كتاب المشاعر
صدر الدين محمد الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف]
(1) نحمد الله ونستعين بقوته التي أقام بها ملكوت الأرض والسماء وبكلمته التي أنشأ بها نشأتي الآخرة والأولى على تهذيب القوى القابلة للاستكمال وإصلاح العقول المنفعلة عن المعاني والأحوال للاتصال بالعقل الفعال وطرد شياطين الأوهام المضلة بأنوار البراهين وقمع أعداء الحكمة واليقين إلى مهوى المبعدين ومثوى المتكبرين. ونصلي على محمد المبعوث بكتاب الله ونوره المنزل معه على كافة الخلق أجمعين وآله وأولاده المطهرين عن أرجاس الطبيعة المقدسين عن ظلمات الوهم بأنوار الحق واليقين. اللهم صل وسلم عليه وعليهم وعلى جميع من سلك سبيلهم واقتفى دليلهم من شيعتهم المتقين.
(2) أما بعد: فأقل الخلائق قدرا وجرما وأكثرهم خطاء وجرما محمد المشتهر بصدر الدين الشيرازي يقول: أيها الإخوان السالكون إلى الله بنور العرفان! استمعوا باستماع قلوبكم مقالتي لينفذ في بواطنكم نور حكمتي.
وأطيعوا كلمتي وخذوا عني مناسك طريقتي من الإيمان بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا حاصلا للأنفس العلامة بالبراهين اليقينية والآيات الإلهية كما أشار إليه سبحانه في قوله والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وقوله ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا. وهذه هي الحكمة الممنون بها على أهلها والمضنون
51
بها على غير أهلها وهي بعينها العلم بالله من جهة ذاته المشار إليه بقوله أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد. والعلم به من جهة العلم بالآفاق والأنفس المشار إليه بقوله سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. فالعلوم الإلهية هي عين الإيمان بالله وصفاته والعلوم الآفاقية والأنفسية من آيات العلم بالله وملكوته وكتبه ورسله وشواهد العلم باليوم الآخر وأحواله والقبر والبعث والسؤال والكتاب والحساب والصراط والوقوف بين يدي الله والجنة والنار. وهي ليست من المجادلات الكلامية ولا من التقليدات العامية ولا من الفلسفة البحثية المذمومة ولا من التخيلات الصوفية بل هي من نتائج التدبر في آيات الله والتفكر في ملكوت سماواته وأرضه مع انقطاع شديد عما أكب عليه طباع أهل المجادلة والجماهير ورفض تام لما استحسنه قلوب المشاهير.
(3) ولقد قدمت إليكم يا إخواني في كتبي ورسائلي من أنوار الحكم ولطائف النعم وزهر الأرواح وزينة العقول مقدمات ذوات فضائل جمة هي مناهج السلوك إلى منازل الهدى ومعارج الارتقاء إلى الشرف الأعلى من علوم القرآن والتأويل ومعاني الوحي والتنزيل مما خطه القلم العظيم في اللوح الكريم وقرأه من ألهمه الله قراءته وكلمه بكلماته وعلمه محكم آياته مما نزل به
الروح الأمين على قلب من اصطفاه الله وهداه فجعله أولا خليفة في العالم الأرضي وزينة للملكوت السفلي. ثم جعله أهلا لعالمه العلوي وملكا في ملكوته السماوي. فكل من تنور بيت قلبه بهذه الأنوار ارتقى روحه إلى تلك الدار. ومن جحدها أو كفرها فقد أهوى إلى مهبط الأشرار ومهوى الشياطين والفجار ومثوى المتكبرين وأصحاب النار.
(4) ولما كانت مسألة الوجود أس القواعد الحكمية ومبنى المسائل الإلهية والقطب الذي يدور عليه رحى علم التوحيد وعلم المعاد وحشر الأرواح والأجساد وكثير مما تفردنا باستنباطه وتوحدنا باستخراجه فمن
52
جهل بمعرفة الوجود يسري جهله في أمهات المطالب ومعظماتها وبالذهول عنها فاتت عنه خفيات المعارف وخبيئاتها وعلم الربوبيات ونبواتها ومعرفة النفس واتصالاتها ورجوعها إلى مبدأ مبادئها وغاياتها فرأينا أن نفتح بها الكلام في هذه الرسالة المعمولة في أصول حقائق الإيمان وقواعد الحكمة والعرفان.
فنورد فيها أولا مباحث الوجود وإثبات أنه الأصل الثابت في كل موجود وهو الحقيقة وما عداه كعكس وظل وشبح. ثم نذكر هاهنا قواعد لطيفة ومباحث شريفة سنحت لنا بفضل الله وإلهامه مما يتوقف عليه معرفة المبدأ والمعاد وعلم النفس وحشرها إلى الأرواح والأجساد وعلم النبوات والولايات وسر نزول الوحي والآيات وعلم الملائكة وإلهاماتها وعلاماتها والشياطين ووساوسها وشبهاتها وإثبات عالم القبر والبرزخ وكيفية علم الله تعالى بالكليات والجزئيات ومعرفة القضاء والقدر والقلم واللوح وإثبات المثل النورية الأفلاطونية ومسألة اتحاد العقل بالمعقولات واتحاد الحس بالمحسوسات ومسألة أن البسيط كالعقل وما فوقه كل الموجودات وأن الوجود كله مع تباين أنواعه وأفراد ماهيته وتخالف أجناسه وفصوله حدا وحقيقة جوهر واحد له هوية واحدة ذات مقامات ودرجات عالية ونازلة إلى غير ذلك من المسائل التي توحدنا باستخراجها وتفردنا باستنباطها مما فرقناها في الكتب والرسائل تقربا إلى الله وتوسلا إلى مبدأ المبادي وأول الأوائل وعلومنا هذه ليست من المجادلات الكلامية ولا من التقليدات العامية ولا من الأنظار الحكمية البحثية والمغالطات السفسطية ولا من التخيلات الصوفية بل هي من البرهانات الكشفية التي شهد بصحتها كتاب الله وسنة نبيه وأحاديث أهل بيت النبوة والولاية والحكمة سلام الله عليه وعليهم أجمعين وجعلت الرسالة منطوية على فاتحة وموقفين وكل منهما مشتمل على مشاعر وسميتها بها لمناسبة بين الفحوى والظاهر والعلن والسر.
فنقول مستعينا بالله مستمدا من أهل ملكوته:
53
الفاتحة
في تحقيق مفهوم الوجود وأحكامه وإثبات
حقيقته وأحواله
وفيه مشاعر
55
المشعر الأول
في بيان أنه غني عن التعريف
(5) أنية الوجود أجلى الأشياء حضورا وكشفا وماهيته أخفاها تصورا واكتناها ومفهومه أغنى الأشياء عن التعريف ظهورا ووضوحا وأعمها شمولا. وهويته أخص الخواص تعينا وتشخصا إذ به يتشخص كل متشخص ويتحصل كل متحصل ويتعين كل متعين ومتخصص وهو متشخص بذاته ومتعين بنفسه كما ستعلم.
(6) وأما أنه لا يمكن تعريفه فلأن التعريف إما أن يكون بحد أو برسم. ولا يمكن تعريفه بالحد حيث لا جنس له ولا فصل له فلا حد له. ولا بالرسم إذ لا يمكن إدراكه بما هو أظهر منه وأشهر ولا بصورة مساوية له.
(7) فمن رام تعريفه فقد أخطأ إذ قد عرفه بما هو أخفى منه. اللهم إلا أن يريد تنبيها وإخطارا بالبال وبالجملة تعريفا لفظيا.
(8) ولأني أقول إن تصور الشيء مطلقا عبارة عن حصول معناه في النفس مطابقا لما في العين. وهذا يجري في ما عدا الوجود من المعاني والماهيات الكلية التي توجد تارة بوجود عيني أصيل وتارة بوجود ذهني ظلي مع انحفاظ ذاتها في كلا الوجودين وليس للوجود وجود آخر يتبدل عليه مع انحفاظ معناه خارجا وذهنا.
(9) فليس لكل حقيقة وجودية إلا نحو واحد من الحصول.
فليس للوجود وجود ذهني وما ليس له وجود ذهني فليس بكلي ولا جزئي ولا عام ولا خاص.
57
(10) فهو في ذاته أمر بسيط متشخص بذاته لا جنس له ولا فصل له ولا هو أيضا جنس لشيء ولا فصل له ولا نوع ولا عرض عام ولا خاصة. وأما الذي يقال له عرضي للموجودات من المعنى الانتزاعي الذهني فليس هو حقيقة الوجود بل هو معنى ذهني من المعقولات الثانية كالشيئية والممكنية والجوهرية والعرضية والإنسانية والسوادية وسائر الانتزاعيات المصدرية التي يقع بها الحكاية عن الأشياء الحقيقية أو غير الحقيقية. وكلامنا ليس فيه بل المحكي عنه وهو حقيقة واحدة بسيطة لا يفتقر أصلا في تحققه وتحصله إلى ضميمة قيد فصلي أو عرضي صنفي أو شخصي.
(11) بل قد يلزمه هذه الأشياء بحسب ما يتحصل به ويوجد من المعاني والماهيات إذ كل وجود سوى الوجود الأول البسيط الذي هو نور الأنوار يلزمه ماهية كلية إمكانية تتصف بهذه الأوصاف باعتبار حصولها في الأذهان فيصير جنسا أو فصلا أو ذاتيا أو عرضيا أو حدا أو رسما أو غير ذلك من صفات المفهومات الكلية دون الوجود إلا بالعرض.
58
المشعر الثاني
في كيفية شموله للأشياء
(12) شمول حقيقة الوجود للأشياء الموجودة ليس كشمول معنى الكلي للجزئيات وصدقه عليها كما نبهناك عليه من أن حقيقة الوجود ليست جنسا ولا نوعا ولا عرضا إذ ليست كليا. طبيعيا بل شموله ضرب آخر من الشمول لا يعرفه إلا العرفاء الراسخون في العلم. وقد عبروا عنه تارة ب النفس الرحماني وتارة بالرحمة التي وسعت كل شيء أو ب الحق المخلوق به عند طائفة من العرفاء وبانبساط نور الوجود على هياكل الممكنات وقوابل الماهيات ونزوله في منازل الهويات.
(13) وستعلم معنى هذا الكلام من أن الوجود مع كونه أمرا شخصيا متشخصا بذاته متعينا بنفسه مشخصا لما يوجد به من ذوات الماهيات الكلية كيف يتحد بها ويصدق هي عليه في الخارج ويعرض مفهومه عليها عروضا في الذهن بحسب التحليل العقلي.
(14) ويظهر لك أيضا أنه كيف يصدق القول بكون حقيقة الوجود مع كونها متشخصة بذاتها أنها مختلفة الحقائق بحسب اختلاف الماهيات الإمكانية المتحدة كل منها بدرجة من درجاته ومرتبة من مراتبه سوى الوجود الحق الأول الذي لا ماهية له لأنه صريح الوجود الذي لا أتم منه ولا أشد قوة وكمالا ولا يشوبه عموم وخصوص ولا يحده حد ولا يضبطه اسم ورسم ولا يحيط به علم وعنت الوجوه للحي القيوم.
59
المشعر الثالث في تحقيق الوجود عينا
(15) اعلم أيدك الله تعالى بنوره أن الوجود أحق الأشياء بأن يكون ذا حقيقة موجودة وعليه شواهد قطعية.
الشاهد الأول
(16) أن حقيقة كل شيء هو وجوده الذي يترتب به عليه آثاره وأحكامه. فالوجود إذن أحق الأشياء بأن يكون ذا حقيقة إذ غيره به يصير ذا حقيقة فهو حقيقة كل ذي حقيقة ولا يحتاج هو في أن يكون ذا حقيقة إلى حقيقة أخرى. فهو بنفسه في الأعيان وغيره أعني الماهيات به في الأعيان لا بنفسها.
(17) نريد به أن كل مفهوم كالإنسان مثلا إذا قلنا إنه ذو حقيقة أو ذو وجود كان معناه أن في الخارج شيئا يقال عليه ويصدق عليه أنه إنسان. وكذا الفرس والفلك والماء والنار وسائر العنوانات. والمفهومات التي لها أفراد خارجية هي عنوانات صادقة عليها. ومعنى كونها متحققة أو ذات حقيقة أن مفهوماتها صادقة على شيء صدقا بالذات والقضايا المعقودة كهذا إنسان وذاك فرس ضروريات ذاتية. فهكذا حكم مفهوم الحقيقة. والوجود ومرادفاته لا بد وأن يكون عنوانه صادقا على شيء حتى يقال على شيء إن هذا حقيقة كذا صدقا بالذات وتكون القضية المعقودة هاهنا ضرورية ذاتية أو ضرورية أزلية.
(18) لست أقول إن مفهوم الحقيقة أو الوجود الذي هو بديهي التصور يصدق عليه أنه حقيقة أو وجود حملا متعارفا إذ صدق كل عنوان
60
على نفسه لا يلزم أن يكون بطريق الحمل المتعارف بل حملا أوليا غير متعارف.
(19) بل إنما أقول إن الشيء الذي يكون انضمامه مع الماهية أو اعتباره معها مناط كونها ذات حقيقة يجب أن يصدق عليه مفهوم الحقيقة أو الموجودية. فالوجود يجب أن يكون له مصداق في الخارج يحمل عليه هذا العنوان بالذات حملا شايعا متعارفا. وكل عنوان يصدق على شيء في الخارج فذلك الشيء فرده وذلك العنوان متحقق فيه. فيكون لمفهوم الوجود فرد في الخارج فله صورة عينية خارجية مع قطع النظر عن اعتبار العقل وملاحظة الذهن. فيكون الوجود موجودا في الواقع وموجوديته في الخارج أنه بنفسه واقع في الخارج كما أن زيدا مثلا إنسان في الواقع وكون زيد إنسانا في الواقع عبارة عن موجوديته. فكذا كون هذا الوجود في الواقع عبارة عن كونه بنفسه وجودا وكون غيره به موجودا لا أن للوجود وجودا آخر زائدا عليه عارضا له بنحو من العروض ولو بالاعتبار كما في العوارض التحليلية بخلاف الماهية كالإنسان. فإن معنى كونه موجودا أن شيئا في الخارج هو إنسان لا أن شيئا في الخارج هو وجود. ومعنى كون الوجود موجودا أن شيئا في الخارج هو وجود وهو حقيقة.
