البدعة
السيد علي الأمير الصنعاني
بسم الله الرحمن الرحيم
البدعة
تأليف
العالم الزاهد السيد علي بن إبراهيم الأمير الصنعاني
المتوفى سنة 1219 ه
تحقيق
الدكتور المرتضى بن زيد المحطوري
1
الطبعة الأولى
1417 ه 1997 م
حقوق الطبع محفوظة
مكتبة مركز بدر العلمي والثقافي للطباعة والنشر والتوزيع
2
بسم الله الرحمن الرحيم
المؤلف في سطور
مراعاة القارئ وعدم التثقيل عليه بالتطويل أمر لا بد منه
ولذلك سأحاول - في سطور - ترجمة علم من الأعلام، وأحد
رجال الله العارفين، ألا وهو: السيد العلامة علي بن إبراهيم بن
محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، وبذكر الجد البدر الأمير
يظهر للعيان جلالة الحفيد. فكما أنشد بديع الزمان:
تلك العصى من هذه العصية *......
فلقد كان السيد إبراهيم ذا أنياب وأظافر جندهما في سبيل
الحق والذود عن حرمات الله وسخر نبوغه وذكاءه الخارق في الإرشاد والوعظ، ولو لم
يكن إلا اندماجه وسط العامة، وإيناسه للمساكين
ومخالطة العوام وانتشالهم من الجهل حائزا لهم
جانب الفضائل ومكارم الأخلاق وطاعة الخلاق، حتى
جعلهم يتركون المألوف الذميم من الغيبة والنميمة والكذب، بل
3
استجاب له الناس استجابة توحي بمدى إخلاصه لله سبحانه،
فقد كان التجار يغلقون أبواب دكاكينهم عند سماع الأذان، وتلك ثمار
المجالس التي كان يعقدها للناس في الجامع الكبير بصنعاء وغيره،
ومسجد الروضة الكبير لتعليم أمور الدين وترغيب السامعين في
عمل البر والخير ولأسلوبه الجذاب وبيانه الرائع استهوى الجم
الغفير وراق لهم حضور حلقته مستمتعين بمنطق عذاب ولسان
عضب لا يتلعثم ولا يتردد كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث.
وقد سبب له سكونه إلى المساكين وحب الضعفاء نفور
الخاصة عنه واستهزاء عليه القوم به فقابلهم بالسخرية من عمائمهم
الكبيرة، وأكمامهم الطويلة ومشيتهم المغرورة.
ولما منع من الخطابة بسبب فتنة حدثت، أحدثها العامة، فقد
كان السيد: يحيى الحوثي يدرس بمسجد صلاح الدين، فلما كثر
الناس انتقل إلى الجامع الكبير فامتلأ. وكان يدرس كتاب: تفريج
الكروب، فأزعج السلطة فأمرت بإغلاق، الجامع وذلك
أيام المنصور علي بن المهدي عباس، فظل العامة يدورون ويرجمون
4
بيوت وزراء الدولة، وتسمى تلك الليلة: بليلة معاوية سنة 1216 ه.
وله قصيدة في الزهد مشهورة باللهجة الصنعانية مطلعها،
عملي كله قشواش *....
وقد طبعناها في كتيب فاطلبه. وقد ولد عام 1171 وتوفي
1219 ه 1219 - 1805 م وله مؤلفات مفيدة، منها: (الفتح
الإلهي في تنبيه اللاهي) في مجلد و (سوانح الفكر وموانح الذكر)
في مجلد، وهو الذي أخذنا منه سانحة البدعة على أمل إخراج
الكتاب بكامله بإذن الله.
وهذا الكتاب متنوع الفوائد فما سنح وخطر ببال المؤلف تحدث
عنه بعنوان سانحة، وقد حققنا سانحة البدعة على نسخة الوالد
العلامة أحمد زبارة مفتي الجمهورية، ونسخة مصورة من الوالد
العلامة محمد بن محمد إسماعيل المنصور حفظه الله.
وله (النفحات الربانية، واللمحات الرحمانية في إحراز
5
الصلات بإبراز ضمائر الصلوات) في مجلد كبير صدره بالحديث:
(اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن الله
نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن
يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم) وهو نفيس جدا.
وله (السر المصون في نكتة الإظهار والإضمار في أكثر الناس
وأكثرهم لا يعلمون) و (تشنيف الآذان بإسراع الأذان) و (تأنيس
أرباب الصفا في مولد المصطفى) و (لا برهان لمن ذهب إلى تحريم
تحلية رأس الجنبية بالذهب)، ولا زالت هذه المؤلفات مخطوطة
شأن الكثير من تراث علماء المذهب الزيدي الأماجد.
وكان يحض الناس على الصلاة على النبي صلى الله عليه
وآله بعد الصلاة، حتى أثبتها سنة في كل مسجد، وهي: الصلاة
الإبراهيمية، ونصها كما رواها لي عدا في يدي - السيد المولى
العلامة: مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي، إثناء زيارتي له
إلى منزله - صعده عام 1416 ه - 1995 م، وكذلك سيدي المولى
العلامة: حمود بن عباس المؤيد، بمسجد النهرين، قبل التأريخ
6
المذكور بعام: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وبارك
على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وترحم على محمد وعلى آل
محمد، كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد
مجيد.
اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد، كما تحننت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم وسلم على محمد وآل محمد، كما سلمت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ورواية أخرى وهي الأولى كما حكى الوالد مجد الدين:
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد
وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك
حميد مجيد. وترحم على محمد وعلى آل محمد، كما ترحمت
7
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وتحنن على
محمد وعلى آل محمد، كما تحننت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنك حميد مجيد. وسلم على محمد وعلى آل محمد،
كما سلمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وكلا الروايتين صحيحة مسلسلة بسند كل من مشايخهما إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال عدهن في يدي جبريل قال
هكذا أمرني بهن رب العزة.
وإنا أرويها بهذا السند، وأجيز لكل مطلع أن يرويها عني لتعم
الفائدة والبركة.
المرتضى بن زيد بن زيد علي المحطوري
وفقه الله.
8
المقدمة
نلحظ هذه الأيام هجمة شرسة ضد البدع والمنكرات
الماثلة حسب التفكير الضيق المتحجر المنغلق في قراءة: (يس)، أو
التهليل بعد الميت، وآيد الكرسي عقيب الصلوات، والتأذين بحي
على خير العمل، والسربلة، ولبس الساعة - في اليد اليسرى -
ويقاس على ذلك ما حدث في العالم من تعد على حرمات الله،
مثل تخدير المرضى أثناء العمليات الجراحية، وانتهاك الهواء
بأسراب الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية، وتلويث القمر
بالمركبات الفضائية.
وفي ذلك مخالفة صريحة للسنة الشريفة، فنحن معشر المسلمين مطالبون بإحياء آثار السلف والاقتصار على ركوب الجمال
والبغال والحمير. فإن تعذر فالمشي بغير حذاء فيه أجر كبير لأنه
تطبيق للفطرة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد
على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
فكيف يجوز التشبه باليهود والنصارى في لباسهم وصناعاتهم
9
وتقدمهم العلمي - والعياذ بالله - وعلى المسلمين التقيد بلباس معد
ابن عدنان، وعليهم إلغاء عقولهم، فاستعمال العقل حرام، لأنه
يصادم النصوص، ولا يجوز الجمع بين النص والعقل، لأن الكتاب
والسنة يقضيان أن تكون بدون عقل ليتم في غيابه التطبيق الكامل
للنصوص الشريفة. فقد زل المعتزلة والزيدية ومن يرى رأيهم في
تحكيم العقل فضلوا وأضلوا (1)، وقد سمعت أن هناك من يفتني
ويؤلف جازما بكفر من قال: الأرض تدور.
عندما يحدث مثل هذا فنحن بالفعل في مأساة ومصيبة.
ومما يشمت بنا أعداءنا أنك تجد ركاما من الكتب التي تحث
على هدم القباب، ولا سيما القبة التي فوق قبر النبي صلى الله
عليه وآله ولا تجد بحثا في العلوم الكونية والمعارف النافعة دينا
ودنيا. ولست طامعا في تقديم بحث البدعة أن يتراجع صاحب
اللجاج عن لجاجه، وأنما ليفيد النفوس النظيفة، والقلوب البيضاء،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) هذا الكلام وارد على سبيل التهكم والسخرية وهو لون من إلوان البلاغة
مثل قوله: (ذق أنك العزيز الحكيم)
10
وعسى الله أن ينفع إخواني المؤمنين الذين يتشددون بحسن نية
وتسرع لا داعي له، وبدون شك فمحاربة الخير باسم البدعة أمر
خي ير، وصد عن سبيل الله، لأن البدعة كما تفهم لأول وهلة هي:
الأمر المضر بالدين، ومضر بالدنيا أيضا، وهو ما خالف دين النبي
صلى الله عليه وآله وشرعه واتجاهه وخرج عن المسار. فالدعاء
عند الوضوء وإن لم يرد فيه نص مؤكد لكنه داخل في عموم قوله
تعالى: (ادعوني أستحب لكم) (1)،، (واذكروني أذكركم) (2)،
فهو من أمر الدين. فهذا النبي صلى الله عليه وآله يقول:
(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (3)، ومثاله ما ابتدعه
المستبدون من ولاية العهد حيث يوصي الأول بوراثة الملك لمن بعده
--------------------------------------------------------------------------------
(1) آية 60 سورة غافر.
