صفات الله عند المسلمين
حسين العايش
بسم الله الرحمن الرحيم
2
(المقدمة)
روى البخاري في صحيحه عن كل من أبي سلمة، وأبي هريرة، وعمرو بن العاص
عن رسول الله (ص) قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم
فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد).
مما لا شك فيه أن الإسلام دعا أتباعه إلى التعقل وأخذ الأشياء التي يراد
للمسلم أن يؤمن بها بواسطة الدليل، والآيات القرآنية صريحة في هذا.
وبناء على ذلك فقد سبر المسلمون جزئيات العلوم ولم يقبلوا التقليد بشكل
مطلق، بل محصوا الكثير من الحقائق وجعلوها موردا للأخذ والرد والنقد البناء:
ولم يكن هذا في العلوم الطبيعية فقط بل شمل معه التفسير والحديث والفقه وسائر
علوم الشريعة.
ولعل من أبرز الأشياء التي وقعت محلا للبحث من لدن أبرز علماء الإسلام
(صفات الله تعالى) فقد تناولها الكثير من العلماء من مذاهب مختلفة: واتجاهات
متعددة، ولا ينبغي الإشكال إن الكلام فيها لا زال على حاله، لأن العلم يترقى
بالتدريج كأي علم من العلوم، وعلم الكلام ومسائله لا يشذ عن ذلك.
كما أنه لا ينبغي لإحدى الفرق الإسلامية أن تتخذ آراء الفرقة الأخرى مغمزا:
بل يجب أن تناقش كل فرقة الفرقة الأخرى بروح علمية وموضوعية خالية من
التعصب الطائفي، فإن وصلت الفرقتان إلى رأي موحد فذلك هو الهدف من البحث،
وإن لم تقنع كل واحدة برأي الأخرى: فلا يعني أن الأخرى قد مرقت عن الإسلام أو
3
كفرت بموجب الحديث المتقدم، ولذا قال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي
الدمشقي في رسالته الجرح والتعديل بعد ذكر الشيعة واحتجاج مسلم بهم في
صحيحه ما هذا لفظه: (لأن مجتهدي كل فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أم
أخطأوا بنص الحديث النبوي).
وقد تكلم الشيخ رشيد رضا في مناره (ص 44 ج 17) فقال: (إن أعظم ما
بليت به الفرق الإسلامية رمى بعضهم بعضا بالفسق والكفر مع أن قصد كل الوصول
إلى الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده والدعوة إليه، والمجتهد وإن أخطأ
معذور) وقد أفاض في ذلك، فراجع مناره.
ولو أردنا استقصاء ما ورد في هذا المجال لخرجنا عما رسمناه لهذه الرسالة من
الإيجاز، إلا أن ما تقدم - من أن الخلاف لا يوجب التكفير والتفسيق - هو رأي
علماء الإسلام الذين ليس لهم هدف طائفي، ولم ينغلقوا على أنفسهم بفكر ضيق،
أما من سيطرت عليهم العصبية وهم ليسوا قليلين، فقد سلكوا مسلكا آخر، وكأن
همهم الوحيد هو شق الصف الإسلامي وتشتيت كلمة المسلمين في وقت هم في
أمس الحاجة إلى توحيد كلمتهم لما يحيكه الأعداء ضدهم، وفي الآونة الأخيرة نشط
بعض ممن يدعي العلم في هذا المجال وأخذ يسجل كلامه على أشرطة مسموعة
ويبثها بين العوام من الأمة (1).
فأشار في شريط إلى أن الشيعة معطلة، وأنها لا تقول بوجود صفات لله وتجرده
عن صفاته - معاذ الله عما يقوله - وأحببت أن أضع النقاط على الحروف في هذه
المسألة وإن كنت أعلم أنه لن ينتهي المطاف بذلك، وستردد هذه المسألة - وغيرها من
المسائل التي هي مورد اختلاف بين مذاهب المسلمين الكلامية - من قبل الكثير من
أمثاله من أصحاب النفوس المريضة، إلا أنه قد يظن البعض (إذا لم يرد عليه إنما
(1) وهو المدعو إبراهيم الجبهان.
4
قاله هو الحق) فخشية أن يقع بعض العوام من المسلمين في حبائل هؤلاء الذين لا
يعرفون من العلم إلا اسمه، أحببت أن أبين مذاهب المسلمين الكلامية في صفات
الله تعالى وأدلة كل مذهب من هذه المذاهب وما يرد عليه من قبل المذهب الآخر
ومستنده في ذلك بما يتناسب مع حجم الرسالة، علما إن هذه الرسالة لم توضع
لاستقصاء أطراف البحث بقدر ما هي تعريف عام للمسألة والمذاهب فيها مع
الإشارة إلى الصحيح منها.
5
تمهيد:
لا شك أن العقل له الدور الفاعل في فهم الشريعة وأسرارها وإدراك معاني
التوحيد الإلهي، كما أنه لا مجال للتقليد في العقائد عند المسلمين الشيعة، بل
يوجبون على كل مؤمن أن يبحث ليحصل له ما يعتقده بالدليل، ويحرمون
التقليد ومعنى ذلك أنه: (لا يجوز - بنظر الشيعة - أن ينصاع المؤمن إلى أي كان
في أخذ عقيدته) بل عليه أن يفكر ويتأمل في قضايا العقيدة، ولا يتلقى ما يقوله
الآخرون دون إدراك لمضامينه، لأن الكذب والافتراء من أجل الدنيا أو بطابع الميل
إلى المحيط والبيئة يكثر وبالتالي فسوف يكون إيمانه غير مبتن على أسس
رصينة لا تؤثر فيها الأهواء فينجرف مع كل ناعق ويتأثر به.
ولذا نرى الشباب في الوطن الإسلامي كيف تأثروا بالمبادئ الوضعية وكان
التأثر ناتجا من عدم إتاحة الحرية الفكرية للشاب في أن يتأمل ويناقش ليصل إلى
الحق بنفسه، ويستهدي بنور العقل مستضيئا بآيات القرآن الكريم التي تحث على
جعل العقل ميزانا بين الحق والباطل، وليست حجية العقل في الأمور العقائدية من
مختصات الشيعة، كما أن عدم جواز التقليد في العقيدة كذلك لورود الأحاديث في
مصادر الشيعة والسنة ولأقوال العلماء من الفريقين بعدم جواز التقليد.
إلا أنه مع الأسف الشديد أن أصحاب الأطماع الدنيوية ألغوا دور العقل وشلوا
فكر الشباب عن التأمل في آفاق العلم الإلهي، ومسائل العقيدة الإسلامية، ولم
يسمحوا لكتب العلماء الصالحين أن تنتشر بين المسلمين ليعوا أن الوضع المعاش
وأن الدعاية المكثفة التي يقوم بها (الوهابيون) إنما هي لإسدال الستار على كلام
علماء الإسلام من الشيعة والسنة لكي لا تنتشر فتبدد الظلام الحالك الناشئ من
أوهامهم.
وإليك الآيات والأحاديث الواردة من الفريقين، وكلمات علماء الإسلام من
السنة الغير المجوزة للتقليد ليتضح لك الحق جليا وأنه لا بد من تحكيم العقل، وإلا
6
فلماذا أتت هذه الآيات القرآنية؟ ولماذا صدرت هذه الأحاديث؟ هل لكي تجعل في بطون
الكتب ويتفشى الجهل وتعطل الطاقات الخلاقة في عقول الملايين من المسلمين..؟!
قال تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي
تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها
وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات
لقوم يعقلون) (سورة البقرة: آية 164)
وقال تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي
الألباب) (سورة آل عمران: آية 190)
(إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) (سورة الأنفال: آية 22)
(ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحي به الأرض بعد
موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (سورة الروم: آية 24)
(وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) (سورة الملك: آية 10)
الأحاديث الواردة من الفريقين في العقل:
نقل صاحب كنز العمال مجموعة من الأحاديث الواردة عن النبي (ص) التي تنوه
بالعقل وبمكانته في فهم الشريعة الإسلامية، وإليك بعض هذه الأحاديث:
الحديث الأول: (دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له).
ومن الواضح أن المتدين الذي لا يحكم عقله في فهم الشريعة ليس بصاحب دين
يريده الإسلام إنما هو مقلد.
الحديث الثاني: (قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له).
الحديث الثالث: (أنا الشاهد على الله ألا يعثر عاقل إلا رفعه الله ثم لا يعثر إلا
رفعه الله حتى يجعل مصيره إلى الجنة) (1).
(1) كنز العمال، ج 3 ص 379 - 380.
7
الحديث الرابع: (لا يعجبنكم إسلام امرئ حتى تعلموا ما عقدة عقله).
الحديث الخامس: (قد يتوجه الرجلان إلى المسجد فينصرف أحدهم وصلاته أفضل
من الآخر إذا كان أفضلهما عقلا وينصرف الآخر وصلاته لا تعادل مثقال ذرة) (1).
هذا بعض ما جاء من أحاديث لدى السنة في العقل، وإليك بعض الأحاديث
والكلمات الواردة في مصادر الشيعة:
الحديث الأول: إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما
الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (ع)، وأما الباطنة فالعقول).
الحديث الثاني: (حجة الله على العباد النبي، والحجة ما بين العباد وبين الله العقل)).
الحديث الثالث: (العقل دليل المؤمن).
الحديث الرابع: (لا يغش العقل من استنصحه).
الحديث الخامس: (استرشدوا العقل ترشدوا، ولا تعصوا فتندموا).
الحديث السادس: (ما آمن المؤمن حتى عقل) (2).
الحديث السابع: (إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له) (3).
الحديث الثامن: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن
رواة العلم كثير ورعاته قليل) (4).
الحديث التاسع: (اعقل تدرك) (5).
الحديث العاشر: (من عقل فهم) (6).
(1) نفس المصدر، ص 382 - 383.
(2) ميزان الحكمة، 395 - 439.
(3) تحف العقول، ص 44.
(4) نهج البلاغة، ص 485.
(5) غرر الحكم، ص 173.
(6) نفس المصدر ص 91.
8
الحديث الحادي عشر: (العقل أصل العلم ودعامة الفهم) (1).
الحديث الثاني عشر: (العقل مركب العلم) (2).
الحديث الثالث عشر: (بالعقل يستخرج غور الحكمة) (3).
الحديث الرابع عشر: (بالعقول تنالوا ذروة العلوم).
الحديث الخامس عشر: (الإنسان بعقله) (4).
الحديث السادس عشر: (دعامة الإنسان العقل، ومن العقل: الفطنة، والفهم،
والحظ، والعلم، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما، حافظا، زكيا، فطنا،
فهما، وبالعقل يكمل وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره) (5).
آراء بعض علماء السنة في عدم جواز التقليد وحجية العقل:
قال العلامة الشيخ إبراهيم اللقاني المالكي في جوهرة التوحيد:
إذ كل من قلد في التوحيد * إيمانه لم يخل من ترديد
وقال الشارح العلامة الشيخ ابراهم البيجوى: إن قوله في التوحيد أي في علم
العقائد وليس المراد إثبات الوحدة بخصوصه (6).
ويرى السنوسي في الكبرى عدم صحة التقليد وإن المقلد كافر، وبعض العلماء
(1) نفس المصدر.
(2) نفس المصدر، ص 205.
(3) نفس المصدر، ص 204.
(4) نفس المصدر، ص 14.
(5) مستدرك سفينة البحار، ص 313، وراجع للاستزادة في ما جاء في حجية العقل وفضله إلى
أصول الكافي ج 1 باب الحجة، وإلى كتاب الحياة ج 2 ص 42 - 46.
(6) جوهرة التوحيد، ص 33 - 34 طبع دار الكتب العلمية - بيروت 1403 ه.
9
يرون المقلد عاص، ثم إن هذا الخلاف في العقائد بشكل عام، وأما في معرفة الله
فقد ذكر العلامة الشيخ عبد السلام أنه واجب بالإجماع (1).
وقال الأشعري: إن المعرفة واجبة، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: إن
النظر الموصل للمعرفة واجب (2). والمراد بالنظر هو التفكير الموصل إلى الحق في
العقائد. (3)
وأبان الأستاذ أبو زهرة مسلك الأشعري في البحث في العقائد بقوله: وقد سلك
الأشعري في الاستدلال على العقائد مسلك النقل والعقل، فهو يثبت ما جاء به
القرآن والسنة من أوصاف الله ورسوله، واليوم الآخر، والملائكة، والحساب،
والعقاب، والثواب، ويتجه إلى الأدلة العقلية أو البراهين المنطقية يستدل بها على
صفات الله وقد استعان في ذلك بقضايا فلسفية ومسائل عقلية خاض فيها
الفلاسفة وسلكها المناطقة (4).
وأما أبو حنيفة فقد كان مسلكه إعمال عقله فيما إذا روى في المسألة قولان أو
أكثر للصحابة فيختار منها أعدلها وأقربها إلى الأصول العامة (5) وذكر عنه أيضا
إنه كان أكثر استخداما للعقل في أمور الدين (6).
ونقل الشهرستاني عن السنة قولهم: إن الواجبات بالسمع والمعارف كلها
بالعقل (7).
(1) نفس المصدر، ص 34.
(2) نفس المصدر، ص 37.
(3) نفس المصدر، ص 38.
(4) أبو زهرة ابن تيمية ص 189.
(5) نشأة الأشعرية وتطورها ص 21.
(6) نفس المصدر، ص 24.
(7) الملل والنحل، ج 1 ص 48.
10
وقد أكد دور العقل في فهم الإسلام الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه
(التفكير فريضة إسلامية) فارجع إليه. وبعد أن اتضح لك دور العقل وعدم
جواز التقليد في العقائد نقرر لك آراء الأشاعرة والمعتزلة والمجسمة (الوهابيين)
والشيعة ضمن فصول، ونختم البحث بفصلين:
(أحدهما) في التأويل للنصوص المخالفة للعقل، فهل يجوز تأويل النص
وتحكيم العقل فيه؟ أم يجب حمله على ظاهره؟ كما فعل المجسمة، وسوف نذكر في
هذا الفصل آراء بعض علماء السنة وهم الذين يجوزون التأويل وقد مارسوه في
النصوص الواردة المنافية للعقل.
و (ثانيهما) عقدناه لنستعرض فيه آراء أعلام السنة في ابن تيمية الذي يعتبر
بحق إمام المجسمة (الوهابيين) وحجتهم فيما يذهبون إليه، وسوف يتجلى لنا من
خلال كلماتهم بطلان آرائه وعدم موافقتهم له، بالطبع أن استعراض آراء أعلام
السنة في ابن تيمية لا يعني أنه انفرد من بين علماء الحنابلة بالتجسيم * فهناك
آخرون يقولون بفكرة التجسيم ويدافعون عنها، ولعل من أكبر المدافعين والمجددين
لهذه الفكرة هو محمد بن عبد الوهاب وأعلام السنة والجماعة لم يكتفوا بالرد على
ابن تيمية فقط، بل ردوا أيضا على محمد بن عبد الوهاب برسائل وكتب بينوا فيها
بطلان آرائه.
ولعل من أقدم الرسائل رسالة أخيه (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)
إلا أن جميع ما يقوله العلماء في رد أفكار ابن تيمية ويحكمون به جار في حق
محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من مجسمة عصرنا الحاضر، فلا داعي للإطالة بذكر
نصوص العلماء الذين أبطلوا مذهب محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بعد أن تطلع
على آراء العلماء في ابن تيمية.
11
المذهب الأشعري في الصفات:
يعتبر أبو الحسن الأشعري إمام أهل السنة والجماعة في العقائد (أي أن آرائه هي
المتبعة من الأكثرية منهم) والأشعري مر بمرحلتين في سلوكه العقائدي أو بثلاث
مراحل:
الأولى: إنه كان معتزليا، وهي المرحلة الأطول في حياته، والتي يعزو بعض مؤرخي
علم الكلام تحوله إلى المرحلة الثالثة إليها (1).
والثانية: هي التي تحول فيها تحولا مفاجئا إلى عقائد المجسمة، ويمثل هذه
المرحلة كتابه الإبانة، فإنه وافق فيه الحشوية والمجسمة والإمام أحمد في المرحلة
الأولى من حياته (2).
ولما اطمئن له الحشوية والمجسمة ألف كتابا آخر أسماه (اللمع) عدل فيه عن
آرائه الموجودة في كتاب الإبانة وسلك مسلكا وسطا بين المجسمة والمعتزلة كان فيه
أقرب إلى المعتزلة، ولذا يختلف فيه الوهابيون.
فمن نظر إلى الكتاب الثاني - كما فعل الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل
الشيخ (3) - حيث صنفه فيمن لم يعرف حقيقة التوحيد الذي بعث به الرسول (ص)
ومن نظر إلى كتاب الإبانة وهو الذي ألفه بعد رجوعه عن مسلك المعتزلة رآه سلفيا
محضا لم يخرج عن التجسيم الذي قال به الحشوية (4) وهناك من يرى أن تحول
(1) مقدمة كتاب اللمع د. حموده غرابه، طبع مصر 1955 م.
(2) الإبانة طبع المدينة المنورة 1975 م.
(3) في كتابه فتح المجيد ص 16، الطبعة الخامسة 1391 ه.
(4) مقدمة الإبانة ص 2 - 3 طبع المدينة المنورة 1975.
12
الأشعري كان سياسيا أكثر منه فكريا (1).
خلاصة رأي الأشعري في الصفات يرى: أن الله يتصف بالعلم والقدرة والحياة
والإرادة، وأن هذه الصفات قديمة مع الذات المقدسة، كما أن ما ورد مما يسمى
بالصفات الخبرية يحمله على ظاهره بلا كيف في الإبانة ويؤول بعضه في اللمع،
وإليك خلاصة ما يراه من كتبه:
استدل الأشعري على كونه تعالى عالما بأن الأفعال المحكمة لا تتسق في الحكمة
إلا من عالم، وذلك أنه لا يجوز أن يحوك الديباج بالتصاوير ويصنع دقائق الصنعة
من لا يحسن ذلك ولا يعلمه (2).