(20) واعلم أن كل موجود في الخارج غير الوجود ففيه شوب تركيب ولو عقلا بخلاف صرف الوجود. ولأجل هذا قال الحكماء:
كل ممكن أي كل ذي ماهية زوج تركيبي فليس شيء من الماهيات بسيط الحقيقة. وبالجملة الوجود موجود بذاته لا بغيره. وبهذا تدفع المحذورات المذكورة في كون الوجود موجودا. وأما الأمر الانتزاعي العقلي من الوجود فهو كسائر الأمور العامة والمفهومات الذهنية كالشيئية والماهية والممكنية ونظائرها إلا أن ما بإزاء هذا المفهوم أمور متأصلة في التحقق والثبوت بخلاف الشيئية والماهية وغيرهما من المفهومات.
61
(21) واعلم أن للوجودات حقائق خارجية لكنها مجهولة الأسامي. شرح أسمائها أنها وجود كذا ووجود كذا. ثم يلزم الجميع في الذهن الأمر العام. وأقسام الشيء والماهية معلومة الأسامي والخواص. والوجود الحقيقي لكل شيء من الأشياء لا يمكن التعبير عنه باسم ونعت إذ وضع الأسماء والنعوت إنما يكون بإزاء المفهومات والمعاني الكلية لا بإزاء الهويات الوجودية والصور العينية.
الشاهد الثاني
(22) إن من البين الواضح أن المراد بالخارج والذهن في قولنا هذا موجود في الخارج وذاك موجود في الذهن ليسا من قبيل الظروف والأمكنة ولا المحال بل المعنى بكون الشيء في الخارج أن له وجودا يترتب عليه آثاره وأحكامه وبكونه في الذهن أنه بخلاف ذلك. فلو لم يكن للوجود حقيقة إلا مجرد تحصل الماهية لم يكن حينئذ فرق بين الخارج والذهن وهو محال إذ الماهية قد تكون متحصلة ذهنا وليست بموجودة في الخارج.
الشاهد الثالث
(23) إنه لو كانت موجودية الأشياء بنفس ماهياتها لا بأمر آخر لامتنع حمل بعضها على بعض والحكم بشيء منها على شيء كقولنا زيد حيوان والإنسان ماش لأن مفاد الحمل ومصداقه هو الاتحاد بين مفهومين متغايرين في الوجود وكذا الحكم بشيء على شيء عبارة عن اتحادهما وجودا وتغايرهما مفهوما وماهية وما به المغايرة غير ما به الاتحاد. وإلى هذا يرجع ما قيل إن الحمل يقتضي الاتحاد في الخارج والمغايرة في الذهن. فلو لم يكن الوجود شيئا غير الماهية لم تكن جهة الاتحاد مخالفة لجهة المغايرة. واللازم باطل كما مر فالملزوم مثله. بيان الملازمة أن صحة الحمل مبناه على وحدة ما وتغاير ما إذ لو كان هناك وحدة محضة لم يكن حمل ولو كان كثرة محضة لم يكن حمل. فلو كان الوجود أمرا انتزاعيا يكون وحدته
62
وتعدده تابعين لوحدة ما أضيف إليه وتعدده من المعاني والماهيات.
وإذا كان كذلك لم يتحقق حمل متعارف بين الأشياء سوى الحمل الأولي الذاتي فكان الحمل منحصرا في الحمل الذاتي الذي مبناه الاتحاد بحسب المعنى.
الشاهد الرابع
(24) لو لم يكن الوجود موجودا لم يوجد شيء من الأشياء وبطلان التالي يوجب بطلان المقدم. بيان الملازمة أن الماهية إذا اعتبرت بذاتها مجردة عن الوجود فهي معدومة وكذا إذا اعتبرت بذاتها مع قطع النظر عن الوجود والعدم فهي بذلك الاعتبار لا موجودة ولا معدومة. فلو لم يكن الوجود موجودا في ذاته لم يمكن ثبوت أحدهما للآخر. فإن ثبوت شيء لشيء أو انضمامه إليه أو اعتباره معه متفرع على وجود المثبت له أو مستلزم لوجوده. فإذا لم يكن الوجود في ذاته موجودا ولا الماهية في ذاتها موجودة فكيف يتحقق هاهنا موجود فلا تكون الماهية موجودة. وكل من راجع وجدانه يعلم يقينا أنه إذا لم تكن الماهية متحدة بالوجود كما هو عندنا ولا معروضة له كما اشتهر بين المشائين ولا عارضة له كما عليه طائفة من الصوفية فلم يصح كونها موجودة بوجه فإن انضمام معدوم بمعدوم غير معقول وأيضا انضمام مفهوم بمفهوم من غير وجود أحدهما أو عروضه للآخر أو وجودهما أو عروضهما لثالث غير صحيح أصلا فإن العقل يحكم بامتناع ذلك.
(25) وما قيل من أن موجودية الأشياء بانتسابها إلى واجب الوجود فكلام لا تحصيل فيه لأن الوجود للماهية ليس كالبنوة للأولاد حيث يتصفوا بها لأجل انتسابهم إلى شخص واحد. وذلك لأن حصول النسبة بعد وجود المنتسبين واتصافها بالوجود ليس إلا نفس وجودها.
(26) وقال بهمنيار في التحصيل إنا إذا قلنا كذا موجود فإنا نعني أمرين: أحدهما أنه ذو وجود كما يقال إن زيدا مضاف وهذا كلام
63
مجازي. والثاني أنه بالحقيقة أن الموجود هو الوجود كما أن المضاف بالحقيقة هو الإضافة.
الشاهد الخامس
(27) إنه لو لم يكن للوجود صورة في الأعيان لم يتحقق في الأنواع جزئي حقيقي هو شخص من نوع. وذلك لأن نفس الماهية لا تأبى عن الشركة بين كثيرين وعن
عروض الكلية لها بحسب الذهن وإن تخصصت بألف تخصيص من ضم مفهومات كثيرة كلية إليها. فإذن لا بد وأن يكون للشخص زيادة على الطبيعة المشتركة تكون تلك الزيادة أمرا متشخصا لذاته غير متصور الوقوع للكثرة. ولا نعني بالوجود إلا ذلك الأمر. فلو لم يكن متحققا في أفراد النوع لم يكن شيء منها متحققا في الخارج. هذا خلف.
(28) وأما قول إن التشخص من جهة الإضافة إلى الوجود الحق المتشخص بذاته فقد علم فساده بمثل ما مر فإن إضافة الشيء إلى شيء بعد تشخصها جميعا.
(29) ثم النسبة بما هي نسبة أيضا أمر عقلي كلي وانضمام الكلي إلى الكلي لا يوجب الشخصية.
(30) هذا إذا كان المنظور إليه حال النسبة بما هي مفهوم من المفهومات وليست هي بذلك الاعتبار نسبة أي معنى غير مستقل.
وأما إذا كان المنظور إليه حال الماهية بالذات فليست هي بحسب نفسها محكوما عليها بالانتساب إلى غيرها ما لم يكن لها كون هي تكون بذلك الكون منسوبة إلى مكونها وجاعلها. ولا نعني بالوجود إلا ذلك الكون ولا يمكن تعقله وإدراكه إلا بالشهود الحضوري كما سيتضح بيانه.
64
الشاهد السادس
(31) اعلم أن العارض على ضربين: عارض الوجود وعارض الماهية. والأول كعروض البياض للجسم أو الفوقية للسماء في الخارج وكعروض الكلية والنوعية للإنسان والجنسية للحيوان. والثاني كعروض الفصل للجنس والتشخص للنوع.
(32) وقد أطبقت ألسنة المحصلين من أهل الحكمة بأن اتصاف الماهية بالوجود وعروضه لها ليس اتصافا خارجيا وعروضا حلوليا بأن يكون للموصوف مرتبة من التحقق. والكون ليس في تلك المرتبة مخلوطا بالاتصاف بتلك الصفة بل مجردا عنها وعن عروضها سواء كانت الصفة انضمامية خارجية كقولنا: زيد أبيض أو انتزاعية عقلية كقولنا: السماء فوقنا أو سلبية كزيد أعمى. وإنما اتصاف الماهية بالوجود اتصاف عقلي وعروض تحليلي وهذا النحو من العروض لا يمكن أن يكون لمعروضه مرتبة من الكون ولا تحصل وجودي لا خارجا ولا ذهنا لا يكون المسمى بذلك العارض. فإن الفصل مثلا إذا قيل إنه عارض للجنس ليس المراد أن للجنس تحصلا وجوديا في الخارج أو في الذهن بدون الفصل بل معناه أن مفهوم الفصل خارج عن مفهوم الجنس لاحق به معنى وإن كان متحدا معه وجودا. فالعروض بحسب الماهية في اعتبار التحليل مع الاتحاد فهكذا حال الماهية والوجود إذا قيل إن الوجود من عوارضها.
(33) فإذا تقرر هذا الكلام: فنقول: لو لم يكن للوجود صورة في الأعيان لم يكن عروضه للماهية هذا النحو الذي ذكرناه بل كان كسائر الانتزاعيات التي تلحق الماهية بعد ثبوتها وتقررها. فإذن يجب أن يكون الوجود شيئا توجد به الماهية وتتحد معه وجودا مع مغايرتها إياه معنى ومفهوما في ظرف التحليل. تأمل فيه.
65
الشاهد السابع
(34) من الشواهد الدالة على هذا المطلب أنهم قالوا: إن وجود الأعراض في أنفسها وجوداتها لموضوعاتها أي وجود العرض بعينه حلوله في موضوعه. ولا شك أن حلول العرض في موضوعه أمر خارجي زائد على ماهيته. وكذا الموضوع غير داخل في ماهية العرض وحدها وهو داخل في وجوده الذي هو نفس عرضيته وحلوله في ذلك الموضوع.
وهذا معنى قول الحكماء في كتاب البرهان إن الموضوع مأخوذ في حدود الأعراض. وحكموا أيضا بأن هذا من جملة المواضع التي تقع للحد زيادة على المحدود كأخذ الدائرة في حد القوس وأخذ البناء في حد البناء. فقد علم أن عرضية العرض كالسواد أي وجوده زائد على ماهيته.
(35) فلو لم يكن الوجود أمرا حقيقيا بل كان أمرا انتزاعيا أعني الكون المصدري لكان وجود السواد نفس سواديته لا حلوله في الجسم. وإذا كان وجود الأعراض وهو عرضيتها وحلولها في الموضوعات أمرا زائدا على ماهياتها الكلية فكذلك حكم الجواهر. ولهذا لا قائل بالفرق.
الشاهد الثامن
(36) إن ما يكشف عن وجه هذا المطلب وينور طريقه أن مراتب الشديد والضعيف في ما يقبل الأشد والأضعف أنواع متخالفة بالفصول المنطقية عندهم. ففي الاشتداد الكيفي مثلا في السواد وهو حركة كيفية يلزم عليهم لو كان الوجود اعتباريا عقليا أن يتحقق أنواع بلا نهاية محصورة بين حاصرين. وثبوت الملازمة كبطلان اللازم معلوم لمن تدبر واستبصر أن بإزاء كل حد من حدود الأشد والأضعف إذا كان ماهية نوعية كانت هناك ماهيات متباينة بحسب المعنى والحقيقة حسب انفراض الحدود الغير المتناهية. فلو كان الوجود أمرا عقليا نسبيا كان تعدده بتعدد المعاني المتمايزة المتخالفة الماهيات فيلزم ما ذكرناه.
66
(37) نعم إذا كان للجميع وجود واحد وصورة واحدة اتصالية كما هو شأن المتصلات الكمية القارة أو غير القارة وكانت الحدود فيها بالقوة لم يلزم محذور أصلا إذ وجود تلك الأنواع التي هي بإزاء الحدود أو الأقسام وجود بالقوة لا بالفعل إذا الكل موجود بوجود واحد اتصالي وحدته بالفعل وكثرته بالقوة. فإذا لم يكن للوجود صورة عينية كان الخلف لازما والإ شكال قائما.
67
المشعر الرابع في دفع شكوك أوردت على عينية الوجود
(38) إن للمحجوبين عن مشاهدة نور الوجود الفائض على كل ممكن موجود والجاحدين لأضواء شمس الحقيقة المنبسطة على كل ماهية إمكانية حجبا وهمية وحججا قوية كشفناها وأزحنا ظلمتها وفككنا عقدتها وحللنا إشكالها بإذن الله الحكيم وهي هذه:
(39) سؤال: إن الوجود لو كان حاصلا في الأعيان لكان موجودا فله أيضا وجود ولوجوده وجود آخر إلى غير النهاية.
(40) جواب: إنه إن أريد بالموجود ما يقوم به الوجود فهو ممتنع إذ لا شيء في العالم موجود بهذا المعنى لا الماهية ولا الوجود. أما الماهية فلما أشرنا إليه من أنه لا قيام للوجود بها. وأما الوجود فلامتناع أن يقوم الشيء بنفسه. واللازم باطل فكذا الملزوم.
بل نقول: إن أريد بالموجود هذا المعنى أي ما يقوم به الوجود يلزم أن يكون الوجود معدوما بهذا المعنى. فإن الشيء لا يقوم بنفسه كما أن البياض ليس بذي بياض. إنما الذي هو ذو بياض شيء آخر كالجسم أو المادة. وكونه معدوما بهذا المعنى لا يوجب اتصاف الشيء بنقيضه لأن نقيض الوجود هو العدم أو اللا وجود لا المعدوم أو اللا موجود. وقد اعتبرت في التناقض وحدة الحمل مواطاة أو اشتقاقا.
