إرشاد إلى سبيل الرشاد نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إرشاد إلى سبيل الرشاد - نسخه متنی

قاسم بن محمد منصور بالله؛ محقق: محمد يحيي سالم عزان

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الإرشاد إلى سبيل الرشاد


 


المنصور بالله القاسم


الإرشادإلى سبيل الرشاد
بحث في حكم الاختلاف في الدين
1

الطبعة الأولى
1417 ه‍ - 1996 م

2

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد الأمين
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد..
فإن كتب الإمام القاسم بن محمد تتميز بالدعوة إلى الوحدة
والاعتصام بحبل الله، وذم التفرق في الدين، ومعالجة أسباب الخلاف،
ومناقشة مختلف الآراء بموضوعية مستمدة من الكتاب والسنة، وواقع
الحياة بعيدا عن الفرضيات البعيدة والتحكمات الباردة، فلذا تعتبر تلك
المؤلفات حية على مر العصور مطلوبة في مختلف الأزمنة، لأنها تعالج
الجوانب الفكرية والحياتية الدائمة، وتعتبر محاولة لتقديم رؤية محددة لحل
كثير من المشاكل التي يعاني منها المسلمون جيلا بعد جيل.
ومن تلك المشكلات مشكلة الاختلاف في الدين، فإن المشكلة
قد احتلت مساحة كبيرة في الثقافة الإسلامية، حتى اعتبرها البعض
حقيقة من حقائق الدين الإسلامي، وأن الدين هو الذي أعطى إشارة

3

خضراء لذلك الاختلاف، واعتبر البعض الآخر أن الاختلاف ضرورة من
ضرورات الحياة، وإن لم يكن مشروعا من قبل الدين، إلى غير ذلك من
الآراء، وقد أيد كل من المختلفين رأيه بحجج وبراهين سنقف على
طرف منها في طيات هذا الكتاب.
وسنتعرض في هذه المقدمة للحديث عن ترجمة المؤلف، وكلمة عن
موضوع الخلاف، وأخرى عن أحوال هذا الكتاب، أسأل الله أن يوفقنا
لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على سيدنا وآله الطيبين
الطاهرين.

4

الاختلاف في الدين أسبابه ونتائجه
عوامل المفارقات التي يعيشها الإنسان كثيرة، منها ما هو تكويني
تسبب عن وجود الإنسان ذاته، مثل: النسب، والانتماء القبلي،
والموطن، والتركيب الخلقي، كالذكورة والأنوثة، ومنها ما هو مكتسب
كوجهة التفكير، ونوع العمل، والانتماء السياسي، والنزعات النفسية،
وغير ذلك، وتلك المفارقات وما يتعلق بها عوامل رئيسية في نشوء
الخلافات بين الشعوب والأمم والأجيال وعلى حسب الحساسية
وجسامة الحدث يكون حجم الخلاف.
وقد جاء دين التوحيد ليلف تلك المفارقات في إطار واحد، ويصهر
المجتمعات والجماعات المختلفة في منظومة واحدة جعل غايتها العقيدة،
ومنهجها العبادة ومرجعها الشريعة، وبذلك أخضعت سائر المفارقات
لهذا الإطار الجديد.
ولم يكن ذلك التوحيد على حساب حريات الأفراد أو وسيلة
لحصارهم، فالحرية - لا سيما حرية التفكير - مطلب ضروري لتفجير
الطاقات وتنشيط الابداع والعطاء الفعال، وقد تميز دين التوحيد بأنه
حفظ المعادلة بين الحرية والانضباط، ولم يسحق أحد الطرفين لحساب
الآخر، لأن الحرية - سواء في التفكير أو في العمل - إذا كانت تمارس في
نطاق مضبوط لا يسمح بالتعدي والطغيان، فلن تؤدي إلى التفكك
والتفرق، وذلك هو ما نادى به الدين ودعا إليه (واعتصموا بحبل الله

5

جميعا ولا تفرقوا)، وبهذا يلوح أن المنهي عنه هو التفرق لا الاختلاف
، إلا إذا كان أي نوع من الاختلاف سيؤدي - إلى التفرق.
وإذا عدنا إلى فحص الإطار التوحيدي الذي وضعه الدين
، وجدنا أنه قد تعرض لشئ من الاختلال:
أما في مجال العقيدة فإنها - وإن حفظت في إطارها العام - فقد أصابها
شئ من التصدع والاختلاف، رغم أن العلماء - قديما وحديثا - ظلوا
ينادون بأنه لا يجوز الاختلاف في مسائل العقيدة، وأنها من الدوائر المغلقة
التي لا يدخلها الاجتهاد والترجيح.
وأما بالنسبة لمرجعية الشريعة فقد حسم الخلاف - نظريا - بالاتفاق
على مرجعية الكتاب والسنة، ولكنه ما زال موجودا بالفعل بسبب
الاختلاف في منهج فهمهما وطرق ثبوت السنة.
وأما ما يتعلق بمنهج العبادة وممارسة الشعائر الدينية - القولي منها
والعملي، الفردي منها والجماعي - فقد توسع فيها لأسباب
كثيرة.
ومنذ زمن بعيد ظل المفكرون يبحثون عن أسباب الفرقة والخلاف
الذي مزق شمل الأمة الإسلامية وذهب بوحدتها، فتارة تتهم الحرية،
وتارة الأنانية، وتارة التمرد على منهج الدين القويم، ويبدو لي أن من أهم
أسباب الاختلاف سواء في العقيدة وغيرها ما يلي:

6

1 - تفاوت الناس في فهم النصوص، وطرق التفكير بتفاوتهم في
مقدار التحصيل العلمي وتنوع الواقع المعاش.
2 - التوسع في الكلام عن بعض التفاصيل التي هي محل نظر للجميع
ولا يجوز التقليد فيها، ولم ينص القرآن على شئ منها.
3 - التساهل في التعامل مع الألفاظ والمصطلحات الشائعة لا سيما
مصطلحات الخصوم، حيث تحمل - في غالب الأحوال - على غير مراد
واضعوها.
4 - الخلط بين العقائد المستمدة من روح القرآن الكريم، وبينما
هو مجرد نتيجة للالتزامات والفلسفة الكلامية البحتة.
5 - التعصب الأعمى للمذاهب، وتقديم مقالات الأصحاب على
الحقائق التي أتانا بها صحيح السنة ومحكم الكتاب.
6 - ليس كل الناس على وتيرة واحدة من التقوى والورع
والاستقامة، فلذا تغلب على بعضهم الأهواء وتتحكم فيهم النزاعات
النفسية.
7 - وقوف السياسة وراء تكون بعض الأفكار والدفع بها إلى الإمام
لأهداف مشبوهة.
ولما كان الخلاف واقعا ملموسا في حياة المسلمين سلفا وخلفا وكان
النهي عن التفرق ثابت في الكتاب والسنة لا شك في ذلك، اختلفت

7

الآراء في تجويز الخلاف في مسائل الفروع وعلاقته بالتفرق في الدين،
ونحو ذلك، ويمكننا أن نتصور تلك الآراء في اتجاهين:
أحدهما: يعتبر الخلاف في العمليات باب رحمة وتوسعة على الأمة،
لا علاقة له بالتفرق والتنازع، لأن الاختلاف أمر واقع ولا يؤدي
بالضرورة إلى التفرق، بل إن تبادل الحمل على السلامة وطلب المعذرة
للمخالف يضيق الشقة ويساعد على التوحيد.
الثاني: يعتبر أن الخلاف في المسائل الدينية الأصولية أو الفروعية
ينعكس على وحدة الأمة وألفتها، بحيث يؤدي إلى التفرقة والتنازع،
وبذلك يمنع من تعدد الآراء فيها، ويعتبر الحق مع واحد.
وقد أراد الإمام القاسم بن محمد من خلال كتابه هذا أن يقرر هذه
الرؤية، أو يمنع - على الأقل - من القول بالتصويب وشرعية الاختلاف،
وإن كان يعتقد نجاة المختلفين من الإثم إذا كان اجتهادهم عن نظر
وتدبر، وهذا ما سنتمكن إن شاء الله من معرفة أبعاده من خلال هذا
الكتاب.
ولكي تكون الرؤية أكثر وضوحا فلا بد أن نترك أنصار الاتجاه الأول
يعبرون عن رأيهم بحرية ووضوح، فلذا سوف أورد مبحثا قيما من
كتاب (الإنتصار) للإمام المجتهد النظار يحيى بن حمزة عن ذلك وبالله
التوفيق.

8

قال الإمام يحيى بن حمزة - عليه السلام - في مقدمة كتاب (الإنتصار)
ما لفظه:
المقدمة الثالثة
في تصويب الآراء في المسائل الخلافية والأنظار الاجتهادية
واعلم أن هذه المقدمة لا بد للفقيه الخالي من علم الأصول، من
إحرازها والإحاطة بها، لأوجه ثلاثة:
أما أولا: فلأن نعلم فضل هذا الرسول صلى الله عليه وعلى آله على
غيره من الأنبياء، بما خصه الله تعالى بما لم يخص به غيره من الرسل،
وفضل هذه الشريعة على غيرها من سائر الشرائع المتقدمة، باتساع
طرقها وامتداد أطرافها، وفضل هذه الأمة على غيرها من الأمم السابقة
بأن جعلهم حاكمين في كل حادثة بأنظارهم الثاقبة، وفاصلين في كل
قضية بمواد فكرهم الصائبة.
أما ثانيا: فلأن لا يستوحش الناظر لما يرى من كثرة الخلاف في كل
مسألة من المسائل الاجتهادية، فإذا تحقق أنها كلها صائبة هان عليه الأمر
ولم يعظم عليه الخطب، فيبقى في حيرة من أمره فإذا عرف أنها كلها
على الحق زال عنه الخوف، وزاح عنه الطيش والفشل.
وأما ثالثا: فلأن لا يستعجل إلى تخطئة من يخالفه في المسالك، فيحكم
له بخطأ أو بهلاك من غير بصيرة، ومع إدراك هذه الخصلة - أعني معرفة
التصويب - لا يستعجل بهلاك من يخالفه، وكيف يقع الهلاك والآراء

9

كلها صائبة، وكلها حق وصواب، وهذا من فضل الله ورحمته وعظيم
منته على الخلق وجزيل نعمته، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن كل
مسألة ليس فيها دلالة قاطعة فالأمة فيها فريقان:
فالفريق الأول قائلون بأن الواقعية ليس فيها حق معين، وأن الآراء
كلها حق وصواب، فهؤلاء هم: (المصوبة)، أئمة الزيدية، والجماهير من
المعتزلة، والمحققون من الأشعرية، وعليه جمهور الفقهاء أبو حنفية والشافعي ومالك وأتباعهم.
ثم أهل التصويب، ولهم مذهبان، أحدهما: أن في المسألة أشبه، وهذا
هو المحكي عن أصحاب أبي حنيفة: محمد بن الحسن، وأبي الحسن
الكرخي، ومحكي عن قاضي القضاة، والشافعي، والمروزي وغيرهم من
الفقهاء ومعنى الأشبه: أن الله لو نص لما نص إلا عليه.
وثانيهما: إبطال الأشبه وهذا هو المحكي عن أكابر الشيوخ من
المعتزلة الشيخين أبي علي وأبي هاشم وأبي الهذيل وقاضي القضاة، وهو
قول بعض أئمة الزيدية، ورأي أبي حامد الغزالي، وهو رأي أكثر
المصوبة.
الفريق الثاني: إن في الواقعة حكما لله تعالى معينا وما عداه من
الأقوال فهو باطل [وهؤلاء هم: المخطئة]، ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم
من قال: إنه لا دلالة عليه قطعا ولا ظنا، وإنما هو كدفين يعثر عليه.

10

ومنهم من قال: عليه دلالة ظنية. ومنهم من غلا وقال: إن عليه دلالة
قاطعة فهذه أقوال المخطئة على ما ترى.
وهذه نبذة من الخلاف في الآراء في المسائل الخلافية، قد أشرنا إليها
على جهة التنبيه والإجمال، وتفاصيلها محال على الكتب الأصولية.
فلنذكر المختار في التصويب ثم نردفه بذكر المختار في حكم الأشبه
فهذان تقريريان نذكر ما يتوجه في كل واحد منهما بمعونة الله.
التقرير الأول: في بيان المختار في التصويب للآراء في الاجتهاد.
والذي نرتضيه هو ما قاله أصحابنا والمعتزلة وذهب إليه محققوا الأشعرية
والفقهاء، وهو أن الواقعة ليس فيها لله حكم معين، وإنما هو يكون على
نظر المجتهد ورأيه، فإذا نزلت به الحادثة، وأعمل فيها نظره، وأتعب فيها
فكره، وسأل من الله تعالى توفيقا وتسديدا لإصابة الحق، وكان جامعا
لعلوم الاجتهاد محرزا لها على شروطها المعتبرة التي فصلناها في الكتب
الأصولية، فإنه متى أدى نظره إلى حكم من الأحكام في تحليل أو تحريم
أو غيرهما من سائر الأحكام الشرعية العملية. فإن ما هذا حاله يكون
حقا وصوابا عند الله تعالى، والبرهان على ما قلنا يتضح بمسلكين:
المسلك الأول منهما: أنا نقول - لمن زعم أن في الواقعة حكما معينا هو
مقصود لله ومطلوب -: لو كان الأمر كما زعموه من تعينه لكان
لا يخلو الحال فيه إما أن ينصب الله عليه دلالة أو لا ينصب، والقسمان
باطلان، فيجب القضاء ببطلان كونه معينا. وإنما قلنا: إنه لا يخلو من
الوجهين فلأنها قسمة دائرة بين النفي والإثبات، فلا واسطة بينهما،

11

وهي من العلوم العقلية التي لا يجوز خلافها فإثبات متوسط باطل
بالضرورة. وإنما قلنا: إنه يستحيل أن عليه من الله دلالة منصوبة فلأنها
لو نصبها لكانت ظاهرة لكل من قصدها كسائر الأدلة الظاهرة العقلية
والنقلية، والمعلوم باطراد العادة وجريانها أن مثل ذلك لم ينقل ولا له
أثر، وفي هذا دلالة على أنه ما كان، ولو كان لنقل كما نقل ما هو
أخفى منه وأدق، وإنما قلنا: إنه يستحيل أن لا ينصب الله عليه دلالة
فلأنه لو كلف به في عير أن ينصب عليه دلالة لكان تكليفا بما لا يعلم
وهو قبيح. فتقرر بما ذكرناه فساد القسمين اللذين فصلناهما، وهما
نصب الأدلة عليها وعدم نصبها، ويلزم من بطلانهما بطلان أن يكون
هناك حكم معين في الحادثة، وهو المطلوب.
المسلك الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم ما زالوا مجتهدين في
الحوادث التي ليس عليها دلالة من جهة الكتاب ولا من ظواهر السنة في
الفتاوى والأقضية، والوقائع غضة طرية على ممر الأزمنة وتكرر الأعصار
و ما برحوا مختلفين في الفتاوى والأحكام التي يصدرونها عن أنظارهم،
وتفترق بهم المجالس عن المخالفة في الآراء، وكل واحد منهم مصوب لما
قاله الآخر غير منكر عليه في رأيه واجتهاده، ولو كان في الواقعة حكم
معين لطلبوه، ولجدوا في طلبه وتحصيله، وما سمع عن واحد منهم أنه قال
لصاحبه: هذا خلاف حكم الله، وحكم الله شئ آخر غير ما ذهبت إليه،
بل من حكم بقضية وأبرمها، فلا اعتراض عليه بحال، ويتشددون في
التحرز عن بعض القضايا الصادرة عن الأحكام مع مخالفة الآراء، بل

12

وربما يصدر من جهتهم التصريح بالتصويب في الآراء، وفي هذا دلالة
قاطعة من إجماعهم على أنه ليس هناك حكم معين هو شوف المجتهد
ومقصده ومقصد نظره، وإنما هي كلها آراء صائبة وظنون صادقة على
تحصيل مراد الله في الحادثة، وهذا المسلك يدريه من مارس طرفا من سير
الصحابة رضي الله عنهم وما كان منهم من الفتاوى في التحليل
والتحريم، وإصدار القضايا عن الآراء الصائبة، فعند ذلك نعلم قطعا
ويقينا صحة ما ادعيناه من تصويب الآراء والاجتهادية في جميع الحوادث
التي لا نص فيها، ولنقتصر على هذا القدر من الدلالة ففيه مقنع وكفاية.
التقرير الثاني: في بيان المختار في الأشبه من الاجتهاد
إعلم أن جماعة من المصوبة زعموا - مع القول بكون الآراء صائبة في
الاجتهاد - أن فيها أشبه على معنى أن الله تعالى لو نص على الحادثة لما
نص إلا عليه، وعلى معنى أنه الأجزل ثوابا عند الله تعالى، وهو محكي
عن جماعة من الحنفية منهم: أبو الحسن الكرخي، ومحمد بن الحسن
الشيباني، ومروي عن الشافعي. والمختار عندنا أنه لا معنى للأشبه، وأن
جميع الآراء في تلك الحادثة كلها أشبه إلى قائله، وأنها كلها مقصودة
لله، وإنما تقوى وتضعف بحسب قوة الأمارة وضعفها، وهذا هو رأي
أهل التحقيق من المصوبة: أئمة الزيدية، والجماهير من المعتزلة: أبي علي،
وأبي هاشم، وأبي الهذيل.

13

وإلى بطلان الأشبه ذهب المحققون من الأشعرية كالباقلاني، وأبي
حامد الغزالي، وشيخه عبد الملك الجويني، فأما الشيخ أبو الحسين من
المعتزلة فليس له تصريح بإثبات ولا نفي، وكلامه فيه احتمال.
البرهان على ما اخترناه يظهر بتقرير حجتين:
الحجة الأولى: هو أنا نقول: إن الشبه والأشبه سيان في تعليق الحكم
بهما، فيجب ألا يكون للأشبه مزية على الشبه، وفي هذا ما نريده من
بطلان القول بالأشبه. وبيان ذلك أنا نفرض الكلام في مسألة تعليل الربا
في الفضل، فالكيل على رأي أصحابنا وأبي حنيفة شبه، وهو طرد عند
القائلين بصحة الطرد، والطعم شبه على رأي الشافعي، وهو طرد عند
من يقبل الطرد، فمن قبل الوصف الذي لا يناسب الحكم فهو شبه، ومن رده
فهو طرد، فمن قبل الطرد قال بأنه طرد ومن رد الطرد قال بأنه
شبه، ومن رد الشبه قال إنه أشبه، فالطرد والشبه والأشبه في مسألة
كلها تعليلات وأوصاف غير مناسبة، لكنها تختلف الألقاب عليها،
بالإضافة إلى ردها وقبولها من غير أن يكون هناك بينها تفرقة من جهة
الذات لعدم المناسبة فيها، وأن التعويل فيها إنما هو على أمر غير مخيل من
جهة المشابهة الخاصة فإذا كان لا تفرقة بينها من جهة الذات دل ذلك
على أن الطرد والشبه والأشبه في حكم واحد، وأن الشبه في حق
القائلين هو الأشبه [قول] آخرين وأنهما جميعا طردان عند القائلين
بالطرد، فإذا لا وجه لما قاله هؤلاء في تقرير الأشبه بحال.

14

الحجة الثانية: في بطلان الأشبه، أن نقول للقائلين ونستنطقهم عما
يرون من إثباته، فنقول: ليس يخلو حال الأشبه عندكم إما أن يكون
مكلفا به أو لا يكون مكلفا به، فإن قالوا: إنه غير مكلف به قلنا: فإذا
كان غير مكلف به فلا حاجة إلى طلبه على هذا لا يتناوله التعبد،
ولا يعد في الأمور العملية، وإن كان مكلفا به فليس يخلو حاله إما أن
ينصب الله عليه دلالة أو لا، فإن لم ينصب عليه دلالة كان التكليف به
تكليفا بما لا يعلم وهو محال لا يجوز على الله تعالى لأجل حكمته، وإن
نصب عليه دلالة فليس يخلو حالها إما آن تكون عملية أو ظنية، ومحال
أن تكون علمية لأنه كان يلزم أن يكون أمرا معينا وأنتم لا تقولون به،
ويلزم أن يكون مخالفه مخطئا وهو خلاف مذهبكم، وإن كانت
ظنية فهذا جيد، لكن نقول: إن كل واحد من المجتهدين يدعي فيما قاله
وغلب على ظنه أنه علة الحكم، ووصفه أنه أشبه فليت شعري بم يكون
التمييز بين وصف ووصف وأمارة وأمارة، وفي ذلك بطلان الأشبه وأنه
لا حقيقة له ولا وجود.
فهذا ما أردنا تقريره في حكم الآراء في المسائل الاجتهادية وأن
المذهب تصويبها لا محالة.
انتهى من كلام الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام. وبه ينتهي
الكلام في هذا الباب.

