صحبة و الصحابة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

صحبة و الصحابة - نسخه متنی

حسن بن فرحان مالکی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

 الصحبة والصحابة


 


 حسن بن فرحان المالكي
1
المقدمة " * "
--------------------------------------------------------------------------------
" * " أعطيت بعض الأخوة نسخة سابقة على هذه النسخة في (88) صفحة أشبه بالمسودة وهذه
النسخة أكمل وتعتبر بمثابة المبيضة الأولى وسأطلق عليها اصطلاحا (التعديل الأول) وسيأتي بعدها
تعديلات وإضافات إلى التعديل النهائي الذي سأتبعه بتقسيم من يطلق عليهم الصحابة إلى طبقتين:
الطبقة الأولى: طبقة الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم كنساء المهاجرين والأنصار
اللاتي شاركنهم في قدم الإسلام مع الهجرة أو النصرة وموالي المهاجرين والأنصار وحلفائهم
المؤمنين والمستضعفين المكيين أو الشهداء بمكة مثل ياسر العنسي وزوجته سمية (وهما والدا
عمار بن ياسر) ومهاجرة الحبشة ومن ثبت دخوله في هؤلاء بنص أو استثناء ونحو ذلك.
وسيتم الترجمة لأفراد هذه الطبقة كلهم وهم وحدهم المستحقون للفظ (الصحبة) بمعناها الشرعي
وهؤلاء (المهاجرون والأنصار) طبقات كثيرة فالمهاجرون وحدهم طبقات من حيث قدم الإسلام
فهنالك أوائل المسلمين وهناك مسلمو دار الأرقم ومنم مهاجرة الحبشة ثم مسلمو دار الندوة ثم بقية
مسلمي الدعوة الجهرية،.. الخ ثم يشتركون مع الأنصار في طبقات المشاهد كبدر وأحد والخندق
والحديبية، وهم الصحابة الصحبة الشرعية الممدوحة في الكتاب والسنة.
والطبقة الثانية: طبقة التابعين وهم:
1 - طبقة مسلمة ما بعد الحديبية، كخالد بن الوليد وطبقته.
2 - طبقة مسلمة ما بعد فتح مكة كالطلقاء والعتقاء والوفود والأعراب وطبقتهم.
3 - طبقة أطفال وصبيان الطبقتين.
4 - طبقة من عاصره (صلى الله عليه وسلم) مسلما ولم يرد ما يدل على لقياهم النبي (صلى الله عليه
وسلم) فهذه الطبقات الأربع عدهم بعض العلماء في الصحابة وهذا خلاف الصواب فهم تابعون كلهم
وهؤلاء التابعون - من حيث حسن الاتباع - قسمان رئيسان:
القسم الأول: تابعون بإحسان ظهر حسن إسلامهم واستقامة طريقتهم وصلاحهم وصدقهم مثل الحسن
والحسين والعباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وأغلب المهاجرة بين الفتحين (فتح الحديبية وفتح
مكة) وهم طائفة كبيرة، وأغلب أبناء المهاجرين والأنصار من هذه الطبقة، وأقول هنا (أغلب) لأن
بعض أبناء المهاجرين والأنصار هم صحابة صحبة شرعية مثل قيس بن سعد بن عبادة فهذا
ووالده بدريان وكذلك عبد الله بن عمر شهد الخندق وما بعدها فهو صحابي صحبة شرعية.
بل يوجد في هذه الطبقة (طبقة التابعين) من هو أفضل من بعض الصحابة صحبة شرعية كالحسن
والحسين فهما سيدا شباب أهل الجنة رغم أنهما تابعيان بل هناك خلاف بين بعض أهل العلم في
تفضيلهما على أبي بكر وعمر لأن أبا بكر وعمر وردت نصوص أنهما سيدا كهول أهل الجنة فهل
سيدا شباب الجنة أفضل أم سيدا كهول أهل الجنة فيه خلاف وإن كان الأكثر على تفضيل أبي بكر
وعمر لكن هذا الخلاف دليل على أنهما أفضل من كثير المهاجرين والأنصار لكن تفضيلهما جاء
بأدلة خاصة لا يقاس عليها فالصحابة من حيث الجملة أفضل من التابعين لكن بعض أفراد التابعين
كالحسن والحسين أفضل من كثير من الصحابة وأبوهما أفضل منهما جزما كما جاء في الحديث.
القسم الثاني: التابعون بغير إحسان: وهم الذين ظهر ظلمهم أو فسقهم وكان غالبا على سيرهم
كالوليد بن عقبة وبسر بن أبي أرطاة وأبو الغادية قاتل عمار وحرقوص بن زهير رأس الخوارج
والحكم بن أبي العاص وأمثالهم.
وهناك تابعون يمكن أن يختلف فيهم بين هؤلاء وهؤلاء لاضطرب سيرتهم مثل عبد الله بن سعد بن
أبي السرح وعمرو بن الحمق الخزاعي - إن صحت مشاركته المباشرة في قتل عثمان - وسعيد بن
العاص وشرحبيل بن السمط وعمرو بن العاص ومحمد بن أبي حذيفة وأمثالهم وهؤلاء يحتاج الفرد
منهم لبحث فقد يضاف للتابعين بإحسان وقد يضاف للتابعين بغير إحسان.
2

بسم الله،
أصل هذا البحث كان محاضرة ألقيتها في أحدية الدكتور راشد المبارك
يوم الأحد 26 / ذي القعدة / 1419 ه‍.
وكان عنوان المحاضرة (قراءة في عدالة الصحابة)، لكن لتشعب
الموضوع لم أشأ أن أتوسع آنذاك في بحث قضية (العدالة) مثلما
توسعت في مبحث تعريف (الصحابي)، لأن كثيرا من الناس لا زالوا
مضطربين في معرفة معنى الصحبة الشرعية، ويخلطون بينها وبين
الصحبة اللغوية أو العامة أو المطلقة أو المجازية، فلذلك كان أكثر
المحاضرة عن تعريف الصحابي التعريف الشرعي والتفريق يبن
الصحبة الشرعية (التي تحددها النصوص الشرعية)، والصحبة العامة
أو المطلقة أو المجازية (التي تحددها اللغة) (1)، وعند سماعي لتعليقات
كثير من الأخوة الحضور تبين لي أن الأمر يحتاج لإيضاح أكثر، لأن
بعضهم تبين لي أنه يجهل أن هناك صحبة اتفاق وصحبة تضاد،
وصحبة عامة وصحبة خاصة، صحبة حقيقة وصحبة مجازية، صحبة
شرعية وصحبة لغوية، كما بدا لي بعد المحاضرة أن كثيرا من هؤلاء
الأخوة لا يمتلكون آلية للبحث في هذه القضية، ولذلك نجد الواحد منهم

--------------------------------------------------------------------------------

(1) كتب عنوان المحاضرة في (بيان المحاضرات): من قضايا عدالة الصحابة.
3

لا يعرف إلا تعريفا واحدا للصحابي!!، ويجهل أن هنالك أكثر من سبع
تعريفات، أشهرها تعريفان، وهما تعريف جمهور الأصوليين المرتكز
على الشرع والعرف معا، وتعريف جمهور المحدثين - وخاصة
المتأخرين - المرتكز على مطلق اللغة، وهذا الأخير هو المشهور عند
كثير من المعاصرين، لدرجة أن بعضهم يظنه إجماعا!!، فلهذا كله
ونظرا لاستعجال بعض الأخوة في الحصول على المحاضرة مكتوبة فقد
هذبت (مبحث الصحبة الشرعية) وزودته بالآراء المخالفة مع الجواب
عليها، وهاهو في شكله شبه الأخير.
أما مسألة (العدالة) فقد تناولتها ضمنا في هذا المبحث، وسيتم التوسع
في تعريفها مستقبلا إن شاء الله.
وهذا المبحث الذي بين يديك - أخي الكريم - قد واجه ردود أفعال
متضاربة، وإن كان معظم الردود - في تلك الأمسية - لم تفهم المحاضرة
أصلا، وبعضها كان مبيتا - فيما يبدو - لتشويه المحاضرة وصاحبها
بإعداد الملحوظات (المتوقعة!!) قبل سماع المحاضرة!! (2)، والتشويه أمر
اعتدنا عليه كثيرا، كما اعتاد عليه كثير من الناس، ولذلك فتجارته
أصبحت كاسدة في هذا الزمان أكثر من أي وقت مضى، فلا المشوه -
بكسر الواو - يستطيع التأثير عند الله أولا، ولا عند أهل العلم ثانيا، لأن
الله يعلم الحقيقة نفسها فلا يحتاج من أحد أن يزوده بالمعلومات، ولأن
أهل العلم - وأقصد أهل العلم حقيقة لا شكلا - يمتلكون من الأدوات ما
يستطيعون به معرفة الحقيقة أو ما يقاربها، ولا يهمهم المتحدث بقدر
ما تهمهم معرفة المعلومة أيا كانت (3).

--------------------------------------------------------------------------------

(2) بلغني أن كلية أصول الدين بجامعة الإمام عقدت اجتماعا قبل المحاضرة على مستوى مجلس
الكلية، ثم كلفت بعض منسوبيها بالخروج إلى الدنيا!! وحضور المحاضرة!!، وسيأتي تعليقاتهم مع
الرد عليها في الملحق، ليتبين للناس مدى مبلغ هؤلاء الناس في العلم والأمانة والضمير!!.
(3) قد يقول البعض: إن بعض أهل العلم قد يصدق بعض الوشاة والحساد، كما اعتدنا من كثير منهم
أقول: إن صدق دون دليل ولا برهان صحيح فهذا ليس من أهل العلم!! حتى وإن أسماه بعض الناس
بذلك، فهذه الألقاب والإطلاقات ليست بالتحلي ولا بالتمني وإنما بنص ومنهج وعقل وبحث.
4

وعلى أية حال فهذا التشويه، وسوء الفهم، ومعاداة الأمور التي
نجهلها، السمات والخصائص التي نمتاز بها - في هذا العصر
خاصة - عن كثير من الأمم!، ولذلك كان هذا متوقعا عندي قبل
المحاضرة، ولذلك ركزت على التكرار، وستجدون في هذا المبحث
تكرارا مملا فتحملوه، لأنني أخاطب جماعات من الناس اعتادوا تعكير
الماء الصافي ثم الاصطياد فيه - وليس الاصطياد في الماء العكر -!!،
دفعني إلى هذا قول مشهور لأحد الفلاسفة الذي قال: (إذا شرحت وجهة
نظرك للناس عشرين مرة وظننت أنهم قد فهموك فأنت متفائل جدا!!)،
وفي تلك الأمسية استاء واستغرب بعض من حضروا من تلفظ بعض
منسوبي جامعة الإمام بألفاظ خرجت عن حدود الأدب والعلم، ولكن لو
قرأ هؤلاء المستغربون تراثنا الحنبلي فقط لما استغربوا شيئا (4)!!، فهذا
أحد الحنابلة المتقدمين ويسمى أبو الحسن البربهاري الذي يصفه
أتباعه ب‍ (إمام أهل السنة والجماعة في عصره!!) يؤلف كتابا أسماه
(شرح السنة)، ويملأه ببعض المعلومات العقدية والفقهية والعامة،
الصائبة والخاطئة والمختلف فيها، ثم يقول: (من استحل شيئا خلاف ما
في هذا الكتاب فلا يدين الله بدين) (5)!!. ويقول: (من شك في حرف منه
- يعني من كتابه - أو شك أو وقف فهو صاحب هوى) (6)!!.

--------------------------------------------------------------------------------

(4) وأنا هنا ركزت على التراث الحنبلي لأنه هو الذي شكل عقولنا وثقافتنا وطريقة تفكيرنا!! وعلينا -
إن كنا صادقين في تحكيم النصوص الشرعية والرد إلى الله ورسوله - أن نرد هذا التراث إلى
الكتاب والسنة وننكر ما يتنافى مع هذين الأصلين ولو كان داخل تراثنا لأن التراث فيه الحق والباطل
أما الكتاب والسنة الصحيحة فكلاهما حق، كما يجب على المذاهب الأخرى أن يقوموا بالعمل نفسه
حتى يبقى للكتاب والسنة هيمنتهما على كل الإنتاجات الفكرية البشرية المعرضة للصواب والخطأ.
(5) شرح السنة للبربهاري ص 109 تحقيق خالد الردادي.
(6) المصدر السابق ص 135، أقول: فكيف بمن يرد الأحاديث الموضوعة والبدع الباطلة التي احتواها
الكتاب!! وهي تحتوي على كثير من الأسطر والصفحات فضلا عن الحروف!!.
5

ونجد بعض الحنابلة كعبد الله بن أحمد - سامحه الله - يسوق في أبي
حنيفة رحمه الله جملة من اتهامات وشتائم خصوم أبي حنيفة في كتابه
(السنة)!! تلك الاتهامات التي تصف أبا حنيفة بأنه: (كافر (7)، زنديق (8)،
مات جهيما (9)، ينقض الإسلام عروة عروة (10)، ما ولد في الإسلام أشأم
منه (11)، وأنه أبو الخطايا (12)، وأنه يكيد الدين وأنه نبطي غير عربي!! (13)،
وأن الخمارين خير من أتباع أبي حنيفة!! (14)، وأن الحنيفة أشد على
المسلمين من اللصوص!! (15)، وأن أصحاب أبي حنيفة مثل الذين
يكشفون عوراتهم في المساجد!! (16)، وأن أبا حنيفة سيكبه الله في
النار!! (17)، وأنه مارق (18)، وأنه أبو جيفة (19)!! وأن المسلم يؤجر على
بغض أبي حنيفة (20)، وأنه لا يسكن البلد الذي يذكر فيه أبو حنيفة؟! (21)،
وأن استقضاء الحنيفة على بلد أشد على الأمة من ظهور الدجال (22)،
وأنه من المرجئة (23)، ويرى السيف على الأمة (24)،

--------------------------------------------------------------------------------

(7) كتاب السنة (1 / 184، 185، 209) هكذا يكفرون ثم يتهمون أبا حنيفة برأي الخوارج!!.
(8) المصدر السابق (1 / 185).
(9) المصدر السابق (1 / 181).
(10) المصدر السابق (1 / 186).
(11) المصدر السابق (1 / 187، 188، 189، 197، 204).
(12) المصدر السابق (1 / 196).
(13) المصدر السابق (199) هل هذه آثار قومية عربية مبكرة!!.
(14) المصدر السابق (1 / 197، 198) سبحان الله!! أين العدل والإنصاف؟.
(15) المصدر السابق (1 / 203).
(16) المصدر السابق (1 / 203) انظروا إلى هذه البذاءات.
(17) المصدر السابق (1 / 210) هذا فوق عقيدة الخوارج وفيه تألي على الله.
(18) المصدر السابق (1 / 211).
(19) المصدر السابق (1 / 211).
(20) المصدر السابق (1 / 180).
(21) المصدر السابق (1 / 199، 224).
(22) المصدر السابق (1 / 214).
(23) المصدر السابق (1 / 214).
6

، وأنه أول من قال القرآن مخلوق (25)، وأنه ضيع
الأصول (26)، ولو كان خطؤه موزعا على الأمة لوسعهم خطأ (27)، وأنه
يترك الحديث إلى الرأي (28)، وأنه يجب اعتزاله كالأجرب المعدي
بجربه (29)، وأنه ترك الدين (30)، وأن أبا حنيفة وأصحابه شر الطوائف
جميعا (31)، وأنه لم يؤت الرفق في دينه (32)، وأنه ما أصاب قط (33)، وأنه
استتيب من الكفر مرتين أو ثلاثا (34)، واستتيب من كلام الزنادقة
مرارا (35)، وأن بعض فتاواه تشبه فتاوى اليهود (36)، وأنه ما ولد أضر
على الإسلام من أبي حنيفة (37)، وأن الله ضرب على قبر أبي حنيفة طاقا
من النار (38)، وأن بعض العلماء حمدوا الله عندما سمعوا بوفاة أبي
حنيفة (39)، وأنه من الداء العضال (40)، وأن مذهب الحنيفة هو رد أحاديث
الرسول (صلى الله عليه وسلم) (41)، وأنه يرى

--------------------------------------------------------------------------------

(25) المصدر السابق (1 / 182، 185).
(26) المصدر السابق (1 / 183) أنتم هنا ضيقتم أصلين كبيرين (العدل والإنصاف).
(27) المصدر السابق (1 / 186).
(28) المصدر السابق (1 / 187).
(29) المصدر السابق (1 / 188).
(30) المصدر السابق (1 / 189، 199، 204، 205).
(31) المصدر السابق (1 / 189).
(32) المصدر السابق (1 / 190).
(33) المصدر السابق (1 / 190)، سبحان الله!! وهل أوتيتم الرفق، ثم هذه تهمة عجيبة إذ كيف ينكرون
عليه الإرجاء ويكفرونه، ثم يقولون: لم يؤت الرفق؟!.
(34) المصدر السابق (1 / 191).
(35) المصدر السابق (1 / 193).
(36) المصدر السابق (1 / 193).
(37) المصدر السابق (1 / 194).
(38) المصدر السابق (1 / 195، 200).
(39) المصدر السابق (1 / 197).
(40) المصدر السابق (1 / 198، 202، 207).
(41) المصدر السابق (1 / 199).
7

إباحة شرب المسكر وأكل لحم الخنزير (42)، وأنه كان فاسدا (43)، وأن كثيرا
من العلماء على جواز لعن أبي حنيفة (44)، وكان أجرأ الناس على دين
الله (45)، وأن أبا حنيفة يرى أن إيمان إبليس وإيمان أبي بكر الصديق
واحد (46)، وأن حماد بن سلمة كان يقول: إني لأرجو أن يدخل الله أبا
حنيفة نار جهنم!! (47)) (48).
أقول: هذا نموذج واحد من نماذج سلفنا الصالح!! من غلاة الحنابلة،
وهذا الفكر عند غلاة الحنابلة (لا معتدليهم) هو الذي فرخ لنا اليوم
هؤلاء الغوغاء من التيار التبديعي، الذي يصم الناس بالبدعة والضلالة،
ولعلهم أوقع الناس فيها، فذلك لا يستغرب بعض الأخوة إن قام بعض
هؤلاء الغلاة، وشبه الباحثين عن الحقيقة بفرعون أو إبليس أو سلمان
رشدي!!، فالذين يقولون إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أشد على
المسلمين من الدجال لا يستغرب من أتباعهم أن يشبهونا - نحن
المساكين الباحثين اليوم - بالفراعنة أو المبتدعة أو أتباع المستشرقين
ونحو هذا؟!.
بمعنى أننا لا ننتظر منهم تزكية، ولا نستغرب منهم هذا التبديع
والتكفير، لأننا نعرف من أين أتوا!!.
أتوا من الجهل المسمى علما، والظلم المسمى عدلا، والبدعة المسماة
سنة!! فإذا اكتمل هذا الثلاثي فلا ننتظر منهم أن يصمونا إلا بالكفر

--------------------------------------------------------------------------------

(42) المصدر السابق (1 / 204).
(43) المصدر السابق (1 / 206، 207، 225).
(44) المصدر السابق (1 / 211) وهذا كمال رفقهم!!.
(45) المصدر السابق (1 / 215).
(46) المصدر السابق (1 / 219).
(47) المصدر السابق (1 / 223) ولو صح هذا لكان طعنا في حماد بن سلمة وليس في أبي حنيفة.
(48) أنظر هذه الطعون والشتائم التي أوردها عبد الله بن أحمد في كتاب (السنة 180 / 2 - 229)
تحقيق الدكتور محمد سعيد القحطاني الذي حاول - جزاه الله خيرا - أن يلطف بعض العبارات ويرد
على أصحابها في الهامش لكن الدكتور واجهه غلاة الحنابلة بالتبديع والتضليل كالعادة!!.
8

والزندقة، ونحن لنا الحق شرعا أن نرد السيئة بسيئة بمثلها، ولكننا لن
نلجأ لتبديع أحد أو تفسيقه أو تكفيره، ليس لبراءته، ولكن لأنه لا
يستحق أن ينسب له شيئا من هذا لضعفه وتقليده، فلا يقال للجاهل
المقلد مبتدعا، لأنه أقل من أن يقال عنه ذلك، فالمبتدع غالبا يكون
صاحب بحث وعلم وابتكار واختيار، أما هؤلاء فلا أدب ولا فضيلة، ولا
علم، ولا مروءة، وهم تبع لمتعصبي المتقدمين، فإن وجدوا بعض
متقدميهم ارتكبوا شيئا ارتكبوه، وإن وجدوا هؤلاء ابتدعوا تبعوهم،
يحلون ما أحله هؤلاء، ويحرمون ما حرموه، كحال عوام اليهود
والنصارى مع أحبارهم ورهبانهم (وتذكروا حديث عدي بن حاتم)، وهم
مع شدة أتباعهم لهؤلاء من أبعد الناس عن العودة لنصوص الكتاب
والسنة، ومن يحسبني مبالغا فليفتشهم بنفسه وسيجد أن غاية ما معهم
قال فلان وقال فلان، أما قول الله عز وجل وقول رسوله (صلى الله عليه وسلم)
فلا يلتفتون إليه، إذا التفت إليه فلان، وإذا فهمه فلان فهما خاطئا،
أو حرف المعنى فهو له تبع، فهل هؤلاء يستحقون الوصف بالبدعة؟!
كلا فالبدعة أرفع من هؤلاء، وإنما البلاء في بعض من يقلدونهم من
غلاة المتقدمين، الذين أوقعوهم في التكفير والتبديع، فعلينا دراسة
هؤلاء المتقدمين فإن ثبت بدعة بعضهم أو غلوة تبعه جيشه، أما أن
نحكم على الغوغاء ونترك متقدميهم وقدوتهم من أهل البدع والتعصب
والغلو من المكفرين والمبدعين، فهذا علاج للنتيجة وترك لأسبابها، فإذا
رأيت أوراق الشجرة تجف فاعلم أن السبب في هذا الجفاف هو جفاف
الجذر، وإذا حاولت أن تسقي الأوراق فلن تنتفع بالماء، كما أن الأوراق
لا يضاف إليها مدح الاخضرار ولا ذم الاصفرار!! (49).

--------------------------------------------------------------------------------

(49) أقول: هذا لتقريب المعنى وإلا فالبشر مكلفون محاسبون مذمومون على التقليد أما الأوراق فليس
لها إلا الذبول في حالة يبوسة الجذر!!.
9

وأرجو ألا يفهم الأخوة أنني أذم الحنابلة كلا والله، فأنا أعلم كثيرا من
علمائهم وفضلائهم وصالحيهم في الماضي والحاضر، لكن الغلاة منهم
أساءوا أيما إساءة للمذهب الحنبلي، الذي أصبح لا يعني عند الكثيرين
إلا التعصب بجهل وتضليل الآخرين، مع خلطة لا بأس بها من النصب
والتجسيم!!.
وبهذه المناسبة أحب أن أنبه إلى أنه قد تم التزاوج بين الحنبلية
والنصب كرد فعل لما فعل المأمون من التزاوج بين الاعتزال والتشيع،
فلما أراد الحنابلة رد الاعتزال والتشيع بالغ بعضهم بل معظمهم - خاصة
المتأخرين - في رد كثير من الحقائق والأحاديث الصحيحة في فضل
علي وأهل البيت، مع تعميم بعض القواعد وقبول بعض الأحاديث
الضعيفة والموضوعة في مدح بني أمية والثناء على سيرهم والدفاع
عنهم!! ونحن لعدم بحثنا وتدقيقنا في الموضوع أخذنا أقول المتعصبة
من الحنابلة وكأنها هي السنة وطريقة السلف!!، لأننا لم نكن نعلم غير
هذا!!، ولم نحاكم تلك الأقوال والمعتقدات لكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله
عليه وسلم)، فلذلك وجب التنبيه على هذا الأمر، فإذا فهمه القارئ سهل
عليه معرفة كثير من الغوامض في التراث الحنبلي!!.
ثم أقول: كانت هذه مقدمة ليعرف بها من أراد الله له الهداية والتوفيق
أين مكمن الداء عند كثير من حنابلة اليوم، الذي لا يحبون أن نشكك
في حرف مما قالوه!! حتى نبقى مسلمين!!، وحتى لا نشبه بفرعون
وإبليس والمستشرقين وسلمان رشدي!!، لأننا إن عدنا إلى الكتاب
والسنة الصحيحة ومعرفة المصطلحات العلمية أصبحنا مهددين بتشبيهنا
بهؤلاء!!، والغريب أن الصالحين ساكتون عن هذا التيار الذي يسئ

10

إلى البحث العلمي وإلى الإسلام نفسه، فلا إنكار ولا بيان إلا عند القلة
الذين ينشرون أبحاثهم بأسماء مستعارة (50).
أما أنا فاخترت طريق البحث العلمي في النور بالاسم والصورة
والمناظرة والمحاضرة، أيمانا مني بأن هذا هو أنسب سبيل لبيان
الحقائق تحت الشمس، فلذلك أرجو أن يهتدي هؤلاء الغلاة بهذه
الأبحاث لتخرجهم من ظلمات التعصب وضيق الغلو إلى نور العدل وسعة
الإنصاف.
أما ما جاءنا من تشكيك وأحكام جائرة، على النيات والأهداف فقد سبق
أن ظلم قبلنا النبيون والمصلحون على مر التاريخ، فهذه سنة الله
الماضية (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (51).
ونقول كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (رحم الله موسى أوذي بأكثر من
هذا فصبر) (52)، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
حسن بن فرحان المالكي
الرياض، 7 / 12 / 1419 ه‍

--------------------------------------------------------------------------------

(50) كما فعل أحد المشايخ الذين نشر مقالا في صحيفة الحياة باسم مستعار!! بعنوان (مسلسل)
الإضافات على العقيدة) وله مقال آخر بعنوان (عقيدة الله أم عقيدة المذهب؟!) كشف فيهما كثيرا من
الزيف الذي دخل في كتب العقائد، وهذا الشيخ متخصص في العقيدة ويدرسها في جامعة الإمام محمد
بن سعود الإسلامية، وسيجد الاتهامات له جاهزة!! لأنه يشك في بعض ما قاله البربهاري!! وعلى
هذا فلا يدين الله بدين عند هؤلاء الغلاة!!.
(51) سورة الأحزاب: 62.
(52) صحيح البخاري - كتاب فرض الخمس.
11

تعريف الصحبة لغة
الأصل أن الصحبة تعني الملازمة والمخالطة والمعاشرة، ولكن قد تطلق
الصحبة من حيث اللغة على من لم يلازم مجازا، بل تطلق على العدو
والمقاتل والشاتم ونحو ذلك، وكل هذا جائز لغويا، أما على سبيل
المجاز أو للتشابه في صفة ما أو للاشتراك في شئ ما.
لكن الأصل في اللغة أنه عندما تقول إن فلانا صاحب فلانا، يعني أنه
لازمه ذات مرة، أو خالطه، أو عاشره، أو ماشاه أو نحو هذا، ولو قدرا
قليلا من الصحبة (53).
فاللغة تجيز اشتقاق (صاحب) من (صحب) ولو قليلا أيضا، كما تجيز
أيضا إطلاق (صاحب) على من لم يصاحب مجازا، ومن ذلك قوله (صلى الله
عليه وسلم) لزوجاته: (أنتن صواحب يوسف) (54)، ويجوز لغة إطلاق
الصاحب على من لا يتفق اعتقادا، أو ملة مع المصحوب، ومن ذلك
قوله تعالى: (وما صاحبكم بمجنون) (55)، فالخطاب هنا موجه للكفار، وقد
جعل الله النبي صاحبهم، ويجوز لغة إطلاق صحبة الحي للميت كقوله

--------------------------------------------------------------------------------

(53) بخلاف العرف إذ العرف لا يطلق الصحبة إلا على طول الملازمة بحيث يصح أن يقال فلق صاحب
لفلان، فالعرف أخص من اللغة ولا يدخل فيه المجاز.
(54) صحيح البخاري - كتاب الأذان.
(55) سورة التكوير: 22.
12

تعالى: (فأنجيناه وأصحاب السفينة) (56)، كذلك قوله تعالى: (.. أصحاب
الرس) (57)، (أصحاب الأيكة..) (58) كل هذا تحتمله اللغة.
كما يجوز لغة إطلاق صحبة الكافر للمؤمن والعكس كقوله تعالى: (إذ
قال لصاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم
سواك رجلا...) (59) فهنا إضافة صحبة المؤمن إلى كافر (60).
وقوله تعالى: (.. فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز
نفرا) (61)، ويجوز لغة إطلاق الصاحب على العدو اللدود، كقوله: (صلى الله
عليه وسلم): (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)،
فلما سألوه: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل
صاحبه) (62).
فهكذا سمى المتقاتلين أصحابا مع وصول الخلاف إلى السيف والقتال،
لكن اللغة تحتمل هذا للاشتراك في أمر ما (63).
ويجوز لغة إطلاق الصاحب على من لم يعرفه صاحبه، كقوله في
الحديث: (.. إذا وجد أحدكم عصا صاحبه فليرددها عليه) (64).