وإن أريد به المعنى البسيط المعبر عنه بالفارسية ب هست ومرادفاته فهو موجود وموجوديته هو كونه في الأعيان بنفسه وكونه موجودا هو بعينه كونه وجودا لا أن له أمرا زائدا على ذاته. والذي يكون لغيره منه يكون له في ذاته كما أن الكون في المكان وفي الزمان لهما بالذات ولغيرهما بواسطتهما وكما في التقدم والتأخر الزمانيين والمكانيين فإنهما لأجزائهما
68
بالذات ولغيرهما بواسطتهما وكما في معنى الاتصال فإنه ثابت للمقدار التعليمي بالذات ولغيره سببه وكالمعلومية للصورة العلمية بالذات وللأمر الخارجي بالعرض.
(41) سؤال: فيكون كل وجود واجبا بالذات إذ لا معنى لواجب الوجود إلا ما يكون وجوده ضروريا وثبوت الشيء لنفسه ضروري.
(42) جواب: هذا مندفع بثلاثة أمور: التقدم والتأخر والتمام والنقص والغنى والحاجة. وهذا المورد لم يفرق بين الضرورة الذاتية والضرورة الأزلية. فواجب الوجود يكون مقدما على الكل غير معلول لشيء وتاما لا أشد منه في قوة الوجود ولا نقصان فيه بوجه من الوجود وغنيا لا تعلق له بشيء من الموجودات إذ وجوده واجب بالضرورة الأزلية من غير تقييده بما دام الذات ولا اشتراطه بما دام الوصف. والوجودات الإمكانية مفتقرات الذوات متعلقات الهويات إذا قطع النظر عن جاعلها فهي بذلك الاعتبار باطلة مستحيلة إذ الفعل يتقوم بالفاعل كما أن ماهية النوع المركب يتقوم بفصله. فمعنى كون الوجود واجبا أن ذاته بذاته موجود من غير حاجة إلى جاعل يجعله ولا قابل يقبله. ومعنى كون الوجود موجودا أنه إذا حصل إما بذاته أو بفاعل لم يفتقر في كونه متحققا إلى وجود آخر يحصل له بخلاف غير الوجود لافتقاره في كونه موجودا إلى اعتبار الوجود وانضمامه.
(43) سؤال: إذا أخذ كون الوجود موجودا أنه عبارة عن نفس الوجود وكون غيره من الأشياء موجودا أنه شيء له الوجود فلم يكن حمل الوجود على الجميع بمعنى واحد. وقد ثبت أن إطلاق
الوجود على جميع الموجودات بمعنى مشترك. فلا بد من أخذ الوجود موجودا بالمعنى الذي أخذ في غيره من الموجودات وهو أنه شيء له الوجود. فلم يكن الوجود موجودا لاستلزامه التسلسل عند عود الكلام إلى وجود الوجود جذعا.
(44) جواب: هذا الاختلاف بين موجودية الأشياء وبين موجودية الوجود
69
ليس يوجب الاختلاف في إطلاق مفهوم الوجود المشتق المشترك بين الجميع لأنه إما معنى بسيط كما مرت الإشارة وإما عبارة عما ثبت له الوجود بالمعنى الأعم سواء كان من باب ثبوت الشيء لنفسه الذي مرجعه عدم انفكاكه عن نفسه أو من باب ثبوت الغير له كمفهوم الأبيض والمضاف وغيرهما. فإن مفهوم الأبيض ما له البياض سواء كان عينه أو غيره.
(45) والتجوز في جزء معنى اللفظ لا ينافي كون إطلاقه بحسب الحقيقة. وكون الأبيض مشتملا على أمر زائد على البياض إنما لزم من خصوصية بعض الأفراد لا من نفس المفهوم فكذلك كون الموجود مشتملا على أمر زائد على الوجود كالماهية إنما ينشأ من خصوصيات الأفراد الممكنة لا من نفس المفهوم المشترك.
(46) نظير ذلك ما قال الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء إن واجب الوجود قد يعقل نفس واجب الوجود كما أن الواحد قد يعقل نفس الواحد وقد يعقل من ذلك أن ماهية ما إنسان أو جوهر آخر هو واجب الوجود كما أنه يعقل من الواحد أنه ماء أو إنسان وهو واحد. قال ففرق إذا بين ماهية يعرض لها الواحد أو الموجود وبين الواحد والموجود من حيث هو واحد وموجود.
(47) وقال أيضا في التعليقات إذا سئل: هل الوجود موجود فالجواب أنه موجود بمعنى أن الوجود حقيقته أنه موجود. فإن الوجود هو الموجودية.
(48) ولقد أعجبني كلام السيد الشريف في حواشي المطالع وهو أن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم المشتق كالناطق وإلا لكان العرض العام داخلا في الفصل. ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشيء انقلبت مادة الإمكان الخاص ضرورية. فإن الشيء الذي له الضحك هو الإنسان
70
وثبوت الشيء لنفسه ضروري. فذكر الشيء في تفسير المشتقات بيان لما رجع إليه الضمير الذي فيها. انتهى كلامه.
(49) وهو قريب بما ذكره بعض أجلة المتأخرين في الحاشية القديمة لإثبات اتحاد العرض والعرضي.
(50) فعلم أن مصداق المشتق وما يطابقه أمر بسيط ليس يجب فيه تركيب بين الموصوف والصفة ولا الشيء معتبر في الصفة لا عاما ولا خاصا.
(51) سؤال: إن كان الوجود في الأعيان صفة موجودة للماهية فهي قابلة له والقابل وجوده قبل وجود المقبول فيتقدم الوجود على الوجود.
(52) جواب: كون الوجود متحققا في الأعيان فيما له ماهية لا يقتضي قابلية الماهية له إذ النسبة بينهما اتحادية لا ارتباطية. واتصاف الماهية بالوجود إنما يكون في ظرف التحليل إذ الوجود من العوارض التحليلية للماهية كما سبق وسيجئ زيادة إيضاح.
(53) سؤال: إن كان الوجود موجودا فإما أن يتقدم على الماهية أو يتأخر أو يكونا معا. فعلى الأول يلزم حصوله مستقلا دون الماهية فيلزم تقدم الصفة على موصوفها
وتحققه بدونها. وعلى الثاني يلزم أن تكون الماهية موجودة قبله ويلزم التسلسل. وعلى الثالث يلزم أن تكون الماهية موجودة معه لا به. فلها وجود آخر فيلزم ما مر. فبطلان التوالي بأسرها مستلزم لبطلان المقدم.
(54) جواب: قد مر أن اتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي ليس كاتصاف الشيء بالعوارض الخارجية كالجسم بالبياض حتى يكون لكل منهما ثبوت آخر ليتصور بينهما هذه الشقوق الثلاثة من التقدم والتأخر والمعية. فلا تقدم ولا تأخر لأحدهما على الآخر ولا معية أيضا إذ الشيء لا يتقدم على
71
نفسه ولا يتأخر ولا يكون أيضا معه.
(55) وعارضية الوجود للماهية أن للعقل أن يلاحظ الماهية من حيث هي هي مجردة عن الوجود: فحينئذ يجد الوجود خارجا عنه. فلو أعيد السؤال في النسبة بينهما عند التجريد بحسب الذهن يقال: هما بحسب التحليل معان في الوجود بمعنى أن الوجود بنفسه أو بجاعله موجود والماهية بحسب نفسها واعتبار تجريد العقل إياها عن كافة الوجودات لها نحو من الثبوت كما سيجيء بيانه. والحاصل أن كونهما معا في الواقع عبارة عن كون الوجود بذاته موجودا والماهية متحدة به وموجودة بنفسه لا بغيره. فالفاعل إذا أفاد الماهية أفاد وجودها وإذا أفاد الوجود أفاد بنفسه. فوجود كل شيء هو في ذاته مصداق لحمل ماهية ذلك الشيء عليه. فلا تقدم ولا تأخر لأحدهما على الآخر. وما قال بعض المحققين من أن الوجود متقدم على الماهية أراد به أن الأصل في الصدور والتحقق هو الوجود وهو بذاته مصداق لصدق بعض المعاني الكلية المسماة بالماهية والذاتيات عليه كما أنه بواسطة وجود آخر عارض عليه مصداق لمعان أخر تسمى بالعرضيات.
وليس تقدم الوجود على الماهية كتقدم العلة على المعلول وتقدم القابل على المقبول بل كتقدم ما بالذات على ما بالعرض وما بالحقيقة على ما بالمجاز.
(56) سؤال: نحن قد نتصور الوجود ونشك في كونه موجودا أم لا فيكون له وجود زائد. وكذا الكلام في وجود الوجود ويتسلسل. فلا محيص إلا بأن يكون الوجود اعتباريا محضا.
(57) جواب: حقيقة الوجود لا تحصل بكنهها في ذهن من الأذهان إذ ليس الوجود أمرا كليا ووجود كل موجود هو عينه الخارجي والخارجي لا يمكن أن يكون ذهنيا. والذي يتصور من الوجود هو مفهوم عام ذهني يقال له الوجود الانتسابي الذي يكون في القضايا. والعلم بحقيقة الوجود لا يكون إلا
72
حضورا إشراقيا وشهودا عينيا وحينئذ لا يبقى الشك في هويته.
(58) والأولى بهذا السؤال أن يورد إلزاما على من قال بزيادة الوجود على الماهية مستدلا بما ذكر من أنا نعقل الماهية ونشك في وجودها أو نغفل عنه والمعقول غير المشكوك فيه أو المغفول عنه فالوجود زائد على الماهية لكن ما حققناه في الأصل من أن الوجود غير زائد على الماهية وليس عروضه لها عروضا خارجيا ولا ذهنيا إلا بحسب التحليل كما أشرنا إليه. فانهدم الأساسان.
(59) سؤال: لو كان الوجود في الأعيان وليس بجوهر فيكون كيفا لصدق تعريف الكيف عليه. فيلزم مع ما مر من تقدم الموضوع عليه المستلزم للدور أو التسلسل كون الكيف أعم الأشياء مطلقا وكون الجوهر كيفا بالذات وكذا الكم وغيرهما.
(60) جواب: الجوهر والكيف وغيرهما من المقولات من أقسام الماهية وهي معان كلية تكون جنسا ونوعا وذاتية وعرضية. والحقائق الوجودية هويات عينية وذوات شخصية غير مندرجة تحت كلي ذاتي أو عرضي. فالجوهر مثلا ماهية كلية حقها في الوجود الخارجي أن لا تكون في موضوع. والكيف ماهية كلية حقها في الوجود الخارجي أن لا تقبل القسمة ولا النسبة. وهكذا في سائر المقولات. فسقط كون الوجود جوهرا أو كيفا أو كما أو عرضا آخر من الأعراض.
(61) وقد مر أيضا أن الوجود لا جنس له ولا فصل له ولا ماهية له ولا هو جنس وفصل ونوع لشيء ولا عرض عام وخاص لأن هذه الأمور من أقسام الكليات.
(62) وما هو من الأعراض العامة والمفهومات الشاملة هو معنى الموجودية المصدرية لا حقيقة الوجود.
73
(63) ومن قال إن الوجود عرض أراد به المفهوم العام العقلي وكونه عرضا أنه الخارج المحمول على الماهيات.
(64) وأيضا الوجود مخالف للأعراض لأن وجودها في نفسها وجودها لموضوعها. وأما الوجود فهو بعينه وجود الموضوع لا وجود عرض في الموضوع.
(65) والأعراض مفتقرة في تحققها إلى الموضوع والوجود لا يفتقر في تحققه إلى موضوع بل الموضوع يفتقر في تحققه إلى وجوده.
(66) والحق أن وجود الجوهر جوهر بعين جوهرية ذلك الجوهر لا بجوهرية أخرى. ووجود العرض عرض بعين عرضية ذلك العرض لا بعرضية أخرى كما علمت الحال بين الماهية والوجود.
(67) سؤال: إذا كان الوجود موجودا للماهية فله نسبة إليها وللنسبة أيضا وجود حينئذ فلوجود النسبة نسبة إلى النسبة وهكذا الكلام في وجود نسبة النسبة فيتسلسل.
(68) جواب: ما مر من الكلام يكفي لاندفاعه إذ الوجود عين الماهية خارجا وغيرها في الذهن فلا نسبة بينهما إلا بحسب الاعتبار العقلي وعند الاعتبار يكون للنسبة وجود هو عينها بالذات وغيرها بحسب الخارج ومثل هذا التسلسل ينقطع بانقطاع الاعتبار العقلي.
وستعلم كيفية الارتباط بينهما بحسب حالهما عند التحليل.
74
المشعر الخامس
في كيفية اتصاف الماهية بالوجود
(69) ولعلك تعود وتقول: لو كانت للوجود أفراد في الماهيات سوى الحصص لكان ثبوت فرد منه للماهية فرعا على ثبوتها بناء على القاعدة المشهورة. فيكون لها
ثبوت قبل ثبوتها كما مر.
(70) فاعلم أنه لا خصوصية لورود هذا الكلام على عينية الوجود بل وروده على انتزاعية الوجود أشكل لأن الوجود عين الماهية على تقدير العينية فلم يكن بينهما اتصاف بالحقيقة وغيرها على هذا التقدير فيكون وصفا لها. فيشكل كيفية الاتصاف لأن اتصاف الماهية بالوجود على تقدير أن يراد به الكون المصدري مصداقها حصول الماهية.
والماهية بأي اعتبار أخذت كان لها كون مصدري فلا يتصور تقدمها بحسب مطلق الكون على مطلق الكون بخلاف ما إذا كان الوجود أمرا حقيقيا وللماهية تحصلا عقليا غير وجودها.
