقد بعض الأجزاء أو الشرائط المأخوذة فيه قبل الأمر، وإلا لخرج عن كونه موضوعا للأمر، إلا أنه يمكن تحققه في الخارج فاسدا إما من جهة عدم الأمر، أو من جهة عدم نية القربة، فيكون أعم من الصحيح.
لأنا نقول: إن القائلين بالأعم لا يقتصرون بذلك، بل يقولون بوضعها للأعم من الفاسدة بفقد بعض الأجزاء أو الشرائط المعتبرة في موضوع الأمر أيضا، فلا يكون هذا التزاما بوضعها للأعم بالمعنى المعروف الذي أنكرنا عليه، فحينئذ فهو:
إما قول بالصحيح بالمعنى المتنازع فيه على أن يكون مرادهم بالصحيح ذلك.
أو قول بالأعم بنحو آخر غير المعروف إن كان مرادهم به ما استضعفناه من الاحتمال، أو كان مرادهم به هو موضوع أمر الشارع، لكن مع تقييده بكونه ملزوما فعليا للصحة بالمعنى المعروف، أعني الموافقة لأمر الشارع الموجبة لإسقاط القضاء والإعادة، لكنه أيضا راجع إلى الاحتمال المذكور، وقد عرفت ما فيه.
أو قول بالتفصيل بنحو آخر غير المعروف.
وكيف كان، فهذا ما ساعد عليه الدليل، فلا ينبغي التوحش من الانفراد.
نعم لما كان أي الدليل المذكور، وهو التبادر وصحة السلب من الأمور الوجدانية التي لا يمكن إقامة البراهين عليها، فلا يمكن إلزام الخصم به، لكنه دليل إقناعي ينبغي الركون إليه في عمل نفس الشخص، حيث أنه طريق قطعي إلى الوضع.
وتوهم أن تلك الألفاظ على تقدير وضعها للأعم تكون معانيها أمور مجملة، فكيف يمكن دعوى تبادرها، إذ لا معنى لتبادر معنى مجمل لا ندري أنه ما ذا؟ وكذا توهم أن غاية ما يثبت به على تقدير التسليم إنما هو وضعها للصحيحة
393

عند المتشرعة، والمطلوب ثبوت وضعها لها عند الشارع مدفوعان.
أما الأول: فبأن الإجمال إنما هو بالنظر إلى ذات المعاني وكنهها، وهذا ينافي تبادرها بتفاصيلها وكنهها أعني بتمام أجزائها وشرائطها تفصيلا، لكن لما كان لا يلزم من الجهل بمعنى بكنهه الجهل به بجميع وجوهه وعناوينه، بل يمكن معرفته بوجه من وجوهه وإن لم يكن ذلك الوجه معتبرا في وضع اللفظ بإزائه، كما هو الحال في كثير من المعاني العرفية حيث أنا لا نعلمها بتفاصيلها، لكن نعرفها بوجه من وجوهها، بحيث تمتاز به عما عداها، كالسماء والأرض والجن والملك والجنة وجهنم وغير ذلك، فيمكن دعوى انفهام تلك المعاني من تلك الألفاظ، وتبادرها منها بأحد من وجوهها، بحيث تمتاز به عما عداها، ولو بعنوان كونها مأمورا بها عند الشارع، وان لم يكن ذلك الوجه معتبرا في وضعها، وهذا المقدار كاف في إثبات ما نحن بصدده، فإن الغرض معرفة معاني تلك الألفاظ على وجه تمتاز على عداها، وهو حاصل بذلك.
وأما الثاني: فبأنه لا ينبغي الارتياب في أن صيرورة تلك الألفاظ حقائق في تلك المعاني في الآن إنما هي من جهة غلبة الاستعمال إما من الشارع، أو منه ومن الحاضرين في زمنه التابعين له معا، أو من المتشرعة الذين هم بعد زمانه ويكون النقل حادثا في زمان المتشرعة.
فإن كان الأول، كما هو غير بعيد فلا إشكال.
وإن كان الثاني، فحينئذ وإن أمكن دعوى حدوث استعمال بعض تلك الألفاظ، كحدوث نقل جميعها في زمن المتشرعة إلا أن تقدم استعمال أكثرها وثبوته في زمن الشارع مما لا يمكن إنكاره، ولا مرية أن استعمالات هذا الأكثر الحاصلة من المتشرعة الموجبة للنقل ليست مغايرة لاستعمال الشارع من حيث الصحيح والأعم.
بل من المعلوم تبعية العرف للشارع في الاستعمال ولو مجازيا، فيثبت استعمال الشارع للألفاظ التي علم استعماله إياها في المعاني المخترعة في الصحيحة وهو المطلوب، إذ ليس الغرض إلا إثبات أن استعمال
الشارع لتلك الألفاظ هل
394

هو في الصحيحة أو في الأعم، ومعلوم أن هذا فرع إحراز استعماله لها، وأن العبرة فيما إذا ثبت منه استعمال لها في غير المعاني اللغوية، ودار الأمر بين أن يكون المستعمل فيه هو الصحيح أو الأعم.
مع أن من المقطوع استعماله لجميع ألفاظ العبادات في غير معانيها اللغوية، وهي المعاني المخترعة.
هذا، ثم إن هذه هي الوجوه المشتركة بين الفرق الثلاث.
وقد احتج لكل أيضا بوجوه خاصة:
فمما للقول بوضع الألفاظ للصحيحة مطلقا،
تنصيص الشارع بكونها أسامي للصحيحة،
أعني ملزوم الصحة بالمعنى المعروف، وذلك من وجهين:
أحدهما: تصريحه بنفي تلك الأسامي عن فاقدة بعض الأجزاء والشرائط، كقوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة إلا بطهور، ولا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل، وأمثال ذلك.
وثانيهما: تصريحه بكون تلك الألفاظ أسامي لمعان ملزومة للصحة بطريق الإثبات والحمل، كقوله: الصلاة قربان كل تقي، أو أنها معراج المؤمن، وأن الصوم جنة من النار، فيدل بمقتضى عكس النقيض، وهو أن ما ليس بقربان أو جنة أو معراج، ليس بصلاة أو صوم، على أنها أسامي للصحيحة، إذ لا يمكن كون الفاسدة صاحبة لتلك الخواص.
هذا، وفيه: أولا أن هذه أخبار آحاد لا تنهض حجة لإثبات الأوضاع، وإنما هي حجة في إثبات الأحكام فحسب، فتأمل (1).
وثانيا: أن التنصيص عبارة عن القضية التي يكون الموضوع فيها اللفظ نفسه، أي اللفظ أو مصداقه باعتبار لفظه، لا معناه، والمحمول الوضع أو ما في معناه، كقولك: لفظ الأرض موضوع لكذا أو معناه كذا، أو أن الأرض موضوع لكذا، أو ليس عبارة عن كذا، أو معناه كذا، أو ليس الأمر الفلاني معناه مريدا
(1) وجهه أنه لا يبعد حجيتها في إثبات الأوضاع فحينئذ لا وجه للرد بذلك لمحرره عفا الله عنه.
395

بالأرض لفظه، ولا ريب أن الموضوع في تلك الأخبار إنما هو معاني تلك الألفاظ، لا هي بتأويلها إلى اللفظ، مضافا إلى أن المحمول فيها أيضا ليس الوضع، أو ما يفيد معناه فيخرج عن باب التنصيص، فبطل الاستدلال.
هذا مضافا إلى ما يرد على الاستدلال بالطائفة الثانية منها، من أنه لا مرية أنها في مقام إثبات هذه الخواص لتلك الماهيات المخترعة في الجملة، وليست في مقام العموم أو الإطلاق، ليستدل بعمومها أو إطلاقها على إثبات تلك الخواص لجميع الأفراد، ثم إثبات كون جميع مصاديقها صحيحة لذلك بقاعدة عكس النقيض، بل لا يمكن حملها على العموم والإطلاق، ضرورة أن كون العبادة مقربة أو معراجا إنما هو من لوازم القبول، ولا ريب أن القبول ليس مساويا للصحة، بل أخص منها، فإنها عبارة عن كون العمل موافقا لأمر الشارع، بحيث يسقط معه القضاء والإعادة، وهذا قد يبلغ إلى درجة القبول وقد لا يبلغ، بل أكثر ما يوجد منه أنه مما لا يبلغ حد القبول، كما هو الحال في عباداتنا وفقنا الله لطاعته المقربة إليه بعد بجاه محمد صلى الله عليه وآله عليهم السلام.
وكيف كان، فيلزم على المتمسك بتلك الأخبار إخراج أكثر افراد الصحيح عن حقائق تلك الألفاظ، وهو كما ترى.
وبالجملة: فتلك الأخبار نظير قول الطبيب: إن السقمونيا مسهل، فإنه لا يمكن حمله على الإطلاق، لعدم ثبوت تلك الخاصية في جميع مصاديق السقمونيا، بل في بعضها، وهو المشتمل على كافة شرائط التأثير الفعلي.
ثم إنه بعد ما لم تكن الأخبار المذكورة من باب التنصيص، فهل يمكن التمسك بالطائفة الأولى؟ من جهة كونها من باب صحة السلب المتحققة من عارف اللسان، بل صاحبه، حيث أن الشارع صاحب لسان المتشرعة وتحقق صحة السلب عنده علامة قطعية لخروج الفاسدة عن حقائق تلك الألفاظ.
فيه إشكال أيضا، فإن صحة السلب وعدمها اللذين هما علامتان للوضع وعدمه، ليسا من مقولة اللفظ، بل الأول عبارة عن امتناع نفس العارف باللسان من السلب، والثاني عبارة عن تجويزه إياه وقولنا: البليد ليس يصح أن لا يكون
396

إنسانا أو يصح، كاشف عن هذا الأمر الوجداني، والعلامة هي هذا، فكلما علمنا به من أنفسنا أو من أهل العرف على سبيل القطع، فلا إشكال، وأما إذا رأينا وقوع السلب من العارف باللسان، كما فيما نحن فيه، حيث إن تلك الطائفة من باب وقوع السلب مع احتمال أن يكون مبنيا على التجوز أو التأويل، فلا يمكن التمسك به في إثبات الوضع وعدمه، فإن العلامة إنما هي صحة السلب حقيقة وواقعا عند نفس العارف باللسان، والوقوع أعم منها، وهو لا يدل على الأخص.
والالتجاء إلى أصالة الحقيقة في المقام لا وجه له، فإن الركون إليها إنما هو في صورة الجهل بالمراد مع تميز الموضوع له عن غيره، وأما في صورة معلومية المراد مع الجهل بصفته من أنه الموضوع أو غيره، فلم يقم دليل على اعتبارها حينئذ.
وكيف كان فوقوع السلب أعم من صحته حقيقة وواقعا التي هي علامة المجاز فلا يدل عليها.
نعم لو كان السلب وعدمه بلفظ يصح أو لا يصح، فيكون هذا إخبارا من العارف باللسان بصحة السلب حقيقة وعدمها كذلك، نظرا إلى ظهور لفظ الصحة في الصحة على وجه الحقيقة والواقع، لا التجوز والتأويل، فيتمسك بأصالة الحقيقة على إرادة الحقيقة، وهو صحة السلب على وجه الحقيقة، أو عدمها كذلك، فيحرز بهذا الأصل كون ذلك إخبارا عن صحة السلب أو عن عدمها، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المراد.
لكن الإخبار بهذا النحو أيضا ما لم يفد القطع بأن نفس ذلك المخبر العارف باللسان يمتنع من السلب أو يجوزه، يشكل الركون إليه حيث [إن] العلامة إنما هي امتناع نفس العارف باللسان عن السلب، أو تجويزه ذلك، لا الإخبار عن ذلك، فإنه طريق إلى ثبوت العلامة لا نفسها، ولا بد من إحراز تلك العلامة، إما بالقطع، وإما بما قام مقامه شرعا، فإذا فرض انتفاء الأول فإحرازها بمجرد إخبار المخبر العارف متوقف على حجية أخبار الآحاد في الأمور الغير الحسية أيضا، وثبوت ذلك في غاية الخفاء ان لم نقل بظهور عدمه.
ثم إنه لا يخفى أن الاستدلال بالطائفة الأولى من الأخبار - على تقدير
397