--------------------------------------------------------------------------------

(56) سورة العنكبوت: 15.
(57) سورة الفرقان: 38.
(58) سورة ق: 14.
(59) سورة الكهف: 37.
(60) وعلى هذا فلا تفيد كلمة (صاحب) مدحا كما يظن كثير من الناس كما لا تفيد ذما فهي كلمة
محايدة وقد تكون الصحبة صحبة حسنة وقد تكون صحبة سيئة.
(61) سورة الكهف: 34.
(62) صحيح البخاري - كتاب الإيمان.
(63) وعلى هذا فلا حجة لمن اعتمد على مطلق اللغة في إثبات شرعية صحبة من لم يكن صاحبا
صحبة شرعية!!.
(64) مسند أحمد - حديث رقم 17261.
13

كما أنه يجوز لغة أن تقول فلان حسن الصحبة، وفلان سيئ الصحبة،
فليست الصحبة مقصورة على المدح.
ويجوز لغة القول بصحبة المنافقين للنبي (صلى الله عليه وسلم)، في قصة
المنافق عبد الله بن أبي عندما طلب بعض الصحابة من النبي (صلى الله عليه
وسلم) أن يقتل عبد الله بن أبي، فلم يقبل النبي (صلى الله عليه وسلم)، وذكر لهم
السبب وهو: (حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) (65). فعبد
الله بن أبي من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، لكن ليست صحبته صحبة
شرعية، وإنما صحبة مرجعها مطلق اللغة للاشتراك في مجرد
التصاحب، حتى لو لم يكن هناك إيمان وأتباع، وهكذا فالصحبة من حيث
اللغة واسعة جدا، واللغة عمدة من أثبت صحبة (كل من لقي النبي (صلى
الله عليه وسلم) مؤمنا ومات على الإسلام)!!.
ولكنهم تناقضوا فأخرجوا المنافقين والكفار من الصحبة بالشرع لا
باللغة فتأمل!!؟ لأنه يجوز لغة أن أقول صحبت فلانا الكافر من بلدة كذا
إلى بلدة كذا، وصحبت فلانا المنافق وصحبت فلانا اليهودي وهكذا،
ولكن هؤلاء أخرجوا صحبة الكافر والمنافق واليهود من صحبة النبي
(صلى الله عليه وسلم)، لأنهم يريدون الصحبة المستحقة للمدح (الصحبة
الشرعية)، وإذا كان كذلك فلماذا ننكر على الأصوليين (الفقهاء) الذين
أخرجوا صحبة المسلمين بعد الحديبية بالشرع أيضا، خصوصا وأن أدلة
الأصوليين أقوى وأصرح (66).

--------------------------------------------------------------------------------

(65) صحيح البخاري - كتاب تفسير القرآن.
(66) أما العرف فوسط هذا بين اللغة والشرع (سيأتي التفصيل في ذلك) وللاستزادة من حيث الصحبة
(لغة) راجع الملحق فقرة 1.
14

ونقول هذا: إن كانوا محتجين باللغة فاللغة أيضا تدخل الكفار
والمنافقين وغير المعاصرين في الصحبة، فاللغة تحتمل كل هذا فيلزمهم
- من حيث اللغة - إدخال هؤلاء في صحابة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإن
قالوا لكننا نخرج المنافقين والكفار بالشرع، نقول لهم النصوص
الشرعية أيضا تخرج الذين أسلموا بعد الحديبية من الصحبة، فإما أن
تحتجوا باللغة مطلقا في التعريف، أو تتركوا الإحتجاج بها عند
معارضتها للنصوص الشرعية، إذن فلستم معذورين في التعلق بمطلق
اللغة، لكن النصوص الشرعية لا عذر لنا في ترك الإحتجاج بها، ولو
احتججنا باللغة دون الشرع لما وجبت علينا أركان الإسلام بعد
الشهادتين، لأنه بقليل من الدعاء يمكننا أن نقول إننا قد صلينا، لأن
الصلاة في اللغة تعني الدعاء!!، ولأننا بقليل من القصد نستطيع أن
نقول: قد حججنا، لأن الحج لغة يعني القصد!!، وهكذا بقليل من
الإمساك في الصوم وقليل من التطهر في الزكاة، وهكذا الإيمان فإذا
صدقنا بأي شئ نستطيع أن نقول: إننا مؤمنون، لأن الإيمان لغة يعني
التصديق (67)!! وهذا كله لا يقوله مسلم، لأن مسلم يعرف مثلا أن المراد
الشرعي بالصلاة أفعال وأقوال تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم وفيها
تكون أركان الصلاة وواجباتها...، ويعرف المسلم أنه لا يجزي الدعاء
عن أداء الصلاة.
إذن فالصلاة من حيث اللغة ليست حجة على صلاة النصوص الشرعية،
وإنما النصوص الشرعية تماما هي التي تحدد معنى الصلاة.

--------------------------------------------------------------------------------

(67) والغريب أننا نشنع على الحنفية في تعريفهم للإيمان بأنه التصديق!! وننكر عليهم بأنهم أهملوا
النصوص الشرعية في بيان الإيمان ومعرفة حده، بينما نحن نقع هنا في الخطأ نفسه عندما نعتمد
على مطلق اللغة في تعريف الصحبة وننسى الأدلة الشرعية المخصص للصحبة كما سيأتي.
15

وكذلك الصحبة الشرعية فالنصوص هي التي تحدد معنى الصحبة،
وليس مجرد اللغة، لأن اللغة لو اعتمدنا عليها فقط لدخل في الصحبة
الكفار والمنافقون، لأن اللغة لا تمنع من دخولهم، وبهذا المثال يتضح
المراد إن شاء الله.

16

تعريف الصحبة اصطلاحا
من حيث الاصطلاح هناك سبعة مذاهب في تعريف الصاحب
والصحابي (68)، لكن أبرز هذه المذاهب ثلاثة، مذهبان رئيسان وبينهما
مذهب ثالث متوسط، أما المذهبان فهما:
1. مذهب جمهور الأصوليين في تعريف الصحابة، وهذا التعريف يرتكز
على الشرع والعرف في اشتراط طول الملازمة والمعاشرة مع حسن
الاتباع، وهذا المذهب المعتمد على العرف، يعتمد على الأدلة
الشرعية أيضا، المخصصة للصحبة بمن طالت مصاحبته وحسنت
سيرته.
2. مذهب جمهور المحدثين الذي يدور حول الرؤية واللقيا، وهذا
المذهب يعتمد على اللغة ويتوسع في اعتبار كل من لقي النبي (صلى
الله عليه وسلم) من المسلمين صحابيا.

--------------------------------------------------------------------------------

(68) راجع هذه المذاهب وأدلتها عند الدكتور الكريم النملة في كتابه (مخالفة الصحابي) وقد اختار
المؤلف تعريف الأصوليين وليس تعريف المحدثين!! وهذا التعريف هو الذي سنختاره في هذا
المبحث أيضا!! ولو توسع الدكتور النملة في تأصيل التعريف من النصوص الشرعية من الكتاب
والسنة لما بحثت هذا البحث حتى لا تتكرر الأبحاث لكنه اقتصر على ضابط العرف في تعريف
الصحبة فلذلك رأيت أن أتوسع في تأصيل التعريف تأصيلا شرعيا.
17

المذاهب الثالث: يدور حول التمييز مع اللقيا، فلا يشترط طول
الصحبة ولا يعتبر مجرد الرؤية واللقيا كافيا لإثبات الصحبة.
والذي توصلت إليه في هذا البحث بعد بحث الصحبة في القرآن الكريم
والسنة هو أن الصحبة الشرعية خاصة بالمهاجرين والأنصار ومن في
حكمهم من السابقين إلى الإسلام والمستضعفين والموالي ونحوهم،
وهذا التعريف أقرب تعريف الأصوليين إن لم يكن متطابقا مع التعريف،
وهو المتفق مع النصوص الشرعية بعكس المذهبين الآخرين،
وستجد - أخي القارئ - الإجابة على حججهما في نهاية البحث.
ملحوظة:
نحن لا ننكر تعريف المحدثين إذا كان الهدف منه هو معرفة اتصال
الإسناد من عدمه، فنحن عندما ندرس الأسانيد يجوز لنا أن نقول:
فلان صحابي، ولو لم يكن من الصحابة صحبة شرعية، بشرط أن يعلم
القارئ أن هذا اصطلاح خاص له وظيفة محددة وهي معرفة اتصال
الإسناد، ولعل المحدثين على هذا، فهم لم يريدوا من تعريفهم الصحابي
إلا معرفة هذا، وإلا فهم الذين رووا لنا مظالم أمثال الوليد بن عقبة
وبسر والحكم وأمثالهم.
إذن فالمحدثون محقون في تعريف الصحابي حسب وظيفتهم الدائرة
حول الرؤية، والأصوليون محقون في تعريفهم المتفق مع وظيفتهم
الدائرة حول العلم والفضل والاختصاص، ولكن المبطلين هم الذين أخذوا

18

التعريف الأول بخصائص التعريف الثاني وأنزلوه على كل فرد رأى النبي
(صلى الله عليه وسلم) من أهل القبلة.
أبرز القائلين بالمذهب الأول
ولعل من أبرز العلماء الذين يقترب تعريفهم للصحابي أو للصاحب من
تعريف الأصوليين، الصحابي أنس بن مالك، ومن العلماء سعيد بن
المسيب، وشعبة بن الحجاج، وعاصم الأحول، ومعاوية بن قرة،
والباقلاني، والمقبلي، والماوردي، والمازري، وغيرهم (69).
وأبرز علماء المذهب الثاني
أحمد بن حنبل، والبخاري، والحاكم، وابن الصلاح، وابن كثير، وابن
حجر العسقلاني، وابن الحاجب، وابن الوزير، والصنعاني، ويعتمد هذا
المذهب على الرؤية أو اللقيا أو الصحبة اليسيرة (70).
أبرز علماء المذهب الثالث (المتوسط بين المذهبين)
ابن الجوزي، والواقدي، وابن عبد البر، والعجلي، ويحيى بن صالح،
والقرافي، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، وأغلب

--------------------------------------------------------------------------------

(69) أنظر أقوالهم في الملحق فقرة 2.
(70) أنظر أقوالهم في الملحق فقرة 3.
19

هؤلاء يشترطون التمييز، ولا يعتبرون صحبة الصبيان الذين رأو النبي
(صلى الله عليه وسلم) (71).
وهذه المراتب المشهورة في تعريف الصحابي، أما المذاهب في عدالة
الصحابة وهل العدالة للمجموع أم لأغلب الأفراد، أم لكل فرد وما حد
العدالة، فهذه المذاهب ليس هنا محل ذكرها واستقصائها، وسيكون لها
تفصيل آخر يتبع هذه الدراسة إن شاء الله.
إذن فليتذكر القارئ أن هذه المذاهب في بيان حد الصحابي وليست في
بيان حد العدالة.
أما الآن فإلى لب البحث:

--------------------------------------------------------------------------------

(71) أنظر أقوالهم في الملحق فقرة 4.
20

هؤلاء هم الصحابة فقط!!
أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) - الصحبة الشرعية - ليسوا إلا المهاجرين
والأنصار، ومن يدخل في حكمهم، ممن أسلم قديما في العهد المكي ثم
مات أو أستشهد أو هاجر إلى الحبشة ولم يعد إلا بعد الحديبية، كما
يدخل في حكمهم نساء المهاجرين اللاتي هاجرن معهم، وكذلك مواليهم
المسلمين الذين شاركوهم في الإسلام والهجرة.. وأمثال هؤلاء (72).
فهذا أسلم تعريف لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذه الصحبة
الشرعية هي التي كان فيها النصرة والتمكين في أيام الضعف والذلة،
وهي الصحبة الممدوحة في القرآن الكريم والسنة النبوية، بمعنى أن كل
آيات القرآن الكريم التي أثنت على (الذين مع النبي صلى الله عليه
وسلم) إنما كل الثناء منصبا على المهاجرين والأنصار فقط، وليس
هناك مدح عام لمن كان مع النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا وهو منصرف
لهؤلاء لا لغيرهم وذلك للأدلة الآتي ذكرها.

--------------------------------------------------------------------------------

(72) وعلى هذا فلا يدخل في الصحابة خالد بن الوليد رضي الله عنه وطبقته كعمرو بن العاص
وعثمان بن أبي طلحة ولا يدخل من بعدهم كالعباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث ولا من
بعد هؤلاء كالطلقاء من قريش ولا العتقاء من ثقيف ولا الوفود بعد صلح الحديبية ولا أبناء الصحابة
الذين رأوا النبي (صلى الله عليه وسلم) صغارا ولم يشهدوا شيئا من الأحداث والغزوات.
21

وقبل أن أسرد الأدلة أقول لأخي القارئ لا تستعجل في رده هذه الأدلة
بأدلة متوهمة، فإن هذه الأدلة المتوهمة سيتم الإجابة عليها جميعا في
نهاية المبحث عند الكلام على (الاعتراضات والجواب عليها).
وتلك الاعتراضات أو حجج الآخرين الذين يذهبون إلى تعميم التعريف
ليست بأولى بالقبول من حجج وأدلة القائلين بالصحبة الشرعية أو
الصحبة العرفية، كما أن بعض أدلتنا إن كان فيها ضعف فالأدلة التي
يذهب إليها الآخرون فيها ما هو أضعف إسنادا ودلالة.
فنحن نزعم أن قوي أدلتنا أولى بالقبول من قوي أدلتهم وضعاف أدلتنا
- إن وجدت - أولى بالقبول من ضعاف أدلتهم.
وليحاول المنصف أن يقارن ويعيد القراءة والمقارنة فإن رجح له أحد
الأمرين - بعد البحث والتجرد - فلا ملام ولا عتاب ولهم الحق - كما أنه
لنا - في اختيار التعريف الذي يرون أنه متفق مع الدليل.
أما أدلتنا على أن الصحابة صحبة شرعية هم المهاجرين والأنصار ومن
في حكمهم فقط فهي كالتالي:

22

الدليل الأول:
مع أن غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة بعد العودة من حصار
الطائف، وكان عدد جيش المسلمين فيها ثلاثين ألفا على أرجح
الروايات، يعتبر المهاجرون والأنصار فيهم قلة، ومع ذلك لم يأت الثناء
إلا عليهم، كما في قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين
والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب
فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) (73).
والسؤال: لماذا لم يخبرنا الله عز وجل أنه قد تاب على كل جيش النبي
(صلى الله عليه وسلم) يوم تبوك؟! لماذا لم يقل الله عز وجل (لقد تاب الله على
النبي والذين آمنوا الذين (تبعوه في ساعة العسرة..)؟! أو (... على
النبي والمؤمنين...)؟!.
الجواب يبدو واضحا بأن تخصيص الله عز وجل (المهاجرين والأنصار)
بالتوبة يتفق مع ما ذهبنا إليه من أنهم هم الصحابة الصحبة الشرعية،
التي نزلت فيها آيات الثناء، وهم الذين نجزم بأن الله راض عنهم، وأنه
تاب عليهم، أما غيرهم ممن أتى بعدهم (بعد صلح الحديبية)، فلا يجوز
الجزم بالتوبة عليهم، وإنما نسكت عنهم، كما سكت الله عنهم، إلا من
ثبت له ذلك بدليل خاص، وكأن الله - والله أعلم - أراد بقصره الثناء على

--------------------------------------------------------------------------------

(73) سورة التوبة.
23

المهاجرين والأنصار (74) أن يشعر من سواهم بأن المهاجرين والأنصار لم
يستحقوا التوبة عليهم من الله، إلا بأعمال جليلة قدموها في الماضي،
وأن على من سواهم أن يكثروا من التأسي بهم، حتى يتوب الله عليهم
كما تاب على المهاجرين والأنصار!!.
والغريب أن بعض الذين يخلطون الأمور يستدلون بالآية السابقة على
أن الله تاب على (جميع الصحابة) (75)!!، مع أن الله عز وجل كان يستطيع
أن يقول ذلك، ويعمم التوبة على كل المؤمنين يومئذ، ولكنه لم يقتصر
إلا على المهاجرين والأنصار، ولحكمة (76)!!.

--------------------------------------------------------------------------------

(74) ينبغي أن نعرف أنه يشترط في المهاجر أن يبقى مع النبي في المدينة وينصره ولا يعتبر مهاجرا
من وفد عليه وأسلم ثم رجع إلى قومه حتى ولو أسلم قبل بيعة الرضوان إلا إن ثبت ذلك بدليل
خاص كأن يثبت أنه بايعه النبي (صلى الله عليه وسلم) على الهجرة مثلما بايع لبعضهم على شهوده
بدرا ولم يشهدها أو أنه أمره (صلى الله عليه وسلم) بالعودة إلى بلاده والدعوة إلى الإسلام ونحو هذا،
لكن من وفد عليه (صلى الله عليه وسلم) وأسلم ثم رجع برغبته لا برغبة النبي (صلى الله عليه وسلم)
فلا يعتبر من المهاجرين ولا الأنصار، لأن هاتين الطائفتين اختصتا بنصرة النبي (صلى الله عليه
وسلم) بالمال والقتال في المدينة حتى عز الإسلام، والدليل على أن الهجرة لا تكفي بمجرد الوفادة
إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) حديث أبي سعيد الخدري (أن أعرابيا سأل رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) عن الهجرة فقال: ويحك! إن شأن الهجرة لشديد فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فهل تؤدي
صدقتها؟ قال: نعم، قال: (فأعمل من وراء البحار فإن الله لن يلتك من عملك شيئا) (متفق عليه)،
فهذا الأعرابي خاف عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) ألا يقوى على الهجرة الشرعية التي تقتضي
البقاء في المدينة مع ترك الأهل والأموال فيسبب له هذا رجوعا عن الإسلام أو تضجرا يؤدي إلى
الإثم.
(75) ويقصدون بالصحابة (كل من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) أو لقيه من المسلمين)!! ثم يقولون
هذا وقلوبهم على الطلقاء!!.
(76) يجب أن يكون معلوما أن حكومة الطلقاء (دولة بني أمية) لجأت إلى (تعميم الصحبة) على كل
من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى يدخل فيهم مثل الحكم والوليد وبسر وأمثالهم من
الطلقاء!!، وكان لهذا التعميم غرض سياسي لينافسوا خصومهم من المهاجرين والأنصار بأنهم قد
صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما صحبه خصومهم!! وقد بقي من دلائل ذلك بعض
النصوص في كتب العقائد كقولهم (من سب أحدا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فهو
رافضي!) ويسكتون عن النواصب!! الذين كانوا أجرأ في سب الإمام علي على منابرهم!!، فلو قال
القائل: (.. فهو رافضي أو ناصبي) لكان أفضل حتى يتحرز الناس من سب الإمام علي أو انتقاصه
مثلما يتحرزون من سب أو انتقاص غيره من الصحابة أو ممن وصفوا بالصحبة!!.
24

الدليل الثاني:
قول الله عز وجل (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) (77).
فهنا أخبر الله عز وجل بثلاث طوائف كانت كلها في عهد النبي (صلى الله
عليه وسلم):
الطائفة الأولى:
السابقون من المهاجرين - وهذا قيد يخرج المتأخرين من المهاجرين (78)
كخالد بن الوليد رضي الله عنه، ولا يدخل فيهم أبناء المهاجرين، ولا
رجال الوفود، إن لم يبقوا في المدينة حتى ولو أسلموا قبل الحديبية، إلا
بدليل خاص (79).

--------------------------------------------------------------------------------

(77) سورة التوبة: 100.
(78) تختص (الهجرة الشرعية) بالسابقين من المهاجرين، أما الهجرة العرفية أو العامة فيدخل فيها
المتأخرون من المهاجرين، والفرق بين الاثنين أن الهجرة الشرعية كانت أيام الضعف والحاجة
بعكس الأخيرة.
(79) الوافدون إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل الحديبية يمكن أن يطلق عليهم اسم الهجرة لكنها
ليست (الهجرة الشرعية) التي نزلت في مدحها النصوص القرآنية، لأن هذه الهجرة الشرعية تقتضي
البقاء في المدينة مع الجهاد وإنفاق المال في سبيل الله مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة،
وستأتي الأدلة على ذلك.
26

والطائفة الثانية:
هم الأنصار، ولا يدخل فيهم أبناء الأنصار (الأطفال) الذين لم يشاركوا
في النصرة الشرعية، من الإنفاق والجهاد والإيواء ونحو ذلك، كما لا
يدخل في المهاجرين أبناء المهاجرين، ولكن يدخل في الأنصار حلفاؤهم
المسلمون، ومواليهم ونساؤهم كحال المهاجرين.
الطائفة الثالثة:
الذين اتبعوهم بإحسان، كالمهاجرين بعد الحديبية، والمهاجرين من
وفود العرب بعد الحديبية ممن ثبت على الإسلام أيام الردة، ومنهم أبناء
المهاجرين، وأبناء الأنصار، ويدخل في هؤلاء من حسن إسلامه (80) من
طلقاء قريش، وعتقاء ثقيف وغير هؤلاء.
إذن فالمهاجرون والأنصار لم يشترط الله فيهم (الإحسان)، لأن الهجرة
والنصرة اللتين تقتضيان الإنفاق والجهاد في أيام الضعف هما من أفضل
الأعمال، ولا يحتاج هذا لقيد الإحسان فلم يقل (... من المهاجرين
بإحسان والأنصار بإحسان)، لأن الرجل إن قام بالهجرة التي تقتضي
ترك الأوطان والأولاد هي غاية الإحسان، كما أن النصرة (التي أجلبت
على الأنصار قبائل العرب) مع تحملهم مهمة حماية الإسلام في أيامه
الأولى لا تحتاج لقيد الإحسان، لأنها في الذروة منه.
أما بعد قوة الإسلام والمسلمين، فأصبحت الهجرة إلى النبي (صلى الله عليه
وسلم) تعود على نفس المهاجر بالمصلحة، بعد أن كانت قبل ذلك تعود

--------------------------------------------------------------------------------

(80) حسن الإسلام يعني اجتناب كبائر الذنوب وصلاح السيرة ولا يشترط أن يشك الرجل في الإسلام
حتى يقال أنه لم يحسن إسلامه، والإحسان في هذه الآية مجمل سيأتي شرحه في الآية اللاحقة في
الدليل الثالث.
27

الدليل الرابع:
قوله تعالى: (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات
والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم
درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) (84).
أقول: الغريب أن بعض الناس يستدل بهذه الآية على أن كل الصحابة
(حسب مفهومهم للصحبة) في الجنة!!، لأن الله قد وعد المتقدمين منهم
والمتأخرين بالجنة، ووعده حق لن يخلفه!؟.
أقول: إما أن تكون هذه الآية تشمل المهاجرين والأنصار (من أنفق من
قبل الفتح وقاتل)، وتفضلهم على من جاء بعدهم إلى فتح مكة فقط، ولا
تشمل الطلقاء، ولا العتقاء، ولا غيرهم، ممن لم يقاتل ولم ينفق في هذه
الفترة، لأن سورة الحديد نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فلا يشملهم
الثناء، ثم هي مقيدة بالإنفاق والقتال، مثلما الثناء على المهاجرين
والأنصار لا يشملنا، فكذلك الثناء على المسلمين من بعد الحديبية إلى
فتح مكة لا يشمل من أسلم في الفتح أو بعد ذلك.
وإما أن تكون الآية شاملة لهؤلاء ولنا من باب الأولى، لكن هناك شرط
(الإحسان) الذي سبق في الآية السابقة، بمعنى أن الله وعد بالجنة

--------------------------------------------------------------------------------

(84) سورة الحديد: 10.
31

المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان!!، أما المتبعون بغير
الإحسان فلا يقال فيهم هذا.
والخلط في هذه الأمور هو الذي سبب لنا الخلل الكبير في الرؤية
التعميمية، التي خلطنا بها الطلقاء مع السابقين، فلا بد من وضع الأمور
في مواضعها الصحيحة (85).

--------------------------------------------------------------------------------

(85) ومن نتائج التعميم أن من تكلم في الوليد أو معاوية جاءه بعض الناس بمثل هذه الآيات التي
ينزلونها في غير ما أنزلت فيه، وهذا من سوء تفسير كلام الله تعالى، وبسبب هذا الخلط بدع (بضم
الباء وكسر الدال مع تشديدها) كثير من علماء السلف الذين كانوا يذمون بعض أعمال من وصفوا
بالصحبة وليسوا صحابة على الحقيقة كالوليد ومعاوية وبسر والحكم وغيرهم!! فأولئك المبدعين
(بفتح الدال) كانوا مظلومين بسبب قلة تدبر خصومهم لآيات القرآن الكريم أو بسبب بدعة
خصومهم!! ومثلما أنه من علامة الرافضي أن يطلق على أهل السنة (الحقيقيين) نواصب، فمن
علامات الناصبي أيضا أن يطلق على السنة (الحقيقيين) روافض أو شيعة فلا بد من بحث
المصطلحات جيدا قبل إطلاقها حتى لا نظلم أحدا ولا يظلمنا أحد.
32

الدليل الخامس:
قوله تعالى: (إن الدين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في
سبيل الله والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم
يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا، وإن استنصروكم
في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما
تعملون بصير) (86).
أقول هذه السورة فيها فوائد عظيمة:
الأولى: إثبات ولاية المهاجرين مع الأنصار فقط، وهذا ما يفسره
الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (المهاجرون
والأنصار أولياء بعضهم لبعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف
بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة) رواه أحمد بسند صحيح (87).
والحديث فيه إخراج للطلقاء من المهاجرين والأنصار، الذين هم أصحاب
النبي (صلى الله عليه وسلم) فقط، كما في حديث آخر: (أنا وأصحابي حيز
والناس حيز)، قالها النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح، وكلمة (أصحابي)
في هذا الحديث الأخير كلمة مطلقة، فسرها الحديث المتقدم، وقيدها بأن

--------------------------------------------------------------------------------

(86) سورة الأنفال: 72.
(87) قال: حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير قال...
شريك حدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير عن النبي صلى الله
عليه وسلم مثله. مسند أحمد / مسند الكوفيين. وسيأتي دليلا مستقلا.
33

المراد بها (المهاجرين والأنصار)، فتأمل لهذا التوافق والترابط، فإنك
لن تجده في غير هذا المكان.
الفائدة الثانية: أن الذين أسلموا ولم يهاجروا لا يستحقون من المسلمين
في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) الولاية، التي تعني النصرة والولاء!!،
فإذا كان المسلمون قبل فتح مكة لا يستحقون النصرة ولا الولاء، حتى
يهاجروا فكيف بمن أنتظر من (الطلقاء)، حتى قال النبي (صلى الله عليه
وسلم): (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)!! لا
فهؤلاء لم يدركوا فضل من لا يستحق النصرة والولاية، فضلا عن
إدراكهم لفضل السابقين من المهاجرين والأنصار.
الثالثة: أن المسلمين الذين لم يهاجروا (لا يجوز) أن ينصرهم المسلمون
على الكفار المعاهدين (الذين معهم ميثاق مع المهاجرين والأنصار)،
وهذا الحكم يبين الفرق الواسع بين من هاجر ومن بقي مؤمنا في
دياره، فكيف بمن لم يؤمن إلا عند إلغاء الهجرة الشرعية من مكة (88)،
وأسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، حتى وإن حسن إسلامه فيما
بعد.

--------------------------------------------------------------------------------

(88) يجب أن نتصور أهمية الهجرة يومئذ ولا نقيس ذلك على عصرنا، فبعض من تحدثت معهم في
الموضوع يقول: ما الذي يجعل المسلم في المدينة يختلف عن المسلم في مكة؟ وينسى الآيات الآمرة
بالهجرة والمتوعدة لمن تركها ولماذا نزلت الآيات بذلك.
34

الدليل السادس:
قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم
قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين
من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا
فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) (89).
أقول: هذا أيضا من أكبر الأدلة على تعذيب بعض الصحابة (حسب
التعريف المشهور عندنا)، الذين لم يهاجروا، وعلى هذا فلم ينصروا
الرسول (بالقتال والمال)، وعلى هذا فلا يستحقون اسم (الصحبة
الشرعية)، رغم أنهم كانوا مسلمين بمكة قبل أن يهاجروا، ولم يستفد
منهم النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته، ولم يكابدوا مع النبي (صلى الله عليه
وسلم) المتاعب ولا الأخطار، ولم ينفقوا ولم يقاتلوا أيام الحاجة إليهم،
وعلى هذا فقد أنذرهم الله بعذاب جهنم - نسأل الله السلامة -، ولم
يستثن منهم إلا المعذور من ضعفاء الرجال ومن النساء والولدان، الذين
لا يستطيعون الهجرة.

