دور العقيدة في بناء الإنسان
مركز الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المركز
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد المصطفى الأمين
وآله الطيبين الطاهرين، وبعد:
إن نظرة الإنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في شتى المجالات بل وحتى
عواطفه وأحاسيسه كلها تدور حول محور العقيدة التي يتبناها، والتي تسهم في بنائه
الفكري والأخلاقي والاجتماعي، وتوجيه طاقاته نحو البناء والتغيير.
وإذا كانت المدارس الوضعية قد حققت بعض النجاح في ميادين الحضارة
المادية، فقد أثبتت فشلها الذريع في تلبية حاجة الفرد لحياة كريمة حرة من قيود
الابتذال والفجور، فكان التفسخ الأخلاقي والانحدار الخلقي والتفكك الأسري
والفراغ العقائدي، هو أبرز معطيات الحضارة المادية التي صنعها الإنسان على صعيد
الحياة الفكرية والشخصية والاجتماعية.
ولقد اقتضت حكمة الخالق تعالى أن يرشد الإنسان إلى الجذور والأصول التي
يستقي منها معارفه وينهل منها حقائق هذا الوجود ليصل من خلالها إلى المعتقدات
الصحيحة السليمة من الشوائب والبعيدة عن الانحراف بعد أن منحه تعالى الفطرة
الصافية مشعلا يهديه إلى النور، نور العقيدة الإسلامية الحقة الذي أضاء بسناه ما حوله.
ومتى ما حكم الإنسان عقله يرى أن العقيدة الإسلامية تشكل نظاما متكاملا
للحياة البشرية بمختلف أطوارها ويرسم الطريق لكل جوانبها وينسجم مع الفطرة
الإنسانية ويضمن تحقق حاجات الفرد الروحية ورغباته المادية بشكل متوازن
ودقيق، وبما يضمن كرامته وشخصيته.
وعلى قواعد هذه العقيدة يقوم بناء الشخصية، شخصية الفرد والمجتمع
والدولة الإسلامية، وتنتظم العلائق والروابط، وتتحدد الحقوق والواجبات،
وتتحقق العدالة والمساواة، ويستتب الأمن والسلام، وينشأ التكافل والتضامن،
5
وتزدهر الفضائل والمكارم، ويبنى الإنسان على كافة الأصعدة.
فعلى الصعيد الفكري أخرجت العقيدة الإسلامية الإنسان من عالم الخرافات
والجهل لتأخذ بيده إلى دنيا العلم والنور، محفزة الطاقات الكامنة فيه للتأمل والاعتبار
بآيات الله ودلائله، وبذلك فقد نبذت التقليد في الاعتقاد وربطت بين العلم والإيمان.
وعلى الصعيد الاجتماعي استطاعت العقيدة الإسلامية أن تسمو بالروابط
الاجتماعية من أسس العصبية القبلية واللون والمال إلى دعائم معنوية تتمثل
بالتقوى والفضيلة والأخاء الإنساني، فشكل المسلمون خير أمة أخرجت للناس بعد
أن كانوا جماعات متفرقة متناحرة.
وعلى الصعيد الأخلاقي نجحت العقيدة الإسلامية في تنمية الواعز الذاتي القائم
على أساس الإيمان برقابة الخالق جل وعلا لكل حركات الإنسان وسكناته وما
يستتبع ذلك من ثواب وعقاب، الأمر الذي أدى إلى تعديل الغرائز وتنمية شجرة
الأخلاق الفاضلة وجعلها عنصرا مشتركا في جميع الأحكام الإسلامية.
كما أسهمت العقيدة الإسلامية في بناء المجتمع اقتصاديا وسياسيا وتربويا،
وبذلك فهي تمثل عنصر القوة في تاريخ الحضارة الإسلامية.
فلأجل النهوض بالإنسان المسلم من حالة الضعف الروحي والانزلاق في
مهاوي المادية ومغرياتها، لا بد من تذكيره بمعطيات تلك العقيدة، وترسيخ قناعته
بقوتها وصلاحيتها لكل العصور بلغة معاصرة، وبشكل يتناسب مع مقتضيات
العصر الحديث، والتحليل الفكري.