(2) آية 152 سورة البقرة.
(3) البخاري ج 2 ص 959 رقم (2550) ومسلم ج 3 ص 554 رقم
(91718) وأحمد بن حنبل في المسند ج 10 ص 82 رقم (62092) عن
عائشة رضي الله عنها.
11
دون مراعاة رأي الأمة أو أهل الحل والعقد فيها.
أما هو من الدين وداخل في شريعة الإسلام كالصلاة
والذكر والصدقة وما ينفع الناس في أمور حياتهم فهو وأن كان بدعة
من حيث الاشتقاق لكونه بدعا أي جديدا لكنه بدعة حسنة وجميلة
قال ابن حجر: (ولا بدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق،
وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها
أن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وأن
كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي
من قسم المباح. وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة) (1) كأنه يريد
الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة.
والله عالم. وقد دل لذلك ما فعله عمر رضي الله عنه حين أمر
الناس بصلاة التراويح جماعة وقال: نعمت البدعة (2).
وأكبر من ذلك جمع القرآن وتدوين الحديث، فهل
--------------------------------------------------------------------------------
(1) فتح الباري ج 4 ص 204.
(2) البخاري ج 1 ص 707 رقم 1906، فتح الباري ج 4 ص 204.
12
عمي القلوب في ذلك بدعة؟ أنه يجب الاعتراف بوجود بدع
مستحسنة ونافعة يصدق عليها الحديث الشريف (من سن سنة حسنة
كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص
من أجورهم شئ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من
عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شئ) (1).
وإن الصلاة مشروعة وجماعة التراويح بدعة مستحسنة غير
ملزمة لأحد ولا حرج على تاركها وقد قال عمر نفسه: والتي
ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد أنهم يقومون أول الليل
ويتركون آخره، فلماذا بدعة جماعة التراويح خاصة يتحمس لها منكرو البدع؟،
وكيف لو شاهد عمر صلاة التراويح التي يساق لها الناس قسرا، وتشتعل من أجلها
معارك في مساجد الله الآمنة حتى
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه مسلم ج 2 ص 401 رقم (1017) وابن حنبل في مسنده
ج 7 ص 56 رقم (19177) والطبراني في الكبير ج 2 ص 315 رقم
(2312) ورقم (2313) عن جرير، والنسائي ج 5 ص 76، وابن ماجة
ج ص 74 رقم (203) وكلها مختلفة يسيرا.
13
صارت عنوانا للالتزام الحزبي والولاء المذهبي، لو عرف ذلك عمر
لأعمل درته ضربا موجعا لأهل الجهل والبلادة والتدين السطحي.
وكم سمعت استنكارا لمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولم أسمع ما يماثله في المناسبات والأعياد بميلاء أو تمليك مغن أو
ملاكم أو زعيم. ولك أن تتشيع فيمن شئت من مشاهير الفن والغناء
وكرة القدم بدون حرج، ولكنك مجروح عدالة مبتدع إن تشيعت
في علي بن أبي طالب لا سمح الله. لا أقول ما قلت متهكما
ولكنها الحقيقة والواقع لفكر متحجر وفقه متخلف يحث الخطى
سريعا إلى الورى.
وقد يصاب المرء بالغثيان وهو يعيش ظروفا قاسية وأزمات
متلاحقة وكأنها ضربة لازب لمجتمع المسلمين ومع ذلك يستمرؤون
السماع لمسألة هل القرآن مخلوق أم قديم؟ وهل الله فوق العرش أم
لا؟ وهل يرى ربنا عيانا أم لا؟ كل ذلك يجري ودماء المسلمين
نازفة في فلسطين، والبوسنة، وأفغانستان، وكشمير،
والشيشان، والسودان والجزائر. ولكنا نقول نسألك يا الله
14
الغوث، ونعوذ بك من شماتة الأعداء وفتنة الجهلاء.
نسأل الله أن يجعل حماس المسلمين، ولا سيما شبابهم فيما
ينفع المسلمين ويلم شتاتهم ويجمع كلمتهم.
والآن أترك القارئ الكريم مع موضوع البدعة ملخصا القول
بأن البدعة ما ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى
الصلاة هي مستحبة بعد القيام بالفرائض في غير الأوقات المكروهة -
ولو زعم زاعم لزوم ركعتين في وقت ما وجعلها حتما لكان
مبتدعا لإيجابه ما لم يوجبه الشرع، أما ما يحدث مخالفا للدين،
فما هو مكروه فهو أدخل في باب الابتداع فافهم هذا ولا تلتفت
للجعجعة فقد لا تجد تحتها طحينا وفقنا الله لما يحب ويرضى وجنبنا
بدع الضلال التي جاء بها الأثر (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)
وهي التي ما ليس عليه أمرنا كما قال صلى الله عليه وآله
وسلم.
المرتضى بن زيد المحطوري
صنعاء - ربيع الثاني سنة 1416 هجري قمري.
15
بسم الله الرحمن الرحيم
سانحة
بحث البدعة
اعلم أن الناس خبطوا في تحقيق البدعة خبي عشواء (1)، وخاضوا فيها
في ظلم الأهواء: فكل واحد يجعل البدعة ما خالف هواه، حتى كأن ليس
صاحب الشرع سواه، والعلماء ما زالوا يتعصب كل فرد منهم على الآخر،
فترى فرقة الأشاعرة (2) يرمون المعتزلة (3) بالبدعة ولا يسمونهم إلا أهل البدع
وكذلك يصنع معهم خصومهم، فيسمونهم أهل البدعة من الجبرية (4).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) خبطه خبط عشواء ركبه على غير بصيرة. والعشواء الناقة لا تبصر أمامها، القاموس
1691.
(2) الأشاعرة: فرقة إسلامية، نسبة إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري. ت سنة
324 ه.
(3) المعتزلة: من أهل العدل والتوحيد سموا بالمعتزلة، لاعتزال زعيمهم واصل ابن عطا
وعمرو بن عبيد حلقة الحسين البضري، وقيل: لاعتزالهم الدنيا.
(4) الجبرية: فرقة من المسلمين يقولون: إن الله أجير الإنسان على فعله، فهو كورقة في مهيب الريح.
16
وترى أهل الظاهر (1) يرمون الصوفية (2): بالابتداع،
والاتحاد، والحلول (3) والصوفية يسمون أهل الظاهر: أهل
الرسوم والقشرية (4).
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال، وإن كانوا ذوي
رحم. ف (إنا لله وإنا إليه راجعون) (5).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الظاهرية: مذهب إسلامي نسبة إلى داود بن علي الأصبهاني (الظاهري)
أشعري العقيدة آراؤه في الفقه مبنية على ظواهر النصوص.
(2) الصوفية: اسم يدل على الزهد والتقشف والصوفية فرق كثيرة قيل: نسبة
إلى صفه مسجد رسول الله صلى الله عليله وآله وسلم.
(3) الاتحاد عند من يزعمه وصوله في محبة الله إلى حد الفناء في الله والاتحاد
معه. والحول زعم القائل: إن الله يحل في الصورة الجميلة، تعالى الله.
(4) يعني أنهم يأخذون بظواهر الأمور. ويتركون اللب، مستغنين عنه بالقشور.
(5) 156: البقرة.
17
وسبب هذا عدم العمل بالقرآن، وقوله (1) تعالى: (ولا تكونوا كالذين
تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم
عذاب عظيم) (2)، وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به
نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن
أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (3)، (وقوله سبحانه وتعالى):
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (4).
ووصف الله تعالى أهل الكتابين بقوله: (وقالت اليهود ليست
النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم
يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) من باب عطف الخاص على العام. ومراد المؤلف التأكيد على عدم عملها
بالقرآن خصوصا بهذه الآية وما بعدها.
(2) 105: آل عمران.
(3) 13: الشورى.
(4) 103: آل عمران.
18
بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (1) تشابهت
قلوبهم.