--------------------------------------------------------------------------------

(89) النساء: 97 - 99.
35

وهذه الآيات دليل واضح على أن (الصحبة الشرعية) تقتضي النصرة أو
الهجرة (90) أيام الضعف والحاجة إليهم، وليس أيام الاستغناء عنهم (91)
فتأمل هذا جيدا، فالصحبة الشرعية هجرة وجهاد وإيواء وإنفاق وخوف
ورجاء، وليست بالتمني ولا بالتحلي، فلذلك لا يجوز إطلاق الصحبة
الشرعية على من لا يستحقها شرعا، أما في اللغة فالأمر واسع.

--------------------------------------------------------------------------------

(90) النصرة والهجرة اللتان تستلزمان الجهاد بالمال والنفس والالتفاف حول النبي (صلى الله عليه
وسلم) وتكوين نواة الإسلام الأولى.
(91) ولهذا جاءت الأحاديث التي سبق ذكرها (الناس حيز وأنا وأصحابي حيز...) وغيرها.
36

الدليل السابع:
قوله عز وجل: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله يلتكم من
أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم، إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله
ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك
هم الصادقون) (92).
أقول: في هاتين الآيتين نفي الصحبة الشرعية عن الأعراب الذين
أسلموا قبل الطلقاء! مع إثبات الإسلام في حقهم، ونحن نعلم أن
الصحابي صحبة شرعية هو في المحل الأكمل من (الإيمان) المفسر في
الآية اللاحقة بآية (الإيمان بالله والرسول وعدم الشك في ذلك والجهاد
بالمال والنفس في سبيل الله)، فهذا هو الإيمان المقتضي للصحبة
الشرعية، وهذا المعنى منفي عن الأعراب الذين أسلموا قبل فتح
مكة (93)، فكيف بالذين أسلموا بعد الفتح من الطلقاء والعتقاء!!.

--------------------------------------------------------------------------------

(92) (الحجرات: 14 - 15).
(93) لأن سورة الحجرات نزلت قبل فتح مكة بمدة.
37

الدليل الثامن:
قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء
بينهم تراهم ركعا وسجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في
وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل
كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع
ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة
وأجرا عظيما) (94).
أقول: لولا أن بعض الناس يورد هذه الآية للدلالة على فضل مسلمة
الفتح وأمثالهم لما أوردتها هنا، فالآية من سورة الفتح التي نزلت قبل
فتح مكة، وعلى هذا فالثناء الذي فيها على (الذين مع النبي صلى الله
عليه وسلم) ينزل على المؤمنين يومئذ من المهاجرين والأنصار، ولا
ينزل على من بعدهم.
إضافة إلى أن المعية (95) هنا تقتضي النصرة والتمكين أيام الحاجة والذل
والضعف.

--------------------------------------------------------------------------------

(94) الفتح: 29.
(95) فمثلما هناك صحبة شرعية وصلاة شرعية، فهناك معية شرعية أيضا.
38

ولذلك رأينا معاوية في عهد الإمام علي يدفع الجزية للروم ويحارب
عليا!!، فأين (أشداء على الكفار رحماء بينهم)؟!!، فالقضية هنا
معكوسة، فهو يقاتل السابقين، ويدفع العطاء للروم!!، وهذا من الأدلة
على أن الذين لم يحسن إسلامهم من متأخري المسلمين في عهد النبوة
لا تشملهم هذه الآية الكريمة، لأن فيها شروطا لا تتوفر بوضوح إلا في
المهاجرين والأنصار.

39

الدليل التاسع:
قوله تعالى: (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم
ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا...) (96).
أقول: هذا الثناء هو على المهاجرين والأنصار فقط، الذين بايعوا تحت
الشجرة يوم الحديبية، ولولا أن بعض الناس يورد هذه الآية في الثناء
على الطلقاء لما أوردتها هنا، لأن دلالتها على المناسبة (يوم الحديبية)
دلالة واضحة لمن تدبر وتأمل.

--------------------------------------------------------------------------------

(96) الفتح: 18.
40

الدليل العاشر:
مستفاد من ثلاث آيات هي: قوله تعالى في الآية الأولى: (ولقد صدقكم
الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر
وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من
يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل
على المؤمنين) (97).
وقوله تعالى في الآية الثانية: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان
إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله
غفور حليم) (98).
فهاتان الآيتان نزلتا في حق المسلمين من المهاجرين والأنصار، يوم
أحد، فأخبر الله عز وجل أنه قد عفى عنهم عصيانهم وتنازعهم
وانهزامهم أمام الكفار، وكان المنهزمون يوم أحد من المهاجرين
والأنصار، ومن هؤلاء المنهزمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه منهم أيضا (ورد في مسند أحمد ما
يدل على ذلك)، أما يوم حنين فقد كان جيش المسلمين خليطا من
المهاجرين والأنصار والطلقاء وسائر من لحق من الأعراب والمتنطعون

--------------------------------------------------------------------------------

(97) سورة آل عمران: 152.
(98) آل عمران: 155.
41

كذي الخويصرة، فلذلك لما انهزموا لم يخبر الله بالعفو عن الجميع،
وإنما قال: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء)، كما في قوله
تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم
فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين،
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين (99) وأنزل جنودا لم
تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله بعد ذلك
على من يشاء والله غفور رحيم) (100).
أقول: ومن هذه الآية نعلم سر تعليق العفو بالمشيئة، بخلاف الآيات
في حق المسلمين المنهزمين يوم أحد إذ كانت جازمة بالعفو عنهم.
وهذا يتفق أيضا مع قول الله عز وجل يوم تبوك (لقد تاب الله على
النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة..)، مع أن
جيش المسلمين كان فيه غير هؤلاء كثير من الطلقاء والأعراب
والعتقاء ونحوهم، ممن لم يخبرنا الله بالتوبة عليهم، كما لم يخبرنا
بالسخط عليهم، فيتوقف فيهم، إلا من أظهر منهم الصلاح والصدق
وحسن الإسلام، فيحب ويوالي لهذا، ومن ساءت سيرته وكثر ظلمه

--------------------------------------------------------------------------------

(99) لا يدخل الطلقاء والشكاكون والمتنطعون في مسمى (المؤمنين) هنا مثلما لا يدخل الأعراب في
مسمى (الإيمان) وقد كانوا هم والطلقاء في جيش النبي (ص) يومئذ وكان فيهم ذو الخويصرة وأمثاله
وكان فيهم من خرج مع النبي (ص) ولا زالت الأزلام معه كما ورد ذلك في روايات أهل السير، ثم
لو شمل هذا المسمى أولئك فهو من باب التغليب وهناك نظائر كثيرة لهذا في القرآن الكريم ففد
يطلق (يا أيها الذين آمنوا...) ويدخل المنافقون تحت هذا وإن لم يدخلوا عند التحقيق بأدلة أخرى
تخرجهم من اسم الإيمان.
(100) التوبة: 25 - 27.
42

فيبغض لهذا، ويبرأ منه المؤمنون، ومن كان بين ذلك يحب من وجه،
ويبغض من وجه، بقدر ما فيه من خير وشر (101).
فرجل مثل الوليد بن عقبة، أو بسر بن أبي أرطأة، أو ذي الخويصرة
وأمثالهم كيف لا يبغض وتذم سيرته؟! كيف والشرع يأمرنا بحب
الطاعات وأهلها، وببغض المعاصي وأهلها، خاصة إذا كانت غالبة على
سيرتهم، فكيف نعكس القضية فننحرف عن الصالحين كعلي، وعمار،
وعبد الرحمن بن عديس البلوي، ونوالي هؤلاء؟!، بينما نحن نتشدق
بالولاء والبراء ليل نهار، ومن زعم أن هناك فرقا في الموالاة بين
فسقة القرن الأول، وفسقة سائر العصور فعليه الدليل والبرهان.

--------------------------------------------------------------------------------

(101) يجب علينا موالاة من أخبرنا الله بالتوبة عليهم كالمهاجرين والأنصار ويجب البراءة ممن أخبرنا
الله بالسخط عليهم كالمنافقين ومن يلحق بهم ويجب التوقف فيمن لم يتضح لنا هل هو على منهج
هؤلاء أم أولئك أو كان مضطربا بين السيرتين، إلا إذا ثبت بالبحث أن خيره غالب فيحب ويوالي وإن
ثبت العكس فعكس ذلك أي إن أثبت أن بعض هؤلاء كالحكم مثلا هو أقرب للنفاق منه إلى
الإيمان فيبغض ويتبرأ من أفعاله وذنوبه.
43

الدليل الحادي عشر:
حديث أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه السورة (إذا جاء نصر الله
والفتح ورأيت الناس) قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
ختمها، وقال: الناس حيز وأنا وأصحابي حيز، وقال: لا هجرة بعد
الفتح، ولكن جهاد ونية، فقال له مروان: كذبت، وعنده رافع بن خديج
وزيد بن ثابت وهما قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء
هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى
أن تنزعه عن الصدقة فسكتا، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما
رأيا ذلك قالوا: صدق (102). (وقد أخرجه أحمد بسند صحيح).
أقول: فهذا الحديث فيه إخراج واضح للطلقاء، الذين (دخلوا في
الإسلام) من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) بأكثر من دلالة:

--------------------------------------------------------------------------------

(102) مسند الإمام أحمد (4 / 45) دار الفكر.
الحديث رواه الإمام أحمد عن محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري الطائي
عن أبي سعيد الخدري، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين فالإمام أحمد وشيخه غندر وشعبة
من كبار أئمة الحديث الثقات الأثبات وعمرو بن مرة شيخ شعبة ثقة عابد من رجال الجماعة وأبو
البختري اسمه سعيد بن فيروز وهو ثقة ثبت من رجال الجماعة وهو يرسل وقد أخرج وقد أخرج
الشيخان عنعنته في صحيحيهما، فالإسناد من أصح الأسانيد كلهم رجال الجماعة إلا أحمد بن حنبل
وهو ثقة إمام...
وهذا الإسناد قد أخرج به البخاري ومسلم عدة أحاديث كما أخرج به أحمد وأصحاب السنن عدة
وافرة من الأحاديث الصحيحة.
44

الدلالة الأولى: تلاوته (صلى الله عليه وسلم) لسورة النصر التي فيها ذكر
(الناس) الذين يدخلون في دين الله أفواجا، تلاها (صلى الله عليه وسلم) يوم
فتح مكة، فهؤلاء الناس المراد بهم الطلقاء (103)، ثم أخبرنا النبي (صلى الله
عليه وسلم) بأن (الناس حيز)، وهو وأصحابه حيز آخر!!، فماذا يعني هذا؟
هذا بكل وضوح لا يعني إلا أن هؤلاء (الناس) لا يدخلون في
الأصحاب) الذين فازوا بتلك (الصحبة الشرعية)، التي تستحق الثناء،
وتتنزل فيها كل الثناءات على الصحابة، فإذا سمعنا بأي حديث يثني
على (أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، أو أي أثر من الصحابة
خاصة يثني على (أصحاب النبي)، فلا تنزل تلك الأحاديث والآثار إلا
على هؤلاء (الأصحاب) الذين فصلهم (بالصاد المهملة مع فتحها) النبي
(صلى الله عليه وسلم) عن سائر (الناس) من غيرهم، وأولى الناس دخولا في
هؤلاء (الناس) هم الطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة لارتباط المناسبة

--------------------------------------------------------------------------------

(103) ويدخل في (الناس) الطلقاء ومن بعدهم جزما ولا يدخلون في (الأصحاب) وإنما هناك طوائف
أخرى محل بحث هل تدخل في (الأصحاب) أو (الناس) مثل المسلمين قبل الحديبية الذين لم يستقروا
في المدينة أو لم يتمكنوا من الهجرة استضعافا لهم من المشركين ونحو هؤلاء.
ومن علامات النواصب أنه لا يهمهم هؤلاء وإنما يعز عليم خروج (الطلقاء) من الصحبة الشرعية!!
ولذلك لا تجدهم يدافعون عن المسلمين في العهد المكي الذين لم يهاجروا ولا يبرؤونهم إنما تنصب
كتاباتهم في الدفاع عن الطلقاء مما يبين لنا بوضوح أن بعض الأفكار عندنا تشكلت بداياتها في ظل
السلطة الأموية!! لذا كانت هذه الأفكار تحمل بصمات السياسة الأموية!! وهناك بعض المعتقدات من
وضع السياسة الأموية أو تشجيعها أو توفيرها لجو تلك المعتقدات ومنها مسألة (الإمساك عما شجر
بين الصحابة) و (عدالة كل الصحابة) وعقوبة ساب الصحابي بأنها أشد من عقوبة ساب الله عز
وجل... ونحو هذا من المعتقدات التي لا يدافعون بها عن علي وعمار وابن عديس ضد من سبهم
من بني أمية وأشياعهم من النواصب وإنما يدافعون بها عن معاوية والوليد وبسر والحكم
ونحوهم ضد من سبهم أو ذم سيرتهم من الشيعة أو من أهل السنة أيضا كعبيد الله بن موسى وابن
عبد البر وعبد الرزاق الصنعاني وغيرهم من كبار علماء أهل السنة.
45

بهم، ولا يجوز أن نجمع بين (حيزين) قد فرق بينهما النبي (صلى الله عليه
وسلم). ومن تأكد له هذا ثم أراد أن يجعل (الحيزين) حيزا واحدا فقد اتهم
النبي (صلى الله عليه وسلم) بعدم الإنصاف مثلما اتهمه ذو الخويصرة يوم
حنين!! ونعوذ بالله أن نرد حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو نؤوله
على غير مراده (صلى الله عليه وسلم)، ذلك المراد الذي يظهر بوضوح من
لفظ الحديث الصريح.
الدلالة الثانية: غضب مروان بن الحكم الذي أراد أن يضرب أبا سعيد
الخدري على رواية هذا الحديث، لأن هذا الحديث يعني إخراج مروان،
ووالده، ومعاوية (الذي يعمل له مروان)، من الصحابة إلى (الناس)
الذين ليس لهم ميزة عن سائر الناس!!.
الدلالة الثالثة: فهم رافع بن خديج، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدري،
رضي الله عنهم، فالثلاثة عرفوا أن هذا سيغضب مروان، ولكنهم
صدعوا بكلمة الحق، بعد أن كاد يخفيها زيد ورافع، خوفا على نفسيهما
من مروان!!.
شبهة: وقد يقول البعض أنهم (الناس) من الطلقاء وغيرهم قد اكتسبوا
الصحبة فيما بعد!؟.
نقول: هم (الطلقاء) والعتقاء أولياء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة،
وكلا الطائفتين لا تدخلان لا في المهاجرين ولا الأنصار، لما سبق
شرحه وللدليل الآتي وهو:

46

الدليل الثاني عشر:
قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض
والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم
القيامة) (104).

--------------------------------------------------------------------------------

(104) مسند أحمد (7 / 67).
الحديث مروي بإسنادين عن جرير بن عبد الله البجلي:
الإسناد الأول: أحمد حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير.
الإسناد الثاني: أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن هلال
العبسي عن جرير ولفظه (الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا
والآخرة والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة).
فالإسناد الثاني: كلهم رجال الجماعة إلا موسى بن عبد الله بن هلال العبسي وهذا اسم وقع محرفا
وأصله اسمين كما قال العراقي: موسى بن عبد الله بن يزيد الأنصاري عن عبد الرحمن بن هلال
العبسي (الإكمال للحسيني 149 / 2).
والثاني من رجال مسلم أيضا (كتبه في التقريب: عبد الرحمن بن أبي هلال العبسي وأشار المحقق
محمد عوامة إلى الاختلاف في الهامش) فالإسناد صحيح لذاته ويشهد له الإسناد الأول.
47

أقول: وهذا الحديث واضح في أن طلقاء قريش وعتقاء ثقيف ليسوا من
المهاجرين ولا من الأنصار، وعلى هذا فلا يستحقون الفضائل التي
نزلت في فضل المهاجرين والأنصار، وعلى هذا لا يجوز لنا أن نخلط
الأمور، ونقدم من أخره الله ورسوله، أو نؤخر من قدمه الله ورسوله.
نعم أن مساواة السابقين باللاحقين وضع من منزلة السابقين وإساءة
إليهم، فالواحد منا يغضب إذا قارنه أحد بمن هو أقل منه عملا وفضلا،
خاصة إذا كان المقارن (بكسر الراء) لا يرى كبير فرق!!، بل قد لا يرى
إشكالية لو لم تحدث مقارنة!!، فالمقارنة الباردة فيها هدر لحقوق
الفاضل، ومكانته، وعدم تقدير لسوابقه، فكذلك ما فضل الله به بعض
الناس على بعض، لا يجوز أن نتجاوزه إلى مساواة غير عادلة!!.

48

الدليل الثالث عشر:
حديث خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وهو قول النبي (صلى الله عليه
وسلم): (لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما
أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) (105).
أقول: الحديث مشهور بلفظ (لا تسبوا أصحابي..)، وهو يخاطب خالد بن
الوليد عندما تخاصم مع عبد الرحمن بن عوف، في قضية بني جذيمة
(بعد فتح مكة).
وهذا دليل واضح على إخراج النبي (صلى الله عليه وسلم) لخالد بن الوليد
وطبقته من الصحبة الشرعية لأكثر من دلالة:
الدلالة الأولى الأقوى: أن تكملة الحديث فيه بيان للصحبة الشرعية التي
كتبنا في بيانها هذا البحث، وأنها لا تدرك لقوله (صلى الله عليه وسلم): (فلو
أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فهذه هي
الصحبة الشرعية تماما (106)، وهي التي لم يدركها خالد بن الوليد - على

--------------------------------------------------------------------------------

(105) مسلم - كتاب فضائل الصحابة.
(106) هذا الحديث يختلف عن حديث (هل أنتم تاركوا لي صاحبي) في قصة تغاضب أبي وعمر فهذا
الحديث ليس فيه بيان للصحبة الشرعية وليس فيه نفي صحبة عمر الشرعية فالنبي (صلى الله عليه
وسلم) لم يقل لعمر لو أنفقت مثل جبل أحد لن تبلغ مد أبي بكر ولا نصيفه وإنما أخبر النبي (صلى الله
عليه وسلم) عمر بأنه كان قد كذب (بتشديد الذال) النبي يوم بعث وصدق به أبو بكر وواساه بنفسه
وماله، بل لم يسلم عمر إلا في السنة السادسة من البعثة!! ومن هنا جاءت حرارة العتاب من النبي
(صلى الله عليه وسلم)، فهو خطاب عام يراد به الخاص، ولأن أبا بكر أسلم بعد إسلام خديجة وعلي
وزيد بن حارثة وهؤلاء من الناس أسلموا قبل أبي بكر خاصة خديجة وعلي فلا يتجه الحكم
بأن الناس كلهم كذبوا النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا إذا أطلق على سبيل التغليب فصحيح أن أغلب
الناس ومنهم عمر كانوا في بداية البعثة من أشد خصوم النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم هدى الله
عمر للإسلام وأعز به الإسلام وعبد المسلمون الله جهرا لكن كان لأبي بكر فضيلة السبق وقوة
المواساة وهذا لا يعني نفي الصحبة الشرعية للمهاجرين والأنصار فإنها ثابتة بالنصوص القرآنية
فضلا عن النصوص النبوية فيجب التفريق بين مدلول الحديثين.
49

فضله وبلائه وشجاعته -، كما لم تدركها طبقته كعمرو بن العاص
ونحوه، فمن باب أولى ألا يدركها طلقاء مكة ولا عتقاء ثقيف ولا
الأعراب ولا الوفود المتأخرون ونحوهم.
الدلالة الثانية: أن خالد أقر بهذا ولم يقل (يا رسول الله: أولست من
أصحابك)؟! لأن خالد يعرف الفرق بين الصحبة الشرعية التي قام عليها
الإسلام وبين الصحبة العامة أو اللاحقة التي يطلق على أصحابها
(التابعين).

50

الدلالة الثالثة: أن قصة الحديث وقعت بعد فتح مكة، وبعد أن صحب
خالد بن الوليد النبي (صلى الله عليه وسلم) مدة من الزمن، لكن لم تشفع له
في الحصول على فضيلة (الصحبة الشرعية)، فكيف بمن بعده (107)؟!.

--------------------------------------------------------------------------------

(107) يأتي بعض الناس ويقول: إذا كان الفرق بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد كبيرا إلى
هذا الحد فمن باب أولى أن يكون الفرق بين من صحب ولو صحبة يسيرة وبين من لم يصحب.
ونقول: القضية الأولى جاء الدليل عليها لكن ما دليل القضية الثانية؟! أين الدليل المفضل للطلقاء
أمثال الوليد بن عقبة والحكم بن أبي العاص وقاتل عمار على التابعين أمثال سعيد بن المسيب وعلي
بن الحسين وعمر بن عبد العزيز ونحوهم!؟ أين الدليل على هذا من كتاب الله أو سنة رسوله (صلى
الله عليه وسلم)؟! دعك من القواعد غير العلمية التي يطلقها البعض.
51

الدليل الرابع عشر:
حديث أبي سعيد الخدري قال: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عام
الحديبية: يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، قلنا: من
هم يا رسول الله أقريش هم؟! قال: لا ولكن أهل اليمن أرق أفئدة وألين
قلوبا، فقلنا: هم خير منا يا رسول الله؟! فقال: لو كان لأحدهم جبل من
ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه إلا أن هذا فصل ما بيننا
وبين الناس (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم
درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى... - إلى
قوله - والله بما تعملون خبير) (108).
أقول: دلالة الحديث واضحة في فصل (بالصاد المهملة) من أتى بالجهاد
والإنفاق بعد الرضوان (109) عمن كان قبلها جهادا وإنفاقا.

--------------------------------------------------------------------------------

(108) الطبري في تفسيره (127 / 27) قال: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال أخبرني هشام بن سعد
عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وهذا الإسناد صحيح على شرط مسلم،
ورواد بإسناد آخر قال حدثني ابن البرقي ثنا ابن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم
عن أبي سعيد فالإسنادان قويان والحديث بهما صحيح لكن سقط من الإسناد الأخير اسم عطاء بن
يسار.
(109) بعض التابعين فسر الفتح في الآية السابقة بأن المراد به فتح مكة لكن الصواب أنه فتح
الحديبية لكون سورة الحديد نزلت قبل فتح مكة وإلى هذا ذهب الطبري بقوله: (وأولى الأقوال في
ذلك بالصواب عندي أن يقال معنى ذلك لا يستوي منكم أيها الناس من أنفق في سبيل الله من قبل
فتح الحديبية للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله الذي رويناه عن أبي سعيد الخدري وقاتل
المشركين بمن أنفق بعد ذلك وقائل...) تفسير الطبري 127 / 27.
52

وهذا الحديث يتطابق في الدلالة مع حديث خالد (لا تسبوا أصحابي)،
ومع (أنا وأصحابي حيز والناس حيز)، ومع (المهاجرون والأنصار
أولياء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة...)، وفي الحديث بيان للصحبة
الشرعية التي فاز بها المهاجرون والأنصار، ولن يدركها من أتى
بعدهم، حتى لو فعلوا ما فعلوا، وانظروا إلى دلالة ذلك في قوله: (هذا
فصل ما بيننا وبين الناس)!!.

53

الدليل الخامس عشر:
روى الإمام أحمد بسند صحيح عن مجاشع بن مسعود أنه أتى النبي (صلى
الله عليه وسلم) بابن أخ له يبايعه على الهجرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه
وسلم): لا بل يبايع على الإسلام، فإنه لا هجرة بعد الفتح، ويكون من
التابعين بإحسان (110).
أقول: في هذا الحديث الصحيح دليل صريح على أن مسلمة الفتح فمن
بعدهم يدخلون في التابعين، ولا يدخلون تحت مسمى الصحابة (صحبة

--------------------------------------------------------------------------------

(110) مسند أحمد - 15286، رواه الإمام أحمد عن أبي النضر حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن أبي
كثير عن يحيى بن إسحاق عن مجاشع وهذا سند صحيح وقد صححه المحقق شعيب الأرناؤوط في
تحقيقه لمسند أحمد (25 / 176) قال: إسناده صحيح ورجاله ثقات رجال الشيخين غير يحيى بن
إسحاق وهو ثقة، ورواه البخاري عن مجاشع مختصرا بلفظ (أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) بأخي
بعد الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: ذهب أهل الهجرة بما فيها،
فقلت: على أي شئ تبايعه، قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد، فلقيت معبدا بعد وكان
أكبرهما فسألته، فقال: صدق مجاشع).
أقول: هذه فيه دلالة واضحة على أن فتح مكة قطع شرعية الهجرة (أما الهجرة الشرعية فقد قطعها
صلح الحديبية) ولا يحصل مسلمو الفتح على اسم الهجرة ولا فضلها حتى لو وفدوا إلى النبي (صلى
الله عليه وسلم) وعلى هذا
فلا يسمون مهاجرين وإنما يسمون (الناس) كما في حديث (أنا وأصحابي
حيز والناس حيز) أو يسمون الطلقاء أو نحو ذلك.
ورواه الإمام أحمد بلفظ مقارب عن مجاشع بن مسعود البهزي أنه أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بابن أخيه لا بل يبايع على الإسلام فإنه لا هجرة بعد الفتح قال ويكون من التابعين بإحسان،
(مسند أحمد 25 / 178) تحقيق الأرناؤوط.
أقول: سبق الحديث وهذا إسناد آخر في الشيخين الأولين، ورواه عن حسن بن موسى حدثنا شيبان
بالإسناد والمتن نفسه.
54

شرعية)، وإلا لقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (بل يبايع على الإسلام ويكون
من أصحابي)!!.
وهذا الحديث يساهم في تفسير قوله تعالى: (والسابقون الأولون من
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان).
فالذي ليس مهاجريا، ولا أنصاريا، لا يكون إلا تابعيا بإحسان، أو بغير
إحسان.
وقوله: (ذهب أهل الهجرة بما فيها) أي بما فيها من فضل وتسمية،
وغير ذلك مما هو من خصائص المهاجرين وفضائلهم.

55

الدليل السادس عشر:
حديث أبي سعيد الخدري: أن أعرابيا سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
عن الهجرة، فقال: (ويحك إن شأنها شديد فهل لك من أبل تؤدي
صدقتها؟ قال: نعم: قال: (فاعمل من وراء البحار (أي المدن والقرى)
فإن الله لن يترك من عملك شيئا) (111).
أقول: النبي (صلى الله عليه وسلم) خشي على هذا الرجل ألا يقوى على
الهجرة، وأخبره أن أمرها شديد، فهي تقتضي ملازمة النبي (صلى الله عليه
وسلم) في المدينة، ونصرته بالمال، والجهاد، والتعرض للأخطار، فلذلك

--------------------------------------------------------------------------------

(111) متفق عليه.
56

أمره بما يعرف من حاله، وبما يرى أنه يستطيع فعله من
الأعمل (112).

--------------------------------------------------------------------------------

(112) أقول: فمثل هذا الرجل لم يستحق اسم الهجرة الشرعية مع أنه قد هاجر الهجرة العامة وهي
السفر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة لكن الهجرة الشرعية لها معنى زائد من ملازمة
النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة بما سبق من شروط.
57

الدليل السابع عشر:
حديث عبد الرحمن بن عوف قال: لما حضرت النبي (صلى الله عليه وسلم)
الوفاة قالوا: يا رسول الله أوصنا قال: (أوصيكم بالسابقين الأولين من
المهاجرين وبأبنائهم من بعدهم إلا تفعلوه لا يقبل منكم صرف ولا
عدل) (113). وفي لفظ (أوصيكم بالسابقين الأولين وبأبنائهم من بعدهم).
أقول: قال الدكتور (ناصر الشيخ في كتابه عقيدة أهل السنة والجماعة
في الصحابة الكرام: (فالذي لم يحفظ وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) في
أصحابه المهاجرين باعتقاد ما يجب لهم من المحبة، والاحترام،
والاعتراف بفضلهم، وسابقتهم، فإنه على حالة خطيرة، ويكون مآله إلى
شر، والعياذ بالله...) اه‍.

--------------------------------------------------------------------------------

(113) مجمع الزوائد (10 / 17) وقال: رجاله ثقات.
58

أقول: خذوا كلام الدكتور وانظروا ماذا فعل بنو أمية في السابقين
وأبنائهم!! (114)، وكذلك ما فعله يزيد بن معاوية وجيوشه في كربلاء
والحرة من انتهاك حرمات أبناء المهاجرين والأنصار وانتهاك حرمة
المدينة ومكة، كل هذا بأسانيد صحيحة ليس هنا مجال استقصائها.