وقال في قدم صفاته تعالى: أن الحي إذا لم يكن عالما كان موصوفا بضد العلم
من الجهل ولو كان موصوفا به لاستحال أن يعلم لأن ضد العلم إذا كان قديما
لاستحال أن يبطل وإذا استحال أن يبطل لم يجز أن يصنع المصانع الحكيمة فلما
صنعها دلت على أنه عالم وصح أنه لم يزل عالما (3) وبرهن على مغايرة الصفات
لذاته تعالى بقوله:
أولا - كيف يمكن أن يقال: (إن علم الله هو الله) وإلا فيلزم أن يصح أن نقول:
(يا علم الله اغفر لي وارحمني) (4).
ثانيا - قال ومما يدل على أن الله عالم بعلم أنه سبحانه لا يخلو من صورتين:
الأولى: أن يكون عالما بنفسه.
الثانية: بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه، فإن كان عالما بنفسه كانت نفسه
(1) نشأة الأشعرية وتطورها، ص 181.
(2) اللمع، ص 24.
(3) اللمع، ص 25 - 26.
(4) الإبانة، ص 108.
13
علما ويستحيل أن يكون العلم عالما أو العالم علما، ومن المعلوم أن الله عالم ومن
قال: إن علمه نفس ذاته، لا يصح له أن يقول: إنه عالم، فإذا بطل هذا الشق تعين
الشق الثاني وهو أنه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه (1).
إيضاح رأي الشيعة والمعتزلة:
أنا ما أوضحه في كون العلم يغاير الذات وإن العلم يستحيل أن يكون عالما نظر
فيه إلى عالم الألفاظ وما يقوله المعتزلة والشيعة من كون العلم هو الذات الإلهية
ليس اللفظ، بل معنى اللفظ، ومن خلال إدراكنا أن المراد بالاتحاد بين الذات
والصفات ليس اللفظ بل ما ينطبق عليه اللفظ من المعنى لا يرد نقضه بقوله لصح
أن يقال يا علم الله اغفر لي، إذ العلم مصدر من الناحية اللفظية يتغاير مع الاسم
فلا يجوز لغة أن ينادى المسمى بالمصدر بل بالاسم.
رأيه في الصفات الخبرية:
أما الصفات الخبرية فهو يثبتها لله تعالى بلا تشبيه ولا تكييف، قال: وإن الله
استوى على عرشه كما قال: (الرحمن على العرش استوى) (سورة طه: آية 5)
وأن له وجها بلا كيف كما قال:
(ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (سورة الرحمن: آية 27)
وأن له يدين بلا كيف كما قال: (خلقت بيدي) (سورة ص: آية 75).
وقال سبحانه: (بل يداه مبسوطتان) (سورة المائدة: آية 74)
وأن له عينا بلا كيف كما قال: (تجري بأعيننا) (سورة القمر: آية 14) (2).
(1) اللمع، ص 30.
(2) الإبانة 18.
14
وأضاف إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء..؟
قيل له: نقول إن الله عز وجل يستوي على عرشه كما قال: يليق به من غير
طول الاستقرار، كما قال: (الرحمن على العرش استوى) (1).
وقال في الباب الثامن: قال تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه) (سورة
القصص: آية 88).
وقال عز وجل: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (سورة الرحمن: آية 27)
فأخبر أن له وجها لا يفنى ولا يلحقه الهلاك.
وقال عز وجل: (تجري بأعيننا) (سورة القمر: آية 14).
وقال تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) (سورة هود: آية 37).
فأخبر عز وجل أن له وجها وعينا بلا كيف (2) وفي نسخة ثانية: لا يكيف ولا
يحد (3) وقال: نصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء
الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه
وأثبتوه (4).
وقال فإن سئلنا: أتقولون: إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز
وجل: (يد الله فوق أيديهم) وقوله عز وجل: (لما خلقت بيدي) وروي عن
النبي (ص) أنه قال: (إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته)، فثبتت
اليد، وقوله عز وجل: (لما خلقت بيدي) وقد جاء في الخبر المأثور عن النبي (ص):
(إن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة
طوبى بيده).
(1) الإبانة 92.
(2) الإبانة، ص 95.
(3) الإبانة، ص 34 طبع المدينة المنورة.
(4) الإبانة، ص 11 طبع المدينة المنورة.
15
وقال عز وجل: (بل يداه مبسوطتان) وجاء عن النبي (ص): (كلتا يديه يمين).
وقال عز وجل: (لأخذنا منه باليمين) (1).
المعتزلة والصفات الإلهية:
من يراجع كلام المعتزلة في صفات الله تعالى يجد التقارب الواضح بين ما
يقوله المعتزلة في الصفات وما يقوله الشيعة، والسبب في ذلك يرجع إلى أن
المعتزلة يستقون معارفهم من مصدرين يرى الشيعة صحتهما:
المصدر الأول: كلمات أمير المؤمنين (ع) عن طريق حفيده أبو هاشم ابن محمد ابن
الحنفية وكلمات أمير المؤمنين (ع) تمثل القمة في التوحيد الإلهي لاستقائه ذلك من
القرآن، وقد ورد في الحديث النبوي الصحيح: أن عليا مع القرآن والقرآن مع علي.
والمصدر الثاني: هو العقل، وقد كان للمعتزلة دور رائد في تحكيم العقل وصلوا به
إلى نتائج قيمة في معاني التوحيد، (واتفاق الشيعة والمعتزلة على هذين المصدرين
وبالتالي في الاستنتاج منهما أدى ببعض الباحثين إلى الخلط، فجعل الشيعة تبعا
للمعتزلة ناسيا أو متناسيا أن الشيعة أسبق في النشأة التاريخية ودخول المعترك
الفكري، مما يجعل ما ذهب إليه قلبا لحقائق التاريخ).
وخلاصة ما يراه المعتزلة في ذلك (إن الذات الإلهية قديمة لها صفات هي
العلم، والقدرة، والحياة) وهذه الصفات هي الذات المقدسة من حيث المصداق
والتعدد فقط في عالم المفاهيم والألفاظ، وجميع هذه الألفاظ تشير إلى معنى
واحد، هذا من ناحية الاتحاد بين الذات والصفات الذاتية.
وأما من ناحية ما ورد في القرآن والأحاديث النبوية مما يلزم منه التجسيم والتشبيه
فله تأويلات تتفق مع روح اللغة العربية وتنسجم مع ما ورد من الآيات المحكمة في
(1) الإبانة، ص 34.
16
القرآن كقوله تعالى: (ليس كمثله شئ) وبالتالي فالله منزه عن الجسمية وعن
كل ما يمت إلى التجسيم بصلة، وإليك ما أفاده علماء المعتزلة في الصفات.
يرى مؤسس مذهب الاعتزال أن صفات الله تعالى عين ذاته، ودليله على ذلك
أن إثبات صفة إلى جانب الذات إنما يعني إثبات إلهين وقال: إن القدرة والعلم من
الصفات القديمة للذات (1).
ويرى النظام في هذا المعنى: إن صفات الله الأزلية من علم وقدرة وحياة هي
إثبات للذات الإلهية ونفي لأضداد هذه الصفات عن الذات، فمعنى قولي: عالم،
إثبات ذاته ونفي الجهل عنه، وقولي: قادر، إثبات ذاته ونفي العجز عنه، ومعنى
قولي: حي، إثبات ذاته ونفي الموت عنه، فاختلاف العلم عن القدرة عن الحياة إنما
يرجع لاختلاف ما ينفى عنه سبحانه من جهل أو عجز أو موت (2).
ويرى العلاف أن الصفات عين الذات ويفصل ذلك بالنحو التالي: الله تعالى
عالم بعلم هو هو، قادر بقدرة هي هو، فإذا قلت: إن الله عالم أثبت له علما هو الله
ونفيت عنه جهلا، وإذا قلت: قادر نفيت عنه عجزا وأثبت له قدرة (3).
ويرى بعض المؤلفين أنهم إنما ذهبوا إلى القول بأن صفات الله عين ذاته لأجل أن
يردوا على النصارى لأنهم ذهبوا إلى قدم الأقنوم وشرحوا ذلك بقولهم: إن الذات
الإلهية جوهر يتقوم بأقانيم ثلاثة (أي بصفات ثلاث) هي: الوجود، والعلم،
والحياة، ولكن النصارى اعتقادهم بذلك أدى بهم إلى القول باستقلال الأقانيم عن
الجوهر، وإلى اعتبار الصفات أشخاصا، وإلى تجسد الأقنوم الثاني أقنوم العلم في
الابن، فلمواجهة هذا الاعتقاد نفى المعتزلة وصف الله بأنه جوهر واعتبروا الصفات
هي الذات (4).
(1) في علم الكلام، ج 1 ص 184.
(2) مقالات الإسلاميين، ج 1 ص 227.
(3) الفرق بين الفرق للبغدادي، ص 122 - 132.
(4) في علم الكلام ص 123 و ص 192.
17
واتفق المعتزلة على أن الله عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته، لا بعلم وقدرة
وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به، لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي
هو أخص وصف لشاركته في الإلهية (1) ويرى أحد كبار مشايخهم وجود فرق بين
القول ب: (أن الله عالم بذاته لا بعلم) وبين القول ب: (أن الله علم بعلم وهو ذاته)
لأن القول الأول نفي الصفة، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة، أو إثبات صفة هي
بعينها ذات (2).
هذا خلاصة رأيهم في الصفات الذاتية.
رأيهم في الصفات الخبرية: الوجه واليد و..
في معنى (يد الله) عند المعتزلة:
(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان)
قالوا: إن معنى قول اليهود: (يد الله مغلولة) وصفه بالبخل، وقوله سبحانه:
(بل يداه مبسوطتان) تعبير مجازي يدل على إثبات غاية السخاء لله ونفي
البخل عنه لأنه غاية ما يبذله السخي أن يعطي بيديه جميعا فيبنى المجاز على ذلك (3).
واليد عموما تفيد النعمة أو التأييد والنصرة (يد الله فوق أيديهم) أو تشير
إلى ذات الله (لما خلقت بيدي) (سورة آل عمران: آية 75).
(أولم يروا إنا خلقنا مما عملت أيدينا أنعاما) (سورة يس: آية 71) (4).
ومعنى الوجه: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (سورة الرحمن: آية 27).
(1) الملل والنحل للشهرستاني، ج 1 ص 49.
(2) نفس المصدر، ج 1 ص 53.
(3) الكشاف، ج 1 ص 32.
(4) في علم الكلام، ج 1 ص 176.
18
(إنما نطعمكم لوجه الله) (سورة الإنسان: آية 9) وجه الله هو الله: ومساكين
مكة يقولون: أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان (1).
ومعنى عين الله: (ولتصنع على عيني) (سورة طه: آية 39) أي برعاية مني
(أن اصنع الفلك بأعيننا) (سورة المؤمنون: آية 27) أي بعلم منا.
ومعنى الاستواء: (الرحمن على العرش استوى) (سورة طه: آية 5) فالاستواء
بمعنى الاستيلاء أو التمكن، والشاعر يقول:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف أو دم مراق
ومعنى الفوقية (يخافون ربهم من فوقهم) (سورة النحل: آية 50)
إن علقت (من فيمن فوقهم) ب (يخافون) فمعناها أن يرسل عليهم عذابا من
فوقهم، وإن علقت ب (ربهم) فمعناه يخافون (ربهم) عاليا لهم وقاهرا كقوله تعالى:
(وهو القاهر فوق عباده) (سورة الأنعام: آية 18).
(وإنا فوقهم قاهرون) (سورة الأعراف: آية 127) (2).
كذلك أول المعتزلة الآيات التي تفيد المجئ أو العروج، كقوله تعالى: (وجاء
ربك صفا صفا) (سورة الفجر: آية 22).
وقوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) (سورة الأنعام: آية 158).
إن مجئ الرب يعني مجئ رحمته، وإن النظر إلى الله تعالى بمعنى النظر إلى
رحمته أو لطفه ونعمه بما يتفق مع المجاز المستعمل في اللغة ولا يستلزم
التجسيم (3).
(1) الكشاف، ج 2 ص 369.
(2) الكشاف، ج 1 ص 126.
(3) نفس المصدر.
19
وخلاصة رأي المعتزلة في التوحيد هو:
إن الله واحد ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، وليس بجسم ولا شبح، ولا
جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون،
ولا طعم، ولا رائحة، ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا برودة، ولا رطوبة، ولا يبوسة،
ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق،، ولا يتحرك، ولا يسكن،
ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا
بذي يمين، وشمال، وأمام، وخلف، وفوق، وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري
عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف
بشئ من صفات الخلق الدالة على حدثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف
بمساحة، ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به
الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق
بوجه من الوجوه، ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال
وتصور بالوهم فغير مشبه به، لم يزل أولا، سابقا، متقدما، للمحدثات، موجودا
قبل المخلوقات، ولم يزل عالما قادرا حيا، ولا يزال كذلك لا تراه العيون، ولا تدركه
الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شئ لا كالأشياء، عالم،
قادر، حي، لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده، ولا قديم غيره، ولا
إله سواء، ولا شريك له في ملكه، ولا وزير له في سلطانه، ولا له معين على إنشاء
ما أنشأ وخلق ما خلق، لم يخلق الخلق إلى مثال سبق، وليس خلق شئ بأهون عليه
من خلق شئ آخر، ولا بأصعب عليه من لا يجوز عليه اجترار المنافع، ولا تلحقه
المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام، ليس بذي غاية
فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء، ولا يلحقه العجز والنقص، تقدس عن ملامسة
النساء، وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء (1).
(1) مقالات الإسلاميين للأشعري، ص 155 - 156 الطبعة الثالثة.
20
آراء المجسمة (الوهابيين) وبعض الحنابلة:
قبل البدء في بيان رأي المجسمة في الصفات لا بد لنا من وقفة قصيرة نبين
للقارئ فيها مذهب أحمد بن حنبل في ذلك باعتبار آرائه مستند للمجسمة وبعض
أئمة الحنابلة المتفق عليهم بين المسلمين بأنهم مشبهة، كأبي يعلى القاضي، وابن
الزغواني، وأبي محمود الدستي الحنبلي، ولهم رسائل في إثبات القعود والحد لله
تعالى وإثبات الرجل، إلى غير ذلك من الخزعبلات التي ذكروها (1).
إلا أنه بحسب نظرنا أن الإمام أحمد له رأيان: (الأول) صريح في التجسيم
ويقيم عليه أدلة، (والرأي الثاني) اتخذه بعد نضجه العلمي في آخر حياته وفي
هذا الرأي نسف فكرة التجسيم وأقام الأدلة على بطلانها.
(الرأي الأول ودليله) قال: وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد ابن مغيرة
المخزومي فقال: (ذرني ومن خلقت وحيدا) (سورة المدثر: آية 11).
وقد كان هذا الذي سماه الله وحيدا له عينان، وأذنان، ولسان، وشفتان، ويدان،
ورجلان، وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله، وله المثل
الأعلى وهو بجميع صفاته إله واحد (2) وفي هذا الكلام يظهر أنه يرى فكرة
التجسيم لا تنافي التوحيد، فيمكن أن يكون الله واحدا وله يدان، ورجلان، وهو
كالإنسان، إلا أنه له المثل الأعلى، وهكذا رد الأفكار الأخرى النافية كون الله فوق
العرش أو أنه ليس في السماء، وأثبت بظواهر الآيات أن الله فوق العرش وفي
السماء (3).
(وأما الرأي الثاني) فهو المعتمد عند علماء الحنابلة، فقد ذكر العلامة محمد بن
(1) الأسماء والصفات للبيهقي، ص 351 و 356 في الهامش حاشية الكوثري.
(2) عقائد السلف، ص 92.
(3) نفس المصدر، ص 92 - 93.
21
درويش الحوت البيروتي: إن جماعة من الحنابلة وقعوا في ورطة التجسيم وحملهم
على ذلك زعمهم أن الإمام أحمد يمنع التأويل، ثم قال: فيا ليتهم حيث قلدوه في
منع التأويل كانوا قلدوه في وجوب التنزيه، لكنهم تبعوه في بعض وخالفوه في
بعض، ثم أضاف بأن التأويل ليس ممنوعا فإنه جرى عليه كثير من أهل السنة من
المذاهب الأربعة.
ونقل المعلق على الكتاب خلاف ما ذهب إليه المجسمة عن أحمد. وقال: يكفي
في تبرأت الإمام أحمد ما نقله الإمام أبو الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد
وابن رئيسها عن أحمد، قال: (أنكر أحمد على من قال بالجسم، وقال: إن الأسماء
مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم إلى ذي طول وعرض
وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله سبحانه وتعالى خارج عن ذلك، ولم يجئ في
الشريعة ذلك فبطل) نقله البيهقي عنه في مناقب أحمد، وأضاف أنه ثبت عن الإمام
أحمد أنه أول لما روى البيهقي في كتاب مناقب أحمد عن حنبل ابن إسحاق قال:
سمعت عمى أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - يقول: احتجوا على يوم أذن - يعني
يوم نوظر في دار أمير المؤمنين - فقالوا تجئ سورة البقرة يوم القيامة، وتجئ سوره
تبارك، فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله تعالى: (وجاء ربك) إنما تأتي
قدرته (أي أثر قدرته) وإنما القرآن أمثال ومواعظ، وقد قال البيهقي: وهذا إسناد
صحيح لا غبار عليه (1).