(71) لكن الحق الحقيق بالتحقيق أن الوجود سواء كان عينيا أو عقليا نفس ثبوت الماهية ووجودها لا ثبوت شيء أو وجوده لها.
وبين المعنيين فرق واضح والذي تجري فيه القاعدة المذكورة هو ثبوت شيء لشيء لا ثبوت شيء في نفسه فقط. فقولنا زيد موجود كقولنا زيد زيد. فلا تجري فيه القاعدة الفرعية. والجمهور حيث
غفلوا عن هذه الدقيقة وقعوا فيما وقعوا من الاضطراب وتشعبوا في الأبواب. فتارة خصصوا القاعدة الكلية القائلة بالفرعية بما سوى صفة الوجود. وتارة هربوا عنها وانتقلوا إلى الاستلزام بدل الفرعية. وتارة أنكروا ثبوت الوجود أصلا لا ذهنا ولا عينا قائلين إنه مجرد اعتبار الوهم الكاذب واختراعه لأن مناط صدق المشتق اتحاده مع الشيء
75
لا قيام مبدأ الاشتقاق لأن مفهوم المشتق كالكاتب والأبيض أمر بسيط يعبر عنه ب دبير و (سفيد) فكون الشيء موجودا عبارة عن اتحاده مع مفهوم الموجود لا قيام الوجود به قياما حقيقيا أو انتزاعيا ولا يحتاج إلى وجود أصلا.
(72) فالواجب عند هذا القائل عين مفهوم الموجود لا عين الوجود.
وكذا الممكن الموجود. وكذا في جميع الاتصافات بالمفهومات. والفرق بين الذاتي والعرضي من المشتق عنده ليس بكون الاتحاد في الوجود الذي هو مناط الحمل عندنا في الذاتيات بالذات وفي العرضيات بالعرض إذ لا وجود عنده بل بأن المفهوم الذاتي هو الذي يقع في جواب ما هو والعرضي هو الذي لم يقع فيه. وهذا كله من التعسفات.
(73) إشراق حكمي. وجود كل ممكن عين ماهيته خارجا ومتحد بها نحوا من الاتحاد. وذلك لأنه لما ثبت وتحقق مما بينا أن الوجود الحقيقي الذي هو مبدأ الآثار ومنشأ الأحكام وبه تكون الماهية موجودة وبه يطرد العدم عنها أمر عيني. فلو لم يكن وجود كل ماهية عينها ومتحدا بها فلا يخلو: إما أن يكون جزءا منها أو زائدا عليها عارضا لها. وكلاهما باطلان لأن وجود الجزء قبل وجود الكل ووجود الصفة بعد وجود الموصوف. فتكون الماهية حاصلة الوجود قبل نفسها ويكون الوجود متقدما على نفسه. وكلاهما ممتنعان.
ويلزم أيضا تكرير نحو وجود شيء واحد من جهة واحدة أو التسلسل في المترتبات المجتمعة من أفراد الوجود. وهذا التسلسل مع استحالته بالبراهين واستلزامه لانحصار ما لا يتناهى بين حاصرين أي الوجود والماهية يستلزم المدعى بالخلف وهو كون الوجود عين الماهية في الخارج لأن قيام جميع الوجودات بحيث لا يشذ عنها وجود عارض يستلزم وجودا لها غير عارض وإلا لم يكن المفروض جميعا جميعا بل بعضا من الجميع.
76
(74) فإذا ثبت كون وجود كل ممكن عين ماهيته في العين فلا يخلو: إما أن يكون بينهما مغايرة في المعنى والمفهوم أو لا يكون. والثاني باطل وإلا لكان الإنسان مثلا والوجود لفظين مترادفين ولم يكن لقولنا الإنسان موجود فائدة ولكان مفاد قولنا الإنسان موجود وقولنا الإنسان إنسان واحدا ولما أمكن تصور أحدهما مع الغفلة عن الآخر إلى غير ذلك من اللوازم المذكورة في المتداولات من التوالي الباطلة. وبطلان كل من هذه التوالي مستلزم لبطلان المقدم.
فتعين الشق الأول وهو كون كل منهما غير الآخر بحسب المعنى عند التحليل الذهني مع اتحادهما ذاتا وهوية في نفس الأمر.
(75) بقي الكلام في كيفية اتصاف الماهية بالوجود بحسب اعتبار المغايرة الاتصافية في ظرف التحليل العقلي الذي هو أيضا نحو من أنحاء وجود الشيء في نفس الأمر بلا تعمل واختراع. وذلك لأن كل موصوف بصفة أو معروض لعارض فلا بد له من مرتبة من الوجود يكون متقدما بحسبه على تلك الصفة أو ذلك العارض غير موصوف به ولا معروض له. فعروض الوجود إما للماهية الموجودة أو غير الموجودة أو لا الموجودة ولا المعدومة جميعا: فالأول يستلزم الدور أو التسلسل والثاني يوجب التناقض والثالث يقتضي ارتفاع النقيضين.
(76) والاعتذار بأن ارتفاع النقيضين عن المرتبة جائز بل واقع غير نافع هاهنا لأن المرتبة التي يجوز خلو النقيضين عنها هي ما يكون من مراتب نفس الأمر ولا بد من أن يكون لها تحقق ما في الجملة سابقا على النقيضين كمرتبة الماهية بالقياس إلى العوارض. فإن للماهية وجودا مع قطع النظر عن العارض ومقابله كالجسم بالقياس إلى البياض ونقيضه. وليس لها مرتبة وجود مع قطع النظر عن وجودها. فقياس عروض الوجود للماهية بعروض البياض للجسم وقياس خلوها عن الوجود والعدم بخلو الجسم في
77
مرتبة وجوده عن البياض واللابياض قياس بلا جامع إذ قيام البياض ومقابله بالجسم فرع على وجوده وليس قيام الوجود بالماهية فرعا على وجودها إذ لا وجود لها إلا بالوجود.
(77) فالتحقيق في هذا المقام أن يقال بعد ما أشرنا إليه من أن عارض الماهية عبارة عن شيء يكون عين الماهية في الوجود وغيره في التحليل العقلي: أن للعقل أن يحلل الموجود إلى ماهية ووجود وفي هذا التحليل يجرد كلا منهما عن صاحبه ويحكم بتقدم أحدهما على الآخر واتصافه به: أما بحسب الخارج فالأصل والموجود هو الوجود لأنه الصادر عن الجاعل بالذات والماهية متحدة به محمولة عليه لا كحمل العرضيات اللاحقة بل حملها عليه واتحادها به بحسب نفس هويته وذاته وأما بحسب الذهن فالمتقدم هي الماهية لأنها مفهوم كلي ذهني يحصل بكنهها في الذهن ولا يحصل من الوجود إلا مفهومه العام الاعتباري. فالماهية هي الأصل في القضايا الذهنية لا الخارجية والتقدم هاهنا تقدم بالمعنى والماهية لا بالوجود. فهذا التقدم خارج عن الأقسام الخمسة المعروفة.
(78) فإن قلت: تجريد الماهية عن الوجود عند التحليل أيضا ضرب من الوجود لها في نفس الأمر فكيف تنحفظ قاعدة الفرعية في اتصافها بمطلق الوجود مع أن هذا التجريد من أنحاء مطلق الوجود قلنا: هذا التجريد وإن كان نحوا من مطلق الوجود فللعقل أن لا يلاحظ عند التجريد هذا التجريد وأنه نحو من الوجود فتتصف الماهية بالوجود المطلق الذي جردناها عنه. فهذه الملاحظة التي هي عبارة عن تخلية الماهية عن جميع الوجودات حتى عن هذه الملاحظة وعن هذه التخلية التي هي أيضا نحو من الوجود في الواقع من غير تعمل لها اعتباران: اعتبار كونها تجريدا وتعرية واعتبار كونها نحوا من الوجود.
(79) فالماهية بالاعتبار الأول موصوفة بالوجود وبالاعتبار الآخر
78
مخلوطة غير موصوفة. فالتعرية باعتبار والخلط باعتبار آخر. وليست حيثية أحد الاعتبارين غير حيثية الاعتبار الآخر ليعود الإشكال جذعا من أن الاعتبار الذي به تتصف الماهية بالوجود لا بد فيه أيضا من مقارنته للوجود. فتنفسخ ضابطة الفرعية وذلك لأن هذا التجريد عن كافة الوجود هو بعينه نحو من الوجود لا أنه شيء آخر غيره. فهو وجود وتجريد عن الوجود كما أن للهيولي الأولى قوة الجواهر الصورية وغيرها ونفس هذه القوة حاصلة لها بالفعل ولا حاجة لها إلى قوة أخرى لفعلية هذه القوة. ففعليتها قوتها للأشياء الكثيرة كما أن ثبات الحركة عين تجددها ووحدة العدد عين كثرته. فانظر إلى سريان نور الوجود ونفوذ حكمه في جميع المعاني بجميع الاعتبارات والحيثيات حتى أن تجريد الماهية عن الوجود أيضا متفرع على وجودها.
(80) تنبيه. وليعلم أن ما ذكرنا تتميم لكلام القوم على ما يوافق مذاقهم ويلائم مسلكهم في اعتبارية الوجود. وأما نحن فلا نحتاج إلى هذا التعمق لما قررنا أن الوجود نفس الماهية عينا. وأيضا الوجود نفس ثبوت الشيء لا ثبوت شيء له. فلا مجال للتفريع هاهنا.
فكان إطلاق الاتصاف على الارتباط الذي بين الماهية ووجودها من باب التوسع والتجوز لأن الارتباط بينهما اتحادي لا كالارتباط بين المعروض وعارضه والموصوف وصفته بل من قبيل اتصاف الجنس بفصله في النوع البسيط عند تحليل العقل إياه إليهما من حيث هما جنس وفصل لا من حيث هما مادة وصورة عقليتين.
79
المشعر السادس في أن تخصيص أفراد الوجود وهوياتها بماذا على سبيل الإجمال
(81) اعلم أنك قد علمت أن الوجود حقيقة عينية بسيطة لا أنه كلي طبيعي يعرض لها في الذهن أحد الكليات الخمسة المنطقية إلا من جهة الماهية المتحدة بها إذا أخذت من حيث هي هي. فإذن نقول: تخصيص كل فرد من الوجود إما بنفس حقيقته كالوجود التام الواجبي جل مجده وأما بمرتبة من التقدم والتأخر والكمال والنقص كالمبدعات أو بأمور لاحقة كأفراد الكائنات.
(82) وقيل تخصيص كل وجود بإضافته إلى موضوعه وإلى سببه لا أن الإضافة لحقته من خارج فإن الوجود عرض وكل عرض متقوم بوجوده في موضوعه وكذلك حال وجود كل ماهية بإضافته إلى تلك الماهية لا كما يكون الشيء في المكان أو في الزمان فإن كونه في نفسه غير كونه في المكان أو في الزمان. وهذا الكلام لا يخلو عن مساهلة إذ قياس نسبة الوجود إلى الماهية بنسبة العرض إلى الموضوع فاسد كما مر من أنه لا قوام للماهية مجردة عن الوجود وأن الوجود
ليس إلا كون الشيء لا كون شيء لشيء كالعرض لموضوعه أو كالصورة لمادتها. ووجود العرض في نفسه وإن كان عين وجوده لموضوعه لكن ليس بعينه وجود موضوعه بخلاف الوجود فإنه نفس وجود الماهية فيما له ماهية. فكما أن الفرق حاصل بين كون الشيء في المكان وفي الزمان وبين كون العرض في الموضوع كما ظهر من كلامه بأن كون الشيء في أحدهما غير كونه في نفسه وكون العرض في الموضوع عين كونه في نفسه فكذا الفرق حاصل بين وجود العرض في
80
الموضوع وبين وجود الموضوع فإن الوجود في الأول غير وجود الموضوع وفي الثاني عينه.
(83) قال الشيخ الرئيس في التعليقات وجود الأعراض في أنفسها وجوداتها لموضوعاتها سوى أن العرض الذي هو الوجود لما كان مخالفا لها لحاجتها إلى الموضوع حتى يصير موجودا واستغنى الوجود عن الوجود حتى يكون موجودا لم يصح أن يقال إن وجوده في موضوعه هو وجوده في نفسه بمعنى أن للوجود وجودا كما يكون للبياض وجود بل بمعنى أن وجوده في موضوعه نفس وجود موضوعه وغيره من الأعراض وجوده في موضوعه وجود ذلك الغير.
(84) وقال أيضا في التعليقات فالوجود الذي في الجسم هو موجودية الجسم لا كحال البياض والجسم في كونه أبيض إذ لا يكفي فيه البياض والجسم.
(85) أقول: إن أكثر المتأخرين لم يقدروا على تحصيل المراد من هذه العبارة وأمثالها حيث حملوها على اعتبارية الوجود وأنه ليس أمرا عينيا وحرفوا الكلم عن مواضعها. وإنني قد كنت في سالف الزمان شديد الذب عن تأصل الماهيات واعتبارية الوجود حتى هداني ربي وأراني برهانه. فانكشف لي غاية الانكشاف أن الأمر فيها على عكس ما تصوروه وقرروه. فالحمد لله الذي أخرجني عن ظلمات الوهم بنور الفهم وأزاح عن قلبي سحب تلك الشكوك بطلوع شمس الحقيقة وثبتني على القول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة. فالوجودات حقائق متأصلة والماهيات هي الأعيان الثابتة التي ما شمت رائحة الوجود أصلا. وليست الوجودات إلا أشعة وأضواء للنور الحقيقي والوجود القيومي جلت كبرياؤه إلا أن لكل منها نعوتا ذاتية ومعان عقلية هي المسماة بالماهيات.