15

ترجمة المؤلف
في أوائل سنة (967 ه‍) ولد الإمام القاسم بن محمد بن علي بن
محمد بن علي بن الرشيد في قرية الشاهل من قضاء الشرفين وأعمال
حجة في الشمال الغربي منها بمسافة 37 كيلو مترا.
ونشأ في بيئة علمية، وأجواء مفعمة بالإيمان والتقوى وبكر إلى
طلب العلم والمعرفة بهمة عالية وعزيمة لا تلين فتنقل في البلدان وقصد
العلماء في مختلف المناطق، وأخذ عنهم في مختلف فنون العلم، وما زال
كذلك حتى فاق أقرانه، وشهد له أهل الفضل والعلم بالتقدم والاجتهاد
ودقة النظر وسعة الاطلاع، بل اعتبر أبرز شخصية يمنية في عصره.
وقد عرفت فيه صفات خلقية رفيعة، كالورع والشجاعة، والغيرة
والنباهة، والكرم وطيب النفس، واستبشاع الجور والاستبداد، إلى غير
ذلك من الصفات السامية النبيلة، الأخلاق الكريمة العظيمة.
وكان من أبر مشائخه:
الإمام الحسن بن علي بن داود، الذي لازمه حتى أسره العثمانيون
الأتراك ونفوه إلى القسطنطينية.
والعلامة أمير الدين عبد الله بن نهشل.
والقاضي محمد بن عبد الله راوع.
والمهدي أحمد الرجمي غيرهم.

16

الحياة السياسية في عصر الإمام القاسم
كان الإمام القاسم قد قضى أيام صباه في سنوات ملتهبة بالحروب،
مملوءة بالمآسي، حيث كان الأتراك قد دخلوا اليمن غزاة قاهرين،
وعاملوا أهلها معاملة بشعة، فقتلوهم وأسروهم وأذلوا أشرافهم وأشاعوا
الفساد ودمروا البلاد مما أشعل نار الحماس في نفوس اليمنيين، وأثاروا فيهم
روح المقاومة والتمرد، فتصدوا لهم على شكل عصابات تظهر تارة
وتختفي أخرى، وكان المطهر بن الإمام شرف الدين أبرز قادة المقاومة
الشعبية وأنجحهم، فقد كان معروفا بالحنكة والقدرة الفائقة على القيادة
العسكرية، حتى لقد حد من إحكام قبضة الأتراك على البلاد، رغم
كثرة جندهم ووفرة سلاحهم ورغم قوتهم التي وصلت إلى غرب أوروبا
وأرغمت بعض دولها على دفع الجزية عام (1538 م).
وبوفاة المطهر سنة (980 ه‍)، تزعم حركة المقاومة الإمام الحسن بن
علي بن داود حتى أسره الأتراك سنة (993 ه‍)، ثم خلت الساحة أمام
الأتراك وهمدت المقاومة الشعبية، وذاق الناس مرارة الغزو، وحنت
النفوس إلى العدالة والأمن والاستقرار، وظلوا يترقبون الفرج سنوات وسنوات.
وفي أوائل القرن الحادي عشر كان الإمام القاسم قد صعد من
انتقاداته لسياسة الأتراك وسلوكهم، وأكثر من تحريض الناس على
جهادهم والخروج عليهم، ورحل إلى عدة من العلماء المرموقين
يسنتهضهم للقيام بواجب الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله،

17

والتصدي للفساد والمفسدين، وإصلاح أحوال البلاد والعباد، ولكن دون
جدوى، فقد رد الجميع الأمر إليه، وأكدوا عدم صلاحية غيره لهذا
الشأن، لما وجدوا فيه من خصال تؤهله لقيادة الأمة في تلك الظروف
العصيبة.
وفي مطلع عام (1006 ه‍) وجد الإمام القاسم نفسه ملزما بالقيام
بالدعوة إلى الله والخروج على الظالمين، والدفاع عن المستضعفين
وإقامة حكم الكتاب والسنة، فنصب نفسه إماما ودعا الناس لبيعته،
فالتفت حوله الجماهير، رغم أن أحوال الناس كانت قد ساءت والخوف قد تمكن
من نفوسهم ويئسوا من إمكانية التغيير، ولكن التصميم
والإرادة الصلبة لم تتردد ولم تخو فأشعلت نار المقاومة.
وقد وصف الإمام القاسم حال الناس حينها فقال في إحدى
رسائل دعوته: (أيها الناس إن رسوم الدين قد عفت، وأعلام
الهدى قد طمست، وأحكام الشريعة قد عطلت، والفرائض قد
رفضت، والمحارم قد انتهكت، الخمور قد شربت، والذكور قد
نكحت، والضعفاء والأيتام قد ظلمت، والدماء قد سفكت،
والشرور قد كثرت والفتنة قد عظمت، حتى لبس الإسلام في
هذا الزمان لبس الفرو مقلوبا، وصار كما قال صلى الله عليه
وآله وسلم: (بدأ غريبا وسيعود غريبا)، فجعل أعلاه أسفله

18

وأسفله أعلاه، وقرب فيه الماحل، وبعد الفاضل، واستكمل فيه
الفاجر، واستقص فيه الطاهر...) (1) إلى آخر كلامه.
وبدأت ملحمة المقاومة المسلحة وحقق الإمام القاسم بعض
الانتصارات الساحقة على قوات الأتراك وأعوانهم، حتى اضطرهم إلى
طلب الإمدادات من مصر واستانبول، وصمد مع قلة من أنصاره أمام
قواتهم الضاربة، وتشرد في السهول والجبال، ونكل بأصحابه وأقاربه
أسوأ تنكيل: حتى سلخ جلد عمه عامر بن علي وهو حي، كما تسلخ
الشاة، وأودع أفراد أسرته وأقاربه في السجون المظلمة، وابتلي
بالانتكاسات والهزائم مرات عديدة، ولكنه صمد صمود الأبطال وقاوم
مقاومة منقطعة النظير، وأذاق الأتراك مرارة الخوف والرعب الذي عاش
عليه اليمنيون سنوات طوال.
وبعد عشرين سنة من الكفاح المسلح ورغم التفاوت الكبير بين
الطرفين، من حيث كثرة الجيوش، وكثافة الدعم، ووفرة السلاح
وجودته، استطاع الإمام القاسم أن يحقق توازنا ملموسا بين الغزاة
والثوار، واضطرهم إلى التراجع عن مناطق كثيرة والتخلي عن جملة من
ممارساتهم القمعية، وأساليبهم الوحشية في التعامل مع الناس، كما
اضطرهم إلى الاعتراف بحق المقاومة الشعبية، حتى فاوضه الأتراك على
أن يمكنوه من الحكم على بعض البلاد ويتخلى عن مقاومتهم فأبى ذلك

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - النبذة المشيرة للجرموزي 88.
19

وأوضح لهم أن السلطة مقصودة بالنسبة له، وأن هدفه إقامة
شرع الله، والدفاع عن المستضعفين، وقبل وفاته بعام قبل الهدنة مع
الأتراك لمدة عشر سنوات فقط ليرتب أوضاعه، ويصلح أحوال جنده.
وهكذا كانت ثورة الإمام القاسم بن محمد بداية لنهاية الأتراك
وخروجهم من اليمن فقد مضى في أول طريق التحرير وسلكها من
بعده بنوه حتى أخرجوا الأتراك المرة الأولى من اليمن بعد وفاته بست
سنوات فقط.
في ميدان المعرفة
أما على الصعيد العلمي، فقد اعتبر الإمام القاسم بن محمد أحد
المجددين على مستوى الفكر الإسلامي عموما، والفكر الزيدي خصوصا،
فقد جدد في مناهج الفهم وأساليب الدعوة، وفهم العقيدة، وتدوين
الفقه، وغير ذلك مما هو معروف في كتبه ورسائله.
ورغم انشغاله الشديد بالجهاد والتنقل في البلدان فقد استطاع أن
يؤدي دوره كزعيم ديني وروحي، فألف وشعر وأفتى وناظر، واختصر
وشرح وجدد، حتى أن مؤلفاته تعد من أهم الكتب عند الزيدية، وقد
أخذت بعد نشرها تحظى بمكانة مميزة في مكتبة الفكر الإسلامي.
ومن أشهر مؤلفاته:
1. الأساس لعقائد الأكياس في أصول الدين، طبع مرتين.
2. الإعتصام بحبل الله المتين في الفقه، طبع.

20

3. مرقاة الوصول إلى علم الأصول في أصول الفقه، طبع.
4. رسالة التحذير، في التحذير من معاونة الظالمين، طبع.
5. الإرشاد إلى سبيل الرشاد، في حكم الاختلاف في الدين - وهو
هذا الذي بين يديك -.
6. حتف أنف الآفك، وفي نقد الصوفية وتحريم الأغاني، مخطوط.
7. أساس الأساس لما يجب تقديمه من صحيح عقائد الأكياس،
مخطوط.
8. تفسير القرآن، مخطوط، الموجود منه جزء فيه تفسير الفاتحة والبقرة
وآل عمران والنساء وبعض المائدة.
9. التمهيد في آداب التقليد، مخطوط.
10. طرفة الراغب في الإعراب عن مقدمة ابن الحاجب، مخطوط.
11. مرقاة الطلاب إلى علم الإعراب، مخطوط.
12. الإجازات في تصحيح أسانيد الروايات، مخطوط.
13. أربعون حديثا في العلماء والمتعلمين، مخطوط.
14. بغية الطالب وتحفة الراغب، أربعون حديثا من أمالي أبي طالب،
مخطوط.
15. ذم الأهواء والأوهام، مخطوط.
16. مستخرج من كتاب التفريع في الفقه، مخطوط.
وله رسائل وأجوبة كثيرة في أغراض متعددة منها:
17. جواب الأسئلة الصنعانية عن الاختلافات الاعتقادية.
18. الجواب المختار على مسائل عبد الجبار في أصول الدين.

21

19. بحث في من يكمل عقله من الأطفال.
20. بحث في كتاب الشافي وسبب تأليفه.
21. جواب سؤال فيمن يتعصب للإمام علي.
22 جواب على مسائل في الأساس.
وكانت له مشاركات شعرية لطيفة وقصائد فريدة منها:
23. الكامل المتدارك في بيان حال الصوفي الهالك.
24. قصيدة دالية في ستين بيتا، وقد شرحها بكتابه حتف أنف الآفك
في شرح الكامل المتدارك.
25. القصيدة الموسومة باستفتاح الفرج وهي نحو مائة بيت كتبها أثناء
مطاردة الأتراك له.
26. قصيدة في ذم الفتن. وقصائد أخرى ذكرها كتاب سيرته.
وفاته:
وبعد حياة مليئة بالكفاح والإصلاح والتأليف والإرشاد والجهاد توفي
الإمام القاسم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة (1029 ه‍) في حصن
شهارة من بلاد الاهنوم، وهنالك دفن رحمة الله عليه ورضوانه.
مصادر ترجمته:
تناول كثير من المؤرخين والباحثين سيرة الإمام القاسم جمعا وتحليلا
ودراسة لما تميز به من مكانة علمية وموقع سياسي وتأثير في الفكر
الإسلامي، ومن أهم مصادر ترجمته:

22

كتاب النبذة المشيرة إلى جمل من علم السيرة، للجرموزي وهو
خاص بسيرته.
الجزء الثالث من اللآلي المضيئة، للعلامة الشرفي.
العثمانيون والإمام القاسم بن محمد في اليمن، لأميرة علي المداح.
مقدمة الإعتصام.
البدر الطالع 1 / 47، للشوكاني.
المقتطف من تاريخ اليمن للجرافي 141.
الأعلام للزركلي 6 / 17.
ومصادر أخرى كثيرة، أنظر عنها: مصادر الفكر الإسلامي في اليمن
للباحث عبد الله الحبشي 662.

23

كلمة الكتاب
سلك الإمام القاسم في تأليف هذا الكتاب طريقة رائعة في التأليف
حيث ضمنه ستة فصول، كالتالي:
الفصل الأول: قرر فيه عدم شرعية الاختلاف، وأورد الأدلة على
وجوب الائتلاف، ثم أورد آراء العلماء في ذلك وناقشها، وانتهى في
ذلك إلى أن مصيب الحق أحد المختلفين، وأن مخالف الحق - إن كان مجتهدا
غير متعنت - مخطئ معفو عنه.
الفصل الثاني: أكد فيه على أنه يوجد طائفة من الأمة على الحق،
وأنها موجودة في كل الأزمنة، وأن تلك الطائفة هي المتمسكة بالقرآن
الكريم الملتزمة بتعاليمه، المهتدية بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وأن تلك المواصفات قد توفرت في جماعة أهل البيت عليهم
السلام، وأردف ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة على وجوب التمسك
بهم.
الفصل الثالث: أكد فيه وقوع الاختلاف بين أفراد أهل البيت،
وذكر بعض أسبابه.
الفصل الرابع: ضمنه مطلبين:
المطلب الأول، في وجوب النظر في صحة الأدلة، وأن أفراد أهل
البيت مطالبون بذلك كسائر الناس، وأنه لم يرد دليل على وجوب اتباع
أفراد العترة إلا عليا عليه السلام، مؤكدا على وجوب رد أقوال آحاد

24

العترة إلى الكتاب والسنة، وأردف ذلك بإيراد كوكبة من نصوص
الأئمة التي تؤكد هذا المعنى.
المطلب الثاني: أوضح فيه كيفية التعامل مع المسائل المختلف فيها،
موضحا أن المختلف فيه نوعان:
نوع يمكن العمل فيه بالإجماع فيما اختلفوا فيه، وهي المسائل المتنازع
في حظرها وإباحتها، فيكون العمل فيها بالمتفق عليه حظرا وإباحة.
والنوع الثاني: ما لا يمكن العمل بالمختلف فيه، وفيه التخيير إذا
اختلف في تعيين المشروع منه بعد العلم بوجوبه، والوقوف إذا اختلف في
تعيين المحظور منه بعد الاتفاق على أن تجنب الجميع مباح.
الفصل الخامس: في حكم أقوال مخالفي العترة.
الفصل السادس: في حكم أقوال المخرجين على أقوال الأئمة
والتحذير من العمل بها. وبذلك انتهى الكتاب.
توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
أروي هذا الكتاب بالإجازة من عدة طرق إلى مؤلفه، أعلاها:
- عن السيد العلامة أحمد بن محمد زيارة، عن العلامة علي بن أحمد
السدمي (1271 - 1364 ه‍)، عن العلامة عبد الكريم عبد الله أبو

25

طالب (1224 ه‍ - 1309 ه‍)، عن العلامة إسماعيل بن أحمد الكبسي
(1150 ه‍ - 1233 ه‍) (1)، عن القاضي محمد بن أحمد مشحم (المتوفى
1181 ه‍)، عن السيد صارم الدين إبراهيم بن القاسم بن محمد بن
القاسم المتوفى (1151 ه‍)، عن القاضي أحمد ين سعد الدين المسوري
(1007 - 1079 ه‍)، عن الإمام القاسم بن محمد.
ويليها من طريقين:
الأولى: عن السيد العلامة أحمد بن محمد زبارة، عن حسين بن علي
العمري، عن محمد بن الضفري، عن محمد بن علي الشوكاني، عن
عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر، عن أحمد بن عبد الرحمن الشامي
، عن حسين بن أحمد زبارة، عن أحمد بن صالح بن أبي الرجال، عن المؤيد
بالله محمد بن القاسم، عن الإمام القاسم بن محمد.
والثانية: عن السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد عن الشيخ
عبد الواسع الواسعي، عن القاضي محمد بن عبد الله الغالي، عن أبيه

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - صرح العلامة الواسعي في الدر الفريد 118 برواية العلامة أبو طالب عن
العلامة إسماعيل أحمد الكبسي، رغم أن التواريخ المذكورة في ترجمتهما تقضي
بأنه لم يدرك العلامة أبو طالب من حياة العلامة الكبسي إلا تسع سنوات، فإذا
فرضنا أنه لم يقع سهو في الكتاب المذكور، وكانت التواريخ صحيحة، فيحتمل
أن تكون الرواية بالوجادة أو بالإجازة العامة لكل الموجودين في العصر، كما
صرح العلامة عبد الله بن الحسن القاسمي في الجواهر المضيئة: أن السيد إسماعيل
الكبسي روى عن القاضي مشحم.
26

عبد الله بن علي الغالي، عن محمد بن عبد الرب بن محمد، عن عمه
إسماعيل بن محمد بن زيد، عن أبيه محمد بن زيد المتوكل، عن أبيه زيد
المتوكل، عن أبيه المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، عن الإمام
القاسم بن محمد.
ويليها من طريقين.
الأولى: عن السيد العلامة مجد الدين بن محمد بن المؤيدي، عن أبيه، عن
الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي. (ح) والسيد العلامة إسماعيل بن
أحمد المختفي، عن العلامة محمد بن إبراهيم حورية، عن الإمام محمد بن
القاسم الحوثي، عن العلامة محمد بن عبد الله الوزير، عن أحمد بن
يوسف زبارة، عن أخيه الحسين بن يوسف، عن أبيه يوسف بن الحسين،
عن أبيه الحسين بن أحمد زبارة، عن القاضي أحمد بن صالح بن أبي
الرجال، وعامر بن عبد الله الشهيد كلاهما عن كل من الإمام المؤيد
بالله محمد بن القاسم والإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن
محمد، عن والدهما الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد.
والثانية: عن السيد العلامة بدر الدين بن أمير الدين الحوثي، عن العلامة
أحمد بن محمد القاسمي، عن الإمام الحسن بن يحيى القاسمي، عن
العلامة عبد الله بن أحمد المؤيدي، عن القاضي عبد الله بن علي الغالي،
بإسناده المتقدم وغيره إلى الإمام القاسم بن محمد.

27

المخطوطات المعتمدة في تحقيق الكتاب
اعتمدت في تصحيح الكتاب على مخطوطتين هما:
0 النسخة (أ): وهي من مكتبة الوالد العلامة محمد بن الحسن
العجري، وهي بخط معتاد، قليلة الأخطاء والسقط، وكتب في آخرها:
وافق فراغه وقت الضحى من نهار الثلاثاء في العشر الوسطى من شهر
القعدة الحرام أحد شهور سنة 20 بعد الألف في شهارة المعرفة بالاهنوم
حرسها الله بالصالحين، كتبه مالكه العبد الفقير إلى الله محمد بن
أحمد بن الحسن بن علي بن صلاح بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن
المؤيد عليهم السلام رزقه الله حفظه والعمل بما يرضيه، وصلى الله
وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
0 النسخة (ب): وهي المصفوف عليها، وهي من مكتبة الوالد
العلامة مجد الدين المؤيدي، وهي بخط واضح، وكتب في آخرها:
تم الكتاب بمن الله العزيز الوهاب - كتاب الإرشاد الهادي إلى سبيل
الرشاد - يوم الثلاثاء سابع وعشرين من شهر ذي القعدة الحرام من
شهور سنة اثنتي عشرة سنة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل
الصلاة والسلام بمسجد موسع من برط المحروس بالله تعالى من مولانا
أمير المؤمنين وسيد المسلمين المنصور بالله القاسم بن محمد أيده الله
وأصلح له أموره وصرف عنه جميع الشرور ووقاه كل مخوف ومحذور
وجزاه عن المسلمين خيرا آمين اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد
وآله.

28

ثم قال: قال في الأم: بخط إلى الله شمس الدين بن الحسن بن
عز الدين بن المهدي بن حجاف وفقه الله إلى رضاه.
ثم قال: تم بحمد الله ومنه نقل كتاب الإرشاد الهادي إلى سبيل
الرشاد يوم الأحد الموافق 23 جمادى الأولى 1406 ه‍ بقلم الفقير إلى
الله عز وجل قاسم بن صلاح بن يحيى بن إبراهيم بن حسن بن صلاح
بن أحمد بن عبد الله بن عامر بن علي الشهيد وفقه الله وعمر
قلبه بالتقوى آمين.
وهذان نموذجان من المخطوطتين:

29

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد
فإنه لما كان الخلاف واقعا في الأحكام الشرعية بين الأمة المحمدية
وقد عرفنا أن ربنا تبارك وتعالى واحد ونبينا صلى الله عليه وآله واحد
وديننا زاده الله شرفا ورفعة واحد وجب على العاقل اللبيب
أن ينظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
أيسوغ ذلك الاختلاف فيعذر على التفرق في الدين باتباع المختلفين
أم لا يسوغ فلا يعذر في ذلك وما المعمول عليه بعد إذ ليرى الإخلال
بالنظر في ذلك مخاطره بلا ملجئ والعقل يقضي ضرورة بقبح المخاطرة
بغير ملجئ وكذلك الشرع قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم الآية
وقد جمعت في ذلك ما يرشد الطالبين إن شاء الله تعالى ولم أقصر في
بيانه مريد الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه
أنيب وذلك يتضمن ستة فصول الفصل الأول في الإرشاد
إلى حكم الخلاف ذلك إنا نظرنا في كتاب الله فإذا هو ناطق بتحريم الخلاف
في الدين على الإطلاق قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية وقال تعالى
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ الآية وقال تعالى
الصفحة الأولى من النسخة (أ)

30

سنه رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين
أحسن جزاه المفتقر إلى الله سبحانه مجد الدين بن محمد بن منصور
المويدي عفا الله عنهم أجمعين تمت نقلا عن خطه
بسم الله الرحمن الرحيم المحد لله وسلام على عباده
الذين اصطفى أما بعد فإنه لما كان الخلاف واقعا
في الأحكام الشرعية بين الأمة المحمدية وقد عرفنا أن ربنا
تبارك وتعالى واحد ونبينا صلى الله عليه وآله واحد وديننا
زاده الله شرفا ورفعة واحد وجب على العاقل اللبيب
أن ينظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله أيسوغ
ذلك الاختلاف فيعذر عن التفرق في الدين باتباع المختلفين
أم لا يسوغ فلا يعذر في ذلك وما المعمول عليه بعد إذ
لأن في الاخلال بالنظر في ذلك مخاطرة بلا ملجئ والعقل
يقضي ضروري بقبح المخاطر لغير ملجئ وكذلك الشرع قال الله
تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم الآية وقد جمعت
في الصفحة الأولى من النسخة (ب)

31

عملي في الكتاب
سلم إلي الأخ الكريم أحمد محمد عباس إسحاق قرصا (ما يسجل
عليه المطبوعات في الكمبيوتر) يشتمل على كتب منها كتاب (الإرشاد)
هذا، وطلب مني القيام بتحقيقه ومراجعته، وحين اطلعت عليه وجدت
أنه قد قوبل على مخطوطة واحدة، وأنه يحتاج إلى مقابلة وتصحيح
وتعليق ونحو ذلك مما يبرزه في المظهر اللائق به، فاستعنت بالله على ذلك
وكان عملي فيه كما يلي:
- قابلت المصفوف على مخطوطتين إحداهما المصفوف عليها،
وصححت الأخطاء، وضبطت المشكل، وأثبت ما اختلف بين النسختين
في الهامش.
- خرجت الأحاديث تخريجا مختصرا يفي بالمراد، وما لم أعثر عليه
نبهت على ذلك في الهامش.
- ترجمت الرجال الواردة أسماؤهم في الكتاب تراجم مقتضبة كل بما
يتناسب مع حاله.
- شرحت الغريب من الألفاظ اللغوية وضبطتها، وعلقت على
ما يحتاج إلى تعليق وإيضاح.
- تابعت معظم النقولات، وراجعتها على أصولها، ووثقتها في الهامش.