وإصدارنا هذا يوضح لك هذه الحقائق بشكل جلي معتمدا البحث والتحليل
الفكري بأسلوب سهل ممتع وعرض علمي قويم يبتعد بالأفكار عن مهاوي
الانحراف وأوهام الخيال، ويقودها إلى الحقائق الناصعة والأدلة الساطعة.
فلله الشكر على ما أنعم وله الحمد على ما وفق وهو المستعان
مركز الرسالة
6
المقدمة
أكثر ما يهم الإنسان في الحياة هو أن يعرف حقيقة مبدئه ومعاده،
والغاية من وجوده، ومن أين جاء، وإلى أين ينتهي، ولماذا وجد؟
هذه الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه على الدوام، تحتاج إلى
إجابات شافية، لكي يتخذ الإنسان على ضوئها موقفا من الحياة، يحدد
سلوكه، ويقيم لمجتمعه نظاما صالحا يرتضيه.
ولقد فشلت العقائد الوضعية في الإجابة على استفهامات الإنسان
المتعلقة بمبدئه ومعاده، ومبرر وجوده، مرة من خلال الادعاء بأن
الإنسان وجد صدفة! ومرة أخرى من خلال الزعم بأنه وجد نتيجة لتطور
المادة!!.. وما إلى ذلك من تفسيرات واهية لا تسمن ولا تغني من جوع
الإنسان وتعطشه الأبدي لمعرفة الحقيقة.
وليس هذا فحسب، بل فشلت أيضا في رسم معالم النظام الاجتماعي
الذي يصلح الإنسان ويحقق سعادته.
وبينما أجابت العقائد الدينية المحرفة إجابات باهتة ومشوهة، عندما
أقرت من حيث المبدأ بوجود الخالق ولكن شبهته بخلقه، كما فشلت في
تحديد النظام الأصلح للبشرية، أجابت العقيدة الإسلامية عن كل ذلك
بمنتهى الصدق والعمق، عندما أعلنت أن للإنسان خالقا حكيما قادرا
7
لا ينال بالحواس ولا يقاس بالناس، وأن الإنسان وجد لغاية سامية وهي
عبادة الله تعالى والوصول من خلالها إلى أرفع درجات التكامل والخلود.
كما تولد هذه العقيدة أيضا عواطف وأحاسيس خيرة، يتبنى الإسلام
بثها وتنميتها من أجل بناء الإنسان الكامل في الأبعاد الفكرية والاجتماعية
والسلوكية، وتكوين الشخصية العقائدية التي تتمتع بعقلية هادفة وسلوك
قويم، واتجاه رسالي، على العكس من الشخصية اللا منتمية، التي تنصب
اهتماماتها جميعا على الذات ومصالحها ورغائبها، فتعاني من الفراغ
العقلي والتأزم النفسي وفقدان الهدفية في الحياة.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن العقيدة الإسلامية ليست كعقيدة الفلاسفة
- باعتبارها نظرية فكرية تقبع في زوايا الدماغ - بل هي قوة تتحرك في
القلب وتنعكس إيجابيا على النفس والجوارح، فيندفع معتنقها إلى
ميادين الجهاد والعمل، وعليه فقد كانت قوة فاعلة ومحركة، غيرت
مجرى التاريخ، وبدلت معالم الحضارة، وأحدثت في حياة الإنسان
الاجتماعية والفكرية انقلابات رائعة، وحققت انتصارات عسكرية
مشهودة، ولذلك وجدنا القلة المستضعفة العزلاء في مكة، استطاعت
بعقيدتها أن تصمد ثلاثة عشر عاما في مواجهة طغيان كالطوفان.
وهذه العقيدة هي التي جندت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جيشا عدته عشرة
آلاف، وهو الذي خرج من مكة مستخفيا يطارده كفارها، ولم يستطع
الذين حاربوه طوال هذه المدة أن يصمدوا أمام قوة الإيمان الزاحفة،
فاستسلموا له، وأتوا إليه مذعنين، أو دفعوا إليه الجزية صاغرين.
كان المسلمون يملكون أقوى عدد النصر، وهي العقيدة التي تصنع
8
المعجزات، التي جعلت من حمزة - سيد الشهداء - يقود أول سرية في
الإسلام في ثلاثين راكبا مسلما، لمواجهة ثلاثمئة راكب من قريش على
ساحل البحر الأحمر، ولم تخرج السرية المسلمة لمجرد استعراض
العضلات، بل كانت جادة في المواجهة والاشتباك مع عدو تبلغ قوته
عشرة أضعاف قوتها.