(86) توضيح فيه تنقيح. أما تخصيص الوجود بالواجبية فبنفس حقيقته
81
المقدسة عن نقص وقصور. وأما تخصيصه بمراتبه ومنازله في التقدم والتأخر والغنى والحاجة والشدة والضعف فبما فيه من شؤونه الذاتية وحيثياته العينية بحسب حقيقته البسيطة التي لا جنس لها ولا فصل ولا يعرض لها الكلية كما علم. وأما تخصيصه بموضوعاته أعني الماهيات والأعيان المتصفة به في العقل على الوجه الذي مر ذكره فهو باعتبار ما يصدق عليه في كل مقام من ذاتياته التي تنبعث عنه في حد العلم والتعقل ويصدق عليه صدقا ذاتيا من الطبائع الكلية والمعاني الذاتية التي يقال لها في عرف أهل هذا الفن الماهيات وعند الصوفية الأعيان الثابتة وإن كان الوجود والماهية فيما له وجود وماهية شيئا واحدا والمعلوم عين الموجود. وهذا سر غريب فتح الله على قلبك باب فهمه إن شاء الله.
(87) قال الشيخ الرئيس في المباحثات إن الوجود في ذوات الماهيات لا يختلف بالنوع بل إن كان له اختلاف فبالتأكد والتضعف.
وإنما تختلف ماهيات الأشياء التي تنال الوجود بالنوع وما فيها من الوجود فغير مختلف النوع. فإن الإنسان يخالف الفرس بالنوع لأجل ماهيته لا لأجل وجوده انتهى كلامه. فالتخصيص في الوجود على الوجه الأول بحسب ذاته وهويته. وأما على الوجه الثاني فباعتبار ما معه في كل مرتبة من النعوت الذاتية الكلية.
(88) ولا يبعد أن يكون المراد بتخالف الوجودات نوعا كما اشتهر من المشائين هذا المعنى وهو بعينه كتخالف مراتب الأعداد أنواعا بوجه وتوافقها نوعا بوجه ما. فإنها يصح القول بكونها متحدة الحقيقة إذ ليس في كل مرتبة من العدد سوى المجتمع من الوحدات التي هي أمور متشابهة. ويصح القول بكونها متخالفة المعاني الذاتية إذ ينتزع
العقل من كل مرتبة نعوتا وأوصافا ذاتية ليست ثابتة لغيرها. ولها آثار وخواص متخالفة تترتب عليها بحسب أحكام نفسية ينتزع العقل من كل مرتبة لذاتها خلاف ما ينتزع
82
من مرتبة أخرى لذاتها. فهي بعينها كالوجودات الخاصة في أن مصداق تلك الأحكام والنعوت الكلية ذواتها بذواتها. فأتقن ذلك فإنه من العلوم الشريفة.
83
المشعر السابع
في أن الأمر المجعول بالذات من الجاعل والفائض
من العلة هو الوجود دون الماهية
وعليه شواهد
الشاهد الأول
(89) إنا نقول: ليس المجعول بالذات هو المسمى بالماهية كما ذهب أتباع الرواقيين كالشيخ المقتول ومن تبعه ومنهم العلامة الدواني ومن يحذو حذوه ولا صيرورة الماهية موجودة كما اشتهر من المشائين ولا مفهوم الموجود بما هو موجود كما يراه السيد المدقق بل الصادر بالذات والمجعول بنفسه في كل ما له جاعل هو نحو وجوده العيني جعلا بسيطا مقدسا عن كثرة تستدعي مجعولا ومجعولا إليه إذ لو كانت الماهية بحسب جوهرها مفتقرة إلى الجاعل لزم كونها متقومة به في حد نفسها ومعناها بأن يكون الجاعل معتبرا في قوام ذاتها بحيث لا يمكن تصورها بدونه. وليس كذلك.
(90) فإنا قد نتصور كثيرا من الماهيات بحدودها ولم نعلم أنها هل هي حاصلة بعد أم لا فضلا عن حصول جاعلها إذ لا دلالة لها على غيرها. ومن الماهيات الموجودة ما نتصورها ونأخذها من حيث هي هي مع قطع النظر عن ما سواها إذ هي بهذا الاعتبار ليست إلا نفسها. فلو كانت هي في حد نفسها مجعولة متقومة بالعلة مفتقرة إليها افتقارا قواميا لم يكن بحيث يمكن أخذها مجردة عن ما سواها ولا كونها مأخوذة من حيث هي هي كما لا يمكن ملاحظة معنى الشيء إلا مع أجزائه ومقوماته. فإذن أثر الجاعل
84
وما يترتب عليه ليس هو هي بل غيرها. فإذن المجعول ليس إلا وجود الشيء جعلا بسيطا دون ماهيته إلا بالعرض.
(91) فإن قلت: فعلى هذا يلزم أن يكون وجود الجاعل مقوما للوجود المجعول غير خارج عنه مثل ما يلزم من جعل الماهية ومجعوليتها قلت: نعم لا محذور فيه. فإن وجود المعلول متقوم بوجود علته تقوم النقص بالتمام والضعف بالقوة والإمكان بالوجوب.
(92) وليس لك أن تقول: نحن نتصور وجود المعلول مع الغفلة عن وجود علته الموجبة له فلا يكون متقوما به لأنا نقول: لا يمكن حصول العلم بخصوصية نحو من الوجود إلا بمشاهدة عينيته وهي لا يتحقق إلا من جهة مشاهدة علته الفياضة. ولهذا قالوا: العلم بذي السبب لا يحصل إلا بالعلم بسببه تأمل فيه.
الشاهد الثاني
(93) إن الماهية لو كانت في حد نفسها مجعولة لكان مفهوم المجعول محمولا عليها بالحمل الأولي الذاتي لا بالحمل الشائع الصناعي فقط. فيلزم أن يكون أثر الجاعل مفهوم المجعول دون غيره من المفهومات إذ كل مفهوم مغاير لمفهوم آخر إذ لا اتحاد بين المفهومات من حيث المعنى والماهية ولا يتصور الحمل الذاتي إلا بين مفهوم ونفسه أو بينه وبين حده كقولنا الإنسان إنسان أو حيوان ناطق. وأما قولنا الناطق ضاحك فغير جائز بالحمل الذاتي بل بالحمل الصناعي الذي مناطه الاتحاد في الوجود لا الاتحاد في المفهوم.
الشاهد الثالث
(94) إن كل ماهية فهي لا تأبى عن كثرة التشخصات والوجودات والتشخص لما كان عين الوجود كما قرره المحققون أو مساوقا له كما
85
يظنه الآخرون فلا يمكن أن يكون من لوازم الماهية كالوجود على ما برهن عليه. فلو كانت الماهية المجعولة متعددة الحصول في الأعيان كالنوع الواحد المتكثر أفراده فلا محالة أن يكون جعلها متعددا. فتعدد الجعل إما أن يقتضي أن يكون بحسب تعدد نفس الماهية أو تعدد حصولاتها وأنحاء وجوداتها فيكون الوجود متعددا بالذات والماهية متعددة بالتبع. والشق الأول مستحيل لأن صرف الشيء لا يتميز ولا يتعدد. فكيف تتكرر نفس الماهية ويتعدد جعلها من حيث هي هي وهذا شيء لا مجال لذي عقل أن يتصوره فضلا عن أن يجوزه. فبقي الشق الثاني وهو أن يكون الصادر بالذات والمجعول أولا على نعت الكثرة هي أنحاء الحصولات أعني الوجودات المتشخصة بذواتها ويتكثر بتكثرها الماهية الواحدة.
الشاهد الرابع
(95) إن الماهية الموجودة إن كانت نوعا منحصرا في شخص كالشمس مثلا فكونها هذا الموجود الشخصي مع احتمالها بحسب نفسها التعدد والاشتراك بين كثيرين إن كان من قبل الجاعل فيكون المجعول بالحقيقة هو الوجود دون الماهية وهو المطلوب. وإن كان من قبل الماهية فمع لزوم الترجيح من غير مرجح لتساوي نسبة الماهية إلى أشخاصها المفروضة يلزم أن تكون قبل الوجود والتشخص موجودة متشخصة. فيلزم تقدم الشيء على نفسه وهو ممتنع. ومع ذلك ننقل الكلام إلى كيفية وجوده وتشخصه فيلزم الدور أو التسلسل.
الشاهد الخامس
(96) لو كانت الجاعلية والمجعولية بين الماهيات وكان الوجود أمرا اعتباريا عقليا يلزم أن يكون المجعول من لوازم ماهية الجاعل.
ولوازم الماهيات أمور اعتبارية فيلزم أن يكون جواهر العالم وأعراضه كلها أمورا اعتبارية إلا المجعول الأول عند من اعترف بأن الواجب جل اسمه عين
86
الموجودية على أن القائلين بأن الواجب عين الوجود لو علموا حقيقة الوجود وأنها عين ذاته تعالى المنزهة عن الماهية لعلموا أن كل موجود يجب أن يكون فعله مثل طبيعته وإن كان ناقصا عنه قاصرا درجته عن درجته فما كانت طبيعته بسيطة ففعله بسيط. وكذا فعل فعله. ففعل الله في كل شيء إفاضة الخير ونفخ روح الوجود والحياة.
(97) قول عرشي. إن للوجود مراتب ثلاث. الأولى: الوجود الذي لا يتعلق بغيره ولا يتقيد بقيد مخصوص وهو الحري بأن يكون مبدأ الكل. والثانية: الوجود المتعلق بغيره كالعقول والنفوس والطبائع والأجرام والمواد. والثالثة: الوجود المنبسط الذي شموله وانبساطه على هياكل الأعيان والماهيات ليس كشمول الطبائع الكلية والماهيات العقلية بل على وجه يعرفه العارفون ويسمونه بالنفس الرحماني اقتباسا من قوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء وهو الصادر الأول في الممكنات عن العلة الأولى بالحقيقة ويسمونه بالحق المخلوق به وهو أصل وجود العالم وحياته ونوره الساري في جميع ما في السماوات والأرضين. وهو في كل شيء بحسبه حتى إنه يكون في العقل عقلا وفي النفس نفسا وفي الطبع طبعا وفي الجسم جسما وفي الجوهر جوهرا وفي العرض عرضا. ونسبته إليه تعالى كنسبة النور المحسوس والضوء المنبث على أجرام السماوات والأرض إلى الشمس. وهو غير الوجود الإثباتي الرابطي الذي كسائر المفهومات الكلية والمفهومات العقلية لا يتعلق بها جعل الجاعل ولا تأثير ولها أيضا كالمعقولات المتأصلة وجود لكن وجودها نفس حصولها في الذهن.
وكذلك الحكم في مفهوم العدم واللا شيء واللا ممكن واللا مجعول بل لا فرق عندنا بين هذه المفهومات وغيرها في كونها ليست إلا حكايات وعنوانات لأمور إلا أن بعضها عنوان لحقيقة موجودة وبعضها عنوان لأمر باطل بالذات.
87
الشاهد السادس
(98) إنه لو تحققت الجاعلية والمجعولية بين الماهيات لزم أن تكون ماهية كل ممكن من مقولة المضاف وواقعة تحت جنسه.
واللازم باطل بالضرورة فكذا الملزوم. أما بيان الملازمة فلما سبقت الإشارة إليه من لزوم التعلق الذاتي والارتباط المعنوي بين ما هو المجعول بالذات وما هو الجاعل بالذات.
(99) لا يقال: هذا مشترك الورود على المذهبين لأن المجعول إذا كان نفس وجود المعلول لا صفة زائدة عليه فكان في ذاته مرتبطا بغيره فيلزم من تعقله تعقل غيره أعني فاعله. وكل ما لا يمكن تعقله إلا مع تعقل غيره فهو من مقولة المضاف لأنا نقول: مقولة المضاف وكذا غيره من المقولات التسع إنما هي من أقسام الماهيات دون الوجودات. فالأجناس العالية هي المسماة بالمقولات وكل ما له حد نوعي فله جنس وفصل وهو لا محالة يجب أن يكون واقعة تحت إحدى المقولات العشرة المشهورة. وأما الوجود فقد ثبت أنه لا جنس له ولا فصل له وليس هو بكلي ولا جزئي متخصص بخصوصية زائدة على ذاته. فإذن لا يقع الوجود تحت شيء من المقولات بالذات إلا من جهة الماهية فيما له ماهية. ومن هاهنا تحقق أن البارئ جل ذكره وإن كان مبدأ كل شيء وإليه نسبة كل أمر ليس من مقولة المضاف تعالى عن أن يكون له مجانس أو مماثل أو مشابه أو مناسب علوا كبيرا.
الشاهد السابع
(100) إنه يلزم على مذهبهم أن يكون معنى الذاتي كالجوهر مشككا متفاوتا بالأقدمية والتالي باطل عندنا وعندهم جميعا فكذا الملزوم لأن بعض أفراد الجوهر علة لبعض آخر كما في علية الجواهر المفارقة بعضها لبعض وعلية الجواهر المفارقة للأجسام وعلية المادة والصورة للجسم
88
المركب منهما. والعلة في ذاتها أقدم من المعلول بل لا معنى لهذا النحو من التقدم والتأخر إلا العلية والمعلولية. فإذا كانت العلة ماهية وكان المعلول ماهية كانت ماهية
العلة بما هي هي متقدمة على ماهية المعلول وهي في ذاتها متأخرة عن ماهية علتها.
وإذا كانتا جوهرين كانت جوهرية إحداهما بما هي جوهرية أسبق من جوهرية الأخرى كذلك فيلزم التشكيك في معنى الذاتي. وهذا باطل عند محصلي الحكماء فإنهم قالوا: لا أولية ولا أولوية لماهية جوهر على ماهية جوهر آخر في تجوهره ولا في كونه جوهرا أي محمولا عليه معنى الجوهر الجنسي بل يتقدم عليه إما في وجوده كتقدم العقل على النفس أو في زمانه كتقدم الأب على الابن.