فعلى العبد، أن ينتهي عما نهاه الله تعالى عنه. وأن يأتمر بأمر
الله تعالى ويترك إعجابه بنفسه، فإن الإعجاب قد عم، وهو رأس
البلية، وأساس المصيبة، ومنشأ الفتنة، وأصل المحنة. فليس هم
الرجل إلا تنزيه نفسه وذويه وإيقاع مخالفه في هوة التبديع والتفسيق
والتكفير: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) (2)
وكذا صينعهم في كل مسألة لا يتحاشون عن تضليل سواهم،
ولا يراقبون الله تعالى في اشتغالهم بتنقيص عباده، ولا يستحيون
من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ثلب أمته الذين
هم قصارى أمنيته من الدنيا! (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 113: البقرة.
(2) 24: ص.
19
العلم بغيا بينهم) (1). ومصيبة التقليد وقبول قول الغير قد
عمت، وداهيتها قد أشوت (2)، بل أصمت (3). فترى كل فرقة يقلبون
ما حرره من يستعظمونه منهم من دون تحقق لكلاه، وتأمل الخطر
من الصواب، حتى كأن مقالته مقالة المعصوم.
* وعند الله تجتمع الخصوم (4). فإن قلت: فأبن لي ما هي البدعة التي يجب اجتنابها؟ قلت
اعلم أن لنا في معرفة الكلمة في اللغد طريقة من جهة الفكر ينبغي أن
.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 15: الجائبة.
(2) أشوى الرجل أصاب شواه - قحف الرأس - أي جلدته. المنجد
ص 421. والقاموس ص 1678.
(3) أصمت: قتلت: يقال: أصمت الصيد - إذا رميته فقتلته وأنت تراه، وفي
الحديث: (كل ما أصميت ودع ما أنميت)، مختار الصحاح ص 370.
(4) عجز بيت صدره: إلى ديان يوم الدين نمضي *... وقبله:
وحق الله إن الظلم لؤم * وإن الظلم مرتعه وخيم
20
نعرضها عليك، وأن تعرضها أنت على فهمك السليم، فإن سلمها
ورآها حسنة فأخذ على منوالها، وإن نفر عنها أتيناك بما
عليه العامة، وأنت بالخيار، ولست بمكره مني على شئ من ذلك.
فالطريقة التي أشرنا إليها هي: أن لغة العرب مرجع الكلمات
في بنائها إلى شئ واحد يقرب بعضه من بعض لمن تأمل ذلك، فإذا
عرفت فردا من أفراد معاني الكلمة - عرفت بقية المعاني من ذلك
الفرد، من دون احتياج في الغالب إلى تفتيش، أو تنقيش.
مثاله، أن الابتداع هو الاختراع. فإذا سمعت قوله تعالى:
(بديع السماوات والأرض) (1)، عرفت أن المعنى مخترع السماوات
والأرض من دون مثال سبق، وإذا سمعت: أبدع فلان فيما جاء به -
فهمت أنه اخترع أمرا لم يكن من قبله، ولهذا يسمى الزق 02) الجديد
بديعا، لكونه أول ما جعل فيه الشئ. وفي الحديث: (إن تهامة
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 117: البقرة.
(2) الزق: السقاء. أنظر مختار الصحاح ص 273.
21
كبديع العسل، حلو أوله آخره) (1) وهكذا المادة، إذا تأملناها
من أولها إلى آخرها.
ومن تحقق وتأمل وتدبر عرف الحق، ما لم يكن مكابرا، كثير
المراء، محبا للجدل، منصب الفكر في الرد والإيراد.
.... * مثل الذباب يراعى موضع العلل (2).
بل مثل (زبل الذباب) إن وقع على أبيض صار أسود، وإن وقع
على أسود عاد أبيض. وفي هذه الإشارة كفاية (وفوق كل ذي علم
عليم) (2)، (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (4).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) انظر غريب الحديث للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الحوزي، باب
البامع الدال ج 1 ص 106، قال ابن الأثير: البديع الزق، شبه به تهامه
لطيب هوائها وأنه لا يتغير كما أن العسل لا يتغير. والقاموس ص 906.
ومختار الصحاح ص 43.
(2) عجز بيت صدره: شر الورى من بعيب الناس مشتغل *
(3) 77: يوسف.
(4) 213: البقرة.
22
وأما طريقة العامة: فالنظر فيما قاله الأسلاف، والاحتجاج بما جرى
عليه السابق، والاستدلال بما مضى عليه الرعيل الأول، فمثل
البدعة ينظر ما قاله صاحب القاموس في قاموسه، وابن الأثير في
نهايته. وقبلوا روايتهم من دون نظر إلى اتحاد المادة، وعدم ماتحادها
على اختلاف في الأنظار، وتفرق في الأفكار. ونحن لا نقول: إن
كلام العلماء مردود، ولا إن روايتهم غير مقبولة، بل ننظر فيما قالوه
ونتأمل صحيحه من سقيمه، ونضرب له الأمثال، ونتأمل ما يقرب
منه في الكتاب الذي هو تبيان لكل شئ وفي السنة التي هي مبينة،
ونحمل النظير على النظير، ونضع الشبه على الشبه. وهذا هو الذي
عليه فحول العلماء النقاد، وإليه مرجع الفضلاء الأمجاد.
ومن عرف كتب المحققين من العلماء ظهر له نور الصواب.
ولنذكر كلام مجد الدين (صاحب القاموس) وابن الأثير في البدعة.
قال مجد الدين: والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال، وما
23
استحدث بعده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الأهواء
والأعمال (1). (انتهى).
وفي النهاية ما لفظه: وفي حديث عمر (رضي الله عنه) في قيام
رمضان (2)، (نعمت البدعة هذه).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أنظر القاموس ص 906.
(2) ينظر كلام عمر في البخاري، ملخص قصة التراويح: عن عبد الرحمن ابن
عبد القارئ، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في
رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه
ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت
هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب
ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر
نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد أخر الليل، وكان الناس يقومون
أوله، ج 2 ص 707 رقم 37 ورقم = 1905، ومات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأمر على ذلك - أي إن
القيام اختياري والصلاة فرادى، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر
وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما، ثم أحدث عمر ما أحدث،
البخاري المذكور نفس الصفحة، والقريب أن المتشددين في إنكار البدع
بزعمهم يرغمون الناس إرغاما على صلاة التراويح جماعة، فلماذا
ينكرون بدعة ويجبون أخرى. لست أدري.
24
والبدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلالة (1). فما كان في
خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وآله
وسلم! فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما
ندب الله تعالى إليه وحض عليه، أو رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو في
حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود، كنوع
من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا
يجوز أن يكون ذلك (داخلا) (2) في خلاف ما ورد الشرع به، لأن
--------------------------------------------------------------------------------
(1) لفظ النهاية في غريب الحديث والأثر: (بدعة ضلال) ج 1 ص 106.
(2) ليست بالأصل ولا في النهاية أيضا، والمعنى عليه وإن لم يذكر.
25
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد جعل له في ذلك ثوابا،
فقال: (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها). وقال
في ضده: (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل
بها) (1). وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
ومن ذلك (2) النوع قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه) لما
كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها،
لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يسنها لهم، وإنما
صلاها ليالي ثم تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه ابن ماجة بطرق مختلفة ج 1 ص 74 رقم 103 و 204،
والترمذي بألفاظ وطرق مختلفة ج 5 ص 42 - 45. وابن حبان في حديث
طويل عن المنذر بن جرير عن أبيه. أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان
ج 5 ص 130 رقم 3297.
(2) في النهاية (ومن هذا النوع) ج 1 ص 107.
26
ولا كانت في زمن أبي بكر رضي الله عنه. وإنما جمع الناس عليها عمر
رضي الله عنه، وندبهم إليها، ولهذا سماها (1) بدعة، وهي في الحقيقة سنة
لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (عليكم (2) بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي (3).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) في النسخة ب (أسماها) وفي النهاية (فبهذا أسماها) ج 1 ص 107.
(2) في النسخة (ب) وجدنا الحاشية التالية: (قال مولانا عليه السلام أمير
المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين يحيى بن الإمام المنصور بالله محمد
ابن يحيى حميد الدين أيده الله ما لفظه: (لو كانت سنة الخلفاء الراشدين
من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أتى بواو العطف التي
تقتضي المغايرة، ولما جاز اجتهاد الخلفاء مع الاختلاف بينهم، ولما جاز
مخالفة الخلفاء أو أحدهم فيما لم يجمع عليه.) تمت من خط يده الشريفة
أيده الله بنصره. آمين.