32

- خرجت الآيات القرآنية وضبطتها بالشكل.
- قطعت النص إلى فقرات والفقرة إلى جمل، واستخدمت في ذلك
علامات الترقيم المتعارف عليها كالنقطة والفصلة والقوس ونحو ذلك.
- أدرجت بعض الزيادات الضرورية إما لتقويم النص أو لتوضيحه،
وما زدته جعلته بين معكوفين هكذا: []
.
- وضعت هذه المقدمة المختصرة المتضمنة للتعريف بالكاتب
والكتاب.
- وضعت فهارس فنية هي: فهرس الآيات، فهرس الأحاديث، فهرس
الأعلام، فهرس الكتب، فهرس المواضيع.
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا.

33

وأخيرا..
لا يفوتني أن أدعو شبابنا إلى خدمة هذا التراث العظيم وإخراجه إلى
أيدي القراء والباحثين، وألا يشغلوا أوقاتهم بالأماني والآمال، فآلاف
الكتب المخطوطة في انتظارهم ليمسحوا عنها الغبار ويخرجوها إلى النور
لتؤدي دورها في الهداية وتصحيح المفاهيم.
كما أدعو هواة النقد واقتناص الفلتات أن ينصرفوا عن تلك الأعمال
ويجربوا العمل في ميدان التحقيق والبحث، أو في أي ميدان آخر من
ميادين العمل في خدمة الفكر، وسيقفون على حقائق كانت عنهم
غائبة، ويكشفون أجواء جديدة، ويخرجون من الفراغ القاتل الذي
صير وجودهم سلبيا على الفكر والمجتمع.
كما لا يفوتني أن أتقدم بجزيل الشكر لكل من مد لي يد العون لإنجاز
عمل هذا الكتاب، وأخص بالذكر الأخ العزيز: علي بن أحمد بن محمد
المفضل، الذي راجع الكتاب من أوله إلى آخره وأتحفني بملاحظاته
القيمة.
وأسأل الله لي ولسائر المسلمين الثبات والتوفيق، وأن يعين كلا على
أداء دوره في مجال عمله على أحسن وجه، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الطاهر
الأمين.
محمد يحيى سالم عزان
صعدة - 10 / محرم / 1416 ه‍

34

بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف في بيان موضوع الكتاب]
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد فإنه لما كان الخلاف واقعا في الأحكام الشرعية بين
الأمة المحمدية - وقد عرفنا أن ربنا تبارك وتعالى واحد، ونبينا صلى
الله عليه وآله واحد، وديننا زاده الله شرفا واحدا - وجب
على العاقل اللبيب أن ينظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم: أيسوغ ذلك الاختلاف، فنعذر على التفرق (1) في
الدين باتباع المختلفين؟ أم لا يسوغ، فلا نعذر في ذلك؟ وما المعمول
عليه بعدئذ؟ لأن في الاخلال بالنظر في ذلك مخاطرة بلا ملجئ،
والعقل يقضي ضرورة بقبح المخاطرة بغير ملجئ، وكذلك الشرع،
قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الآية [الأسراء: 36].
وقد جمعت في ذلك ما يرشد الطالبين إن شاء الله تعالى، ولم
أقصر في بيانه، مريدا للإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله
عليه توكلت وإليه أنيب، وذلك يتضمن ستة فصول:

--------------------------------------------------------------------------------

(1) في (ب) فيعذر عن التفرق.
35

الفصل الأول
في الإرشاد إلى حكم الخلاف
وذلك أنا نظرنا في كتاب الله فإذا هو ناطق بتحريم الخلاف في
الدين على الإطلاق، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا) [آل عمران: 103].
وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [آل عمران: 105].
وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في
شئ) الآية [الأنعام: 159].
وقال تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [الشورى: 13]، ولم
يفصل في أيها.
ثم نظرنا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هي
جارية على هذا النسق.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أتاني جبريل عليه السلام فقال:
إن أمتك مختلفة بعدك. فقلت: فأين المخرج يا جبريل؟ فقال:

36

كتاب الله به يقصم كل جبار عنيد، ومن اعتصم به نجا، ومن تركه
هوى، قول فصل وليس بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا يثقل على
طول الرد، ولا تفنى عجائبه، فيه أثر من كان قبلكم، وخير من هو
كائن بعدكم) (1).
وروى الهادي عليه السلام (2) عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه
قال: (أقيموا صفوفكم ولا تختلفوا فيخالف الله بين قلوبكم) (3).
قلت: ولا يتوهم قصره على السبب، لأن الأسباب لا تمنع

--------------------------------------------------------------------------------

(1) أخرج نحوه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب 1 / 537 رقم (1040)، بإسناده
إلى علي عليه السلام.
(2) الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي أبو الحسن، من أئمة
الإسلام، ولد بالمدينة سنة (245 ه‍) ونشأ بها، وكان عالما فقيها شجاعا متكلما
لسنا خطيبا شاعرا. أرسله أبو العتاهية الهمداني - من ملوك اليمن - ودعاه إلى بلاده،
ووفد إليه أكابر رجال اليمن يدعونه إلى الخروج إليهم، فلبى دعوتهم وخرج إلى
اليمن وذلك سنة (283 ه‍). واليمن مدين له بخلاصه من القرامطة الأشرار،
وخلاصه من الفتن والفساد، ولم يزل مجاهدا في سبيل الله مدافعا عن الحق، ناشرا
للفضيلة حتى توفي بصعدة سنة (298 ه‍) وقبره فيها مشهور مزور. أنظر: سيرة
الهادي، وكتاب الإمام الهادي واليا وفقيها ومجاهدا، تاريخ اليمن الفكري في العصر
العباسي 1 / 262، درر الأحاديث النبوية 191، الفلك الدوار 33.
(3) رواه الإمام الهادي كما في درر الأحاديث النبوية 62، وأخرج نحوه البخاري
1 / 289، ومسلم 1 / 324 (127 / 436) عن النعمان بن بشير بلفظ: (لتسون
الصفوف أو ليخالفن الله بين قلوبكم). وله روايات كثيرة بألفاظ متقاربة.
37

الألفاظ عن إفادة معانيها. ألا ترى أنه يصح أن تقول لغلمانك عند
عصيان بعضهم: كل من عصاني عاقبته بكذا. وأن تقصد بذلك
جميعهم بلا نصب قرينة، لأن ذلك مما يدل عليه اللفظ بحقيقته. وألا
ترى إلى آية الظهار (1) فإن سبب نزولها: ظهار أوس بن الصامت من
زوجته خولة بنت ثعلبة، ولم تكن الآية مقصورة على ذلك السبب
وحده.
وروى الحسين بن القاسم عليه السلام (2) في (تفسيره) (3) عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما لفظه أو معناه:
(ألا لا يقتتل مسلمان ولا يختلف عالمان) (4).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي إلى ثلاث

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - هي قوله تعالى: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي
ولدتهم) [المجادلة: 2].
(2) - الحسين بن القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم الرسي، الإمام
المهدي العياني، من أئمة الزيدية ولد سنة (376 ه‍)، وقام بأمر الإمامة بعد وفاة أبيه
القاسم سنة (393 ه‍)، ولقب بالمهدي وأقام في صنعاء، حتى استشهد في ذي عرار
سنة (404 ه‍)، ومشهده بريدة من مخاليف صنعاء. أنظر: تاريخ اليمن الفكري في
العصر العباسي 1 / 237، الأعلام 2 / 252 معجم بلدان اليمن وقبائلها 2 / 375،
الفلك الدوار 17.
(3) - تفسير غريب القرآن مخطوط في مجلدين، بأيدينا منه الجزء الأول فقط.
(4) - هذا معنى حديث كما أشار المؤلف، فلم أقف عليه في كتب الحديث بهذا اللفظ.
38

وسبعين فرقة كلها هالكة..) (1) الخبر، ولم يفصل في أيها كذلك.
قلت وبالله التوفيق: وجميع ذلك من الكتاب والسنة نصوص
صريحة في تحريم الاختلاف في أصول الدين وفروعه، للقطع بانتفاء
المخصص، كما نبين إن شاء الله تعالى في الرد على من خالفنا في
ذلك، لأنهم قد بحثوا عن المخصص أشد البحث وتمحلوا له بما
سنقف عليه إن شاء الله.
[آراء العلماء في حكم الاختلاف]
وذلك (2) مذهب قدماء العترة عليهم السلام، ومن وافقهم من
متأخريهم، ومن سائر علماء الإسلام (3).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - سيأتي الكلام على هذا الحديث لاحقا.
(2) - إشارة إلى تحريم الاختلاف في أصول الدين وفروعه.
(3) - قال الإمام زيد بن علي (ع) في كتاب مدح القلة وذم الكثرة: (وقد نهى عن
الاختلاف فيما أنزل على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمرنا لنسلم لأمر
الله تعالى. وأنتم تزعمون وترون خلاف كتاب الله تعالى، تزعمون الخلاف رحمة،
وقد وعد الله عليه العذاب).
وقوله تزعمون الخلاف إشارة إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أنه قال: (اختلاف أمتي رحمة). ويبدو أن هذا الحديث من موضوعات
بعض وعاظ السلاطين ليكون مبررا لهم في تشتيت الأمة وإثارة الخلاف فيما بينهم.
وليس لهذه الرواية سند يعرف. حتى قال السيوطي في الجامع الصغير: لعله مخرج في
بعض كتب الحافظ التي لم تصل إلينا. وهذا بعيد. أما السبكي فقد أنكره غاية
الإنكار. وقال ابن حزم: باطل مكذوب. سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (57).
39

وقالت البصرية من المعتزلة ومن وافقها: بل هي (1) خاصة بما عدا
المسائل الفروعية الظنية.
قالوا: والمخصص لها وقوع الاختلاف بين الصحابة.
قالوا: وذلك إجماع منهم، لعدم النكير من بعضهم على بعض.
قال الإمام يحيى [بن حمزة] عليه السلام (2) في (شرح نهج
البلاغة) (3): (ولم يسمع من أحد منهم إنكار على صاحبه فيما ذهب

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أي النصوص الدالة على منع الاختلاف.
(2) - الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم
بن محمد بن إدريس بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر
الصادق، أحد أئمة الزيدية ولد بصنعاء في (27 صفر سنة 669 ه‍) ونشأ على
طلب العلم حتى فاق أقرانه، وصنف التصانيف الكثيرة الحافلة بأنواع العلوم، ومن
أجل مصنفاته وأوسعها كتاب (الإنتصار) مخطوط وهو في (18) مجلدا ضخما. دعا
بعد موت الإمام المهدي بن المطهر سنة (729 ه‍) وبويع له في نفس العام
وسار في الناس سيرة العدل والإحسان، وجاهد في سبيل الله حتى توفاه الله سنة
(749 ه‍) بذمار وقبره بها مشهور مزور. أنظر: البدر الطالع 2 / 331 - 333
طبقات الزيدية - خ -، الأعلام 8 / 143، الفلك الدوار 73.
(3) - شرح نهج البلاغة للإمام يحيى بن حمزة، اسمه: (الديباج الوضئ في شرح كلام الوصي)، اطلعت عليه ولم يزل مخطوط.
40

إليه ولا ذم، بل يعتذرون في المخالفة، بأن يقولوا: هذا رأيي وهذا
رأيك).
قالوا: ولينقض أحد منهم حكم صاحبه.
ومما احتجوا به أيضا على ذلك: ما روي عن أبي هريرة، عنه
صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله
أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) (1). وما روي عن
عقبة بن عامر، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إقض بينهما
- يعني خصمين - فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك
حسنة واحدة) (2).
قالوا: والشرائع مصالح، فلا يمتنع أن يخاطب الله بمجمل يريد من
كل ما فهمه، لأن المصالح تختلف باختلاف الناس.
ثم قالوا: ولا حكم لله فيها معين، وإنما مراد الله تابع لما أداه

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - بهذا اللفظ أخرجه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص، وبلفظ: (إذا اجتهد
الحاكم فأخطأ فله أجر، فإذا أصاب فله أجران) أخرجه البخاري ومسلم أيضا عن
أبي هريرة، أنظر تلخيص الحبير 4 / 180، البداية والنهاية 7 / 310. وأخرجه الإمام
أبو طالب في الأمالي (الباب الرابع) وأحمد 4 / 198 عن عمر بن العاص بلفظ: (إذا
حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، فإذا حكم وأخطاء فله أجر).
(2) - أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 577، والدار قطني 4 / 203، وأحمد 4 / 205 عن
عقبة بن عامر.
41

نظر المجتهد، لأن نظر المجتهد تابع لمراد الله تعالى.
قال بعضهم: بأنه لا يخلو إما أن يريد الله من كل ما أداه إليه
نظره، أو يريد ذلك من بعض دون بعض، أو لا يريده من الكل.
الثالث باطل، لأنه خلاف الإجماع، الثاني باطل أيضا، لأنه محاباة،
ومن وصف الله بها كفر، لأنها لا تجوز عليه، بقي الأول.
وقال بعض الناس: بل كل مصيب (1) في الفروع والأصول
واحتجوا على ذلك بأن قالوا: لا إثم على من طلب الحق.
[مناقشة الآراء]
فنظرنا في هذه الثلاثة الأقوال، فإذا الثالث منها ساقط لمصادمته
النصوص.
وأما قولهم: لا إثم على من طلب الحق فعدم الإثم لا يدل على
التصويب للمختلفين، لأنه قد ينتفي عن المخطئ والساهي عن الصواب
لقوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) [الأحزاب: 5].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) (2)،

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في (ب): بل كل مجتهد مصيب. والصواب ما أثبته، وهو من (أ).
(2) - قال ابن حجر في التلخيص 1 / 281: رواه ابن ماجة وابن حبان والدار قطني
والطبراني والحاكم عن ابن عباس.
42

(الخير، لأن الطلب غير المطلوب (1)، وليس كل طالب شئ
لا يخطئه) (2) وذلك بحمد الله واضح.
ثم نظرنا في الباقيين، فإن الثاني منهما ساقط أيضا، لأنا نظرنا
فيما ادعاه أهل هذا القول من إجماع الصحابة على القول بالتصويب
في مسائل الفروع الظنية، فإذا هو لم ينقل عن أحد القول به قبل
البصرية.
[وقوع الاختلاف بين الصحابة لا يدل على التصويب]
وأما وقوع الاختلاف بين الصحابة فلا يدل (3) على أنهم يقولون
بالتصويب، لأن الأفعال لا دلالة لها على المعاني المترجم عنها
بالقول، كخرق الخضر عليه السلام للسفينة، فإن موسى عليه
السلام لم يفهم بمجرده ما الغرض منه. بلى قد يكون (4) ما يعتاد لأمر
قرينة على تحصيله لذلك الأمر، كالأكل والشرب فإن كل واحد
منهما قرينة على تحصيله للحاجة المخصوصة من الجوع أو الشهوة
أو العطش.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - يعني أن يطلب شئ والمطلوب شئ آخر، فالطلب صواب والمطلوب قد يكون
صوابا وقد يكون غير صواب.
(2) - ما بين القوسين كتب ما بين السطور في (أ) وكتب بعده: صح.
(3) في (أ): فلأنه لا بدل.
(4) - في (ب): بل قد يكون.
43

فوقوع الخلاف بينهم قرينة على تخطئة كل لصاحبه، لأن العاقل
- في مجرى العادة - لا يخالف صاحبه فيما اتفقا على طلبه، إلا لأنه
أنكره وادعى خطأه، وإلا لوافقه لارتفاع المانع.
وأما دعوى عدم النكير من بعضهم على بعض، فباطلة لأنه نقل
بالأخبار المتواترة وقوع النزاع بينهم في ذلك، ومن عادات العقلاء
أنه لا يقع بينهم نزاع إلا فيما ينكره بعضهم على بعض، وأيضا قد
وقع التصريح بالنكير من علي عليه السلام في كثير من المسائل، قال
العلماء: ورجع عمر إليه في ثلاث وعشرين مسألة.
وصرح أيضا بالتخطئة في مشهد من الصحابة فقضية المرأة التي
استحضرها عمر فأسقطت حوفا منه، فاستشارهم عمر، فقال عبد
الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك
شيئا. فقال علي كرم الله وجهه في الجنة: إن كانا قد اجتهدا فقد
أخطأ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك. وفي رواية أن القائل بذلك عبد
الرحمن بن عوف وحده. فقال علي عليه السلام: إن كان قد
اجتهد فقد أخطأ وإن لم يجتهد فقد غشك. وفي رواية أخرى:
فاستشار عمر جماعة الصحابة، فقالوا: لا شئ عليك لأنك مؤدب.
فقال علي عليه السلام: إن كانوا قد جهلوا فقد أخطأوا، وإن كانوا
عرفوا فقد غشوك (1). ولم ينازعه أحد منهم في التخطئة، ولو كان

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 108.
44

القول بالتصويب مذهبا لبعضهم لنازعه فيها، كما ينازعونه في
كثير من المسائل، لما كان مذهبهم فيها خلاف مذهبه.
لا يقال: إنهم قصروا في الاجتهاد، فنكيره عليه السلام إنما وقع
لأجل التقصير، لأنا نقول وبالله التوفيق: حقيقة الاجتهاد عند
البصرية ومن وافقها: بذل الوسع في تحصيل الظن بحكم فرعي، عند
أكثرهم مطلقا، وعند أقلهم: لا من قبل النصوص والظواهر (1).
وعلي عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد في الروايتين وحكم
بأنه خطأ، وفي قولهم: إنما أنت مؤدب. دلالة على دعوى حصول
الاجتهاد منهم حيث عللوا بذلك، ولم يقولوه خبطا، فشك علي
عليه السلام فيها، فقسم قولهم فيها إلى: الخطأ والغش في روايتين،
وإلى: الجهل والغش في أخرى، لأن المخطئ جاهل فيما أخطأ فيه
إجماعا، فلما ثبت أنه عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد، وثبتت
الدلالة على دعوى الاجتهاد منهم، وجب أن يحمل اللفظ على
حقيقته المعروفة بين أهل الشرع، لاقتضاء المقام ذلك ضرورة، ولا
مقتضى للعدول عنها، ولأن التقصير في استنباط الأحكام الشرعية
عن أدلتها وأمارتها لا يسمى اجتهادا في عرف أهل الشرع إجماعا.
وروي عنه عليه السلام في (نهج البلاغة) أنه قال: (ترد على

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - المراد أنه إذا كان التحصيل من غير النص والظاهر فهو اجتهاد، أما إذا كان مجرد
تبني لمفاد النص والظاهر فلا يسمى مجتهدا وإنما يسمى عالما ومحتجا.
45

أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك
القضية بعينها على غيره فيحكم بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة
بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم
واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم الله - سبحانه -
بالاختلاف (1) فأطاعوه؟! أو نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل دينا
ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له، فلهم أن
يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل دينا تاما فقصر الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه؟!
والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) [الأنعام: 38].
وقال: (تبيانا لكل شئ) [النحل: 89]، وذكر أن الكتاب يصدق
بعضه بعضا، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: (ولو كان من عند
غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]، وإن القرآن ظاهره
أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف
الظلمات إلا به) (3).
قلت وبالله التوفيق: ولعل هذا جرى مجرى اقتصاص الملاحم،

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في النسخ: بخلاف. وفي النهج للاختلاف، ولعل الصواب ما أثبته.
(2) - في النهج: وفيه تبيان لكل شئ.
(3) - نهج البلاغة الخطبة رقم (18).
46