ولم يحدث في تاريخ معارك الإسلام، التي كان يحرز فيها انتصارات
باهرة ومتوالية، أن كانت قوة المسلمين المادية متكافئة مع قوة العدو، بل
كانت قوة المسلمين من حيث العدد والعدة تصل أحيانا إلى خمس قوة
العدو، ولم يتحقق النصر إلا باعتمادهم على المدد المعنوي الهائل الذي
تمنحه العقيدة للمقاتل المسلم مع عدم إغفال دور الامداد الغيبي
المتواصل، وبعض العوامل والشروط المادية الأخرى.
وهكذا نجد أن العقيدة هي القوة الأساسية في كل معارك الإسلام،
والعامل الأساس في تحقيق النصر في مختلف المجالات.
وبغية النهوض الحضاري بالفرد المسلم، لا بد من تذكيره بالمعطيات
الحضارية التي منحتها العقيدة الإسلامية لمن سبقه من المسلمين،
صحيح أن المسلم لم يتخل كليا عن عقيدته، ولكن عقيدته قد تجردت
في قلبه من فاعليتها، وفقدت في سلوكه إشعاعها الاجتماعي، بفعل
عوامل الغزو الفكري التي تعرض ويتعرض لها باستمرار، وبفعل عوامل
الانحطاط والتخلف التي عصفت بمجتمعه كنتيجة مباشرة لابتعاده عن
قيم وتعاليم السماء.
ومما ينبغي التركيز عليه في هذا الإطار:
9
أولا: تعريف الإنسان المسلم بعقيدته الحقة عن طريق منابع المعرفة
الصافية.
وثانيا: ترسيخ قناعته بصوابها وصلاحيتها للعصر الراهن، وإبراز
عناصر تفوقها على العقائد الأخرى.
وثالثا: العمل على إعادة دور العقيدة في بناء الإنسان المسلم،
لتتجسد في فكره إيمانا عميقا، وفي سلوكه عملا صالحا وأخلاقا
حميدة، كما كانت تتفاعل عطاء وجهادا في نفوس المؤمنين السابقين
ومن تبعهم بإحسان.
ولأجل هذه الغاية، عقدنا هذا البحث الذي يتناول دور العقيدة في
بناء الإنسان الفكري والاجتماعي والنفسي، وانعكاساتها على أخلاق
المسلمين وسلوكهم، كما سلطنا الضوء فيه على الدور الكبير الذي قامت
به مدرسة آل البيت (عليهم السلام) من أجل صيانة العقيدة، والتصدي الحازم
لمحاولات تسطيح الوعي التي تعرض لها الإنسان المسلم في أدوار
سياسية متتابعة.
ولا بد من الإشارة إلى أننا اتبعنا في هذا البحث " المنهج النقلي "
واعتمدنا - أساسا - على المصادر والمراجع التراثية.
ومن الله نستمد العون والتوفيق.
10
الفصل الأول
البناء الفكري
المبحث الأول: تحرير فكر الإنسان.
ترتكز نظرة العقيدة الإسلامية على كون الإنسان موجودا مكرما:
* (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * (1).
فهو خليفة الله في الأرض، يمتلك العوامل التي تؤهله للسمو والارتفاع
إلى مراتب عالية: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال
إني أعلم ما لا تعلمون) * (2). كما أن بإمكان الإنسان أن ينحط ويتسافل حتى
يصل إلى مرتبة الحيوانية: * (... أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل
الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث..) * (3).
ثم يتسافل أكثر فأكثر حتى يصل إلى مرتبة الجماد: * (ثم قست قلوبكم
(1) الإسراء 17: 70.
(2) البقرة 2: 30.
(3) الأعراف 7: 176.
11
من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة..) * (1).
وعليه فالعقيدة الإسلامية تراعي في الإنسان عوامل القوة والضعف
معا، فقد وصف الإنسان في الكتاب الكريم بأنه خلق ضعيفا هلوعا
عجولا، وأنه يطغى، وأنه كان ظلوما جهولا (2).
وعلى هذا الأساس لا تحاول الشريعة إرهاقه بتكاليف شاقة، تفوق
طاقاته وقدراته النفسية والبدنية، قال تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها..) * (3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما
أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد،
والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة) (4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى
يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم) (5).