ومن خلال هذا النقل الذي صححه البيهقي يتضح لنا بأن أحمد عدل عن آراءه
السابقة في التجسيم، وأن الاستدلال السابق بأن التركيب من يدين، ورجلين،
وشفتين، لا ينافي الوحدة كما سمى الله الرجل الكافر واحدا، مع أنه مركب لا يراه
أحمد هنا ويرى أن استعمالات القرآن ينبغي أن تحمل على ما يتلائم مع الذوق
(1) رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة، ص 31 - 32.
22
اللغوي العام وأنه لا بد من تأويله بما يتناسب مع عدم الجسم له تعالى ولا حجية
لظاهر الآيات والروايات التي يستفاد منها التجسيم فجاء ربك إنما هو مجئ
قدرته لا أنه جسم يأتي تعالى الله عن ذلك ولكن بعض الحنابلة أخذوا برأي الإمام
أحمد الأول دون الثاني الذي توصل إليه بعد نضجه الفكري والعلمي فخالفوا
إمامهم من حيث لا يشعرون، وما نذكره مما يلزم منه التجسيم ناظر إلى المرحلة
الأولى من حياته وهي التي يتمسك بها الوهابيون في عصرنا. وإليك ما يراه
المجسمة (الوهابيون وبعض الحنابلة) من مصادرهم.
رأي الإمام أحمد في الصفات الخبرية:
قال الإمام أحمد: (إن صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة من شهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له وأن محمدا (ص) عبده ورسوله، وأقر بجميع ما جاءت به
الأنبياء والرسل، وعقد قلبه على ما ظهر من لسانه، ولم يشك في أيمانه، ولم
يكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب، وأرجأ ما غاب عنه من الأمور إلى الله، وفوض أمره
إلى الله، ولم يقطع بالذنوب وعلم أن كل شئ بقضاء الله وقدره الخير والشر) (1).
وفي رسائل التوحيد، إن معنى توحيد الذات والأسماء والصفات هو: (قل هو
الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد) وقال تعالى: (ولله
الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا
يعملون) وقال تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) (2).
(1) عقائد أهل السلف، الناشر منشأة المعارف الإسكندرية 1971 م نقلا عن ابن الجوزي مناقب
أحمد ص 165 - 166.
(2) مجموعة رسائل التوحيد لابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب ص 4.
23
والقارئ إذا اطلع على هذين النصين فهم عقيدة التوحيد عند الوهابيين
والحنابلة أنها تمثل لقلقة اللسان بهذه الألفاظ، دون أن يدرك المؤمن ما تحتوي عليه
الآيات القرآنية من معان سامية، ثم إنه إذا كان التوحيد في الأسماء والصفات هو
الإيمان بالقرآن الكريم فلا يوجد مسلم ينطق بالشهادتين دون أن يؤمن بالقرآن
الكريم، إلا أن الوهابيين يكفرون من لا يؤمن بعقيدتهم، وقد مر بنا آنفا أن الشيخ
عبد الرحمن حفيد الشيخ يكفر الأشعري ومن تبعه (1) بينما جميع أهل السنة اليوم
يؤمنون بمذهبه في الكلام، فمعنى ذلك أن جميع أهل السنة كفرة ما عدى
الوهابيين، بل معنى ذلك أن جميع من أسلم قبل أن يولد ابن تيمية والشيخ محمد
بن عبد الوهاب كفرة لأنهم لا يؤمنون بالجمود على اللفظ دون محاولة فهم معناه،
كما سنوافيك به فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
ويرى بعض من يحاول أن يبرهن على مذهب الحنابلة بأن صفات الذات ليست
بغير الذات ولا بعين الذات (2) وهذا كلام ليس بمفهوم لأن المتأمل لا يعرف غير أحد
معنيين: أما أن تكون صفاته عين ذاته أو مغايرة لذاته، وأما أن تكون ليست
الذات وليست غير الذات، فإن هذا المعنى لا يفهم إلا بضرب من التأويل الذي لا
يراه المجسمة منهم، وتكلم بعض علمائهم المعاصرين في معنى صفات الله فلم يزد
ولا كلمة واحدة عما يلي، قال: نؤمن بأسمائه وصفاته أي بأن له الأسماء الحسنى،
والصفات الكاملة العليا (3).
وهذا الإيمان الذي أورده لا يشك فيه كل من قال: (لا الله إلا الله) فلماذا
يكفر المسلمون عندكم، مع أنهم يؤمنون بنفس هذا الكلام..؟ إلا أنهم يمتلكون
(1) فتح المجيد، ص 16.
(2) شرح جوهرة التوحيد، ص 79.
(3) عقيدة أهل السنة والجماعة، ص 7 طبع الجامعة الإسلامية المدنية المنورة 1407 ه.
24
بصيرة وفهما لا يوجدان عند المجسمة (الوهابيين).
وأوجز خلاصة مذهبهم في الصفات الشهرستاني فقال: إعلم أن جماعة كثيرة من
السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية، من العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة،
والسمع، والبصر، والكلام، والجلال والإكرام، والجود والإنعام، والعزة، والعظمة،
ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحدا،
وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين، والوجه، ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون:
(هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية) (1).
وهذا المقدار من الاعتقاد وإن كان غير صحيح إلا أنه إذا اعتقد به مجموعة
من العوام - كما يظهر من قوله (كثير من السلف) - فلا يضير الآخرين الذين هم
أيضا ليسوا بقليلين، كالمعتزلة والشيعة وباقي الفرق الإسلامية الأخرى، وإن كان
فيه الكثير من الخلط - الذي يأباه العالم - بالصفات، وأنها على أقسام، إلا أن هذا
لا يوجب الاعتقاد به من دون تفسيره وإظهاره باللسان دون فهم معناه لا يوجب
الخروج عن الإسلام أو الفسق لكون العوام وإن وجب عليهم الاعتقاد عن دليل إلا
أنهم قد لا يصلون إلى فهم أكثر من هذا، ولكن الضرر أن يعتقد به من يدعي العلم
ويكفر من لا يعتقد به، كما يفعله البعض، مع أن الشهرستاني نفسه يقول: إن
إجراء هذه الصفات على ظاهرها تشبيه (2).
رأيهم في الصفات الخبرية:
قال أحمد ابن حنبل: وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد ابن المغيرة المخزومي
فقال: (ذرني ومن خلقت وحيدا) (سورة المدثر: آية 11).
(1) الملل والنحل، ج 1 ص 84.
(2) نفس المصدر.
25
وقد كان هذا الذي سماه الله وحيدا له عينان، وأذنان، ولسان، وشفتان، ويدان،
ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله وله المثل
الأعلى وهو بجميع صفاته إله واحد (1).
واستدل بالآيات القرآنية مثل (الرحمن على العرش استوى) بأن الله فقط
على العرش وليس في كل مكان، وأول الآية الكريمة (هو الله في السماوات وفي
الأرض) بمعنى أنه إله من في السماوات والأرض (2).
وهذا الكلام نص في أن الله تعالى كالإنسان له مكان يحويه وهو عرشه، وله
جميع الجوارح التي للإنسان من اليدين والرجلين، بل يصرح أنه تعالى كرجل بنى
بيتا فهو مطلع على ما في البيت دون أن يكون في داخل البيت (3).
إلا أن ما يلفت الانتباه ويثير تعجب الإنسان أنه لماذا لا يرضى الإمام أحمد
للغير أن يؤول بعض آيات القرآن ويرجعها إلى المحكمات كقوله تعالى: (ليس
كمثله شئ) ويسوغ لنفسه تأويل الآيات التي تخالف رأيه، فقوله تعالى: (وهو
الله في السماوات وفي الأرض) يؤوله بإله من في السماوات ومن في الأرض (4).
وهذا التأويل صحيح منه وإن كان يتنافى مع التجسيم الذي يذهب إليه، ولا
يرون أي تناف بين تنزيه الله تعالى وإثبات سائر صفات البشر له تعالى، ويقرون
بصحة الأحاديث الواردة على ظاهرها دون تأويل لها، ويقولون: إن الله يضحك،
فقد سأل أبو رزين العقيلي النبي (ص) قائلا: أو يضحك الرب، قال: نعم (5) وأيضا
(1) عقائد السلف، ص 92.
(2) عقائد السلف، ص 92 - 94.
(3) نفس المصدر.
(4) عقائد السلف، ص 94.
(5) علاقة الاثبات والتفويض، ص 44.
26
ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة (1) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهنا يمكن أن يتسائل المؤمن: هل أن الله قادر على أن يجيب العبد قبل نزوله
إلى سماء الدنيا أم لا..؟ فإن قيل: قادر، فأي معنى لهذا النزول؟ بل يكون عبثا،
وإن قيل لا يقدر على ذلك، فقد ناقضوا أنفسهم من كونه تعالى قادرا على كل
شئ، كما نطق القرآن بذلك، وإليك بعض ما يصرحون به مما يلزم منه التجسيم أو
هو صريح فيه:
أولا - الله تعالى في السماء:
وقد أوردوا بعض الأحاديث كقوله (ص): (ألا تأمنوني وأنا أمين من في
السماء) (2) ثم إنهم قالوا بتأويلات لبعض آي القرآن المنافية للتجسيم، وقبلوا
البعض الآخر الصريح فيه ولو أوردها غيرهم مأولا لها بما ينافي التشبيه لرفضوا
ذلك منه، فقد قالوا في: (الرحمن على العرش استوى) إن معناه على ما قاله أبو
العالية ونقل عن البغوي عن بعض المفسرين إن معناه ارتفع (3).
ويريدون به العلو والارتفاع الحسى ويقع المسلم هنا في حيرة، فلا يستطيع أن
يوفق بين الأحاديث المتقدمة من أن الله تعالى في السماء، وإنكارهم بأن قول من
يقول إنه ليس في السماء ليس بشئ وبين الرحمن على العرش استوى بمعنى ارتفع
إلى السماء، فكيف يعقل أن يكون في السماء وأن يكون ليس في السماء؟ وإنما
ارتفع إليها بحسب فهمهم من قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) وكيف
يعقل أن يكون لله وجه ويدان وعين (4).
(1) نفس المصدر، ص 45.
(2) علاقة الاثبات والتفويض، ص 47.
(3) علاقة الاثبات والتفويض، ص 40 - 47 - 48.
(4) علاقة الاثبات والتفويض، ص 58.
27
ثانيا - في رجله تعالى:
روى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله (ص): (لا يزال يلقى في النار
وتقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض ثم
تقول قط قط بعزتك وكرمك) ورواه البخاري أيضا من حديث أنس بلفظ آخر وهو:
(فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط) (1).
ثالثا - في إصبعه تعالى:
روى أن الله تعالى يضع السماوات على أصبع (2) بل الأجرى في الشريعة جعله
يمسك كل شئ بإصبع من أصابعه (3).
رابعا - في ضحكه تعالى:
روى الألكائي بسنده أن وكيعا قال: إذا سألتم عن ضحك ربنا فقولوا كذلك
سمعنا (4).
خامسا - نزول الباري تعالى إلى سماء الدنيا:
نقل ابن بطوطة في رحلته نزول الله كالإنسان عن ابن تيمية فقال: (وكان بدمشق
من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون،
إلا أنه كان في عقله شئ وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم ويعظهم على
المنبر، وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر استحضاره إلى
القاهرة وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزاودي
المالكي وقال: إن هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر
(1) فتح الباري، ج 11 ص 369 و ج ص 596.
(2) فتح الباري، ج 13 ص 398.
(3) الشريعة ص 318.
(4) شرح الأصول ق 98 / 1 علاقة الاثبات والتفويض ص 97.
28
الشهود بذلك ووصفها بين يدي قاضي القضاة، قال قاضي القضاة لابن تيمية: ما
تقول: قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه، فأجاب عليه بمثل قوله، فأمر الملك الناصر
بسجنه، فسجن أعواما وصنف في السجن كتابا سماه (البحر المحيط).
ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر وشكت إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل
ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر
الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا
كنزولي هذا) ونزل درجة درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء
وأنكر ما تكلم به فقامت العامة إلى الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربا كثيرا (1).
وهذا النص من ابن بطوطة يحتاج إلى وقفة تأمل، فإن قوله في عقله شئ يتبين
أن الرجل ليس بسليم من الناحية العقلية، ولذا تصور أن الله كالإنسان وشبهه
بنفسه في نزوله من المنبر، ووقوف العلماء في وجهه خير دليل على أنه ليس من
أتباع السلف الصالح، كما يحاول هو أن يثبته لنفسه وإلا فكيف وقف ضد علماء
المالكية؟ وكيف سجن بأمر من قاضي القضاة في مصر؟، وأيضا كيف سكت ولم
يدلي بآرائه أمام الفقهاء لما أحضر وتذرع ب (لا إله إلا الله) مع أنه إذا كان لا إله
إلا الله دون تأويل هو حقيقة التوحيد كما أبانه بموقفه العملي، فلا فرق إذن بين
التوحيد الذي يحاول أن يشرحه في رسائله ويحاول أن يحمل الناس عليه، وبين ما
يردده المسلمون عامة من قول لا إله إلا الله من دون الاعتراف بأن الله جسم، وأن
الله فوق العرش دون أن تثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق
ولوازمها (2).
وفي هذا التأويل ردا لما ذهب إليه من نزول الله من العرش إلى السماء في كل
(1) رحلة ابن بطوطة، ص 95 - 96 طبع دار صادر 1384 ه.
(2) العقيدة الحموية، ص 428 - 44.
29
ليلة، كنزوله من على المنبر، لأن نزوله وهو مخلوق له خصائص ثابت بخلاف نزول
الله تعالى. إذن لا بد من الالتزام من تنزيه الله من خصائص صفات المخلوقين،
كما أفاده في هذا الموضع دون غيره من المواضع، إلا إنا لا نعجب من كونه في كل
موضع يقول شيئا، بعد أن اطلعنا على ما قاله ابن بطوطة إن (في عقله شئ).
وبعد قول صاحب (فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان) الفقيه الشيخ
سلامة الشافعي أنه: إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه، وشيخ إسلام أهل التجسيم
ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون.
أحمد بن عبد الحليم (المعروف بابن تيمية) فهو يرمي إمام الحرمين، وحجة
الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى في كتابه (الموافقة) المطبوع
على هامش (منهاجه) لقولهما بالتنزيه (1) وقال عنه أيضا ب (أنه من أهل الهوى) (2).
وسوف نوافيك ببعض أقوال علماء الإسلام فيه وفي مبتدعاته في فصل (ابن
التيمية في الميزان).
التشبيه بصورة التنزيه:
هناك كلمات من المجسمة والحشوية لا يشك أدنى متأمل أن القول بها يستلزم
التشبيه، ولكن بعض من لا يتفاعل مع اللغة العربية - إلا إذا كان هذا التفاعل
بصالحه - يصرف هذه الأحاديث والكلمات الصريحة في التشبيه ويحملها على
معنى آخر، وهو أن هذه النصوص تبين صفات الله تعالى لا تفهم ولا تدرك إلا أنها
كصفات المخلوقين. ويتذرع في ذلك بدليل يصح أن يستدل به في بعض الموارد
التي لا مجال للوجدان اللغوي والعرفي ولا للعقل أن يفهمها كالذات المقدسة، وأما
(1) فرقان القرآن، ص 61 - 62.
(2) نفس المصدر ص 66.
30
القول: (بأن يد الله وعينه ووجهه صفات له بلا كيف) فتأباه العقول السليمة.
وإليك بعض ما ذكر في هذا المعنى:
إن من قال: أن الاستواء على العرش المذكور في الآية معناه كونه تعالى فوق
العرش هو حق، وهو قول أهل السنة، وكذا قول من قال: إن اليد والوجه صفتان لله (1).
إلا أنه سوف نبين إن شاء الله تعالى أن هذا القول هو للمجسمة (الوهابيين)
وإلا فأكثر أهل السنة لا يرونه، ويتهجمون على من يقول به.
وقال أيضا ناقلا له عن الخطابي: وليس اليد عندنا الجارحة، إنما هي صفة جاء بها
التوقيف فنحن نطلقها على ما جاء ولا نكيفها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة (2).
ويتعجب المرء من ادعائهم أنه (ليس في العقل ولا في السمع ما ينفي إفادة
هذه الألفاظ للتشبيه) (3) بينما يصرح ابن تيمية أن نزول الله من العرش كنزوله من
منبره، وأن جلوسه فوق عرشه حق لا ريب فيه (4) فكيف يوفق العاقل بين عدم
التشبيه والتشبيه الذي يصرحون به؟.
سادسا - الله على بعوضة:
قال ابن تيمية لو شاء لاستقر على ظهر بعوضته فاستقلت به بقدرته فكيف على
عرش عظيم (5)
سابعا - الكرسي موضع القدمين:
قال في الرسالة الحموية: إن الكرسي بين يدي العرش، وإنه موضع القدمين (6).
(1) علاقة الاثبات والتفويض، ص 86 - 87.
(2) علاقة الاثبات والتفويض، ص 87.
(3) علاقة الاثبات والتفويض، 88.
(4) نفس المصدر، ص 86 - 87.
(5) الرسائل السبكية، ص 53.
(6) الرسائل السبكية، ص 53.
31
ومن يتأمل قوله: (إن الكرسي موضع القدمين) لا يشك في صراحة رأيه في
التجسيم، تعالى الله عما يقوله المجسمون علوا كبيرا.
ثامنا - الله إنسان ليس له فرج ولحية:
قال: داود الجواربي: (اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك)
وقال: إن معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء، وله شعر قطط (أي حسن
التجاعيد).
تاسعا - الله ثقيل من حيث الوزن: من صفات العظمة التي وصفوا الله بها، إن العرش يئط من تحته كأطيط الرحل
الحديد، ومعنى ذلك إن العرش ليتعب من حمله، لأن أطت الإبل: أنت تعبا.
عاشرا - الله يزيد أربعة أصابع:
وهذه صفة بين صفاته لأن الله عظيم فيملئ العرش ويفضل عليه بأربعة أصابع
من كل جانب (1).