لأنه لم يرو عن أحد من الصحابة القول بالتصويب (1).
وقال عليه السلام في خطبة: (فيا عجبا وما لي لا أعجب من
خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها) (2).
وروي عنه عليه السلام، و [عن] زيد بن ثابت وغيرهما تخطئة
ابن عباس في عدم القول بالعول.
وروي عن ابن عباس أنه خطأ من قال بالعول، وروي عن ابن
عباس أيضا أنه قال: ((ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا
ولا يجعل أب الأب أبا).
وروي أن أبا بكر سئل وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم عن الكلالة، فقال: (سمعت فيها، وسأقول فيها
برأيي فإن أصبت فالله وفقني، وإن أخطأت فالخطأ مني ومن
الشيطان، والله ورسوله منه بريان). فصرح بالرأي، وهو في عرف
أهل الشرع يطلق على الاجتهاد والقياس والحكم، ولم ينقل أنه

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - كأن المؤلف استشعر هنا أن قائلا سيقول: إن كلام الإمام علي يشير إلى أنه قد
وقع الاختلاف والتصويب في زمن الصحابة وأنت تنكر ذلك. فلذا قال: ولعل هذا
جرى مجرى اقتصاص الملاحم. يعني بذلك التوقع والتكهن.
(2) - نهج البلاغة خطبة (88).
(3) - ليس في النسختين: عن، والصواب ذكرها لأن المعطوف على الضمير لا بد
فيه من إعادة الجار.
47

نوزع في التخطئة، ولو كان التصويب مذهبا لبعضهم لنازعه ونقل.
وروي أن كاتبا كتب عند عمر: هذا ما أرى الله عمر. فقال
عمر: (إمحه وأكتب: هذا ما رأى عمر، فإن يك صوابا فمن الله،
وإن يك غير صواب فمن عمر).
وروي عن عمر أيضا أنه قال: (لا يقولون أحدكم: قضيت بما
أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وآله
وسلم، ولكن ليجتهد رأيه).
وروي أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم
يفرض لها صداقا، فقال: (أقول فيها برأيي، فإن يك صوابا فمن
الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريان) (1).
وفي رواية أخرى: فإن يكن خطأ، فمن ابن أم عبد، إلى غير ذلك.
وتأويل ما روي من ذلك بأنه للتشديد في الاجتهاد فقط تلعب
بأقاويل أكابر الصحابة بلا دليل، إلا أنه خلاف مذهب المتأول،
إذ لو صح ذلك التأويل لكان من اعتنق (2) مذهبا مبتدعا على الصواب،
لأنه يمكنه شبه ذلك التأويل في كل دليل، فيقول الباطني: لا جنة
ولا نار، وإنما الوعد لمجرد الترغيب، والوعيد لمجرد الترهيب، وذلك

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - بيان فضل العلم 2 / 103.
(2) - في (أ): عشق.
48

خلاف ما علم من الدين ضرورة.
وأيضا قد وقع الخلاف بين الصحابة في الإمامة، والسكوت من
الجميع بعد النزاع فيها، كما وقع الخلاف والسكوت بعد النزاع في
مسائل الفروع، والإمامة من الأصول، فلو كان ذلك تصويبا منهم
لجرى في الأصول كما جرى في الفروع، والفرق تحكم (1).
وأيضا لا خلاف أن السكوت لم يقع من الصحابة إلا بعد النزاع
في مسائل الخلاف والإياس من رجوع المخالف إلى صاحبه. ومن
قواعد كثير من أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من علماء
الإسلام: أنه لا يجب النكير إلا عند ظن التأثير، وبعد النزاع والإياس
من رجوع المخالف ينتفي ظن التأثير ضرورة فكيف يعتد بسكوتهم
مع ذلك في تخصيص الأدلة القطعية.
وأما ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام من تولي بعضهم بعضا،
وعدم الذم واعتذارهم بقولهم: هذا رأيي. فبمراحل عن
الدلالة على التصويب، لأن الخطأ لا يمنع التولي، ولا يبيح الذم، لكونه
معفوا عنه، وقد مر الدليل على كونه معفوا عنه، وقولهم: هذا رأيي
وهذا رأيك. لا يدل عليه لا بصريحه ولا بفحواه، ألا ترى أنه يصح أن

--------------------------------------------------------------------------------

(1) يعني أن الجميع إنما سكتوا بعد النزاع - الدال على التخطئة - في مسألة الإمامة *
ومسائل الفروع، فتشابهت المسائل، فلو كان السكوت يدل على التصويب لجرى
على الخلاف في الأصول، الحال أنهم لا يجوزونه إلا في الفروع فقط.
49

نقول للجبري: هذا مذهبي وهذا مذهبك، ونقول لليهودي: هذا
ديني وهذا دينك اجتماعا، ولو كان ذلك يدل على التصويب لما جاز،
وأيضا قد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول
للكفار: (لكم دينكم ولي دين) [الكافرون: 6] ولم يكن ذلك تصويبا
لهم، مع أنه أوكد من قولهم: هذا رأيي وهذا رأيك، لأن فيه الإضافة
ولام الاختصاص (1)، وذلك لم يكن فيه إلا الإضافة فقط.
وأما دعوى عدم نقض بعضهم لحكم صاحبه - إن صح -
فلصيانة أحكام المصيبين عن أن ينقصها المخطئون، كما يدعيه - في عدم
نقض الأحكام المختلف فيها - المخالفون لنا في هذه المسألة، لأنهم
يقولون: لو جاز نقضها لم يستقر حكم البتة، لأن كل حاكم
يستجيز حينئذ نقض كل حكم يخالف مذهبه، ويفعل ذلك كما فعل
غيره، وكذلك هذا إذ لا فرق، وهو كاف في حل شبهتهم لكونه
عندهم حجة.
مع أن التحقيق أنه لم يصح ذلك، لأن عليا عليه السلام رد قطائع
عثمان، وفعل عثمان في قطائعه جار مجرى الحكم لكونه خليفة في
اعتقاد نفسه في الظاهر، وفعل الخليفة في نحو ذلك جار مجرى الحكم
بلا خلاف أعلمه.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - لام الاختصاص في (حكم) و (لي).
50

وأما خبر أبي هريرة وخبر عقبة بن عامر (1) فهما حجة لنا، لأن
فيهما التصريح بالتخطئة، وأما الأجر والحسنة المذكوران فيهما
للمخطئ فثواب من الله تعالى على النظر، لأنه عبادة إجماعا، لا على
الحكم بالخطأ، وإنما هو معفو عنه فقط، لقوله تعالى: (ليس عليكم
جناح فيما أخطأتم به) [الأحزاب: 5] (2).
وأما قولهم: الشرائع مصالح فلا يمتنع أن يخاطب الله بمجمل يريد
من كل ما فهمه، لأن المصالح تختلف باختلاف الناس، فمعارض
بقولنا: لا يمتنع أن يبيح الله كل ما وقع عليه النصوص من المحرمات
لبعض من الناس دون بعض، لأن المصالح فيها تختلف باختلاف
الناس فيكون الخمر حلالا لزيد حراما على عمرو!! وهذا خلاف
ما علم من الدين ضرورة، والفرق بينه وبين ما قالوا معدوم، إذ
لا دليل ولا مخصص، وإن كان غير ممتنع من العقل (3).
وممنوع من كون الشرائع اللازمة مصالح، لأنها شكر، من حيث

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - قد تقدما. وقال الإمام أبو طالب في التعليق على حديث أبي هريرة - وقد رواه
عن عمر بن العاص: (الخبر محمول على أن يخطئ خبرا مخالفا لحكمه فيما حكم به
ورد ولم يبلغه أو يخطئ طريقة أخرى في الاجتهاد لو سلكها لكان ثوابه أكثر، فأما
نفس الخطأ فلا يستحق عليه الأجر).
(2) - قال ابن عبد البر في بيان العلم 89: قال الشافعي: يؤجر، ولكنه لا يؤجر على
الخطأ لأن الخطأ في الدين لم يؤمر به أحد، وإنما يؤجر لإرادته الحق الذي أخطأه.
(3) - يعني وإن كان غير ممتنع في العقل أن يحل الله شيئا لواحد دون واحد.
51

أنه يجب في قضية العقل امتثال المالك المنعم (1) في ما أمر به ونهى
عنه لأجل النعم السابغة والملك، وذلك حقيقة الشكر، ألا ترى أن
العقلاء يذمون العبد المخل بامتثال أمر سيده المنعم عليه، ويقضون
بحسن عقوبته، دون من لم يعقد في عنقه لأحد نعمة فإنهم لا
يوجبون عليه شيئا لمن أمره أو نهاه ولا يذمونه في ترك ذلك وبذلك
نطق القرآن المجيد، قال تعالى: (اعملوا آل داود شكرا) [سبأ: 13]،
وانعقد عليه إجماع قدماء العترة عليهم السلام.
وقد جعل سبحانه التكليف بشكره متحدا إلا في أشياء معينة
محصورة، نحو ما اختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
الواجبات، وكذلك الأئمة، وكذلك ما يختص به الرجال دون
النساء من الجهاد والجمعة والأذان، ونحو ذلك وهذه لم ترد مورد
الخلاف فيقاس عليها جواز الخلاف في غيرها، ومن ذلك ما يختص
به كل من استقبال الجهات بالصلوات عند اختلاف الظنون في
القبلة، لأنه متفق على ذلك، وبالاتفاق عليه لم يقع التفرق في
الدين (2)، وإنما أرشد ذلك إلى أنه من باب الاختصاص، كاختصاص

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - كذا في النسخ، ولعل الصواب: الامتثال للمالك المنعم.
(2) - يعني: أن الاتفاق وقع على جواز الاختلاف - في استقبال القبلة ونحوها - عند
اختلاف الظنون، فما داموا متفقين على جواز الاختلاف فيها فلا تفرق، ومن هنا
يؤخذ أن المؤلف لا يمنع إلا من الاختلاف المؤدي إلى التفرق في الدين.
52

الجهاد بالرجال، بخلاف سائر المسائل المختلف فيها، فإنها لم تقم
دلالة البتة على أنها من باب الاختصاص، فتأمل.
وأما قولهم: لا حكم لله فيها معين. فنقول وبالله التوفيق: لا
يخلو: إما أن يكون الحكم الذي حصل بنظر المجتهد مما أنزل الله
تعالى، أو لا. إن كان مما أنزل الله، بطل قولهم، وصار معينا عند
الله سبحانه، لأنه لا ينزل سبحانه إلا ما قد عينه وأثبته، إذ خلاف
ذلك لا يصدر إلا عن جهل وذهول، والله تعالى منزه عنهما،
وأيضا فإن الله سبحانه قد أثبته إذ أنزله وعلم من حصله بنظره
وكلفه أن يعمل به، فكيف لا يكون مع ذلك معينا عنده.
وإن كان من غير ما أنزل الله سبحانه فليس من الشرع، لأنه لم
يشرعه حيث لن ينزله، وقد قال الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الظالمون) [المائدة: 45] ونحوها ولم يفصل.
وأما قولهم: إن مراد الله تابع لما أداه نظر المجتهد (1) لأن نظر
المجتهد تابع لمراد الله.
فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو إما أن يكون ما أداه نظر المجتهد
من الحكم مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لا،
إن كان الأول بطل قولهم، لأن جميع ما جاء به رسول الله صلى الله

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في (أ): لما أداه إليه نظر المجتهد.
53

عليه وآله وسلم مرادا لله تعالى، وذلك معلوم من الدين ضرورة،
وأيضا جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صراط الله
المستقيم، وقد قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) [الأنعام: 153]،
وذلك نص في اتباع صراطه الذي هو مراده تعالى بلا خلاف.
وإن كان الثاني فليس من الشرع، لأنه ليس مما جاء به رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من صراط الله الذي أمر باتباعه،
وإنما هو من السبل التي قال تعالى فيها: (ولا تتبعوا السبل فتتفرق بكم
عن سبيله) [الأنعام: 153].
وأما قول بعضهم: لأنه لا يخلو إما أن يريد الله سبحانه من كل
ما أداه إليه نظره، أو يريده من بعض دون بعض، أو لا يريد ذلك
من كلهم. الثالث باطل، لأنه خلاف الإجماع، والثاني باطل أيضا،
لأنه محاباة، ومن وصف الله بها كفر، فثبت الأول.
فنقول وبالله التوفيق: إن هذا القول لا يخلو من جهل، أو تمويه
على الجهال الذين لا يفقهون، لأن القائلين بتحريم الاختلاف
يقولون: إن الله يريد من كل قضية طلب حكم واحد، إذ
أمر الله سبحانه بالاجتماع في الدين دون التفرق، فإن اجتمعوا
عليه فذلك مراده منهم، وإن أصابه بعض وأخطأه بعض، فقد أصاب (1)

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في (أ): فقد طابق.
54

مراده تعالى المصيب وأخطأه المخطئ، فهذا خارج من ذلك التقسيم.
وأورد على ذلك قوله تعالى: (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما
وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) [الأنبياء: 79]
. وقوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن
الله) [الحشر: 5]، ولا حجة لهم في الآيتين على تصويب المجتهدين عند
الاختلاف.
أما الآية الأولى فهي حجة لنا، لأنه لو كان داود عليه السلام وسليمان عليه السلام
مصيبين معا لم يكن لتخصيص سليمان عليه
السلام بالتفهيم فائدة، وقوله: (وكلا آتينا حكما وعلما) [الأنبياء: 79]
احتراس من سوء توهم المتوهمين أن داود عليه السلام لم يكن
ذا حكم وعلم على الإطلاق، لو اقتصر على قوله: (ففهمناها
سليمان) [الأنبياء: 79]، كما في قوله تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة
على الكافرين) [المائدة: 54] فإنه ربما توهم أن ذلك لضعفهم، وكقول
كعب بن سعيد العنوي شعرا:
حليم إذا الحلم زين أهله
مع الحلم في عين العدو مهيب
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ربما توهم ذلك لضعفه.
وأما قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها
فبإذن الله) [الحشر: 5] فمعناها الإباحة فقط، لأنه سوى سبحانه بين
القطع والترك، وأباح ذلك لكل من الفريقين، ولا يجوز مثل ذلك من

55

المذهبين، فطلاق البدعة لا يجوز للناصر عليه السلام العمل به (1)، ولا
للهادي عليه السلام اطراحه (2)، فليتأمل ذلك والله أعلم، وذلك لا
يدل على تصويب المجتهدين عند الاختلاف لا بالمطابقة، ولا
بالتضمين، ولا بالالتزام، ولا بالقياس، لانتفاء الجامع.
فإن قيل: كان سبب نزولها وقوع الاختلاف في ذلك.
قلت وبالله التوفيق: قد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزولها أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالقطع، فقيل له كيف نفعل
ذلك وقد نهانا الله عن الفساد في الأرض: فنزلت مؤذنة بالإباحة،
فبطل ما قالوا، وإن سلم ما قالوا فنزول الآية مبين لحكم ما اختلفوا
فيه وهو الإباحة في ذلك فتأمل، والله أعلم وهو حسبنا ونعم
الوكيل.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - لأن الناصر يقول أن طلاق البدعة لا يقع.
(2) - لأن الهادي عليه السلام يقول إن طلاق البدعة يقع.
56

الفصل الثاني
في الإرشاد إلى معرفة المحق وتمييزه من المخطئ
[أدلة الكتاب على وجود طائفة على الحق واستمرارها]
وذلك أنه تقرر تحريم التفرق في الدين والاختلاف فيه، علمنا
أنا لا نعذر فيه باتباع المختلفين فيه، فنظرنا بعد ذلك في كتاب الله
تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كتاب الله تعالى
ناطق بأن طائفة من الأمة لم تزل على حق، قال تعالى: (والذين
اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) [محمد: 17] وقال تعالى: (والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) [العنكبوت: 69]،
وقال تعالى: (ولا تزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك
خلقهم) [هود: 118 - 119] أي لا يزالون مختلفين في الحق إلا من رحم
ربك، فإنهم لا يختلفون فيه، (ولذلك خلقهم) أي للاجتماع على
العمل بالحق دون الاختلاف فيه.
وقال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم

57

ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) [فاطر: 33] (1)، والمقتصد
والسابق بالخيرات على الحق، وقال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر) [النحل: 43 - 44]، فأمر سبحانه بسؤال
أهل الذكر لعلمه أنهم على الحق، إذ لو كانوا على الباطل لم يأمر
تعالى بسؤالهم، لأن ذلك من صفات النقص، وهي لا تجوز على الله
تعالى عنها، ولقوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي
أقوم) [الإسراء: 9]، فلو كانوا على الباطل لكان قوله تعالى: (فاسألوا
أهل الذكر) هاديا لغير التي هي أقوم، وذلك تكذيب لله تعالى علوا
كبيرا، وهو لا يجوز عليه تعالى.
ثم نظرنا هل تلك الفرقة مستمرة؟ فإذا القرآن ناطق باستمرارها
لأنه خطاب للأمة إلى آخر الدهر، قال تعالى ملقنا لرسوله صلى الله
عليه وآله وسلم: (لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام: 19]، قد أمر تعالى
جميع المخاطبين بسؤال أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون بالبينات
والزبر.
وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جارية على

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - روى الحسن بن الحكم الحبري، عن حسن بن العرني، عن يحيى بن
مساور، عن أبي خالد الواسطي، عن الإمام زيد بن علي في قوله: (ثم أورثنا
الكتاب..) الآية، قال: الظالم لنفسه المختلط منا بالناس، والمقتصد العابد، والسابق:
الشاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه. أنظر: تفسير الحبري 355، شواهد التنزيل رقم
(783).
58

هذا النسق، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ستفترق
أمتي من بعدي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة
واحدة) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) (2).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - يبدو من احتجاج المؤلف بهذا الحديث أنه يعتقد صحته، وقد وقع خلاف حول
تصحيحه بما فيه من زيادات فقال الإمام أبو طالب في (شرح البالغ المدرك): (وقد
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ستفترق أمتي على ثلاث
وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة فإنها هي الناجية). وقد زيد في هذا الخبر ونقص
منه. وقال قوم: ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلها ناجية إلا فرقة. واعتبروا أنه
لا يقال: أمة محمد ضالة في هوى. وقال قوم: من هي الناجية يا رسول الله؟ فقال:
(ما أنا عليه وأصحابي). ووقف قوم عن هذا الخبر ولم يصدقوه ولم يكذبوه).
وقال الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم 1 / 186: (وإياك والاغترار ب‍
(كلها هالكة إلا واحدة)، فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة القاعدة، لا يؤمن أن تكون
من دسيس الملاحدة، وعن ابن حزم: إنها موضوعة غير موقوفة ولا مرفوعة).
(2) - ورد هذا الخبر بألفاظ وطرق متعددة، فقد أخرجه بلفظه الترمذي (1229) عن
ثوبان وصححه.
وبلفظ مقارب أخرجه مسلم 13 / 65 (بشرح النواوي)، وابن ماجة 5 - 6،
وأحمد 5 / 578 و 283 و 284 عن ثوبان أيضا.
وأخرجه الدارمي 2 / 213، والحاكم 4 / 449 وأقره الذهبي عن عمر.
وأخرجه البخاري 9 / 181، ومسلم 13 / 66، والدارمي 2 / 213 عن المغيرة بن
شعبة.
وأخرجه النسائي 6 / 214 عن سلمة بن نفيل. وأخرجه مسلم 13 / 66 (بشرح
النواوي) عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
وأخرجه عبد بن حميد 115، وأحمد 4 / 369، عن زيد بن أرقم.
وأخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعد بن أبي وقاص 15 / 552.
59

فلما عرفنا ذلك، وجب علينا أن نطلب تلك التي حكم الله
سبحانه أنها على الحق، لنتبعها في طريقها، ونهتدي بها في هديها.
[الفرقة الظاهرة على الحق]
فنظرنا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
، فإذا كتاب الله تعالى ناطق بأنها أهل البيت عليهم السلام
وأتباعهم، قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب: 33] ومجئ هذه الآية مع ذكر أزواج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طريقة مجئ قوله تعالى: (إنما
يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) [الأنعام: 36]، مع قوله
تعالى قبل: (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا
في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على
الهدى فلا تكونن من الجاهلين) [الأنعام: 35] وقال تعالى بعده: (وقالوا
لولا أنزل عليه آية من ربه) [العنكبوت: 50].
والوجه في ذلك أنه تعريض بهن بأنهن غير معصومات، كما أن
قوله سبحانه وتعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم

60

الله) تعريض بالذين ذكرهم الله قبلها وبعدها أنهم لا يسمعون، أي
لا يعلمون ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله
تعالى، وقد أطلق البلغاء على أن أحسن مواقع (إنما) التعريض كما
ذكرته في الآيتين الكريمتين، ويؤيد ذلك تذكير الضمير حيث قال
تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا) [الأحزاب: 33]، وقال: (يطهركم) بخلاف ما قبل ذلك
وبعده، فإنه مؤنث.
لا يقال: إن الله تعالى مريد لمثل ذلك من جميع البشر، لأنا نقول:
وهو تعالى مريد لأن يفعل البشر كلهم، لا أنه تعالى يفعله لهم، ألا
ترى إلى قوله تعالى: (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في
الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 41]، بخلاف أهل
البيت عليهم السلام، فإن الآية نص صريح على أنه يريد أن يفعل
ذلك لهم، حيث قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) [الأحزاب: 33] ولم يقل إنما يريد لتذهبوا
عنكم الرجس أهل البيت وتطهروا تطهيرا، فإذا أراد شيئا من فعله
سبحانه فعله، إذ هو على كل شئ قدير.
فإن قيل: وما فعله تعالى الذي ذكرت؟
قلت وبالله التوفيق: هو عصمته، وقد تقدم ذكر حقيقة العصمة