(3) أخرجه ابن حبان ج 1 ص 104 في صحيحه باب الاعتصام بالسنة
والترمذي ج 5 ص 43 رقم 2676، عن العرباض بن سارية من حديث
طويل باختلاف يسير ف اللفظ وفيه بقية بن الوليد. قال غير واحد ليس
بحجة كان مدلسا) الخ، انظر ميزان الاعتدال في نقد الرجال
1 ص 154 رقم 1222.
27
وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: (كل محدثة
بدعة) (1) إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة، وأكثر
ما تستعمل البدع في الذم. (انتهى) (2). وهذا كلام أئمة هذا الشأن
فخذ منه ما شئت.
واعلم أنه ظهر لك من هذا الكلام أن في الأعمال المحدثة ما
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه مسلم ج 2 ص 269 رقم 867. باب تخفيف الصلاة والخطبة
وابن ماجة ج 1 ص 17 رقم 45 باب اجتناب البدع والجدل. وابن حبان
ج 1 ص 106 رقم 10 عن جابر بن عبد الله بلفظ (كان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضب حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم... ويقول: أما بعد
فإن خير الحديث كتاب الله. وخير الهدى هدى محمد (أو الهدي هدي
وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة......)
(2) أنظر النهاية في غريب الحديث ج 1 ص 106 - 107.
28
يحمد صاحبه عليه بنص (من سن سنة حسنة)، وظهر لك أن العمل
المحدث المذموم يسمى أيضا بدعة، لقول عمر رضي الله عنه، (نعمت
البدعة)، وبهذا تعرف أن تسمية الشئ بالسنة أو البدعة لا ينفع
ولا يضر.
وقد مدح الله تعالى قوما في القرآن من النصارى بابتداعهم للرهبانية،
وذم الذين لم يرعوها حق رعايتها، فقال سبحانه
وتعالى: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية
ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق
رعايتها) (1) فمدحهم بالابتداع، وذمهم لعدم رعاية ما
ابتدعوه، تعليما لنا وتأديبا وحضا لنا وتهذيبا أنا إذا ابتدعنا شيئا
فينبغي لنا أن لا نبتدعه (2) إلا ابتغاء رضوان الله، وأن نرعاه حق
الرعاية.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 27: الحديد.
(2) في نسخة (نبتدع).
29
فكل بدعة يقال في مثلها: نعمت البدعة، وكل سنة يقال في صاحبها:
إنه سن سنة حسنة، فهي داخلة في هذه الآية، ومبينة لها،
وهي من العمل بالقرآن والسنة، (والله يقول الحق، وهو يهدي
السبيل) (1) وأكثر ما ضر مدعي العلم أنه يرى لمشائخه تعريفات
وحدودا يأخذها تقليدا، ويحمل الألفاظ القرآنية ولا نبوية عليها
وليس بمحتاج إلى ذلك، فالقرآن يبين بعضه بعضا، والسنة
كذلك، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلاف
كثيرا) (2)، فليس في القرآن اختلاف ولا في السنة، ولكن الاختلاف
في أفكار أخذت نزرا من العلم تقليدا، وأوهام اضطربت، ولم ترج
وعدا، ولم تخف وعيدا، فضلت وأضلت، وحلت من رار
الحنظل ما فيه حلت، وهذا عمر رضي الله عنه يقول: نعمت البدعة هذه
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن الله تعالى كتب عليكم صيام شهر
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 4: الأحزاب.
(2) 82: النساء.
30
رمضان، ولم يكتب عليكم قيامه، وإنما القيام شئ ابتدعوه فداوموا
عليه ولا تتركوه، فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة، فعابهم
الله تعالى بتركها، وتلا هذه الآية: (ورهبانية ابتدعوها.....
الآية) (1) أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن مردويه (2).
فانظر يا طالب الحق ما فهمه من الآية خير القرون. بل تدبر في
الآية نفسها، وما تفهمه أنت منها:
ودع عنك تقليد الرجال ولا تقل * هم عرفوا ما لم أنله بفطنة
وما زال المراء والجدال بين العلماء سابقا ولاحقا في كل شئ
من البدع المستحسنة. ونحن نحمل من منع من ذلك على السلامة.
فنقول: إنه ساء فهمه في هذا المقام فلم يعرف الفرق بين البدعة
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 27: الحديد.
(2) أنظر الدر المنثور في التفسير المأثور ج 6 ص 259 في تفسير قوله سبحانه
وتعالى: (ورهبانية ابتدعوها..). وتفسير ابن جرير الطبري
ج 27 ص 139.
31
الحسنة والبدعة السيئة، وبعد على فهمه معرفة حقيقة حديث:
(وكل بدعة ضلالة فظن أن المراد بكل بدعة على حقيقته، وغفل
عن حديث: (من سن سنة حسنة)، وعن قوله تعالى: (ورهبانية
ابتدعوها)، وذهل عن كون الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم بعث بمكارم الأخلاق، ورغب في فعل كل خير ترغيبا عاما
على كل حال، وفي كل حال، وأقر أقواما على أفعال من الخير
علمها منهم، ولم ينههم عن ذلك.
فلو نظر المنصف إلى هذه الأمور لعرف ممدوح البدعة من
مذمومها، ولعلم أن البدعة تطلق على ما أحدثه المرء من طاعة ومن
معصية، وأن ما أحدثه من الطاعة فهو ممدوح، وهي السنة الحسنة
التي يكون له أجرها وأجر من عمل بها. لكن اعرف الطاعة
ما هي؟.
فإن من صام الأبد مثلا لم يعمل طاعة بل معصية، ومن قام
الليل كله لم يعمل طاعة بل معصية. فالبدعة المذمومة هي المرادة
بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (وكل بدعة ضلالة وكل
32
ضلالة في النار) هي ما لم يكن عليه أمره صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم كما يفسرها حديث: (ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد) (1) فمن
جعل لنفسه أو لأتباعه - إن كان له أتباع - ذكرا لله تعالى معينا، أو
صلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو دعاء، أو نحو
ذلك، فهذا لم يفعل (ما لم يكن عليه أمرنا) بل هو داخل تحت
(اذكروا الله ذكرا كثيرا) (2) وتحت قوله: (من صلى علي واحدة صلى الله وملائكته عليه بها عشر مرات فليقل عبد أو ليكثر) (3) فإن
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري في صحيحه باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح
مردود ج 2 ص 959 رقم 2550. عن عائشة بلفظ قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)
(2) 41: الأحزاب.
(3) لم نجد له تخريجا بنفس اللفظ فيما تيسر لنا من مراجع، إلا أن له شواهد
كثيرة نحو ما أخرجه ابن حبان ج 2 ص 130 رقم 901. عن أنس بن مالك
قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى علي صلاة
واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات).
والترمذي ج 2 ص 355 عن أبي هريرة وغيرهم بطرق مختلفة لم نذكرها
للاختصار.
33
جعل العبد ذلك في وقت مخصوص كمن جعل الصلاة على النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عشر مرات بعد كل صلاة، فينبغي
له ملازمة ذلك وأن يرعاه حق رعايته لئلا يكون كمن قال تعالى
فيهم (فما رعوها حق رعايتها) وهو أيضا داخل تحت عموم قوله
تعالى: (فإذا فرغت فانصب) (1).
قال ابن عباس حبر الأمة الذي دعا له النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم أن يعلمه الله التأويل في قوله تعالى: (فإذا فرغت
فانصب). قال: (إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء).
أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن
مردويه، من طرق (2) وهي مفسرة لقوله تعالى: (فإذا قضيتم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 7: الشرح.
(2) أنظر الدر المنثور في التفسير المأثور ج 6 ص 617. وتفسير الطبري
ج 30 ص 151.
34
الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) (1). والصلاة على
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أفضل من الدعاء بلا شك ولا
ريب لمن يعقل، لأنها إيثار له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على
نفسك. ولا ريب أن من آثر مراد حبيب الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم على مراد نفسه أرفع درجة من الداعي لنفسه.
وشغلي بالحبيب بكل وجه * أحب إلي من شغلي بنفسي
ويدل عليه حديث (أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذن تكفى
همك ويغفر ذنبك، وحين قال: أجعل لك ربع صلاتي، قال:
وإن زدت فهو خير لك) (2) فقل لي أين من يفقه عن الله تعالى
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 103: النساء.