تماميته - إنما ينفع في رد القائلين بالأعم، حيث إنهم ذاهبون إلى وضع تلك الألفاظ للأعم من فاقدة الطهور أو الفاتحة، وهي تردهم، لكنها لا تثبت وضعها للصحيحة مطلقا، أعني بالنسبة إلى جميع الأجزاء والشرائط، كما هو المدعى، ضرورة توقف تحقق الصحة على أمور أخر غير الطهارة والفاتحة.
هذا، ومنها: دليل الحكمة.
وبيانه: أن حكمة الوضع إنما هي سهولة البيان عن الغرض والمقصود الأصلي، ورفع كلفة الإتيان بالقرينة في كل استعمال، فيكون الموضوع له هو المعنى الذي يكون متعلقا للغرض أصالة، وهو في المقام المعاني
الصحيحة لا غير، ضرورة أن غرض الشارع أصالة إنما يتعلق بها، ولو اتفق إرادته الأعم أو الفاسدة، فهو من باب البيان للصحيح، فقوله: دعي الصلاة أيام أقرائك مثلا لبيان الفرد الصحيح الذي هو متعلق غرضه الأصلي.
ويؤيد ذلك ويعضده التتبع والاستقراء في حال أرباب الصنائع والحرف المخترعة، حيث إنهم يضعون الألفاظ لما يكون متعلقا لغرضهم أصالة في مقام البيان، ولا ريب أن هذا الدليل على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني في غاية المتانة والحسن، حيث إن غرض الشارع لم يتعلق أصالة إلا ببيان ما هو وظيفة لعباده في مقام العبادة والإطاعة، وهو لا يكون إلا صحيحا، والحكمة قاضية على تقدير الوضع التعييني بلزوم الوضع لما هو المقصود بيانه أصالة.
وأما بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية، أو ثبوتها لا بالتعيين فلا ممشى له حينئذ.
ومنها:
أنا نجد من أنفسنا اتحاد وجه استعمال تلك الألفاظ في الفاسدة مع وجه استعمال ألفاظ المقادير في ما نقص عنها، فكما نجده مبنيا على المسامحة والتنزيل، فكذلك نجد ذلك في المقام، فهذا يكشف عن أن الموضوع إنما هو الصحيح، وهذا أيضا من الوجوه الإقناعية، لا الإلزامية.
لكن تماميته مبنية على أن يكون معاني تلك الألفاظ من الأجزاء الخارجية، وإلا فليس الفرد الفاسد بعضا من مفهوم اللفظ حتى يكون وجه
398

الاستعمال هو التنزيل والادعاء، فلا بد حينئذ أن يكون وجهه على تقدير وضعها للصحيحة غير ذلك من الوجوه المصححة لاستعمال اللفظ في غير معناه الحقيقي.
ومنها:
أنها لو كانت موضوعة للأعم لما كانت توقيفية، بل كان المرجع فيها إلى العرف، إذ هو المناط فيها على القول المذكور، التالي باطل، ضرورة كونها أمورا توقيفية متلقاة من صاحب الشريعة، لا يصح الرجوع فيها إلى عرف أو عادة، فالمقدم مثله.
وفيه أولا: النقض بأن القائلين بوضعها للصحيحة يرجعون فيها أيضا إلى العرف، ولذا استدلوا عليه بالتبادر، وصحة السلب كما مر.
وثانيا: منع الملازمة المذكورة فان توقيفيتها من الشارع إنما تمنع عن المعاملة معها معاملة الألفاظ اللغوية بالرجوع فيها أيضا إلى العرف العام، وأما الرجوع إلى العرف الخاص، وهو عرف المتشرعة الكاشف عن مراد صاحب الشريعة فلا، فإنه رجوع إلى الشارع حقيقة، كما لا ينافي الرجوع في الألفاظ اللغوية والعرفية إلى أهل العرف واللغة، توقيفيتها.
والتحقيق أن هنا توقيفا في معرفة المعنى في الجملة على وجه يمتاز عما عداه، وتوقيفا في معرفته بتفصيله من حيث الأجزاء والشرائط، فإن أراد المستدل الأول، فلا ريب أن الرجوع إلى عرف المتشرعة لا ينافيه، كما لا ينافيه على القول بوضعها للأعم أيضا، وإن كان الثاني، فلا ريب في منع الملازمة أيضا، إذ لا يلزم من وضعها للأعم جواز الرجوع إلى العرف، فإنهم لا يتمكنون من معرفة تفاصيل الأجزاء والشرائط، بل لا بد من رجوع المقلد فيها إلى المجتهد، وهو إلى الأدلة.
وكيف كان فتفصيل المعنى بشرائطه وأجزائه، سواء كان هو الصحيح أو الأعم، متوقف على بيان الشارع، وليس للأعمي الرجوع إلى العرف في ذلك، بل لا يمكنه.
هذه جل ما ذكروه للقول بالصحيح، وعرفت أن المعتمد إنما هو التبادر، وصحة السلب عن الفاسدة.
أقول: ويمكن ان يحتج له أيضا بأنه لا ريب أنه كلما كثرت الحاجة إلى
399

معنى كثر استعمال اللفظ فيه، ولا ريب أن الصحيحة أشد حاجة وأكثرها في التعبير عنها من الفاسدة أو الأعم، فيثبت بذلك أن الأغلب استعمالا في لسان الشارع هي الصحيحة، فعلى ثبوت الحقيقة الشرعية لما كان المعلوم ثبوتها بغلبة الاستعمال، فتكون هي الموضوع لها لتلك الألفاظ، وعلى تقدير عدمه، فالمجاز الشائع هي لا غير، فثبت المطلوب على التقديرين.
ثم إنك قد عرفت دعوى القائلين بوضعها للأعم عدم صحة سلبها عن الفاسدة، وعرفت جوابه إجمالا أيضا من أنها اشتباه ناش عن اعتقاد وضعها للأعم بملاحظة إطلاقها على الأعم، وعرفت أيضا دعواهم التبادر أيضا، والجواب عنه بما ذكر.
ولا بأس بالتعرض لذلك أيضا على التفصيل، والجواب عنه كذلك.
فنقول: إنهم ادعوا أنه يتبادر من قول القائل: فلان يصلي أو صلى الأعم، وهو صورة الصلاة الأعم من الصحيحة.
ويكشف عن ذلك أنه لو كان المتبادر منه الصحيحة لجاز تكذيب المخبر بعد انكشاف فساد عمل من أخبر بأنه صلى أو يصلي، فإنه في قوة الإخبار بأنه يكبر ويقرأ ويسجد إلى آخر الأجزاء والشرائط على التفصيل، التالي باطل، ضرورة عدم تكذيبه من أحد، فالمقدم مثله.
وفيه: أولا أن التبادر الذي هو علامة الوضع هو المستند إلى جوهر اللفظ، والذي هنا إنما هو مستند إلى القرينة، وهي أن الشخص لما لم يكن له سبيل إلى تشخيص صحة عمل الغير حيث إنها متوقفة على أمور لا تعلم إلا من قبل الفاعل، كنية القربة وإباحة اللباس والمكان مثلا، وأن الذي يمكنه إحرازه انما هي الصورة فهو يريد في مقام الإخبار مجرد الصورة لا غير، فالتبادر مستند إلى تلك القرينة، نظير تبادر الصورة من قول القائل: إن الكافر يصلي أو صلى، فإن امتناع تحقق الصحيح من الكافر قرينة على أنه أراد الإخبار عن وقوع صورة الصلاة منه.
ويشهد لذلك أنه لو أخبر أن فلانا يصلي الصلاة الواجبة أو المندوبة، لا يتبادر منه إلا الصورة، مع أن هذا التركيب ظاهر في الصحيحة باعتراف القائلين
400

بالأعم، وليس ذلك إلا للقرينة المذكورة.
وثانيا: نمنع تبادر الأعم من الأمثلة المذكورة أيضا، ونقول: إن المتبادر منها أيضا هي الصحيحة وأن اللفظ مستعمل فيها، إلا أنه تأول في انطباق ما يصدر من الغير على المفهوم الكلي واندراجه تحته، إما بتبعية اعتقاد العامل، حيث إن الظاهر من حاله اعتقاد صحة ما يفعله، فيتبعه المخبر في ذلك الاعتقاد، ويجعله فردا من الكلي، فيخبر بأنه يصلي، وهذا الوجه يجري فيما إذا أخبر بأن الكافر يصلي، وإما بسبب ظهور حال العامل في أنه يفعل الصحيح الواقعي، فيجعل المخبر ما يصدر منه مصداقا من المفهوم الكلي، فيخبر أنه يصلي مثلا، وهذا إنما يجري في المسلم.
وكيف كان، فالإخبار قد يكون مبنيا على الواقع بأن يكون المخبر غرضه الإخبار عن صدور الصحيحة الواقعية
واقعا عن الغير، فحينئذ لو انكشف الفساد لا ريب في صحة تكذيبه، وقد يكون مبنيا على زعم العامل وعلى تبعية اعتقاده، أو على ظاهر حال، بمعنى أن المخبر يخبر عن صدور العمل الصحيح عنه، نظرا إلى انطباق ما يصدر منه على المفهوم الكلي المتصف بالصحة باعتقاد العامل، فيتبعه في ذلك الاعتقاد، وإن لم يكن معتقدا للاندراج حقيقة، وإنما هو اعتقاد صوري أو بظهور حال الفاعل إذا كان مسلما، فهو مستعمل للفظ في الصحيح، إلا [أن] طريق إحرازه كون ما يصدر منه فردا منه إما اعتقاد العامل أو ظهور حاله، فنقول: حينئذ إن القرينة المتقدمة إنما تفيد ارتكاب المخبر لنوع تأويل في دعوى انطباق المفهوم الكلي على ما يصدر من الغير بأحد الوجهين المذكورين، لا التجوز في اللفظ، وتبادر الأعم منه، وعدم جواز تكذيبه إنما هو لأجل العلم بواسطة القرينة المذكورة بأنه ليس إخباره مبنيا على الواقع.
هذا مضافا إلى ما يرد على التمسك بمثل فلان يصلي أو يصوم، وأمثالهما مما يكون إخبارا عن المضارع من أن الإخبار عن أمر مركب يكون حصوله تدريجيا بالنسبة إلى زمان المستقبل، ظاهر في الاشتغال بهذا الأمر المركب، فمعنى فلان يصلي، أنه اشتغل بها، ولا ريب أنه يصدق الاشتغال بإيجاد جزء منها، بحيث لو
401