--------------------------------------------------------------------------------

(114) إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أنكر على عمر رضي الله عنه إنكارا شديدا إغضابه لأبي
بكر رضي الله عنه مع قرب ما بينهما في المنزلة فكيف لو رأى ما فعله الطلقاء من محاربة علي
رضي الله عنه ولعنه مع ما بين علي ومعاوية من فرق كبير!!.
59

الدليل الثامن عشر:
حديث ابن عمر: أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين (115) فقرأ
عليه (للفقراء والمهاجرين) الآية ثم قال: هؤلاء المهاجرون فمنهم أنت؟
قال: لا، ثم قرأ عليه: (والذين تبوؤا الدار والإيمان) الآية ثم قال: هؤلاء
الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه: (والذين جاؤوا من بعدهم)
الآية ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: لا ليس من هؤلاء من
يسب هؤلاء (116).
أقول: هذا الأثر مثلما هو منطبق على من سب أبا بكر وعمر وعثمان
فهو منطبق أيضا على الذين كانوا يلعنون عليا، من أهل الشام
وأتباعهم، الذين ليسوا من المهاجرين والأنصار (117)، وكانوا قد سنوا
لعن الإمام علي على منابرهم، والعجب أن بعضنا يقول: إنهم اجتهدوا
فأخطأوا، ففازوا بأجر واحد (118)!!.

--------------------------------------------------------------------------------

(115) ورد في حديث آخر أن المراد بالرجل من المهاجرين هو (عثمان بن عفان) رضي الله عنه.
(116) رواه الحاكم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص (153 / 1).
(117) وعلى هذا فليسوا من التابعين بإحسان أيضا أما الذين يحاولون أن يخلطوا المهاجرين والأنصار
بمن بعدهم فعليهم أن يتذكروا خصومة خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف!! وماذا كان موقف
النبي (صلى الله عليه وسلم) منها وماذا كان قوله أيضا!!.
(118) بينما لم نقله في الذين سبوا أبا بكر أو عمر أو عثمان مع أن الأربعة كلهم من الخلفاء الراشدين
المهديين ولهم الحقوق نفسها وأول من فرق بين حقوقهم هم النواصب الذين فصلوا عليا عن الثلاثة
فتبعهم منا طائفة!! ثم القول بالأجر لمن سب أحد هؤلاء لم يقله النبي (صلى الله عليه وسلم) لخالد بن
الوليد لما سب عبد الرحمن بن عوف مع أنه لم يصدر هذا السب من خالد إلا مرة واحد لخصومة
آنية بعكس الذي سنه معاوية وابنه وبنو مروان فقد استمر طيلة حكم بني أمية وعلى كل منبر من
منابر الإسلام وفي كل خطبة جمعة!! فليت شعري لو سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) هل سيقول إن
هؤلاء مأجورون أجرا واحدا!!؟ أم سيقول (من سب عليا فقد سبني)!! اللهم اغفر لقومي فإنهم لا
يعلمون!!.
60

وكل آثار ابن عمر في النهي عن سب أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)
إنما تنزل على من سب أمثال عثمان وعلي، فإن ابن عمر يعرف
الصحبة الشرعية تماما، فنحن أخذنا نصوصه في النهي عن سب
عثمان وعلي وجعلناها في النهي عن سب الطلقاء!!، وأنا لا أدعو لسب
أحد أو لعنه، سواء كان فاسقا، أو ظالما، أو خالصا عملا صالحا وآخر
سيئا، لكني أقول: يجب وضع تلك الأدلة في موضعها الصحيح، وعدم
إنزالها على أقوام لم يقصدهم ابن عمر ولا غيره، ممن روينا عنه تلك
الآثار.
كما أقول: إن البراءة من ظلم فلان لا يعني سبه، لأنه يجب على
المسلم البراءة من الفحشاء والمنكر والبغي (119)، لأن هذه البراءة تعين

--------------------------------------------------------------------------------

(119) أيضا نجد بعض الناس يرتب الأجر على البغي لأن بعض من وصف بالصحبة كمعاوية وطائفته
كانوا بغاة مع أن البغي مذموم شرعا وليس فيه ما يدل على أن فاعله مأجور سواء فعل البغي
(الظلم) بتأويل أو بغير تأويل، وتدبروا آيات القرآن الكريم في ذم البغي.
61

على معرفة الحق ومواطن التأسي، أما إذا لم تتم البراءة من كبائر
الذنوب، ولا يتم فصلها عن الحسنات، فكيف نستطيع أن نعرف ديننا؟!.

62

الدليل التاسع عشر:
قول عائشة: (أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)
فسبوهم) (120).
كانت تلمح لما يفعله أهل الشام من لعن علي، وبعض أهل العراق في
لعن عثمان رضي الله عنهما.
أقول: وهذا يفهم منه أن هؤلاء السبابين ليسوا من أصحاب محمد (صلى
الله عليه وسلم) - عند عائشة -، ومثله قول ابن عمر: (لا تسبوا أصحاب
محمد فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحكم عمره) (121).
فهذا القول، وقول عائشة، وأقوال لسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد،
وغيرهم، إنما انتشرت لما انتشر بين الناس سب علي وعثمان، وهما
من أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد كان يسبهما بعض من رأى
النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو له صحبة (حسب الفهم الشائع للصحبة)، فلما
طال علينا الأمر، وانقطع سب علي، وعثمان، وطلحة، والزبير،
وأمثالهم، والحمد لله، وبقي سب معاوية، وعمرو، وأمثالهما أخذنا هذه
النصوص والآثار لنواجه بها الشاتمين الجدد، ومع أن الشتم والسب
محرم سواء كان ضد الصحابي أو التابعي أو المسلم مطلقا، لكن
المشتومين من الطلقاء ليسوا مثل المشتومين من السابقين، بل إن

--------------------------------------------------------------------------------

(120) (مسلم 231 / 4).
(121) (فضائل الصحابة لأحمد 57 / 1، 97 / 2).
63

الطلقاء ليسوا من الصحابة أصلا، لكنهم دخلوا الصحبة بسبب الدفاعات
التي تستلهم معها مثل هذه الآثار، (تتبع هذا فإنه مهم ولن تجده
بسهولة) (122).
وهذا لا يعني عدم تحريم لعن المسلم الصالح، فلعنه محرم، ولو كان في
عصرنا هذا أو بعده، لكن لا يجوز إنزال النصوص والآثار المانعة
السابقة في غير أصحابها من المهاجرين والأنصار، أما غيرهم فنأتي
بنصوص تحريم شتم المسلم أو قتاله... الخ.
الدليل العشرون:
قول إبراهيم النخعي: (من فضل عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى
على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المهاجرين والأنصار...) (123).
وفي الأثر تفسير من إبراهيم النخعي للصحابة بأنهم المهاجرون
والأنصار فقد فتأمل!!، وإبراهيم هذا من كبار التابعين، (مع التحفظ
على تشنيعه على من فضل عليا عليهما، فقد فضله على جميع الصحابة

--------------------------------------------------------------------------------

(122) خاطب بالآثار السابقة ابن عمر الذين يلعنون عثمان وخاطب به سعيد بن زيد المغيرة بن شعبة
وخاطبت عائشة من يسب السابقين وخاطب سعد بن أبي وقاص من يسب عليا وهكذا بل قد كان ابن
عباس يلعن معاوية بسبب قطعه التلبية يوم عرفة (المسند 264 / 3 تحقيق أحمد شاكر)، فابن عباس
قد روى بعض النصوص في تحريم سب الصحابة ومع ذلك يرى جواز لعن معاوية بسبب قطعه
للتلبية يوم عرفة ولو كان معاوية صحابيا صحبة شرعية عند ابن عباس لاحتمل له هذا الزلة لكون
الصحابة غالبا لا يفعلون أمرا إلا باجتهاد، أما قطع معاوية للتلبية فقد صرح ابن عباس أن معاوية
فعلها بغضا لعلي فقط، لأن مذهب علي التلبية يوم عرفة وهو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وقد
كان ابن عباس يخالف عثمان وعليا في بعض الآراء ولا يستجيز سبهم أما لعنه لمعاوية فقد فعله
لسببين لأنه يعرف أن معاوية ليس صحابيا ولا له رأي تغييرا لسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم
يغيرها إلا أهل الشام بغضا لعلي، لأنه كان يلبي يوم عرفة اقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) ولذلك
قال ابن عباس: (قد تركوا السنة من بغض علي) صحيح سنن النسائي (2 / 631).
(123) فضائل الصحابة لأحمد 249 / 1) وسنده جيد، رجاله كلهم ثقات إلا الوليد بن بكير مختلف فيه.
64

بعض السابقين من المهاجرين والأنصار، كما ذكر ذلك بعض العلماء
ومنهم ابن عبد البر في ترجمة الإمام علي في الاستيعاب، ودلت عليه
بعض الروايات عنهم).

65

الدليل الواحد والعشرون:
قول ابن عباس نفسه: (كان عمر يسألني مع أصحاب محمد (صلى الله عليه
وسلم) فكان يقول لي...) (124)، (125).
أقول: إن صح اللفظ فهذا دليل - فيما يبدو - على أن ابن عباس - مع
فضله، وعلمه وجلالته - أخرج نفسه من أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)،
وإن صحت الدلالة فهو دليل على خروج من أسلم بعده كالطلقاء،
وأمثالهم من باب الأولى.

--------------------------------------------------------------------------------

(124) (فضائل الصحابة لأحمد 2 / 975، وإسناده صحيح وقد صححه المحقق).
(125) قول العباس لابنه عبد الله يا بني أرى أمير المؤمنين - يقصد عمر - يقربك ويخلو بك ويستشبرك مع ناس من أصحاب رسول الله فاحفظ
علي ثلاثا...) (125).
أقول: إن صح فالعباس لا يرى نفسه، ولا ابنه من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) يفهم هذا من سياق الخبر، لأن العباس وابنه ليسا من
المهاجرين، ولا الأنصار، ولم يهاجروا إلا قبيل فتح مكة، وكان ابن عباس يومئذ صبيا صغيرا، لكن مجالد ضعيف جدا، وقد أتهم بالكذب لكن الأثر
الأول صحيح.
66

الدليل الثاني والعشرون:
قول ابن عباس: (لما قبض النبي (صلى الله عليه وسلم) قلت لرجل من
الأنصار (126): هلم فلنسأل أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) عن حديث رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قال: العجب منك يا ابن عباس: أترى الناس
يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم)...) (127).
أقول: وهذا يشهد لقول ابن عباس السابق أن الصحابة هم المهاجرون
والأنصار فقط.

--------------------------------------------------------------------------------

(126) قد يكون هذا من متأخري الأنصار أو من أبناء الأنصار الصغار ويطلق عليهم (أنصاري) فصار
علما عليهم حتى التابعين وتابعي التابعين إلى اليوم الناس يطلقون عليهم (الأنصاري) بعكس
المهاجرين لا يقال: المهاجري لأبناء المهاجرين فمن بعدهم.
(127) فضائل الصحابة لأحمد (976 / 2) وسنده صحيح وقد صححه المحقق.
67

الدليل الثالث والعشرون:
قول الليث: قيل لطاووس: أدركت أصحاب محمد وانقطعت إلى عبد الله
بن عباس؟! فقال: أدركت سبعين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا
اختلفوا في شئ انتهوا إلى قول ابن عباس (128).
أقول: طاووس بن كيسان من كبار التابعين، ومن ظاهر الأثر يبدو والله
أعلم أنه لا يرى ابن عباس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، مع جلالة
ابن عباس، وفضله، وعلمه.

--------------------------------------------------------------------------------

(128) (فضائل الصحابة لأحمد 967 / 2، والإسناد رجاله ثقات إلا ليث بن أبي سليم وقد حسنه المحقق
وصحح الأثر). أقول: فالإسناد جيد في الجملة إن شاء الله.
68

الدليل الخامس والعشرون:
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا أصحاب رسول الله تناصحوا
فإنكم إن لا تفعلوا غلبكم عليها - يعني الخلافة - مثل عمرو بن العاص
ومعاوية بن أبي سفيان (130).
أقول: الأثر مرسل، فإن صح المتن عن عمر، فدلالته واضحة في إخراج
الطلقاء - بل إخراج من أسلم بعد الحديبية - من الصحابة.

--------------------------------------------------------------------------------

(130) الأثر رواه نعيم بن حماد في الفتن (1 / 128) ورجاله ثقات لكنه مرسل فقد رواه عن محمد بن
منيب عن السري بن يحيى عن عبد الكريم بن رشيد، وهذا وإن كان تابعيا لكن لم تذكر له رواية
عن عمر وإنما يروي عن أنس بن مالك وهو من آخر الصحابة وفاة (مات بعد 90 ه‍).
70

الدليل السادس والعشرون:
قول معاوية لكعب الأحبار عندما توقع كعب له بأنه سيكون خليفة
بعد عثمان - قال معاوية تقول هذا وهاهنا علي والزبير وأصحاب
محمد؟ قال: أنت صاحبها - يعني صاحب الخلافة -) (131).
أولا: لم أجد نصا عن معاوية يدعي أنه من أصحاب رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)، وهذا الأثر دليل على أنه لم يكن يرى نفسه منهم،
وإن كان قد ثبت عنه أنه يقول: قد صحبنا رسول الله (صلى الله عليه
وسلم)... فيقصد الصحبة العامة لا الشرعية، فإن قصد الشرعية
فقوله مردود بالكتاب والسنة.
أقول: ومعاوية من الناس الذين اختلف فيهم الناس اختلافا عظيما،
بين رافع له، حتى أوصله لمرتبة السابقين، وبين واضع له إلى
الشهادة له بالنار، لكن أكثر المهاجرين والأنصار وصالحي التابعين
كانوا على ذم سيرته وظلمه، لكنهم لم يكفروه، وإنما يعتبرونه
ظالما باغيا.
ويكفي أنه حاربه مع علي نحو سبعين بدريا وثمانمائة من أصحاب
بيعة الرضوان، ولم يعتزل قتاله من البدريين يومئذ إلا نحو أربعة
أو خمسة، كما لم يعتزل قتاله من أصحاب بيعة الرضوان إلا نحو

--------------------------------------------------------------------------------

(131) السنة للخلال (ص 281، 457) وإسناد صحيح وقد صحح إسناده المحقق، ورواه ابن عساكر
بالإسناد نفسه في تاريخه (123 / 59).
وهذا من كعب يقصد الولاية على بلاد الشام لأن بعض نصوص التوراة تتحدث عن مستقبل الشام
وأنه سيملكه رجال منهم أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه.. ولم يذكر النص عليا، لكن خلافته
لم تمتد إلى الشام لبغي معاوية ومن معه واستقلالهم بالشام.
71

العشرة، وكان رأيهم فيه هو رأي علي وعمار، وكان عمار يوم
صفين يقول: (لا تقولوا كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا ظلموا)،
كل ما سبق له أسانيده الصحيحة، ليس هنا مجال استقصائها، لكن
الشاهد هنا أن الحكم على الطائفة الشامية بالفسق والظلم من
المهاجرين والأنصار يتفق مع الحديث المتواتر (تقتل عمارا الفئة
الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) فليس حكم
المهاجرين والأنصار بأبلغ من حكم النبي (ص) وقد حكم على
الطائفة الشامية التي كان معاوية رأسها بأنها: (باغية تدعو إلى
النار)، وكل الآيات والأحاديث عن (البغي والدعوة إلى النار) لا
تحتمل إلا الذم وليس هناك ما يفيد بأن الدعوة إلى النار قد يؤجر
صاحبها، ولا الظلم لم أجد دليلا يفيد أن الظالم قد يؤجر ولا
الفاسق، والظلم والفسق اللذين ذكرهما عمار بن ياسر قد جمعها
لفظ (البغي) الذي أطلقه الرسول (ص) على هذه الطائفة التي لا
تزال آثارها السيئة ماثلة في الأمة إلى يومنا هذا ولا بد أن يكون
لهذا الكلام محاربوه من نواصب اليوم وكما قال أحد العلماء (لقد
ترك لنا معاوية في كل زمن فئة باغية)!!.

72

الدليل السابع والعشرون:
روى أبو داود في سننه عن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم
فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو قال
بالتلبية يريد أحدهما) (132).
أقول: إن صح اللفظ، فهذا دليل على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يفرق بين
هؤلاء وهؤلاء، وكأن (أصحابي) هنا الصحبة الشرعية من المهاجرين
والأنصار، والذين معه بقية الناس، وهي غير المعية الشرعية
المقتضية للمؤازرة والمناصرة، وإنما المعية العامة.

--------------------------------------------------------------------------------

(132) رواه أبو داود قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام..
73

الدليل الثامن والعشرون:
روى الترمذي في جامعه عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان
يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار، وهم جلوس، فيهم أبو
بكر وعمر، فلا يرفع إليه أحد منهم بصره، إلا أبو بكر ومر فإنهما
كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما) (133).
أقول: قول أنس هذا يلحظ فيه تعريف الصحبة الشرعية بقصر الصحبة
على المهاجرين الأنصار فقط، ورجال الإسناد بين الثقة والصدوق.

--------------------------------------------------------------------------------

(133) سنن الترمذي - المناقب - 3601. قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود حدثنا
الحكم بن عطية عن ثابت...
74

الدليل التاسع والعشرون:
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد إنكم تقولون ما بال المهاجرين
لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأحاديث وما بال
الأنصار لا يحدثون بهذه الأحاديث وإن أصحابي من المهاجرين كانت
تشغلهم صفقاتهم في الأسواق وإن أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم
أرضوهم والقيام عليها وإني كنت امرأ معتكفا وكنت أكثر مجالسة
رسول الله صلى الله عليه وسلم أحضر إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا وإن
النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال من يبسط ثوبه حتى أفرغ
من حديثي ثم يقبضه إليه فإنه ليس ينسى شيئا سمعه مني أبدا فبسطت
ثوبي أو قال نمرتي ثم قبضته إلي فوالله ما نسيت شيئا سمعته منه
وأيم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشئ أبدا ثم تلا (إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) الآية كلها (134).
أقول:
1 - هذا شعور الناس من التابعين بأن أولى الناس بالتحديث عن النبي
(صلى الله عليه وسلم) هم المهاجرون والأنصار.
2 - وفيه إخراجهم لأبي هريرة من المهاجرين والأنصار، مع أنه هاجر
يوم خيبر، لكنها ليست الهجرة الشرعية، بل روي عنه أنه هاجر مع

--------------------------------------------------------------------------------

(134) مسند أحمد - 7380.
75

الطفيل بن عمرو في العهد المكي، لكنها أيضا ليست الهجرة الشرعية،
التي يستحق بها المهاجر أن يقال له (من المهاجرين)، لأن لفظ
(المهاجرين) لها دلالة شرعية، وهي الهجرة قبل الرضوان، مع ملازمة
النبي (صلى الله عليه وسلم) وعدم عودة المهاجر إلى المكان الذي هاجر
منه (135)، وقد يطلقها بعضهم على من هاجر بعد الرضوان من باب
التجوز والتوسع.
3 - فيه إقرار من أبي هريرة بأنه ليس من المهاجرين ولا من الأنصار،
ولذلك لم يقل (أولست من المهاجرين)، مما يدل على خصوصية لهذه
اللفظة، وأنه لا يكفي فيها مجرد الهجرة بعد الحديبية، لأنها تستلزم
البقاء في المدينة قبل الحديبية.

--------------------------------------------------------------------------------

(135) كما أن الهجرة في مكة لم تكن واجبة لذاتها، وإنما تجب تبعا لوجوب الإسلام نفسه، ولم يكن
للنبي (صلى الله عليه وسلم) دعاة في البلدان فكان يجب على من أراد الإسلام أن يذهب إلى النبي
(صلى الله عليه وسلم) في مكة ويسأله عن الإسلام، ولم تجب الهجرة إلا بعد هجرة النبي (صلى الله
عليه وسلم) للمدينة إذ نزلت الآيات الآمرة بالهجرة الشرعية لمناصرته ضد الكفار واليهود ولأخذ
تعاليم الإسلام منه (ص).
76

الدليل الثلاثون: روى أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا فإني
أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر (136).
أقول: هل في الحديث دلالة على أنه لم يكن يكلم النبي (صلى الله عليه وسلم)
بالأمور إلا أصحابه الشرعيون، ثم نهاهم النبي (صلى الله عليه وسلم)؟، وكأن
غير هؤلاء لا يتجرأون أصلا أن يكلموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في
أمر فلان وفلان، ولذلك نجد خالدا لما أراد الوشاية بعلي بعث أحد
الرضوانيين لتصديقه في قصة حديث: (لا تبغضه وإن كنت تحبه فأزدد
له حبا) ولماذا لم يقل النبي (صلى الله عليه وسلم): (لا يبلغني أحد عن أحد
شيئا) وإنما قال: (أحد من أصحابي عن أحد - يعني من الناس -
شيئا..)، أقول: هذا احتمال، والله أعلم.

--------------------------------------------------------------------------------

(136) أبو داود - الأدب - 4218. قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا الفريابي عن
إسرائيل عن الوليد، قال أبو داود ونسبه لنا زهير بن حرب عن حسين ابن محمد عن إسرائيل في
هذا الحديث قال الوليد ابن أبي هشام عن زيد بن زائد.
77

الدليل الواحد والثلاثون:
روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح: أن رجلا نادى ابن عباس
والناس حوله فقال أسنة تبتغون بهذا النبيذ أم هو أهون عليكم من اللبن
والعسل فقال ابن عباس جاء النبي صلى الله عليه وسلم عباسا فقال
اسقونا فقال إن هذا النبيذ شراب قد مغث ومرث أفلا نسقيك لبنا أو
عسلا قال اسقونا مما تسقون منه الناس فأتى النبي صلى الله عليه
وسلم ومعه أصحابه من المهاجرين والأنصار بسقائين فيهما النبيذ فلما
شرب النبي صلى الله عليه وسلم عجل قبل أن يروى فرفع رأسه فقال
أحسنتم هكذا فاصنعوا قال ابن عباس فرضا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بذلك أحب إلى من أن تسيل شعابها لبنا وعسلا (137).
أقول: في الحديث دليل على أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)
هم المهاجرون والأنصار فقط، وقد سبق مثيل لها، ومع أن العباس
أسلم بعد الحديبية وقبل فتح مكة، وأسلم في تلك الفترة أناس كثيرون،
ومع ذلك لم يقل عبد الله بن عباس (ومعه أصحابه من المهاجرين
والأنصار وغيرهم)، وإنما اقتصر على المهاجرين والأنصار، ولا بد أن
يكون مع هؤلاء غيرهم، لكن لم يذكرهم ابن عباس، لأنهم ليسوا من
الصحابة صحبة شرعية، وعلى هذا فليسوا موطن أسوة وقدوة مع

--------------------------------------------------------------------------------

(137) مسند أحمد - 2792.
78

وجود النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من المهاجرين والأنصار!!،
فتأمل هذا جيدا.

79

الدليل الثاني والثلاثون:
روى الإمام أحمد بسند قوي عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر
في قلوب العباد فوجد قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) خير قلوب العباد
فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد
فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على
دينه فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئا فهو
عند الله سيئ (138).
أقول: لولا أن بعض الناس يورد هذا الأثر في الصحبة العامة لما
أوردته هنا، فالدليل واضح أنه في الصحبة الشرعية فقط، بدليل قوله:
(فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه)، فهذه الصفة لا تتفق إلا مع
صحبة المهاجرين والأنصار، فهم الذين قاتلوا على الدين حتى استقام
أمر الإسلام، وهم وزراء النبي (صلى الله عليه وسلم) والوزراء لا بد أن
يكونوا قلة نسبة لبقية الناس، أما من يجعل كل شعب النبي (صلى الله عليه
وسلم) وزراء فقد غالط!! وهذا الأثر لا يجوز أن يفهم بما يخالف الآيات
القرآنية والأحاديث الصحيحة، وإنما بما يتفق معها، وإلا فهي أولى
بالتقديم (139).

--------------------------------------------------------------------------------

(138) مسند أحمد - 3418. قال: حدثنا أبو بكر حدثنا عاصم عن زر بن حبيش..
(139) وهنا ملحوظة وهي: كيف تم هذا الاستيلاء على فضائل الصحابة من المهاجرين والأنصار
فجعلت في غيرهم؟! الأمر محير إلى حد كبير!! فإذا كانت السياسة الأموية هي التي كان لها الدور
الأكبر في هذا الاستيلاء واستغلال بعض الصالحين في هذا فأين دور العلماء في كشف مثل هذا
الاستيلاء الظاهر؟، بل ليس هناك أظهر من الآيات الناصة على المهاجرين والأنصار إذ نجد بعض
العلماء يوردها في كل الصحابة (بالمعنى الشائع للصحبة)!؟ لماذا هذا الخلط بين الفضائل؟! بل لماذا
إنزال الفضائل على من ليس فاضلا أصلا كإنزالهم بعض الآيات التي نزلت في حق أهل الرضوان على من ظلم أو فسق كالوليد والحكم وبسر وأمثالهم، كذلك إنزال بعضهم الآية الكريمة (لقد تاب الله على
النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة)، على كل ذلك الجيش الذي كان
المهاجرين والأنصار فيه قلة، مع أن الآية واضحة في الاقتصار على المهاجرين والأنصار، كل هذا
لا أظن أنه حصل بسبب السياسة الأموية وحدها، لا بد أن يرفدها غفلة الصالحين وخصومة الشيعة
والتقوقع الثقافي والخشية من الاتهام في العقيدة إن لم يوافق على هذا الخلط!! ونحو ذلك من
الأسباب.
80

الدليل الثالث والثلاثون:
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود أن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) قال إنه لم يكن نبي قط إلا وله من أصحابه حواري وأصحاب
يتبعون أثره ويقتدون بهديه ثم يأتي من بعد ذلك خوالف أمراء يقولون
ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون (140).
أقول: هنا أيضا بين ضابط الصحبة الشرعية في اتباع الأثر والاقتداء
بالهدي والسنة، وهذا ما كان عليه المهاجرون والأنصار، أما الطلقاء
فكان أمراؤهم من خوالف الأمراء المشار إليهم في الحديث، ومن أراد
التأكد من ذلك فليراجع سيرة القوم.
وأما الحواري فهو الزبير بن العوام، كما جاء في أحاديث أخرى، والله
أعلم. وإذا توفر ضابط الصحبة الشرعية فيمن بعد هؤلاء فلا يسمون
أصحابا إلا من باب المجاز، مثل المقتدي بالنبي (صلى الله عليه وسلم) اليوم
فهو من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) مجازا لا حقيقة، وكذلك من
اقتدى به (صلى الله عليه وسلم) بعد الحديبية.

--------------------------------------------------------------------------------

(140) مسند أحمد - 4170.
82

الدليل الرابع والثلاثون:
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال: يا أبا
هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا
بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في اليسر
والعسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في
الله تبارك وتعالى لا نخاف لومة لائم فيه وعلى أن ننصر النبي صلى
الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا
وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة فهذه بيعة رسول الله صلى اللهم عليه
وسلم التي بايعنا عليها فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما
بايع رسول الله وفى الله تبارك وتعالى بما بايع عليه نبيه صلى الله
عليه وسلم فكتب معاوية إلى عثمان بن عفان أن عبادة بن الصامت قد
أفسد على الشام وأهله فإما تكن إليك عبادة وإما أخلي بينه وبين الشام
فكتب إليه أن رحل عبادة حتى ترجعه إلى داره من المدينة فبعث بعبادة
حتى قدم المدينة فدخل على عثمان في الدار وليس في الدار غير رجل
من السابقين أو من التابعين قد أدرك القوم فلم يفجأ عثمان إلا وهو
قاعد في جنب الدار فالتفت إليه فقال يا عبادة بن الصامت ما لنا ولك
فقام عبادة بين ظهري الناس فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبا القاسم محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إنه سيلي أموركم
بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة
لمن عصى الله تبارك وتعالى فلا تعتلوا بربكم) (141).

--------------------------------------------------------------------------------

(141) مسند أحمد - 21706.
83

أقول: في قوله: (وليس في الدار غير رجل من السابقين أو من التابعين
قد أدرك القوم) دليل على أن من بعد السابقين من المهاجرين والأنصار
يسمون (التابعين)، وهذا أيضا يفسر قوله تعالى: (والسابقون الأولون
من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)، أما عبادة بن
الصامت فهو يلمح في الحديث لعثمان أو معاوية أو كلاهما، وفي
تقديري أن عثمان أراد غلق باب الاختلاف، ولا ينطبق عليه الحديث
فهو من الراشدين، لكن البلاء والفتنة جاء من بعض ولاته وأقربائه،
مثل معاوية، والوليد، وابن أبي السرح، وأمثالهم، أو مستشاريه، مثل
مروان بن الحكم الذي جرت على رأسه فتنة عثمان، كما اعترف الذهبي
وابن كثير - على شاميتهما!! -، وفي حديث دليل على أن الناس إما
سابقون، أو تابعون، فالسابقون هم المهاجرون والأنصار، ومن بعدهم
يسمون (التابعين)، وينقسم التابعون إلى قسمين: التابعون بإحسان،
وهؤلاء يمثلون مع المهاجرين والأنصار المنهج النبوي، والتابعون بغير
إحسان، وهؤلاء هم الظالمون أو الفاسقون والمغيرون لسنة النبي (صلى
الله عليه وسلم) في العدالة والتقوى، ومعرفة التابع بإحسان، والتابع بغير
إحسان، يحتاج لبحث كل فرد منهم على حدة، ومن لم يبدر منه شئ،
يدل على هذا أو هذا يبقى أمره على السلامة إن شاء الله.