(2) أخرجه الترمذي بسنده عن الطفيل عن أبي بن كعب عن أبيه بلفظ: قال كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: (يا أيها
الناس أذكروا الله، أذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت
بما فيه، جاء الموت بما فيه)، قال أبي: قلت: يا رسول الله إني أكثر
الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: (ما شئت) قال: قلت: الربع،
قال (ما شئت فإن زدت فهو خير لك) قلت: (النصف، قال: (ما شئت،
فإن زدت فهو خير لك)، قال: قلت: فالثلثين، قال: (ما شئت، فإن زدت
فهو خير لك)، قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال (إذن تكفى همك،
ويغفر ذنبك). ج 4 ص 549 رقم 2457. وقال: حديث حسن صحيح.
والحاكم في المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 421. والذهبي في تلخيص
المستدرك وصححاه. وهو في كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال
ج 2 ص 276 رقم 3997.
35
وعن رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأين من ينصف من
نفسه وأين من يرجع إذا عرف الحق وأين من يستحي من رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيقف مع الناس إذا وجدهم
يصلون على نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ويصلي
معهم لعله يكون من (القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم) (1)،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) جزء حديث أخرجه البخاري ج 5 ص 2353 رقم 6044 عن أبي هريرة.
ومسلم باب فضل مجالس الذكر ج 5 ص 142 رقم 2689 عنه. وبمثله
ذكره الشيخ علي بن حميد القرشي في مسند شمس الأخبار من كلام النبي
المختار 1 ص 321 - 322 - الطبعة الأولى - 1407 ه.
36
ويخرج من دائرة (شقي من ذكرت عنده فلم يصل علي)؟! (1).
مجالس ذكر الله تنهاك أن ترى * بها ذاكرا لله ضعف العقيدة
إذا شرعوا فيها تزحزحت قائما * قيامك ذا قل لي إلى أي لعنة ألم
تسمع قول الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة
الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره
فرطا) (2)؟، ألم تسمع قول الله تعالى: - (فأعرض عمن تولى
عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك
هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (3) ألم تسمع
قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (من ذكرت عنده فخطئ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أنظر نيل الأوطار للشوكاني مج 1 ج 2 ص 287، ونسبه للطبراني عن جابر
وقد ذكر في كنز العمال ج 1 ص 491 رقم 2157 بلفظ: (من ذكرت عنده
فلم يصل علي فقد شقي).
(2) 28: الكهف.
(3) 29 - 30: النجم.
37
الصلاة علي خطئ طريق الجنة)؟ (1). وقوله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: (من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة) (2)
وقوله: خطئ بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة آخره همز
يقال: خطئ في دينه خطأ إذا أثم فيه، والخطأ الذنب والإثم (3)، وإذا
خطئ طريق الجنة لم يبق إلا طريق النار، أعاذنا الله تعالى منها،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ذكره الإمام الناطق بالحق أبو طالب الهاروني في أماليه ص 354. وكنز
العمال ج 1 ص 491 رقم 2158، بلفظ: (من ذكرت عنده فخطئ الصلاة
علي خطئ طريق الجنة). والسيوطي في الجامع الصغير ج 2 ص 519 رقم
8678 - 8679.
(2) أخرجه في شمس الأخبار بسنده إلى جعفر عليه السلام، عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة)
ج 1 ص 81. وأخرجه ابن حبان بلفظه عن ابن عباس ج 1 ص 294 رقم
908. وأخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ج 3 ص 307 رقم 2457 والجامع الصغير بلفظه ج 2 ص 561 رقم 9060.
(3) الإثم جمعه آثام - الخطيئة فعل ما لا يحل. أنظر المنجد ج 1 ص 4.
38
وحديث عائشة رضي الله عنها، وفيه: أنها سقطت منها الإبرة وهي تخيط
في الليل، فدخل النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم، فأشرقت أرجاء البيت بنور وجهه - صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم، وأرانا طلعته في الدنيا والآخرة - فأخبرته صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم فقال: (الويل كل الويل لمن لا يراني يوم القيامة
(ثلاث مرات)، فقالت رضي الله تعالى عنها: ومن الذي لا
يراك؟ فقال: (البخيل)، فقالت: ومن البخيل؟ قال: (الذي إذا
ذكرت عنده لم يصل علي فذلك البخيل) (1). اللهم صل وسلم عليه
(لم أجد له تخريجا فيما تيسر لي من مراجع إلا أن صاحب شمس الأخبار =
روى عن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي) ج 1 ص 81. والترمذي
ج 5 ص 515 رقم 3546 وقال: حسن صحيح. ويجب أن أنبه أن المؤلف
رحمه الله تعالى علم ما لم نعلم كعادة الأوائل في سعة اطلاعهم.
39
وعلى آله حتى يرضى.
وفي حديث آخر (خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها
وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت:
(قد أفلح المؤمنون) (1) فقال: (وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك
بخيل) (2) وحديث: (ألا أدلكم على شر الناس؟، وأسرق الناس،
وأبخل الناس، وأكسل الناس، وألأم الناس؟،! من ذكرت عنده فلم
يصل علي) (3)، وحديث: (من ذكرت عنده فلم يصل علي صلاة
تامة فليس مني، ولا أنا منه)، ثم قال: (اللهم صل من وصلني
واقطع من لم يصلني).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 1: المؤمنون.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير ج 12 ص 147 رقم 12723 عن ابن عباس
بلفظه. وهو في مجمع الزوائد ج 10 ص 397.
(3) هذا الحديث لم نجد له تخريجا باللفظ إلا إن له شواهد مقاربة في بعض المعنى
مثل الحديث المتقدم (البخيل من ذكرت عنده....) وغيرها. ثم إن المؤلف
عدل ثقة.
40
وحديث: إن جبريل عليه السلام قال: (من ذكرت عنده فلم
يصل عليك فأبعده الله فدخل النار، قل: آمين، فقال صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم: آمين) (1). فهل أحد أشقى ممن دعا عليه
جبريل الأمين، وأمن على دعائه الأمين من هو رحمة للعالمين!؟ فإنا
لله وإنا إليه راجعون.
(ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من
المجرمين منتقمون) (2).
(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (3).
(رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما
تصفون) (4).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أنظر شمس الأخبار ج 1 ص 82. والحاكم في المستدرك ج 4 ص 170 رقم
154. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والشفا للقاضي عياض
ج 2 ص 178. وذكره في كنز العمال ج 16 ص 42 رقم 43851.
22: السجدة.
(3) 98: الأعراف.
(4) 112: الأنبياء.
41
فإذا ران على قلب هذا الغافل كسبه، وخذله بسبب إعراضه
عن الحق ربه - عاد يدعو الناس إلى ترك الصلاة على النبي صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم، ويحسن لهم تركها، ويمنعهم عن ذكر الله تعالى
بالصلاة على حبيبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في
المساجد، (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه
وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في
الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (1)، فقد خطئ طريق
الجنة إلى طريق النار، ثم لم يكفه ذلك إلى عاد يدعو (الناس) إلى
النار مقتفيا سنن من يقول فيهم تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى
النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم
القيامة هم من المقبوحين) (2). والله سبحانه وصف المنافقين
بقوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 114: البقرة.
(2) 41 - 42: القصص.
42
وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين
هم الفاسقون) (1). وقوله: (ويقبضون أيديهم) كناية عن البخل، والبخيل
كل البخيل من ذكر عنده أكرم من أكرم الله تعالى به العالمين فلم
يصل عليه. فكيف حال الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل،
ولقد علمنا بجماعة يصنعون هذا، وما ذاك إلا أنهم اتبعوا أهواءهم
ولما لم ينتفعوا بعلمهم ضرهم وانقلب وبالا عليهم. وهم يلبسون
على الناس بتسمية الصلاة على نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم بدعة تارة، وتارة رفع الصوت بها يشغل المصلين، وأخرى
بأن الاشتغال بالأذكار الواردة أولى، ويدلون على من استخفوه بهذه
الشبه. فأما كونها بدعة ففيما تقدم، وفيما سيأتي كفاية.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 66: التوبة.
43
وأما رفع الصوت فقد روى الإمام السيد أبو طالب (1) في تيسير
المطالب حديثا سنده إلى المصطفى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
(ارفعوا أصواتكم بالصلاة علي وعلى أهل بيتي، فإنها تذهب
النفاق من القلب) (2)، ففيه كفاية لمن كان متمسكا بحبل الله المتين،
قابلا لما رواه أهل بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما، أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من
المكتوبة - كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم. وفي لفظ (ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني أخو الإمام المؤيد بالله من أئمة
الزيدية العظام ولد سنة 340 ه وتوفي 424 ه له مصنفات كثيرة منها الإفادة
في تأريخ الأئمة السادة - مخطوط - وجوامع الأدلة في أصول الفقه.
مخطوط - وجوامع النصوص - فقه - وغيرها.
(2) أمالي أبي طالب ص 355.