انضم إليه غيرها من الأجزاء والشرائط لا تصف المجموع بالصحة، فلذا لا ينافي القطع على ذلك الجزء صدق أنه يصلي، لعدم توقف صدق الاشتغال على تمامية العمل.
أقول: إن الجواب بذلك غير مستقيم جدا، فإن التأويل أيضا خلاف الظاهر كالتجوز، وليس الأول أولى من الثاني، بل كلاهما سواء، فالأولى أن يقال: إن القرينة المذكورة أوجبت تعذر حمل تلك الأمثلة على الحقيقة من جميع الجهات، ولا بد من ارتكاب خلاف ظاهر فيها، إما بالتجوز كما مر، وإما بالتأويل، كما عرفت في الجواب الثاني.
هذا، وأما الوجوه الخاصة للقائلين بالأعم:
فمنها: صحة تقسيم تلك العبادات إلى الصحيحة والفاسدة، فلو لا وضع تلك الألفاظ للأعم لزم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.
ومنها صحة تقييدها بكل من القيدين، ولو لا ما ذكر للزم التناقض فيما إذا تقيدت بالفاسدة، والتكرار فيما إذا تقيدت بالصحيحة والجواب عنهما: أن صحة التقسيم أو التقييد، إنما تكونان علامتين إذا علم كونهما مبنيتين على الحقيقة والواقع، لا التجوز والتأويل، والمسلم إنما هو وقوع التقسيم والتقييد، وهو أعم من صحتهما على وجه تكونان علامتين.
ولو قيل: إن الأصل في الاستعمال الحقيقة فيثبت به أن التقسيم إنما هو بالنظر إلى المعنى الحقيقي وكذلك التقييد. فجوابه قد مر من أنه أعم، وأنه لا دليل على اعتبار هذا الأصل في مقام العلم بالمراد مع الشك في صفته.
ومنها أنه غلب استعمال تلك الألفاظ في الفاسدة، بحيث يبعد معها التجوز في تلك الاستعمالات بأسرها، فإذا ثبت كونها على وجه الحقيقة ثبت وضع الألفاظ للأعم.
وفيه أولا: منع الغلبة رأسا فإن المسلم إنما هو غلبة وجود الفاسدة، وأما غلبة استعمال الألفاظ فيها فممنوع، بل الغالب استعمالها في الصحيحة حقيقة، أو من باب الادعاء والتنزيل، ولو فرض إرادة الفاسدة منها بخصوصها من
402

تأويل فهو في غاية القلة جدا.
وثانيا: لو سلمنا الغلبة فهي بالنسبة إلى مجموع تلك الألفاظ، نظير غلبة التخصيص في العمومات، وأما بالنسبة إلى كل واحد من الألفاظ فلا، ولا ريب أن الغلبة بهذا النحو لا توجب صيرورة اللفظ حقيقة في المستعمل فيه اللفظ، وإلا لصارت العمومات بأسرها منقولة إلى الخصوص مع أنه لم يقل أحد بكونها مجازا مشهورا فيه.
وثالثا: سلمنا ثبوتها في كل واحد من الألفاظ لكن إن غلبة الاستعمال إنما توجب النقل إذا كان المستعمل فيه اللفظ في جميع الاستعمالات واحدا، كغلبة استعمال الأمر في الندب مثلا، وهي فيما نحن فيه ليست كذلك، فإنه وإن غلب استعمال تلك الألفاظ في الفاسدة إلا أن أفراد الفاسدة وخصوصياتها متكثرة متشتتة، والمستعمل فيه اللفظ في كل مورد خصوصيته غير ما كانت في مورد آخر، ففي مورد هي فاسدة بفقد الفاتحة، وفي آخر فيها بفقد الطهارة، وفي ثالث منها بفقد السورة وهكذا، ولا ريب أن غلبة الاستعمال بهذا النحو لا توجب النقل، وإلا لصارت العمومات بأسرها منقولة إلى الخصوصيات فإن استعمالها في الخصوصيات المختلفة باختلاف المقامات فوق حد الإحصاء، فإن العلماء مثلا تارة يستعمل في المخرج منه زيد في قولك (أكرم العلماء الا زيد) مثلا، وأخرى في المخرج منه عمرو في قولك (أكرم العلماء إلا عمرا) وثالثة في المخرج منه خالد في قولك (أكرم العلماء إلا خالدا) وهكذا بالنسبة إلى سائر مصاديق الجمع المحلى وبالنسبة إلى سائر ألفاظ العموم.
ومنها: أنه قد شاع في الأخبار بل تواتر في الآثار المأثورة عن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم، تكرار الأمر بإعادة الصلاة وغيرها في العبادات إذا طرأ عليها فساد لترك جزء أو ارتفاع شرط أو وجود مانع، وقد تداول الحكم بإعادته حينئذ في ألسنة العلماء كافة من الخاصة والعامة، وقد جروا على استعمالها في كتبهم المصنفة، وشاع استعمالها في هذا المقام حتى فيما بين العوام.
403

ومن البين أن الإعادة بحسب العرف واللغة عبارة عن الإتيان بالشيء ثانيا بعد الإتيان به أولا، وقضية ذلك دخول الفعل الواقع أولا في المسمى واندراجه فيه وإلا لم يكن الإتيان بالفعل الثاني إتيانا بذلك الفعل ثانيا فلا يكون إعادة، بل يكون إتيانا أوليا بذلك الفعل، أي ما فعله ثانيا.
وكيف كان، فلو كانت تلك الألفاظ موضوعة للصحيحة فينحصر مصاديقها في موارد الأمر بالإعادة فيما يؤتى به ثانيا ولا يشمل ما فعله أولا إذا كان فاسدا، فلا يصدق عليه الإعادة، مع أن إطلاقها عليه فوق حد الإحصاء، فهو يكشف عن وضعها للأعم ليصح صدق الإعادة.
وفيه أولا: النقض بأنه أمر بالإعادة في بعض الصور بفقد الأركان، ولا ريب أن فاقدتها خارجة عن الموضوع له لتلك الألفاظ على مذهب الأعمي أيضا، فلا بد حينئذ من التزام التجوز في لفظ الإعادة فان قدرتم على توجيه هذه الصورة فوجهوا بذلك سائر الصور.
ولو قيل: إنه قد علم المجازية في هذه الصورة، لكنه لا يستلزم الخروج عن أصالة الحقيقة في لفظ الإعادة في سائر الصور.
قلنا: إنا نعلم قطعا أن وجه استعمال لفظ الإعادة في جميع الصور واحد فلو التزام في الصورة المذكورة بأنه العلاقة فلا بد من الالتزام بها في سائر الصور.
وثانيا: بالحل، وتوضيحه أن الإعادة وإن كانت حقيقة فيما ذكر، لكن بعد قيام الدليل القطعي على وضعها للصحيحة كما قدمنا، فلا بد في تلك الإطلاقات من التزام خلاف ظاهر من التجوز، إما في ألفاظ تلك العبادات وإبقاء الإعادة على ظاهرها، أو العكس بالتأويل في انطباق ما فعل أولا على المفاهيم الكلية المتصفة بالصحة، ليكون استعمال ألفاظ العبادات حقيقة والتجوز في لفظ الإعادة.
وكيف كان، فمرجع الاستدلال إلى التمسك بأصالة الحقيقة في لفظ الإعادة ولا مرية أنه لا محذور في الخروج عنها لدليل، مع أن التمسك بها ليس في محله، نظرا إلى معلومية أن المراد بالإعادة إنما هي الإتيان بتلك الأفعال ثانيا على
404

وجه الصحة لا مطلقا، فالتمسك بالأصل لإثبات وصف الوضع لمعنى آخر مما لا يساعد عليه دليل، كما لا يساعد على التمسك به في إثبات صفة الوضع لنفس المراد.
ثم إن التجوز في لفظ الإعادة مع بقاء متعلقه وهو لفظ العبادة على حقيقته.
توجيهه: أنه لما كان ما فعله المكلف أولا صحيحا في نظره بالنظر إلى ظاهر إطلاقات الأوامر المتعلقة بالإعادة فيما إذا كان إطلاق، أو بمقتضى أصالة عدم اعتبار شيء آخر غير ما علم من الشرائط والأجزاء.
وبعبارة أخرى: أصالة عدم اعتبار ما كشف دليل الإعادة عن اعتباره لو لم يكن إطلاق لفظي فاستعمل لفظ العبادة فيه، بدعوى اندراجه في مفهوم اللفظ بهذا التأويل وتجوز في لفظ الإعادة بعلاقة المشابهة لمشابهته ما فعله أولا للصلاة الصحيحة الواقعية فيكون فعل الصلاة الصحيحة كتكرارها ثانيا.
وأما التجوز في المتعلق مع إبقاء لفظ الإعادة على ظاهرها، فتوجيهه أن ما أتى المكلف به أولا من الأجزاء والشرائط مأمور بإتيانها أيضا ثانيا في ضمن الفرد الصحيح الواقعي إلا أن الأمر بإيجادها ثانيا مقيد بإيجادها في ضمن هذا الفرد الخاص، فيكون الإتيان بالفرد الصحيح إعادة بالنسبة إلى الاجزاء والشرائط المذكورة حقيقة، فيكون لفظ الإعادة مستعملا في معناه الحقيقي بهذا التأويل، وإنما التجوز في متعلقه وهو لفظ الصلاة لإطلاقها على الفاسدة.
هذا، ولعل ارتكاب الأول أظهر.
ومما ذكرنا من ظهور الإعادة في إيجاد الشيء بعينه ثانيا ظهر ضعف ما أجاب به بعض المحققين من المتأخرين عن الدليل المذكور من دعوى استعمال متعلقها في الصحيحة مع التأويل في اندراج ما فعله أولا في مفهوم اللفظ وصدق الإعادة حينئذ وبقائها على حقيقتها، فإنه لا شبهة في عدم صدق الإعادة على إيجاد المشابه لما فعل أولا جدا.
ومنها: أنه قد تضافر النهي عن جملة من العبادات، ولو كانت موضوعة
405

للصحيحة لما صح تعلق النهي بها، أو لزم القول بعدم دلالة النهي في العبادات على الفساد، كما هو مذهب أبي حنيفة - خذله الله تعالى - والتالي باطل بكلا قسميه، فالمقدم مثله.
أقول: توضيح الاستدلال أن غرض المستدل أنها لو كانت موضوعة للصحيحة، فلا بد من حمل تلك الألفاظ الواقعة في حيز النواهي على الصحيحة، بمقتضى أصالة الحقيقة، ومع إرادة الصحيحة منها لا يمكن تعلق النهي بها، فإن لازمه الفساد، فيلزم من تعلقه اجتماع النقيضين، نظرا إلى أن مفاد مادة تلك الألفاظ والمراد منها هي الصحيحة، والمراد من هيئة النهي هي الفساد فتتناقض المادة والهيئة، فلا بد من ارتفاع إرادة أحد المفادين إما مفاد المادة، أو مفاد الهيئة، وكل منهما مستلزم للتجوز.
هذا بخلاف ما لو قلنا بوضعها للأعم، فإنه بعد حمل تلك الألفاظ عليه بمقتضى أصالة الحقيقة، فلا منافاة بينه وبين مفاد النهي، وهو الفساد، فلا يوجب الخروج عن ظاهر النهي، ولو قيل بمنع دلالة النهي على الفساد، فهو وإن كان موجبا لارتفاع المحذور المذكور، ويمكن معه إرادة الصحيحة من تلك الألفاظ إلا أنه التزام بشيء لم يقل به أحد منا، ولا من العامة إلا أبو حنيفة، فعلى القائل حينئذ التزام كون تلك العبادات المنهي عنها صحيحة بتقريب ما نقل عن أبي حنيفة في دعواه دلالة النهي على الصحة، من أن تلك الألفاظ موضوعة للصحيحة، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيثبت أن المراد بها في تلك الخطابات الصحيحة، ولا ريب أن النهي تكليف، وهو لا يتعلق إلا بما كان مقدورا للمكلف بعد النهي كمقدوريته قبله فتعلق النهي بالصلاة الصحيحة مثلا يكشف عن مقدوريتها للمكلف بعد النهي، فتكون صلاة الحائض والنفساء صحيحة واقعا.
والقول بأن متعلق النهي كان مقدورا قبله، وخرج عن القدرة بعده بنفس النهي مردود، بأنه مستلزم لكون النهي المذكور تكوينيا لا تشريعيا، إذ لا بد في الثاني من بقاء القدرة على الفعل بعد التكليف، ولم يقل أحد بأن النهي
406