وفي ختام الفصل نذكر ما أورده ابن الأثير الجزري في الكامل تحت عنوان (فتنة
الحنابلة) حيث قال: (فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم
ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه تارة أنكم تزعمون (أن صورة وجوهكم
القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون
الكف، والأصابع، والرجلين، والنعلين، المذهبين، والشعر، القطط، والصعود إلى
السماء، والنزول إلى الدنيا). تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا (2).
(1) الملل والنحل، ج 1 ص 96 - 97 الطبعة الثانية، الناشر: مكتبة الإنجلو المصرية - القاهرة،
تخريج: محمد بن فتح الله بدران.
(2) الكامل، ج 6 ص 248.
32
آراء الشيعة في صفات الله تعالى *:
قبل بيان آراء الشيعة في صفات الله، يحسن بنا أن نوضح تقسيمهم لصفاته
تعالى.
قسم الشيعة صفات الله تعالى إلى قسمين:
أولا - صفات كمال وجمال: ويطلق عليها الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة
والحياة.
وثانيا - صفات جلال: ويطلق عليها الصفات السلبية، فلا يجوز أن نطلق على
الله تعالى أنه جسم، أو له رجل، أو يضحك، وما شابه ذلك من الصفات الملازمة
للجسمية والحدوث، فيسبح الله وينزه عن الاتصاف بهذه الأوصاف الملازمة للمادة
وسميت هذه الأوصاف ب (الجلالية) لأن الله يجل وينزه عن الاتصاف بها وقسم
القسم الأول إلى قسمين:
1 - صفات ذات: وهي العلم، والقدرة، والحياة، وما يرجع إليها من الأوصاف.
2 - وصفات فعل: كالخالق، والرازق، والمحيي، والمميت.
فهذه الصفات فعلية، وجعل الفارق بين الصفة الذاتية والفعلية هو صحة سلب
الفعلية عن الذات، أما الذاتية فلا يصح سلبها، فلا يقال: لا يعلم الله بالشئ
الفلاني، أما الفعلية فيقال: خلقك ولم يخلق حفيدك، إذا كان بعد لم يولد (1)
وإليك آراء علماء الشيعة في الصفات من كتبهم.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): (إن الله عز وجل اسمه حي لنفسه لا بحياة،
وإنه قادر لنفسه عالم لنفسه لا بمعنى، كما ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات
والأحوال المبتدعات والأقوال المختلفات كما أبدعه أبو هاشم الجبائي وفارق به سائر
* أنظر الملحق رقم (1).
(1) تصحيح الاعتقاد، ص 10 - 11.
33
أهل التوحيد، وارتكب أشنع من مقال أهل الصفات و... الخ.
وأقول: إن القرآن كلام الله ووحيه وإنه (محدث) كما وصفه الله. (سورة
الأنبياء: آية 2)
وامنع من إطلاق القول عليه بأنه مخلوق (1) وأقول: إن الله تعالى مريد من جهة
السمع والاتباع والتسليم، على حسب ما جاء في القرآن (2).
وأقول: أنه لا يجوز تسمية الباري تعالى إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو على
لسان نبيه (ص) أو سماه حججه من خلفاء نبيه، وكذلك أقول في الصفات (3).
وأضاف الشيخ المفيد هنا مطلبا وهو: أنه قد يتوهم البعض أن علمه لا يكون
بالحوادث قبل وقوعها - كما يتهم المغرضون الشيعة بذلك - فبين أن علمه
بالحوادث قبل وجودها وأنه لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (4).
كما أنه برهن على أن القول يكون الصفة غير الموصوف هو ما يعطيه معنى
الصفة فلا بد للموحد أن يقول بأن صفته عين ذاته *.
قال (رحمه الله): إن الصفة في الحقيقة ما أنبأت عن معنى مستفاد يخص
الموصوف وما شاركه فيه، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون قولا أو كتابه يدل على
ما يدل النطق عليه، وينوب منابه فيه، وهذا مذهب أهل التوحيد، وقد خالف فيه
جماعة من أهل التشبيه (5) وأفاد الشيخ الصدوق في (عقائده): كل ما وصفنا الله
تبارك وتعالى به من صفات ذاته (6).
(1) أوائل المقالات، ص 18 - 19.
(2) نفس المصدر، ص 19.
(3) نفس المصدر، ص 19.
(4) نفس المصدر، ص 21.
* أنظر ملحق رقم (2).
(5) أوائل المقالات، ص 22.
(6) تصحيح الاعتقاد، ص 10.
34
ويعني الصدوق (رحمه الله) من هذه العبارة: إن صفاته هي ذاته ولا يوجد تعدد
في معنى العبارة، وإن اختلفت الألفاظ التي يعبر بها عن الصفات.
وقال أبو الصلاح الحلبي: لا بد من كون الله تعالى قادرا لأنه صدرت منه الأشياء (1)
ولا بد من كونه عالما لثبوت صفة الأحكام، ولا بد من كونه حيا لثبوت
كونه قادرا عالما (2). ثم أضاف: وصفى الوجود والقدم له تعالى أي أنه موجود
قديم (3) كما أن الوحدة من الصفات الذاتية له (4).
وقال صاحب تجريد الاعتقاد: إن الله قادر وقدرته تتعلق بكل مقدور (5) وقد
أثبت ذلك بأدلة فلسفية رد فيها على الشبهات، وقرر الأدلة تلميذه في كشف المراد.
وقال: أن الله تعالى عالم لوجود الأحكام في مخلوقاته ولكونه تعالى مجردا
ولاستناد الممكنات (أي جميع المخلوقات تستند إلى الله تعالى) فبهذه الأدلة
الثلاثة أثبت علمه، كما أنه أيضا رد شبهات الفلاسفة في علمه تعالى. مثل كونه
لا يعلم بالجزئيات *، وأثبت حياته لأن كل قادر عالم حي بالبداهة (6).
وقال العلامة الحلي في الباب الحادي عشر: إنه تعالى قادر مختار لأن العالم
حادث فيكون المؤثر فيه وهو الله قادرا ومختارا لأنه لو كان موجبا لم يتخلف أثره
عنه (7).
(1) تقريب المعارف، ص 40 بتصرف في العبارة.
(2) نفس المصدر، ص 41.
(3) نفس المصدر، ص 42.
(4) نفس المصدر، ص 53.
* أنظر الملحق رقم (3).
(5) كشف المراد، ص 173 - 174 نقلناه بالمصون.
(6) نفس المصدر، ص 174 - 177.
(7) النافع يوم الحشر، ص 9 بتصرف منا في العبارة.
35
واستدل على عموم قدرته بأن السبب الذي يقتضي القدرة هو الإمكان وهو صفة
موجودة بنحو واحد في جميع الممكنات (1). وقال: إنه تعالى عالم لأنه فعل الأفعال
المحكمة وكل من فعل ذلك فهو عالم (بالضرورة أي البداهة) (2).
وأضاف: أن علمه يتعلق بكل معلوم لتساوي نسبة جميع المعلومات إليه ثم قال:
إن الله حي لأنه قادر عالم فيكون حيا (3).
وجعل القدم والأولية والبقاء والأبدية من صفاته الذاتية، ومعنى ذلك: أن الله
تعالى قبل كل شئ وبعد كل شئ فليس بعده شئ (4). وقد شرح كل هذه
الصفات المقداد السيوري في النافع يوم الحشر بإيضاح.
هذا كلام علماء الشيعة المتقدمين، وأما من المتأخرين فقال الشيخ المظفر في
(عقائد الإمامية): ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي
تسمى بصفات (الجمال والكمال) كالعلم، والقدرة، والغنى، والإرادة، والحياة، هي
كلها عين ذاته، ليست هي صفات زائدة عليها وليس وجودها إلا وجود الذات،
فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي وحي
من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته من حيث وجودها، وهكذا الحال في سائر
صفاته الكمالية.
نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها لا في حقائقها ووجوداتها لأنه لو كانت
مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب
الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد (5) بل بجعل
(1) نفس المصدر، ص 11.
(2) المصدر السابق، ص 12.
(3) نفس المصدر، ص 13.
(4) نفس المصدر، ص 16.
(5) عقائد الإمامية، ص 38 - 39.
36
الشيعة التوحيد في الصفات أحد أقسام التوحيد التي يجب على المسلم أن يقربها
لله تعالى وهي أربعة:
الأولى - توحيد الذات: وهو أن يعتقد أن لا شريك له في ذاته.
والثانية - توحيد الصفات: وهو أن يعتقد أن صفاته عين ذاته *.
والثالثة - توحيد الأفعال: وهو أن يعتقد أن جميع المخلوقات الخالق والمؤثر فيها
هو الله تعالى * *.
الرابعة: توحيد العبادة: إن العبادة لله فقط ولا تجوز الصلاة والركوع والسجود
إلا لله تعالى.
أما توحيد الصفات فهو أن يعتقد كون الصفات عين الذات هو الوارد عن
الأئمة (ع) أي أنه ليس قولا استنبطته العقول دون وجود مستند له في روايات أهل
البيت (ع). بل الروايات تؤكد أن صفاته عين ذاته، وإليك بعض الروايات الواردة
في توحيد الصفات وأنها عين الذات.
أولا: روى الحسين بن خالد عن الإمام الرضا (ع) قال: سمعت الرضا (ع)
يقول: (لم يزل الله سبحانه عليما، قادرا، حيا، قديما، سميعا، بصيرا)، قلت: يا
بن رسول الله أن قوما يقولون: إنه عالم بعلم، وقادر بقدرة، وحي بحياة، وقديم
بقدم، وسميع بسمع، فقال (ع): (من قال بذلك ودان به فقد اتخذ مع الله آلهة
أخرى، وليس من ولايتنا على شئ) ثم قال: (لم يزل الله سبحانه عليما، قادرا،
حيا، سميعا، بصيرا لذاته) تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علوا كبيرا.
وجاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع): (وكمال توحيده الإخلاص له،
وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة إنها غير الموصوف، فمن
(*) أنظر الملحق رقم (4).
(* *) أنظر الملحق رقم (5).
37
وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله) (1).
وكتب فتح بن يزيد الجرجاني إلى الإمام الرضا (ع) يسأله عن التوحيد، فكتب (ع)
بخطه: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الملهم عباده الحمد، وفاطرهم على معرفة
ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه وبحدوث خلقه على أزله، وبأشباههم على أن لا
شبه له، المستشهد آباته على قدرته، الممتنع من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته،
ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه، لا يشمله المشاعر، ولا
يحجبه الحجاب، فالحجاب بينه وبين خلقه لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ولا مكان
ذواتهم مما يمتنع منه ذاته، ولافتراق الصانع والمصنوع، والرب والمربوب، والحاد
والمحدود، أحد لا بتأويل عدد الخالق، لا بمعنى حركة السميع، لا بأداة البصير، لا
بتفريق آلة الشاهد، لا بمماسة البائن، لا ببراح مسافة الباطن، لا باجتنان الظاهر، لا
بمحاذ الذي قد حسرت دون كنهه نواقد الأبصار، وامتنع وجوده جوائل الأوهام، أول
الدين معرفته، وكمال المعرفة توحيده، وكما التوحيد نقي الصفات عنه لشهادة كل
صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف إنه غير الصفة وشهادتهما جميعا على
أنفسهما بالبنية الممتنع منها الأزل، فمن وصف الله فقد حده، ومن حده فقد عده،
ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال: كيف، فقد استوصفه، ومن قال: على م، فقد
حمله، ومن قال: أين، فقد أخلى منه، ومن قال: إلى م، فقد وقته عالم، إذ لا
معلوم وخالق إذ لا مخلوق ورب إذ لا مربوب وإله إذ لا مألوه وكذلك يوصف ربنا
وهو فوق ما يصفه الواصفون) (2).
وهذه الرواية جامعة للتوحيد، والمتأمل في البرهان الذي اشتملت عليه الرواية لا
يمكنه أن يقول بأن: (صفات الله تغاير ذاته) إذ الإمام يقول: (إن من وصف الله
(1) الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 168.
(2) التوحيد للصدوق، ص 56 - 57.
38
فقد حده) وهذا بين إذا كان الوصف غير الذات فلا بد من وجود حد لكل منهما،
ويلزم من ذلك ما في الفقرة الثانية من التعدد، وإذا تعدد بطل أن يكون واجب
الوجود لذاته أزليا.
فالعقل يحكم باتحاد الصفات الإلهية مع الذات، حتى مع عدم ورود هذه
النصوص الصريحة في ذلك عن أهل البيت (ع) إلا أن الأحاديث أنارت طريق الفكر
في التوحيد عند الشيعة، فجاء قولهم واحدا لا لبس فيه، بخلاف المعتزلة الذين
كانت لهم آراء مختلفة في ذلك اتفقت فيما بعد على توحيد الذات مع الصفات.
وأما الصفات الفعلية، فالشيعة تثبت الصفات التي نطق بها القرآن الكريم أو
السنة الصحيحة الثابتة عن الرسول (ص) وأهل البيت (ع)، فيوصف الله تعالى
بالمتكلم لأنه ورد في القرآن الكريم: (وكلم الله موسى تكليما) وأنه خالق رازق
محي ومميت وغير ذلك من الصفات الفعلية، وكلامه تعالى هو خلقه للكلام في
شجرة أو جبل أو غيرها من مخلوقاته، قال العلامة (رحمه الله): (أنه تعالى
متكلم بالإجماع، والمراد بالكلام الحروف والأصوات المسموعة المنتظمة، ومعنى أنه
تعالى متكلم إنه يوجد الكلام في جسم من الأجسام، وتفسير الأشاعرة غير
معقول) (1).
وقال المفيد (رحمه الله): (ووصفنا له بصفات الأفعال، كقولنا: خالق، رزاق،
محيي، مميت، مبدئ، معيد) (2). وقال العلامة المظفر: (وأما الصفات الثبوتية
الإضافية، كالخالقية، والرازقية، والتقدم، والعلية، فهي ترجع في حقيقتها إلى
صفة واحدة حقيقية وهي القيومية لمخلوقاته، وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة
صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات) (3).
(1) الباب الحادي عشر فصل الصفات.
(2) تصحيح الاعتقاد، ص 11.
(3) عقائد الإمامية، ص 39.
39
وفي هذا الكلام يبين مطلبين:
الأول: إن الصفات الفعلية ترجع إلى الله تعالى، بمعنى أنه خلقها ونسبها إلى
نفسه، فلا يقال له: خالق، إلا بعد أن يخلق، ولا يقال له: رازق، إلا بعد أن يرزق،
بخلاف الصفات الذاتية، فهو تعالى عالم قبل وجود أي موجود من الموجودات، لأن
العلم ذاته وهكذا يقال في بقية الصفات الذاتية.
والثاني: إن الاختلاف والتعدد في إطلاق الصفة يرجع إلى اختلاف الأثر الصادر
من هذا الفعل الإلهي، فإطلاق مبدئ يختلف عن إطلاق معيد، وإن كان الابداء
والإعادة كلاهما فعل لله تعالى.
قال العلامة الطباطبائي في نهاية الحكمة: (لا ريب أن للواجب بالذات صفات
فعلية مضافة إلى غيره، كالخالق، والرزاق، والمعطي، والجواد، والغفور، والرحيم،
إلى غير ذلك وهي كثيرة جدا يجمعها صفة القيوم، ولما كانت مضافة إلى غيره
تعالى كانت متوقفة في تحققها إلى تحقق الغير المضاف إليه، وحيث كان كل غير
مفروض معلولا للذات المتعالية متأخرا منها، كانت الصفة المتوقفة عليه متأخرة عن
الذات زائدة عليها فهي منتزعة من مقام الفعل منسوبة إلى الذات المتعالية) (1).
الصفات السلبية وهي المسماة بصفات الجلال، فهي مورد اختلاف الشيعة عن
المجسمة (الوهابيين) ويكاد المتتبع لكلمات علماء الإسلام أن يرى اتفاق على
تنزيه الله من المسلمين عن الجسمية ولواحقها لأن محكمات القرآن واضحة في
دلالتها على أن الذات المقدسة لا تشبه سائر الذوات المخلوقة لله تعالى (ليس
كمثله شئ) وأن ما يتراءى من ظاهر بعض الآيات القرآنية من تجسيم ليس بمراد
من الآية وله تأويل يحمل عليه.
وسوف نوضح أنه حتى من يحمل هذه الروايات التي لم تثبت من قبل الرواة
(1) نهاية الحكمة، ص 287 المرحلة الثانية عشر الفصل العاشر.
40
الثقاة يضطر إلى التأويل في بعض الموارد وحمل اللفظ على غير معناه الظاهر لأن
في حمله على ظاهره محذورا لا يمكن الالتزام به، والشيعة والمعتزلة وكثير من
أهل الحديث لا يقبلون حمل هذه الروايات على الظاهر.
ولهذا لم يقولوا بوجود صفات لله اسمها الصفات الخبرية، لأن الله تعالى أخبر
بها وأدرجوا هذا القسم الثابت بروايات لا أسانيد صحيحة لها في الصفات
السلبية، وما ثبت بسند صحيح فهو محمول على الاستعمالات العربية في مثله،
ولا يؤخذ بما ينافي العقل من كون الله تعالى يرى، أو أنه يضحك، أو له رجل
يضعها في النار، أو أنه ينزل كنزول ابن تيمية من منبره... إلى غير ذلك مما ينافي
العقل الذي ركز القرآن الكريم والسنة على الاستضائة بنوره، وإليك ما أفاده علماء
الشيعة في صفات الجلالة، قال الشيخ المفيد:
(إن الله عز وجل واحد في الإلهية والأزلية، لا يشبهه شئ ولا يجوز أن
يماثله شئ، وأنه فرد في المعبودية لا ثاني له على الوجوه كلها والأسباب، وعلى
هذا إجماع أهل التوحيد إلا من شذ من أهل التشبيه، فإنهم أطلقوا ألفاظه وخالفوا
في معناه) (1) وأنه لا يصح رؤية الباري بالأبصار وبذلك شهد العقل ونطق القرآن
وتواتر الخبر عن أئمة الهدى) (2).