84

الدليل الخامس والثلاثون:
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم
حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف
والطلقاء فأدبروا قال يا معشر الأنصار قالوا لبيك يا رسول الله وسعديك
لبيك نحن بين يديك فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنا عبد الله
ورسوله فانهزم المشركون فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط
الأنصار شيئا فقالوا فدعاهم فأدخلهم في قبة فقال أما ترضون أن يذهب
الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا
لاخترت شعب الأنصار (142).
أقول: في هذا الحديث دلالة على إخراج الطلقاء من الصحابة، بدلالة
قول أنس: (عشرة آلاف - يعني من أصحابه - والطلقاء)، ولم يقل (إثناء
عشر ألفا)، لأن الطلقاء ليسوا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم).
ثانيا: في الحديث بيان أن الطلقاء ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار،
كما في قوله: (فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا).

--------------------------------------------------------------------------------

(142) البخاري - المغازي - 3988).
85

الدليل السادس والثلاثون:
أنس بن مالك (نحو 92 ه‍): خادم النبي (صلى الله عليه وسلم):
(سئل هل بقي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحد غيرك؟ قال:
(بقي ناس من الأعراب قد رأوه فأما من صحبه فلا)!! (143) (144).

--------------------------------------------------------------------------------

(143) قال ابن الصلاح: إسناده جيد، حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة.
(144) مقدمة ابن الصلاح ص 489، ذكر الإسناد المزي في ترجمة أنس وكذلك ابن عساكر
(379 / 15). وقول أنس بن مالك يتفق مع الصحبة الشرعية المثنى عليها في القرآن الكريم والسنة
النبوية.
86

الدليل السابع والثلاثون:
سعيد بن المسيب (بعد 90) إمام التابعين:
(الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سنة أو
سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين) (145).
قال السيوطي في تعليل تعريف ابن المسيب: (ووجهه أن لصحبته (صلى
الله عليه وسلم) شرفا عظيما فلا تنال إلا باجتماع طويل يظهر فيها الخلق
المطبوع عليه الشخص، كالغزو المشتمل على السفر الذي هو قطعة من
العذاب، والسنة المشتملة على الفصول الأربعة التي يختلف بها
المزاج) (146).
قلت: وقد ضعف بعضهم قول سعيد بن المسيب بسبب الواقدي وهو
الذي روى الأثر. لكن الواقدي مختلف فيه وليس مطرحا بالمرة (147).
وقد يقول قائل: إن تعريف سعيد بن المسيب وإن أخرج كثيرا ممن رأى
النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحبه، إلا أنه يدخل الطلقاء ومن أسلم بعد
الحديبية، فقد شهد هؤلاء حنين والطائف، وبعضهم شهد تبوك أيضا.
نقول، حسن الظن بسعيد بن المسيب، وعلمه أنه أراد بالسنة والسنتين
والغزوة والغزوتين، ما كان مع حسن سيرة وصدق إسلام، ومعظم ذلك
كان قبل فتح مكة، لأن كثيرا من الطلقاء إنما أسلموا كرها، وشهد منهم
غزوة حنين ثمانون على الكفر، وانهزموا بالمسلمين، وفرح كثير منهم

--------------------------------------------------------------------------------

(145) الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 99 ومقدمة ابن الصلاح ص 487. وهذا يتفق - إلى حد
كبير - مع الصحبة الشرعية.
(146) أنظر تدريب الراوي (2 / 211).
(147) قد وثقه نحو عشرة من المحدثين وأسماه بعضهم (أمير المؤمنين في الحديث).
87

بهزيمة المسلمين في بادئ الأمر، وهتف بعضهم (ألا بطل السحر
اليوم!!)، وكان رؤساؤهم كأبي سفيان وصفوان بن أمية وحكيم بن
حزام ينتظرون لمن تكون الدائرة!! قال أبو سفيان يومئذ (لا تنتهي
هزيمتهم دون البحر!!)، وهم الذين طلبوا من النبي (صلى الله عليه وسلم) أن
يعمل لهم ذات أنواط، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) في حقهم: (لتتبعن
سنن من كان قبلكم!!)، فهذا خاص في الطلقاء فأورده الروافض في كل
الصحابة!! وبعضنا لميله إلى بني أمية يحب أن يصح في سائر الصحابة
من أن يكون خاصا بالطلقاء!!.
كما أن الطلقاء تزاحموا على النبي (صلى الله عليه وسلم) بالجعرانة عند توزيع
الغنائم حتى فقد رداءه وجذبه بعضهم جذبه شديدة أثر في عنقه، وبعض
الأعراب قال له: (إعدل يا محمد!!)، فهؤلاء الطلقاء والأعراب غزو معه
حنين والطائف، فهي غزوتان وعلى هذا ينطبق عليهم تعريف سعيد بن
المسيب لو أراد مجرد الصحبة سنتين بغض النظر عن صلاح السيرة،
وهذا مما نربأ بسعيد بن المسيب عن اعتقاده وقوله، فهو من أعلم
التابعين وأفضلهم، وهو لا يريد - والله أعلم - إلا من صحب سنة أو
سنتين قبل فتح مكة، أو أنه يشترط في ذلك صلاح السيرة.
وعلى افتراض أن سعيد بن المسيب يريد إدخال أمثال هؤلاء الطلقاء
والأعراب، فقوله ليس حكما على النصوص الشرعية، لأن النصوص
الشرعية هي الحكم على الجميع.
لكن الخلاصة هنا: أن سعيد بن المسيب - ولا بد أن يكون معه كثير من
علماء التابعين بالمدينة - لا يرون الروية أو مجرد اللقيا كافيا، لإطلاق
الصحبة، ويشترطون طول ملازمة ومعاشرة حددوها بالصحبة سنة أو
سنتين، أو الغزوة مع النبي (صلى الله عليه وسلم) غزوة أو غزوتين بشرط
قصد النصرة وليس قصد الغنائم، كما هو ظاهر في معظم الطلقاء
والأعراب.

88

الدليل الثامن والثلاثون:
4. أبو إياس (معاوية بن قرة (148) ت 113 ه‍)
قال: جاء أبي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو غلام صغير فمسح
رأسه واستغفر له. قال شعبة: فقلنا له: اصحبه؟ قال: لا. ولكنه كان
على عهده قد حلب وصر) (149).
أقول: وهكذا لم يعتد معاوية بن قرة برؤية والده للنبي (ص) ولقياه له
مع أن والده يومئذ كان يحلب ويصر أي أنه كان في سن المراهقة
تقريبا.

--------------------------------------------------------------------------------

(148) معاوية بن قرة من كبار التابعين من طبقة الحسن البصري ومن الثقات.
(149) الكفاية ص 109. وقد عد مترجمو الصحابة والده في الصحابة مع أن ابنه ينفيها عنه رغم
شرفها ووالده هو قرة بن إياس المزني.
89

اعتراضات والجواب عليها
قد يرد البعض على ما سبق بعض الاعتراضات -، وهذا من حق كل من
قرأ البحث أو سمع به، كما أنه من حقنا أن نبين رأينا في هذه
الاعتراضات والحجج المضادة، ومن أبرزها:
1. قد يقول البعض: ما دام أن اللغة واسعة، ويجوز فيها أن تطلق
الصحابي أو الصاحب على من صحب ولو صحبة يسيرة، فلماذا
التضييق في الأمر؟
الجواب: نحن للأسف تجاوزنا مسألة الحقيقة اللغوية نفسها، فأصبحنا
نطلق الصاحب على من رأى، وليس على من صحب، فهذا أولا تجاوز
واضح للحقيقة اللغوية إلى المجاز اللغوي، والمجاز يتسع للمعاصر
أيضا بل للمسلم مطلقا.
ثانيا: سبق أن كررنا أننا لا نمانع من إطلاق الصحبة، إذا أريد بها
مطلق الصحبة، لكن هذا الإطلاق جائز في الكفار والمنافقين أيضا.
بمعنى أن المنافقين يدخلون في الصحبة من حيث اللغة، كما أن الكفار
يدخلون باللغة كذلك، فاللغة تحتمل الأمرين (150)، لكن المنافقين والكفار
غير صحابة من الناحية الشرعية، وعلى هذا ليسوا صحابة بالمعنى

--------------------------------------------------------------------------------

(150) بمعنى أن من صحب النبي (صلى الله عليه وسلم) من الكفار كالذي دله يوم الهجرة على الطريق
يدخل من حيث اللغة في الصحبة لكن الشرع يخرجه منها. وكذلك عبد الله بن أبي رأس المنافقين
يعتبر من حيث اللغة صاحبا لكن الشرع يخرجه منها. وكذا الطلقاء والعتقاء أخرجتهم النصوص من
الصحبة الشرعية. كما أخرجت النصوص - على الراجح - صحبة من أسلم بعد الحديبية من الصحبة
الشرعية، وهؤلاء قبل الطلقاء في الإسلام وامتازوا عنهم بالهجرة.
90

الشرعي للصحبة، ذلك المعنى الممدوح المقتضي للمتابعة والنصرة على
ما سبق تفصيله.
2. وماذا تعني بالصحبة الشرعية؟ وهل سبقك أحد إلى هذا
المسمى؟
الجواب: الصحبة الشرعية هي تلك الصحبة التي أثنى عليها الله
ورسوله (صلى الله عليه وسلم) جزما، ونزلت الآيات في وصفها، وكانت أيام
الضعف والذلة، أيام حاجة الإسلام وحاجة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى
النصرة والاتباع، تلك الصحبة التي إن ورد الثناء على الأصحاب، أو
الأمر بعدم سبهم، أو الأمر بالاقتداء بهم، فلا تنصرف هذه المعاني إلا
لها، وهذا لا يعني عدم الثناء على الصالحين في أي زمن، وإنما يعني
احترام خصوصية السابقين، الذين فضلهم الله ورسوله، وهم المهاجرون
والأنصار.
أما هل سبقني أحد إلى هذه التسمية، فهذا السؤال له مقدمة وجواب:
أما المقدمة فأقول: يجب أن يعرف القارئ الكريم أن هناك كثيرا من
المصطلحات التي نقول أنها شرعية لكون الشرع أعطاها دلالة خاصة
غير دلالتها الأولى، وعلى سبيل المثال مصطلحات الزكاة، والصلاة،
والحج، فمعانيها من حيث اللغة تعني الطهارة، والدعاء، والقصد...، لكن
الإسلام بنصوص الكتاب والسنة قد أعطى هذه المعاني دلالات أخرى مع
عدم نفي الدلالات السابقة، فالحج قصد، لكن إلى بيت الله الحرام لأداء
شعائر معينة، والزكاة أصبحت تعني إخراج حق المال، وهي طهارة
أيضا، تطهر مال المزكي وتطهر المزكي من الإثم ونحو هذا.
بمعنى أن الشرع يضيف تقييدات على المصطلحات العامة، ليصبح لها
مدلول شرعي مقيد، بعد أن كان المدلول اللغوي واسعا، قد يصل لحد
المشترك اللفظي، أو يكثر فيه المجازات اللغوية. فكذلك الصحبة إذا قال
النبي (صلى الله عليه وسلم): (لا تسبوا أصحابي...) عرفنا أن كلمة

91

(أصحابي) في هذا الحديث لا تعني إلا السابقين من المهاجرين أو
الأنصار، بدلالة أن المخاطب (صحابي (151)) تأخر إسلامه إلى بعد
الحديبية، وهو يدخل في الخطاب بطريق الأولى، وكذلك إذا وجدنا آية
تثني على (الذين معه) أي الذين مع الرسول (صلى الله عليه وسلم). فلا
تنصرف إلا إلى الصحبة الشرعية، بدلالة الآيات الأخرى، التي تقتصر
على (المهاجرين والأنصار)، وهذا يعني أن كلمة (الذين معه) كلمة
مجملة مفسرة ب‍ (المهاجرين والأنصار)، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
وأما الجواب: فنعم، قد سبقني كثير من العلماء السابقين واللاحقين، بل
لعل جمهور الأصوليين على هذا التعريف، ولو لم يكن معنا من هؤلاء
إلا القليل لكفى، لكثرة أدلتهم النقلية والعقلية والعرفية، وضعف أدلة،
مخالفيهم المعتمدين على الوضع اللغوي فقط، كما أنني أسجل للتاريخ
بأنه قد سبقني بعض الباحثين المعاصرين لإطلاق مصطلح الصحبة
الشرعية، ومع ذلك فلا أطلب من أحد أن يلتزم بهذا الإطلاق (الصحبة
الشرعية)، لكن عليه إن أثنى على الصحابة ألا ينزل هذا الثناء إلى علي
من أنزله الله ورسوله عليه من المهاجرين والأنصار فقط، أما أن يأتي
وينزل الآيات والأحاديث الخاصة في فضل أصحاب الرضوان مثلا،
وينزلها على الطلقاء أو من بعدهم، فهذا بداية الخلل العلمي الذي سبب
لنا منازعات وخصومات ترجع إلى هذا الخلط الأعمى.
وقد سبقني لكن بألفاظ مقاربة جمهور الأصوليين -، كما رأيتم بيان ذلك
في الملحق -، ولبعض المعاصرين وهو الشيخ عبد الرحمن الحكمي
بحث في الموضوع قد يطبع قريبا يرى فيه (أن من أسلم بعد بيعة
الرضوان لا يدخل في مسمى الصحابة).
ثم أقول للمحتجين بالأسبقية: من سبقكم إلى اعتبار الآيات الكريمة التي
وردت في حق المهاجرين والأنصار من سبقكم إلى اعتبارها نازلة فيمن

--------------------------------------------------------------------------------

(151) حسب المفهوم الشائع للصحبة وهو مفهوم مرجوح.
92

بعدهم؟!، ثم لا يشترط أن يسبق في الموضوع أحد ما دام للموضوع
أدلته وبراهينه، فينطلق النقد على تلك البراهين والأدلة، ولا ينطلق على
غير ذلك، وكلمة (من سبقك؟!) ليس دليلا، فقد أطلق المتأخرون ألفاظا
أو مصطلحات لم تكن موجودة فيهم ولا قبلهم، ولم يقل لهم أحد هل
سبقكم أحد إلى هذه التسمية، مثل التفسير، والتجويد، والمصطلح نفسه،
وأصول الفقه، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك من الألفاظ
التي لم تكن موجودة في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا القرن الأول.
3. قد يقال: إن تقييدك للصحبة ب‍ (المهاجرين والأنصار) خلاف
الإجماع، الذي استقر عليه المحدثون، من اعتبار كل من لقي النبي
(صلى الله عليه وسلم) (مؤمنا به ومات على الإسلام فهو صحابي).
أقول: المسألة ليس فيها إجماع ولا استقرار رأي، ومن عرف معنى
الإجماع وشروط حصوله، سيستحي علميا أن يتفوه بهذا، هذا أمر.
أما الأمر الثاني: فالمحدثون وحدهم - رغم أنهم لم يجمعوا - لا يعتبر
إجماعهم حجة شرعية، وقد اختلفوا في تحديد معنى الصحبة، وتعريف
الصحابي، وإلا فكيف يصح إجماع المحدثين مع خلاف سعيد بن المسيب
وشعبة بن الحجاج ومعاوية بن قرة وعاصم الأحول وأبو حاتم ويحيى
بن معين وابن عبد البر وأبو زرعة وأبو داود وغيرهم، فكل هؤلاء لا
يعتبرون مجرد الرؤية ولا مجرد اللقيا دليلا كافيا لإثبات الصحبة،
وهؤلاء كلهم من كبار أهل الحديث، ولكن قصر الصحبة على المهاجرين
والأنصار، صحيح ليس عليه أكثر المحدثين أيضا، لسبب ظاهر، وهو
تركيزهم على اتصال الإسناد، فهم معذورون في هذا التوسع، للسبب
المتعلق بوظيفتهم في نقل أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكنهم مع ذلك
ليس عندهم غلو المعاصرين، ولا غلو الحنابلة فتجد أهل الحديث ينقلون

93

لنا الأحاديث في ذم بعض من وصف بالصحبة كحرقوص بن زهير،
وقاتل عمار، والوليد بن عقبة، والحكم، ونحوهم، وتجدهم يذمون سيرة
هؤلاء، ولا يفهمون من (عدالة الصحابة) عدم تجريح أمثال هؤلاء كما
يفعل بعض المعاصرين، كما لم يردوا الأحاديث الواردة في ذمهم، ولا
يعدلون كل من وصف بالصحبة فتجد بعضهم يقول عن بسر بن أبي
أرطأة: (كانت له صحبة ولم تكن له استقامة)!!، ونجد بعضهم يطلق
على الوليد (الفاسق)، ولهم أقوال كثيرة تتفق مع ما ذكرناه من ذم
بعض من وصف بالصحبة، أما غلاة المعاصرين فليسوا لا على مذهب
المحدثين، ولا مذهب الأصوليين، وليس لهم سلف فيما يعتقدون إلا
بعض غلاة الحنابلة أمثال البربهاري وابن بطة وابن حامد المتأثرين
بنواصب الشام الذين بالغوا في تعريف الصحبة وفضلها، حتى يحموا
بها بعض الطلقاء، الذين كان لهم أثر سيئ في الأمة، ثم قصر الصحبة
على المهاجرين والأنصار لا يؤثر كثيرا في الأحاديث المنقولة إلينا،
وليس الخلاف في بعض هؤلاء أولى بالضرر على الحديث من الخلاف
في بعض التابعين أو تابعيهم لمن تأمل هذا الأمر (152).
ثم قد سبق أن ذكرت عددا لا بأس به من علماء الحديث الذين يذهبون
خلاف ما ذكر المعترض، ويمكن مراجعة ذلك فيما سبق.
والذي أسماه المعترض (مما استقر عليه المحدثون) فيه نظر من أكثر
من وجه:

--------------------------------------------------------------------------------

(152) بمعنى أن الضرر الذي يلحق الأحاديث عند الخلاف في عدالة الحارث الأعور مثلا أكثر من
الضرر الذي يلحق الأحاديث في الخلف في عدالة رجل مثل بسر بن أبي أرطأة، فالحارث روى
أحاديث كثيرة وبسر لم يرو إلا حديثين فقط، فإذا كان الحارث ثقة فات مضعفه حديث كثير وإن كان
الحارث ضعيفا فقد قبل موثقه شرا كثيرا وكذبا على الرسول (صلى الله عليه وسلم). أما الاختلاف في
بسر فأقل من هذا، فإن فات خير برده فلن يكون كثيرا وإن حصل شر بقبوله فليس شرا كثيرا، ما
هما إلا حديثان لكن الشر يأتي من اتخاذه قدوة وأسوة أو المبالغة في تبرير أعماله وعدم البراءة
منها...
94

الوجه الأول: هل الإجماع المسبوق بخلاف يعد إجماعا أم لا؟، هذا على
التسليم بأن المتأخرين استقروا (أجمعوا) على تعريف الحافظ ابن حجر،
الوجه الثاني: هل قام أحد باستعراض مذاهب المتأخرين في هذا
الموضوع؟، ولماذا نرى بعض الكتابات من بعض المحدثين المعاصرين
ليست على ما ذهب إليه المعترض.
الوجه الثالث: سبق ذكره وهو: هل ما استقر عليه المحدثون - على
افتراض صحته - يعد إجماعا حتى لو خالف في ذلك الأصوليون؟!، بل
هل ما أجمع عليه أهل السنة يعد إجماعا معتبرا أم لا بد من إجماع كل
أمة الإجابة؟! فهذا سؤال يحتاج لبحث منفصل (153).
كل هذه الأسئلة بحاجة إلى بت فيها، ولا يحتمل هذا البحث الإجابة
عليها لكون كاتب هذا البحث لم يبحثها بحثا يرضى عنه، ولا يريد أن
يتكلم بما لا يعلم فيقع في المحظور الذي حذر منه، وأنا أدعو إخواني

--------------------------------------------------------------------------------

(153) لأن أقوى دليل للذين يرون الإجماع هو الحديث المشهور: (لا تجتمع أمتي على ضلالة
والحديث وإن كان فيه كلام من حيث الثبوت لكن (الأمة) فيه لا تعني بعض الأمة وإنما كل أمة
الإجابة (كل المسلمين) باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية ومن زعم بأن النبي (صلى الله عليه وسلم)
أراد من (أمتي) أنها تعني المحدثين أو أصحاب المذاهب الأربعة فقد جازف، بل حتى منظمة المؤتمر
الإسلامي في عصرنا هذا رغم تمثيلها لكل المذاهب الفقهية والعقدية، لكن إجماعا لا يعد إجماعا
أيضا، لأن كل دولة تبعث من يمثلها حتى لو وجد من هو أعلم منه. إضافة إلى أن الإجماع يستلزم
اتفاق كل المجتهدين، والمجتهدون أكثر ممن تضمهم هذه المنظمة، فلا بد من آلية تنقل لنا الإجماع
الذي عرفه العلماء.
وهذا كله لا يعني عدم الحكم بخطأ الفرد ما لم يوجد إجماع على ذلك، لأن أصول الاستدلال لا تقتصر
في الإجماع فقبله هناك الكتاب والسنة، فيستطيع الباحث أن يحكم بالخطأ على فلان أو الفرقة
الفلانية، لأنه خالف - أو لأنها خالفت - نصا صريحا يراه الباحث صحيحا، بمعنى أن الأدلة الشرعية
من الكتاب والسنة كافية في الحكم بتخطئة المخطئ أو تبديع المبتدع أو إكفار الكافر وليست بحاجة
إلى (إجماع في المسألة) لأن الإجماع صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلا في كثير من الموضوعات
المختلف فيها.
وهذا أيضا لا يعني الانسياق وراء المتشدقين الذين يستعجلون في إطلاقه ويتجاوزون
بإطلاقه حدود الأدب العلمي (وما أكثرهم في عصرنا هذا؟!!) فتجد أحدهم يدعي الإجماع على مسألة
كذا ولو سألته عن تعريف الإجماع لما عرف ذلك!!.
95

للبحث المنصف فقط، أو محاولة ذلك على الأقل، مع التواضع في
الاعتراف بالقصور في العلم.
4. قد يقول قائل: كيف تناقش مسألة (عدالة الصحابة) وهي مسألة
إجماع؟! ثم من نحن حتى نعرف هل الصحابة عدول أم لا؟! ثم ما ذا
تفعل بتعديل الله لهم في كتابه؟ هل لك اعتراض على ذلك؟!
أقول:
أولا: هذه أسئلة مكابر، وليست أسئلة باحث عن الحقيقة، وللأسف أن
هذا النمط من الأسئلة هي المنتشرة اليوم، وهي ممقوتة عند العقلاء
الذين يحترمون البحث العلمي، ويمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة
المكابرة بأسئلة مثلها فيقال:
كيف تخصون الصحابة بالعدالة، مع أن هذا التخصيص لم يرد عليه
دليل لا من كتاب ولا من سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وهذه مسألة
إجماع؟! فحكم الصحابة هو حكم غيرهم في الشهادة لقوله تعالى:
(وليشهد به ذوا عدل منكم)، فلو كان للصحابة خصوصية لكفى منهم
شاهد واحد عدل!!، ولو كان للصحابة خصوصية لاكتفى منهم بشاهد
واحد في الزنا والقذف وغيرها، وهذا خلاف الإجماع فإن النصوص
القرآنية والحديثية لا تفرق في الشهادة بين صحابي وتابعي، فلماذا
تفرقون أنتم في الرواية بين الصحابي وغير الصحابي، فلا تبحثون عن
عدالة الصحابي وتبحثون عن عدالة التابعي؟!
بأي دليل من شرع أو عقل يبيح لكم هذا التفريق؟! إذا كنتم تحتجون
بأن الله أثنى على الصحابة في كتابه، فهذا الثناء العام معارض بذم علم
في القرآن الكريم أيضا، وأنتم حذوتم حذو أهل الكتاب الذين وبخهم الله
عز وجل بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، وقد ذم الله

96

عز وجل - على منهجكم - الصحابة، كما في قوله تعالى: (كالذين من
قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم
فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي
خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وأولئك هم الخاسرون) (154).
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند
الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (155).
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة
الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما
غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير) (156).
وقال عنهم يوم حنين: (... إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم
شيئا...) (157).
وقال عنهم يوم أحد: (... حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم من بعد ما
أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة...).
وقال عنهم يوم الأحزاب: (... وتظنون بالله الظنونا..).
وقال عنهم في سورة الممتحنة: (.. تسرون إليهم بالمودة....) يعني
إلى الكفار.
وقال عن أصحاب الإفك من الصحابة - وفيهم بدريون - (فأولئك عند الله
هم الكاذبون) وقال عن المظاهر من امرأته وهو صحابي: (... وإنهم
ليقولون منكرا من القول وزورا)، وقال في حق أبي بكر وعمر وهما
من هما: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا

--------------------------------------------------------------------------------

(154) التوبة: 69.
(155) الصف: 2 - 3.
(156) التوبة: 38 - 39.
(157) التوبة: 25.
97

تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا
تشعرون)، وقال عن الذين أسلموا عنده من بني تميم: (... أكثرهم لا
يعقلون)، وقال عن الوليد بن عقبة: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا)، وقال: (وأعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في
كثير من الأمر لعنتم...)، وقال في حق بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه
وسلم): (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من
الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون،
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما
كانوا يكذبون) (158).
وقال: (ومن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على
النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم...).
ومن الأحاديث في الذم العام: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا
أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال:
هلم، فقلت: أين، قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم، قال: إنهم
ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج
رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين، قال إلى النار والله، قلت:
ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى فلا أراه يخلص
منهم إلا مثل همل النعم!! (159).
فيأتي المعارض للثناء العام بهذا الذم العام ويقول: كيف تجعلون
للصحابة ميزة وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه لا ينجو منهم إلا
القليل!! وأن البقية يؤخذون إلى النار؟! وكيف أنهم استمتعوا بخلاقهم
كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، وقد تحبط أعمالهم كما حبطت
أعمال الأمم الماضية!!، وأنهم يقولون ما لا يفعلون!!، وأن هذا يعقبه

--------------------------------------------------------------------------------

(158) التوبة: 77.
(159) البخاري - كتاب الرقاق - حديث رقم - 6599.
98

مقت كبير عند الله، وأنهم يتثاقلون كلما دعوا إلى الجهاد مع النبي (صلى
الله عليه وسلم)، وأنهم يتكلون على كثرتهم وتعجبهم وينسون أن أمر
النصر والهزيمة بيد الله!!، وأنهم يتنازعون ويعصون الرسول وبعضهم
يريد الدنيا!!، وأنهم يظنون بالله الظنون!!، ويسرون بالمودة إلى
الكفار!! وهذا خلاف ما أمروا به من الولاء للمؤمنين والبراءة من
المشركين!!، وحكم على بعضهم بالكذب!!، وحكم على آخرين بأنهم
يقولون المنكر والزور!!، وهدد بعضهم بإبطال الأعمال عندما لا يتأدبون
مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويرفعون أصواتهم فوق صوته، وإذا كان
هذا التهديد نزل في حق أبي بكر وعمر فكيف بالباقين؟!، وحكم على
بعضهم بأنهم لا يعقلون، وعلى آخرين بالفسق، وحذر الله النبي (صلى
الله عليه وسلم) من طاعتهم في كثير من الأمور، فكيف يكون عدلا من
تكون طاعته مضرة وإثما، وأخبر الله عن إخلاف بعضهم للوعد، فيعاهد
الله ثم لا يفي ويتحول إلى منافق، وأخبر بأن منهم منافقين لا يعلمهم
النبي (صلى الله عليه وسلم)، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه لا ينجو من
أصحابه يوم القيامة إلا القليل (مثل همل النعم) كما ثبت في صحيح
البخاري.
أقول: يستطيع المحتج على إبطال (عدالة الصحابة) جملة بمثل هذه
الآيات والأحاديث الصحيحة، وحجته لن تكون أضعف من حجة القائل
بتعديل كل من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) من المسلمين!!.
فما الحل إذن؟! هل القرآن متناقض فيثني على أناس ثم يجرحهم
ويذمهم؟ اللهم لا، ونعوذ بالله أن نضرب القرآن الكريم بعضه ببعض،
كما نعوذ بالله أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض.
ولكن نقول: آيات الثناء تنزل على من يستحقها من المهاجرين
والأنصار، وآيات الذم بين أمرين، إما عتاب لا ذنب فيه إن شاء الله،

99

مثل الأمر بعدم رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإما ذم
لبعض من لهم سوابق تشفع لهم كحاطب مثلا.
وإما ذم عام وأريد به الخصوص يعني أريد به طائفة منهم، وتعرف هذه
الطائفة، إما بسبب نزول أو بمعرفة صفتها في آيات أخرى جاء ذكرهم
صريحا، وكانت لهم سوابق، وكانت ذنوبهم درسا لهم ولغيرهم، فرجعوا
وتذكروا، أو تكون النصوص نازلة على كثير من المتأخرين في
الإسلام، الذين لم يصدر منهم في عهد النبوة ما يطمئن إلى صحة
إسلامهم من قوة جهاد وقوة إنفاق.
إذا فالقائل بأن الله عدلهم في كتابه، إذا أراد بأن الله عدل المهاجرين
والأنصار، فقد صدق، وإن أراد أن الله قد عدل أمثال الحكم، وحرقوص
بن زهير، والوليد بن عقبة، وأمثالهم فقد كذب على الله، وحمل كلام الله
ما لم يحتمل، وهذه من وساوس الشيطان لهؤلاء الناس، حتى يقولوا
على الله ما لا يعلمون، كما قال تعالى في التحذير من الشيطان: (إنما
يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، وما أكثر
المتقولين على الله بين المسلمين خاصة في الأزمنة المتأخرة، يأتيهم
الشيطان من الباب الذي فيه عاطفتهم، وميل قلوبهم، حتى يوردوا آيات
في غير ما أنزلت فيه وفي غير ما أزلت له، فيتم تحريف مراد الله عز
وجل، بل اطلعت على تحريف بعض هؤلاء لمعاني آيات صريحة
واضحة ليس فيها أية لبس، لكن الشيطان بسيفه، ورمحه (الجهل
والهوى) أوقع هؤلاء في اعتقادات خاطئة، ثم أخذ عليهم أن يلزموا
الناس بها، حتى تحدث الفرقة والتنازع، وقبل ذلك يحدث صرف مدلول
الآيات الكريمة ومعانيها، وقد نجح الشيطان مع كثير منهم، فأصبح
يقول على الله ما لا يعلم، بل يقول على الله بخلاف ما أنزل صريحا،
نسأل الله الهداية والعافية.