تكويني، واللازم - وهو صحة تلك العبادات بعد النهي - باطل بالإجماع، فيكشف عن بطلان الملزوم، وهو عدم دلالة النهي على الفساد.
وكيف كان فظهور النهي على فساد المنهي عنه في العبادات مما لا ريب فيه، ولازم القول بوضع الألفاظ للصحيحة بضميمة أصالة الحقيقة، الخروج عن هذا الظهور، مع أنه لم يقم دليل على وضعها للصحيحة، فيكون هذا خروجا عن مقتضى أصالة الظهور من دون دليل.
هذا مضافا إلى قيام الدليل القطعي على ثبوت الفساد في متعلقه في الأخبار فلا يمكن الخروج عن الظهور المذكور، فحينئذ لا بد من التزام وضع تلك الألفاظ للأعم واستعمالها فيه حقيقة أو وضعها للصحيحة واستعمالها في الأعم مجازا، الأول هو المطلوب، وأما الثاني فيرده أنه يبعد كون تلك الاستعمالات بأسرها مجازية.
هذا، وفيه أولا: أنه إن كان مراد المستدل بالصحيحة هي ما اخترناها، وهي موضوعات أوامر الشارع، فقد عرفت أنه يمكن اجتماعها للفساد واتصافها به من جهة فقد الأمر، أو انتفاء شرط من الشرائط الخارجة عن قيود الموضوع، فلا منافاة بينها وبين مفاد النهي، وهو الفساد، فلا يتم دعوى امتناع تعلق النهي بها لذلك.
وإن كان مراده هي الصحيحة بالمعنى المعروف، فلا ريب أنه لا يمكن اجتماعها مع نفس النهي فضلا عن اجتماعها مع الفساد، فإن الصحيحة بهذا المعنى عبارة عن الموافقة للأمر، فلا يكون إلا مأمورا به، ومعه كيف يتعقل ورود النهي بها وإن لم يكن دالا على الفساد.
نعم يمكن اجتماع الصحة بالمعنى الذي في المعاملات مع النهي، وهي ترتيب الأثر، وأما اجتماعها معه في العبادات بالمعنى المذكور، فهو ممتنع ضرورة، فحينئذ لا وجه لابتناء الدليل على امتناع اجتماع الصحة والفساد والسكوت عن امتناع اجتماعها مع نفس النهي الظاهر في التسليم.
وثانيا: أن التالي المدعى بطلانه إنما يلزم من إرادة الصحيحة من تلك الألفاظ في تلك الخطابات، لا من وضعها لها، فنقول: حينئذ إن المحذور المذكور
407

قرينة على ارتكاب نوع تجوز، أو تأويل في تلك الألفاظ، ولا ضمير في الخروج عن أصالة الحقيقة بعد قيام الدليل، وليس هذا من المحاذير، وانما المحذور الخروج عنها من دون دلالة، وأما معها فلا.
ودعوى استبعاد مجازية تلك الاستعمالات مجازفة جدا، فإنه ليس بحيث تفيد القطع بالمطلوب، ومع إفادتها ذلك فلا يجوز الركون إليه، لعدم ما دل على اعتباره حينئذ.
وكيف كان، فمرجع الاستدلال إلى أصالة الحقيقة في الاستعمال.
وحاصل الجواب عنه، أنا قد حققنا سابقا وضعها للصحيحة، إلا أن القرينة القطعية في المقام قائمة على الخروج عن مقتضى وضعها هذا، مع أنه لا وجه للاعتماد على الأصل المذكور في مثل المقام، نظرا إلى أن
المراد معلوم، للقطع بإرادة الأعم، وإنما الشك في صفته، فلا يجوز التمسك به في إثبات ذلك، كما عرفت غير مرة.
ثم إن ارتكاب خلاف الظاهر في تلك الخطابات يتصور من وجوه.
الأول: التجوز في ألفاظ العبادات الواقعة فيها، بحملها على إرادة الأعم، أو على إرادة خصوص الفاسدة.
الثاني: استعمالها في الصحيحة الواقعية، لكن بتأويل في اندراج تلك العبادات المنهي عنها فيما وضعت له، نظرا إلى كونها صحيحة بحسب ظاهر الأدلة، وبمقتضى الأصول العملية النافية لاعتبار ما كشفت النواهي عن اعتباره وشرطيته في العبادة، فأطلق عليها تلك الألفاظ حقيقة بهذا التأويل.
الثالث: حمل تلك النواهي على الإرشاد، وبقاء متعلقاتها على حقيقتها، لكن لما كان اللازم أن يكون متعلق النهي ولو إرشاديا مقدورا للمكلف، لاستهجان نهي الإنسان عن الطيران ولو إرشادا فلا بد من إضمار في تلك الخطابات أيضا، فعلى هذا فقوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) معناه دعي إرادتها، والكون في صددها، فإنها غير مقدورة لك حينئذ، فيكون متعلق النهي حقيقة هي الإرادة، أو الكون على صدد فعل العبادة، وهما مقدوران للمكلف مع
408

غفلته عن حقيقة الحال، وفائدة النهي حينئذ أنه لما زعم المكلف مقدورة العبادة الصحيحة لها حال النهي، فربما يكون في صدد إيجادها حينئذ مع جهله بالحال، فرفع الشارع هذا التوهم عنه بالإرشاد.
ويتفرع على ذلك أنه لو أتى المكلف بتلك الأفعال حال النهي لا بقصد التشريع لم يأت بالحرام، فلا يكون عليه عقاب.
ولعل هذا الوجه أظهر، لكثرة استعمال النهي في الإرشاد في خطابات الشارع.
ثم إنه يمكن تقرير الدليل المذكور بنحو آخر غير ما مر، وهو أنه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للصحيحة - بمعنى موضوعات أو امر الشارع - للزم كون تلك النواهي بأسرها نفسية، ناشئة من مفسدة خارجية، موجبة لحرمة تلك الأفعال ذاتا، والتالي باطل، فالمقدم مثله.
بيان الملازمة: أنها لو كانت موضوعة لذلك، فمقتضى أصالة الحقيقة إرادته منها، وقد عرفت أن الفساد العارض له لا يكون إلا بسبب أمر خارجي، لا بسبب فقد جزء أو شرط، فلازم ذلك كون النواهي لأجل مفسدة خارجية، فتكون نفسية.
واما بطلان التالي: فللإجماع على أن فساد تلك الأفعال إنما هو لأجل فقد بعض الأمور المعتبرة فيها شطرا أو شرطا، وأن النواهي غيرية لا نفسية، فإن قوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) من جهة فقدان الشرط وهو الطهارة من الحيض، وهكذا نظائره، فحينئذ لا بد إما من التزام التجوز في ألفاظ تلك العبادات في تلك الاستعمالات وهو بعيد، وإما من التزام وضعها للأعم وهو المطلوب.
وفيه: أن مرجع هذا الاستدلال أيضا إلى التمسك بأصالة الحقيقة، وقد مر الجواب عنها مرارا، فلا نطيل الكلام بإعادته.
هذا، ومنها: أنه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للصحيحة لزم تكرر الطلب فيها إذا وقعت في حيز الأوامر، التالي باطل، فالمقدم مثله.
409

بيان الملازمة: أنها إذا كانت موضوعة للصحيحة فتحمل عليها عند الإطلاق، ومعنى الصحة هو موافقة الطلب، فالصحيح هو الموافق له، وهذا عبارة أخرى عن المطلوب، فتلك الألفاظ بموادها دالة على كون معانيها مطلوبة للشارع، فإذا فرض وقوعها في حيز الأوامر، فلا ريب أنه يستفاد الطلب أيضا من صيغة الأمر، فلازم ذلك فهم تكرر الطلب من مثل قوله: صلوا أو صوموا، أو حجوا وأمثال ذلك.
واما بطلان التالي: فلأنا لا نفهم من تلك الخطابات إلا طلب واحد، ويعترف القائل بالصحيحي بذلك أيضا، ولا يتمكن من الإنكار، فإذن بطل كونها موضوعة للصحيحة، فثبت كونها موضوعة للأعم الذي لم يؤخذ فيه الطلب أصلا، وهو المطلوب.
وفيه أولا: النقض بانصراف تلك الألفاظ إلى الصحيحة على القول بالأعم فإن القائلين به معترفون بذلك فيلزمهم المحذور المذكور، وهو فهم تكرر الطلب.
وثانيا: بالحل، وتوضيحه: أن المحذور المذكور إنما يلزمنا لو قلنا بأن تلك الألفاظ موضوعة للصحيحة بمعنى موافقة طلب الشارع، بان يؤخذ الطلب قيدا في مفاهيمها، لكنا لا نقول به، بل قد عرفت في صدر المسألة اختيار أن تلك الألفاظ على تقدير وضعها للصحيحة - كما هو المذهب - موضوعة للمعاني المعروضة للأوامر، وهي ذوات المعاني مع تماميتها من حيث الجزء والشرط بحيث لو لم يكن مانع خارجي تعلق بها الطلب بحيث لم يؤخذ الطلب فيها قيدا مطلقا، لا شرطا ولا شطرا.
نعم هذا وارد على من زعم أنها موضوعة للصحيحة بمعنى موافقة الأمر.
فإن قيل: سلمنا أن الألفاظ موضوعة لذوات المعاني المذكورة، لكنا نقول أنها ملزومة للطلب فالألفاظ يدل عليه التزاما.
قلنا: لا بد في الدلالة الالتزامية من ثبوت الملازمة بين اللازم والملزوم إما عقلا، وإما عادة وكلتاهما مفقودتان في المقام، وبدونهما لا دلالة التزامية.
410