وأول (رحمه الله) جميع الألفاظ الدالة على التجسيم تبعا للشيخ الصدوق في
تصحيح الاعتقاد، فقد أفاد الصدوق في قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق
ويدعون إلى السجود) (سورة القلم: آية 42) إن الساق وجه الأمر وشدته.
وقال الشيخ المفيد: (يريد به يوم القيامة ينكشف فيه عن أمر شديد صعب عظيم
وهو الحساب والمداقة، فعبر عن الشدة بالساق وكذلك قالت العرب فيما عبرت به
(1) أوائل المقالات، ص 17.
(2) نفس المصدر، ص 23.
41
عن شدة الحرب وصعوبتها (قامت الحرب بنا على ساق) كشفت لهم عن ساقها وبدا
من الشر الصراح) (1).
وحمل الصدوق اليد على القوة واستشهد بالآية الكريمة:
(واذكر عبدنا داود ذا الأيد) (سورة ص: آية 17) وأيده المفيد، وأضاف: أنه
يحتمل أن يكون معنى اليد هو النعمة واستشهد بقول الشاعر:
له على أياد لست أكفرها * وإنما الكفر ألا تشكر النعم (2).
وقالا في معنى الروح في قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) إنها روح
مخلوقة أضافها إلى نفسه، كما أضاف البيت إلى نفسه (3) وبينا أن المكر
والخدعة والاستهزاء والنسيان الوارد في بعض الآيات مثل قوله تعالى:
(يخادعون الله وهو خادعهم) (سورة النساء: آية 142).
وقوله تعالى: (نسوا فنساهم) وقوله تعالى: (مكروا ومكر الله) وقوله
تعالى: (والله يستهزء بهم) (سورة التوبة: آية 67)، (سورة آل عمران: آية 55)، (سورة
البقرة: آية 16) أن المراد من هذه الآيات هو جزاء الأفعال (4).
هذا خلاصة ما أفاده الشيخ الصدوق وأوضحه الشيخ المفيد في تصحيح
الاعتقاد، فقد بينا أن المراد منه ليس وجود يد لله تعالى ك (يد الإنسان) أو أن
نسيانه وخدعه تشابه ما يقوم به الناس، بل هو ضرب من الاستعمالات المجازية
التي وردت كثيرا في القرآن والسنة وكلام العرب، ولا بد أن يكون معناها نفس ما
هو موجود ومستعمل في لغتهم.
(1) تصحيح الاعتقاد، ص 2 - 3.
(2) نفس المصدر: ص 3.
(3) نفس المصدر، ص 7.
(4) نفس المصدر، ص 7.
42
وقال أبو الصلاح الحلبي (رحمه الله): (وهو تعالى لا يشبه المحدثات المتحيزة
وما حلها من الأعراض لقدمه تعالى وحدوث هذه الأجناس ويستحيل إدراكه تعالى
بشئ من الحواس لاختصاص حكم الادراك المعقول بالأجسام والأعراض وليس
كذلك، وإدراك لا يعقل لا يجوز إثباته، ولأنه تعالى لو كان مدركا بشئ من
الحواس لوجب أن ندركه الآن لكوننا على الصفة التي لها يجب إدراك الموجود مع
ارتفاع الموانع (1) وأضاف بأنه: غني يستحيل عليه الحاجة، وأنه واحد لا ثاني له في
القدم) (2) وقد رد جميع ما يتوهم منه تشبيه الله تعالى بأحد مخلوقاته في هذا
الكلام الموجز.
إذن كلما دل من أحاديث وآيات على أنه تعالى له يد أو وجه أو يضحك فهو
مؤول على رأي أبي الصلاح، وقد قال العلامة الطوسي صاحب (تجريد الاعتقاد):
(إن وجوب الوجود يدل على سرمديته ونفي الزائد، والشريك، والمثل، والتركيب
بمعانيه، والضد والتحيز والحلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه، والحاجة،
والألم مطلقا، واللذة المزاجية، والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عينا، والرؤية).
وأما اليد والوجه والقدم والكرم والرضا والتكوين... الخ (3) ويشير في آخر كلامه
إلى عدم وجود صفات قديمة هي يد ووجه (كما ذهب إليه المجسمة) كما أن قدمه
هو ذاته، ولا يوجد صفة بمعنى القدم (كما ذهب إليه الأشاعرة) وأن الرحمة،
والكرم، والرضا، صفات مغايرة للذات فهي من صفات الفعل برأيه، كما أن
التكوين الذي قال به بعض الأحناف ليس صفة قديمة لله، وكلامه (رحمه الله)
برهان على نفي هذه الأوصاف التي لا تكون إلا للممكن وليست من أوصاف واجب
(1) تقريب المعارف، ص 51 - 52.
(2) نفس المصدر، ص 52 - 53.
(3) كشف المراد، ص 290 - 301 طبع جامعة المدرسين عام 1407 ه. ق.
43
الوجود لأنه أحد صمد فلا يكون هناك شئ زائد عن الذات في مرتبة الذات، ولا
شريك له لأنه (لو كان فيهما آلهة الله لفسدتا).
كما أنه لا مثل له خلافا لما ذهبت إليه المعتزلة من أن (ذاته تماثل سائر الذوات
الأخرى) ولا تركيب في ذاته لأن المركب يحتاج إلى أجزائه والله غني مطلقا، وأنه
لا ضد له لأن الضد هو المساوي في القوة الممانع والباري لا يساويه شئ والتحيز من
صفة الأجسام فلا يكون الله في حيز، ومثله الحلول الذي ادعته النصارى وبعض
الصوفية من كون الله حل في عيسى أو في العارف فإنه لا يحل في غيره وهكذا
الاتحاد لاستحالته عقلا والجهة منفية عنه خلافا للمجسمة الذين زعموا أن الله في
السماء فقط طبقا لروايات ضعيفة أو مؤولة، ولا يحتاج إلى غيره لأنه الصمد أي
المصمود له في الحوائج من الغير، ولا يتألم أو يلتذ لأنهما من صفات ذوي الأمزجة
من الحيوانات، وأن صفاته عين ذاته فليس هناك معاني أو أحوال (كما ارتأت
الأشاعرة والمعتزلة).
قال أمير المؤمنين (ع): (أول الدين معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال
توحيده نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل
موصوف أنه غير الصفة، وأنه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة).
أما في الدنيا
فأكثر المسلمين على ذلك، ما عدى المجسمة، وأما في الآخرة). فالرؤيا الواردة المراد
بها اليقين به لأن الله تعالى لا يكون فيه شك من قبل المؤمنين في الآخرة، ورؤيته
بمعنى رؤية نعمه أو قدرته تعالى الله، عن أن يرى هذا خلاصة كلام العلامة
الطوسي شرحناه لما يحتوي عليه من معان وقد تبعه في كل ذلك تلميذه العلامة
الحلي في شرحه للكتاب.
وقال في الباب الحادي عشر: (أنه تعالى ليس بمركب، وليس بجسم، ولا
عرض، ولا جوهر، ولا يجوز أن يكون في محل، ولا يصح عليه اللذة والألم، ولا
يتحد بغيره، وليس محلا للحوادث، ولا يرى بالبصر، وليس له شريك، وليس
44
بمحتاج، ولا توجد له صفات قديمة مغايرة للذات) وكل ما أفاده قد دلت عليه
محكمات القرآن والأحاديث الصحيحة المروية عن أهل البيت (عليهم السلام)
وخطب نهج البلاغة، وقال المقداد السيوري (رحمه الله): (أن الله لا يماثل غيره،
وليس له ضد، وليس بمحتاج، ولا يتحد بغيره، وليس بحال في شئ، وأن جميع
الأعراض المحسوسة مسلوبة عنه فليس في مكان ولا في حيز، وليس بجسم ولا
حالا في الحيز ولا يرى بالبصر) وفسر جميع الآيات التي احتج بها المجسمة مثل:
(ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وقال: (إن نفي هذه الأوصاف عن الله
يستفاد من سورة التوحيد، ومن قوله تعالى: (ليس كمثله شئ) ولو كان جسما
لكان له مثل (1).
وإليك بعض ما أفاده قال: (أن قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) لا يدل على
الوجه الذي هو جزء، بل هو مثل قوله: (إنما نطعمكم لوجه الله) أي لله، فالوجه
المراد الذات وإلا للزم أن يفنى جميع الجسد ويبقى الوجه كما هو ظاهر الآية، كما أن
اليد المراد بها النعمة أو القوة، واليمين يراد بها القوة، والجنب المراد به الحق في
قوله: (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) ويراد من القبضة في قوله تعالى:
(والأرض جميعا قبضة يوم القيامة) (سورة الزمر: آية 67) إنها في تصرفه وليس
المراد أن له كف كبير يقبض به الأرض، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومجئ الله هو مجئ أمره تعالى، ففي قوله سبحانه: (وجاء ربك) مثل
(إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) (سورة النحل: آية 33) والمراد من قوله:
(تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) (سورة المائدة: آية 116) تعلم معلومي ولا
أعلم معلومك.
وما جاء في الحديث من قوله خلق آدم على صورته يمكن أن يكون مرجع
(1) اللوامع الإلهية، ص 74 - 90.
45
الضمير هو آدم أو إنسانا آخر، ولذا لا يكون آدم مشبها لله تعالى لأن الله (ليس
كمثله شئ).
وقوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) (سورة النحل: آية 5) ليس المراد به
الفوقية الحسية، بل القدرة والقهر، وقوله سبحانه: (تعرج الملائكة والروح إليه)
ليس المراد عروج الملائكة والروح إلى مكان هو فيه، بل المراد انتهاء الأمور إلى
مراده كقوله سبحانه: (إليه يرجع الأمر كله) أو المراد انتهاء أهل الثواب إلى
منازل الكرامة كقول إبراهيم: (إني ذاهب إلى ربي) (سورة الصافات: آية 99).
وأما الحجاب في قوله: (كلا أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) والحجاب لا يصح
إلا في حق من يكون في جهة، ومعنا إنهم محجوبون عن كرامته (1).
والآيات الدالة على أنه في السماء ليست تريد أن ذاته مكانها السماء فقوله
تعالى: (أأمنتم من في السماء) (سورة الملك: آية 16).
مثل قوله: (هو الذي في السماء) لأنها محل الملائكة الكرام، وأما الرفع إليه
في قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) (سورة آل عمران: آية 55) فإنه مجاز،
إذ رفعه إلى محل كرامته.
كما أن قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) فالمراد العندية بالشرف،
وقوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) أي إلى كرامته ورحمته (2).
وسمعه وبصره لا يكون بواسطة الجارحتين مثل الإنسان، بل علمه بالمسموعات
والمبصرات (3).
وقال العلامة المظفر في عقائد الإمامية: (وأما الصفات السلبية التي تسمى
(1) اللوامع، ص 94 - 118 اللامع الثامن.
(2) نفس المصدر.
(3) نفس المصدر، ص 24.
46
ب (صفات الجلال) فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد هو سلب الإمكان عنه، فإن
سلب الإمكان لازمه بل معناه سلب الجسمية، والصورة، والحركة، والسكون،
والثقل، والخفة وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص ثم إن مرجع سلب الإمكان في
الحقيقة إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الكمالية الثبوتية، والله
تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقة الواحد
الصمد (1).
(1) عقائد الإمامية، ص 39 عقيد تنافي صفاته.
47
التأويل عند أهل السنة والجماعة:
مما لا ريب فيه أن علماء الإسلام الشيعة والسنة أولوا ظاهر بعض الآيات
والأحاديث الدالة على التجسيم ولم يحملوها على ظاهرها، والتأويل عند الشيعة
واضح بالخصوص في الآيات القرآنية والأحاديث التي يتوهم فيها البسطاء من
الناس التجسيم، كما أنه عند علماء السنة ليس بخفي على من تتبع كلماتهم في
هذا الباب، إلا أن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وجميع الوهابيين أثاروا شبهة
في ذلك، حتى تأثر بعض وأنكر أن يكون للتأويل قائل من علماء الإسلام السنة،
وقد عقدنا هذا الفصل لكي نبين به بطلان دعوى هؤلاء المجسمة الذين هم أيضا
يذهبون إلى التأويل ولكن إذا كان بصالح التجسيم والتشبيه.
وإليك بعض الأعلام من السنة الذين أولوا الألفاظ التي تفيد التجسيم.
أولا - أحمد بن حنبل:
ففي مناقب أحمد بن حنبل للحافظ البيهقي نقل عن أبي الفضل التميمي رئيس
الحنابلة ببغداد وابن رئيسها: أنكر الإمام أحمد على من قال بالجسم، وقال: إن
الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول،
وعرض، وسمك، وتركيب، وصورة، وتأليف، والله سبحانه خارج عن ذلك كله، فلم
يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل، ونقل ابن الجوزي ذلك في دفع شبع التشبه (1).
وهذا الكلام واضح أن استنادهم في إفكهم لأحمد ليس بصحيح، لأنه يصرح
بعدم جواز حمل هذه الألفاظ على معانيها اللغوية لكونها تفيد الجسمية والله
سبحانه وتعالى ليس بجسم.
(1) فرقان القرآن، ص 67 مطبعة السعادة بمصر.
48
ثانيا - الطبري:
قال الطبري في قوله تعالى: (والله واسع عليم) (سورة النور: آية 31) والله
واسع الفضل، جواد بعطاياه، فزوجوا إمائكم فإن الله واسع يوسع عليهم من فضله
إن كانوا فقراء (1).
إذن الواسع عند الطبري ليس كالمكان الواسع بل هو كناية عن فضله وجوده،
فعبر بواسع وأراد به الجواد المعطي، وفسر (استوى على العرش) بمعنى علا
وارتفع معنى وليس حسا بمعنى جلس.
ثالثا - البخاري:
فسر البخاري الوجه في قوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه) بالملك (2) فلم
يحمل البخاري الوجه على معناه وأنه كوجه الإنسان، بل الوجه المراد به ملكه تعالى
أي كل شئ يهلك إلا ملك الله تعالى، وهذا عبارة أخرى عن أنه كل شئ يهلك
إلا ما يريد الله تعالى عدم هلاكه فلا يهلك وهو ملكه كالجنة.
رابعا - الرازي
قال: إن هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شئ غير ظاهرها (3)
وحمل هذه الألفاظ على غير ظاهرها هو التأويل مع أن الإمام الرازي يصرح بوجوب
حملها على غير ظواهرها، فإذن لم يكن يؤمن بمؤداها من وجود رجل، أو ضحك
لله، تعالى عما يقوله المشبهون علوا كبيرا.
(1) تفسير الطبري، ج 18 ص 98، فرقان القرآن، ص 99.
(2) البخاري، ج 6 ص 112.
(3) علاقة الاثبات والتفويض، ص 66.
49
خامسا - السنوسي والصاوي:
قالا: والتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة
في العقل هو أصل ضلالة الحشوية، فقالوا بالتشبيه والتجسيم والجهة عملا بظاهر
قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (1).
وأي صراحة أكثر من هذه الصراحة لعلمين من أعلام السنة بعدم جواز الأخذ
بالظواهر المخالفة للعقل والدالة على التشبيه والتجسيم، وأن الأخذ بذلك كفر وميل
عن جادة الصواب، ولكن المجسمة (الوهابيين) لا يأخذون بقول من ينكر التجسيم
ويصرون في حمل هذه الألفاظ على ظواهرها.
سادسا - الغزالي قال:
كل خبر مما يشير إلى إثبات صفة للباري تعالى يشعر ظاهره بمستحيل في العقل
نظر أن تطرق إليه التأويل قبل، وأول وأن لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع
كذب الناقل، فإن رسول الله (ص) كان مسدد أرباب الألباب ومرشدهم فلا يظن به
أن يأتي بما يستحيل في العقل.
وقوله (ع): (يضع الجبار قدمه في النار) مقبول مؤول محمول على الكافر
العتل، قال رسول الله (ص): (أهل النار كل جبار جعظرى) وتشهد له قرائن
وهو قوله تعالى: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وقد علم الرب تعالى
متسع النار، وما يملؤها فكيف افتقر إلى وضع القدم؟ وهو جعل الحجارة حشوها،
كما قال تعالى: (وقودها الناس والحجارة) وحمله على الظاهر نسبة جهل إلى
الله تعالى عن قول الظالمين، أو لعجزه عن أن يملأ النار بخلق يخلقه وختم كلامه بأن
القول الوجيز إن كل ما لا تأويل له فهو مردود، وما صح وتطرق إليه التأويل قبل (2).
(1) نفس المصدر السابق، ص 67.
(2) نفس المصدر، ص 77 - 78 نقلا عن المخول، ص 286 - 287.
50
وما أفاده هو قول السلف والخلف من مشايخ الأزهر من وجوب حمل هذه
الأحاديث على ما لا يتنافى مع العقل الذي أكد القرآن دوره في الاعتقاد وفهم
الأحكام الشرعية فكيف يجوز لنا أن نلغيه.
سابعا - ابن بطال:
قال في الحديث القائل (إن الله يضع السماوات على أصبع): (لا يحمل ذكر
الأصابع على الجارحة بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات لا تكيف ولا
تحد) (1).