61

في الأساس) (1).
وقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) [الشورى:
23]، والله تعالى لا يلزم عباده مودة من كان على غير الحق، لقوله
تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله) الآية [المجادلة: 22].
وأجمع قدماء العترة عليهم السلام على أن قوله تعالى: (ثم أورثنا
الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) الآية. نزلت في أهل بيت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أذهب الله عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا فما كانوا ليجمعوا في ذلك على باطل.
وكذا أجمعوا على أن قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون) نزلت فيهم عليهم السلام، ومن شك في ذلك بحث في
كتبهم عليهم السلام وكتب أشياعهم رضي الله عنهم (2).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الأساس في عقائد الأكياس كتاب للمؤلف في أصول الدين.
(2) - قال الإمام زيد في تثبيت الوصية (فجعل الله عز وجل عند محمد صلى الله عليه
وآله وسلم علم القرآن، وجعله ذكرا له وجعل الله علمه عند أهل بيته، وجعله ذكرا
لهم، فمحمد وآل محمد هم أهل الذكر، وهم المسؤولون المبينون للناس، قال تعالى:
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس) [النحل: 44]. وأخبر الله عز وجل أن أهله
سيسألون من بعده، فقال: (وسوف تسألون) [الزخرف: 44]، فجعل عندهم علم
القرآن، وأمر الناس بمسألتهم. وقال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
[النحل: 43]، والذكر: هو القرآن. وقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل
إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل: 44]، ولم يأمر المسلمين أن يسألوا اليهود
والنصارى، [لأن المفسرين فسر أهل الذكر بأهل الكتاب] وكيف يأمر الله أن
نسأل اليهود والنصارى؟ أو ينبغي لنا أن نصدقهم إذا قالوا؟ لأنا إذا سألناهم جعلوا
اليهودية والنصرانية خيرا من الإسلام، فلم يكن الله ليأمرنا بمسألتهم ثم ينهانا عن
تصديقهم، إنما أمرنا أن نسأل الذين يعلمون ثم أمرنا أن نصدقهم ونطيعهم، فمن
كذب آل محمد في شئ وضللهم فإنما يكذب الله، لأن الله قد اصطفاهم وأذهب
عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا).
62

وفيهم من كتاب الله سبحانه من ذلك كثير، وقد روى
اختصاصهم به الموالف والمخالف.
وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يكثر
ويطول، حتى أفاد العلم القطعي الذي لا يمكن دفعه بشك ولا
شبهة.
من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن
تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي،
إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (1).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) أخرجه وفيه لفظ: (العترة): الإمام زيد بن علي (ع) في المجموع 404، والإمام
علي بن موسى في الصحيفة 464، والدولابي في الذريعة الظاهرة 166 رقم (228)،
والبزار 3 / 89 (864) عن علي عليه السلام.
وأخرجه مسلم 15 / 179، والترمذي 5 / 622 رقم (788 3)، وابن خزيمة
4 / 62 رقم (2357)، والطحاوي في مشكل الآثار 4 / 368 - 369، وابن أبي شيبة
في المصنف 7 / 418، وابن عساكر في تاريخ دمشق 5 / 369 (تهذيبه)، والطبري في
ذخائر العقبى 16، والبيهقي في السنن الكبرى 7 / 30، والطبري في الكبير 5 / 166
رقم (4969)، والنسائي في الخصائص 150 رقم (276)، والدارمي 2 / 431،
وابن المغازلي الشافعي في المناقب 234، 236، وأحمد في المسند 4 / 367، وابن
الأثير في أسد الغابة 2 / 12، والحاكم في المستدرك 3 / 148 وصحيحه وأقره الذهبي،
عن زيد بن أرقم.
وأخرجه عبد بن حميد 107 - 108 (في المنتخب)، وأحمد 5 / 182 و 189،
والطبراني في الكبير 5 / 166، وأورده السيوطي في الجامع الصغير 157 رقم
(2631)، ورمز له بالتحسين، وهو في كنز العمال 1 / 186 رقم 945 وعزاه إلى
ابن حميد وابن الأنباري عن زيد بن ثابت.
أخرجه أبو يعلى في المسند 2 / 197 و 376، وابن أبي شيبة في المصنف
7 / 177، والطبراني في الصغير 1 / 131 و 135 و 226، وأحمد في المسند 3 / 17،
6 / 26، وهو في كنز العمال 1 / 185، رقم (943)، وعزاه إلى البارودي، ورقم
(944) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن سعد وأبي يعلى، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الخطيب في التاريخ 8 / 442 عن حذيفة بن أسيد، وهو في الكنز
1 / 189.
وأخرجه الترمذي في السنن 5 / 621 رقم (3786)، وذكره في كنز العمال
1 / 117 رقم (951)، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، والخطيب في المتفق والمفترق عن
جابر بن عبد الله.
63

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي فيكم كمثل

64

سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى) (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (النجوم أمان لا هل السماء،
فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وأهل
بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل
الأرض

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أخرجه الإمام الهادي في الأحكام 2 / 555 بلاغا، وأخرجه الإمام أبو طالب في
الأمالي 105، والإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية 1 / 151 و 156، وابن
المغازلي الشافعي في المناقب 133، والحموئي في فرائد السمطين 2 / 246 رقم
(519)، الطبراني في الكبير 3 / 45 رقم (2636)، والحاكم في المستدرك 3 / 151
و 2 / 343 عن أبي ذر الغفاري، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية 4 / 306، والطبراني في الكبير 12 / 34 (12388)،
وابن المغازلي الشافعي في المناقب 132، والطبري في ذخائر العقبى 20، وقال:
أخرجه الملأ. عن ابن عباس.
وأخرجه الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية 1 / 154، والطبراني في الصغير
2 / 85 (852) عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الإمام علي بن موسى الرضا في الصحيفة المطبوعة مع المجموع 464،
والطبري في ذخائر العقبى 20 عن علي، وقال: أخرجه ابن السري.
وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12 / 91 عن أنس بن مالك.
وأخرجه ابن المغازلي الشافعي في المناقب 233 عن سلمة بن الأكوع، بألفاظ
مختلفة.
65

ما يدعون) (1)، إلى غير ذلك.
قال الديلمي (2) رحمه الله: الأحاديث التي من روايات الفقهاء
المتفق عليها - يعني في أهل البيت عليهم السلام - ألف وستمائة
وخمسة أحاديث، غير ما ذكره أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم
رضي الله عنهم، منها ستمائة وخمسة وثمانون حديثا تختص بعلي
عليه السلام، وتسعمائة تختص بالعترة عليهم السلام، كل
واحد منها يدل على إمامتهم وفضلهم على سائر الناس.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا في الصحيفة 363، والإمام المرشد بالله
في الأمالي الخميسية 2 / 152، والحموئي في فرائد السمطين 2 / 153، والطبري في
ذخائر العقبى 17 عن علي.
وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب رقم (220 - 624)، والإمام
المرشد بالله 1 / 155، والطبراني في الكبير 7 / 22، والحموئي في فرائد السمطين
2 / 241 و 252 ورواه الهيثمي 9 / 174 وقال رواه الطبراني. ورواه السيوطي في
إحياء الميت 23 وقال: أخرجه ابن أبي شيبة ومسدد في مستنديهما، والحكيم
الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو يعلى عن سلمة بن الأكوع. ومثله في
تخريج شمس الأخبار 1 / 127.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 / 448 عن جابر وصححه.
(2) - محمد بن الحسن الديلمي فقيه ومؤرخ زيدي، أصله من الديلم وانتقل إلى
اليمن وسكن صنعاء، وكان من العلماء المبرزين، توفي سنة (711 ه‍)، من كتبه: (قواعد
عقائد آل محمد) - خ - ملحق البدر الطالع 194، الأعلام 6 / 86.
66

وقال الإمام المنصور بالله [عبد الله بن حمزة] عليه السلام (1) ما
معناه: الأحاديث فيهم عليهم السلام من رواية الموالف والمخالف
قريب من ألف حديث (2).
وفي شيعتهم عليهم السلام قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما
أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته قدم حتى ينجيه الله يوم
القيامة) (3).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي من أحب ولدك فقد
أحبك، ومن أحبك فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن
أحب الله أدخله الله الجنة، ومن أبغضهم فقد أبغضك، ومن

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الإمام المنصور بالله عبد الله بحمزة بن سليمان بن حمزة الحسني أحد أئمة
الزيدية، ولد في شهر ربيع الآخر سنة (561 ه‍)، قيل: كان نادرة عصره، وأعجوبة
دهره في الحفظ والذكاء والبلاغة والبراعة والشجاعة، دعا إلى الله سنة (583 ه‍)
أولا ثم سنة (593 ه‍) دعوة عامة وأجابه كثير من فضلاء اليمن وما زال مجاهدا
حتى توفي سنة (614 ه‍) الحدائق الوردية - خ -، تاريخ اليمن الفكري 3 / 39 -
41، المقتطف من تاريخ اليمن 128، والفلك الدوار 17.
(2) - ينظر في هذا الرقم، أولا في أن المؤلف حكاه وأنه ليس فيه تصحيف، ثم في نسبته
للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، لأن أحاديث السنة النبوية كلها لا تكاد تبلغ
هذا العدد، وربما يكون الصواب: ألف حديث فسهى بعض النساخ وأضاف ألف
أخرى فأصبحت مليونا.
(3) - رواه الإمام الهادي كما في درر الأحاديث النبوية 51.
67

أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله
كان حقيقا على الله أن يدخله النار) (1) إلى غير ذلك مما يكثر
ويطول، ويفيد العلم الذي لا يمكن دفعه.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - رواه الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام 2 / 555، وله شواهد كثيرة أنظر:
فضائل الخمسة من الصحاح الستة 3 / 249.
68

الفصل الثالث
في ذكر وقوع الاختلاف بين أهل
البيت (ع) والإرشاد إلى معرفة أسبابه
[سبب وقوع الاختلاف بين أهل البيت (ع)]
وذلك أنه لما تقرر وجوب اتباعهم عليهم السلام، نظرنا في
أقاويلهم وإذا الخلاف قد وقع بينهم، وإذا له أسباب، منها:
1 - السهو والغلط
وقد نبه الله سبحانه على ذلك وعفا عنه، قال تعالى مرشدا أو
ملقنا: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) [البقرة: 286]، وقال تعالى:
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) [الأحزاب: 5].
وكذلك جاءت السنة شرفها الله تعالى، قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) الخبر، إلى غير
ذلك، نحو ما تقدم من خبري أبي هريرة وعقبة بن عامر.
وكذلك جاء عن الأئمة كما ذكره الهادي عليه السلام في كتاب.

69

(القياس)، وستقف على ذلك إن شاء الله تعالى بلفظه، وكما ذكره
المؤيد بالله عليه السلام في (الإفادة) (1) ولفظه: (يجوز أن يخطئ الإمام
ويسهو فيما يفتي ويجتهد من المسائل، ولا خلاف في ذلك إلا عن
بعض الإمامية) وحكي في (سيرة المؤيد بالله عليه السلام) (2) عنه
عليه السلام أنه قال: (وددت أني أتمكن مما أفتيت به فأحرقه).
قلت: وإنما قال ذلك عليه السلام لأنه قد تبين له أن الحق على
خلاف ذلك، إذ لو كان حقا لما قال ذلك، لأنه يجب إظهار الحق
ولا يجوز تحريفه لقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات
والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون) [البقرة: 159].
ومن ذلك ما قاله الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الإفادة في الفقه للإمام المؤيد بالله، ولم تزل في عداد المخطوطات. والمؤيد بالله
هو: أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن
القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) من أئمة الإسلام
وعلماء الزيدية الأعلام، وصاحب التصانيف المفيدة والأنظار السديدة، ولد بآمل
سنة (333 ه‍) ونشأ على العلم والصلاح، ثم قام بأمر الأمة سنة (380 ه‍)،
وبويع له بالديلم وكان عزيز العلم واسع الرواية، توفي بآمل سنة (421 ه‍). أنظر
مقدمة الأمالي الصغرى، الفلك الدوار 63.
(2) - سيرة المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، للإمام المرشد بالله، مخطوط.
70

السلام (1) في كتاب الحدود من كتاب (أصول الأحكام) (2) ولفظه:
(لأن من يباشر مثل الإمامة لا يبعد أن يكثر خطأه، لأن كثرته
بحسب كثرة الأعمال).
ومن ذلك ما قاله الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتاب
الوقف من (المهذب) (3) ولفظه: (وأما قول السائل: هل ينقض حكم
الهادي عليه السلام؟ فنحن نهاب ذلك لعظم حاله فيما أضيف إليه، كما
نهاب إثبات ما قامت الأدلة على بطلانه، بل نقول: لا يمتنع وقوع
السهو في المسألة وأشباهها لا سيما على مثله عليه السلام، فإن كثيرا
منها أملاها وهو على ظهر فرسه تجاه العدو).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن محمد ينتهي نسبه إلى الإمام الهادي
(ع)، أحد أئمة الزيدية الأفاضل، ولد سنة (500 ه‍)، وظهر داعيا إلى الله، وإلى
الجهاد في سبيل الله سنة (532 ه‍) وبايعه خلق كثير وملك صنعاء وزبيد وصعدة
ونجران وخطب له بالحجاز. توفي في حيدان من بلاد خولان عامر سنة (566 ه‍)،
وقبره بها مشهور مزور، ويعرف بالمشهد. أنظر: الحدائق الوردية - خ -، طبقات
الزيدية - خ -، التحفة العنبرية - خ -، اللآلي المضيئة - خ - مآثر الأبرار - خ -،
الأعلام 1 / 132، الفلك الدوار 66.
(2) - كتاب أصول الأحكام في الحلال والحرام للإمام المتوكل على الله أحمد بن
سليمان، وهو ملخص للأحاديث التي في شرح التجريد مع حذف أسانيدها، وهو
الآن عندنا تحت التحقيق، أسال الله العون عليه.
(3) كتاب المهذب من كتب الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في الفقيه، مخطوط.
71

وكذلك ذكر المتأخرون عليهم السلام جواز الخطأ على الحكام
المجتهدين، في باب القضاء من مصنفاتهم.
2 - [الخروج إلى مذاهب الفرق]
ومن أسباب الخلاف بينهم عليهم السلام خروج بعضهم إلى
غيرهم من سائر الفرق كالخارجين إلى الروافض (1) وإلى مذهب
المطرفية (2).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الروافض هم الذين رفضوا نصرة أهل البيت عليهم السلام تحت أي مبرر.
(2) - المطرفية: جماعة انشقوا عن الزيدية وخالفوهم في بعض المسائل، وسموا مطرفية
نسبة إلى كبيرهم اسمه مطرف.
72

الفصل الرابع
في الإرشاد إلى ما يجب من العمل في اتباع أهل البيت (ع) بعد اختلافهم
وقد تضمن ذلك مطلبين:
المطلب الأول: [في وجوب النظر في صحيح الأدلة]
إنا لما علمنا وقوع الاختلاف بينهم وقد أمرنا باتباعهم، ونهينا
عن التفرق في الدين، وعلمنا أسباب وقوع ذلك الخلاف بينهم
، وأنه إنما وقع خطأ أو سهوا، وإن عذروا عليه فليس بحق، وأنه ليس
منا بسهو ولا خطأ فنعذر عليه، وكذلك ما شورك فيه من أقوال أهل
البدع ليس بحق، وجب علينا أن ننظر ما يجب علينا في ذلك.
فنظرنا في كتاب الله تعالى فإذا هو ناطق بوجوب عرض المختلف
فيه على الكتاب العزيز، وما صح من سنة الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله

73

والرسول) [النساء: 59]، فأمر تعالى وطاعة رسوله وأولي الأمر
، وهم أهل البيت عليهم السلام، لما مر من الأدلة على وجوب
اتباعهم، والمطاع متبوع وليس بتابع ولوقوع الإجماع على
صلاحية ذلك فيهم، والاختلاف فيمن سواهم، وقفاه تعالى برد ما
تنوزع فيه إلى الله والرسول، والمختلف فيه متنازع فيه، والرد إلى
الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو إلى سنته الجامعة غير
المفرقة، وهذا - أعني تفسير الرد إلى الله والرسول - مأثور عن أمير
المؤمنين عليه السلام, ولا أحفظ في ذلك خلافا بين العترة عليهم
السلام.
قال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) [الشورى:
10]، أي: مردود إلى ما جاء عن الله تعالى في كتابه العزيز وعلى
لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذلك السنة كما تقدم ذكره عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أخبرني
جبريل عليه السلام فقال: إن أمتك مختلفة بعدك فقلت: أين المخرج
يا جبريل؟ فقال: يا جبريل:؟ فقال: كتاب الله... الخبر).
[عدم ورود دليل على جواز اتباع أفراد العترة إلا عليا (ع)]
ولم يرد دليل على جواز اتباع فرد من العترة - في غير طاعة
الإمام فيما يترتب على صحة إمامته، كالحدود والجمعة - عند

74

الاختلاف غير علي عليه السلام، وذلك معلوم باستقراء الكتاب
والسنة، كما قال تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه) [الشورى:
13]، واتباع الآحاد مع الاختلاف مؤد إلى التفرق في الدين.
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي
فيكم كمثل سفيه نوح من ركبها نجا)، فذكر صلى الله عليه وآله
وسلم أهل بيته جميعا لا أفرادهم.
وأما علي عليه السلام فمخصوص بما تواتر معنى وأفاد القطع الذي لا
يدفع من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مع
الحق والحق مع علي) (1).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أخرجه الإمام أبو طالب في الأهالي الباب (3)، ومن طريقه أخرجه الحموئي في
فرائد السمطين 1 / 176 (140). وأخرجه الدولابي في الكنى 2 / 89، وابن عساكر
في ترجمة الإمام علي 3 / 154 من طريق مالك بن جعونه، عن أم سلمة. وأخرجه
الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 14 / 321، والطبراني في المعجم الكبير 23 / 329
- 330 رقم (756) و 395 - 396 رقم (946)، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد
9 / 134، وقال: رواه الطبراني عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقول: (علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا
علي الحوض يوم القيامة).
وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص، رواه الهيثمي أيضا في مجمع الزوائد
7 / 235، وقال: رواه البزار، وفيه سعد بن شعيب، ولم أعرفه، وبقية رجاله
رجال الصحيح.
أقول: هو: سعد بن شبيب الحضرمي، أبو عثمان المصري رفيق بن إدريس،
خفي عليه لمكان التصحيف، وقد ترجمه غير واحد وقال الجوزجاني: شيخ صالح
صدوق. وذكره المزي في تهذيب الكمال 10 / 498، وقال: روى له النسائي. وله
ذكر في تهذيب التهذيب 4 / 42، والخلاصة 139.
وعن أبي سعيد أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 2 / 153 (تهذيبه)،
وابن المغازلي الشافعي في المناقب 244، وأبو يعلى الموصلي في المسند
2 / 318 رقم (1052). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 235: رواه أبو
يعلى ورجاله ثقات.
وعن علي أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 124، والترمذي في السنن 5 / 592
رقم (3714).
وقال المباركفوري معلقا على الحديث: أي اجعل الحق دائرا وسائرا (حيث دار)
أي علي، ومن ثمة كان أقضى الصحابة وأعلمهم. تحفة الأحوذي 10 / 217. وقال:
رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 / 78، عن محمد بن أبي بكر أنه دخل
على أخته عائشة، فقال لها: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (
علي مع الحق، والحق مع علي) ثم خرجت تقاتلينه.
75

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خذوا بحجرة هذا الأنزع،
فإنه الصديق الأكبر، والهادي لمن أتبعه، ومن اعتصم به أخذ بحبل
الله، ومن تركه مرق من دين الله، ومن تخلف عنه محقه الله، ومن
ترك ولايته أضله الله، ومن أخذ ومن أخذ ولايته هداه الله).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي

76

بابها) (1)، وذلك كثير مما يطول ولا يتسع له هذا المسطور، وهو

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - رواه الإمام الهادي في كتاب العدل والتوحيد 69 (رسائل في العدل
والتوحيد)، ورواه الشريف الرضي في مجازات السنة 203 - 204.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 126 - 127 من طرق وصححه، والطبراني في
الكبير 11 / 65 - 66 رقم (11061)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 6 / 99
وقال: سألت أبي عنه فقال: ما أراه إلا صدقا، وابن المغازلي الشافعي في المناقب 81
رقم (121)، و 82 رقم (123)، و 83 رقم (124)، وابن الأثير في أسد الغابة
4 / 22، والحموئي في فرائد السمطين 1 / 98 رقم (67). والسيوطي في الجامع
الصغير 1 / 161 رقم (2705)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 2 / 466 رقم (992)
(ترجمة الإمام علي بتحقيق المحمودي)، والديلمي في الفردوس 1 / 44 رقم (106)،
والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 4 / 348 و 7، 173 و 11 / 48، 49، 204،
والحافظ السمرقندي كما في تذكر ة الحافظ 4 / وصححه عن ابن عباس.
وأخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة كما في كنز العمال 11 / 614 رقم
(32978)، وابن المغازلي الشافعي في الناقب 82 رقم (122) و 85 رقم (126)،
ومحب الدين الطبري في الرياض 3 / 159، وفي الذخائر 77، وابن عساكر في تاريخ
دمشق 2 / 465 رقم (991) (ترجمة الإمام علي بتحقيق المحمودي)، والحاكم
الحسكاني في شواهد التنزيل 1 / 334 و 2 / 274 عن علي عليه السلام.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 127، وابن عدي في الكامل 1 / 195، وابن
المغازلي الشافعي في المناقب 81 رقم (120) عن جابر بن عبد
الله، وصححه الحاكم كما في 3 / 127، والسيوطي، والطبري ويحيى بن معين كما في
الكنز 13 / 148، وتاريخ بغداد 11 / 49، وصححه الحافظ السمرقندي كما في
التذكرة 4 / 1231.
77