الشاهد الثامن
(101) إنه قد تقرر عندهم أن مطلب ما الشارحة غير مطلب ما الحقيقية وليست الغيرية في مفهوم الجواب عنهما لأنه الحد عند المحققين لا غيره إلا عند الاضطرار. فهذه المغايرة بين المطلبين ليست إلا من جهة اعتبار الوجود في الثاني دون الأول. ولزم من ذلك أن لا يكون الوجود مجرد أمر هو انتزاعي عقلي بل يكون أمرا حقيقيا وهو المطلوب.
89
المشعر الثامن في كيفية الجعل والإفاضة
وإثبات البارئ الأول وأن الجاعل الفياض واحد لا تعدد فيه ولا شريك له وفيه مشاعر
المشعر الأول في نسبة المجعول المبدع إلى الجاعل
(102) إن نسبة المجعول المبدع إلى الجاعل نسبة النقص إلى التمام والضعف إلى القوة: لما علمت أن الواقع في العين والموجود بالحقيقة ليست إلا الوجودات دون الماهيات وثبت أن الوجود حقيقة بسيطة لا جنس لها ولا فصل مقوم لها ولا نوع لها ولا فصل مقسم لها ولا تشخص لها بل تشخصها بنفس ذاتها البسيطة وأن التفاوت بالذات بين آحادها وهوياتها ليس إلا بالأشد والأضعف والاختلاف بالأمور العارضة إنما يتحقق في الجسمانيات ولا شك أن الجاعل أكمل وجودا وأتم تحصلا من مجعوله فالمجعول كأنه رشح وفيض من جاعله وأن التأثير في الحقيقة ليس إلا بتطور الجاعل في أطواره ومنازل أفعاله.
90
المشعر الثاني
في مبدأ الموجودات وصفاته وآثاره
(103) وهو المشار إليه بالإيمان بالله وكلماته وآياته وكتبه ورسله، وفيه مناهج.
91
المنهج الأول في وجوده تعالى ووحدته وفيه مشاعر
93
المشعر الأول في إثبات الواجب جل ذكره
وفي أن سلسلة الوجودات المجعولة يجب أن تنتهي إلى واجب الوجود
(104) برهان مشرقي وهو أنا نقول: الموجود إما حقيقة الوجود أو غيرها. ونعني بحقيقة الوجود ما لا يشوبه شيء غير صرف الوجود من حد أو نهاية أو نقص أو عموم أو خصوص وهو المسمى بواجب الوجود. فنقول: لو لم يكن حقيقة الوجود موجودة لم يكن شيء من الأشياء موجودا. واللازم بديهي البطلان فكذا الملزوم. أما بيان الملازمة فلأن ما عدا حقيقة الوجود إما ماهية من الماهيات أو وجود خاص مشوب بعدم أو نقص وكل ماهية غير الوجود فهي بالوجود موجودة لا بنفسها. كيف ولو أخذت بنفسها مطلقة أو مجردة عن الوجود لم تكن بنفسها نفسها فضلا عن أن تكون موجودة لأن ثبوت شيء لشيء فرع على ثبوته في نفسه فهي بالوجود موجودة.
وذلك الوجود إن كان غير حقيقة الوجود ففيه تركيب من الوجود بما هو وجود ومن خصوصية أخرى. وكل خصوصية غير الوجود فهي عدم أو عدمي وكل مركب متأخر عن بسيطه مفتقر إليه والعدم لا دخل له في موجودية الشيء وتحصله وإن دخل في حده ومعناه.
وثبوت أي مفهوم كان لشيء وحمله عليه سواء كان ماهية أو صفة أخرى ثبوتية أو سلبية فهو فرع على وجوده. والكلام عائد إلى ذلك الوجود أيضا فيتسلسل أو يدور أو ينتهي إلى وجود بحت لا يشوبه شيء. فظهر أن أصل موجودية كل شيء موجود وهو محض حقيقة الوجود الذي لا يشوبه شيء غير الوجود.
95
المشعر الثاني في أن واجب الوجود غير متناهي الشدة والقوة وأن ما سواه متناه محدود
(105) لما علمت أن الواجب تعالى محض حقيقة الوجود الذي لا يشوبه شيء غير الوجود فهذه الحقيقة لا يعتريها حد ولا نهاية إذ لو كان له حد ونهاية كان له تحدد وتخصص بغير طبيعة الوجود.
فيحتاج إلى سبب يحدده ويخصصه فلم يكن محض حقيقة الوجود.
فإذن ثبت أن واجب الوجود لا نهاية له ولا نقص يعتريه ولا قوة إمكانية فيه ولا ماهية له ولا يشوبه عموم ولا خصوص. فلا فصل له ولا تشخص له بغير ذاته ولا صورة له كما لا فاعل له ولا غاية له كما لا نهاية له بل هو صورة ذاته ومصور كل شيء لأنه كمال ذاته وكمال كل شيء لأن ذاته بالفعل من جميع الوجوه فلا معرف له ولا كاشف له إلا هو. ولا برهان عليه فشهد ذاته على ذاته وعلى وحدانية ذاته كما قال شهد الله أنه لا إله إلا هو. وسنشرح لك هذا.
96
المشعر الثالث
في توحيده تعالى
(106) لما كان الواجب تعالى منتهى سلسلة الحاجات والتعلقات وهو غاية كل شيء وتمام كل حقيقة فليس وجوده متوقفا على شيء ولا متعلقا بشيء كما مر. فيكون
بسيط الحقيقة من كل جهة. فذاته واجب الوجود من جميع الجهات كما أنه واجب الوجود بالذات وليست فيه جهة إمكانية ولا امتناعية وإلا لزم التركيب المستدعي للإمكان وهو ممتنع فيه تعالى.
(107) فإذا تقرر هذا فنقول: لو فرضنا في الوجود واجبين فيكون ما فرض ثانيا منفصل الذات عن الواجب تعالى لاستحالة أن يكون بين الواجبين علاقة ذاتية وإلا لزم معلولية أحدهما أو كليهما وهو خلاف الفرض. فلكل منهما إذن مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر ولا مترشحا منه فائضا من عنده. فيكون كل منهما عادما لكمال وجودي وفاقدا لمرتبة وجودية. فلم تكن ذات الواجب محض حيثية الفعلية ووجوب الوجود بل مؤلفا من جهتين ومصداقا لوجود شيء وفقد شيء آخر كليهما من طبيعة الوجود بما هو وجود ومناطا لوجوب نحو من الوجود وإمكان نحو آخر منه أو امتناعه.
فلم يكن واجب الوجود من كل جهة وقد ثبت أن ما هو واجب الوجود بالذات يجب أن يكون واجب الوجود من جميع الجهات وهذا خلف. فواجب الوجود بالذات يجب أن يكون من فرط الفعلية وكمال التحصل جامعا لجميع النشآت الوجودية والأطوار الكونية والشؤون الكمالية. فلا مكافئ له في الوجود ولا مماثل ولا ند ولا ضد ولا شبه بل ذاته من كمال الفضيلة يجب أن تكون مستند جميع الكمالات وينبوع كل الخيرات. فيكون تاما وفوق التمام.
97
المشعر الرابع في أنه المبدأ والغاية في جميع الأشياء
(108) الأصول الماضية دلت وقامت على أن واجب الوجود واحد بالذات لا تعدد له وأنه تام وفوق التمام. فالآن نقول إنه فياض على كل ما سواه بلا شركة في الإفاضة لأن ما سواه ممكنة الماهيات ناقصة الذوات متعلقة الوجودات بغيرها وكل ما يتعلق وجوده بغيره فهو مفتقر إليه مستتم به وذلك الغير مبدؤه وغايته.
فالممكنات كلها على تفاوتها وترتبها في الكمال والنقص فاقرة الذوات إليه مستغنية به. فهي في حدود أنفسها ممكنة واجبة بالأول الواجب تعالى بل باطلة هالكة بأنفسها حقة بالحق الواحد الأحد كل شيء هالك إلا وجهه. ونسبته إلى ما سواه كنسبة ضوء الشمس لو كان قائما بذاته إلى الأجسام المستضيئة منه المظلمة بحسب ذواتها.
وأنت إذا شاهدت إشراق الشمس على موضع وإنارته بنورها ثم حصل نور آخر من ذلك النور حكمت أن النور الثاني من الشمس وأسندته إليها وهكذا الثالث والرابع إلى أن ينتهي إلى أضعف الأنوار الحسية.
فعلى هذا المنوال وجودات الممكنات المتفاوتة في القرب والبعد من الواحد الحق والكل من عند الله.
98
المشعر الخامس في أن واجب الوجود تمام كل شيء
(109) قد علمت أن الوجود حقيقة واحدة بسيطة لا تتفاوت أعدادها بأمور ذاتية من جنس وفصل ونحوهما بل بكمال ونقص وغنى وفقر. وليس النقص والفقر مما يقتضيه نفس حقيقة الوجود وإلا لم يوجد واجب الوجود. والتالي باطل كما ثبت فالمقدم مثله. فظهر أن حقيقته في ذاتها تامة كاملة غير متناهي القوة والشدة. وإنما ينشأ النقص والقصور والإمكان ونحوه من الثانوية والمعلولية ضرورة أن المعلول لا يساوي علته والفائض لا يكافئ المفيض. فظهر أن واجب الوجود تمام الأشياء ووجود الوجودات ونور الأنوار.
99
المشعر السادس
في أن واجب الوجود مرجع كل الأمور
(110) اعلم أن الواجب بسيط الحقيقة وكل بسيط الحقيقة فهو بوحدته كل الأمور لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحاط بها إلا ما هو من باب الأعدام والنقائص. فإنك إذا فرضت شيئا بسيطا هو ج مثلا وقلت ج ليس ب فحيثية أنه ج إن كانت بعينها حيثية أنه ليس ب حتى تكون ذاته بذاته مصداقا لهذا السلب فيكون
الإيجاب والسلب شيئا واحدا. ولزم أن يكون كل من عقل الإنسان مثلا عقل أنه ليس بفرس بأن يكون نفس عقله الإنسان نفس عقله ليس بفرس. لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك. فظهر وتحقق أن موضوع الجيمية مغاير لموضوع أنه ليس ب ولو بحسب الذهن. فعلم أن كل موجود سلب عنه أمر وجودي فهو ليس بسيط الحقيقة بل ذاته مركبة من جهتين: جهة بها هو كذا وجهة هو بها ليس كذا. فبعكس النقيض:
كل بسيط الحقيقة هو كل الأشياء. فاحتفظ بهذا إن كنت من أهله.
100
المشعر السابع في أنه تعالى يعقل ذاته ويعقل الأشياء كلها من ذاته
(111) أما أنه يعقل ذاته فلأنه بسيط الذات مجرد عن شوب كل نقص وإمكان وعدم وكل ما هو كذلك فذاته حاضرة لذاته بلا حجاب. والعلم ليس إلا حضور الوجود بلا غشاوة. وكل إدراك فحصوله بضرب من التجريد عن المادة وغواشيها لأن المادة منبع العدم والغيبة إذ كل جزء من الجسم فإنه يغيب عن غيره من الأجزاء ويغيب عنه الكل ويغيب الكل عن الكل. فكل صورة هي أشد براءة من المادة فهي أصح حضورا لذاتها: أدناها المحسوسة على ذاتها ثم المتخيلة على مراتبها ثم المعقولة وأعلى المعقولات أقوى الموجودات وهو واجب الوجود.
فذاته عاقل ذاته ومعقول ذاته بأجل عقل وذاته مبدأ كل فيض وجود:
فبذاته يعقل جميع الأشياء عقلا لا كثرة فيه أصلا.
(112) ثم إن كل صورة إدراكية سواء كانت معقولة أو محسوسة فهي متحدة الوجود مع وجود مدركها ببرهان فائض علينا من عند الله وهو أن كل صورة إدراكية ولتكن عقلية فوجودها في نفسها ومعقوليتها ووجودها لعاقلها شيء واحد بلا تغاير بمعنى أنه لا يمكن أن يفرض لصورة عقلية نحو آخر من الوجود لم يكن هي بحسبه
معقولة لذلك العاقل وإلا لم يكن هي هي.
(113) فإذا تقرر هذا فنقول: لا يمكن أن تكون تلك الصورة متباينة الوجود عن وجود عاقلها حتى يكون لها وجود ولعاقلها وجود آخر عرضت لهما إضافة المعقولية والعاقلية كما للأب والابن والملك والمدينة وسائر الأمور المضافة التي عرضت لها الإضافة بعد وجود الذات. وإلا لم يكن
101
وجودها بعينه معقوليتها وقد فرضناها كذلك هذا خلف. فإذن لزم من ذلك أن الصورة العقلية في حد نفسها مع فرض تفردها عما عداها هي معقولة فتكون عاقلة أيضا إذ المعقولية لا يتصور حصولها بدون العاقلية كما هو شأن المتضايفين وحيث فرضناها مجردة عما عداها فتكون معقولة لذاتها. ثم الموضوع أولا أن هاهنا ذاتا تعقل الأشياء المعقولة لها ولزم من البرهان أن معقولاتها متحدة مع من يعقلها وليس إلا الذي فرضناه. فظهر وتبين مما ذكر أن كل عاقل يجب أن يكون متحد الوجود مع معقوله.
فهو المطلوب.
(114) وهذا البرهان جاز في سائر الإدراكات الوهمية والخيالية والحسية حتى أن الجوهر الحساس منا يتحد مع الصورة المحسوسة له بالذات دون ما خرج عن التصور كالسماء والأرض وغيرهما من الماديات التي ليس وجودها وجودا إدراكيا. فتدبر وأحسن إعمال رؤيتك فيه فإنه صعب المنال. والله ولي الفضل والإفضال.