ومن الواضح أن هذا تأويل إلا أنه قرب معنى الحديث من المعنى الذي يقول به
المجسمة، فهم بعد أن يقولوا بظواهر هذه الأحاديث يحاولون الفرار من التجسيم
بقولهم: (لا تكييف ولا تحديد) ثم إنه ما الفرق بين نحوي التأويل وهما، أن يقال:
أن الإصبع ك (اليد) دال على القدرة الإلهية، أو يقال: إن الإصبع هو صفة من
صفات الذات بلا تكييف ولا تحديد، فمع أن حمل الإصبع على أنه صفة يخالف
واقع اللغة العربية ويلزم منه التجسيم وهو أيضا تأويل لا يستفاد من ظاهر اللفظ
إلا أن المجسمة يقبلونه ولا يقبلون ما يوافق اللغة العربية، ولا يلزم منه محذور
ويردونه بأنه تأويل فإذا كان التأويل لا يقبل فالحكم واحد وكلا نحوي التأويل
المفروض أن لا يقبلا لا أن تقبلوا ما يتلائم مع معتقدكم الباطل وتتركوا ما يقول به
علماء الإسلام من الشيعة والسنة والمعتزلة، ولكن التعصب وعدم الأخذ بالعقل
أديا إلى الوقوع في هذه الترهات.
(1) فتح الهادي، ج 13 ص 398.
51
التأويل عند المجسمة:
إن من علم العربية واستذوق استعمالات المجاز والتشبيه والكناية والاستعارة
سوف لا يقع في محذور من ناحية ما ورد من الظواهر في القرآن والسنة إذا كان
غير متعصب، بل حتى المتعصب قد يرجع إلى الذوق السليم في بعض الأحيان، لأن
الله تعالى يظهر الحق لإحجاج المجسمة على ألسنتهم، فهناك بعض الآيات التي
لا بد أن تؤول ولا يمكن حملها على الظاهر لأن ظاهرها تجسيم يعرفه البسطاء فضلا
عن العلماء، ولذا اضطر ابن تيمية ومن تبعه من المجسمة أن يؤولوا قوله تعالى:
(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) بما يتفق مع ما يوافق العقل ولا
يستلزم التجسيم لأن الله أراد أن يظهر الحق على لسان من يرى أنه ينزل من
السماء كنزوله من منبره، قال: ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن
السماء تحيط به فهو كاذب إن نقله عن غيره وضال إن اعتقده في ربه ولو سئل
سائر المسلمين: هل يفهمون من قول الله ورسوله (إن الله في السماء) إن السماء
تحويه لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول هذا شئ لعله لم يخطر ببالنا (1).
ولا ندري كيف نجمع بين هذا الكلام وبين إصراره وإصرار الوهابيين على أن
الله في السماء بموجب الحديث القائل: (الراحمون يرحمهم الرحمن) (ارحموا من
في الأرض يرحمكم من في السماء) (رواه الترمذي) وغير من الأحاديث الدالة
على أن الله في السماء مثل (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء).
وقوله (ص): (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى
عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها) رواه مسلم من
حديث أبي هريرة، باب النكاح، وحديث الجارية فيه كفاية على أنهم يعتقدون أن
الله في السماء (2).
(1) علاقة الاثبات والتفويض، ص 123.
(2) علاقة الاثبات والتفويض، ص 38.
52
كذب نسبة كون الله في السماء إلى (أبي حنيفة والشافعي ومالك) بضعف
السند نقل عن أبي حنيفة والشافعي أنهما قالا بظاهر هذه الآية، ونقل ذلك بعض
الكذابين والضعفاء، ففي السند المنقول عن أبي حنيفة: نعيم بن حماد، وأبوا أمه،
وفي سند نقل هذا الرأي عن مالك عبد الله بن نافع الأصم صاحب المناكير والإسناد
إلى الشافعي فيه أبو الحسن الهكاري وابن كادش والعشاري وأحوالهم معلومة عند
النقاد وإن انخدع بعض المغفلين برواياتهم (1).
ثامنا - الشيخ محمد أبو زهرة:
قال: ولا تتسع عقولنا لإدراك الجمع بين الإشارة الحسية بالأصابع والإقرار بأنه
في السماء وأنه يستوي على العرش، وبين تنزيهه المطلق عن الجسمية والمشابهة
للحوادث، وأن التأويل (حملها على المجاز والكناية) بلا شك في هذا يقرب العقيدة
إلى المدارك البشرية، ولا يصح أن يكلف الناس ما لا يطيقون.
وإذا كان ابن تيمية قد اتسع عقله للجمع بين الإشارة الحسية وعدم الحلول في مكان
والتنزيه المطلق فعقول الناس لا تصل إلى سعة أفقه إن كان كلامه مستقيما (2).
وهذا الكلام من أبي زهرة الذي أيد ابن تيمية إلا في هذا الموضع دليل قاطع
على بطلان ما ذهب إليه ابن تيمية، وأن عقول العلماء لا تستوعبه، كما يصرح أبو
زهرة، فكيف يقال للعامي اعتقد ما لا يصدق به العلماء؟.
وأما قوله: إن عقل ابن تيمية اتسع للجمع بين الإشارة الحسية وعدم الحلول في
مكان فهذا لوجود سقم في عقله، كما سوف نذكر أن بعض علماء السنة والجماعة
صرح بذلك، وإن كان أبو زهرة علق هذا الكلام على قوله: إن كان كلامه مستقيما،
(1) آخر فرقان القرآن، ذيل بعنوان نظرة في كتاب الأسماء والصفات صفحة ط، ى.
(2) ابن تيمية حياته وعصره، ص 270.
53
وفيه إشعار بعدم استقامة هذا الكلام.
تاسعا - ابن العربي: قال في حديث النزول إلى سماء الدنيا: أنه نزول رحمة لا نزول نقلة، بمعنى أن
نزول الله ليس نزولا لذاته، بل رحمته ينزلها إلى سماء الدنيا (1).
عاشرا - الشيخ سلامة القضاعي الشافعي:
قال في قوله تعالى (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه): إن معناه إذا قرأه عليك جبرائيل
بأمرنا كما يعلم ذلك من قرأ ما أخرج البخاري عن ابن عباس في بدء الوحي (2).
إذن ليس لله فم يقرأ به القرآن كما يقرأ الإنسان، وإنما يأمر جبريل بقراءة القرآن
على النبي، هكذا فهم شيخ الشافعية في مصر، وهذا تأويل مقبول ومطابق للحديث
الوارد عن النبي كما ذكره، وقال أيضا: أن العقول تفهم إن الانقسام إلى الأجزاء
والتركب من الجوارح والأعضاء لا بد له من موجد مقسم مركب، ولذلك احتج الله به
على ابن آدم في قوله: (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين) ومحال أن يحتج الله
على الحدوث يوصف ثم يكون هذا الوصف في ذاته عز وجل، فمن قال بتركب ذات
الله من الأجزاء وحمل اليدين، والعين، والأعين، والوجه، واليمين، الواردة في
كتاب الله في وصف الله، والقدمين والساق في الحديث على الأعضاء والأجزاء
وحمل العلو الوارد في وصفه تعالى على العلو الحسي المكاني.
والنزول على مثل ذلك وأن ذلك مقتضى الكتاب والسنة، وأنه بذلك يكون
سلفيا فما فهم الكتاب ولا السنة ولا تابع السلف الصالح (3).
(1) فرقان القرآن، ص 104.
(2) نفس المصدر.
(3) فرقان القرآن، ص 61.
54
وما أفاده هو عقيدة المسلمين من الشيعة والسنة والمعتزلة إلا من شذ من
المجسمة كابن تيمية والوهابيين، ولا يصح أن يقال: (إن هذه صفات الله تعالى وإن
اليد والرجل والساق كالعلم والقدرة والحياة) لأن هذه مغالطة مفضوحة وباطل
مكشوف للناقد البصير، فإن اليد والساق والرجل أجزاء وأبعاض وأعضاء لما هي
فيه من الذوات لا معان وأوصاف تقوم بموصوفاتها، فأين هي مما ألحقوها به من
الحياة والعلم والقدرة (1).
الحادي عشر - العلامة محمد بن درويش الحوت البيروني:
قال: واعلم أنه إذا ورد نصان ظاهرهما تناقض فلا بد من جمع بينهما لتعمل
بهما ولا تفرق بين آياته، وبناء على ذلك، فإذا سمعت قوله تعالى: (الرحمن على
العرش استوى) (وهو القاهر فوق عباده) مع قوله: (فإني قريب أجيب دعوة
الداعي إذا دعان) وقوله: (نحن أقرب إليه من حبل الوريد) وهو معكم أين ما
كنتم فإن كنت واسع القلب فسيح الصدر عظيم الذوق والإدراك رددت علم جميع
ذلك لله (ونزهته عن المعنى الحسي) المفهوم من ظاهر الرأي وإن لم يكن كذلك
فارجع إلى التأويل كما عليه أئمة معتبرون، ثم أول معاني الآيات المستفاد منها
الحس، ثم قال: إن التأويل ليس بممنوع وقد جرى عليه كثير من أهل السنة من
المذاهب الأربعة (2).
الثاني عشر - الحافظ البيهقي:
نقل البيهقي عن ثعلب في قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض) إن
معناه: أنه حق أهل السماوات والأرض وقال: هذا نظير قول العرب: إذا سمعوا قول
(1) نفس المصدر، ص 80. /
(2) رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة، ص 28 - 32.
55
القائل: حقا كلامك هذا عليه نور، أي هو حق (1).
وقد ذكر أنه توجد أخبار أخرى تدل على أن المراد من اليد هو الملك والقدرة
والرحمة (2) وأن القبضة يراد بها الملك والقدرة يقال ما فلان إلا في قبضتي يعني ما
فلانا إلا في قدرتي والناس يقولون الأشياء في قبضة الله يريدون في ملكه
وقدرته (3) وجنب الله الوارد في الآية هو أمره والأصابع على فرض ثبوتها في
الحديث تؤول حينئذ على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقاويل أهل الدين
والعلم مع نفي التشبيه (4).
وأفاد إن ضحك النبي الوارد في الحديث ليس لأجل أنه (ص) يريد أن يؤكد
وجود أصابع وإنما هو للتعجب وإنكار ذلك، وأنكر الحديث الوارد عن ابن عمرو
(إن الله خلق الملائكة من نور الذراعين والصدر) وقال: لا يبعد أن يكون نقله من
كتب الأوائل وليس عن النبي أو أن الذراعين والصدر من أسماء بعض
المخلوقات (5).
والساق في قوله: (فيكشف عن ساقه يوم القيامة فيسجد له كل مؤمن ويبقى
من كان يسجد رياء وسمعه فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا) رواه
البخاري، ومسلم ذكر فيه رواية عن ابن عباس وإن معناه يكشف عن شدة وكرب،
وذكر عن بعض العلماء احتمال أن يكون معنى الساق الوارد في الرواية هو القدرة،
وأيد المعنى الأول بما ورد عن العرب في قولهم: وقامت الحرب بنا على ساق، وورد
في وصف شدة الحرب عن جد طرفة: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر
الصراح (6).
(1) الأسماء والصفات، ص 310 دار إحياء التراث.
(2) نفس المصدر، ص 320.
(3) نفس المصدر، ص 331 - 361.
(4) نفس المصدر، ص 336.
(5) نفس المصدر، ص 343.
(6) نفس المصدر، ص 345، 346.
56
والحقو الوارد في الحديث (إن الرحم قامت فأخذت بحقو الرحمن فقال مه فقالت
هذا مكان العائذ من القطيعة) رواه البخاري ومسلم.
أوله وقال: إن معناه عند أهل النظر أنها استجارت واعتصمت بالله كما تقول
العرب: (تعلقت بظل جناحه) أي اعتصمت به وقد حمله ابن حامد الحنبلي على
معناه من دون تأويل وهو معقد الأزار، ورد عليه من قبل العلماء وقيل إن حمله
على ظاهره جهل بالله (1).
وروى في قوله (الرحمن على العرش استوى) إن الكيف غير معقول رواه عن
مالك، ومعنى إن الكيف غير معقول أي أن استوائه ليس كاستواء الجسم على
الأرض بل ليس بمعقول، والحديث القائل إن الله عليه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط
الرحل بالراكب الراوي له ابن إسحاق ولم يرتضيه مالك بن أنس ويحيى بن معين،
حيث يقول هو ليس بحجة وأحمد بن حنبل يطلب الأقوى منه في الحلال والحرام أي
لا يرتضيه في الحلال والحرام، قال البيهقي إذا كان أحمد لا يحتج به في الحلال
والحرام فأولى أن لا يحتج به في صفات الله تعالى (2).
وحديث الجارية القائلة إن الله في السماء قال: أن الرواة اختلفوا في لفظه وذكر
في كتاب الطهارة من السنن من خالف معاوية بن الحكم السلمي راوي هذا
الحديث (3).
وحديث الضحك في قوله: (يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر)
قال: إن الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو يستفزهم الطرب
غير جايز على الله عز وجل وهو منفى عن صفاته والعجب الوارد في قوله تعالى:
(1) نفس المصدر، ص 369 أنظر ذيل الكتاب أيضا.
(2) نفس المصدر ص 418 - 419.
(3) نفس المصدر، ص 422.
57
بل عجبت ويسخرون) من قراءة ابن مسعود بضم التاء في (عجبت) نقل عن
الفراء إن العجب وإن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد (1).
والفرح الوارد في الحديث أن الله يفرح بتوبة العبد المراد به الرضى منه تعالى
والفرح الذي يتعارفه الناس من نعوت بني آدم غير جائز على الله عز وجل (2).
والنظر الوارد في الأحاديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم
ولكن ينظر إلى قلوبكم)) وغيره كقوله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى
أحسابكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) المراد به نظر التعطف والرحمة وليس
نظر العيان (3).
وصبره الوارد في الحديث أنه لا أحد اصبر على أذى يسمعه من الله المراد به
تأخير عقوبته (4) والسخط والغضب يرجعان إلى إرادته تعذيب الكافر (5).
وقد أوردنا الكثير من تأويلاته لكونه حجة عند الوهابيين ويروون عنه كما
رأيته في علاقة الاثبات والتفويض ولا يخفى أن البيهقي لا يؤول اليد ويراه صفة
من صفات الله وإن كان يروي الأحاديث الدالة على أنها بمعنى النعمة والقدرة.
الثالث عشر - ابن تيمية في الميزان:
هذا الفصل عقدناه لإعلام القارئ أن آراء ابن تيمية لم تكن مقبولة من لدن
علماء عصره وردوا عليه في كتبهم ورسائلهم، وكان علماء المسلمين قديما وحديثا
يرون ابن تيمية مشبها ومصابا في عقله ومبتدعا في الدين، وإليك بعض أقوال
العلماء فيه:
(1) نفس المصدر، ص 475.
(2) نفس المصدر، ص 477.
(3) نفس المصدر، 481.
(4) نفس المصدر، ص 508.
(5) نفس المصدر، ص 503 - 504.
58
- قال الذهبي ناصحا له:
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتبا لمن شغلته عيوب الناس عن عيبه،
إلى كم ترى القذاة في عين أخيك، وتنسى الجذع في عينيك، إلى كم تمدح نفسك
وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء، ثم قال: إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت
سعيد يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال، لا سيما إذا كان قليل
العلم والدين باطوليا شهوانيا لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن
عدو لك بحاله وقلبه، فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي
كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم الفهم فإن لم
تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل إلى كم تصادق نفسك وتعادي الأخيار، إلى كم
تصادقها وتزدري الأبرار، إلى كم تعظمها وتصغر العباد، إلى كم تخاللها وتمقت
الزهاد، إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح - والله - بها.
- (أحاديث الصحيحين):
يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف
والاهدار، أو التأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوى؟ أما حان لك أن تتوب
وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل.
ثم قال: إنك لا تصغي إلى وعظي مع أني شفوق عليك فإذا كان الحال كذلك
معي فكيف حالك عند أعدائك وأعداؤك والله فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن
أوليائك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر.. وقد نقل الرسالة بتمامها
المحقق الكوثري في كتابه (التكملة على شرح شيخ الإسلام) (1).
تقي الدين علي السبكي ولا بد من التأمل في هذه الرسالة لما احتوت عليه من
صفات أتباع ابن تيمية وصفات مخالفيه وأعدائه، فإن مخالفيه وأعدائه صلحاء
(1) فرقان القرآن، ص 128.
59
وعقلاء وفضلاء بشهادة الذهبي أما أتباعه، فهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعو وبقر
وخفيفي العقل وبلداء أي لا يفهمون، وقال شيخ الإسلام التقي في ابن تيمية حين
حرم التوسل والاستغاثة بالنبي (ص): أنه لم ينكر التوسل أحد من أهل الأديان ولا
سمع به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه
على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار... إلى أن قال:
وحسبك إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله وصار بين أهل
الإسلام مثلة (1).
الرابع عشر - بن حجر الهيثمي: وقال ابن حجر الهيثمي في كتابه (الجوهر المنظم) في زيارة القبر الشريف
النبوي المكرم بعد أن نقل الاجماع على مشروعية الزيارة للنبي (ص): (فإن قلت:
كيف تحكي الاجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية
من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كما رآه السبكي في خطه وأطال ابن
تيمية في الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر
لها إجماعا، وأنه لا تقصر فيه الصلاة، وإن جميع الأحاديث فيه موضوعة، وتبعه
بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه)؟
قلت: من هو ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يعول في شئ من أمور الدين عليه؟
وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه
الكاسدة حتى أظهروا أعوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز ابن جماعة: عبد
أضله الله تعالى وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه وبوأه من قوة الافتراء والكذب
ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان (2).
(1) نفس المصدر، ص 130 وتأمل في قوله: وصار بين أهل الإسلام مثلة.
(2) فرقان القرآن، ص 132.
60
الخامس عشر - الإمام عبد المجيد الفاسي:
قال في كتابه الذي يرد فيه على آراء ابن تيمية وهذا مجمل من القول قد فصله
العلماء قبلنا بما لا مزيد عليه فيما صنفوه لرد مفتريات ابن تيمية شكر الله سعيهم
ولولا ما قاموا به من ذلك لانقلبت البلاد الإسلامية كلها إلى براكين من الأخطار
التي لا يعلم مدى أضرارها إلا الله عز وجل (1).