عليه السلام لا يخالف الكتاب والسنة، ولا جماعة العترة عليهم
السلام تخالفه.
وإلى ما قد تقرر من عدم جواز اتباع الواحد من العترة عليهم
السلام عند الاختلاف - في غير ما يترتب على صحة إمامة الإمام -
غير علي عليه السلام، ومن وجوب العرض مع ذلك على كتاب
الله وسنة رسوله ذهب قدماء العترة عليهم السلام ومن وافقهم من
المتأخرين.
[موقف الإمام علي عليه السلام من الفرقة]
قال علي عليه السلام في بعض خطبه: (وإن الله سبحانه وتعالى
لم يعط أحدا بفرقة خيرا فيمن مضى ولا فيمن بقي) (1)، وذلك
تصريح منه عليه السلام بتحريم اتباع الآحاد عند الاختلاف، لوقوع
الفرقة بذلك ضرورة.
وقال عليه السلام في كلام كلم به الخوارج: (وإياكم والفرقة،
فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذة من الغنم للذئب) (2).
قلت وبالله التوفيق: والمراد بالشاذ هو من شذ عن الحق، فإنهم

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - نهج البلاغة الخطبة رقم (176).
(2) - نهج البلاغة الخطبة رقم (127).
78

للشيطان ولو كثروا، كالشاذة من الغنم عن رعاتها، فإنها للذئب
ولو كثرت
وقال عليه السلام في بعض خطبه - وهو على منبر الكوفة -:
(والله لو تبعتموني ما عال عائل الله، ولا طاش سهم من كتاب الله،
ولا اختلف اثنان في حكم الله تعالى، ولأكلتم من فوقكم ومن تحت
أرجلكم) (1).
وقال عليه السلام في بعض خطبه: (فاسألوني قبل أن تفقدوني،
فوالذي نفسي بيده، لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة
ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة وتضل مائة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها
وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها ومن يقتل من أهلها قتلا،
ومن يموت منهم موتا..) (1) إلى آخر كلامه عليه السلام.
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن علي رضوان الله
عليه أنه كان يقول: (والله لو أطعتموني لقضيت بينكم
بالتوراة حتى تقول التوراة: اللهم قد قضى بي، ولقضيت بينكم بالإنجيل
حتى يقول الإنجيل: اللهم قد قضى بي، ولقضيت بينكم بالقرآن
حتى يقول القرآن: اللهم قد قضى بي، ولكن والله لا تفعلون، والله

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - لم أقف عليه في نهج البلاغة، ولعل الإمام نقله عن كتاب آخر.
(2) نهج البلاغة الخطبة رقم (92).
79

لا تفعلون) (1).
قلت وبالله التوفيق: وهذا كما تقرر بالأدلة من أنه يجب
اتباعه عليه السلام وحده عند الاختلاف، وأما وجه دلالة
كلامه الآخر (2) على ذلك فواضح، وأما الأول فلأنه عليه السلام
حث على سؤاله وذكر سبب ذلك، والسبب لا يوجب قصر
اللفظ عليه كما تقدم بيانه.
وقال عليه السلام في بعض خطبه: (واعلموا عباد الله أن المؤمن
يستحل العام ما استحل عاما أول، ويحرم العام ما حرم عاما أول،
وأن ما أحدث الناس لا يحل لكم [شيئا] مما حرم عليكم، ولكن
الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله) (3).
قلت وبالله التوفيق: وهذا الكلام منه عليه السلام قاض عند
اختلاف الناس وفقد معرفة مذهبه، لوجوب العرض على كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ليعرف ما أحل الله سبحانه
وما حرم، إذ لا سبيل إلى معرفة الشرعيات من غيرها، وأما إذا عرف
مذهبه عليه السلام فلا يجب العرض عليهما، لأنه المترجم عن كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل ما مر.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الأحكام 2 / 448.
(2) - كذا في النسخ.
(3) نهج البلاغة الخطبة رقم (176) وما بين المعكوفين منه.
80

وقال عليه السلام في بعض خطبه: (فإنه لم يخف عنكم شيئا من
دينه، ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلا وجعل له علما باديا، وآية
محكمة تزجر عنه، أو تدعو إليه، فرضاه فيما بقي واحد، وسخطه
فيما بقي واحد) (1).
قلت وبالله التوفيق: وهذا كالأول.
وإجماع قدماء العترة عليهم السلام على أن قول علي عليه السلام
حجة، وبذلك قال من وافقهم من المتأخرين، وذلك نص صريح
منهم عليهم السلام، يعني وجوب اتباعه عليه السلام عند
الاختلاف.
[وجوب رد أقوال آحاد العترة إلى الكتاب والسنة]
[قول الإمام زيد بن علي في ذلك]
وأما غيره - [يعني عليا] عليه السلام - من سائر العترة، عند
الاختلاف، فحكى الديلمي رحمه الله، عن زيد بن علي عليه
السلام (2)، أنه قال: (إنما نحن مثل الناس، منا المخطئ ومنا المصيب،

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - نهج البلاغة الخطبة رقم (183).
(2) - الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد بالمدينة سنة
(75 ه‍) على الصحيح، ونشأ بالمدينة، رحل إلى الكوفة وناظر علماءها وأقام بها
شهرا، وعاد إلى المدينة، ثم عاد إلى الكوفة مرة أخرى، ودعا إلى الله وقاتل حتى
استشهد سنة (122 ه‍) ثم صلب، ثم أحرق. أنظر كتابنا: (الإمام زيد شعلة في ليل
الاستبداد)، الفلك الدوار 26.
81

فسائلونا ولا تقبلوا منا إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله
عليه وآله وسلم) (1).
[قول الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق]
وروي عن محمد بن علي الباقر وولده جعفر وغيرهما من
القدماء أنهم قالوا: (لا تقبلوا منا ما خالف كتاب الله).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - وقال في جواب على سؤال ك (وكتبت تسألني عن أهل بيتي وعن اختلافهم، فاعلم
يرحمك الله تعالى أن أهل بيتي فيهم المصيب وفيهم المخطئ، غير أنه لا تكون هداة
الأمة إلا منهم، فلا يصرفك عنهم الجاهلون، ولا يزهدك فيهم الذي لا يعلمون وإذا
رأيت الرجل منصرفا عن هدينا، زاهدا في علمنا، راغبا عن مودتنا، فقد ضل ولا
شك عن الحق، وهو من المبطلين الضالين، وإذا ضل الناس عن الحق، لم تكن الهداة
إلا منا، فهذا قولي يرحمك الله تعالى في أهل بيتي).
وقال في جوانب سؤال الآخر: (فمن جاءك عني بأمر أنكره قلبك وكان مباينا لما
عهدته مني، ولم نفقهه عني، ولم تره في كتاب الله عز وجل جائزا، فأنا منه برئ،
وإن رأيت ذلك في كتاب الله عز وجل جائزا، وللحق مماثلا، وعهدت مثله ونظيره
مني، ورأيته أشبه بما عهدته عني، وكان أولى بي في التحقيق، فاقبله فإن الحق من أهله
ابتدأ وإلى أهله يرجع). أنظر مجموع وسائل وكتب الإمام زيد (ع) بتحقيقنا،
وانظر: قواعد عقائد آل محمد - خ -.
82

[قول الإمام القاسم بن إبراهيم في ذلك]
وروى الديلمي رحمه الله، عن عبد الله بن زيد العنسي رحمه الله
تعالى، قال: بلغنا بإسناد صحيح إلى القاسم بن إبراهيم عليه
السلام (1)، أنه قال: (أدركت مشيخة آل محمد من ولد الحسن
والحسين وما بين أحد منهم اختلاف، ثم ظهر أحداث فتابعوا العامة
في أقوالها).
قلت وبالله التوفيق: وهذا دليل أنه عليه السلام لم يقبل متابعة
الآحاد منهم عند الاختلاف، لأنه لا يعرف إلا اجتماع مشايخ آل
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى استنكر متابعة الأحداث
للعامة.
وروى بعض المتأخرين عنه عليه السلام ما معناه أنه يقول بتقليد
جماعة أهل البيت عليهم السلام.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن
أبي طالب، أبو محمد المعروف بالرسي نسبة إلى جبل الرس، وهو جبل أسود بالقرب
من ذي الحليفة على ستة أميال من المدينة، ولد سنة (196 ه‍). وهو أحد أئمة
الإسلام والعلماء الأعلام، كان صاحب علم غزير، ومعرفة واسعة وفقه وراوية،
وكان مناظرا شاعرا أديبا، دعا إلى الله بعد موت أخيه محمد، وله أخبار طوال توفي
سنة (246 ه‍). أنظر: الحدائق الوردية - خ -، الأعلام 6 / 5، التحف شرح الزلف
49، الشافي 1 / 262، الفلك الدوار 15.
83

وفي (الغيث) وغيره ما معناه: أنه يحرم الأخذ بالأخف اتباعا
للهوى إجماعا، فإذا كان يقول بتقليد جماعة أهل البيت عليهم
السلام، ويقول بتحريم العمل بالأخف اتباعا للهوى كما تضمنته
حكاية الإجماع، كان الحاصل من مذهبه عليه السلام أنه يقول
بوجوب العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم، والعمل بالأحوط وهو الأشق، وذلك يرجع إلى إجماعهم
كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فتأمل ذلك.
[وقال القاسم بن إبراهيم في الجزء الأول من كتاب (الكامل
المنير) في الرد على الخوارج ما لفظه - بعد أن ذكر جماعة بأسمائهم -:
رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روايات الزور،
وأحاديث الفجور، المدخول عليهم فيها، لتقوم بذلك أمر رئاستهم،
زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بما نهى الله
عنه، وذلك أن الله عز وجل نهى عن الاختلاف، وزعموا أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر به، إذ قال - زعموا -: (إن
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (1).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - حكم كثير من المحدثين بأن هذا الحديث موضوع، فقال أحمد بن حنبل: هذا
الحديث لا يصح. وقال بن عبد البر: إسناده لا تقوم به حجة. وقال بن حزم هذه
رواية ساقطة. وقال الألباني: موضوع أنظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم
(58).
84

وفي (المسائل) عنه عليه السلام أنه سئل عن الاختلاف الذي بين
أهل البيت عليهم السلام فقال: يؤخذ من ذلك بما أجمعوا عليه ولم
يختلفوا فيه، وأما ما اختلفوا فيه، فما وافق الكتاب والسنة المعروفة
فقول من قال به فهو المقبول المعقول] (1).
[قول الهادي في ذلك]
وقال الهادي عليه السلام في آخر خطبة (الأحكام): (فيجب عليه
- أي المسترشد - أن يطلب ما ينبغي له طلبه من علم أهل
بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فيتبع من ذلك أحسنه وأقربه
إلى كتاب الله) (2).
وقال عليه السلام في كتاب (القياس) ما لفظه: (فإن قلت أيها
السائل: قد نجد علماء كثيرا منهم ممن ينسب إليه علمهم مختلفين في
بعض أقاويلهم، مفترقين في بعض مذاهبهم، فكيف العمل في
افتراقهم؟ وإلى من نلجأ منهم؟ وكيف نعمل باختلافهم. وقد
حضضتنا عليهم، وأعلمتنا أن كل خير لديهم، وأن الفرقة التي

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - ما بين المعكوفين في (أ) فقط، وفي (ب) بدلا من ذلك: ولعل في كتبه التصريح
بمثل هذا، ولكنه لم يحضرني شئ منها عند جمع هذا الكتاب فالله المستعان.
والنسخة (ب) منسوخة سنة (1012 ه‍)، والنسخة (أ) سنة (1020 ه‍) وكلها
نسخت في حياة المؤلف.
(2) - الأحكام 1 / 47.
85

وقعت بين الأمة هي من أجل مفارقة الأئمة من آل الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم، قلنا لك: قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول
هذا الكلام ونحن نشرح لك ذلك بأتم التمام إن شاء الله تعالى: إن
اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أيها السائل عن
اختلافهم (1) - لم يقع ولا يقع أبدا إلا من وجهين:
فأما أحدهما: فمن طريق النسيان للشئ بعد الشئ، والغلط في
الرواية والنقل، وهذا أمر يسير حقير قليل يرجع الناسي منهم - عن
نسيانه إلى قوله الثابت - المذكر عند الملاقاة والمناظرة.
والمعنى الثاني وهو أكثر الأمرين وأعظمهما وأجلهما خطرا
وأصعبهما، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه تعلم من غير علم
آبائه، واقتبس علمه من غير علم أجداده، ولم يستنر بنور الحكمة من
علمهم، ولم يستضيئ عند اطلام الأقاويل بنورهم، ولم يعتمد
عند تشابه الأمور على فقههم، بل جنب عنهم إلى غيرهم، واقتبس ما
هو في يده من علم أضدادهم، فصار علمه لعلم غيرهم مشابها،
وصار قوله لقولهم صلوات الله عليهم مجانبا، إذ علمه من غيرهم
اقتبسه، وفهمه من غير زنادهم ازدنده (2)، فاشتبه أمره وأمر غيرهم،
وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم، وقوله كقول من نظر في

--------------------------------------------------------------------------------

(1) في (أ): أيها السائل عن أخبارهم.
(2) - في (أ): من غير زادهم ازدبده.
86

قوله، وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده، وكان هو ومن اقتبس
منه سواء في المخالفة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم والاقتداء، وإن كان منهم في نسبه، فليس علمهم كعلمه، ولا
رأيهم - فيما اختلف فيه الحكم - كرأيه، والحجة على من خالف من
آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالحجة على غيرهم، من
سائر عباد الله، ممن خالف الأصول المؤصلة وجنب عنها.
والأصل الذي يثبت علم من اتبعه ويبين قول من قال به،
ويصح قياس من قاس عليه، ويجوز الاقتداء بمن اقتدى به، فهو
كتاب الله تبارك وتعالى المحكم، وسنة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم اللذان جعلا لكل قول ميزانا، ولكل نور وحق برهانا، لا
يضل من أتبعهما، ولا يغوى من قصدهما، حجة الله القائمة،
ونعمته الدائمة.
فمن اتبعهما في حكمهما، واقتدى في كل أمر بقدوتهما، وكان
قوله بقولهما، وحكمه في كل نازلة بهما دون غيرهما، فهو المصيب
في قوله والمعتمد عليه في علمه، القاهر لغيره في قوله، الواجب
على جميع المسلمين من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ومن غيرهم أن يرجعوا إلى قوله، ويتبعوا من كان كذلك في علمه،
لأنه على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا دخل، ولله
الحمد عليه.
فمن كان على ما ذكرنا، وكان فيه ما شرحنا من الاعتماد على

87

الكتاب والسنة والاقتباس منهما، والاحتجاج بهما، وكانا شاهدين
له على قوله، ناطقين له بصوابه، حجة له في مذهبه، فواجب على
كل واحد أن يقتدي به، ويرجع إلى حكمه.
فإذا جاء شئ مما يختلف فيه آل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ميز الناظر المميز السامع لذلك بين أقاويلهم، فمن وجد قوله
متبعا للكتاب والسنة، وكان الكتاب والسنة شاهدين له بالتصديق،
فهو على الحق دون غيره، وهو المتبع لا سواه، الناطق بالصواب
المتبع لعلم آبائه في كل الأسباب.
وإن ادعى أحد من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه على علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه مقتد بأمير
المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فاعلم هديت أن علم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف أمر الله ووحيه،
فأعرض قول من ادعى ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقهما
ووافقاه، فهو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن
خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم) (1) إلى آخر
كلامه.
وقال في آخر كتاب (الأحكام): (إن آل محمد صلى الله عليه

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - كتاب القياس - خ -.
88

وآله وسلم لا يختلفون إلا من جهة التفريط (1)، فمن فرط منهم في
علم آبائه ولم يتبع علم أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أبا
فأبا حتى ينتهي إلى علي رضوان الله عليه والنبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وشارك العامة في أقاويلها، واتبعها في شئ من تأوليها، لزمه
الاختلاف ولا سيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز، ورد لما ورد عليه إلى الكتاب،
ورد كل متشابه إلى المحكم.
فأما من كان منهم مقتبسا من آبائه أبا فأبا حتى ينتهي إلى
الأصل غير ناظر في قول غيرهم، ولا يلتفت إلى رأي سواهم، وكان
مع ذلك مميزا فهما حاملا لما يأتيه على الكتاب والسنة المجمع
عليهما، والعقل الذي ركبه الله حجة فيه، وكان راجعا في جميع
أمره إلى الكتاب والسنة، ورد المتشابه إلى المحكم، فذلك لا يضل أبدا
ولا يخالف الحق أصلا) (2)

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - يظهر من كلام الإمام الهادي أنه يريد أن أهل البيت لا يختلفون في أصول المسائل
ولا في فروعها، وأنما وقع بينهم من خلاف فهو بسبب التفريط، وقال شيخنا العلامة
مجد الدين المؤيدي في تعليق له على قول الإمام الهادي: (إن آل محمد صلى الله عليه
وآله وسلم لا يختلفون): أي في أصول المسائل، فأما المسائل الاجتهاد فهم يختلفون
قطعا، وانظر كلام الإمام الناصر عليه السلام الآتي، فهو صريح في اختلافهم، وقد
نص على ذلك الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام، فتأمل.
(2) - الأحكام 2 / 519.
89

[قول الإمام الناصر الأطروش في ذلك]
وقال الناصر عليه السلام (1) ما لفظه: (فإذا نظر الطالب في
اختلاف علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فله أن يتبع
قول أحدهم إذا وقع له الحق بدليل، من غير طعن (2) ولا تخطئة للباقين). رواه الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين (3) عليهما

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الإمام الناصر للحق الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب، الملقب ب‍ (الأطروش، والناصر الكبير، والناصر
للحق) أحد أئمة الزيدية وعظماء الإسلام، كان عالما مجتهدا زاهدا ورعا شجاعا
أديبا عظيم القدر، ولد سنة (230 ه‍)، ونشأ في طلب العلم، حتى قرأ من الكتب
السماوية بضع عشر كتابا، وقام في أرض الديلم سنة (284 ه‍) يدعو إلى الله
عشرين سنة ودخل طبرستان سنة (301 ه‍)، وأسلم على يديه ألف ألف
ما بين رجل وامرأة، وتوفي بآمل في (25 شعبان سنة 304 عن 74 سنة). قال الطبري: لم
ير الناس مثل عدل الأطروش وحسن سيرته وإقامته الحق. أنظر: الحدائق الوردية - خ
-، الشافي 1 / 308، شهداء الفضيلة 1 - 6، التحف، 70، تاريخ الطبري حوادث سنة
403، عمدة الطالب 375، الفلك الدوار 38.
(2) - في (أ): بدليل من فيه غير طعن.
(3) - الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، أحد أئمة الزيدية، ولد سنة (596 ه‍)،
وكان شاعرا أديبا راويا للحديث، وأخذ عن الإمام عبد الله بن حمزة، وله كتب
كثيرة منها أرجوزة اليقين في إمامة أمير المؤمنين (علي عليه السلام) وشرحها،
كانت دعوته في 25 شوال سنة (657 ه‍)، وبايعه كبار العلماء في عصره، وتوفي
سنة (670 ه‍).
90

السلام في كتاب (أنوار اليقين) (1).
[قول الإمام المؤيد بالله والإمام الداعي]
وفي (حاشية الفصول) (2) ما لفظه: (قال المؤيد بالله عليه السلام:
يجب التنقير عن الأدلة على المميز الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد، حتى
يغلب على ظنه رجحان ما يعمل به).
وقال فيها ما لفظه: (قال الداعي عليه السلام (3): من انتهى في
العلم إلى حاله يمكنه الترجيح بين الأقوال وجب عليه ذلك، وإن لم
يبلغ درجة الاجتهاد، ولم يجز له التقليد).
وفي (شرح الإفادة) (4) عن المؤيد بالله عليه السلام: (وإن لم يكن

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أنوار اليقين في أمامة أمير المؤمنين، مخطوط في جزأين.
(2) - الفصول اللؤلؤية في علم أصول الفقه مخطوط في مجلد وعليه حواش كثيرة معظمها
من مؤلفها السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير.
(3) - هو الإمام الداعي إلى الله أبو محمد الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد
الرحمن الشجري بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط عليهم السلام. كان
من أصحاب الإمام الناصر الأطروش، ثم قام بالأمر بعده في الجيل والديلم ونيسابور
والري ونواحيها، وكان يضرب بعدله المثل، توفي سنة (316 ه‍). أنظر التحف
شرح الزلف 117 - 118.
(4) - كتاب الإفادة في الفقه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني مخطوط
وشرحه بعض أصحابه.
91