102
المشعر الثامن في أن الوجود بالحقيقة هو الواحد الحق تعالى
وكل ما سواه بما هو مأخوذ بنفسه هالك دون وجهه الكريم
(115) لما علمت أن الماهيات لا تأصل لها في الكون وأن الجاعل التام بنفس وجوده جاعل وأن المجعول ليس إلا نحوا من الوجود وأنه بنفسه مجعول لا بصفة زائدة وإلا لكان المجعول بتلك الصفة فالمجعول مجعول بالذات بمعنى أن ذاته وكونه مجعولا شيء واحد من غير تغاير حيثية كما أن الجاعل جاعل بالذات بالمعنى المذكور.
فإذن ثبت وتقرر ما ذكرناه من كون العلة علة بذاتها والمعلول معلولا بذاته بالمعنى المذكور بعد ما تقرر أن الجاعلية والمجعولية إنما يكونان بين الوجودات لا بين الماهيات لأنها أمور ذهنية تنتزع بنحو من أنحاء الوجودات.
(116) فثبت وتحقق أن المسمى بالمجعول ليس بالحقيقة هوية مباينة لهوية علته الموجدة إياه ولا يمكن للعقل أن يشير إشارة حضورية إلى معلول منفصل الهوية عن هوية موجده حتى يكون عنده هويتان مستقلتان في الإشارة العقلية إحداهما مفيضة والأخرى مستفيضة. نعم له أن يتصور ماهية المعلول شيئا غير العلة وقد علمت أن المعلول بالحقيقة ليس ماهية المعلول بل وجوده. فظهر أن وجود المعلول في حد نفسه ناقص الهوية مرتبط الذات بموجده تعلقي الكون به. فكل وجود سوى الواحد الحق تعالى لمعة من لمعات ذاته ووجه من وجوهه. وإن لجميع الموجودات أصلا واحدا هو محقق الحقائق ومشيئ الأشياء ومذوت الذوات. فهو الحقيقة والباقي شؤونه.
وهو النور والباقي سطوعه. وهو الأصل وما عداه ظهوراته
103
وتجلياته.
وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وفي الأدعية المأثورة يا هو يا من هو يا من ليس هو إلا هو يا من لا يعلم أين هو إلا هو!.
(117) تنبيه: إياك أن تزل قدمك من استماع هذه العبارات وتتوهم أن نسبة الممكنات إليه تعالى بالحلول والاتحاد ونحوهما! هيهات أن هذا يقتضي الأثنينية في أصل الوجود! وعند ما طلعت شمس الحقيقة وسطع نورها النافذ في أقطار الممكنات المنبسط على هياكل الماهيات ظهر وانكشف أن كل ما يقع عليه اسم الوجود ليس إلا شأنا من شؤون الواحد القيوم ولمعة من لمعات نور الأنوار. فما وضعناه أولا بحسب النظر الجليل من أن في الوجود علة ومعلولا أدى بنا أخيرا من جهة السلوك العلمي والنسك العقلي إلى أن المسمى بالعلة هو الأصل والمعلول شأن من شؤونه وطور من أطواره. ورجعت العلية والإفاضة إلى تطور المبدأ الأول بأطواره وتجليه بأنحاء ظهوراته.
فاستقم في هذا المقام الذي قد زلت فيه الأقدام. وكم من سفينة عقل غرقت في لجج هذا القمقام! والله ولي الفضل والإنعام.
104
المنهج الثاني في نبذ من أحوال صفاته تعالى وفيه مشاعر
105
المشعر الأول (في أن صفاته تعالى عين ذاته)
(118) إن صفاته تعالى عين ذاته تعالى لا كما يقول الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري من إثبات تعددها في الوجود ليلزم تعدد القدماء تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولا كما يقوله المعتزلة وتبعهم الآخرون من أهل البحث والتدقيق من نفي مفهوماتها رأسا وإثبات آثارها وجعل الذات نائبة منابها كما في أصل الوجود عند بعضهم كصاحب حواشي التجريد بل على نحو يعلمه الراسخون في العلم من أن وجوده تعالى الذي هو عين حقيقته هو بعينه مصداق صفاته الكمالية ومظهر نعوته الجمالية والجلالية. فهي على كثرتها وتعددها موجودة بوجود واحد من غير لزوم كثرة وانفعال وقبول وفعل. فكما أن وجود الممكن عندنا موجود بالذات والماهية موجودة بعين هذا الوجود بالعرض لكونه مصداقا لها فكذلك الحكم في موجودية صفاته تعالى بوجود ذاته المقدس إلا أن الواجب لا ماهية له.
107
المشعر الثاني
في كيفية علمه تعالى بكل شيء
على قاعدة مشرقية
(119) هي أن للعلم حقيقة كما أن للوجود حقيقة. وكما أن حقيقة الوجود حقيقة واحدة ومع وحدتها يتعلق بكل شيء ويجب أن يكون وجودا يطرد العدم عن كل شيء
وهو وجود كل شيء وتمامه وتمام الشيء أولى به من نفسه لأن الشيء يكون مع نفسه بالإمكان ومع تمامه وموجبه بالوجوب والوجوب آكد من الإمكان فكذا علمه تعالى يجب أن يكون حقيقة العلم وحقيقة العلم حقيقة واحدة ومع وحدتها علم بكل شيء لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها إذ لو بقي شيء من الأشياء ولم يكن ذلك العلم علما به لم يكن صرف حقيقة العلم بل علما بوجه وجهلا بوجه آخر. وصرف حقيقة الشيء لا يمتزج بغيره وإلا فلم يخرج جميعه من القوة إلى الفعل. وقد مر أن علمه سبحانه راجع إلى وجوده فكما أن وجوده لا يشوب بعدم ونقص فكذلك علمه الذي هو حضور ذاته لا يشوب بغيبة شيء من الأشياء. كيف وهو محقق الحقائق ومشيئ الأشياء فذاته أحق بالأشياء من الأشياء بأنفسها. فحضور ذاته تعالى حضور كل شيء. فما عند الله هي الحقائق المتأصلة التي تنزل هذه الأشياء منزلة الأشباح والأظلال.
108
المشعر الثالث في الإشارة إلى سائر صفاته الكمالية
(120) القاعدة المذكورة في عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطردة في سائر صفاته. فقدرته مع وحدتها يجب أن يكون قدرة على كل شيء لأن قدرته حقيقة القدرة. فلو لم تكن متعلقة بجميع الأشياء لكانت قدرة على إيجاد شيء دون شيء آخر فلم تكن قدرته صرف حقيقة القدرة. وكذا الكلام في إرادته وحياته وسمعه وبصره وسائر صفاته الكمالية. فجميع الأشياء من مراتب قدرته وإرادته ومحبته وحياته وغير ذلك. ومن استصعب عليه أن علمه مثلا مع وحدته علم بكل شيء وكذا قدرته مع وحدتها متعلقة بكل شيء فذلك لظنه أن وحدته تعالى ووحدة صفاته الذاتية وحدة عددية وأنه تعالى واحد بالعدد. وليس الأمر كذلك بل هذه ضرب آخر من الوحدة غير العددية والنوعية والجنسية والاتصالية وغيرها لا يعرفها إلا الراسخون في العلم.
109
المشعر الرابع في الإشارة إلى كلامه تعالى وكتابه
(121) كلامه تعالى ليس كما قالته الأشاعرة من أنه صفة نفسية هي معان قائمة بذاته لاستحالة كونه تعالى محلا لغيره. وليس أيضا عبارة عن خلق أصوات وحروف دالة وإلا لكان كل كلام كلام الله. وأيضا أمره وقوله سابق على كل كائن كما قال أيضا إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون بل هو عبارة عن إنشاء كلمات تامات وإنزال آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات في كسوة ألفاظ وعبارات. قال وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وفي الحديث أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق.
(122) والكلام النازل من عند الله هو كلام وكتاب من وجهين.
والكلام لكونه من عالم الأمر غير الكتاب لكونه من عالم الخلق.
والمتكلم من قام به الكلام قيام الموجود بالموجد. والكاتب من أوجد الكلام يعني الكتاب. ولكل منهما منازل ومراتب. فكل متكلم كاتب بوجه وكل كاتب متكلم بوجه. ومثاله في الشاهد أن الإنسان إذا تكلم بكلام فقد صدر عن نفسه في لوح صدره ومخارج حروفه صور وإشكال حرفية. فنفسه من أوجد الكلام فيكون كاتبا بقلم قدرته في ألواح صدره ومنازل صوته ومجاري نفسه بفتح الفاء وشخصه الجسماني ممن قام به الكلام فيكون متكلما. فاجعل ذلك مقياسا لما فوقه. والكلام قرآن وفرقان باعتبارين. والكلام لكونه من عالم الأمر منزله الصدور ولا يدركه إلا أولو الألباب بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم... وما يعقلها إلا العالمون. والكتاب لكونه من عالم الخلق منزله الألواح القدرية يدركه كل واحد لقوله تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة والكلام لا يمسه
110
إلا المطهرون بل هو لقرآن كريم وله مرتبة عظيمة في لوح محفوظ... لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين. فتنزيله هو الكتاب.
111
المنهج الثالث في الإشارة إلى الصنع والإبداع وفيه مشاعر
113
المشعر الأول (في فاعلية الفاعل)
(123) إن فاعلية كل فاعل إما بالطبع أو بالقسر أو بالتسخير أو بالقصد أو بالرضا أو بالعناية أو بالتجلي. وما سوى الثلاث الأول إرادي البتة والثالث يحتمل الوجهين. وصانع العالم فاعل بالطبع عند الدهرية والطباعية وبالقصد مع الداعي عند المعتزلة وبغير الداعي عند أكثر المتكلمين وبالرضا عند الإشراقيين وبالعناية عند جمهور الحكماء وبالتجلي عند الصوفية. ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.
115
المشعر الثاني في فعله تعالى
(124) فعله تعالى أمر وخلق. وأمره مع الله وخلقه حادث زماني وفي الحديث. أنه قال رسول الله ص أول ما خلق الله العقل. وفي رواية القلم. وفي رواية نوري والمعنى في الكل واحد.
(125) وفي كتاب بصائر الدرجات لبعض أصحابنا الإمامية رضي الله عنهم قال حدثنا يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق) ع يقول: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي.
قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد ص وهو مع الأئمة ع يسددهم انتهى.
(126) وقال محمد بن علي بن بابويه القمي قدس الله روحه في كتاب الإعتقادات اعتقادنا في النفوس أنها هي الأرواح التي تقوم بها حياة النفوس وأنها الخلق الأول لقول النبي ص: إن أول ما أبدع الله تعالى هي النفوس المقدسة المطهرة فأنطقها بتوحيده ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه. واعتقادنا فيها أنها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء لقوله ص: ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء وإنما تنقلون من دار إلى دار. وأن الأرواح في الدنيا غريبة وفي الأبدان مسجونة.
واعتقادنا فيها أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية منها منعمة ومنها معذبة إلى أن يردها عز وجل إلى أبدانها.
(127) وقال عيسى بن مريم ع للحواريين أقول لكم الحق إنه لا يصعد إلى السماء إلا ما نزل
منها.
116
(128) وقال جل ثناؤه ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه.
(129) وقال أيضا قدس سره في كتاب التوحيد ناقلا بسنده المتصل عن أبي عبد الله ع إن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها.
(130) ونقل الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب المقالات من كتاب نوادر الحكمة لبعض علمائنا الإمامية أصحاب التوحيد رضي الله عنهم مستندا إلى ليث بن أبي سليم عن ابن عباس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ص لما أسري به إلى السماء السابعة ثم أهبط إلى الأرض يقول لعلي بن أبي طالب ص يا علي! إن الله تعالى كان الله ولا شيء معه. فخلقني وخلقك روحين من نور جلاله.
فكنا أمام عرش رب العالمين نسبح الله ونحمده ونهلله. وذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض. فلما أراد أن يخلق آدم ع خلقني وإياك من طينة عليين وعجنت بذلك النور وغمسنا في جميع الأنهار وأنهار الجنة. ثم خلق آدم ع واستودع صلبه تلك الطينة والنور. فلما خلقه واستخرج ذريته من ظهره فاستنطقهم وقررهم بربوبيته. فأول ما خلق الله وأتم له بالعدل والتوحيد أنا وأنت والنبيون على قدر منازلهم وقربهم من الله عز وجل في حديث طويل.
(131) فقد ظهر من هذه النقول بعد شهادة البرهان للعقول أن للأرواح كينونة سابقة على عالم الأجسام. والعقول القادسة والأرواح الكلية عندنا باقية ببقاء الله تعالى فضلا عن إبقائه لأنها مستهلكة الذات مطوية الأنوار تحت سطوع نور الجلال لا يرومون النظر إلى ذواتهم خاضعين لله تعالى.
(132) قال سعد بن جبير لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح ولو شاء أن يبلع السماوات السبع والأرضين في لقمة لفعل.
117
(133) وقال بعضهم الروح لم يخرج من كن لأنه لو خرج من كن كان عليه الذل قبل. فمن أي شيء خرج قال: من بين جماله وجلاله انتهى. أقول: معنى كلامه أن الروح هو أمره تعالى وقوله كن هو نفس أمره تعالى الذي به يتكون الأشياء.
فسائر الموجودات خلقت وكانت من أمره وأمره لا يكون من أمره وإلا لزم الدور أو التسلسل بل عالم أمره سبحانه ينشأ من ذاته نشء الضوء من الشمس والنداوة من البحر.
(134) وقال ابن بابويه أيضا في كتاب الإعتقادات اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة ع أن فيهم خمسة أرواح:
روح القدس وروح الإيمان وروح القوة وروح الشهوة وروح المدرج. وفي المؤمنين أربعة أرواح. وفي الكافرين والبهائم ثلاثة أرواح. وأما قوله تعالى ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي فإنه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل كان مع رسول الله ص ومع الملائكة وهو من الملكوت انتهى كلامه.