السادس عشر - العلامة الشيخ يوسف الدجوي:
قال في رد رأي ابن تيمية فيما ذهب إليه وتفرد به في التوحيد، في مجلة
الأزهر وهذه البدعة من مبتكراته قد اغتربها ناس، فقالوا بكفر من عداهم من
جماهير المسلمين وسفكت في ذلك دماء لا تحصى، وقد ألفت الكتب الكثيرة في
رد هذه البدعة وفروعها بين مطول قد جود صاحبه ومختصر أفاد مؤلفه وأجاد، ومن
عجيب أمر هذا الرجل أنه إذا ابتدع شيئا حكى عليه إجماع الأولين والآخرين كذبا
وزورا وربما تجد تناقضه في الصفحة الواحدة فتجده في منهاجه مثلا يدعي أنه ما
من حادث إلا وقبله حادث إلى ما لا نهاية له في جانب الماضي ثم يقول: وعلى ذلك
أجمع الصحابة والتابعون وبعد ذلك يحكي اختلافا لحق الصحابة في أول مخلوق ما
هو؟ أهو القلم أم الماء، وبين ما تراه يتكلم بلسان أهل الحق المنزهين إذ بك تراه
انقلب جهميا وسمى كل من لا يقول بذلك معطلا وزنديقا وكافرا وقد جمع تلميذه
ابن زفيل سفاهاته ووساوسه في علم أصول الدين في قصيدته النونية.
وبينما تراه يسب جهما والجهمية إذ بك تراه يأخذ بقوله في أن النار تفنى وأن
أهلها ليسوا خالدين فيها أبدا، على حين يعيب ابن العربي الحاتمي بقوله: إن
العذاب ينقلب عذابا على الكفار والنار كما هي أبدا وهم خالدون فيها أبدا كما قال
القرآن، ويبدعه بذلك القول فأي الرجلين أدخل في البدعة احكم منصفا (2).
(1) نفس المصدر، ص 134.
(2) فرقان القرآن، ص 135 - 136.
61
ورد العلامة الدجوي عليه لأنه ذهب إلى أن توحيد الربوبية لا يستلزم التوحيد
في العبادة، وأن الرسل جاءوا بالثاني لا بالأول، فرد عليه العلماء ومنهم الدجوي
إن من يعتقد أن الله ربه فسوف يقر أنه هو المستحق للعبادة لا غيره، لأن بين
التوحيدين تلازم لأن القرآن يقول: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
وشهدهم على أنفسهم ألست بربكم) ولم يقل: ألست بإلهكم، لأن إثبات توحيد
الربوبية هو إثبات لتوحيد الألوهية والعبادة والشرك يأتي من تسوية ما دون الله
بالله كما قال تعالى: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين)
فاعترف المشركون إن ما يدعونه مع الله سواء لا تفاضل وليست هناك ربوبية له
على هؤلاء الشركاء.
السابع عشر - العلامة الشيخ سلامة القضاعي شيخ الشافعية بمصر:
قال في تقرير التوحيد الذي عليه أهل السنة والجماعة يجب: (أن يكون الله
منزها عن التركيب وقبول الانقسام وكل ما هو من خصائص المادة والأجسام، بذلك
نطق كتاب الله لقوم يسمعون، ونادت بهذا آياته من ألقى إليها السمع وهو شهيد
وعلى ذلك أطبق أهل السنة الذين لم يصابوا بما أصيب به أهل الهوى من مرض
التشبيه والتجسيم الذي أصيب به اليهود من قبلهم، ووقع فيه النصارى من
بعدهم، والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل
التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما
يحفظون أحمد بن عبد الحليم المعروف ب (ابن تيمية) يرمي إمام الحرمين وحجة
الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى في كتابه (الموافقة) المطبوع
على هامش منهاجه لقولهما بالتنزيه وهما لم ينفردا به، بل هو قول المحققين من
علماء الملة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم (1).
(1) فرقان القرآن، ص 61 - 62.
62
الثامن عشر - ابن بطوطة صاحب الرحلة:
يرى ابن بطوطة (إنه مجنون ويصرح إن في عقله شئ)، كما تقدم ذلك (1).
التاسع عشر - الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر:
نقل العلامة الشيخ على بدر شيخ معهد بلصفورة في كتابه (شمس الحقيقة
والهداية في الرد على أهل الضلالة والغواية) جواب شيخ الأزهر لسؤال وجهه له
الشيخ على بدر وهذا نص السؤال والجواب لأن في الجواب إيضاح لمن يتوهم أن
منهج ابن تيمية هو منهج أهل السنة والجماعة بينما هو منهج مبتدع خالفة
العلماء منذ عصره ولم يوافقه إلا المجسمة من الوهابيين.
السؤال: ما قولكم دام فضلكم في رجل من أهل العلم هنا الذين يوصفون
بالتفقه في الدين تظاهر باعتقاد ثبوت جهة الفوقية لله سبحانه وتعالى ويدعي أن
ذلك مذهب السلف وتبعه على ذلك البعض القليل من الناس وجمهور أهل العلم
ينكرون عليه، والسبب في تظاهره بهذا المعتقد - كما عرض على هو بنفسه ذلك -
عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاما كثيرا عن ابن تيمية
في إثبات الجهة للباري سبحانه وتعالى وليكن معلوما أنه يعتقد الفوقية الذاتية
له (جل ذكره) يعني أن ذاته سبحانه فوق العرش - بمعنى ما قابل التحت - مع
التنزيه ويخطئ أبا البركات الدردير رضي الله عنه في قوله في خريدته: منزه عن
الحلول، والجهة والاتصال، والانفصال، والسفه، يخطئه في موضعين من البيت
قوله: والجهة، وقوله: والانفصال، والشيخ اللقاني في قوله: ويستحيل ضد ذي
الصفات في حقه كالكون في الجهات، وبالجملة هو مخطئ لكل من يقول بنفي
الجهة مهما كان قدره.
ويستدل أيضا بنص كتاب آخر غير الكتاب المتقدم ذكره وهو تفسير الشيخ
(1) ابن بطوطة، ص 95 - 96 ط. 1384 ه دار صادر.
63
الآلوسي المسمى ب (روح المعاني) عند قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) مع
أن المطلع على عبارة الآلوسي يجده في آخر عبارته ذكر ما يؤخذ منه أنه غير جازم
بذلك ويستدل على ذلك بمثل (وهو القاهر فوق عباده) (يخافون ربهم من
فوقهم) (إليه يصعد الكلم الطيب) وبقوله (ص) للجارية التي أراد سيدها
عتقها: أين الله؟ فقالت: في السماء مع ما هو معلوم لفضيلتكم أنها كانت
خرساء وأشارت إلى السماء كما هو منصوص في مؤلفات حجة السلام الغزالي
رضي الله عنه، وقد تعرض لذلك السيد محمد مرتضى في شرحه للإحياء، ويستدل
أيضا بقوله (ص) في حجة الوداع: اللهم اشهد، وأشار بإصبعه إلى السماء، ويورد
على من ينازعه في ذلك سؤال الكرامية المشهور، وهو قولهم: إن نفيه عن الجهات
الست إخبار عن عدمه ولا يخفى على فضيلتكم أن الكلام في الجهة شهير إلا أنه
من المعلوم أن قول فضيلتكم سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل، وأرجو أن يكون
عليه إمضائكم بخطكم والختم ولا مؤاخذة، لا زلتم محفوظين ولمذهب أهل السنة
والجماعة ناصرين آمين.
الجواب: إلى حضرت الفاضل العلامة الشيخ أحمد على بدر خادم العلم الشريف
ب (بلصفورة): قد أرسلتم بتاريخ 22 محرم 1325 ه مكتوبا مصحوبا بسؤال عن
حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية لمن
اتبع الحق وأنصف جزاكم الله عن المسلمين خيرا..
إعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقة، أن مذهب الفرقة الناجية
وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في
جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين
القطعية فإن كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم وهو ما سوى
الله تعالى وقد قام البرهان القاطع على حدوث كل ما سوى الله تعالى ممن أثبت
الجهة ومن نفاها، ولأن المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أن المكان يمكن
64
وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن وكلاهما
باطل ولأنه لو تحيز لكان جوهرا لاستحالة كونه عرضا ولو كان جوهرا فأما أن
ينقسم، وأما أن لا ينقسم وكلاهما باطل، فإن غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزء
وهو أحقر الأشياء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والمنقسم جسم وهو مركب
والتركيب ينافي الوجوب الذاتي فيكون المركب ممكنا يحتاج إلى علة مؤثرة، وقد
ثبت بالبرهان القاطع أنه تعالى واجب الوجود لذاته غني عن كل ما سواه مفتقر إليه
كل ما عداه سبحانه (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير).
هذا وقد خذل الله أقواما أغواهم الشيطان وأزلهم واتبعوا أهوائهم وتمسكوا بما لا
يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا واتفقوا على أنها جهة
فوق إلا أنهم افترقوا، فمنهم من اعتقد أنه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش،
وبه قال الكرامية واليهود، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم، ومنهم من أثبت الجهة مع
التنزيه وأن كونه فيها ليس ككون الأجسام وهؤلاء ضلال فساق في عقيدتهم
وإطلاقهم على الله ما لم يأذن به الشارع ولا مرية أن فاسق العقيدة أقبح وأشنع من
فاسق الجارحة بكثير، سيما من كان داعية أو مقتدى به.
وممن نسب إليه القول بالجهة من المتأخرين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن
تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن في ضمن أمور نسبت إليه
خالف الاجماع فيها عملا برأيه وشنع عليه معاصروه بل البعض منهم كفروه ولقي
من الذل والهوان ما لقي، ثم قال إن بعض تلامذته أول عباراته بما تدفع التهمة عنه
وذلك هو المظنون بالرجل.
وأضاف: إن ما تمسك به المخالفون القائلون بالجهة أمور واهية لا تصلح أدلة
عقلية ولا نقلية قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه.
وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله: (الرحمن على العرش
استوى) وقوله: (إليه يصعد الكلم الطيب) وقوله: (تعرج الملائكة والروح إليه
65
وقوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) وقوله: (وهو القاهر فوق
عباده) وكحديث إنه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وفي رواية كل ليلة
جمعة فيقول: هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فاغفر له، وكقوله
للجارية الخرساء: أين الله؟ فأشارت إلى السماء حيث سأل بأين التي للمكان ولم
ينكر عليها الإشارة إلى السماء بل قال إنها مؤمنة، ومثل هذه يجاب عنها بأنها
ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة،
فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية
أما تأويلا إجماليا بلا تعيين للمراد كما هو مذهب السلف وأما تأويلا تفصيليا
بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف كقولهم إن الاستواء بمعنى
الاستيلاء كما في قول القائل:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق
وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به، لأن الكلم عرض يستحيل
صعوده وقوله من في السماء: أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكل
بالعذاب وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه وقوله:
(فوق عباده) أي بالقدرة والغلبة، فإن كل من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال
عليه بالقهر والغلبة كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أقدر منه وأغلب ونزوله
إلى السماء محمول على لطفه ورحمته وعدم المعاملة بما يستدعيه علو رتبته وعظم
شأنه على سبيل التمثيل وخص الليل لأنه مظنة الخلوة والخضوع وحضور القلب
وسؤاله الجارية ب (أين) استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده
الوثنيون، فلما أشارت إلى السماء فهم أنها أرادت خالق السماء فاستبان أنها
ليست وثنية وحكم بإيمانها، وقد بسط العلماء في مطولاتهم تأويل كل ما ورد
من أمثال ذلك عملا بالقطعي وحملا للظني عليه فجزاهم الله عن الدين وأهله خير
الجزاء.
66
ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمتهم ويتمشدق بترهات
المبتدعين وضلالتهم أما سمع قول الله تعالى: (ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) فليتب إلى الله تعالى من تلطخ بشئ من هذه
القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولا يحملنه العناد
على التمادي والإصرار عليه فإن الرجوع إلى الصواب عين الصواب والتمادي على
الباطل يفضي إلى أشد العقاب (من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا
مرشدا) نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين... أملاه الفقير إليه سبحانه سليم البشري خادم العلم والسادة المالكية
بالأزهر عفى عنه آمين آمين.
وقد قال الشيخ سلامة القضاعي في قول الشيخ سليم: (إن ذلك هو المظنون
بالرجل) هو حسن ظن من الشيخ حمله عليه قول التلميذ والذي يطيل النظر في
كتبه لا يرتاب في قوله بالتجسيم والجهة والتشبيه (1).
التاسع عشر - الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:
قال في الرد عليه لأنه عاب الاشتغال بالمنطق والفلسفة إن فعله يتناقض مع
قوله:) السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ص 163).
وأضاف: أنه ناقش الفلاسفة ولكنه وقع في أقبح المحاذير الفلسفية وتطوح في
شأن الفلسفة تطوح المضطرب وناقض نفسه في حديثه عنها مناقضة التائه ووقع في
مهمه لا يتبين سبيلا للخلاص منه، وذكر مسألتين:
الأولى: تستلزم وجود شريك لله أو أن الله غير قادر ثم إنه أثبت كفر نفسه لأنه
ذهب إلى ذلك.
(1) فرقان القرآن، ص 72 - 76.
67
والثانية: إنه أنكر تأثير الله في الأشياء وادعى أن الأشياء فيها قوة مؤثرة في
نفسها (1).
ولم نرد في هذا الفصل أن ننقل كل ما قاله العلماء في ابن تيمية إلا أن ما
أتينا به فيه الكفاية لمن اتبع الحق وأعرض عن الهوى في اجتناب هذه الأباطيل التي
قال بها، وبعد هذا العرض الموجز لآراء أعلام السنة والجماعة يتبين أن خلاف
الوهابيين ليس مع الشيعة وإنما هو مع جميع المسلمين ما عدا ثلة قليلة اتبعت ابن
تيمية وإلا فعلماء المسلمين من المذاهب المختلفة لا يوافقون ابن تيمية في آرائه
ويرونه كافرا أو فاسقا وانظر كتاب الرسائل السبكية (2) للحجة تقي الدين علي
بن عبد الكافي السبكي الكبير المتوفى (سنة 756) فقد أورد في هذا الكتاب آراء
أعلام السنة من معاصريه وكيف أنه استتيب بحضور علماء المذهب الأربعة، ورجع
بحضورهم عن آرائه الفاسدة المفيدة للتجسيم، وقال إنه لا يعلم ما هو المراد من
ظاهر الأحاديث والآيات القرآنية (3).
وقد ذكر العلماء الذين عاصروه أو قاربوا عصره، وأنكروا عليه العلامة
السبحاني في كتابه القيم الملل والنحل من ص 35 - 63 الجزء الرابع.
(1) نفس المصدر السابق، ص 173 - 186.
(2) الرسائل السبكية، طبع في سنة 1403 ه - 1983 م طبع عالم الكتب بيروت.
(3) الرسائل السبيكة، ص 36.
68
(ملاحق)
ملحق (1)
صفات الله عند الشيعة:
يعتبر الكلام في عينية الذات والصفات من أدق مباحث علم الكلام كما أن من
يعرف مباحثه بدقة يعد من الراسخين في فهم التوحيد. وقبل بيان حقيقة اتحاد
الذات بالصفات لا بأس من التعرض إلى إيضاح لإبهامات تحيط بالبحث.
أولا: إن الإنسان بعقله لا يمكنه أن يحيط بالله تعالى لأن ذاته تعالى لا تحد،
وبالتالي كيف يتسنى للإنسان المحدود أن يحيط باللامحدود؟ وكيف يمكن
للمتناهي أن يحيط باللامتناهي؟ ومن هنا نرى أن بعض فرق المسلمين تحرم الكلام
جملة وتفصيلا في الله وصفاته إلا بما جاء من الأحاديث بادعاء أن العقل قاصر عن
الإحاطة بالذات المقدسة والصفات الإلهية. إلا أن هذا الكلام يحمل في مضمونه
معنيين أحدهم إيجابي والآخر سلبي، أما معناه الإيجابي فقد أشارت إليه الأحاديث
الواردة عن أهل البيت (ع) مثل قولهم (اتركوا التفكر في ذات الله وإن التفكر في
ذات الله لا يزيد صاحبه إلا تيها) (1).
وقولهم إن العجز عن المعرفة هو معرفة الله وإنه بالإقرار بالعجز يكون الإنسان م
الراسخين في العلم (2).
فإن أريد بالقول الآنف إن العقل لا يدرك الله هو أن كنه الذات المقدسة لا يدرك
من قبل أحد فهذا معنى صحيح ومقبول (كنهه تفريق بينه وبين خلقه) (3)، وإن
(1) توحيد الصدوق، ص 457 حديث 14.
(2) توحيد الصدوق ص 55 - 56.
(3) توحيد الصدوق، ص 36.
69
أريد بالقول المتقدم أنه ليس للعقل أي مجال للتحدث عن الذات ولوصفها فهذا
تعطيل لدور العقل عن إدراك ما يمكنه إدراكه وشل حركة الفكر الإنساني التي
يمكن للعقل أن يحلق بها إلى شاطئ الاطمئنان وينهل من معينها العذب الذي
نهل منه الأولياء والأنبياء والصالحون والأئمة، ولذا نجد القرآن ينهى عن تنزيه الله
لغير المخلصين (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) (1) بالإضافة إلى
أن سيرة أهل البيت (ع) تدفع هذا القول لأنهم أفاضوا في شرح حقيقة التوحيد
بأشكال مختلفة، ومن يقرأ كتاب (توحيد الصدوق) يطلع على الروايات المتعددة
التي صدرت عنهم عليهم السلام في شرح التوحيد، كما أن من يقرأ خطب أمير
المؤمنين عليه السلام ويرى كيف يصف الله بأساليب لا تتأتى لغيره لا يبقى في
نفسه شك في أن النهي لا يشمل هذا النحو من التوحيد الذي دعى الأئمة أتباعهم
وغير أتباعهم إلى معرفته وأبانوه بخطب مختلفة وأساليب متعددة. ولو كان البحث
في الصفات والتفكر فيها يشمل هذا النحو من البحث لظل الإنسان ساذجا لا
يعرف الله بالحدود الدنيا التي يمكنه أن يعرفه بها، بل بالعكس هناك أحاديث (2).