نعم هذه المعاني مقتضية للطلب بمعنى أنها بحيث لو لم يكن مانع خارجي تعلق بها الطلب، كما مر، وأين هذا من الملازمة.
ثم إنه قد تصدى بعض المحققين من المتأخرين () للجواب بناء على أخذ الطلب في مفاهيم تلك الألفاظ، بأن غاية ما يلزم من اعتبار الطلب فيها إنما هو تصور الطلب عن تلك الألفاظ، كتصور ذوات المفاهيم، لكنها لا تدل على وقوع الطلب على تلك المفاهيم، فإن ذلك مفاد الجملة، والمفرد لا يدل عليه، وهيئة الأمر دالة على وقوع هذا الطلب، فلا تكرار.
وفيه: أن الظاهر أن من اعتبره فيها إنما اعتبره بعنوان الفعلية - بمعنى أنها موضوعة للمفاهيم المطلوبة فعلا - وعدم دلالة المفرد مطلقا على الوقوع ممنوع، بل القيود المعتبرة في المفاهيم ينحل حقيقة إلى موضوع ومحمول ونسبة، فمعنى الصلاة المطلوبة أنها هي التي مطلوبة فتأمل.
ومنها: أنه لا إشكال عندهم في صحة النذر واليمين على ترك الصلاة في مكان مخصوص مكروه، أو مباح، وحصول الحنث بفعلها، ولازم القول بوضع الألفاظ التي منها لفظ الصلاة للصحيحة عدم صحة النذر واليمين وانعقادهما، لاستحالتهما حينئذ ولا حصول الحنث بفعل الصلاة بعدهما، التالي باطل بالإجماع، فالمقدم مثله.
بيان الملازمة: أنه إذا بنينا على وضع لفظ الصلاة مثلا - الذي هو أحد ألفاظ العبادات المتنازع فيها - للصحيحة فيكون متعلق النذر واليمين هو ترك الصلاة الصحيحة، لأنهما إنما يتعلقان بمدلول اللفظ، وقد عرفت انعقادهما أيضا، ومعنى انعقادهما أنهما إذا تعلقا بفعل شيء يصير تركه محرما، وإذا تعلقا بترك شيء يصير
فعله محرما منهيا عنه، فعلى هذا فيكون فعل الصلاة منهيا عنه، وهو يدل على الفساد في العبادات، والفساد في المقام يوجب خروج الصلاة عن كونها متعلقة لهما، إذ المفروض تعلقهما بالصحيحة، فيلزم من انعقاد اليمين والنذر على ترك الصلاة عدم انعقادهما، ويكون دوريا وهو محال.
411

ومع الإغماض عن ذلك وتسليم انعقادهما حينئذ، يلزم عدم حصول الحنث بفعلها حينئذ، إذ المفروض تعلقهما بالصحيحة وهي حينئذ غير مقدورة، وليس ما يصدر منه حينئذ إلا الفاسد، وهو لم يكن متعلقا لهما، فلا يحصل الحنث بفعله.
هذا بخلاف ما لو قلنا بوضع الألفاظ للأعم، فإنه يجامع مع الفاسدة، فلا يلزم شيء من المحذورين.
والجواب عنه أولا: بالنقض بما أشرنا إليه سابقا من انصراف تلك الألفاظ إلى الصحيحة على القول بكونها أسامي للأعم، ولا ريب أن المحذورين المذكورين إنما يلزمان على كون المراد هي الصحيحة فما يقولون في الجواب عنه فليقولوا به عما ذكر، وإن انحرفوا عن النصف ولم يلتزموا بالانصراف فالنقض وارد عليهم، فيما إذا قال الناذر أو الحالف لله علي أن لا أصلي الصلاة الواجبة أو المندوبة في المكان الفلاني، إذ لا ريب في ظهور هذا التركيب في الصحيحة وهم ملتزمون به فما قالوا في الجواب عنه فليقولوا به عما ذكر.
وثانيا بالحل من وجوه:
الأول: منع جواز مثل هذا النذر واليمين، ومنع الاتفاق على انعقادهما كيف، وقد وقع الخلاف فيهما في المقام.
وكيف كان، فانعقادهما مشكل غاية الإشكال، إذ لا بد أن يكون متعلقهما راجحا، ولا يمكن رجحان ترك العبادات.
وما يقال: من كراهة بعض العبادات فمعناه أقلية الثواب لا عدم الرجحان.
وتوهم رجحان الترك بعد النذر واليمين، حيث أنهما يقتضيان وجوبه فيكون راجحا.
مدفوع: بأنه حاصل بعدهما وهو غير كاف في صحتهما، إذ لا بد من ثبوته قبلهما، مع أنه على تسليمه بأن يقال بكفاية الرجحان الحاصل بهما مستلزم للدور كما لا يخفى.
412

الثاني: أن المحذورين المذكورين إنما يترتبان على أن يكون مراد الناذر هو الصحيح، لكنا نقول إن تعلق النذر واليمين، مع علم الناذر بأنه لو أراد الصحيح لزم المحذوران، قرينة على إرادة الأعم مجازا، والوضع للصحيح لا يلزمه الاستعمال فيه دائما، بل قد يخرج عن مقتضى الوضع بقرينة كسائر الحقائق.
الثالث: أنك قد عرفت أنا لا نقول بوضع تلك الألفاظ للصحيحة بمعنى المطلوبة، بل لذوات المفاهيم التامة بأجزائها وشرائطها، القابلة لتوجه الأمر إليها، ولا ريب أنها تجامع النهي والفساد، فلا يلزم من تعلق النذر بها خروجها عن كونها متعلقة له حتى يلزم المحذور الأول، فعلى هذا فلا يرد المحذور الثاني أيضا، فإن الذي يحصل به الحنث هي هذه المفاهيم مع كونها محرمة وفاسدة بعد النذر، لكن لا يتم بذلك مطلوب المستدل، إذ لا ريب أن الذي يحصل به الحنث حينئذ إنما هي هذه المفاهيم بتمام شرائطها وأجزائها المعتبرة فيها قبل تعلق الأمر بها، وهي كل شرط أو جزء اعتبر في العبادة غير نية القربة، فإنها مما يحصل بعد الأمر، لا الإتيان بكل صورة منها ولو مع فقد بعض الأجزاء والشرائط المذكورة، كأن صلى بلا سورة أو فاتحة أو بلا طهارة، فإنه لا يحصل به الحنث حينئذ قطعا.
فنقول: إنها لو كانت أسامي للأعم للزم حصول الحنث حينئذ بكل صورة من الصور الفاسدة، التالي باطل، فالمقدم مثله، والملازمة واضحة.
حجة القول بالتفصيل (1) بين الأجزاء والشرائط:
أما في اعتبار الأجزاء فعدم إمكان تحقق الكل بدون الجزء، فإذا تحققت الجزئية لم يعقل صدق الكل حقيقة بدونه، فإذا شك في حصوله أو في جزئيته مع عدم وجوده، لزمه الشك في صدق الكل.
وأما في عدم اعتبار الشرائط فبظهور خروج الشروط عن ماهية المشروط، كيف، ولو كانت مندوحة فيه لما تحقق فرق بينها وبين الأجزاء.
(1) هذا القول على ما حكي للمولى البهبهاني (ره)، واستحسنه شيخنا الأستاذ دام ظله أيضا، وإن كان مختاره القول بالصحيح مطلقا. لمحرره عفا الله عنه.
413

ويمكن أن يحتج لذلك أيضا بالاستقراء في كيفية وضع الوضاع الألفاظ للمعاجين والمركبات الخارجية، حيث أن ديدنهم وضعها بإزاء المركب من مجموع الأجزاء من دون اعتبار ما يتوقف حصول الخاصية المقصودة من المركب وهو الشرط ألا ترى أن الأطباء إنما وضعوا أسماء الأدوية والمعاجين للمركب من جميع ما يستند إليه الأثر المقصود منه، وهي الأجزاء، من دون اعتبار ما يتوقف عليه تأثيره في هذا الأثر فعلا كوصفهم المسهل للمركب من الأمور المؤثرة في الإسهال من دون اعتبار ما يتوقف عليه حصول هذا الأثر كشربه في الظل، أو الحرور، أو في ظرف مخصوص، وكذا حال سائر الوضاع كأرباب الصنائع والحرف عند وضعهم الألفاظ لمخترعاتهم المركبة، وكأهل اللغة في وضعهم الألفاظ للمركبات الخارجية، وحال الشارع كحالهم، لأنه أيضا أحد الوضاع، ونقطع أنه ليس طريقه وراء طريقتهم.
لكن هذا يتم على القول بثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني، وأما على القول بعدم ثبوتها، أو به بطريق التعين الناشئ عن غلبة الاستعمالات فلا، إلا أنه يمكن التمسك لذلك أيضا باستقراء أحوال المستعملين، إذ لا ريب أن كل من استعمل لفظا في معنى مركب ولو مجازا فهو إنما يستعمله في الملتئم من مجموع الأجزاء، من دون التفات إلى ما يتوقف تأثير تلك الأجزاء، هذا.
ولا يخفى ما في ابتناء التفصيل على عدم تحقق الفرق بين الجزء والشرط لولاه من الفساد.
وتوضيحه: أنه لا ريب أن الشروط على تقدير اعتبارهما ليست معتبرة بذواتها كالأجزاء، بل المعتبر حينئذ إنما هو تقيدها في المركب، فالداخل فيه وصف التقيد بها، لا ذواتها، ويكفي هذا الفرق، وأيضا الفرق بينهما من غير هذه الجهة في غاية الوضوح، إذ الجزء الذي يستند إليه التأثير، والشرط ماله دخل في تأثير الجزء أثره، بحيث لولاه لما أثر ذلك، لكن الأثر لا يستند إليه، فإن الذي ينسب إليه التبريد ويستند إليه هو الخل والعسل مثلا، لا كونهما في مكان مخصوص أو ظرف
414

كذلك، بحيث لولاهما لما تحقق أثر التبريد من ذينك.
وأما ما ذكرنا من الوجه، فقد عرفت أنه يتم على التقدير المذكور.
لكن يمكن القطع بعدم الوضع التعييني على القول بثبوت الحقيقة الشرعية.
ومع التنزل، فيكفي الشك فيه في منع نهوضه حجة لإثبات التفصيل كيف كان، كما هو غرض المستدل.
وأما الوجه الأخير فالإنصاف منعه أيضا، بل يمكن دعوى العكس بأن الناس في أوامرهم إذا تعلق غرضهم بمركب لأجل خاصية، فلا ريب في إرادتهم هذا المركب مع ما يعتبر في حصول الخاصية المذكورة، ولو كان الاستعمال مجازا.
ألا ترى أن الطبيب إذا قال للمريض (اشرب السقمونيا) لا يريد مطلق السقمونيا، بل ما يحصل منه الإسهال
اللهم إلا أن يمنع أن التقيد إنما هو بالنسبة إلى الشرب لا السقمونيا فتأمل.
ثم إنه قال (دام ظله) الإنصاف أن الشرائط مختلفة:
فمنها: ما نقطع بصحة سلب الاسم بفقده حقيقة كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة.
ومنها: ما نقطع بعدم صحة السلب بفقده كالوقت بالنسبة إليها، إذ لا يصح أن يقال: لمن صلى قبل الوقت أنه لم يصل.
أقول: ومثله إباحة المكان، فإنه لا يصح أن يقال: لمن صلى في مكان مغصوب أنه ما صلى، فعلى هذا لا يبعد التفصيل بالقول بوضعها للصحيحة بالنسبة إلى الأجزاء مطلقا وبالنسبة إلى الشرائط لا مطلقا، بل بالنسبة إلى الطهارة وأمثالها.
أقول: ويمكن دفع ذلك بأنا قد حققنا سابقا أن الألفاظ موضوعة للصحيحة بمعنى موضوع طلب الشارع، القابل للصحة والفساد بالمعنى الآخر (1)، ولا ريب أن الوقت ظرف لهذا الموضوع، لأنه مقيد به، بمعنى أن الشارع طلب الفعل في هذا الوقت لا مقيدا به.
(1) أعنى الموافقة وعدمها. لمحرره عفى الله عنه.
415