44
تعالى عليه وآله وسلم إلا بالتكبير) (1). وفيه لمن تمسك بما رواه
أئمة الحديث.
وأما نحن فنقبل ما رواه أئمة أهل البيت ونقدمه على غيره، ونقبل
ما رواه أئمة الحديث ما لم يكن مرويا عن خارجي (2) أو ناصبي (3)
مظهر لعداوة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، فلا نقبله ولا
كرامة. والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: (ومن أظلم ممن
منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) (4)، ولم يخص
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري ج 1 ص 288 رقم 805 - 806 باب الذكر بعد الصلاة. ومسلم
ج 2 ص 54 رقم 120 - 121 - 122 عن ابن عباس.
(2) الخوارج طائفة إسلامية سميت بهذا الاسم لخروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام بعد التحكيم في حرب صفين. أنظر تأريخ المذاهب الإسلامية ص 60.
(3) النواصب والنصبة: أهل النصب المتدينون ببغضه علي عليه السلام لأنهم نصبوا له أي عادوه
القاموس المحيط ص 177.
(4) 114: البقرة.
45
ذكرا من ذكر، ويقول: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها
اسمه) (1)، ولم يخص أيضا.
فتبا لمن منع ما أذن الله تعالى فيه. وأما كون الاشتغال بالوارد
أولى، فالجواب عنه من وجوه:
أحدها - أنه لا مانع من الجمع بين الوارد وبين الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
ثانيها - أن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
بعد الصلاة من الوارد أيضا في عمومات (فإذا قضيتم الصلاة
فاذكروا الله) (2)، (فإذا فرغت فانصب).
ثالثها - أنها بعد شروع الناس فيها أولى من كل ذكر لأنها
تصير واجبة.
والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
عند ذكره - تقدم منها ما فيه كفاية، وهي
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 36: النور.
(2) 10: الجمعة.
46
أكثر من أن تحصر. ويكفي حديث: (من ذكرت عنده فلم يصل
عليك فأبعده الله فدخل النار) (1)، وحديث: (شقي من
ذكرت عنده فلم يصل علي) (2) وحديث: (رغم أنف رجل
ذكرت عنده فلم يصل علي (3) فهو دعاء عليه بالإبعاد والشقاء
والإرغام، وهو صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لا يدعو إلا على من أخل بواجب، أو فعل محرما.
رابعها - أن حديث (ما جلس قوم مجلسا لن يذكروا الله
تعالى فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) تقدم تخريجه.
(2) لم نجد له تخريجا بلفظه إلا أن له شواهد بنحو ما ذكر السيوطي في جامعه
الصغير ج 2 ص 519 رقم 8678 بلفظ (من ذكرت عنده فلم يصل علي
فقد شقي)، قال: رواه ابن السني عن جابر وحسنه. وتقي الدين الهندي
في كنز العمال ج 1 ص 491 رقم 2157.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك ج 1 ص 734، عن أبي هريرة.
47
إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب) (1) - من
أقوى الأدلة على فعلها بعد الصلاة، لأنه مجلس قد جلسوه.
ولهذا كانت الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم واجبة في التشهد، حتى لا نجلس مجلسا لا نصلي فيه على
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وفي رواية (ما جلس قوم مجلسا فتفرقوا عن
غير الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح
الجيفة) (2)، ومن هذا تؤخذ الصلاة على النبي صلى الله تعالى
--------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه أحمد في المسند ج 3 ص 489 رقم 9972 عن أبي هريرة. وكذلك ابن
حبان ج 2 ص 352 رقم 591 و 592. وفي الترمذي عن أبي هريرة بلفظ
(ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان
عليهم ترة (حسرة وندامة) فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)
ج 5 ص 430 رقم 3380.
(2) أخرجه في المستدرك ج 1 ص 668 رقم 1808 عن أبي هريرة. وكنز العمال
عنه بزيادة (لم يصلوا على نبيهم...) ج 9 ص 149 رقم 25463.
والجامع الصغير ج 2 ص 424 رقم 78886، عن أبي هريرة وأبي سعيد
بزيادة (إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)
48
عليه وآله وسلم في التشهد الأول والثاني.
خامسها - أنه قد ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (من صلى علي مائة
صلاة حين يصلي الصبح قبل أن يتكلم قضى الله له مائة حاجة،
عجل له منها ثلاثين حاجة، وأخر له سبعين وفي المغرب مثل
ذلك) (1). رواه أحمد بن موسى الحافظ.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) لم نجد له تخريجا بهذا اللفظ وله شواهد مقاربة، منها ما ذكره في كنز
العمال ج 1 ص 505 رقم 2232 عن جابر بلفظ (من صلى علي في يوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة سبعين منها لآخرته وثلاثين منها لدنياه)
قال: ينظر البخاري عن جابر، ورواية أخرى عن أنس بلفظ مقارب
وبزيادة (يوم الجمعة) وزيادة في آخر الحديث. قال:
رواه الديلمي عن أنس. كنز العمال ج 1 ص 507 رقم 2242. ورواية
أخرى في نفس الجزء ص 506 رقم 2237. ورواه البيهقي في الشعب
عن ابن عساكر عن أنس ج 2 ص 210 رقم 1554، وأخرجه ابن المغازلي
بلفظ مقارب ص 295 في كتابه مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام
49
ولا يخفى أن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم، كائنة بعد كل صلاة في جميع مساجد اليمن والحرم المكي
والحرم المدني، بل والظاهر أنها في جميع أقطار الإسلام، فأما في اليمن
والحرمين فقد شاهدنا ذلك، وأئمة العلم من أهل البيت وغيرهم يشاهدون
ذلك ولا ينكرونه، وكيف ينكرون ما ينكره
هؤلاء الخفافيش من الصلاة على نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟!.
فهذه مسألة أجمع عليها العام والخاص، بل لو ادعى مدع أن الظاهر أنها من
أيام النبوة وأنها حفظت كما حفظ التسبيح ثلاثا
وثلاثين، والتحميد والتكبير كلها - لم تكن دعواه بعيدة. وإذا كان
هذا عمل أهل الإسلام في سائر أقطار المسلمين، فكيف يقال: إن
كونها تكرر عشرا أو أكثر من سائر المصلين، مما ينهى عنه؟ ولو
تكلمنا عن ذلك لاحتمل مجلدات، وفي هذا كفاية للمنصف. وأما
50
من قد انقلب قلبه فلا خطاب لنا معه.
واعلم أن منكر هذه الأمور من الطاعة: إما مجتهد أخطأ فله
أجر، أو عديم فهم مقلد لمشائخه كلما قادوه إلى شئ انقاد، أو
مطبوع على قلبه غافل عن ذكر ربه، إذا ذكر الله اشمأز فؤاده يتستر
بإيهام حسن القصد.
وهذا يعرف بأنه لا ينكر البدع التي ينبغي إنكارها، فتراه يحمل
على رأسه عمامة كالبرج، ويجعل أكمامه كالخرج (1)، ويزعم أن
هذه من مراعاة أبهة العلم، والتميز عن الجاهلين، وربما حضر
الموقف يغتاب فيه المسلم، وتنتهك فيه حرمته، ويخوض في اللغو
مع الخائضين. والله تعالى يقول في صفة المؤمنين (والذين هم عن
اللغو معرضون) (2)، (وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه) (3).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الخرج وعاء معروف يوضع على ظهر الدابة جمعه خرجه. أنظر المنجد
ج 1 ص 169.
(2) 3: المؤمنون.
(3) 55: القصص.
51
وربما اشتغل في الموقف وشغل من لديه بالخوض في بيت من
الشعر أو نحوه، مع انشراح خاطر، وتنميق الكلمات، وتزويق (1)
للعبارات، وتفتيش عن المضحكات.
فإذا قيل له: تعال بنا إلى جنات ذكر الأحبة تجتني روحا
ونشرا، ونقطف من رياض الحب نيل المطالب والمنى ثمرا وزهرا -
نفر نفور الشموس (2)، واستشاط (3) غيظا.
(فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة) (4)، وهذا من شياطين الأنس بلا ريب،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) زوق الكلام، زينه وحسنه، والبيت: نقشه، والدرهم: زأبقه. أنظر المنجد
ص 319.
(2) الشموس من الدواب: الذي إذا نخس لم يستقر. أنظر لسان العرب
ج 7 ص 193 - 194.
(3) أشاطت القدر شيطا: احترقت، وشوط القدر وشيطها: إذا أغلاها. أنظر
لسان العرب ج 7 ص 25.
(4) 4 - 6: المدثر.