تأمر بمعرفة الله بهذا النحو العميق من المعرفة التي تجعل صاحبها من أهل الإيمان
المستقر.
من خلال ما تقدم يتضح لنا أن إدراك الله أمر وجداني بديهي ولكن لا بالإحاطة
بذاته، لأن الإحاطة بالذات تعني إمكانه وأنه ليس واجب الوجود لذاته، ولذا نلاحظ
القرآن الكريم يشير إلى بداهة الاذعان بوجود الباري بقوله تعالى (أفي الله شك
فاطر السماوات والأرض) وإثباته بمعنى أنه أزلي في وجوده، كما ورد في الأحاديث
عن أهل البيت (ع). إن قيل كان، فعلى تأويل أزلية الوجود، وإن قيل لم يزل،
(1) الصافات: آية 159 - 160.
(2) توحيد الصدوق، ص 143.
70
فعلى تأويل نفي العدم (1) وغاية ما يصل إليه الموحد أنه يحقق ولا يمثل (2)
ومعرفته بأنه لا ينال بجوب الاعتساف كنه معرفته (3).
* * *
ملحق (2)
الصفة عين الموصوف:
المعنى الدقيق لقولنا الصفة عين الموصوف والفارق الأساسي بين الاتحاد بين
الصفة والموصوف في الممكن والاتحاد في واجب الوجود:
هناك اتحاد بين الصفة والموصوف في الممكن، فعندما نصف إنسانا بالعلم فلا
يوجد تعدد بين ذات الإنسان والعلم الذي يتصف به، بل العلم والذات شئ واحد.
فهل اتحاد صفات الله بذاته بهذا النحو الذي نتصوره في وصفنا الإنسان بالعلم أو
له معنى آخر يغاير هذا المعنى؟ الصحيح أنه يوجد فارق أساس بين الصفة التي
يتصف بها الممكن وبين الصفة الذاتية لله تعالى، لأن صفة الممكن يمكن التفكيك
بينها وبين الموصوف في الذهن على الأقل، ولكن الصفة الذاتية لله هي نفس
الذات المقدسة وليست شيئا آخر يغاير الذات، بينما الممكن بعض صفاته لم تكن ثم
كانت أي لم يتصف بها منذ وجوده تم اتصف بها كالعلم فإننا نلاحظ الإنسان لا
يولد عالما فهو إنسان دون علم ثم يتعلم فيوسم بالعلم فهنا الصفة لم تكن معه
وكان هو مجردا منها ثم اكتسبها واتحدت معه، إلا أن هذا الاتحاد يختلف عن
الاتحاد في الصفة الذاتية لله تعالى لأن الصفة هي ذاته وليست مثل صفة الممكن
(1) توحيد الصدوق، ص 73.
(2) توحيد الصدوق، ص 74.
(3) توحيد الصدوق، ص 52.
71
لم تكن ثم كانت بل هي هو وهو هي لا تعدد، ولذا ورد في الحديث أن الله عالم ولا
معلوم وخالق ولا مخلوق (1).
فهذا الكلام عن الله يدلل على أن العلم لم يطرأ على الذات بل العلم هو الذات
والذات هي العلم، وهناك أحاديث كثيرة تنفي الصفة عن الله تعالى وهي تشير إلى
أن الذات المقدسة لا تتصف بصفة هي غيرها بل لا صفة لله تعالى بهذا النحو، لأن
إثبات الصفة بهذا النحو يعني التعدد والتركيب وبالتالي رجوع واجب الوجود إلى
ممكن الوجود تعالى الله عن ذلك. فقول الإمام الرضا (عليه السلام) (إن نظام
توحيده نفي الصفات عنه) (2) يريد به ما تقدم من المعنى الذي أوضحناه وكذلك
قوله (عليه السلام) (لشهادة العقول إن كل صفة وموصوف مخلوق وشهادة كل
مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف وشهادة كل صفة وموصوف
بالاقتران).
فهذا النحو من الروايات التي تنفي التعدد وتنفي الصفة وأن القول بأن لله صفة
قول بأن الله مخلوق كما في هذا الحديث المتقدم يراد من هذا النفي للاتصاف بصفة هي
كصفة المخلوق تدلل على التعدد والتركيب والاحتياج تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولذا جعلت الأحاديث من يوصفه بهذا الوصف فقد جهل الله (فقد جهل من
استوصفه) (3). وأن القائلين بتجزئة الله تعالى هم الذين يصفونه (4) وهم الملحدون
فيه، بل صفات الله تعالى ليست كالحدود الماهوية تحدده لقولهم عليهم السلام (ولا
تحده الصفات) (5)، لأن الصفة هي نفس الذات والشئ لا يحد نفسه فإطلاق
(1) توحيد الصدوق ص 38.
(2) توحيد الصدوق ص 34.
(3) توحيد الصدوق ص 36.
(4) توحيد الصدوق ص 37.
(5) توحيد الصدوق ص 37.
72
الصفات على الله بغير المعنى المتعدد لا يصح.
وفي ختام هذه اللمحة ننبه على أن القول بالاتحاد بين الذات والصفات لا يراد
به الاتحاد في المفهوم وأنه لا يوجد تغاير بين عالم وقادر وحي ولفظ الجلالة بل يراد
به الاتحاد في المصداق وأن المعنى لهذه المفاهيم واحد لا تعدد ولا تكثر فيه.
هذا مضافا إلى أن القول بالتغاير يوجب افتقار الذات إلى الغير وهو خلاف ما
صرح به القرآن من الغنى المطلق للذات (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو
الغني الحميد) (سورة فاطر: آية 15).
* * *
ملحق (3)
العلم بالجزئيات:
الله عالم بكل شئ وعلمه بالأشياء قبل تكوينها كعلمه بها بعد تكوينها،
ولكنه وقع لبعض الفلاسفة شبهة في علمه تعالى بالجزئيات ولذا أنكروا علمه
تعالى بالجزئيات، أما مطلقا أو أنه لا يعلم بها على وجه جزئي، بل يعلم بها على
وجه كلي. والسبب في ذلك أن الجزئي يتغير فلو كان الله يعلم به للزم تغير علمه،
والحال أن علمه هو ذاته فيلزم تغير ذاته وبالتالي يكون ممكنا لتغيره أو أنه يعلم
بالجزئي دون تغيراته وهذا معناه أنه لا يعلم بالجزئي. ومن هنا حاول بعض الفلاسفة
أن يجيب على هذا الإشكال بأن الفلاسفة لا ينكرون علمه تعالى بالجزئيات إلا أنه
يعلم بها على وجه كلي، أو أن الله يعلم بها دون تغير في ذاته، بل التغير في
المعلوم والاعتبار كما ورد في الباب الحادي عشر وشرح التجريد (1).
(1) مبحث صفة العلم.
73
وحاول بعض أن يقرب الفكرة بأن الله مجرد وعلمه بالأشياء بالعلم الحضوري لا
الحصولي فبالتالي لا تخفى عليه الجزئيات (1).
وهناك قول بأن العلم الإلهي له مرتبتان، الأولى هي العلم بالأشياء قبل إيجادها
في مرتبة الذات، والثانية هي العلم بالأشياء بعد إيجادها وهو فعله (2).
وهذا التعبير أو ما يقرب منه توجد روايات تدل عليه. إن علم الله تعالى علمان
ولكنه لا يحل الإشكال بالتأمل الدقي أي لا يرينا بنحو واضح كيفية تعلق علمه
بالمعلومات المغايرة له تعالى، والسبب أن معرفة العلم الإلهي من أدق مباحث علم
الكلام والفلسفة. ولذا بعضهم أنكر حتى علمه بذاته بحجة أن العلم نسبة بين
العالم والمعلوم وعلم الذات بنفسها لا تغاير فيه حتى تتحقق النسبة، وقد أجيب
على هذه الشبهة بجواب يشبه الأجوبة المتقدمة (في علمه تعالى بالجزئيات) غير أن
الحق في الجواب عن هذه الشبهات بنحو الاقناع يتوقف على استذكار ما تقدمت
الإشارة إليه بنحو الاجمال من أن الصفات الذاتية كالعلم والقدرة والحياة هي الذات
المقدسة. وإذا كان علمه تعالى هو ذاته وذاته هي علمه مع أن الذات المقدسة لا
تدرك بكيف ولا تؤين بأين (3) ولا يقال فيها لم ومتى كما جاء في الأحاديث
المتواترة التي تقدمت الإشارة إلى بعضها.
وهو أجل من أن يحيط به بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل (4) وأنه تعالى
لا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ (5).
(1) الإلهيات 120 - 125.
(2) الإلهيات ص 120.
(3) توحيد الصدوق ص 174 - 251.
(4) نفس المصدر ص 252.
(5) نفس المصدر ص 251.
74
هذه هي معرفة الذات التي أمر الأئمة (عليهم السلام) الناس بها وقالوا (عليهم
السلام) أنه لا بد من فهم هذه المعرفة للذات المقدسة (1). فبعد الاذعان بوجود الذات
المقدسة فإن البحث في علمه تعالى بالخصوص لعوام الناس غير المطلعين على
دقائق الفلسفة لا يجدي، فيكفي أن يقال الله عالم لأنه أعطى العلم وفاقد الشئ
لا يعطيه، ولذا فإن القرآن الكريم يثبت علمه تعالى في الآيات القرآنية التالية:
(الأنعام: 59. آل عمران: 29. الرعد 7 - 10. ق: 16).
وغير هذه الآيات التي ذكرناها. وكذلك ورد في كلمات الأئمة دون الاستدلال
على ثبوت علمه لعامه الناس ببراهين معقدة ودون بيان كيفية تعلق علمه بمعلوماته
باعتبار وجود تعقيد في هذه البيانات ولا يمكن الاستفادة منها إلا لمن خبر
الفلسفة.
ملحق رقم (4)
الله واحد:
إن إطلاق الصفات على الله تعالى يختلف عن إطلاقها على مخلوقاته، فعندما
نصف الله بأنه واحد أحد فهذه الوحدة الإلهية والأحدية لا يشاركه فيها غيره، لأن
ما عداه مركب أو محتاج. وأما البسيط في ذاته بمعناه الحقيقي فهو الله تعالى
ولذا جاءت كلمات أهل البيت عليهم السلام تبين هذا المعنى بأوضح بيان، فلما
سئل الإمام (عليه السلام) بأن الله واحد والإنسان واحد أجاب (عليه السلام) بأن
هذا مستحيل وذلك لأن الإنسان وإن أطلق عليه واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة
(1) توحيد الصدوق ص 192.
75
وليس باثنين، والإنسان نفسه ليس بواحد لأن أعضائه مختلفة غير واحدة وهو
أجزاء مجزأة ليس سواء دمه غير لحمه ولحمه غير دمه وعصبه غير عروقه وشعره
غير بشرته وسواده غير بياضه، وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم
لا واحد في المعنى والله جل جلاله واحد لا واحد غيره ولا اختلاف فيه ولا تفاوت
ولا زيادة ولا نقصان، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف فمن أجزاء مختلفة
وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شئ واحد (1).
هذا معنى إطلاق الواحد عليه تعالى وهناك معنى أدق من هذا ويتحد معه في
المضمون وهو أن الله لا يتجزأ في أي عالم من العوالم، فالله ليس بمركب لا في
العقل ولا في الوهم، بخلاف ما عداه ولذا ورد عنهم (عليهم السلام) إنه تعالى
أحدي المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عز
وجل (2).
وهذا المعنى تفسير لما ورد عنهم (عليهم السلام) إن الله واحد بمعنى أنه ليس له
في الأشياء شبه بعد أن نفوا عنه الوحدة العددية والوحدة النوعية الداخلة تحت
جنس (3).
* * *
ملحق رقم (5).
التوحيد في الأفعال:
مما يجب الاعتقاد به هو توحيد الله في أفعاله ومعنى التوحيد الافعالي إن
(1) توحيد الصدوق ص 62 - 185.
(2) نفس المصدر: 84.
(3) توحيد الصدوق: ص 83.
76
جميع الأفعال صادرة منه تعالى ولا مؤثر في الوجود غيره، بل التأثير بالاستقلال
له لا لغيره، إلا أن جعل التأثير لله ليس معناه سلب التأثير عن العلل الأخرى التي
جعل الله لها التأثير، لأن تأثير العلل الأخرى ليس بالاستقلال بل يستند إلى الله
تعالى، وبعبارة علمية أن تأثيرها ليس في عرض تأثير الله بل في طوله، بمعنى أن
الله أجرى النظام على هذه الكيفية، وكما ورد في الحديث عنهم عليهم السلام
(أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها) ولكن هذه الأسباب تستمد سببيتها منه
تعالى ولذا أورد (اللهم يا سبب من لا سبب له يا سبب كل ذي سبب يا مسبب
الأسباب من غير سبب) (1). فالأسباب والعلل لها تأثير لا كمال يزعم الأشاعرة أنه
لا تأثير لها لأن ذلك خلاف ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تنص على أن
لهذه العلل تأثير في معلولاتها، إلا أن تأثيرها ليس من لدن نفسها بل مستمد من
الله، ولذا صرح القرآن بتأثيرها منها قوله تعالى (فالمدبرات أمرا) (النازعات: آية 5).
وقوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعنان ونخيل صنوان وغير
صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعضا في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم
يعقلون) (الرعد: آية 4).
فالآية دالة على أن الماء له تأثير في إنبات الزرع والآية الأولى دالة على أن
هناك موجودات تتولى التدبير وأسند الله التدبير إليها.
وقوله تعالى (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) (البقرة:
آية 22). فالآية تبين دور الماء في إخراج النبات ولكن الماء منزل من الله وليس
تأثيره في عرض تأثير الله تعالى.
وقوله تعالى (أولم يروا إنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه
أنعامهم وأنفسهم أفلا تبصرون) (السجدة: آية 27).
أدعية الرزق مصابيح الجنان.
77
فبسبب الماء تخرج الأرض زرعها كما تصرح الآية، إذن القول بالتوحيد الأفعالي
لا يعني إلغاء مبدء السببية كما يقول الأشاعرة لأن ذلك يجرنا أن ننسب أفعال
الناس إلى الله لأنه لا مؤثر سواه، بينما القبول بمبدأ السببية، والقول بتأثير العلل
بإذن الله يجعلنا نتخلص من الإشكال القائل بأن الشر صدر من الله، والحال أن
القرآن يصرح بأن الشر من نفس الإنسان والخير من الله تعالى (ما أصابك من
حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (النساء: آية 79).
وأما الآيات الدالة على أنه كل من عند الله كقوله تعالى (وإن تصبهم حسنة
يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) (النساء: 78).
وإن ما يفعله الإنسان مخلوق بقوله (والله خلقكم وما تعملون) فهي بصدد الرد
على من يزعم أن الله ليس له تأثير في الأفعال كما ذهب إلى ذلك المعتزلة، لأن
الله تعالى نسب هذه الأعمال الصادرة من الإنسان إلى الله ونسب الخلق له (الله
خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل) (الزمر: آية 63). من حيثية أخرى تغاير
الحيثية المتقدمة لأن من يقول إن الشر صدر من الإنسان وهم الشيعة لا يدعون أن
القدرة من الإنسان بل القدرة من الله تعالى، فالله أعطى الإنسان القدرة إلا أنه
أعطاه الاختيار مع القدرة أي جعله قادرا مختارا، ولكن هذه القدرة من الله لأن
الإنسان مخلوق له والآيات الدالة على صدور كل شئ من الله ناظرة إلى
القدرة (3) أي كل شئ إذا نظر إليه من حيث القدرة فهو من الله ولكن من حيث
الاختيار فهو من الإنسان، ولذا يكون الله قادرا على إيقاف الإنسان عند حده لو
أراد إيقافه وهذا خلاف ما ذهبت إليه اليهود حيث قالوا يد الله مغلولة والله
سبحانه ردهم بقوله (بل يداه مبسوطتان) (المائدة: آية 64).
إذن القول بصدور الأفعال الغير جيدة من الإنسان باعتباره مختار فيمكنه
بالاختيار صرف القدرة التي أعطى إياها من الله إلى شئ آخر، وهذا ما يشير إليه
القرآن بقوله تعالى (إنا هديناه النجدين إما شاكرا وإما كفورا) فما يصدر منه فهو
78
باختياره إلا أن لله تعالى القدرة المطلقة، ولذا ورد عن أهل البيت عليهم السلام
(لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين) (1). فالأمر بين الأمرين يشير فيه الإمام
إلى الحيثيتين المتقدمتين، وقد وردت أحاديث كثيرة تشرح هذا المطلب وفي بعضها
أن بين الجبر (الذي يقول به الأشاعرة) وبين التفويض (الذي يذهب إليه المعتزلة)
منزلة ثالثة أوسع مما بين السماوات والأرض (2) وأن الله تبارك وتعالى أكرم من أن
يكلف الناس ما لا يطيقونه (معنى الجبر) لأنه إذا كان لا يقدر الإنسان على شئ
فهو مجبور والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد (3).
وقد أوضح ذلك المحقق الخوئي بما لا مزيد عليه (4).
(1) معالم التوحيد في القرآن ص 312.
(2) توحيد الصدوق حديث 8، ث 362.
(3) توحيد الصدوق حديث 3، ص 360.
(4) توحيد الصدوق حديث 4، ص 36.
79