نعم ظروف الفعل قيود عقلية لا شرعية، لعدم اعتبار الشارع إياها في الموضوع، لكن العقل لما لاحظ أنه طلبه في الزمان الخاص أو المكان كذلك، يحكم بلزوم الامتثال والإطاعة بهذا النحو، وأنه لولاه لما برئ الذمة عن تبعة التكليف، فحينئذ لو فعله قبله فهو وإن كان فاسدا إلا أنه لعدم الأمر، لا لفقد الشرط، وأما إباحة المكان فيمكن دعوى أنها ليست من الشرائط المعتبرة في الموضوع، بل الغصب مانع عن تعلق الأمر في المكان المغصوب، نظير عدم القدرة المانع عن تعلقه به مطلقا إذا لم يقدر المكلف عليه مطلقا، أو بنحو خاص إذا لم يقدر عليه بهذا النحو فلما كان الموضوع متحققا في الخارج ولو على وجه الفساد، ولم يتوقف تحققه على تعلق الأمر به، فصدق الاسم حينئذ عليه وعدم صحة سلبه عنه لذلك، ولذا لو صلى بدون نية القربة أيضا يصدق الاسم حقيقة، ولا يصح السلب عنه كذلك، فإنها مما لا يتقوم إلا بالأمر، ولا يعقل اعتبارها في الموضوع.
والحاصل: أن الألفاظ المذكورة موضوعة للأفعال التي لو لا مانع عن تعلق الأمر بها، ولو لا فقد بعض الأمور المتقومة بالأمر المعتبرة في صحتها الفعلية - كنية القربة - لا تصف بالصحة بالمعنى الآخر - أعني موافقة امر الشارع - فعلى هذا لا تنافي تحققها في الخارج فاسدة بالمعنى الآخر، لعدم الأمر، أو لفقد بعض الأمور المذكورة، فتحقق أنها موضوعة للصحيحة بالمعنى الذي ذكرنا، للتبادر وأنه لا تنافي بين ذلك وبين صدق الاسم حقيقة على الأمثلة المتقدمة.
تذنيب: لا خفاء في الفرق بين الجزء والشرط من حيث المفهوم، حيث ما عرفت من أن الأول ما يكون جزء من المؤثر، ويستند إليه التأثير في الجملة، وأن الثاني ما يتوقف التأثير الفعلي للجزء عليه، بمعنى أن له دخلا في فعلية أثر الجزء، لكنه لا يستند إليه كما في (السكنجبين) حيث أن التبريد مستند إلى الخل والعسل، إلا أن تأثيرهما هذا الأثر فعلا يتوقف على اختلاطهما، ومزجهما، أو شربهما في آنية مخصوصة مثلا، فالمؤثر في تحقق عنوان العبادة في العبادات هي الأجزاء، إلا أن تأثيرها هذا الأثر في الخارج يتوقف على إيقاعها حال الطهارة وبنية القربة مثلا.
نعم قد يقع الاشتباه في بعض المصاديق من حيث كونه من أفراد الأول،
416

أو الثاني، كما إذا علم باعتبار شيء في المأمور به وتردد الأمر بين كونه جزء منه أو شرطا له، فحينئذ يشكل تمييز حاله، لعدم ضابط يرجع إليه حينئذ في تشخيص حال المشكوك وليس الأمر بأحدهما نفسيا وبالآخر غيريا حتى يمكن إحراز حال المشكوك بظهور (1) الأمر المتعلق به في النفسية، فيقال: إنه هو الذي يكون وجوبه نفسيا، بل الأوامر المتعلقة بكل منهما غيرية، والا لخرجا عن كونهما جزء أو شرطا.
نعم قد ذكروا ثمرات بين الجزء والشرط:
منها: كون الأول تعبديا يتوقف صحته على نية القربة فيه، بخلاف الثاني، فإن المقصود حصوله مع المشروط كيف اتفق.
ومنها: وجوب قصد الأول في ضمن الكل، بخلاف الثاني، فإنه لا يجب قصده مع المشروط، بل يكفي حصوله معه، وغير ذلك من الثمرات.
وعلى فرض تمامية هاتين الثمرتين والغض عن النقض بتعبدية بعض الشروط، كالطهارة للصلاة، وغير ذلك من المناقشات التي ليس هنا موضع ذكرها ربما يتخيل أنه إذا ثبت وجوب المشكوك بلفظ مبين، فيمكن الحكم بشرطيته، نظرا إلى ظاهر إطلاق الأمر، فإن اعتبار القربة، أو قصد التعيين في متعلقه تقييد فيه، والأصل عدمه، فثبت به كونه شرطا.
لكن لا ريب في فساده بالنسبة إلى نية القربة، ضرورة عدم أخذها في الأمر وتقيده بها ولو كانت معتبرة في الواقع، فحينئذ لا يجوز التمسك بظاهر الأمر على نفيها، فإن التمسك بالإطلاق إنما يصح إذا كان المشكوك من شأنه تقييد المطلق به.
وأما بالنسبة إلى وجوب القصد فلم نتأمل فيه بعد حق التأمل ولعلنا نمعن النظر فيه مستقصى بعد إن شاء الله تعالى.
ثم إنه لا يظهر الثمرة بين كون المشكوك جزء أو شرطا بين القائلين بوضع الألفاظ للصحيحة مطلقا، وبين القائلين بوضعها للأعم كذلك، بل تظهر بين القول بالتفصيل، وبين القول بالأعم، حيث إنه إن كان جزء فالمفصل يلزمه
(1) فيما إذا كان الحكم ثابتا باللفظ المبين، وإلا ففي صورة ثبوته بالمجمل أو باللب فلا لفظ ظاهرا حتى يتمسك بظهوره، لمحرره عفا الله عنه.
417

التوقف والإجمال، بخلاف الأعمي، وإن كان شرطا فكلاهما موافقان في تبين اللفظ وجواز التمسك به على نفيه بالأصل.
وكذا تظهر بينه وبين القول بالصحيح مطلقا، حيث إنه إن كان شرطا فاللفظ مبين على هذا القول فيجوز التمسك بإطلاقه على نفيه، بخلاف القول بالصحيح مطلقا، لإجماله عنده بالنسبة إلى الشرط أيضا.
إيقاظ: الترتيب بين الأجزاء في الأفعال المركبة، كالأجسام كذلك، من الأجزاء، وكذا الموالاة المعتبرة شرعا في الصلاة، فإنها أيضا جزء، فإن الجزء على قسمين:
الأول: ما يكون جزءا من مادة المركب كأفعال الصلاة وأذكارها، وكأجزاء المركبات الخارجية كأجزاء السرير مثلا، فيسمى جزءا ماديا.
الثاني: ما يكون جزءا من الهيئة العارضة للمركب فيسمى جزءا هيئيا وهما - أي الترتيب والموالاة - من القسم الثاني.
وكيف كان، فكما أنه لا يصدق الاسم على المركبات حقيقة إلا بعد تحقق أجزائها المادية، كذلك لا يصدق إلا بعد تحقق الهيئة المخصوصة التي بها سمي ذلك الشيء به، كهيئة السرير حيث أنه لا يصدق السرير على أجزائه المتفرقة، وهي الأخشاب الغير المنضمة إلا إذا انضمت وتحقق فيها هيئة خاصة بالسرير.
تذكرة: الفرق بين الأجزاء الواجبة وبين المستحبة في العبادات، أن الأولى أجزاء للمفهوم الكلي بحيث لا يتحقق هو في الخارج إلا بتحققها، بخلاف الثانية، فإنها من أجزاء الفرد الخاص بحيث لا يتوقف تحقق المفهوم الكلي على تحققها، لكفاية الفرد المشتمل على الأجزاء الواجبة في تحققه، فإن الأجزاء الواجبة إذا تحققت منفردة عن المستحبة في الخارج، فهي فرد من الكلي، وإذا تحققت معها فيكون هذا المجتمع فرد آخر منه، والأول كاف في تحققه، ويكون إيجاده بإيجاد الفرد الآخر مستحبا، لاشتمال هذا الفرد على مزية زائدة.
هذا إذا بنينا أن ألفاظ العبادات أسام للأجزاء الخارجية، وإذا قلنا بأنها موضوعة للمفاهيم البسيطة، فيشكل الفرق بينهما بما ذكر، حيث أن كل واحدة
418

منهما أجزاء للفرد المحقق لذلك المفهوم البسيط.
لكن يمكن الفرق حينئذ، بأن الأولى ما يتوقف تحقق هذا المفهوم البسيط على تحققها، بحيث لولاها لما أمكن وجوده في الخارج، بخلاف الثانية فإنها وإن كانت أجزاء لفرد خاص، ويكون هذا الفرد أيضا من محققات المفهوم المذكور، إلا أنه لا يتوقف حصوله على تحقق هذا الفرد الخاص، بل يوجد بأقل منه أجزاء وهو المشتمل على الأجزاء الواجبة.
ثم إن الأجزاء المستحبة:
منها: ما يكون محله بين الأجزاء الواجبة، بمعنى أن ظرف وقوعه بعد الشروع في الواجب من العبادة وقبل الفراغ منه، كالتكبيرات المندوبة قبل الركوع، أو بعده، أو بعد السجود ونحوها، وكالتسميع والقنوت.
ومنها: ما يكون ظرف وقوعه بعد الفراغ عن الأجزاء الواجبة، كالسلام الثاني على القول باستحبابه.
ومنها: ما يكون الشخص مخيرا بين إيقاعه قبل الشروع فيها أو بعده، كالتكبيرات المندوبة أول الصلاة الزائدة على تكبيرة الإحرام الواجبة، فإنها مستحبة، ويتخير المكلف بين تأخير التكبيرة الواجبة - فحينئذ يقع سائر التكبيرات المستحبة قبل الشروع في الواجب حيث أن أوله تكبيرة الإحرام - وبين تقديمها، فيقع فيما بين الواجب.
لا إشكال في جزئية الأول للفرد الذي يتحقق هو في ضمنه، نظرا إلى أنه إذا لا يتحقق جميع الأجزاء الواجبة لا يتحقق فرد للكلي أصلا، وبعد تحققها، والمفروض تحقق هذا الجزء المندوب في خللها، فيكون هو جزء من هذا الفرد.
وأما الثاني، وكذا الثالث إذا أتى به قبل الشروع في الواجب، ففي دخولهما فيه إشكال:
أما الثاني: فلأنه إذا تحقق الأجزاء الواجبة مع ما فيها من المندوبة، أو بدونها، يتحقق الفرد المحقق للكلي، فيكون المأتي به بعده خارجا عنه.
وأما الثالث: على التقدير المذكور فلأن أول الفرد المحقق له هو تكبيرة الإحرام مثلا، فما يتقدمها خارج عنه، وإلا للزم كون الأذان والإقامة أيضا جزءين
419

للصلاة لتحققهما قبل تكبيرة الإحرام.
ويمكن توجيه دخول الثاني: بأن صيرورة ما يصدر من الأفعال فردا من الواجب في بعض الموارد إنما هي بقصد المكلف وباعتباره، فإذا اعتبر إيجاده في ضمن هذا المجموع، فيكون هذا جزءا منه، وإذا لم يعتبر فيخرج، كما وجهنا بعض الأفعال التي يكون أفراده من قبيل الأقل والأكثر.
وأما توجيه دخول الثالث: فيمكن بذلك أيضا على إشكال قد مر، وهو عدم الفرق بينه وبين الأذان والإقامة فتأمل. تم الكلام بعون الملك العلام في تحقيق الحال في ألفاظ العبادات، وفقنا الله للمواظبة على صحيحتها، ورفعنا بها إلى أعلى ما هو عنده من الدرجات، وغفر ما علينا من الخطيئات والسيئات، بجاه محمد وآله الطاهرين، خير السادات، وصلى عليهم أفضل الصلوات وحياهم بأكمل التحيات، ولعن أعداءهم من الجن والإنس، من الأولين والآخرين إلى يوم الميقات، وقد وقع الفراغ منها في يوم الأحد ثاني عشر من شهر الصفر من سنة 1281.
420

[هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيحة أو للأعم]
أصل: اختلفوا في ألفاظ المعاملات على نحو اختلافهم في ألفاظ العبادات من أنها موضوعة للصحيحة أو للأعم.
وتحقيق الكلام فيها يتوقف على رسم مقدمة ومقام:
أما المقدمة:
فهي أن المراد بألفاظ المعاملات المتنازع فيها، هي بمعناها الأعم - أعني ما ليس بعبادة - لا بمعناها الأخص، وهو العقود، بقرينة تصريح بعضهم بدخول ألفاظ الإيقاعات في محل النزاع.
ثم إن النزاع ليس في مطلق تلك الألفاظ، بل في التي يكون معانيها مما يقبل الصحة والفساد، بأن يكون لها فرد متصف بالصحة، وآخر متصف بالفساد ولو بحكم العرف وبنائهم.
والصحة هنا: عبارة عن ترتب الأثر المقصود من الفعل عند العقلاء.
والصحيح: ما يترتب عليه هذا الأثر بحكم الشارع أو العرف ويفيده.
فعلى هذا يخرج الألفاظ الموضوعة لمعان لا تتصف بالصحة والفساد بهذا المعنى، كالزناء واللواط والشرب وأمثالها، حيث إنه ليس فيها أثر مقصود، وغرض عقلائي مجعول، يتحقق ببعض أفرادها دون بعض، وان كان أفرادها مختلفة في الحكم الشرعي، حيث أن بعض أفراد الزنا ليس عليه الحد، والآخر عليه ذلك، وثالث عليه القتل، لكن هذه أحكام شرعية، لا من الآثار المقصودة للفاعل، فعلى هذا ينحصر النزاع في ألفاظ العقود والإيقاعات.
ثم إن جريان النزاع فيها - أيضا - يتوقف على جعل معانيها عبارة عن الأفعال الخارجية، لا الأثر حيث أنه أمر بسيط، فلو تحقق كان صحيحا، ولو لم يتحقق فلا شيء، حتى يتصف بالفساد، فيكون أمره دائرا بين الصحة دائما، أو كونه لا شيء كذلك.
ثم إنه هل يتوقف النزاع على تصرف الشارع في معاني تلك الألفاظ
421

بزيادة شيء منه فيها على ما كانت عليه بحسب اللغة، أو العرف؟ وبعبارة أخرى:
هل يتوقف على كون معانيها من المخترعات الشرعية بإضافته بعض الأمور إليها زائدا على ما كانت عليه بحسب اللغة أو العرف، - فعلى هذا لا بد من اعتبار استعمال الشارع لتلك الألفاظ في غير المعاني اللغوية، أو العرفية لا محالة إن لم يلتزم بوضعه إياها لغير المعاني المذكورة، فإن تصرفه فيها، إما في مقام الوضع، أو في مقام الاستعمال ولو مجازا - أو لا يتوقف على ذلك، بل يكفي كون المعنى مما له فرد صحيح بحكم العرف أو الشارع؟ ظاهر بعض المحققين من المتأخرين () الأول.
والأقوى الثاني، إذ مع قطع النظر عن تصرف الشارع في تلك المعاني يمكن النزاع في أن تلك الألفاظ في اللغة
، أو العرف العام موضوعة لما يترتب عليه الأثر، فعلى القول بوضعها للأول المعبر عنه بالصحيح، يقال: إنها موضوعة لأفعال تفيد الأثر المقصود منها، أعني لهذا المفهوم الكلي، فحينئذ قد يكون صدق هذا المفهوم على بعض الأفراد ناشئا عن بناء الناس بكونهم ملتزمين بترتيب الأثر المذكور عليه، فيدخل في المفهوم المذكور لذلك، وقد يكون ناشئا من حكم الشارع بترتيب الأثر عليه.
وكيف كان، فلما كان الصحة هنا من الأمور الاعتبارية المنتزعة من حكم حاكم، فمتى ثبت الحكم بلزوم الترتيب من العرف، أو من الشارع بالنسبة إلى فرد فيدخل في المفهوم، وإلا فلا.
وربما يتحد العرف والشرع في الحكم بالترتيب، فيكون الفرد المذكور من أفراد المفهوم المذكور شرعا وعرفا، وقد يختلف فيدخل فيه بملاحظة أحدهما دون الآخر.
وظاهر الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك () جعل النزاع في العقود بقرينة قوله: إن البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح.
422

وظاهر الشهيد الأول (قدس سره) أيضا ذلك كما عن القواعد () بقرينة قوله: وسائر العقود. وأيضا ظاهره تصرف الشارع في العقود أيضا، بمعنى استعماله لها في غير المعاني اللغوية وابتناء النزاع عليه وقد عرفت ما فيه ().
ثم إن النزاع مع قطع النظر عن تصرف الشارع بالنحو المذكور إنما يتصور بأن يقال: إن تلك الألفاظ موضوعة لغة أو عرفا للأفعال المفيدة للأثر فيقال: إن البيع مثلا هل هو موضوع لغة أو عرفا لإيجاب وقبول يترتب عليهما الانتقال أو للأعم منه سواء بحكم العرف أو بحكم الشارع.
وبعبارة أخرى: إنه موضوع لما يفيد هذا الأثر بحكم حاكم، أو للأعم إلا أن الحاكم قد يكون العرف، وقد يكون الشارع، فحينئذ على القول بوضعه للصحيح يختلف صدقه بالنسبة إلى المصاديق، فلو فرضنا فردا من البيع يكون صحيحا عند العرف بمقتضى بنائهم، وفاسدا بمقتضى نهي الشارع واستعمله المتشرعة فيه، فإن كان المستعمل تابعا للعرف في البناء على ترتيب هذا الأثر عليه، فيكون استعماله فيه حقيقة، وإن كان تابعا للشارع فيكون استعماله فيه مجازا حيث إنه باعتقاده استعمل اللفظ فيما يترتب عليه الأثر.
نعم لما كان ظاهر حال المتشرعة تبعيتهم للشارع، فإذا استعملوه ينصرف إلى الصحيح عند الشارع، كما أن غير المتشرعة لو استعملوه ينصرف إلى ما هو صحيح بمقتضى بنائهم، لظهور حاله في تبعيته لقبيله.
وكيف كان، فلا يصح في الفرض المذكور جعل النزاع في أنها موضوعة للصحيح عند الشارع، فإن أهل اللغة والعرف المتقدمين على زمن الشارع لم يكونوا يعرفون ما عنده حتى يضعوها بإزائه، بل الموضوع عندهم حينئذ هو المفهوم العام، أعني ما يترتب عليه الأثر، ويكون مصاديقه ما هو المتعارف عندهم، ولو حكم الشارع بعد بصحة فرد آخر غير ما هو عندهم، فليس هذا تصرفا منه في وضع اللفظ، بل إنما هو إحداث مصداق لمفهومه، فيطلق اللفظ عليه حقيقة حينئذ.
423

لكونه فردا من المفهوم بحكم الشارع، أو حكم بفساد بعض ما عندهم، فإنه أيضا ليس تصرفا في وضع اللفظ، بل إنما هو إخراج لبعض المصاديق عن كونه مصداقا للمفهوم بحكمه.
واما مع ملاحظة تصرف الشارع، فمرجع النزاع حينئذ إلى أن الموضوع عند الشارع - على ثبوت الحقيقة الشرعية فيها، أو المجاز الشائع عنده بناء على عدم ثبوتها - هل هو ما حكم بصحته وبترتيب الأثر عليه أو للأعم فافهم.
وأما المقام: فهو في تحقيق المرام،
فنقول: الظاهر اختصاص وضع تلك الألفاظ لغة وعرفا أو شرعا - على ثبوت الحقيقة الشرعية - بالصحيحة، وكذا اختصاص غلبة استعمال الشارع لها فيها على عدم ثبوتها، لجريان كثير من الوجوه المتقدمة في المسألة السابقة هنا.
أما التبادر، وصحة السلب عن الفاسدة فمطلقا، وأما دليل الحكمة والاستقراء، فهما يقتضيان وضعها للصحيحة لغة وعرفا وشرعا - على القول بثبوت الحقيقة الشرعية - وأما مع عدمها فلا.
وكيف كان، فيكفي تبادر الصحيحة عند المتشرعة وغيرهم، فهو يكشف عن وضعها لها عرفا ولغة، ولو بضميمة أصالة عدم النقل.
وأما احتمال ثبوت الحقيقة الشرعية في تلك الألفاظ، فهو مما يكاد أن يقطع بعدمه، فإنها على فرض ثبوتها، فالذي وضعت تلك الألفاظ بإزائه، أما ما هو الموضوع له لتلك عند العرف واللغة أو غيره بتغيير وتصرف من الشارع فيها.
فإن كان الأول فيلغى الوضع لو كان ثبوته بطريق التعيين، إذ الغرض منه حصول اختصاص بين اللفظ والمعنى بحيث متى أطلق فهم منه المعنى بنفسه، وهو حاصل بوضع العرف أو اللغة، ولو كان ثبوته بطريق التعين الناشئ عن غلبة الاستعمالات المجازية، فلا ريب أنه لا يكون إلا بأن استعمل الشارع تلك الألفاظ مجازا كثيرا إلى حد يوجب الاختصاص، التالي باطل، بداهة أن الشارع تابع للعرف في استعماله الألفاظ اللغوية والعرفية، والمفروض أن تلك المعاني معان حقيقية لتلك الألفاظ، فيكون استعمال الشارع لها فيها أيضا حقيقيا، فإنه حينئذ كواحد من العرف، مع أنه لا يعقل المجازية هنا، فإنه لا بد فيها من ثبوت
424

وضع للفظ في غير المعنى المستعمل فيه مجازا وتبعية المتكلم للوضع المذكور، ثم ملاحظة العلاقة بين ما وضع له وبين هذا المعنى، ولا ريب انه لم يثبت لتلك الألفاظ وضع لمعنى آخر غير تلك المعاني، لا من اللغة ولا من الشارع، بل وضعه منحصر في تلك المعاني، فلا يكون هنا معنيان: أحدهما، الموضوع له والآخر غيره حتى يستعمل اللفظ في الآخر بملاحظة العلاقة.
هذا، مع أنه يلزم على هذا اتحاد المنقول منه والمنقول إليه وهو محال، لأن الشرط في النقل هجر اللفظ من المنقول منه، وهذا لا يمكن مع اتحاد المعنى، لاستلزامه التناقض، فإنه إن كان تلك الاستعمالات توجب هجر اللفظ من هذا المعنى، فكيف يعقل معه كونها موجبا لحصول الاختصاص أيضا، مع أنه لا معنى لكون غلبة الاستعمال موجبا للهجر.
وأما إن كان الثاني: فهو مبني على كون معاني تلك الألفاظ من الماهيات المخترعة عند الشارع، والظاهر أنه خلاف الإجماع وإن كان يوهمه عبارة الشهيد الأول (قدس سره) في القواعد ().
وكيف كان، فالظاهر بل المقطوع عدم ثبوت الحقيقة الشرعية في تلك الألفاظ بوجه، بل القدر الثابت بشهادة أمارات الوضع وضعها للصحيحة عرفا ولغة، ومع ثبوت ذلك يكفي في رد احتمال ثبوت الحقيقة الشرعية أصالة عدم النقل مع عدم قيام دليل قاطع بعد التنزل عن دعوى الظهور، أو القطع بعدم ثبوتها.
ومن هنا ظهر ضعف احتمال أن يكون النزاع على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية في تلك الألفاظ في المجاز الشائع عند الشارع، لما عرفت من أن المجازية متوقفة على تصرف الشارع في تلك المعاني وجعلها غير ما كانت
عليه بحسب اللغة والعرف، وإلا لم يعقل المجازية في تلك المعاني مع بقائها بحالها، لاتحاد المعنى الموضوع له والمجازي، وهو محال.
وقد عرفت فساد كونها من المخترعات عند الشارع أيضا، بل هي باقية عنده على ما كانت عليه لغة وعرفا.
425