52
ومخالطتك له كمخالطة الشاة للذئب. ففر منه فرارك من الأسد، فما
خالطه صالح إلا فسد، وطريقته في الوسوسة طريقة إخوانه من
شياطين الجن، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالشر، لكنه يجعله في
صورة الخير، كما قال إبليس: (هل أدلك على شجرة الخلد وملك
لا يبلى) (1)، (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (2). ولهذا
يقول الله سبحانه: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم
ليجادلوكم) (2) فشياطين الإنس يجادلون بوحي شياطين الجن.
قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) (4)، فإياك أن يغرك
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 121: طه.
(2) 21: الأعراف. (3) 121: الأنعام.
(4) 112: الأنعام.
53
زخرف أقوالهم، (فالعلماء ورثة الأنبياء) (1). ولكل وارث عدو من
شياطين الإنس والجن (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول
غرورا) (2).
والعجب أنه كيف يدعي هذا المنكر محبة النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم التي هي شرط الإيمان مع إنكاره لذكره، وكراهيته
لذلك؟ (ومن أحب شيئا أكثر من ذكره) (3) قول الصادق المصدوق.
فعلامة صدق الحب لزوم ذكر المحبوب. فلو ادعى رجل أنه
يحب زيدا، وكان كلما سمع ذكر زيد نفر نفور المغضب الحنق (4).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) رواه البخاري في التأريخ الكبير عن أبي الدرداء
قسم 2 ج 4 ص 337 = رقم 3229، وفي الكنز ج 10 ص 135 رقم 28679 عن أنس.
(2) 112: الأنعام.
(3) ذكره في كنز العمال ج 1 ص 425 رقم 1829، وأورده السيوطي في الجامع
الصغير ج 2 ص 478 رقم 8312 وقال ضعيف، والحديث عن عائشة.
(4) الحنق: شدة الاغتياظ. المجند ص 154. والحنق: الغيظ والجمع حناق. مختار الصحاح ص 159.
54
لشهدت حاله ببطلان دعواه والله المستعان.
ومثل هذا إنكارهم لقراءة الفاتحة أم القرآن، عند ملاقاة الإخوان، وفي الموقف.
ويسميها المنكر بدعة. ولعمري إن منكر
هذا لحقيق بأن يذم بكل لسان، ولجدير بأن يسمى قرة عين الشيطان،
فإن الله سبحانه يقول في كتابه: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله
وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) (1) فهؤلاء
تليت عليهم آيات الله فلم تزدهم إيمانا، بل زادتهم رجسا إلى
رجسهم، ويقول: (وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات
الرحمن خروا سجدوا وبكيا) (2).
ويقول سبحانه وتعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (3)،
ويقول تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 2: الأنفال.
(2) 58: مريم.
(3) 17: القمر.
55
سيدخلون جهنم داخرين) (1). والفاتحة ثناء ودعاء وقرآن، ويقول
تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا
بحمد ربهم وهم لا يستكبرون).
ويقول تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة
للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (2).
وأفضل الذكر القرآن، والفاتحة أم القرآن، وهي الشافية
الكافية الواقية الوافية تكفي عن (3) غيرها، ولا يكفي غيرها عنها.
وفي الحديث هي (السبع المثاني، وهي القرآن العظيم (4)،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 60: غافر.
(2) 82: الإسراء.
(3) في النسخة (أ - ب) تكفي من غيرها.
(4) البخاري ج 4 ص 1623 رقم 4204 وص 1704 رقم 4370 وص 1738 4370 وص 1738
رقم 4426 وص 1913 رقم 4720. ومسند أحمد ج 6 ص 257 رقم 17868 وكلهم عن أبي سعيد بن المعلى، و ج 3 ص 459 رقم 9795 -
9797 عن أبي هريرة. وأبو داود ج 2 ص 149 رقم 1457. والترمذي
ج 5 ص 277 رقم 3124 كلاهما عن أبي هريرة. وكنز العمال ج 2 ص 3
رقم 2884 باختصار. وفتح القدير ج 1 ص 559 باختلاف. وفي كنز
العمال ونسبه للدارقطني والبيهقي في السنن بلفظ: (إذا قرأتم الحمد فاقرأوا
بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن وأم الكتاب
والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها) ج 7 ص 437 رقم 19665.
والدار المنثور ج 1 ص 20 وقال في الدر المنثور إن الدارقطني
صححه.
56
وقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: (وما يدريك أنها
رقية؟) (1)، (وكل حرف من القرآن بعشر حسنات) (2)، (ومن قرأها
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الرقية هي العوذة جمعها: رقى. القاموس ص 1664. وروى الحديث
الإمام أحمد في المسند ج 4 ص 5 رقم 10985 عن أبي سعيد الخدري ونص
الحديث أن أناسا من أصحاب رسول الله كانوا في سفر فمروا بحي من
أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فعرض لإنسان منهم في
عقله - أولدغ - قال: فقالوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: هل فيكم من راق؟ فقال رجل منهم: نعم، فأتى صاحبهم فرقاه
بفاتحة الكتاب فبرأ فأعطي قطيعا من غنم، فأبى أن يقبل حتى أتى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال: يا رسول الله والذي بعثك
بالحق ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، قال: فضحك وقال: (وما يدريك أنها
رقية؟) قال: ثم قال: (خذوا واضربوا لي بسهم معكم). والترمذي
ج 4 ص 348 رقم 2064. والسنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 124. والحاكم
ج 1 ص 559.
(2) لم نجد له تخريجا بهذا اللفظ فيما تيسر لنا من مراجع إلا أن له عدة =
شواهد بالمعنى منها ما رواه الترمذي بسنده عن ابن مسعود، لا أقول آلم
حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، ج 5 ص 161 رقم
2910. وهو في كنز العمال ج 1 ص 519 رقم 2322، وفيه أيضا
ج 1 ص 526 رقم 2356 من حديث طويل (فاتلوه فإن الله تعالى يأجركم
على تلاوته بكل حرف عشر حسنات).
57
فكأنما قرأ القرآن كله) (1). فمن صد عنها حسبه الصد والقلي.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ذكر الطبرسي في تفسيره في فضلها أن أبا الحسين الخبازي المقري في كتابه
القراءة روى بسنده إلى أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي
القرآن.....) وروى من طريق آخر هذا الخبر بعينه إلا أنه قال: (كأنما قرأ
القرآن) ج 1 ص 48، طبعة أولى - مؤسسة الأعلمي - بيروت. وذكر في
الدر المنثور ج 1 ص 24 أن أبا عبيد أخرج في فضائله عن الحسن قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ
التوراة والإنجيل والزبور والفرقان)
58
ومن نهى عن تلاوتها فيكفيه ما هو فيه من البلاء، ويحق لهذا الناهي
أن ينشد:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى * بي الحال حتى صار إبليس من جندي
(ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) (1)، (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين
الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا * وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا) (2). اللهم
اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وأعذنا من نزغات
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 40: النور.
(2) 45 - 46: الإسراء.
59
الشياطين.
وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا التقى الرجلان لا
يفترقان حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر (1). ويا عجبا
لقوم يشغلون أوقاتهم بدقائق النحو، وزغل (2) الصرف، ووساوس
المنطق، وفضول الكلام، (وإذا قرأ عليهم القرآن لا
يسجدون) (3).
ويسمون ما امتن الله تعالى به على رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
في قوله (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (4) - بدعة.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أنظر فتح القدير قال: أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب
ج 5 ص 491 تفسير سورة العصر. وابن كثير في تفسيره وعزاه إلى
الطبراني... ج 4 ص 547.
(2) (زغل - زغلا) الماء: صبه دفعة دفعة. الشراب: مجه. الصبي أمه:
رضعها. المنجد 307.
(3) 21: الانشقاق.
(4) 87: الحجر.
60
لا تخدعنك اللحي (1) والصور * تسعة أعشار من ترى بقر
في شجر السرو منهم مثل * له رواء وما له ثمر
(وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا
حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) (2). ويا ليت شعري ما يقول هؤلاء
في هذه السورة إذا قرأها العبد بإخلاص ليستشفي بها من داء أو
يرقي بها مريضا، كما ورد في (ما يدريك أنها رقية؟) (3)، فهل يكتبها
ملك اليمين أو ملك الشمال؟، فإذا كتبها ملك الشمال فماذا يكتب ملك
اليمين بعد ذلك؟، أيكتب كلامهم في اللغو والزور
والبهتان؟!.
قال تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن
--------------------------------------------------------------------------------
(1) جمع لحية لحي بكسر اللام وضمها وكسر الحاء أما اللحاء مكسور ممدود
قشر الشجر. أنظر مختار الصحاح ص 595. والقاموس ص 1714. وفي
المخطوط: (اللحا).