100

أدلة القائلين بعدالة كل أفراد
الصحابة
عند مطالعتي معظم الكتب المؤلفة في الصحابة وجدت أدلتهم التي
يستدلون بها على عدالة كل من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) أدلة عامة،
لا يجوز إنزالها على كل فرد، ولو جاز إنزال آيات الثناء على كل فرد
لجاز إنزال آيات الذم والعتاب على كل فرد أيضا، وبهذا نقع في
التناقض.
وإذا قال قائل: ننزل آيات الثناء على كل فرد منهم، بينما لا ننزل آيات
الذم إلا على بعضهم؟!.
أقول: أيضا هذا يوقعنا في التناقض فإذا أثنينا على كل أفرادهم فكيف
نذم بعضهم؟!
تم بأي دليل من شرع أو عقل يجيز لنا إنزال آيات الثناء العام على كل
فرد؟!.
بأي حق ننزل حديث (خير الناس قرني) على كل الأفراد في القرن
الأول، وقد كان في القرن الأول من فسقة المسلمين - فضلا عن الكفار
والمنافقين - من تعرف سيرته، كالحجاج، ويزيد، وزياد، وابنه،
والمختار، والخوارج، والنواصب، وغلاة الشيعة (160).

--------------------------------------------------------------------------------

(160) ينبغي التنبيه على أن المراد بغلاة الشيعة الذين يتعدون بسب أحد من السابقين كالخلفاء الثلاثة
أو طلحة والزبير (علما بأنهما مع أم المؤمنين عائشة قد تابوا ولم يصروا على المعصية كما فعل
أهل الشام) وكذلك يعد من غلاة الشيعة من سب بعض المهاجرين أو الأنصار أما سبهم لمحاربي
على وبغضهم فليس بأفحش من سب النواصب لعلي علي منابرهم!! ذلك السب الذي يسكت عنه
متعصبة النواصب ويزمجرون حول سب الشيعة لمعاوية!!.
101

إذن لا بد من فهم للمسألة بلا ضرب للقرآن بعضه ببعض.
وأقول في الخلاصة: إذا لم نفصل في الموضوع فالقائلون بجرح
الصحابة مطلقا لن تكون أدلتهم بذلك الضعف الذي يتصوره البعض،
ولو لم يكن معهم إلا أحاديث الحوض لكفى في الشبهة، ولن يخرجنا من
مدلوله، إلا إذا اعتبرنا بعض المتأخرين غيروا وبدلوا، وإلا ذهبت دلالة
الحديث.
ومن أبرز أدلة القائلين بعدالة الصحابة مطلقا (ويقصدون عدالة كل فرد
ممن لقي النبي (صلى الله عليه وسلم) مؤمنا) ما يلي:

102

الدليل الأول:
قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا) (161).
أقول: هذه الآية إما أنها خطاب لجميع الأمة، كما ذهب إليه بعض
المفسرين، وروى البخاري في صحيحه ما يدل على ذلك (162).
وإما يكون المراد بها الصحابة.
فإن أريد بها الأمر الأول، فالآية حجة لنا لا علينا، لأننا نعلم أن الآية لا
تنزل على جميع أفراد الأمة، وكل الناس متفقون على أن في الأمة
من ليس عدلا كالحجاج مثلا، وعلى هذا فالآية لا تنزل على جميع أفراد
الأمة فتفيد عدالتهم، وإنما العدالة للعموم، بل للصالحين منهم.
وأما من قال أن المراد بها الصحابة فعليه الدليل، فإن ثبت الدليل فلا
تنزل على كل أفراد الصحابة مثلما لا تنزل على كل أفراد الأمة، فمثلما
الثناء على الأمة لا نستطيع إنزاله على كل أفرادها، فكذلك الثناء على
جيل النبي (صلى الله عليه وسلم) لا نستطيع إنزاله على كل فرد منهم ممن رأى
النبي (صلى الله عليه وسلم)، لورود أدلة صحيحة لها دلالة صريحة تعارض
المظنون من دلالة الآية، وإذا تعارض حديث صريح مع مظنون آية

--------------------------------------------------------------------------------

(161) البقرة: 143.
(162) كما في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وسلم): (يجاء بنوح يوم القيامة فيقال
له: هل بلغت.. إلى أن يقال له - لنوح -: من شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون ثم
قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (وكذلك جعلناكم أمة وسطا...) رواه البخاري (268 / 4) نقلا
عن الدكتور ناصر الشيخ (57 / 1).
103

يؤخذ بصراحة الحديث، والذي أعرفه أن هذا محل إجماع عند أهل
السنة، ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل.
وقد يقول قائل: أن الصحابة في الذروة في الصلاح من الأمة، فإذا كانت
الأمة وسطا وشاهدة على الآخرين فمن باب أولى الصحابة.
أقول: إن أريد بالصحابة هنا المهاجرون والأنصار، ومن سار على
نهجهم ممن صحب النبي (صلى الله عليه وسلم) أو غيرهم فنعم، وإن أريد بها
كل من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) ممن ذكروا في الصحابة فهذا غير
صحيح، لأن بعض هؤلاء قد شهد عليهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالنار
كقاتل عمار مثلا.
إذن فالقول بأن الصحابة في الذروة من الصلاح إن أريد به ما سبق
ذكره فصحيح، وأنا أقول بهذا، بشرط ألا يدخل في الصحابة من ساءت
سيرته وخالف دين النبي (صلى الله عليه وسلم) بردة أو فسق ظاهر أو ظلم
غالب.
ومن ظن أن الآية تعديل لمثل الوليد بن عقبة، وحرقوص بن زهير
، وقاتل عمار، وبسر بن أبي أرطأة، وأمثالهم، فقد افترى على الله الكذب،
أو يكون جاهلا جهلا بليغا، غير محترم لمقام النبوة، ولا ملتفتا
للنصوص الشرعية، التي تحذر من كبائر الذنوب والردة.

104

الدليل الثاني:
قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر وتؤمنون بالله..) (163).
أقول: الكلام في هذه الآية كالكلام في الآية السابقة تماما، فاللفظ عام،
فإن أريد به العموم، فنحن نعرف الأمة أن فيها الصالحون وفيها غير
ذلك، وإن أريد الصحابة (164)، فكذلك فيهم الصالحون من المهاجرين
والأنصار ومن سار على نهجهم، وفيهم غير هؤلاء، فلا تنزل على كل
فرد، وإلا فسنضرب القرآن بعضه ببعض.
ثم قد أورد ابن جرير الطبري (165) بأن المرادين في الآية هنا هم (الذين
هاجروا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة) فأخرجهم الله للناس،
وكانوا خير أمة أخرجت للناس.
وهذا - إن صح من حيث الإسناد - فهو يتفق مع قولنا بأن الصحابة
الصحبة الشرعية هم المهاجرون والأنصار، فكانت هذه الآية خاصة في
مدح المهاجرين منهم فقط، لكونهم أقدم إسلاما، وأكثر تحملا للمشاق،
وهجران الأوطان، لأجل دين الله.
ولذلك روي عن عمر أنه قال: (تكون - أي هذه الآية - لأولنا ولا تكون
لآخرنا).

--------------------------------------------------------------------------------

(163) آل عمران: 110.
(164) على التسليم والتنزل مع الخصم بأن الصحابي كل من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم).
(165) أنظر تفسير الآية في تفسير الطبري.
105

وقال بعضهم: كنتم خير أمة بهذه الشروط الموجودة في الآية من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله (166)، وهذا يخرج من الأمة
من كان فاعلا للمنكرات، غير آمر بالمعروف، ولا مؤمنا بالله الإيمان،
المستحق للشهادة بالجنة والشهادة بالعدالة.
وإذا قال قائل: كيف تخرج بعض الصحابة من هذه الآية وقد عمم بعض
المفسرين ذلك في كل الصحابة لم يستثنوا أحدا؟!.
أقول: أقوال المفسرين ليست أولى بالتقديم من آيات القرآن الكريم
والأحاديث الصحيحة، وللمفسرين أوهام يتناقلونها عن بعضهم، مثلما
للفقهاء وللمحدثين أوهام يتناقلونها، ثم يحررها بعضهم فيما بعد، ومن
أخطاء كثير من المفسرين أنهم لا يجمعون لك الأدلة مع الأدلة التي
يتوهم منها المعارضة في مكان واحد، ثم يجمعون بينها أو يرجحون،
وإنما ينطلقون مع الآية دون النظر في الآيات الأخرى، ولو جاءوا
بآيات الذم العام عند الثناء العام ثم يبينون لنا أن هذا لا يعني التناقض،
وإنما هذه الآيات تكون في حق هؤلاء، وهذه الآيات في حق هؤلاء،
لكان هذا تفسيرا أفضل، لكونه يزيل عن الأذهان ما تتوهمه من تعارض
وتدافع!!.
ثم أنتم لا تحتجون بالمفسرين عندما يأتون ويذمون بعض الصحابة (167)
كالوليد بن عقبة، فإنهم اتفقوا على أن آية: (.. إن جاءكم فاسق بنبأ)
نزلت في الوليد، وذكروا صحابة آخرين نزلت فيهم آيات في ذمهم، وذم
طريقتهم، فلماذا تحتجون بالمفسرين إذا شئتم وتتركونهم إذا شئتم؟!
هل هذا إلا بالغ التعصب؟!.
وقد يقول قائل: وأنت ألست تأخذ بأقوالهم في الوليد، وتترك أقوالهم في
تبرئة كل الصحابة؟!.

--------------------------------------------------------------------------------

(166) راجع تفسير ابن كثير والطبري وغيرهما للآية الكريمة.
(167) حسب تعريفكم.
106

أقول: هذا القول اتهام منكم للمفسرين بالتناقض، فأنتم تقولون أن
قولهم بعدالة الصحابة ينقض قولهم في الوليد وأمثاله!!.
وأنا أقول إن قولهم بعدالة الصحابة لا يعنون بها إنزال هذه العدالة على
كل فرد، ولو كانوا يعتقدون ذلك لوقعوا في التناقض.
ثم أنا لم آخذ بأقوال المفسرين في الوليد، وإنما بحثت أسانيد القصة
البالغة نحو عشرة أسانيد، واتضح لي صحة القصة، ثم استأنست
بإجماع المفسرين تقريبا على ذكر القصة، والاحتجاج بها وتصحيحها،
بينما لا تجدون أنتم إسنادا واحدا صحيحا صريحا يقول بعدالة كل
الصحابة، إلا إذا أريد بأولئك المهاجرون والأنصار (168).
ثم قد نقل بعض المفسرين قول عمر في تفسير الآية السابقة (كنتم خير
أمة أخرجت للناس) بقوله: (لو شاء لقال (أنتم) فكنا كلنا، ولكن قال
(كنتم) في خاصة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن صنع مثل
صنيعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر).
أقول: انظروا إلى قول عمر: (في خاصة من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم) فلو قال (في خاصة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لكفى وإنما زاد - رضي الله عنه - (من) التبعيضية للدلالة على بعض
الصحابة وليسوا كلهم بدلالتين من قول عمر وهما:
1. لفظة (خاصة).
2. من التعيضية.

--------------------------------------------------------------------------------

(168) بعض الأخوة يرى ثناء بعض السلف على كل الصحابة فيظن أن هذا الرجل الصالح من السلف
يعتقد أن كل من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) فهو صحابي من حيث لا يريد ذلك العالم، فبعض
العلماء يطلق الثناء على الصحابة ويريد بذلك المهاجرين والأنصار أو يريد بذلك من لم يظهر ظلمه
أو فسقه على الأقل، فنأتي نحن ونعمم قوله على كل من ترجم له في الصحابة!!.
107

ولو لم يقل عمر إلا (أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) لجزمنا
بأن عمر لا يقصد إلا المهاجرين والأنصار، لورود أقوال لعمر تدل على
أنه يرى الصحابة أولئك فقط، إضافة للآيات التي لم تثن إلا على
المهاجرين والأنصار، ومن سار على نهجهم من الأمة.

108

الدليل الثالث:
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي
الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء والله واسع عليم) (169).
أقول: استدل بعضهم بهذه الآية على عدالة كل الصحابة (170).
أقول: هذه الآية تحذير للصحابة وغيرهم من الردة عن الدين وتهديد
باستبدالهم - إن ارتدوا - بقوم بحبهم الله ويحبونه، وليس في الآية دليل
على تعديل كل فرد من أفراد الصحابة، بل فيها تحذير لهم ولغيرهم من
الردة وهذه الآية جعلها بعضهم في الثناء على أبي بكر رضي الله عنه
والصحابة الذين كانوا في طليعة الذين حاربوا المرتدين، وبعضهم جعلها
في حق رهط أبي موسى الأشعري، وبعض أهل اليمن، وقيل هم أهل

--------------------------------------------------------------------------------

(169) المائدة: 54.
(170) أنظر عقيد أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (62 / 1) د / ناصر الشيخ - مكتبة الرشد -
الطبعة الأولى 1413 ه‍.
109

اليمن جميعا، وقيل هم الأنصار، وقيل أنها في الولاة من قريش، وقيل
غير ذلك.
وهذه الأقوال رغم ضعف أكثرها أو كلها، لا يجوز أن نستدل بها على
عدالة كل فرد ممن رأى النبي (صلى الله عليه وسلم).

110

الدليل الرابع:
قوله تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) (171).
ذكر ابن جرير بإسناده إلى عبد الله بن عباس قوله: (وسلام على عباده
الذين اصطفى) قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه.
أقول: ونقل ذلك عن سفيان الثوري أنه قال: (هم أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم (172).
أقول: لا يظن بابن عباس ولا سفيان الثوري أنه يريد أن يدخل أمثال
الوليد والحكم في هؤلاء المصطفين هذا أولا.
الأمر الثاني: أن ابن عباس نقلت عنه نصوص قد تفيد أنه لا يرى نفسه
من الصحابة، فمن باب أولى ألا يرى ذلك في الطلقاء، وكذلك سفيان

--------------------------------------------------------------------------------

(171) النحل: 59.
(172) نقل الطبري الإسناد في هذا بقوله: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لعبد الله
بن المبارك... فحدثني عن سفيان الثوري...
111

الثوري كان كوفيا وله كلام في ذم بعض من نسميهم - كما شأن معظم
علماء الكوفة - صحابة، فلذلك من المرجح أنه لا يريد الطلقاء
وأمثالهم (173).

--------------------------------------------------------------------------------

(173) ثم كيف ننزل هذه الآية على الطلقاء والأعراب وهي من سورة النحل والسورة كلها مكية!! فهذه
الآية لا تنزل في المسلمين بعد الهجرة فكيف تنزل على الطلقاء؟!.
112

الدليل الخامس:
قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما
يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين...) (174). والسورة مكية وهذه
الآيات مكية!!.
أقول: بعضهم فسر هؤلاء (الذي جاء بالصدق وصدق به) بأنهم
الصحابة ومن هؤلاء ابن تيمية!!.
أقول: ابن تيمية - على جلالته - يتشدد في اعتبار مسألة السور المكية
والمدنية عند التصحيح والتضعيف إذا كانت في فضل علي وأهل البيت،
كما فعل في زعمه بأن سورة الإنسان مكية بالإجماع!!، حتى ينفي عن
علي وفاطمة رضي الله عنهما ما ذكره بعضهم من أنه نزل في
حقهم (175) (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)، بينما
نجده هنا لا يشير إلى مكية سورة الزمر، التي فيها هذه الآيات التي
عمم فضلها على كل الصحابة!! (176)، مع أن السورة لو كانت مدنية لما
نزل الثناء إلا على المهاجرين والأنصار بدلالة الآيات الأخرى.

--------------------------------------------------------------------------------

(174) الزمر: 33 - 35.
(175) مع ضعف الإسناد في ذلك، لكن السورة مدنية وهذه الآيات بالذات مدنية.
(176) ابن تيمية مع فضله وعلمه إلا أنه يجب أن نعرف أنه شامي وأهل الشام فيهم انحراف في
الجملة عن علي بن أبي طالب وميل لمعاوية!! وبقي هذا في كثير منهم إلى الأزمان المتأخرة اليوم،
وهذا الميل لا يعرفه إلا من عرف الحق أولا من الأحاديث الصحيحة ومدلولها والروايات الصحيحة
ثم بعد ذلك فإنه يستطيع التفريق بين الخطأ والصواب، أما من يقلد ابن تيمية تقليدا أعمى فلن ينتفع
بهذا الكلام، فكلامي هذا لمن يعلم هذه المسائل وليس لمن يجهلها، إننا لا نجهل قدر الرجل وعلمه
ودفاعه عن الإسلام بلسانه وبنانه لكن في الوقت نفسه نعرف تماما أنه منحرف عن علي وأهل بيته
متوسعا في جلب شبه النواصب مع ضعفه في الرد عليها فتراه يستروح شبه الشاميين ويحاول
الاستدلال لها بكل ما يمكن من مظنونات الصحيح وصريحات الموضوع مع بتر حجج الإمام علي
وأصحابه والتحامل الشديد على فضائل علي مع التوسع في قبول الضعيف من الأحاديث والآثار في
فضل الخلفاء الثلاثة وفضل معاوية، فتراه يستخدم أكثر من منهج في الحكم على الحديث وهذه
الازدواجية دليل الهوى والانحراف وهو سامحه الله مثله مثل غيره من العلماء يؤخذ من قولهم
ويترك، وهو مع إحاطته في الجملة بأغلب العلوم إلا أنه لم يضبط علما واحدا ضبطا قويا فتجد لأهل
الحديث ملحوظات كبيرة على تنظيراته وتطبيقاته وأهل الفقه والأصول يأخذون عليه كثيرا من
الأوهام في نسبة الأقوال إلى العلماء على المسائل التي ينصرها ويشكك ما أمكنه التشكيك في
المسائل التي تخالف ما يذهب إليه ولو كانت شروط الإجماع فيها أبلغ وأقوى، وأهل اللغة أشغلهم
الغوغاء من أتباعه في دعوى المجاز!! أما التاريخ فحدث ولا حرج من صبغته للتاريخ بالروايات
الشامية (الناصبية) وهذه نتيجة طبيعية لشاميته! وأخطاء ابن تيمية - سامحه الله - لا يدركها إلا من
بحث أما من تابعه ووثق في نقوله واستنتاجاته فلا بد أن يكون تيميا شامي الهوى منحرف عن
علي بن أبي طالب ومائلا لمعاوية بن أبي سفيان معرضا عن الأحاديث الصحيحة الفاصلة في
موضوع خلافهما، وإن أخذ بالأحاديث لجأ إلى تأويلها وتمييع معانيها الصريحة الظاهرة.
113

الدليل السادس:
قوله تعالى: (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى
بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وأغفر لنا إنك على كل
شئ قدير) (177).
أقول: المعية قد تم بيانها عند الكلام على تفسير الآية: (محمد رسول
الله والذين معه...)، وسبق بيان أنهم المهاجرون والأنصار.
بقية الأدلة القرآنية التي يستدل بها هؤلاء على عدالة كل أفراد
الصحابة فقد سبق الكلام على تفسيرها فيما سبق ولن نكررها هنا،
وهي:
1. (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا...) (178).
2. (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار...) (179).

--------------------------------------------------------------------------------

(177) سورة التحريم: 8، والسورة نزلت في المدينة مبكرا فهي قبل سورة التغابن والصف والجمعة
والفتح والمائدة والتوبة والنصر.
(178) الآيات 72 - 74 من سورة الأنفال.
(179) سورة التوبة 150.
115

3. (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار...) (180).
4. (محمد رسول الله والذين معه...) (181)، (182).

--------------------------------------------------------------------------------

(180) سورة التوبة: 117.
(181) سورة الفتح 29.
(182) هذه الأدلة هي - تقريبا - كل ما يستدل به هؤلاء الأخوة من الآيات القرآنية على عدالة كل
الصحابة والأمر كما رأيتم بأن الأدلة بين عموم لا يجوز إنزاله على كل فرد وإنما تنزل على
المجموع (المهاجرون والأنصار) وليست في فضائل المتأخرين لا على مستوى الأفراد منهم ولا على
مستوى المجموع.
116

أدلتهم من السنة
1. (النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا
أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة
لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) صحيح مسلم.
أقول: الحديث يدل على فضل الصحابة الصحبة الشرعية من المهاجرين
والأنصار، فيضم إلى قوله (صلى الله عليه وسلم): (أنا وأصحابي حيز والناس
حيز)، وقوله: (المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض وطلقاء
قريش وعتقاء ثقيف أولياء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة)، وقد سبق
الكلام على هذه الأحاديث، فلا يفسر حديث الباب هنا بما يجعله متناقضا
مع الأحاديث الأخرى، وإنما بما يتفق معها.
2. قوله (صلى الله عليه وسلم): (يأتي على الناس زمان يغزو فئام من
الناس فيقال لهم هل فيكم من صحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
فيقولون نعم فيفتح لهم...،) والحديث سنده صحيح.
أقول: هذا أيضا يرد في حق الصحابي صحبة شرعية، ولا يجوز اعتقاد
مطلق الصحبة، لأن هذا الإطلاق يدخل فيه المنافقون صراحة، كما في
قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إن في أصحابي اثني عشر منافقا...)،
ونعرف أن هذا الحديث (ويأتي على الناس زمان) وارد في الصحبة
الشرعية فقط، بالأدلة التي سردناها بداية البحث.

117

3. قوله (صلى الله عليه وسلم): (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم...) متفق عليه.
أقول: كل عاقل وباحث يعرف أن القرن الأول فيهم ظالمون وأصحاب
شر، فالخيرية هنا تطلق على عموم القرن، لوجود النبي (صلى الله عليه وسلم)
والمهاجرين والأنصار، ولا يجوز إنزال الحديث على كل فرد من أفراد
القرن الأول.
بل هذا الحديث من أكبر الأدلة وأوضحها على أن الثناء العام ينزل على
من يستحقه، ولا يدخل فيه من لا يستحقه.
بل حتى لو قال قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (خير الناس أصحابي ثم الذين
يلونهم) لم يفد هذا إلا الثناء على أخيار الصحابة، وهم المهاجرون
والأنصار كما سبق سرد الأدلة في ذلك، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعلى
من أن يتعد صحبة أمثال الحكم والوليد وذي الخويصرة!!.
وبعض العلماء مثل ابن عبد البر يرى أن أهل بدر والحديبية لا يعدلهم
أحد بعدهم، بعكس من بعد الحديبية، فيمكن لبعض التابعين أو غيرهم
أن يكونوا أفضل منهم (183)، وهذا هو الحق المتفق مع الأدلة التي سبق
ذكرها في بداية البحث.
4. حديث (لا تسبوا أصحابي...) قد سبق تفسير هذا الحديث، لكن هنا
شبهة يرددها من يرى تفضيل من أسلم بعد الحديبية على كل من جاء
بعدهم، دون تفريق بين من أحسن السيرة ومن أساء، فيقولون: (فإذا
كان سيف الله خالد بن الوليد لا يساوي مد عبد الرحمن بن عوف ولا
نصيفه فكيف بمن بعدهم من التابعين)؟!.

--------------------------------------------------------------------------------

(183) فتح الباري (7 / 7) لأن الأفضلية بالنسبة إلى المجموع لا الأفراد.
118

أقول: هناك فرق بين عمل عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أيام الحاجة
إليهم وبين أعمال خالد - على فضلها - أيام الاستغناء عن الناس، فكيف
بالفرق بين أعمال عبد الرحمن بن عوف وأمثاله، وأعمال من أسلم
خوفا من السيف ككثير من الطلقاء، فلا ريب أن الفرق واسع جدا،
ولكن الغريب أنه مع استدلالنا بهذا الحديث هنا في الفرق الواسع بين
عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد، إلا أننا ننساه عند التفريق بين
علي ومعاوية!!، مع أن عليا أفضل من عبد الرحمن بإجماع أهل السنة،
وخالد أفضل من معاوية بإجماع أهل السنة أيضا، ومع ذلك فعندما
يتقاتل علي ومعاوية لا نتذكر هذا الحديث!!، وإنما نأتي بقاعدة (كل
الصحابة عدول)!! لنطمس بها هذا الحديث ونحوه، مما يفرق بين
السابقين واللاحقين، فكيف بين أول من أسلم والطلقاء المقاتلين للدنيا،
الذين شهد أصحابهم قبل خصومهم بأن قتالهم للدنيا (184).
إذن فيمكن أن يكون بعض التابعين أو صلحاء التابعين أفضل من
المهاجرين بعد الحديبية كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، فكيف بمن
بعدهم كالطلقاء والعتقاء والأعراب، فكيف بمن ورد فيه النص بالذم أو
اللعن أو الوعيد بالنار، ولو قيل لبعضنا هل تريد أن يبعثك الله مع من
لعنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو حكم عليه بالنار لقال لا، إذن فما
تقول في الحكم بن أبي العاص الذي لعنه النبي (صلى الله عليه وسلم) ونفاه
إلى الطائف، وماذا تقول في أبي الغادية الجهني، وصاحب الشملة،
وقزمان، وغيرهم ممن تعرف سيرته بعد البحث في الأحاديث والروايات
الصحيحة؟!.