ومما يكشف عن ذلك: إطباق علماء الإسلام طرا على جواز التمسك بإطلاق هذه الألفاظ إذا وقعت في حيز الخطابات الشرعية، مع أنه لو ثبت ماهية مخترعة عنده فلا بد من حمل اللفظ عليه سواء كان موضوعا بإزائها، أو لا، فإن الظاهر من اختراعه وتصرفه في تلك المعاني إعراضه عن إرادة ما هو عند العرف واللغة، فيكون قرينة صارفة عن المعنى اللغوي أو العرفي، فحينئذ يحمل على أقرب المجازات وهو المجعول صحيحا، اللازم باطل الضرورة، فالملزوم مثله.
نعم قد علم تصرف الشارع في بعض مصاديق تلك المعاني اللغوية والعرفية، بنهيه عن ترتيب الأثر عليه، لكنه لا يوجب التصرف في أصل المعني، كما لا يوجب تخطئة اللغة، والعرف في شؤون هذا المعنى معنى لذلك اللفظ، أو كون هذا الفرد المنهي عنه فردا، بل يوجب التصرف في منشأ صدق المعنى الكلي على هذا الفرد، لما أشرنا إليه سابقا من أن تأثير تلك الأفعال الخارجية التي هي جزئيات لمعاني تلك الألفاظ - المعبر عنها بالصحيحة - ليس من حيث كونها عللا عقلية، بل إنما هو بحسب الاعتبار، فلذا يختلف اتصافها بالصحة باعتبار المعتبرين وحكم الحكام، ويختلف بذلك صدق المفاهيم الكلية عليها، فإذا فرضنا أن فردا من البيع مثلا كان الناس قبل عثورهم على الشرع أو تدينهم به ملتزمين بترتيب أثر النقل والانتقال عليه، فلا ريب حينئذ في صحة إطلاق البيع الموضوع للصحيح عليه حينئذ بهذا الاعتبار حقيقة، ثم لو فرض نهي الشارع عن ترتيب الأثر المذكور على هذا الفرد، فهو موجب لإخراج هذا الفرد عن المفهوم الكلي بحكم الشارع، حيث أن منشأ صدق صدقه انما هو [كونه] () من مقولة الحكم، فبنهي الشارع يزول هذا المنشأ عنه بالنظر إلى الشارع وإلى تابعيه، وأما بالنظر إلى العرف الغير التابعين، الملتزمين بترتيب الأثر عليه، فهو من مصداقه.
وكيف كان، فلفظ البيع والصلح وغيرهما من العقود، ولفظ الطلاق وغيره من ألفاظ الإيقاعات، نظير لفظ المال والزوجة والملك، فإن لفظي المال والملك كما أنهما موضوعان لما يختص بالإنسان مع كونه مما يبذل الثمن بإزائه، ولا ريب أن الاختصاص المأخوذ في مفهومهما ليس مما يقتضيه ذات المال، ولا مما
426

يقتضيه السبب المنقل من الغير إلى الشخص بطريق العلية، بل إنما هو أمر اعتباري من مقولة الحكم، يختلف باختلاف الحكام، فلذا يكون الخمر مثلا مالا بالنسبة إلى الكفار المحللين له، وليس بمال عند المتشرعة، وكذلك الملك، ومثلهما الزوجة حيث أنه موضوع لمرأة مختصة بالشخص، مع أن زوجات الكفار، المعقود عليهن بطريقتهم لسن بزوجات حقيقة عند الشارع، أعني بملاحظة حكمه وان كان قد أمضى عملهم السابق إذا أسلموا، فلذا لو تزوج أحد من المتشرعة زوجة بطريقة الكفار لا تكون زوجة له شرعا، فيكون صدق المفاهيم المذكورة على الأفراد الخاصة، دائرا مدار الاعتبار، حيث أن القيد المأخوذ فيها، وهو الاختصاص أمر اعتباري، فكلما يطلق تلك الألفاظ على بعض تلك الأفراد تبعا للعرف، فلا بد من ثبوت الاختصاص في ذلك البعض عرفا، أو تبعا للشارع، فلا بد من ثبوته فيه شرعا، وإلا لكان الاستعمال في غير ما وضع له اللفظ مع ان مفهوم المال لا يختلف باختلاف المستعملين والموارد، وانما الاختلاف في الأفراد والمصاديق، وكذلك لفظ البيع وما بعده موضوع لما يفيد الأثر المجعول له، فإن استعمل في هذا المفهوم من حيث هو مع قطع النظر عن خصوصيات الأفراد فلا ريب في حقيقته وجواز إطلاقه، وأما إذا أريد [من] () إطلاقه بعض المصاديق، فهو لا يصدق عليه إلا بعد تحقق القيد المعتبر في المفهوم فيه أيضا، وإلا لما صار مصداقا له، لكن تحقق هذا القيد له لما لم يكن من آثار ذات العقد - مثلا - بل من الأمور الجعلية، فحينئذ يدور صدق صدقه عليه مدار ملاحظة الجعل والاعتبار، فإذا أراد إطلاقه عليه تبعا للعرف الغير المتشرعين فلا بد من إحراز التزامهم بترتيب الأثر عليه، ليكون هذا منشأ لصدق المفهوم عليه أو تبعا للمتشرعين أو الشرع، فلا بد من إحرازه عندهم حتى يتحقق منشأ الصدق، وذلك لا يوجب تفرقا واختلافا في وضع البيع، وفي مفهومه الذي وضع له.
وكيف كان، فالظاهر وضع ألفاظ العقود والإيقاعات للصحيحة منها لغة وعرفا، أعني ما يترتب عليه الأثر المقصود المجعول بشهادة التبادر من جوهر تلك
427

الألفاظ وصحة سلبها عن الفاسدة، وأن تصرف الشارع وشبهه عن بعض مصاديقها العرفية لا يستلزم التصرف في وضعها، وتغييرا في معناها، حيث إنها موضوعة للمفاهيم الكلية، لا المصاديق، وتصرفه موجب [ل‍] خروج ما نهي عنه عن تلك المفاهيم بحكمه، فإطلاقها عليه مجاز بملاحظة حكم الشارع، وإلا فبملاحظة العرف إذا بنوا على ترتب الأثر عليه فحقيقة بلا شبهة، فلذا لا يلزم من تصرفه في بعض الأفراد ثبوت الوضع الشرعي لها.
ثم إنه قد يستشكل في وضع تلك الألفاظ للصحيحة، بأن مقتضاه لزوم الإجمال في تلك الألفاظ إذا وقعت في حيز الخطابات، كما في ألفاظ العبادات على القول بوضعها للصحيحة، فعلى هذا لا يجوز التمسك بإطلاقها، ولا يصح الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق المشكوك في حالها، بل لا بد من التوقف والرجوع في تشخيص المصاديق إلى الأدلة الشرعية، اللازم باطل، ضرورة عدم توقف أحد من علماء الإسلام في صحة التمسك بإطلاق تلك الألفاظ والرجوع إلى العرف في تشخيص بعض المصاديق.
وكيف كان فقد اتفق الكل على ذلك، وكان ذلك عندهم كالضروريات، فالملزوم مثله، لأن انتفاء اللازم يكشف عن انتفاء الملزوم، لعدم جواز التفكيك بينهما عقلا، فلذا اختار جماعة وضعها للأعم.
لكنه مدفوع، بأن لزوم الإجمال في ألفاظ العبادات على تقدير وضعها للصحيحة ليس من جهة وضعها لها من حيث وضعها لها، بل من جهة أن معانيها من الماهيات المخترعة من الشارع، لا سبيل للعرف في معرفة وتشخيص الصحيحة منها بكنهها حتى يتشخص مفهومها، ويتمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شيء، بل لا يعقل الشك بعد تبين مفهومها، فإن مفاهيمها مساوية لما أمر الشارع به، ومعلوم أن ما أمر به مشتمل على جميع الأجزاء والشرائط، فالعلم بها يستلزم العلم بجميع الأمور المعتبرة، فلا يبقى شك فتأمل، وعدم جواز الرجوع في تشخيصها إلى العرف أيضا لذلك.
وكيف كان، فلما لم يكن تشخيصها بالعرف بحقائقها وكنهها، لعدم سبيل لهم إليها، فلا يجوز الرجوع إليهم لذلك ولا يجوز التمسك بإطلاق الألفاظ
428

أيضا، فإنه لا يكون إلا بعد إحراز المفهوم، وصدقه على المشكوك، والمفروض عدم إمكان إحرازه بالعرف وإنما سبيله منحصر في الأدلة الشرعية، فإذا شك في اعتبار شيء فمعناه عدم تحصيل المفهوم من الأدلة الشرعية فهو موجب للشك في المفهوم، وصدقه على الفرد المشكوك.
نعم القدر المتيقن من مصاديقها معلوم، وهو لا يكفي فيما ذكر.
ولو قيل: إنا نعلم مفاهيم تلك الألفاظ بوجه من وجوهها، ككونها صحيحة أو مأمورا بها أو مقربة، وغير ذلك
من الوجوه، وكذلك، العرف يعرفون ذلك، فلم لا يجوز التمسك بإطلاقها، ولا يجوز الرجوع إليهم في تشخيصها؟ قلنا: إن معرفتها بوجه من تلك الوجوه حقيقة في معنى الإجمال، فإنها عناوين منتزعة من المفهوم المجمل، حيث إنا نعلم أنه متصف بتلك الصفات، فلذا لا يكفي العلم في تشخيص مصاديقها، وصدقها عليها، بل معرفة المصاديق حينئذ أيضا متوقفة على الرجوع إلى الأدلة الشرعية.
هذا بخلاف ألفاظ المعاملات، فإنها لما كان وضعها لغويا أو عرفيا، ويكون معانيها مما يمكن تشخيصها بالعرف، كسائر الألفاظ اللغوية والعرفية، فيجوز الرجوع إليهم في معرفتها، ثم التمسك بإطلاقها على نفي ما يحتمل اعتباره شرعا، فإن اعتبار الشارع أمرا في مفاهيمها في مقام الحكم، بأن يقيدها حينئذ باعتبار بعض الأفراد لا يوجب التصرف في وضعها كما عرفت، ولا يمنع عن صدقها على مصاديقها العرفية، بل يوجب تقييدها وتخصيصها في الحكم الذي حكم به عليها، من الحل أو الحرمة، وإخراج بعض المصاديق عن ذلك الحكم، فلا يكون الشك في اعتبار شيء شرعا منشأ للشك في تلك المفاهيم، أو في صدقها على بعض المصاديق العرفية (1)، فيكون حال تلك الألفاظ إذا وقعت في حيز الأحكام الشرعية حال سائر الألفاظ اللغوية والعرفية في عدم كون الشك في اعتبار أمر زائد منشأ للشك في المفهوم، أو في صدقه على بعض المصاديق العرفية، كلفظ الغسل مثلا حيث انه موضوع لغة وعرفا.
(1) نعم لو شك في اعتبار شيء عرفا في صحة بعض المصاديق فهو موجب للشك في المفهوم، لكن الإشكال من جهة الشك في اعتبار شيء شرعا. لمحرره عفا الله عنه.
429

/ 1