(2) 104: المائدة.
(3) تقدم تخريجه.
61
سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * وإذا
تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا
فبشره بعذاب أليم) (1) وإذا كانت تلاوة الكتاب بدعة، وكل بدعة
ضلالة، وكل ضلالة في النار، فأي عمل بعد ذلك يوصل الجنة،
وأي عمل بعد ذلك ينجي من النار؟!. (ما يفعل الله بعذابكم إن
شكرتم وأمنتم وكان الله شاكرا عليما) (2).
وفي الحديث: (ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا
كان الذي أعطى أفضل مما أخذ) أخرجه ابن ماجة (3). وفي آخر: (ما
أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها، إلا وكان ذلك الحمد
أفضل من تلك النعمة، وإن عظمت) أخرجه الطبراني في الكبير (4).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 6 - 7: لقمان.
(2) 147: النساء.
(3) ج 2 ص 1250 رقم 3805 وفيه: أعطاه بدل أعطى.
(4) رواه الطبراني ج 1 ص 193 رقم 7794 عن ابن أمامة.
62
وفي آخر: (لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم
قال الحمد لله، لكانت الحمد لله أفضل من ذلك كله). أخرجه
ابن عساكر (1).
وفي آخر: (إن الله يحب أن يحمد) أخرجه الطبراني (2)، وفي
آخر: (أول من يدعى إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء
والضراء) (2) أخرجه الطبراني (4) والحاكم في المستدرك (5)،
والبيهقي.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أنظر الجامع الصغير ج 2 ص 365 رقم 7398 عن أنس. وكنز العمال
ج 3 ص 253 رقم 6406 وقال: رواه ابن عساكر عن أنس.
(2) أنظر الطبراني الكبير ج 1 ص 283 رقم 825 عن الأسود بن سريع. وكنز
العمال ج 3 ص 253 رقم 6409. ومجمع الزوائد ج 10 ص 95.
(3) أنظر الحاكم ج 1 ص 502. والطبراني ج 12 ص 19 رقم 12345.
(4) ج 12 ص 19.
(5) ج 1 ص 502.
63
وفي آخر: (إن أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون) أخرجه
الطبراني (1). وفي آخر: (إن للطاعم الشاكر من الأجر مثل ما
للصائم الصابر) أخرجه الحاكم في المستدرك (2). وفي آخر: (الحمد
رأس الشكر. ما شكر الله عبد لا يحمده) أخرجه عبد الرزاق (3)،
والبيهقي (4).
وفي آخر: (من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله ومن استبطأ
الرزق فليستغفر الله، ومن أحزنه أمر فليقل: لا حول ولا قوة إلا
--------------------------------------------------------------------------------
(1) في الكبير ج 18 ص 124 رقم 254 عن عمران بن حصين.
(2) ج 1 ص 422 بلفظ (الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر).
(3) رواه عبد الرزاق في المصنف ج 10 ص 424 رقم 19574 عن عبد الله بن
عمر.
(4) رواه الإمام زيد في مسنده ص 442 وكنز العمال ج 3 ص 259 رقم
6442، قال رواه البيهقي عن علي عليه السلام. والجامع الصغير ج 2 ص 504
رقم 8541 عن علي عليه السلام.
64
بالله أخرجه البيهقي في الشعب (1)، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وفي آخر: (أكثروا من الحمد لله فإن لها عينين وجناحين تطير
بهما في الجنة تستغفر لقائلها).. أخرجه الديلمي (2). وفي آخر: (أما
إن ربك يحب الحمد) وفي رواية (المدح) (3). أخرجه أحمد
والبخاري في الأدب، والنسائي، وابن ماجة وغيرهم.
والأحاديث في المعنى أكثر من أن تحصر، وكلها صادقة على
سورة الحمد، فأفضل الحمد ما حمد به نفسه.
فعليكم أيها الإخوان بقراءة الفاتحة في السراء والضراء، وعند
إكمال الطعام، وعند القهوة، وعند القات، وعند ملاقاة الإخوان،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ج 1 ص 441 رقم 651.
(2) كنز العمال ج 3 ص 261 رقم 6405. وقال رواه الديلمي عن ابن عمر.
(2) أنظر مسند أحمد ج 5 ص 303 رقم 15586. والحاكم ج 3 ص 614.
والطبراني ج 1 ص 282 رقم 821 و 822 كلها عن الأسود بن سريع.
ومجمع الزوائد ج 8 ص 118. والجامع الصغير ج 1 ص 207 رقم 1584
بلفظ (المدح). وكنز العمال ج 3 ص 855 رقم 8947.
65
وزيارة المرضى، وفي كل حال، وعلى كل حال، (ولا تغلوا
في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا
كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) (1)، لتكونوا من الحمادين، الذين
يحمدون الله سبحانه وتعالى على السراء والضراء، كما هو وصف
أمة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فنحن مأمورون
بالحمد، والحمد متفاوت مراتبه، وأفضله ما حمد الله تعالى به نفسه
في أم الكتاب، والحمد لله رب العالمين. ومثل ذلك ما ينكره أهل
الغفلة من الاجتماع لذكر الله سبحانه. ويسمون ذلك تارة بدعة
وتارة يقولون إن رفع الصوت بدعة، وبالجملة فليس همهم سوى
المنع من ذكر الله تعالى الذي قامت به السماوات والأرض.
والسخرية بأهل الذكر، والاستهزاء بهم، واغتيابهم في المواقف نفورا
عن الحق، وكبرا عن مخالطة الضعفاء والمساكين، فتراهم
يجالسون الكبراء والأمراء على الغيبة والخوض في الباطل، فإذا
.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 77: المائدة
66
رأوا ضعفاء الناس الذين هم أتباع الرسل قد اجتمعوا للذكر نفروا،
(وإذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) (1).
قال تعالى في القائلين في النار: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا
فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من
عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين *
فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون *
إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) (2).
فتأمل هؤلاء أهل الذكر كيف كانوا رحمة لمن ذكر الله تعالى
معهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وعذابا على الذين
اتخذوهم سخريا، حتى أنسوهم ذكر الله تعالى، لأنهم اشتغلوا
بالسخرية بهم، والتفكه بأعراضهم حتى أنسوهم ذكر الله تعالى
فكانوا مذكرين لقوم ومنسين لآخرين. وهكذا القرآن يقول الله
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 35: الصافات.
(2) 107 - 111: المؤمنون.
67
تعالى فيه: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا
يزيد الظالمين إلا خسارا) (1). وأمرنا الله تعالى بقوله: (يا أيها
الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) (2).
وقال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) (3).
ومن المعاونة على البر والتقوى الاجتماع على ذكر الله
تعالى. وأخرج مسلم حديث) لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم
الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن
عنده) (4).
وأخرج الطبراني حديث (ليبعثن الله أقواما يوم القيامة في
--------------------------------------------------------------------------------
(1) 82: الإسراء.
(2) 41 - 42: الأحزاب.
(3) 2: المائدة.
(4) ج 5 ص 247 رقم 2700. وابن ماجة ج 2 ص 1245 رقم 3791 عن أبي
هريرة، وأبي سعيد الخدري.
68
وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا
شهداء، هم المتحابون في الله من قبائل شتى يجتمعون على ذكر
الله يذكرونه) (1).
وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (ألا أدلكم على خيار
هذه الأمة الذين إذا رآهم الناس ذكروا الله وإذا ذكر الله عندهم
أعانوا على ذكره) (2) أخرجه ابن شاهين.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن سلمان رضي الله عنه قال:
كنت في عصابة يذكرون الله تعالى فمر بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم فقال: (ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل
عليكم، فأحببت أن أشارككم فيها) (3).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أنظر مجمع الزوائد ج 10 ص 77 عن أبي الدرداء.
(2) أنظر كنز العمال ج 1 ص 440 رقم 1900 قال: رواه ابن شاهين في
الترغيب في الذكر عن محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني عن أبيه عن
نهشل عن الضحاك عن ابن عباس، قال: وهذا إسناد واه.
(3) ج 1 ص 122.
69
وأخرج أحمد في الزهد. وسعيد بن منصور: (أكثروا ذكر الله
حتى يقول المنافقون إنكم مرائون) (1). وأحاديث فضل الذكر كثيرة،
وهي بين أهله شهيرة، والله سبحانه يكفينا شر أقوام (يراءون
الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) (2).
اللهم إنا نعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.
* * * *
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أنظر الجامع الصغير ج 1 ص 179 قال: رواه أحمد بن حنبل في الزهد
والبيهقي في الشعب عن أبي الجوزاء مرسلا وضعفه.
(2) 142: النساء.
70