من أهل الاجتهاد فعليه أن يقلد من كان عنده من المجتهدين أولى
، وليس له أن يعدل إلى غيره، فإن عدل عن قول من رأى تقليده أولى
كان مخطئا). انتهى بمعناه وأكثر لفظه.
وهذا مؤد لمعنى ما ذكرنا، لأنه لا يكون بعض المجتهدين أولى
بالتقليد من غيره، حتى يكون قوله أرجح، ولا يكون أرجح إلا
بشاهد من الكتاب والسنة إذ لا يهدى إلى الشرعيات إلا بهما.
[قول الإمام أبي طالب في ذلك]
وقال أبو طالب عليه السلام (1) في شرحه على كتاب (البالغ
المدرك) (2) - أحد كتب الهادي عليه السلام - ما لفظه: (ولا بد للعاقل
من أن يكون على مذهب يشهد له به العقل والكتاب والسنة،
لينجو من تخاليط أهل الأهواء) (3).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الإمام الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين أحد أئمة الزيدية وعظماء الإسلام
قام داعيا إلى الله في بلاد الديلم بعد موت أخيه الإمام المؤيد بالله وذلك سنة (411
ه‍) عن نيف وثمانين سنة، له كتب ومؤلفات كثيرة. أنظر: التحف 85 - 87،
الحدائق - خ -، الطبقات - خ -، اللآلي المضيئة - خ - الفلك الدوار 64.
(2) - البالغ المدرك اسم لأحد كتب الإمام الهادي عليه السلام وهو فيما يجب على البالغ
المدرك من الاعتقاد، وشرحه للإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني، طبع
بتحقيقنا.
(3) - شرح البالغ المدرك 97، ولا يوجد فيه لفظ به في قوله: يشهد له به العقل.
92

[قول الإمام أحمد بن سليمان في ذلك]
وقال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (1) في كتاب
(حقائق المعرفة) (2) ما لفظه: (فوجب على كل عاقل أن ينظر ويختار
مذهبا يشهد له به العقل والكتاب والرسول والإجماع، وأن يجتهد
في إصابة السنة) (3).
[قول الإمام عبد الله بن حمزة في ذلك]
وقال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام: (ربما
احتجوا بقول يضيفونه إلى بعض آبائنا عليهم السلام جهلا بأحكام
الإضافة، وهو لم يصح، فإن صح وجب تأويله على موافقة كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحجج العقول...) إلى
قوله عليه السلام: (هذا الذي يجب عليه حمل كلام الأئمة عليهم
السلام لئلا تتناقض حجج الله وبيناته، وتنسب إلى أئمة الهدى مخالفة
نصوص الكتاب وأدلة العقول). ذكره السيد حميدان في منتزعه (4)
من كتب المنصور بالله عليه السلام.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - تقدمت ترجمته.
(2) - حقائق المعرفة من كتب الإمام أحمد بن سليمان في أصول الدين، ولم يزل في عداد
المخطوطات.
(3) حقائق المعرفة - خ -.
(4) - هذا المنتزع كتيب ضمن كتاب مجموع السيد حميدان - خ -.
93

[تقليد جماعة العترة]
وكذا ذهب جماعة من متأخري العترة عليهم السلام إلى القول
بتقليد جماعة العترة عليهم السلام.
وقد وقع الإجماع من العترة عليهم السلام وغيرهم على تحريم
الأخذ بالأخف اتباعا للهوى ذكر ذلك في (الغيث) (1) وغيره.
فكان حاصل كلام (2) من قال بتقليد جماعة العترة عليهم السلام
من المتأخرين: أنه يجب العمل بما وقع إجماعهم عليه، ثم بالأشق -
وهو يعود إلى إجماعهم كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى - ثم التخيير
فيما لا ينفك الواجب عنه، وسيأتي الدليل إن شاء الله تعالى على
صحة ذلك وجوازه.
ولا يجوز الأخذ بالأخف إلا لضرورة أو بطريق شرعية، وإلا
لكان اتباعا للهوى، وهم يقولون بتحريمه كما تضمنته حكاية
الإجماع.
وهذا عين ما ذهبنا إليه من وجوب الأخذ بالإجماع، وإلا وجب
العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن
الأخف إن أخذ به لضرورة فقد وقع الإجماع على جوازه، إذ قد

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الغيث المدرار أحد شروح متن الأزهار للإمام المهدي أحمد بن يحيى - خ -.
(2) - في (ب): الكلام.
94

صار حكمه كحكم أكل الميتة المباح للضرورة، وإن أخذ به بطريق
شرعية، فذلك معنى ما أوجبنا من العرض على كتاب الله، إذ مرادنا
أن لا يؤخذ بشئ من المختلف فيه إلا بطريق من الكتاب والسنة.
المطلب الثاني: [كيفية العمل في المختلف فيه وأقسامه]
إنه لما تقرر وجوب عرض الأقوال عند الاختلاف على الكتاب
والسنة، عرفنا أن ذلك متعذر على كثير من الناس، والأحكام
المختلف فيها على قسمين:
قسم يمكن العمل بالإجماع فيما اختلفوا (1) فيه منها، وقسم لا
يمكن. فالأول: المسائل المتنازع في حظرها وإباحتها: كالقنوت بغير
القرآن، فهم مختلفون في صحة صلاة من فعله، ومجمعون على صحة

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - قال شيخنا العلامة مجد الدين في تعليق له على هذا الكتاب: أما ما صح دليله،
ووضح سبيله، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فالواجب
اتباعه والعمل به وإن خالف فيه من خالف، فخلاف المخالف لا يوجب طرح ما
صح عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رجح الإمام
القاسم عليه السلام نفسه كثيرا من المسائل وإن كان الإجماع لا يتم إلا بتركها،
وذلك مثل القنوت بغير القرآن اللهم اهدني فيمن هديت.. الخ، وقال: إنه متواتر
وإن له حكمه، وكذلك رجح الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام التسبيح في
الأخرتين مع أن من قرأ فيهما بالفاتحة تصح صلاته بالإجماع، وصلاة من سبح فيهما
مختلف فيها، إلى غير ذلك من المسائل التي يسعها المحل.
95

صلاة من تركه وقنت بالقرآن، وكرفع اليدين في الصلاة (1)، ووضع
اليد على اليد، والتأمين، والدعاء بغير القرآن فيها، فإنهم مختلفون في
صحة صلاة من فعل واحدا منها، ومتفقون على صحة صلاة من
تركها، وكصلاة الجماعة فإنهم متفقون على أن المواظبة عليها طاعة
ومختلفون في تركها لغير عذر، فقيل: معصية. وقيل: لا. وكأكل
الشظا (2) فإنهم مختلفون في كونه معصية، ومتفقون على أن تركه

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - قال شيخنا العلامة مجد الدين في تعليق له على هذا الكتاب، جعل الإمام رفع
اليدين في الصلاة من المسائل المختلف في صحة صلاة من فعلها لا يستقيم، فإن ذلك
فعل يسير لا يوجب فساد الصلاة بالإجماع، وإنما قالوا تفسد إن تركهما كثيرا، مع
أن رفعهما يكون قبل الدخول في الصلاة، مع أن ظاهر كلام الإمام الحسن بن
يحيى بن الحسين بن زيد عليه السلام يقضي بوجوب ذلك كما حكاه عنه في شرح
الهداية، فلم يتخلص التارك بالإجماع، والحقيقة أنه لا معنى لإدخال رفعهما في هذا
الباب أصلا، فقد صحت الرواية برفعهما عند تكبيرة الاحرام في جميع كتب أهل
البيت عليهم السلام المعتمدة مع كتب سائر الأمة، منها: مجموع الإمام الأعظم
زيد بن علي عليه السلام المتلقى بالقبول عند آل محمد عليهم الصلاة والسلام
وأحكام الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، روى ذلك عن أبيه عن جده عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ولم يقل هو ولا غيره أنه خاص بها،
وهي من جملة الصلوات بلا شك، وأثبت الرواية فيها عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم على العموم بكثرة في المنتخب، وهي مروية في أمالي الإمام أحمد بن
عيسى عليه السلام، وفي الجامع الكافي، وسائر كتب الأئمة والأمة، فتدبر موفقا.
(2) - نوع من أنواع الحشرات لونه أحمر أكثر ظهوره بعد الأمطار.
96

غير معصية، وكبيع الرجاء، وبيع الشئ بأكثر من سعر يومه لأجل
النساء، فإنهم مختلفون في كون فعل ذلك معصية، ومتفقون على أن
تركه غير معصية، وأشباه ذلك كثير.
والثاني نوعان كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ومعرفة إمكان الأخذ بالإجماع كما في القسم الأول وعدمه كما سيأتي
إن شاء الله تعالى في القسم الثاني، مما يشترك فيه المجتهد
والمقلد المميز وغير المميز بعد حكاية الأقوال ومعرفة معانيها.
[العمل بالمتفق عليه]
فنظرنا بعد ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم، فإذا هما قاضيان في القسم الأول بوجوب العمل بما اتفقوا
عليه وتحريم العمل بما اختلفوا فيه.
قال تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك
الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) [الزمر: 17 - 18]، والعقل
يقضي ضرورة بأن قولهم الدال على تيقن عدم المعصية لله تعالى -
كترك الدخول في بيع الرجاء، وترك أكل الشظا - أحسن مما اختلفوا
في كونه معصية، إذ لا يأمن المكلف أن يكون بذلك عاصيا لربه،
وقد بشر الله تعالى في الآية الكريمة التابعين للأحسن، وحكم لهم
بالهدى وبأنهم أولو الألباب، ونفى ذلك عن الآخذين بغير الأحسن
في مفهوم الحصر في هذه الآية، لأن الألف واللام في (الذين) في قوله

97

تعالى: (أولئك الذين هداهم الله) للاستغراق، بدليل أنها متناولة لمن
ذكرنا، ولمن عمل بموافق الكتاب والسنة من المميزين والمجتهدين،
ومن وافقوهم من الأنبياء (1) والملائكة صلوات الله عليهم وسلامه.
فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والملائكة صلوات
الله عليهم أجمعين تابعون للأحسن، وهو: ما يوحى إليهم، وتاركون
لغير الأحسن، وهو: ما يسمعونه من خلاف ذلك من الجهال
والكفار وسائر أهل المعاصي.
ولأن ذلك مثل ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قيل له:
صف لنا العاقل، فقال عليه السلام: (هو: الذي يضع الشئ
مواضعه). قيل: فصف لنا الجاهل، قال: قد فعلت.
قلت وبالله التوفيق: وذلك لأن الألف واللام من قوله عليه
السلام: (هو الذي يضع الشئ مواضعه) للاستغراق.
[أدلة الكتاب والسنة على وجوب العمل بالمتفق عليه]
وقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد
كل أولئك كان عنه مسؤولا) [الإسراء: 36] وهذا نص صريح على تحريم
اتباع المختلف فيه، على من لم يتمكن من رده إلى الكتاب والسنة،

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في (أ): والمجتهدين ومن وافقهم ومن الأنبياء.
98

ولأنه ليس له به علم، والآية عامة للمكلفين، لأن الخطاب موجه إلى
المكلف الذي يراد به كل فرد، بدليل قوله تعالى في أول الكلام:
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن
عندك الكبر) [الإسراء: 23]، ولم يقل: (عندكم) لما كان يفيد ما ذكرنا،
وأجري قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم هذا المجرى.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا عنه: (الحلال بين
والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن
اتقى الشبهات استبرأ دينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في
الحرام) (1).
وبالغنا بالإسناد الموثوق به إلى الناصر الحسن بن علي بن الحسن،
عن أخيه الحسين، عن أبيه علي بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أبيه جعفر، عن
أبيه محمد عليهم السلام جميعا يرفعه قال: (الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) (2).
قلت وبالله التوفيق: وفي هذا دلالة على تحريم العمل بالمختلف

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أخرجه البخاري في البيوع باب الحلال بين والحرام بين، ومسلم رقم (1599)،
وأبو داود رقم (3329)، والنسائي 8 / 328، وابن حيان 2 رقم (721)، وأحمد
4 / 270، وابن ماجة (3984)، والدارمي 2 / 245، والبيهقي 5 / 64، وأبو نعيم في
الحلية 4 / 336 عن النعمان بن بشير.
(2) - البساط - خ - للإمام الناصر الأطروش.
99

فيه لأنه شبهة، حيث قال به بعضهم، ونفاه بعضهم، وفي الخبر
تصريح أن الاقتحام في الشبهة اقتحام في الهلكة، حيث قال:
(والوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)، إذ لا هلكة إلا
في ارتكاب الحرام.
وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (دع ما يريبك إلا
ما لا يريبك) (1). وهذا أمر بالترك لما يريب، والمجاوزة إلى ما لا
يريب، والمختلف فيه مريب، لقوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا
واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [آل عمران:
105] وغيرها، لما تقدم، وغير المختلف فيه غير مريب، لقوله تعالى:
(أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [الشورى: 13] وغيرها.
وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما لفظه أو معناه:
أمر استبان رشده فاتبعوه، وأمر استبان غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه
عليكم فكلوه إلى الله (2).
وروي عن النعمان بن بشير أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أخرجه الترمذي رقم (2518)، والحاكم 2 / 13، وعبد الرزاق رقم (4984)،
والطبراني في الكبير رقم (2711)، وأحمد 1 / 200، والطياليسي رقم (1178)،
وابن حبان 2 رقم (722)، وأبو نعيم في الحلية 8 / 264 عن الحسن بن علي عليهما
السلام مرفوعا.
(2) - هذا معنى حديث كما أشار المؤلف، لم أقف عليه في كتب الحديث.
100

عليه وآله وسلم يقول: (الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور
مشتبهات، وسأضرب لكم في ذلك مثلا: إن لله حمى وإن حمى الله
حرام، وإن من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى) (1).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من دار حول
الحمى يوشك أن يقع فيه)، إلى غير ذلك مما يؤدي هذا المعنى،
حتى تواتر معنى وأفاد العلم قطعا، والاحتجاج بها على نحو ما مر.
[أقوال قدماء العترة في تحريم العمل بالمختلف فيه]
وعلى ما ذكرته في هذا جرى مذهب قدماء العترة قدماء العترة عليهم السلام
ومن وافقهم من المتأخرين.
قال [الإمام علي] عليه السلام في كلام له: (أيها الناس من سلك
الطريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه) (2).
وقال عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: (دع القول
فيما لا تعرف، والخطاب فيما تكلف، وامسك عن طريق إذا
خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال) (3).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - تقدم.
(2) نهج البلاغة رقم (201).
(3) - نهج البلاغة كتاب رقم (31).
101

وقال عليه السلام: (ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس
فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم...) إلى أن قال:
(واعلم يا بني إن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله و
الاقتصار على ما فرضه الله، والأخذ بما مضى عليه الأولون من
آبائك، والصالحون من أهل بيتك فإنهم لم يدعوا أن نظروا
لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر
ذلك إلى الأخذ بما عرفوا (1)، والإمساك عما لم يكلفوا).
وقال عليه السلام فيها: (ولا تقل ما لم تعلم وإن قل ما تعلم) (2).
وروى محمد بن الهادي، عن الباقر عليه السلام، أن رجلا سأله
فقال: دلني على أمر إذا علمت به نجوت عند الله، وإن سئلت غدا
قلت: أنت هديتنيه. فقال: (اعمل ما أجمع عليه المختلفون).
وكذا في مباح الشريعة) (3) عن ولده جعفر الصادق عليه
السلام. وكذلك في (المسائل) عن القاسم عليه السلام أنه سئل عن
الاختلاف الذي بين أهل البيت عليهم السلام، فقال: يؤخذ بما
أجمعوا عليه فلم يختلفوا فيه. كما تقدم، وكذلك سائر القدماء منهم

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في (أ): ثم ردهم إلى آخر ذلك الأخذ بما عرفوا.
(2) - من وصية الإمام علي لولده الحسن بن علي، وهي في أمالي الإمام أبي طالب
الهاروني، (الباب الرابع)، وفي نهج البلاغة الكتاب رقم (31).
(3) - كتاب في مواضيع شتى ينسب إلى الإمام الصادق.
102

عليهم السلام، ومن وافقهم من المتأخرين عليهم السلام، لأنهم (1) يقولون بتحريم الأخذ
بالأخف، بعد قولهم بوجوب اتباع جماعة العترة جملة كما تقدم مفصلا.
وقال المنصور بالله عليه السلام: (تتبع الرخص زندقة).
وقال في (الفصول): (والأحوط الأخذ بما أجمع عليه، وتحريم
الأخذ بالأخف، اتباعا للهوى، إجماعا).
[كيفية العمل في المختلف فيه والمنع من تقليد الآحاد]
ثم نظرنا في الكتاب والسنة، ما حكم القسم الثاني؟ فإذا هما
قاضيان في النوع الأول منه بالتخيير، وهو:
ما اختلف في تعيين المشروع منه بعد العلم بوجوبه، كالآذان
مثلا، أو [بالعلم ب‍] أنه لا حرج على فاعل أيهما، كالحمد والتسبيح
في غير الركعتين الأولتين في الثلاثية والرباعية من الصلاة.
[أ] واختلف في تعيين المحظور منه بعد الاتفاق على أن الواجب -
الذي لا عذر في تركه ولا رخصة - لا يخلو منهما على الجملة،
كالتوضي بالماء المستعمل، والتيمم، فإن بعضهم يقول: التيمم حرام
مع وجود الماء، وبعضهم يقول: بل الحرام التوضي بهذا الماء لأن

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في (أ): وأنهم.
103

الصلاة لا تجزي به.
وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [البقرة: 286]، وقال
تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن: 16].
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أمرتم بأمر
فأتوا منه ما استطعتم) (1).
وقد علمنا أن من كان كذلك لا يستطيع الترجيح بالعرض
على الكتاب والسنة مع علمه أنه لا يعذر عن تجنب الجميع، لأنه لا إثم
عليه لو فعل أيهما، وأن الجمع بين الأمرين بدعة إجماعا، إذ لم
يتسرع إلا أحدهما، لاتفاقهم على ذلك على سبيل الجملة والله
أعلم.
وفي النوع الثاني الوقف، وهو ما اختلف في تعيين المحظور منه مع
الاتفاق على أن تجنب الجميع مباح، كالعمل بما اقتضاه الطلاق
المختلف فيه وعدمه، لأن من قال بوقوعه قال: المحظور إمساكها،
ومن قال بعدم وقوعه، قال: المحظور إباحة تزويج الغير لها وإسقاط
حقوقها.
وقد حرم الله التفرق في الدين كما تقدم، وقال تعالى: (ولا
تقف ما ليس لك به علم.. الآية).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أخرجه أحمد 2 / 428، والنسائي 5 / 110، والبيهقي 4 / 326 عن أبي هريرة.
104

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى
الله) كما تقدم، وغير ذلك.
فعلى هذا لا يجوز العمل بالطلاق المختلف فيه، ولا إهماله
واعتقاد بطلانه، حتى يبحث عن ذلك بسؤال من أمر الله بسؤاله،
في قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات
والزبر)، حتى يردوه إلى آية ناطقة بأحد القولين، أو سنة مجمع
عليها، أو موافقة لكتاب الله تعالى.
وجميع هذا مقتضى مذهب من يقول: إن الحق مع واحد، وإن
مخالفه مخط، من قدماء العترة عليهم السلام ومن وافقهم، يظهر
ذلك بالتأمل.
وقال بعض متأخري العترة عليهم السلام ومن وافقهم بجواز
تقليد الواحد مع الاختلاف، ونفوا وجوب العرض على المقلد الذي
يمكنه العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم، وكذلك نفوا وجوب العمل بالمجمع عليه والتخيير والوقوف
كما ذكرنا في هذا الفصل.
قالوا: لأن العوام كانوا يأخذون من أفراد الصحابة مع الاختلاف
بينهم من غير نكير وذلك إجماع.
وقالوا: قد روي أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

105

أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم) (1) وذلك دليل
على جواز تقليد الواحد ولو مع الاختلاف إذا لم يفصل الدليل
وجميع ذلك باطل.
أما حكاية إجماع الصحابة فالمشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام
تخطئة من لم يتبعه، قال عليه السلام في بعض خطبه: (وقد خاضوا
بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن، وأرز (2) المؤمنون، ونطق
الضالون المكذبون، نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا
تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير بابها سمي سارقا) (3)
وكفى بذلك نكيرا.
وقدماء العترة عليهم السلام مجمعون على ذلك عنه، وكذا
جل متأخريهم عليهم السلام، حيث قالوا: إن قوله عليه السلام حجة فأين الإجماع؟
وأما الخبر إن سلمنا صحته على التنزل، فقد حكي الإمام
يحيى عليه السلام الإجماع على تحريم تقليد الصحابة، فلا

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أورده الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة وقال: موضوع. رواه ابن عبد البر في
جامع العلم 2 / 91، وابن حزم في الأحكام 6 / 82 عن جابر، وقال ابن عبد البر: هذا
إسناد لا تقوم به حجة. وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة.
(2) - أرز: انقبض وثبت.
(3) - نهج البلاغة الخطبة رقم (154).
106