(135) وقد أخذ هذا الكلام من أحاديث أئمتنا المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. والمراد من روح القدس الروح الأول الذي هو مع الله من غير مراجعة إلى ذاته وهو المسمى عند الحكماء ب العقل الفعال. ومن روح الإيمان العقل المستفاد الذي صار عقلا بالفعل بعد ما كان عقلا بالقوة. ومن روح القوة النفس الناطقة الإنسانية وهي عقل هيولاني بالقوة. ومن روح الشهوة النفس الحيوانية التي شأنها الشهوة والغضب. ومن روح المدرج الروح الطبيعي الذي هو مبدأ التنمية والتغذية. وهذه الأرواح الخمسة متعاقبة الحصول في الإنسان على التدريج. فالإنسان ما دام في الرحم ليس له إلا النفس النباتية. ثم ينشأ له بعد الولادة النفس الحيوانية أعني القوة الخيالية.
ثم يحدث له في أوان البلوغ الحيواني والاشتداد الصوري النفس الناطقة وهو العقل العملي. وأما العقل بالفعل فلا يحدث
118
إلا في قليل من أفراد البشر وهم العرفاء والمؤمنون حقا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأما روح القدس فهو المخصوص بأولياء الله. وهذه الأرواح الخمسة أنوار متفاوتة في شدة النورية وضعفها كلها موجودة بوجود واحد ذي مراتب متدرجة الحصول فيمن وجدت له.
(136) والذي يعضد ما ذكره صاحب الإعتقادات من طريق الرواية ما نقل عن كميل بن زياد أنه قال سألت مولانا أمير المؤمنين عليا عليه ألف التحية والسلام فقلت: يا أمير المؤمنين! أريد أن تعرفني نفسي قال عم: يا كميل! وأي النفس تريد أن أعرفك قلت: يا مولاي وهل هي إلا نفس واحدة قال: يا كميل إنما هي أربعة:
النامية النباتية والحسية الحيوانية والناطقة القدسية والكلية الإلهية.
ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان. فالنامية النباتية لها خمس قوى: جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومولدة. ولها خاصيتان:
الزيادة والنقصان وانبعاثها من الكبد. والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس. ولها خاصيتان: الشهوة والغضب وانبعاثها من القلب. والناطقة القدسية لها خمس قوى: فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة. وليس لها انبعاث وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية. ولها خاصيتان: النزاهة والحكمة. والكلية الإلهية لها خمس قوى: بقاء في فناء ونعيم في شقاء وعز في ذل وغنى في فقر وصبر في بلاء. ولها خاصيتان: الرضا والتسليم. وهذه التي مبدؤها من الله وإليه تعود. قال الله تعالى ونفخت فيه من روحي.
وقال يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. والعقل وسط الكل.
119
المشعر الثالث في حدوث العالم
(137) العالم بجميع ما فيه حادث زماني إذ كل ما فيه مسبوق الوجود بعدم زماني بمعنى أن لا هوية من الهويات الشخصية إلا وقد سبق عدمها وجودها ووجودها عدمها سبقا زمانيا. وبالجملة لا شيء من الأجسام والجسمانيات المادية فلكيا كان أو عنصريا نفسا كان أو بدنا إلا وهو متجدد الهوية غير ثابت الوجود والشخصية مع برهان لاح لنا من عند الله لأجل التدبر في آيات الله تعالى وكتابه العزيز مثل قوله سبحانه بل هم في لبس من خلق جديد. وقوله على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون وقوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب وقوله تعالى إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وقوله والسماوات مطويات بيمينه وقوله تعالى إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون وقوله تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وقوله تعالى إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا وكل أتوه فردا.
(138) ومبدأ هذا البرهان المشار إليه تارة من جهة تجدد الطبيعة وهي صورة جوهرية سارية في الجسم هي المبدأ القريب بحركته الذاتية وسكوته ومنشأ آثاره. وما من جسم إلا ويتقوم ذاته من هذا الجوهر الصوري الساري في جميع أجزائه وهو أبدا في التحول والسيلان والتجدد والانصرام والزوال والانهدام. فلا بقاء لها ولا سبب لحدوثها وتجددها لأن الذاتي غير معلل بعلة سوى علة الذات. والجاعل إذا جعلها جعل ذاتها المتجددة. وأما تجددها فليس بجعل جاعل وصنع فاعل. وبها يرتبط الحادث بالقديم لأن وجودها بعينه هذا الوجود التدريجي وبقاؤها عين حدوثها وثباتها عين
120
تغيرها. فالصانع بوصف ثباته وبقائه أبدع هذا الكائن المتجدد الذات والهوية.
(139) والذي جعله الحكماء واسطة لارتباط الحادث بالقديم وهي الحركة غير صالح لذلك. فإن الحركة أمر عقلي إضافي عبارة عن خروج الشيء من القوة إلى الفعل لا ما به يخرج منها إليه وهو من الوجود الحدوثي والحدوث التدريجي والزمان كمية ذلك الخروج والتجدد. فالحركة خروج هذا الجوهر من القوة إلى الفعل تدريجا والزمان مقداره. وشئ منهما لا يصلح أن يكون واسطة في ارتباط الحادث بالقديم وكذا الأعراض لأنها تابعة في الثبات والتجدد لمحالها. فلم يبق إلا ما ذكرناه. وقد بسطنا القول المشبع لإثبات هذا المرام في سائر صحفنا بما لا مزيد عليه.
(140) وتارة من جهة إثبات الغايات للطبائع وأنها تستدعي من جهة استكمالاتها الذاتية وحركاتها الجوهرية أن يتبدل عليها هذا الوجود ويزول عنها هذا الكون وينقطع الحرث والنسل وينهدم هذا البناء ويصعق من في الأرض والسماء وتخرب هذه الدار وينتقل هذا الأمر إلى الواحد القهار.
(141) قال أمير المؤمنين وإمام الموحدين ع في خطب نهج البلاغة مشيرا إلى دثور العالم وزواله من جهة إثبات الغاية والرجوع إلى البداية كل شيء خاضع له وكل شيء قائم به غنى كل فقير وعز كل ذليل وقوة كل ضعيف ومفزع كل ملهوف.
من تكلم سمع نطقه ومن سكت علم سره. ومن عاش فعليه رزقه ومن مات فإليه منقلبه. ثم ساق الكلام إلى قوله ع في أحوال الإنسان وولوج الموت فيه على التدريج فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط سمعه فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه. يردد طرفه في وجوههم يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم. ثم ازداد الموت التياطا به. فقبض بصره كما قبض سمعه. وخرجت الروح من جسده. فصار جيفة بين أهله قد أوحشوا من جانبه وتباعدوا من قربه. لا يسعد باكيا ولا يجيب داعيا.
121
ثم حملوه إلى محط في الأرض وأسلموه فيه إلى عمله.
وانقطعوا عن زورته حتى إذا بلغ الكتاب أجله والأمر مقاديره وألحق آخر الخلق بأوله وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه.
أمار السماء وقطرها وأرج الأرض وأرجفها وقلع الجبال ونفسها. ودك بعضها بعضا من هيبة جلاله وبخوف سطوته وأخرج من فيها فجددهم بعد إخلاقهم وجمعهم بعد تفريقهم. ثم ميزهم لما يريده من مساءلتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال وجعلهم فريقين: أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء. فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره وخلدهم في داره حيث لا يظعن النزال ولا يتغير بهم الحال ولا تهولهم الأفزاع ولا تنالهم الأسقام ولا يعرض لهم الأخطار ولا تشخصهم الأسفار. فأما أهل المعصية فأنزلهم شر دار وغل الأيدي إلى الأعناق وقرن النواصي بالأقدام وألبسهم سرابيل القطران ومقطعات النيران.
122
خاتمة الرسالة
(142) اعلم أن الطرق إلى الله تعالى كثيرة لأنه ذو فضائل وجهات غير عديدة ولكل وجهة هو موليها لكن بعضها أنور وأشرف وأحكم وأشد البراهين. وأوثقها وأشرفها إليه وإلى صفاته وأفعاله هو الذي لا يكون الوسط في البرهان غيره. فيكون الطريق إلى البغية من البغية لأنه البرهان على كل شيء. وهذه سبيل جميع الأنبياء والصديقين سلام الله عليهم أجمعين قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى
فهؤلاء هم الذين يستشهدون به تعالى عليه شهد الله أنه لا إله إلا هو. ثم يستشهدون بذاته تعالى على صفاته وبصفاته على أفعاله وآثاره واحدا بعد واحد.
(143) وغير هؤلاء يتوسلون في السلوك إلى معرفته تعالى وصفاته بواسطة أمر آخر غيره كجمهور الفلاسفة بالإمكان والطبيعيين بالحركة للجسم والمتكلمين بالحدوث للخلق أو غير ذلك. وهي أيضا دلائل وشواهد لكن هذا المنهاج أحكم وأشرف. وقد أشير في الكتاب الإلهي إلى تلك الطرق بقوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. وإلى هذه الطريقة أشار بقوله أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.
(144) فالربانيون ينظرون إلى حقيقة الوجود أولا ويحققونها ويعلمون أنها أصل كل شيء وأنها واجب الوجود بحسب الحقيقة. وأما الإمكان والحاجة والمعلولية فإنما تلحق الوجود لا لأجل حقيقته بل لأجل نقائص وأعدام خارجة عن أصل حقيقته. ثم بالنظر فيما يلزم الوجوب والإمكان والغنى والحاجة يصلون إلى توحيد صفاته ومن
صفاته إلى كيفية أحواله
123
وآثاره.
(145) وقد مر فيما أسلفنا من البرهان ما بزغ به نور الحق من أفق البيان وطلعت شمس الحقيقة من مطلع العرفان من أن الوجود كما مر حقيقة بسيطة لا جنس لها ولا فصل لها ولا حد لها
ولا معرف لها ولا برهان عليه وليس الاختلاف بين آحادها وأعدادها إلا بالكمال والنقص والتقدم والتأخر والغنى والحاجة أو بأمور عارضة كما في أفراد ماهية واحدة. وغاية كمالها هي صرف الوجود الذي لا أتم منه وهي حقيقة الواجبية البسيطة المقتضية للكمال الأتم والجلال الأرفع وعدم التناهي في الشدة إذ كل مرتبة دون تلك المرتبة في الشدة ليست هي صرف الوجود بل مع قصور ونقص.
(146) وقصور الوجود ليس من حقيقة الوجود ولا من لوازمه لأنه عدم. والعدم سلب أصل الوجود أو سلب كماله والأول تعالى لا يجامعه وهو ظاهر فالقصور لاحق لا لأصل الوجود بل لوقوعه في مرتبة ثانية وما بعدها. فالقصورات والأعدام إنما طرأت للثواني من حيث ثانويتها وتأخرها. فالأول على كماله الأتم الذي لا نهاية له.
والعدم والافتقار إنما ينشئان عن الإفاضة والجعل ضرورة أن المجعول لا يساوي الجاعل والفيض لا يساوي الفياض في مرتبة الوجود. فهويات الثواني متعلقة على ترتيبها بالأول فتنجبر قصوراتها بتمامه وافتقارها بغنائه. وكل ما هو أكثر تأخرا عنه فهو أكثر قصورا وعدما.
(147) فأول الصوادر عنه تعالى يجب أن يكون أجل الموجودات بعده وهو الوجود الإبداعي الذي لا إمكان له إلا ما صار محتجبا بالوجوب الأول وهو عالم الأمر الإلهي. ولا يسع فيه إلا الأرواح القادسة على تفاوتها في القرب من الذات الأحدية لأنها بمنزلة الأضواء الإلهية. والعبارة عن جملتها روح القدس لأنها كشخص واحد. وهي ليست من العالم ولا واقعة تحت
124
قول كن لأنها نفس الأمر والقول. وبعدها مرتبة النفوس على درجاتها.
(148) ثم الطبائع والصور على مراتبها. ثم بسائط الأجسام واحدا بعد واحد إلى المادة الأخيرة التي شأنها القبول والاستعداد وهي النهاية في الخسة والظلمة. ثم يترقى الوجود منها بالتلطيف والتكميل راجعا إلى ما نزل منه عائدا إلى ما بدأ منه بتهيج المواد وتحريك الأجساد وإحداث الحرارة المهيجة السماوية في الاسطقسات من تداوير النيرات الموجبة لنشء النبات بعد الجماد وسياقة المركبات إلى درجة قبول الحياة وتشويق النفوس إلى أن تبلغ إلى درجة العقل المستفاد الراجعة إلى الله الجواد.
(149) فانظر إلى حكمة المبدع البديع: كيف أبدع الأشياء وأنشأ الأكوان من الأشرف فالأشرف. فأبدع أولا أنوارا قدسية وعقولا فعالة تجلى بها وألقى فيها مثاله. فأظهر منها أفعاله واخترع بتوسطها أجساما كريمة صافية نيرة ذوات نفوس حيوانية دائمة الحركات تقربا إلى الله وعبودية له. وحملها في سفينة ذات ألواح ودسر جارية في بحر القضاء والقدر بسم الله مجراها ومرساها وإلى ربك منتهاها.
(150) وجعلها مختلفة في الحركات. ونسب أضواء النيرات المعدة لنشء الكائنات. ثم خلق هيولى العناصر التي هي أخس الممكنات وهي نهاية تدبير الأمر فإنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. ثم يعرج إليه بتكوين الجماد من تعديل العناصر والأركان. ثم النبات من صفوتها. ثم الحيوان. ثم الإنسان. وإذا استكمل بالعلم والكمال بلغ إلى درجة العقل الفعال. فيه وقف تدبير الخير والجود واتصل بأوله آخر دائرة الوجود.
تم بعون الملك الودود الذي هو مفيض الخير والجود
125