--------------------------------------------------------------------------------

(184) سيتبع هذا البحث بحوثا موسعة عن بعض من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) لكن أخذت عليه
مآخذ كبيرة أو صغيرة كالوليد بن عقبة وبسر والحكم وأبي الأعور وحرقوص وأمثالهم وسيكون
هناك أيضا مباحث عن المختلف فيهم كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والأشعث بن قيس
ونحوهم.
119

إذن فأتت ترجو من الله أفضل مما عند بعض أولئك، وعلى هذا فلماذا لا
يفضل بعض الصالحين على بعض هؤلاء ممن يطلق عليهم صحابة
(صحبة عامة أو لغوية) (185).
وقد أشار شراح الحديث للسبب الذي فضل به عبد الرحمن بن عوف
وأمثاله على خالد بن الوليد وأمثاله من حصول النصرة والاتفاق أيام
(الضرورة وضيق الحال ومزيد الإخلاص والنية.. وشدة الاحتياج..)،
وهذه هي الصحبة الشرعية التي لم ينلها إلا المهاجرون والأنصار، فهم
الذين صحبوا النبي (صلى الله عليه وسلم) أيام الحاجة والذلة والأنصار، أما
من جاء بعد الاستغناء والسعة والرزق فهذه وإن كانت صحبة من حيث
اللغة، لكنها لا تعدل الصحبة الشرعية بالصفات السابقة.
5. حديث (بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جلوس إذ طلع
راكبان حتى أتياه، قال فدنا أحدهما ليبايعه فلما أخذ بيده قال: يا رسول
الله: أرأيت من رآك وآمن بك واتبعك وصدقك ماذا له؟: قال: طوبى له،
قال: فمسح يده وانصرف، ثم أتاه الآخر حتى أخذ يده ليبايعه فقال: يا
رسول الله أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك ماذا له، قال: طوبى له ثم
طوبى له (186).
أقول: هذا ليس بأبلغ من الوعد لعموم المؤمنين بالجنة في نصوص
القرآن الكريم، فضلا عن نصوص السنة النبوية، ثم نعم من أتبع النبي
(صلى الله عليه وسلم) وآمن به وصدقه لكان - إن شاء الله في الجنة -، ولو لم
يره لكن النزاع فيمن لم يحسن الاتباع من هؤلاء أو هؤلاء، فنحن

--------------------------------------------------------------------------------

(185) إذن نعم هناك فرق بين الصالحين في كل زمان وبين هؤلاء ممن لعنهم النبي (صلى الله عليه
وسلم) أو دعا عليهم أو وصفهم بالفسق، بمعنى أن الصالحين حتى اليوم أفضل من هؤلاء لا يشك
في هذا من رزقه الله شيئا من العلم أو العقل.
(186) مجمع الزوائد (18 / 15) وقال إسناده حسن والحافظ في الإصابة (127 / 4).
120

بحاجة لتحديد معنى (الاتباع)، ثم لينظر بعد ذلك من من الناس اتبع
وأحسن الإيمان والتصديق ممن كان خلاف ذلك.
والغريب أن بعضهم كابن تيمية سامحه الله يورد مثل هذه النصوص
العامة، ويعتبرون القادح في الصحابة قادح في الكتاب والسنة،
ويقصدون ب‍ (الصحابة) (187) - غالبا - المتأخرين منهم كمعاوية وعمرو
وأمثالهم، بينما يسكتون عن طعن النواصب في علي بن أبي طالب
رضي الله عنه ولعنهم له، والدليل على ذلك أنهم يذمون الرافضة ولا
يذمون النواصب عند إيراد هذه الأحاديث!!، وهذا سطو على فضائل
السابقين وجعلها في اللاحقين!!، ثم لم يكتفوا بهذا الظلم حتى عدوا
الطعن في اللاحقين أو في أحد منهم هو علامة الطعن في الكتاب
والسنة!! بينما طعن معاوية ومروان وبسر وأمثالهم في السابقين كعلي
وعمار وعائشة رضي الله عنهم يسكتون عليه ولا يذكرونه وكأنه لم
يكن!! مع أن لعن علي كبيرة تهون عنها العظائم لقول النبي (صلى الله عليه
وسلم): (من آذى عليا فقد آذاني) وقوله: (من سب عليا فقد سبني *)،
وقد استمر تسعين سنة على سائر منابر بني أمية (188).

--------------------------------------------------------------------------------

(187) حسب التعريف الفضفاض للصحبة.
* - يأخذ علي بعض الأخوة الإكثار من الدفاع عن علي بن أبي طالب، وطالبني بالتخفيف من هذا
حتى لا أثير حفيظة بعض الناس، ويتخذون هذا ذريعة في الاتهام بالتشيع!!.
وأقول: صحيح أنني أكثر من الدفاع عن علي بن أبي طالب، ولا أخفي محبتي له، كما لا أخفي
محبتي لكل الخلفاء الراشدين، وكل المهاجرين والأنصار، وما هذا البحث إلا محبة فيهم حتى لا يخلط
بهم من لم يبلغ شأنهم وفضلهم.
أما علي بن أبي طالب على وجه الخصوص فهو مظلوم عندنا أكثر من غيره، فمثلما قام الروافض
بظلم أبي بكر وعمر وعثمان فعندنا ظلم - وإن كان أقل - لعلي بن أبي طالب ومن أكبر دلالات ظلمنا
له أننا نعتبر المدافع عنه متشيعا مذموما بينما نعتبر المدافع عن معاوية سنيا سلفيا!! وليس بعد
وضوح هذا الظلم من وضوح، وهو أن يصبح الدفاع عن علي علامة للتشيع والبدعة بينما الدفاع
عن معاوية والوليد علامة عندنا على السلامة من البدعة!! فتأمل - بارك الله فيك - كيف غزانا فكر
النواصب الشاميين حتى أصبحنا نردده بلا شعور!! وأصبحنا نستريب من محب الإمام علي والمدافع
عنه بينما نميل للمدافع عن الطلقاء بل أصبحنا نميل للمدافع عن يزيد والحجاج أكثر من ميلنا
للمدافع عن علي بن أبي طالب، كل هذا خوفا من أن يتهمنا أحد بالتشيع!! ولكننا لا نخشى أن يتهمنا
أحد بالنصب لأنه لا يوجد من يتهم هذا الاتهام، لأننا نزعم أن النواصب قد انقرضوا في الماضي!!
وعلى هذا فمن ظلم عليا أو انحرف عنه فليس له تهمة في قواميسنا!!.
(188) سب بني أمية لعلي من عهد معاوية ثابت في الصحيحين فكيف بغيرهما، ولذلك يجب إنكار هذا
إنكارا عظيما مثلما أنكر أقل منه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما فعله مرة واحدة خالد بن
الوليد رضي الله عنه.
121

أقول: هذه الأحاديث تقريبا كل الأدلة التي يستدل بها من يرى عدالة كل
أفراد الصحابة، وقد سرد هذه الأدلة الدكتور ناصر الشيخ في المجلد
الأول من كتابه (عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام)، في
الصفحات، 55 - 95). وهذا الكتاب نقلت منه أكثر هذه الأدلة،. لأنه من
أكثر الكتب حشدا للنصوص والآثار الدالة على عموم فضيلة الصحابة،
وهذه لا خلاف فيها ولم ينازع فيها إلا غلاة الشيعة والنواصب
والخوارج، لكن تلك النصوص تحتاج إلى فهم، حتى لا تصرف عن
معانيها، وتنزل على غير مستحقيها، وكل كلامنا فيما سبق يدور حول
هذا فقط.

122

الآثار في ذلك
أما الآثار في عدالة الصحابة وفضلهم، فلا تنزل إلا على السابقين أيضا،
من المهاجرين والأنصار، وقد وردت آثار كثيرة ينزلها بعض الناس في
غير مستحقيها، ومن تلك الآثار:
1. أثر ابن عباس القائل: (إن الله خص نبيه محمدا (صلى الله عليه وسلم)
بصحابة آثروه على الأنفس والأموال وبذلوا دونه في كل حال...)
ثم تلا الآية (رحماء بينهم...) - قاموا بمعالم الدين، وناصحوا
الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت أسبابه وظهرت آلاء الله، واستقر
دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك... الخ الأثر، فهذا الأثر
أورده الدكتور الشيخ في كتابه (96 / 1)، ولو تدبرنا هذا الأثر
لوجدنا أنه لا يصح إنزال هذا الأثر إلا على المهاجرين والأنصار،
بل هذا دليل على ذلك، لأن ابن عباس ذكر صفاتهم هنالك، ولا
تنطبق تلك الصفات على الطلقاء والعتقاء والأعراب والمنافقين.
2. أثر علي: (لقد رأيت أثرا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما
أرى أحدا يشبههم...) والأثر أورده أبو نعيم الأصبهاني في الحلية
(76 / 1) ونقول أيضا من خلال قراءة الأثر نعلم أن علينا لا ينزله
على مثل معاوية، وإنما ينزل ذلك على المهاجرين والأنصار!!،
والأثر أورده الدكتور في كتابه (97 / 1).

123

3. أثر عبد الله بن عمر أورده الدكتور ناصر الشيخ في كتابه (98 / 1):
(من كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد (صلى الله عليه
وسلم) كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأمثلها تكلفا قوم
اختارهم الله لصحبة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم
وطرائقهم فهم أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) وكانوا على الهدى
المستقيم) (189).
والأثر منقول عن ابن مسعود أيضا ولا يظن بابن عمر ولا ابن مسعود -
إن صح الأثر - أنهم يريدون التشبه بمثل الوليد بن عقبة أو التشبه
بمعاوية أو بسر بن أبي أرطأة...،. فقد كان ابن عمر يذم بعض هؤلاء
وينكر مظالمهم، وإنما المراد التشبه بأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) من
المهاجرين والأنصار!!.
وأثر ابن مسعود رواه الإمام أحمد في المسند (379 / 1) ولفظه (إن الله
نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه
لنفسه... من نظر في قلوب العباد بعد قلوب العباد بعد قلب محمد (صلى الله
عليه وسلم) فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه
يقتلون على دينه..).
أقول: من الأثر - إن صح - تلحظ أن وزراء النبي (صلى الله عليه وسلم) هم
الذين قاتلوا على دينه هم المهاجرون والأنصار، وليسوا من حارب
النبي (صلى الله عليه وسلم) وحارب هؤلاء إلى آخر لحظة، وعلى هذا فالحديث
حجة لنا لا علينا.

--------------------------------------------------------------------------------

(189) حلية الأولياء (355 / 1).
124

4. قول عائذ بن عمرو الأنصاري (190): (وهل كانت لهم - أي أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - نخالة إنما كانت النخالة بعدهم وفي
غيرهم).
وكان عبيد الله بن زياد قد قال له: (إنما أنت من نخالة أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم) (191).
أقول: هذا كأنه تلميح وتعريض من عائذ بن عمرو بأن أصحاب النبي
(صلى الله عليه وسلم) هم المهاجرون والأنصار وأن النخالة أتت فيمن بعدهم
من الطلقاء وغيرهم، لأن عائذ بن عمرو هذا من كبار الصحابة، ومن
أصحاب بيعة الرضوان، بعكس زياد (والد عبد الله) الذي قيل أن له
رؤية، وفيه ما فيه من الظلم وتبديل حدود الله، والصحابي عائذ بن
عمرو كأنه يلمح ويعرض بزيادة هذا ويلمح بمعاوية أيضا، لكون ابن
زياد من ولاته وولاة ابنه يزيد.
5. آثار محمد بن كعب القرظي والحسن البصري وقتادة وأيوب
السختياني والأوزاعي وسعيد بن المسيب (192)، وهذه الآثار مثل سابقتها
لا تخلو من أحد أمرين، أن يريد بها أصحابها المهاجرين والأنصار،
وهذا هو حسن الظن بعلمهم، وقد نقل عن سعيد بن المسيب تعريفا
للصحابة غير التعريف المشهور عندنا (193)، وكان قتادة ممن يقول أن
المراد ب‍ (الفاسق) في قوله تعالى: (... إن جاءكم فاسق) أنه الوليد بن
عقبة ونحو ذلك.

--------------------------------------------------------------------------------

(190) عائذ بن عمرو الأنصاري صحابي من الأنصار من سابقيهم وعلى هذا لو لم يكن من كبار
الأنصار لما عرض بآخرين.
(191) صحيح مسلم (3 / 1461).
(192) وهذه الآثار أوردها الدكتور ناصر الشيخ (1 / 100 - 102).
(193) يشترط في الصحابي أن يغزو مع النبي (صلى الله عليه وسلم) غزوة أو غزوتين أو يصحبه سنة
أو سنتين.
125

وأن أراد بعضهم غير المهاجرين والأنصار فقولهم مردود بالأدلة التي
سقناها في بداية البحث.
وقد استغل النواصب والمغفلون من الصالحين النصوص المتقدمة
المثنية على صحبة المهاجرين والأنصار فأنزلوها في الطلقاء وأمثالهم.
وقد يقال: ما الذي أدراك أن هؤلاء قد أنزلوها على من لا يستحقها فلعل
مراد السابقين من (الصحابة) هو مرادهم؟
أقول: قد سبق للنواصب والمغفلين من الصالحين ومن اغتر بهم أنهم
أنزلوا الآيات الصريحة (في فضل المهاجرين والأنصار) أنزلوها في
سائر من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم)!! فلا يستغرب أن ينزلوا أقوال
الصحابة والتابعين في مدح الصحبة على غير ما أراد أصحابها منها!!،
(راجع مبحث الأدلة القرآنية والأدلة الأولى للمعترضين فقد سبق الكلام
عنها).

126

الخاتمة
تعريفات البحث
1. الصحبة الشرعية: لا تكون إلا في المهاجرين والأنصار، الذين
كانوا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة من بداية الهجرة إلى زمن
الحديبية، ويدخل في هؤلاء السابقون بالإسلام، الذين توفوا في مكة قبل
الهجرة (194)، أو في الحبشة، الذين هاجروا بإذن النبي (صلى الله عليه وسلم) -
كما أذن لهم في العهد المكي -، أو قدموا بعد الحديبية من مهاجرة
الحبشة فقط.
2 - الصحبة العامة: التي مرجعها اللغة، فهذه يدخل فيها كل من صحب
النبي (صلى الله عليه وسلم) من المسلمين أو المنافقين أو الكفار، والذي يدخل
من صحب النبي (صلى الله عليه وسلم) صحبة يسيرة لاحتمال اللغة ذلك، لا
يستطيع إخراج صحبة المنافق من حيث اللغة، لأن اللغة تحتمل ذلك
أيضا، فإن قال المخرجون للمنافق أو الكافر من الصحبة إنما أخرجناهما
من الصحبة بالشرع، قلنا له: ونحن إنما قصرنا الصحبة الشرعية على
المهاجرين والأنصار بالشرع أيضا، فإن تمسك هؤلاء بمطلق اللغة، فقد
أدخلوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) صحبة المنافقين، وإن قالوا أن اللغة
ليست حجة على الشرع، قلنا: كذلك في الصحبة الشرعية، والعرف
برزخ بين اللغة والشرع، فهو هنا أخص من اللغة، وأعم من الشرع،
والشرع أخص الثلاثة، والشرع يحكم على العرف واللغة ولا يحكمان

--------------------------------------------------------------------------------

(194) كياسر وسمية والدي عمار بن ياسر رضي الله عنهم.
127

عليه، والعرف في هذه المسألة أقرب للشرع، لأنه لا يعتبر الصحابي
(عرفا)، إلا من أطال المصاحبة والملازمة مع المتابعة.
3. الهجرة الشرعية: هو من هاجر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد
هجرته إلى المدينة، وتمتد الهجرة الشرعية إلى فتح الحديبية، وتمتد
شرعية الهجرة إلى فتح مكة، ولا يدخل في الهجرة الشرعية خالد بن
الوليد، لكنه يدخل في شرعية الهجرة (195)، كما لا يدخل في الهجرة
الشرعية أطفال وصبيان المهاجرين، ولا الوفود الذين لم يستقروا في
المدينة، ولم يشاركوا في نصرة النبي (صلى الله عليه وسلم) بالأموال
والأرواح، حتى وإن كان إسلامهم قديما، إلا من ثبت بدليل خاص أن
النبي (صلى الله عليه وسلم) بايعه على الهجرة أو أمره بالدعوة إلى الإسلام
في بلاده، ويدخل في هؤلاء مهاجرة الحبشة بدليل خاص، ولا يدخل في
الهجرة الشرعية من توفوا بمكة تحت العذاب كياسر وسمية والدي
عمار بن ياسر رضي الله عنهما، مع نيلهما الشهادة، ولا يدخل كذلك
من أسلم ومات ولم يهاجر، وهذا لا يعني انتقاصا من هؤلاء، فسمية
وياسر أول شهيدين في الإسلام، والشهادة من أعلى الدرجات، وهؤلاء
يدخلون في الصحبة الشرعية لا الهجرة الشرعية لكن هؤلاء ليسوا من
المهاجرين ولا الأنصار، مع أن حكمهم حكم المهاجرين.
4. شرعية الهجرة: امتدت شرعية الهجرة من إذن النبي (صلى الله عليه
وسلم) لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة أو المدينة إلى فتح مكة، أما الهجرة
الشرعية فانقطعت يوم الحديبية، ودخل فيها جعفر بن أبي طالب

--------------------------------------------------------------------------------

(195) بمعنى أن خالد لم يدرك الهجرة الشرعية المختصة بالثناء لوجودها أيام الضعف ولكنه أدرك
شرعية الهجرة إذ لم تنقطع شرعيتها إلا بعد فتح مكة.
128

وأصحابه بدليل خاص (196)، وأما الهجرة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) في
العهد المكي فكانت تابعة لوجوب الإسلام نفسه، إذ لم يكن الإسلام
منتشرا فكان يجب على من أراد الإسلام أن يفهمه من النبي (صلى الله عليه
وسلم)، ولا ريب أن المهاجر في العهد المكي قام بما يجب عليه من
البحث عن الحقيقة ثم الإسلام فهو مأجور على هذا، لكن الهجرة
الشرعية الممدوحة في الكتاب والسنة كانت خاصة بمن هاجر إلى النبي
(صلى الله عليه وسلم) في المدينة ونصره وآزره ضد المشركين واليهود، ولولا
دخول مهاجرة الحبشة بدليل خاص لما دخلوا في الهجرة الشرعية.
5. الهجرة العامة: التي مرجعها اللغة، يدخل فيها كل من هاجر إلى (صلى
الله عليه وسلم) من أصحاب الوفود فأسلم وعاد إلى بلاده، سواء قبل فتح
مكة أو بعده، أما التي نفاها النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة إنما هي
الهجرة الشرعية وشرعية الهجرة معا، أما مطلق الهجرة فمتعلق باللغة
لا بالشرع، ولذلك فالذي يهاجر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد فتح مكة
ليس له فضل شرعية الهجرة ولا اسمها، ولكن يبقى له الفضل في هذا
بقدر ما يقدمه للإسلام، كما أن من يهاجر ويقيم مع النبي (صلى الله عليه
وسلم) بعد الحديبية ليس له فضل الهجرة الشرعية ولا اسمها، ولكن
يبقى له فضل شرعية الهجرة وفضل ما يقدمه للإسلام، وهكذا.
5. النصرة الشرعية: خاصة بالأنصار (الأوس والخزرج)، ومن في
حكمهم كحلفائهم ومواليهم ونسائهم، والأنصار هم الذين بايعوا النبي

--------------------------------------------------------------------------------

(196) مثلما بايع النبي (صلى الله عليه وسلم) عثمان بن عفان على نيله الأجر ببدر ولم يشهدها وكذلك
سعيد بن زيد وغيره ممن كلفهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بمهام أو عذرهم بأعذار فجعفر وأصحابه
من مهاجرة الحبشة أثبتت لهم النبي (صلى الله عليه وسلم) الهجرتين.
129

(صلى الله عليه وسلم) على أن ينصروه ويحموه كما يحمون أبناءهم ونساءهم
وأنفسهم واستقبلوا النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وواسوهم وجعلوهم
مشاركين لهم في وطنهم وأموالهم، ولا يدخل في النصرة الشرعية
أطفال الأنصار حتى وإن رأو النبي (صلى الله عليه وسلم) وجالسوه، لأنهم لم
يقوموا بهذه النصرة لكونهم كانوا أطفالا لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد
أوصى بأبناء الأنصار كما أوصى بأبناء المهاجرين، وهذا كاف في
فضلهم، وتمتد النصرة الشرعية من بيعة العقبة الأولى إلى فتح
الحديبية، لأنه بعد الحديبية فتح الله على المسلمين خيبر، وكثرت
الأموال، وتخفف على الأنصار ما كانوا يجدونه من تحمل كثير من
النفقات في نصرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه المهاجرين، وضيافة
الوفود، الذين يأتون إلى المدينة ونحو ذلك، فمن لم ينفق من الأنصار
أو يقاتل أو يقوم بالنصرة قبل الحديبية، وإنما فعل هذا بعد الحديبية فلا
يدخل في النصرة الشرعية، وإنما يدخل في النصرة العامة للأسباب التي
ذكرناها سابقا وللأدلة القرآنية والحديثية التي سبقت أيضا، لكن الأنصار
كلهم - تقريبا - قاموا بواجب النصرة الشرعية - إلا المنافقين - ولو لم
يكن من نصرة شرعية إلا الخوف من مهاجمة الكفار للمدينة لكفى هذا
في النصرة، وقد عاش أكثر الأنصار في تخوف إلى صلح الحديبية ثم
أمن الناس بعد الصلح وأمنت الأنصار.
أما مسمى الأنصار فأطلق على الأنصار نصرة شرعية وعلى من بعدهم من
أبنائهم وأحفادهم، وبقي هذا اللقب إلى يومنا هذا، فليس كل (أنصاري) قد
قام بالنصرة الشرعية المقصودة في الكتاب والسنة، التي اختصت بما سبق
ذكره من متقدميهم.

130

جدول توضيحي
المنزلة - الشروط والسمات
الصحبة الشرعية (التي مرجعها النصوص الشرعية = الإسلام + الإنفاق والجهاد مع النبي (صلى الله عليه وسلم)
في المدينة قبل الحديبية وهذه الشروط تنطبق على المهاجرين
والأنصار، ومن في حكمهم ممن أسلم قديما أو دخل بدليل خاص.
الصحبة المجازية = وهذه لا يشترط فيها روية ولا معاصرة ولا اتفاق في دين أو ملة،
ويدخل فيها من لم يعاصر كما يدخل فيها الأعداء والكفار. وتدل على
مجرد الاشتراك في أمر ما، ولو كان الاشتراك في خصومة (إنه كان
حريصا على قتل صاحبه) (ما ضل
صاحبكم وما غوى) (أنتن صواحب يوسف).

131

الصحبة العامة أو المطلقة (التي مرجعها اللغة) = يكتفي بقليل من المصاحبة ولا يشترط إنفاقا ولا قتالا ولا رواية ومدار هذه
الصحبة على الوضع اللغوي ويدخل في هؤلاء كل المسلمين في عهد
النبي (صلى الله عليه وسلم) الذين أسلموا بعد صلح الحديبية إلى وفاة النبي
(صلى الله عليه وسلم) مع وجود ولو قدر يسير من الصحبة كالوفود وغيرهم.
والشرع يطلق على المحسن من هؤلاء التابعون بإحسان، والصحبة
العامة يدخل فيها أيضا المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون.
الهجرة الشرعية = الإسلام + البقاء في المدينة في طاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) + قبل
زمن الحديبية وهي المثنى عليها في الكتاب والسنة.
شرعية الهجرة = الإسلام + الهجرة إلى المدينة + لا تنقطع بصلح الحديبية وإنما تمتد من
بعد الحديبية إلى فتح مكة.
الهجرة العامة = الهجرة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد فتح مكة أو الهجرة المطلقة في
كل زمان من ديار الكفار إلى ديار المسلمين أو الهجرة من ديار الكفار
إلى ديار آخرين مؤتمنين على
المسلمين وهي باقية إلى يوم القيامة. ولا يسمى المهاجر بعد فتح مكة
مهاجرا من الناحية الشرعية وإن

132

جاز ذلك من الناحية اللغوية والتفريق بينهما جاء شرعا. وقد تطلق الهجرة
على الهجرة المعاصي والذنوب ويعني ذلك تركها.
النصرة الشرعية = الإسلام + مسلمو الأوس والخزرج ومن في حكمهم من الهجرة النبوية
إلى الحديبية وهي النصرة المثنى عليها في الكتاب والسنة.
التابعون بإحسان = هم الذين أسلموا بعد الحديبية وأنفقوا وجاهدوا وساروا على نهج سابقيهم
وحسن إسلامهم مثل خالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان
بن الحارث الهاشمي.
التابعون بغير إحسان = هم الذين ظهر إسلامهم بعد الحديبية أو بعد فتح مكة، ثم بدر منهم في
سيرتهم ما يخل بحسن الاتباع للسابقين كقتال بعضهم للسابقين أو
سبهم لهم أو سبي بعضهم للنساء
المسلمات أو قتل بعضهم لأطفال المسلمين أو ارتكاب بعضهم كبائر
المحرمات مع الإصرار عليها كشرب الخمر والربا والظلم ومن أمثال
هؤلاء بسر بن أبي أرطأة والحكم بن أبي العاص والوليد بن عقبة وأبي
الأعور السلمي ومعاوية بن خديج
ومعاوية بن أبي سفيان وزياد بن

133

أبيه وأبي الغدية قاتل عمار بن ياسر وحرقوص بن زهير رأس الخوارج
وقد يدخل فيهم غير هؤلاء كبعض
طلقاء قريش أو عتقاء ثقيف أو أجلاف الأعراب ممن تحتاج سيرتهم إلى بحوث متعمقة.

134

الملحق
1. الصحبة لغة:
من صحب: صحبه كسمعه: يصحبه صحابة، وصحبة كصاحبه، ويعني
عاشره.
الصاحب: المعاشر.
وهم أصحاب، وأصاحيب، وصحبان (197)، وصحاب (198)، وهو بالفتح
(صحابة) جمع صاحب.
والصحبة: مصدر قولك: صحب يصحب صحبة، وقولك: صاحبك الله،
وأحسن صحابتك (مجاز).
واستصحبه: دعاه إلى الصحبة، ولازمه، وكل ما لازم شيئا فقد
استصحبه،
أقول: (وقد يصاحب الطيب رديئا كقول الشاعر):
إن لك الفضل على صحبتي * والمسك قد يستصحب الرامكا
والرامك: نوع من الطيب ردئ خسيس (199).
وأصحب: البعير والدابة: انقادا.
وأصحب: ذل وانقاد.

--------------------------------------------------------------------------------

(197) مثل شبان.
(198) مثل جياع.
(199) المصدر السابق.
135

والمصحب: الذليل المنقاد بعد صعوبة.
والمصاحب: المنقاد من الأصحاب. (وفي هذا دليل على أنه ليس كل
صاحب منقادا).
والمصحب: المجنون، والعود الذي لم يقشر، والأديم الذي بقي عليه
صوفه، أو شعره، أو وبره (200).
وأصحبته الشئ: جعلته له صاحبا (مثل أصحبته السرور، أو الحزن).
وأصحب فلانا: حفظه كاصطحبه.
(وأمض مصحوبا بالسلامة: دعاء) (201).
وأصحب فلانا: منعه (فهو له صاحب) (202)، ومن ذلك الآية الكريمة: (ولا
هم منها يصحبون) أي يمنعون من العذاب، وفلان صاحب صدق: (أي
ملازم للصدق ولا يقال هذا لمن يصدق قليلا) (203).
وفلان صاحب علم ومال (مجاز).

--------------------------------------------------------------------------------

(200) كأن المعنى هنا أن المجنون قد صاحبته الجن وأن القشرة لا زالت مصاحبة للعود وأن الوبر لا
زال مصاحبا للأديم.
(201) بالسلامة: من إضافتي.
(203) ما بين الأقواس إضافة من عندي وهي في المعنى نفسه وهي من فصيح اللغة المستعملة في
الجنوب (بني مالك وفيفاء وما جاورها). فيقولون - عند حدوث الخلاف بين القبائل في الماضي -:
فلان معه صاحب يمنعه من اعتداء القبيلة.
(203) ما بين الأقواس مني.
136

وصاحب كل شئ ذووه (204)، (205).

--------------------------------------------------------------------------------

(204) ذو: صاحب مثل ذو مال وذو علم.
(205) راجع مادة (صحب) عند ابن منظور في لسان العرب (519 / 15) وعند الزبيدي في تاج
العروس (3 / 140) وعند الجوهري في الصحاح.
137

من معاني المصاحبة " * "
الملازمة (206)، المخالطة، الملابسة، المعاشرة (207)، المؤالفة، المداخلة،
الممازجة، المجاورة، المساكنة، المعايشة، فلان حسن الصحبة وفلان
سيئ الصحبة (208). إذن فالصاحب في اللغة لا يلزم منه الحسن دائما.