حجة فيه على جواز تقليد واحد منهم، وإنما يصير معناه:
بأيهم اقتديتم - فيما أوضحوا طريقه من كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم - اهتديتم.
وإن سلمنا عدم صحة ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام، فالخبر
أحادي والقول بجواز التقليد وعدمه أصل كبير من الأصول لا يثبت
بخبر الآحاد عند العترة عليهم السلام، لا سيما وقد ثبت أن الحق
واحد وأن مخالفة مخط.
وأيضا فإنه لا خلاف بين العترة عليهم السلام أنه يجب
التحري في أخذ الحكم عن طرقه الشرعية، ولا يعمل بعام حتى
يبحث عن الخاص، ولا ينص حتى يبحث عن ناسخه
ونحو ذلك، فكيف لا يجب التحري في أخذه عن أقوال الذين
يقع منهم السهو والغلط؟ وهل ذلك إلا تحكم؟

107

الفصل الخامس
في الإرشاد إلى حكم أقوال المخالفين للعترة (ع)
الخارجين بأقوالهم عن موافقة المجتهدين منهم، وحكم
أقوال الفاسقين من المجاهرين والمتأولين
أما حكم أقوال المخالفين للعترة عليهم السلام غير الموافقة
للمجتهدين، فجميع ما تقدم ذكره من: آية التطهير، وآية المودة،
وإني تارك فيكم، وخبر السفينة، والإشارة إليه من غير ذلك (1) ناطق
ببطلانها، فإن صدر ذلك عن علم من المخالف فسق، لقوله تعالى:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) [النساء: 115]، وتلك الأدلة
قاضية بأنهم عليهم السلام وأتباعهم هم المؤمنون دون من سواهم.
وأما حكم أقوال الفاسقين من المجاهدين والمتأولين فباطل أيضا،
لقوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
الآخرة يضل الله الظالمين) [إبراهيم: 27] أي: يخذلهم فلا يهتدون،

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - يعني: وما تقدمت الإشارة إليه من غير ما ذكر.
108

ويحكم بضلالهم، ومن خذله الله وحكم بضلاله فلا شك ببطلان
قوله. ولقوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم
وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) [الأنعام: 121]، أي يوسوسون لهم
بالباطل، ليجادلوكم به، وذلك نص على بطلان أقوالهم أيضا.
ولقوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له
قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) [الزخرف: 36 -
37]، وذلك نص صريح في بطلان أقوالهم أيضا، لأنه لا يفسق إلا
من عشي عن قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا)
لمخالفته لذلك. ولقوله تعالى: (وما كنت متخذ المضلين
عضدا) [الكهف: 51] وهم يضلون بدعائهم إلى أقاويلهم الباطلة كما
حكم الله تعالى، فكيف يؤخذ بأقوالهم ولم يتخذهم الله عضدا
لتبيين الحق؟
وقد قيل: إن أقوالهم صحيحة، ولعل أهل هذا القول يحتجون
لذلك بما احتج به بعضهم على صحة تأويل كل الفرق لمتشابه
الكتاب العزيز، حيث قال: لا يخلو إما أن يكون الطريق إلى ذلك:
العقل، أو الشرع، أو اللغة، وهم مشاركون في ذلك، بل لا يبعد أن
تكون معرفتهم باللغة أوكد من الأئمة عليهم السلام لفراغهم.
والجواب والله الموفق: لا يخلو هذا الاحتجاج من غلط أو تعام
ليموه به على الجهال الذين لا يعرفون، لأن الطريق إلى معرفة
الأحكام وتأويل المتشابه هو انضمام تثبيت الله وعصمته

109

من وساوس إبليس لعنة الله تعالى وإضلاله وصده عن السبيل، كما
في الآيات المتقدم ذكرها، وكما في قوله تعالى: (فهدى الله الذين
آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم) [البقرة: 213] وليس كذلك من كان إبليس لعنه الله قرينه،
يملي عليه بوساوسه الأباطيل ويحمله على التعسف في التأويل، حتى
يرد الحجج إلى آرائه ويزين له قبيح قوله وفعاله. مع أن ذلك رد
لتلك النصوص، وإبطال لفائدتها، وهي خطاب حكيم، ورد خطاب
الحكيم وإبطال فائدته باطل عقلا وشرعا.
وأيضا أهل الزيغ يشاركون في ذلك، وقد أخبر الله تعالى أن
تأويلهم للمتشابه غير صحيح، فقال تعالى: (وأما الذين في قلوبهم
زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو
الألباب) [آل عمران: 7] فلو كان مجرد المشاركة في ذلك تقضي بصحة
التأويل لم يخبر الله تعالى بخلافه، لأنه لا يقول إلا الحق، فكذلك في
استنباط الأحكام إذ لا فرق.

110

الفصل السادس
في الإرشاد إلى حكم ما يحصله
المقلدون تفريعا على نصوص
المجتهدين
وهو قسمان:
الأول: ما يحصلونه بالقياس على النصوص وهو باطل لأن
نصوص المجتهدين:
منها: ما قد رجع عنه فيكون القياس باطلا لبطلان أصله المقيس
هو عليه.
ومنها: ما هو مأخوذ عن دليل خاص لذلك النص، ولغيره - مما قاسوه
عليه - عند الله - في محكم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم - حكم آخر غير حكم المقيس عليه.
وقد علمنا من قواعدهم أنهم لا يبحثون عن ذلك، كما حكى
الإمام المهدي عليه السلام عنهم: أنه لا يلزم المقلد بعد وجوده النص
الصريح والعموم الشامل من أقوال المجتهدين، طلب الناسخ - وهو
القول الذي رجع إليه المجتهد - ولا طلب المخصص لما ورد من

111

نصوصه بصيغة العموم، ولا معرفة أن المجتهد يقول بتخصيص العلة
التي جمع فيها هذا المقلد بين الأصل والفرع، أو يمنع من ذلك.
الثاني: ما حصلوه بمفهوم المخالفة، وهو باطل أيضا، لأن منها ما
لا يفيد ذلك كالصفة، لأنه يجوز أن يقول: زيد العالم في الدار. مع
أن زيدا الجاهل فيها أيضا ويسكت عنه.
وأيضا لو كان ما زعموا صحيحا لكان من قال: النبي الأمي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كافرا، لأنه يفهم منه - على
زعمهم - أنه من لم يتصف بالأمي من سائر رسل الله صلوات الله
عليهم فليس برسول الله، وذلك معلوم البطلان.
لا يقال: إنما ترك العمل بالمفهوم في ذلك لما هو أقوى منه، وهو
ما علم من الدين ضرورة، لأنا نقول وبالله التوفيق: إن الدلالة لا
تخلو عن موضعها، وذلك معلوم باستقراء لغة العرب. ألا ترى أن
الحقيقة موضع دلالة على ما وضعت له، والمجاز موضع دلالة ما
استعمل له؟
ونحو قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف) [الإسراء: 23] موضع دلالة
على الأصل والفحوى، ولا يجوز أن تتخلف دلالتها عنهما (1).

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - يعني عن الأصل والفحوى، والأصل هو دلالة على تحريم التأفيف، والفحوى هي
الدلالة على ما كان أولى من التأفيف كالضرب والسباب ونحوها.
112

فلو كان ذلك موضع دلالة على ذلك لم يجز النطق به، لأنه
يؤدي إلى خلاف ما علم من الدين ضرورة.
ولا يرد النسخ المنصوص والتخصيص للعموم لأن المنسوخ قد دل
على معناه ولم يتخلف عنه، إذ لو لم يدل عليه لم يعرف كونه
منسوخا. والعام المخصص صار بالتخصيص من قبيل المجاز، وقرينته
ما خصص به كما هو مقرر في مواضعه. والمجاز لم تختلف دلالته
عنه كما ذكرنا الآن فتأمل.
وكذلك مفهوم العدد إذا لم يكن جوابا لكم، لأنك تقول لمن
تراه يطعم المساكين: أطعم هؤلاء الثلاثة، ولا يفهم منه منع الاطعام
عمن سواهم، ويصح أن تقول: في عشرين وسقا مما أنبتت الأرض
العشر. ويصح أن يفتي بذلك المفتون، لا سيما إذا قال السائل: حصل
لي من مزرعتي عشرون وسقا في سنتي هذه، فما يجب علي في ذلك؟
وأجاب المفتي فقال: العشر.
فكيف، يصح التخريج من ذلك وأشباهه مع مصادمته للنصوص
والإجماع؟
وأما احتجاجهم على ذلك بنحو قوله تعالى: (فاجلدوهم ثمانين
جلدة) [النور: 4] فإنه يفهم منه تحريم الزائد على الثمانين، فباطل، لأن
التحريم في الزائد ليس بمستفاد من العدد، وإنما هو مستفاد من الحظر
العقلي، لأن الأصل في قضية العقل تحريم الضرب.

113

و منها (1) ما يدل على أن حكم المفهوم كحكم المنطوق، وذلك
في الغاية لأنها قد تكون بمعنى مع. قال تعالى (ولا تأكلوا أموالهم
إلى أموالكم) [النساء: 2] أي مع أموالكم. وهم لا يبحثون عن مقاصد
المجتهدين في ذلك.
ومنها ما وقع للتسبيب الموجب للاشتراك في الحكم، كقول
المفتي: إن لم يكن زيدا أكره على شرب الخمر ولا اضطرته إليه
ضرورة جلد ثمانين. فكيف يصح أن يقال: إن من عداه بخلافه،
والشرط مفيد للتسبيب الموجب للاشتراك؟ وكيف يعد ذلك من
مفهوم الشرط، وهو في حقيقة الأمر من مفهوم اللقب؟ حيث قيل:
إن من عداه بخلافه، وليس ذلك من مفهوم الشرط في شئ لأن
المفهوم من الشرط أن زيدا إذا أكره على شرب الخمر أو اضطرته
إليه ضرورة كخوف التلف من العطش لم يحد في نفسه.
لا يقال: إن مقصودهم بمفهوم الشرط ما ذكرت آخرا لا ما
ذكرت أولا، لأنا نقول: إنما يعدون مفهوم الشرط ما ذكرت أولا
كما هو مذكور في (شرح ابن مفتاح على الأزهار)، حيث عبر عن
مفهوم الشرط واحتج له بقوله تعالى: (وإن كن أولات حمل...
الآية) [الطلاق: 6]، وقال ما معناه: فإنه يفهم من ذلك أن من عداهن
بخلافهن. ولم يقل بأنه يفهم من ذلك أنهن إن لم يكن أولات حمل

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أي المفاهيم.
114

فحكمهن بخلاف ذلك فتأمل.
[العمل بالدليل يكون بعد البحث عن الناسخ والمخصص]
وأيضا لا خلاف بين العترة عليهم السلام أن المجتهد إذا استنبط
حكما من كتاب الله سبحانه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ولم يبحث عن الناسخ والمخصص، ولم يتثبت في معاني
الألفاظ، ومواضع استعمالها أن ذلك الحكم باطل، فإذا كان ذلك
كذلك في استنباط المجتهد من كلام من لا يجوز عليه الغفلة ولا
الغلط، فكيف بالمقلد في استنباطه من كلام من ليس بمعصوم عن
الغفلة ولا الغلط؟ وهل ذلك إلا محض تحكم؟
وأيضا الفتوى بالأحكام الشرعية قول عن الله إجماعا، لأنه إنما
يسأل المفتي عما يثبت من الأحكام عن الله سبحانه، ولا يثبت شئ
من الأحكام الشرعية بعد انقطاع الوحي إلا في كتابه تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالنص والقياس، والمقلد إذا أفتى
بشئ فرعه على نصوص المجتهد لا يعلم أصولها من الكتاب والسنة،
لا سيما على الله بما لا يعلم، وقد قال تعالى: (ولا تتبعوا خطوات
الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا
على الله ما لا تعلمون) [البقرة: 168 - 169)، وقال تعالى: (قل إنما حرم
ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا

115

بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف:
33].
[أقوال العلماء في التخاريج]
ولم أطلع على حجة لهم على ذلك سوى دعوى الإجماع في
الأعصار المتأخرة، وهي دعوى باطلة لأنه لم يزل العلماء ينكرون
ذلك.
قال الهادي عليه السلام ما لفظه: (ثم أعلم أن القياس يخرج على
معنيين: أحدهما ثابت صحيح، والأخر باطل قبيح.
فأما المعنى الباطل فهو قول القائل: قاس فلان ويقيس فلان، يريد
بذلك قياسا غير الكتاب، ويضرب بعض القول ببعض، ويقيس برأي
نفسه على رأي غيره ويشبه مذهبه في القياس بمذهب غيره، فيخرج
قياسه قياسا فاسدا، لا يجوز هذا القياس عن الدين، ولا يثبت في
أحكام المسلمين، بل من تعاطى قياسا على ما ذكرناه أو قولا فيما
شرحناه كان محيلا مبطلا فاسد المذهب جاهلا.
وروي عن السيد الناطق بالحق أبي طالب عليه السلام أنه ذكر
أنه لا يعول على تخاريج علي بن بلال صاحب (الوافي) (1)، قال

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - العلامة الفقيه المحدث علي بن بلال بن حمد الله الجيلاني، علامة محقق،
حدث عن أبي العباس الحسني، وأبي جعفر الهوسمي، وعبد الله بن الحسن الايوازي،
وله كتب ودراسات في الفقه والأصول على مذهب الزيدية منها كتاب الوافي الذي
ذكره المؤلف. أنظر: مطلع البدور - خ -.
116

الراوي: وإنما قاله نصحا للمسلمين وتحريا في الدين، فكيف يرى
الحال في تخارج من لا يساوي علي بن بلال؟ انتهى كلام الراوي.
وأخبرني بعض الثقات أن سائلا سأل الإمام المهدي لدين الله
أحمد بن يحيى عليه السلام (1) والفقيه يوسف رحمه الله تعالى (2) في
(هجرة العين) (3) فقال ما معناه: كيف يكون تقليد المقلد؟
فقالا: كالأعمى يقود أعمى.
فقال السائل: فما بالكما أثبتما في مصنفاتكم أقوال القلدين؟
فقالا: إنما حكينا الأقوال.

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الإمام المهدي أحمد بن يحيى، أحد أئمة الزيدية، وفقهاء الإسلام، له شهرة
واسعة وأخباره كثيرة، وله مصنفات في كل الفنون، توفي سنة (840 ه‍)، ودفن
بظفير حجة، وقبره هنالك مشهور مزور، وقد ألف في سيرته كتب منها: الإمام
المهدي أحمد بن يحيى المرتضى وأثره في الفكر الإسلامي للدكتور محمد الحاج.
(2) - يوسف بن أحمد بن محمد بن عثمان اليماني الزيدي، أحد العلماء
الأعلام، وصاحب مدرسة فقهية شهيرة، من مؤلفاته: الثمرات اليانعة والأحكام
الواضحة في تفسير آيات الأحكام وهو ثلاثة مجلدات - خ - توفي سنة (832 ه‍).
أنظر: البدر الطالع 2 / 350، الأعلام 8 / 215.
(3) - هجرة العين: قرية من عزله بني السياغ من الحيمة الداخلية، جنوب غرب صنعاء
بمسافة (37 كم)، تقريبا.
117

قلت: وفي كلامهما تصريح بإبطال تفريع المقلدين حيث صرحا
بأن تقليد المقلد كأعمى يقود أعمى، واعتذر عن إثباتهما لذلك
في مصنفاتهما بأنه مجرد حكاية.
وبلغنا عن بعض العلماء في زمانهما أنه قال ما لفظه: (إن هذا
القول الذي تعين أنه مخرج (1) ليس بقول لمن خرج على قوله، ولا
قول للذي خرجه من قول المجتهد، فحينئذ يكون هذا الحكم لا قائل
به، فكيف تجري عليه الأديان والمعاملات؟ وهذه ورطة تورط فيها
الفقهاء برمتهم إلا من لزم النصوص).
وكذا في بعض كتب الأصول لأهل المذهب ك‍ (الجوهرة) (2)
إنكارها.
وكذا اعترضهم الإمام الحسن بن عز الدين (3) في (شرح المعيار)
على عدم اشتراط البحث عن كون نص المجتهد مخصصا، وعن كونه
يقول بتخصص العلة، أو لا يقول بذلك، وقال ما لفظه: (وقد يمنع

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - في (أ): أن هذا الحكم الذي يعد أنه مخرج.
(2) - لعل المراد بالجوهرة: كتاب (جوهرة الأصول)، لأحمد بن محمد الرصاص المتوفى
656 ه‍.
(3) - الحسن بن عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد الحسني، من أئمة الزيدية باليمن،
من كتبه شرح القسطاس المقبول شرح معيار العقول، توفي سنة (929 ه‍). أنظر:
ملحق البدر الطالع 72، الأعلام 2 / 199.
118

من عدم لزوم البحث هنا عن الخاص مع وجوبه في ألفاظ الكتاب
والسنة، وعن مذهبه في تخصيص العلة، وبالجملة فناهيك أن يكون
المجتهد في المذهب بمنزلة المجتهد المطلق في الشرع على السوية، ومن
عكس قالب الإضافة أن يجعل لغير المعصوم من الخطأ متقاصر الخطى
على المعصوم مزية).
وقرأت بخط شيخي شمس العترة أمير الدين بن عبد الله أبقاه الله
وأظن أني سمعته من بعض السادة من أهل البيت عليهم السلام أنه قال:
(كثير من التخاريج مصادمة للنصوص). ولهذا يمتنع كثير من
أهل التحري من العمل بالتخريجات، والإفتاء بها، لمخالفتها
لنصوص الأئمة من غير ضرورة ملجئة إلى مصادمتها.
وسمعت الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي بن داود (1) -
فرج الله عنه ورعاه وحماه - ينكرها، وقال ما معناه: (كان مذهبنا
سليما إلى زمن كذا)، وذكر بعض أول المخرجين في مذهبنا، لأن (2)
أول من أحدث هذه البدعة أتباع الفقهاء الأربعة، لما كانت
نصوصهم غير وافية بالأحكام، وكان أتباعهم يعدون أقوال

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - الحسن بن علي بن داود بن علي بن المؤيد، إمام اليمن في عصره، أسره
الترك وأرسل مع جماعة من أصحابه إلى تركيا، وفيها توفي سنة (1024 ه‍). أنظر:
البدر الطالع 1 / 204، الأعلام 2 / 204.
(2) - في (ب): إلا أن.
119

غيرهم من سائر المجتهدين بدعة، قال الذهبي (1) في تاريخه: (
وللزيدية مذهب في الفروع بالحجاز واليمن لكنه من أقوال البدع).
وقال ابن سمرة اليمني (2) في (طبقاته): وفي سنة كذا وكذا جرت
فتنتان عظيمتان: إحداهما فتنة علي بن الفضل ودعاه للناس
إلى الكفر، والأخرى فتنة الشريف يحيى بن الحسين الرسي ودعاه الناس
إلى التشيع (3).
وقال في حاشية (الفصول) (4) ما لفظه: (قال في (القواعد): ولقد
عظمت المحنة على من اجتهد وترك التقليد من العلماء المتأخرين في
كل عصر من الأعصار، ومصر من الأمصار كما يعرف ذلك من
طالع كتب التواريخ والأخبار، ومات كثير من الأخبار بسبب ذلك
في الحبوس، وطرد كثير منهم من الأمصار).
قلت وبالله التوفيق: ولعله يريد بالقواعد كتاب (قواعد عقائد

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أحمد بن عثمان الذهبي، صاحب الكتب المشهورة في الجرح والتعديل، توفي (748 ه‍).
(2) - ابن سمرة اسمه عمر بن عبيد بن سمرة الجعدي، كان من الفقهاء ولي القضاء في أبين
من قبل طاهر بن يحيى، وتوفي بعد سنة (586 ه‍). أنظر عنه تاريخ ثغر عدن 210.
(3) - النص في كتاب ابن سمرة المسمى: طبقات فقها اليمن 75 - 79، وهو هنا بمعناه
مختصرا.
(4) - الفصول اللؤلؤية في أصول الفقه للسيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير،
وعليها حواشي كثيرة معظمها من المؤلف، ولم تزل مخطوطة.
120

أهل البيت عليهم السلام للديلمي رحمه الله تعالى، الله أعلم.
ثم تابعهم بعض أتباع القاسم والهادي والناصر وغيرهم من
الأئمة عليهم السلام في نفس ابتداع التفريع فقط في الأغلب، ولو
أنهم تركوا ذلك ورجعوا إلى سؤال من أمر الله بسؤاله حيث قال
تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر) لكان
خيرا لهم وأسلم لأنهم لا يعدمون من يجيب سؤالهم حتى يختم الله
أيام التكاليف، كما في الأخبار النبوية من نحو قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، وقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (بنا أهل البيت يختم كما بنا ابتدأ..)
(1)، الخير بلفظه أو معناه.
فرحم الله امرءا نهى النفس عن الهوى، ونظر بعين البصيرة، وأطفأ
نار الحمية، وأغمد سيوف العصبية (2)، وبرئ من داء العناد، وسلك
محجة الرشاد، بحق محمد وآله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله
وسلم.
تم الكتاب بحمد الله

--------------------------------------------------------------------------------

(1) - أورد المتقي الهندي في كنز العمال نحوه 7 / 263 عن علي (ع) وقال: أخرجه أبو
نعيم والطبراني ونعيم بن حماد والخطيب. وأورده الهيثمي في المجمع 7 / 316 وقال:
رواه الطبراني في الأوسط.
(2) - في (أ): وأغمد سيف المعصية.
121

/ 1