--------------------------------------------------------------------------------

" * " أعانني في بحث الكلمة لغويا أخي وزميلي الأستاذ ماجد الحجيلان فله الشكر والتقدير والامتنان،
كما أفدت من بحث الشيخ عبد الرحمن الحكمي في (الصحبة الشرعية) فله مني الشكر والتقدير
والامتنان.
(206) والملازم: من الفعل لازم من اللزوم، ثم قال: رجل لزمة: يلزم الشئ فلا يفارقه.
اللزام: المحزمة للشئ والدوام عليه.
واللزم: فصل الشئ.
والالتزام: الاعتناق.
واللزام: الموت والحساب، لسان العرب (12 / 541).
(207) والمعاشرة: مأخوذ من العشرة وهي المخالطة، وعشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون وقيل هم
القبيلة والجمع عشائر.
والعشير: القريب والصديق والزوج للمرأة لأنه يعاشرها وتعاشره كالصديق والمصادق، ومعشر
الرجل: أهله وجماعته سواء كانت الجماعة متخالطة أو متباعدة. والمعشر: يطلق على الجماعة التي
أمرها واحد مثل معشر المسلمين ومعشر المشركين. لسان العرب (4 / 574).
(208) أنظر الباجي (2 / 64).
138

نتائج البحث اللغوي
1. يلاحظ كثرة جموع الصاحب إلى (أصحاب، صحبة، صحاب،
أصيحاب، صحابة، صحبان).
2. كثرة المجاز في هذه اللفظة (صاحب الدار...).
3. قد تطلق مطلقا على من لم يلازم.
4. لا تعني أبدا الانقياد، ولا الطاعة، ولا الاتفاق.
5. قد تطلق الصحبة على اثنين بينهما قرون كثيرة (أنتن صواحب
يوسف).
6. يطلق مجازا على من تمذهب بمذهب معين (أصحاب الشافعي،
أصحاب أحمد...)، أما إذا عنى به الأصحاب (التلاميذ) فلا يطلق
عرفا إلا على المكثرين من الملازمة والأخذ عن هذا الشيخ.
7. لم أجد (الصحبة) في معاني الاتفاق في الرأي التي هي:
- وافقته، طابقته، مالأته، واطأته، شايعته، تابعته، قاررته، رافأته،
دامجته، سايرته في الرأي، آتيته، جاريته، واصلته، جالسته،
قارنته، وليس فيها (صاحبته)، وعلى هذا فليست الصحبة في اللغة
دليلا على الاتفاق في الرأي.
8. ولا معنى الانقياد (انقاد، أطاع، خضع، عنا، أذعن، أرغن، أجاب،
لبى، امتثل، ارتسم، أصحب (وليس صحب) بعد امتناعه،...) وليس
منها (صحب).

140

في الحب: وددته، أعززته، صادقته، صافيته، خاللته، أحببته..
(وليس في ذلك صاحبته).
10. الصاحب: ليس في الأكفاء ولا النظراء ولا الأمثال ولا الأشباه.
11. الصحبة: ليست دالة على القدرة والاحتذاء. (سلكت طريقه،
جريت على منهاجه، اقتديت به،... ولا نقل صاحبته).
12. الصحبة أنواع: صحبة حسنة، صحبة سيئة، صحبة حقيقية
وصحبة مجازية، صحبة كثيرة وصحبة يسيرة، صحبة ممدوحة
وصحبة مذمومة... الخ.
13. الصحبة: المعية (فلان بصحبة فلان) أي بمعيته.
14. الصاحب: المرافق، أو المالك، أو القائم على الشئ.
15. (وما جعلنا أصحاب النار...،) أي القائمين عليها.
16. وجدته صاحب صدق.
17. صاحب مال (مجاز).
18. صحاب علم (مجاز) (209).

--------------------------------------------------------------------------------

(209) إذن فما دامت الصحبة من حيث اللغة لا تدل على التوافق في الرأي ولا المعتقد ونحو ذلك
فليست صفة مدح لذاتها وإنما تمدح إذا اكتسبت معاني جديدة من المحبة والنصرة والاقتداء
بالمصحوب... الخ.
141

هل كل من صحب فهو صاحب؟!
اللغة تجيز لنا أن تشتق اسم الفاعل لأي شئ وقع منه فعل معين.
أما الاصطلاح: فلا يجوز أن يطلق اسم الفاعل على شخص وقع منه
الفعل في لحظة معينة، لأن اسم الفاعل - اصطلاحا - لا يطلق إلا على
الملازم ونحوه.
أقول: بمعنى أن اسم الفاعل له دلالة غير دلالة الفعل، والأدلة على ذلك:
جاهل - عالم - صادق كاذب - عادل - ظالم - ناجح - فاشل -... (210) الخ.
لا تطلق عرفا إلا على من غلبت عليه الصفة، أما في اللغة فيجوز
إطلاقها أو اشتقاق الفعل من الفاعل والعكس.
وقال الشيخ عبد الرحمن الحكمي:

--------------------------------------------------------------------------------

(210) كلمة جاهل من حيث اللغة يجوز إطلاقها على من جهل ولو أمرا واحدا فيقال (جهل بهذا الأمر
فهو جاهل) وكذلك من حيث اللغة يجوز أن نطلق ظالم على من ظلم ولو في قضية واحدة فنقول:
(ظلم فلان فلانا فهو ظالم) ولكن من حيث الاصطلاح والعرف لا يجوز لنا أن نطلق كلمة (ظالم) إلا
على من غلب عليه الظلم وهكذا في صادق وكاذب وناجح وفاشل.. الخ، إذن فالمحتجون باللغة في
إثبات صحبة كل من صحب ولو صحبة يسيرة سيؤدي بهم هذا إلى التناقض، وعلى سبيل المثال فلو
قلنا عن رجل ظلم في قضية (ظالم) ثم عدل في أخرى وقلنا فيه (عادل) فمعنى هذا أننا سنقول عنه
(عادل ظالم) وهذا تناقض ولا بد - عند العرف والاصطلاح - من التقييد فنقول: فلان عادل (إذا غلب
عليه العدل) وفلان ظالم: (إذا غلب عليه الظلم) وهكذا نقول في: عالم، جاهل،... الخ، وعلى هذا
كله: نستطيع من حيث اللغة أن نسمي كل من صحب النبي (صلى الله عليه وسلم) ولو ساعة (صاحب)
لكن العرف لا يجيز ذلك إلا مع (طول ملازمة ومعاشرة) بحيث يصح أن يقال: فلان صاحب فلان، أو
من أصحاب فلان. أما الشرع فهو أخص من العرف إذ حددت النصوص الشرعية الصحبة الشرعية
بمن أسلم قبل صلح الحديبية وبقي على حسن الإسلام والسيرة.
142

هذه المعاني الكثيرة والمتضادة لمعنى الصحبة من المشترك اللفظي،
ولذلك وجب علينا أن نعرف المعنى الشرير لها.
لأننا لو توسعنا في الصحبة لغويا لشملت الكفار والمشركين والمنافقين
ومن لم يره من المسلمين في عهده كالنجاشي، ا ه‍!.
قلت: كثير من أهل الحديث إذا أطلقوا الصحبة فإنهم يريدون بها مجرد
الرؤية، لأنهم يعتنون باتصال الإسناد الذي يكفي فيه اللقاء والرؤية.

143

المذاهب في تعريف الصحبة
المذهب الأول: أقوال العلماء القائلين بالمذهب الأول (تعريف
الأصوليين):
1. الإمام شعبة بن الحجاج (160 ه‍) إمام أهل الجرح والتعديل:
(كان جندب بن سفيان أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن شئت قلت له
صحبة) (211).
2. عاصم الأحول (212) (نحو 140!):
(قد رأى عبد الله بن سرجس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غير أنه لم تكن
له صحبة) (213).
3. أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني:
(لا خلاف بين أهل اللغة في أن - القول (صحابي) مشتق من الصحبة
وأنه ليس بمشتق من قدر مخصوص منها، بل هو جار على كل من
صحب غيره، قليلا كان أو كثيرا، كما أن القول مكلم ومخاطب، وضارب
مشتق من المكالمة والمخاطبة والضرب على كل من وقع منه ذلك،

--------------------------------------------------------------------------------

(211) الكفاية ص 98.
(212) من رجال الجماعة ثقة مشهور.
(213) الكفاية ص 98.
144

قليلا كان أو كثيرا، وكذلك جميع الأسماء المشتقة من الأفعال، وكذلك
يقال صحبت فلانا حولا ودهرا وسنة وشهرا ويوما وساعة، فيوقع اسم
المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيرة، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء
هذا على من صحب النبي (صلى الله عليه وسلم) ولو ساعة من نهار، هذا هو
الأصل في اشتقاق الاسم، ومع ذلك فقد تقرر للأمة عرف في أنهم لا
يستعملون هذه التسمية إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه، ولا
يجرون ذلك على من لقي المرء ساعة ومشى معه خطى وسمع منه
حديثا، فوجب لذلك أن لا يجري هذا الاسم في عرف الاستعمال إلا على
من هذه حاله، ومع هذا فإن خبر الثقة الأمين عنه مقبول ومعمول به،
وإن لم تطل صحبته ولا سمع منه إلا حديثا واحدا) (214).
4. الماوردي (450 ه‍)
(الصحابي يشترط فيها أن يتخصص بالرسول (صلى الله عليه وسلم)
ويتخصص الرسول به) (215).
5. المازري:
قال في شرح البرهان: (لسنا نعني بقولنا (الصحابة عدول) كل من رآه
النبي (صلى الله عليه وسلم) يوما أو زاره عاما أو اجتمع به لغرض وانصرف
وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل
معه وأولئك هم المفلحون) (216).

--------------------------------------------------------------------------------

(214) الكفاية ص 100.
(215) تدريب الراوي (213 / 2). وهذا يتفق مع معاني الصحبة الشرعية الممدوحة في الكتاب والسنة.
(216) تدريب الراوي (215 / 2). من توضيع الأفكار (436 / 2). وهذا يتفق مع الصحبة الشرعية التي
سبق ذكرها في هذا المبحث.
145

وقال: (في الصحابة عدول وغير عدول، ولا نقطع إلا بعدالة الذين
لازموه (صلى الله عليه وسلم) ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل
معه...) (217).
6. وكذلك ذهب ابن المعاد الحنبلي في شذرات الذهب (218).

--------------------------------------------------------------------------------

(146) قاله المازري في شرح البرهان ذكر ذلك الآلوسي في الأجوبة العراقية ونقلت هذا من عيادة
الكبيسي (صحابة رسول الله ص 297).
(218) المصدر السابق ص 297.
146

المذهب الثاني: أقوال علماء المذهب الثاني
1. ابن الصلاح (643 ه‍):
(المعروف من طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى النبي (صلى الله عليه
وسلم) فهو من الصحابة) (219).
وهذا التعريف، يخرج ابن أم مكتوم لأنه أعمى وأمثاله.
2. البخاري (256 ه‍):
(من صحب النبي (صلى الله عليه وسلم) أو رآه من المسلمين فهو من
أصحابه) (220).
3. أحمد بن حنبل (241 ه‍):
قال أبو داود: قلت لأحمد بن حنبل: عامر بن مسعود القرشي له صحبة؟
قال: (لا أدري قد روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) (221).

--------------------------------------------------------------------------------

(219) مقدمة ابن الصلاح - تحقيق بنت الشاطئ ص 476 وقد اعترف ابن الصلاح بأن (أهل العلم
اختلفوا في أن الصحابي من؟!) ص 486.
(220) كتاب المناقب في صحيحه (فتح الباري 2 / 7) ومقدم ابن الصلاح ص 486 وأسنده الخطيب في
الكفاية ص 99. وهذا مصطلح خاص بكثير من المحدثين إن لم يكن أكثرهم وهدفهم في هذا معرفة
اتصال الإسناد، لكن ما لبث هذا المذهب أن انتشر حتى ظنه البعض إجماعا!! وعبارة البخاري هنا
تدل على أنه أراد اصطلاحا خاصا بالمحدثين فلذلك قال: (من صحب أو رأى) ففيه تفريق بين
الصحبة والروية فتأمل!!.
147

وقال: (ثم أفضل الناس بعد هؤلاء (أهل بدر) أصحاب رسول الله القرن
الذي بعث فيهم، كل من صحبه سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه
فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه
وسمع منه ونظر إليه) (222).
3. الحاكم (ت 405 ه‍):
عدد طبقات الصحابة في كتابه (معرفة علوم الحديث) وعد من هؤلاء
مسلمة الفتح ولكنه شك في صحة إسلامهم بقوله: (منهم من أسلم طائعا
ومنهم من اتقى السيف ثم تغير والله أعلم بما أضمروا واعتقدوا) (223)!!.
5. ابن كثير (774 ه‍):
الصحابي: من رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حال إسلام الرائي
وإن لم تطل صحبته له وإن لم يرو عنه شيئا، وزاد: هذا قول جمهور
العلماء خلفا وسلفا (224).

--------------------------------------------------------------------------------

(221) الكفاية ص 98. وهنا توقف أحمد في رجل قد روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم). فإن كان
يجزم بسماعه من النبي (صلى الله عليه وسلم) وتوقف في صحبته فهو مذهب ثان لأحمد في تعريف
الصحابي.
(222) الكفاية ص 99.
(223) الحاكم: معرفة علوم الحديث ص 24 وقد جعل مسلمة الفتح في الطبقة الحادية عشرة ليس
بعدهم إلا الأطفال الذين رأوا النبي (صلى الله عليه وسلم). وقد اعترف ابن تيمية - مع شدة دفاعه عن
بني أمية وأهل الشام وانحرافه عن علي وأهل بيته - بأن معاوية وأبا سفيان وسائر الطلقاء أسلموا
عم الفتح قهرا!! فلذلك ارتد بعضهم فيما بعد وفيهم من حسن إسلامه وفيهم من بدلوا وفيهم من
خلطوا علما صالحا وآخر سيئا.
148

6. ابن الحاجب:
الصحابي من رآه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (225).
7. ابن حجر (852 ه‍):
(الصحابي: من لقي النبي (صلى الله عليه وسلم) مؤمنا به ومات على
الإسلام وإن تخلل ذلك ردة) (226).
8. ابن الوزير (842 ه‍):
استثنى من الصحابة من ذكر بالفسق الصريح كالوليد بن عقبة (227).
ويقول: (ومن مهمات هذا الباب القول بعدالة الصحابة كلهم في الظاهر،
إلا من قام الدليل على أنه فاسق تصريح، ولا بد من هذا الاستثناء على
جميع المذاهب، وأهل الحديث وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم
، فإنهم يستثنون من هذه صفته، وإنما لم يذكروه لندوره، فإنهم قد بينوا
ذلك في كتب معرفة الصحابة، وقد فعلوا مثل هذا في قولهم إن
المراسيل لا تقبل على الإطلاق من غير استثناء، مع أنهم يقبلون
مراسيل الصحابة، وبعضهم يقبل ما علقه البخاري بصيغة الجزم، وما
حكم بعض الحفاظ بصحة إسناده، وإن لم يبين إسناده ونحو ذلك من
المسائل، وأنا أنقل نصوصهم على ذلك لتعرف صحة ما ذكرته من
الإجماع على صحة هذا الاستثناء، فمن ذكروه بالفسق الوليد بن عقبة،
فإنه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه شرب الخمر، وقامت عليه البينة،

--------------------------------------------------------------------------------

(224) ابن كثير: الباعث الحثيث ص 491.
(225) الباعث الحثيث ص 491 سابق.
(226) نخبة الفكر لابن حجر، وانظر تعريف الحافظ في الإصابة (455 / 1) مشروحا وانظر شرحه لقول
البخاري في فتح الباري (3 / 7 - 5) مشروحا مطولا.
(227) توضيح الأفكار (437 / 2) وابن الوزير كأنه يريد الصحبة الشرعية فهي تستلزم حسن السيرة
في الصاحب حتى لا يسئ لسمعة المصحوب.
149

وأمر عثمان بجلده وحدد على شربها، وذكره بشرب الخمر الذهبي،
وابن عبد البر، وغيرهما، قال ابن عبد البر في الاستيعاب: (له أخبار
فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله وقبح فعاله. وحكى (ابن عبد
البر) عن أبي عبيدة والأصمعي وابن الكلبي وغيرهم أنهم كانوا يقولون
إنه كان فاسقا بشرب الخمر.
قال أبو عمر: وأخباره في شرب الخمر ومنادمته أهله مشهورة يسمج
بنا ذكرها.
وقال أحمد بن حنبل في الحديث الذي فيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لم يمسه ولم يدع له: إن الوليد منع بركة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لسابق علمه فيه، هذا كلام إمام أهل الحديث والسنة... فهذا أوضح دليل
على ظهور الأمر عند أهل السنة في جرح الوليد وفسقه...) اه‍.
9. الصنعاني (1187 ه‍) وابن الوزير (842 ه‍):
بعد حديث: (أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...) قال
ابن الوزير: (قلت: فيه دليل على أنه أراد بأصحابه أهل زمانه من
المسلمين لقوله: (ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتأمله!!) قال ابن
الأمير: (وذلك لأن قوله: (ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) عام لكل فرد
من الأزمنة التي بعد القرن الأول فيكون كذلك في القرن الأول وأنه
سمى كل من عاصره (صلى الله عليه وسلم) صحابيا وإن كان مسلما) (228).

--------------------------------------------------------------------------------

(228) توضيح الأفكار (ص 435 - 439). 127 تنقيح الأنظار مع شرحه (466 / 2). وهذا أوسع
تعريف للصحابي واللغة تحتمله مجازا والاثنان - ابن الأمير وابن الوزير - يخرجان من الصحبة من
ظهر فسقه - أي يخرجون من الصحبة الشرعية المستحقة للمدح لا من مطلق الصحبة -.
150

المذهب الثالث: أقوال العلماء المتوسطين:
1. ابن الجوزي (597 ه‍):
(وفصل الخطاب في هذا الباب بأن الصحبة إذا أطلقت فهي في المتعارف
تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون الصاحب معاشرا مخالصا كثير الصحبة فيقال: هذا
صاحب فلان، كما يقال: خادمه لمن تكررت خدمته لا لمن خدمه يوما أو
ساعة!!.
الثاني: أن يكون صاحبا في مجالسة أو ممشاة ولو ساعة، فحقيقة
الصحبة موجودة في حقه وإن لم يشتهر بها (229).
2. اللكنوي (1304 ه‍):
(اختلفوا في أن الصحابي يشترط في كونه صحابيا طول المجالسة أم لا؟
فالذي ذهب إليه جمهور الأصوليين وجمع من المحدثين إلى اشتراطه،
وأيدوه بالعرف، فإن الصحابي لا يفهم منه أهل العرف إلا من يصحب
صحبة معتدا بها، لا من له رؤية لحظة مثلا، وإن لم تقع معها مجالسة
ولا مماشاة ولا مكالمة!! ومنهم من اشترط مع ذلك أن يغزو مع النبي
(صلى الله عليه وسلم) غزوة أو غزوتين. ومذهب جمع من المحدثين كأحمد
وعلي بن المديني وتلميذه البخاري وغيرهم أنهم يكتفون في كونه

--------------------------------------------------------------------------------

(229) تنقيح مفهوم أهل الأثر ص 101، ابن الجوزي، نقلا عن أحمد شاكر الباعث الحثيث ص 495
تحقيق علي حسن عبد الحميد الأثري.
151

صحابيا مجرد الرؤية وهو مؤيد باستعمال أهل اللغة، فالصحابي لغة
جار على من صحب غيره قليلا كان أو كثيرا وهذا المذهب هو الذي
عول عليه أكثر المتأخرين. ومنهم من اشترط في كونه صحابيا روايته
عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، حكاه ابن الحاجب وغيره...) (230).
3. الواقدي (207 ه‍):
(حكي عن أهل العلم أن الصحابي (من رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) مسلما
بالغا عاقلا) (231).
4. ابن عبد البر (463):
(كل مسلم أدرك زمان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن لم يره) (232).
5. ابن مندة:
مثل ابن عبد البر (223). ويحيى بن عثمان بن صالح والقرافي (234).
(6) ابن الملقن (723 ه‍)

--------------------------------------------------------------------------------

(230) ظفر الأماني للكنوي ص 496.
(231) ظفر الأماني للكنوي ص 497، فاشترط البلوغ هنا.
(232) ظفر الأماني للكنوي ص 497. وهذا مذهب متوسع جدا لكن اللغة تحتمله مجازا.
(233) المقنع لابن الملقن (491 / 2). وكذلك يرى يحيى بن عثمان بن صالح المصري وعد من
الصحابة عبد الله بن مالك الجياشي. أبا تميم مع أنه لم يرحل إلى المدينة إلا في عهد عمر قاتله
السيوطي في تدريب الراوي (212 / 2).
(234) أنظر تدريب الراوي 2 / 212.
152

نقل قول ابن الصلاح في كتابه المقنع (2 / 490) ثم قال: (فالمعروف
من طريقة أهل الحديث أنه كل مسلم رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) وإن لم
يصحبه!! وطريقة الأصوليين أنه من طالت مجالسته على طريق التبع
له والأخذ عنه).
أقول: هكذا فرق بين الصحبة والرؤية!!
7. يحيى بن معين (230 ه‍)
قال في محمد بن حاطب المولود بالحبشة (له رواية ولا تذكر له
صحبة) (235).
8. أبو حاتم الرازي (275 ه‍)
قال في عبد الرحمن بن عثمان التيمي: (كان صغيرا له رؤية وليست له
صحبة) (236).
9. ابن عبد البر (463 ه‍)
قال في عبيد الله بن معمر: (ذكر بعضهم أن له صحبة وهو غلط بل له
روية وهو غلام صغير) (237).
10. أبو زرعة:
قال في طارق بن شهاب: (له رؤية وليست له صحبة) (238).
11. أبو داود (275 ه‍)

--------------------------------------------------------------------------------

(235) التقييد والإيضاح للعراقي ص 279.
(236) التقييد والإيضاح للعراقي ص 279. وهذا تعبير دقيق وكان السائد عند المتقدمين.
(237) التقييد والإيضاح للعراقي ص 279.
(238) العراقي في التقييد ص 280.
153

كذلك قال في طارق بن شهاب (239).
أقول: مع أن طارق بن شهاب كان كبيرا وأدرك النبي (صلى الله عليه وسلم)
رجلا وغزا مع أبي بكر.

--------------------------------------------------------------------------------

(239) العراقي في التقييد ص 285، مع أنه أدرك النبي (صلى الله عليه وسلم) رجلا ورآه والتقى به.
154

ما الجدوى من البحث؟!
يظن البعض أنه لا جدوى من هذه البحوث وأنها تزيد الأمة تفريقا
واختلافا، وأنها تضعف موقفنا أمام الفرق الأخرى، وأن الفائدة العلمية
المرتبة عليها قليلة إن لم تكن معدومة؟!.
وللجواب على هذه الآراء أقول:
أولا: ليس هناك حقيقة ليس لها فائدة.
ثانيا: بل التعصب للظلم والجهل والمدافعة عنهما هو الذي أوقع الأمة
في هذا الاختلاف الشديد.
نعم لقد اختلفنا كثيرا يوم تناقضنا في معرفة أهل القدوة والتأسي
واختلفنا أكثر عندما ندعي اتباع نصوص الكتاب والسنة، بينما إن دعانا
الآخرون للكتاب والسنة ندعوهم لقول فلان وفهم فلان.
واختلفنا يوم أصبح عندنا معاوية مجتهدا كعلي وعثمان وأبي بكر
وعمر؟! فساوينا بين من لم يجتهد أصلا بهؤلاء السابقين، اختلفنا
عندما قلنا إن الوليد بن عقبة (عدل مرضي) والله يقول عنه (فاسق)!!
اختلفنا عندما نعتبر ساب أبي بكر وعمر كافرا ليس له توبة، بينما ساب
علي مأجور أجرا واحدا فقط!!.
اختلفنا عندما تركنا عليا وأهل بيته للروافض ليدافعوا عنهم، وتشبثنا
بظلمة الطلقاء والأعراب، وأصبحنا نراهم قريبين في الفضل والعدالة
والمرتبة من السابقين، اختلفنا عندما ندعي طلب الحق، ثم لما يعرض
لنا الآخرون هذا الحق نصد عنه، وهم يصدون عن الحق الذي نقول به
أيضا، فالتظالم مشترك إلا عند من رحم ربك.

155

الظلم والجهل والهوى هي أساسيات كل اختلاف بين المسلمين، فإذا
كان عندنا استعداد لطلب العلم وطلب الحق وطلب العدل وطلب الإنصاف
فثقوا تماما أن الاتفاق سيكون الغالب على الأمة الإسلامية.
نحن نعادي الآخرين لقولهم بتبديع ابن تيمية بينما ندافع عن أصحابنا
الذين يرون تكفير أبي حنيفة فضلا عن تكفير سائر الطوائف من الشيعة
والمعتزلة والصوفية والأشاعرة وغيرهم من أهل القبلة.
الفرقة الوحيدة التي لم نكفرها ولا نذمها هي فرقة النواصب!! وبنصف
الذكاء يستطيع الفرد معرفة السبب!!.
وأقول: أيضا هذه البحوث تزيدنا قربا من الحق، فعندما نتبرأ من فسق
الوليد وبغي معاوية وجريمة أبي الغادية ونفاق الحكم وضرر مروان
ونحو هذا نكون قد أدينا أغلب ما يجب علينا من الإنصاف التاريخي
وستكون لنا كلمتنا المسموعة في الدفاع عمن يستحق الدفاع
كالمهاجرين والأنصار.
أما الدفاع عن أمثال هؤلاء ممن سبق ذكرهم، فهذا سيضعف موقفنا،
لأننا نكون قد خلطنا بين الدفاع عن الحق - كدفاعنا عن الخلفاء الثلاثة -
ودفاعنا عن الباطل كدفاعنا عن معاوية، وبسر، وهذا الخلط لا بد أن
يسبب لنا الضعف لأنه إن جعلنا الجميع في مرتبة واحدة من العدالة
استطاع المخالف أن يسقط هذا الدفاع غير العلمي بنموذج واحد
كنموذج الوليد بن عقبة مثلا.
أما إذا فصلنا في الموضوع فنستطيع أن نبقى أقوياء بالحق والعدل
والصدق.
أما كون هذه الأبحاث لا فائدة فيها فهذا غير صحيح، لأن معرفة حقائق
التاريخ الإسلامي ووضع كل شئ في موضعه اللائق به نستطيع بهذا
أن نستفيد من التاريخ ونلتمس أسباب ضعف المسلمين وبدايات

156

الانحراف التي تراكمت حتى أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم من ضعف
على كافة المستويات لا يخفى على البليد فضلا عن العاقل المدرك.
وأخيرا:
فهذا البحث لا ريب أن القصور سيصاحبه سواء في أدلة الأصوليين أو
أدلة المحدثين أو أقوال علماء المذهبين وغيرهم، بإضافة إلى ما لا
يمكن التحرز منه من الأخطاء الطباعية ونحوها.
وسأحاول أن أجمع ملحوظات الأخوة - الذين تتم استشارتهم بتوزيع هذا
البحث عليهم - وأرجو إلا يبخلوا بأية فكرة أو رأي سواء كانت مؤيدة
أو معارضة فشكري لصاحب هذه الفكرة أو تلك سيان، وأجره - إن شاء
الله واحد -.
ثم أقول للأخوة: لا تخشوا من أحد يرتضي الكتاب والسنة حكما ويحكم
منهج أهل الحديث أو يحاول، والتقصير في التطبيق أمر طبيعي لم يسلم
منه لا البخاري ولا مسلم فضلا عن غيرهم.
ثم أقول ثانيا: إنني سأتبع هذا البحث بما يلي:
أ. تعليقات الأخوة الذين حضروا المحاضرة كاملة سواء المؤيدة أو
المعارضة مع التعليق عليها.
ب. إعادة تصنيف ما ترجم له في كتاب الصحابة إلى ما يلي:
1. الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم.
2. المتوقف في ثبوت صحبتهم.
3. المتوقف في حسن صحبتهم.
4. المختلف في صحبتهم.
5. التابعون بإحسان.
6. التابعون بغير إحسان.
7. المتوقف في حسن اتباعهم

157

كل هذه الأصناف مترجم لهم في كتاب الصحابة ولا يدخل فيها التابعون
بالتعريف الشائع كسعيد بن المسيب وغيره فهؤلاء ليسوا صحابة باتفاق
الأصوليين والمحدثين.
وسأعتمد في التصنيف الأخير على كتاب الإصابة لابن حجر مرجعا
رئيسيا في تسجيل الشخصيات ومعرفة مرتبة كل فرد منهم.
وهذا العمل ستبين به (من هو الصحابي صحبة شرعية) ومن ألحق بهم
من غيرهم حتى لا يخلط الناس بين المهاجرين وأمثال حرقوص بن
زهير والوليد.
وهذا التصنيف الذي أنوي القيام به لم يسبقني إليه أحد من قبل والحمد
لله فهو جديد في بابه وموضوعه، مع ما فيه من متعة بحث وقيام بحق
المهاجرين والأنصار الذي ظلمهم المترجمون لما ترجموا معهم التابعون
بغير إحسان، ووجب بذلك - عند مغفلي الصالحين - محبة العدل والظلم،
الصلاح والفسق، فكانت القلوب تجمع هذا الحب المتناقض إكراها
للنفس حتى تبقى عقيدتها سليمة!! هكذا أفهمها بعض العلماء سامحهم
الله معرضين عن نصوص الكتاب والسنة في الولاء والبراء في محبة
أهل العدل والصلاح وبغض أهل الظلم والفساد أو على الأقل معرفة
الشر وأهل الشر حتى لا يتخذوا قدوة.
أسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يبصرنا
بالحق ويعيننا على اتباعه ويبصرنا بالباطل ويعيننا على اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آل محمد.

158

/ 1