فالعقيدة الإسلامية - إذن - تعتبر عوامل الضعف في الإنسان حالة
طبيعية ناتجة عن تكوينه البشري، ولم ترها معقدة بالمستوى الذي يفقد
الإنسان معها قدرته على البناء والحركة، وحرية الاختيار.
(1) البقرة 2: 74.
(2) راجع سورة النساء 4: 28، والمعارج 70: 19، والأحزاب 33: 72، والأنبياء 21: 37،
والعلق 96: 6.
(3) البقرة 2: 286.
(4) الخصال، للصدوق: 417 باب التسعة - منشورات جماعة المدرسين - قم.
(5) كنز العمال، للمتقي الهندي 4: 233 مؤسسة الرسالة ط 5.
12
وفوق ذلك حاولت العقيدة - وهي تريد بناء الإنسان وتكامله - أن تثير
لديه شعورا عميقا بالجانب الإيجابي من وجوده.
الخطيئة أمر طارئ
من ناحية أخرى فإن العقيدة الإسلامية تعتبر الخطيئة أمرا طارئا على
الإنسان، وليس ذاتيا أصيلا، وعليه فحين يسقط الإنسان في مهاوي
الخطيئة، فإنه لا يتحول إلى شيطان تمنعه شيطنته من العودة إلى رحاب
الإنسانية، بل يبقى إنسانا مخطئا يمكن أن يسعى إلى تصحيح خطئه،
والنهوض من كبوته.
وهذا هو سر عظمة النظرة الإسلامية إلى الإنسان، فهي لا تجعله تحت
رحمة الشعور بخطيئة أصيلة مفروضة عليه، كما تفعل النصرانية، بل هي
تسعى إلى انتشال الإنسان من وحل الخطيئة، وإشعاره بقدرته على
الارتقاء، وتذكيره الدائم بعفو الله ورحمته الواسعة، وعدم اليأس منها.
ولا يوجد في الإسلام " كرسي للاعتراف " كما هو الحال في النصرانية، بل
يسعى أئمة الدين وعلماؤه إلى ستر عيوب الناس وذنوبهم مهما أمكن
ذلك، لأن الله تعالى يحب الستر.
عن الأصبغ بن نباتة قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أمير
المؤمنين، إني زنيت فطهرني، فأعرض أمير المؤمنين (عليه السلام) بوجهه عنه، ثم
قال له: (اجلس، فأقبل علي (عليه السلام) على القوم، فقال: أيعجز أحدكم إذا
قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر الله عليه؟!..) (1).
(1) من لا يحضره الفقيه 4: 21 / 31 باب فيما يجب به التعزير والحد، دار صعب طبع 1401 ه.
13
الإنسان موجود مكرم
ومن جانب آخر تحاول العقيدة إشعار الإنسان - على الدوام - بأنه
موجود مكرم، له موقعه المهم في هذا الكون، من خلال وظيفة
الاستخلاف فيه وما عليه إلا أن يقوم بأداء وظيفة الاستخلاف هذه على
أحسن وجه، وأن يشكر خالقه على هذا التكريم والتمكين والهداية إلى
الدين الحق.
سأل رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حبه للقاء الله تعالى، فقال: بماذا
أحببت لقاءه؟ قال (عليه السلام): (لما رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله
وأنبيائه، علمت أن الذي أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببت لقاءه) (1).
معالم التحرير
ولقد أسهمت العقيدة إسهاما فعالا في تحرير الإنسان على محاور
عدة، منها: -
أولا: - حررت الإنسان من الاستبداد السياسي، فليس في الإسلام
استبداد إنسان بآخر، أو تسخير طبقة أو قومية لأخرى (فقد كان الدين،
على امتداد التأريخ الإسلامي، من أبرز العوامل لظهور حركات التحرر.
ومهما تكن نظرة الباحث تجاه الدين فلا يستطيع إبعاد العامل الديني وأثره
في بناء الوعي الثوري خلال هذه الفترة من تأريخ الاسلام.
فلم تكن ثورة أبي ذر (رحمه الله) وثورة الحسين (عليه السلام) إلا منطلقا لاتجاه واع
لتصحيح الانحراف في تأريخ الإسلام. ورغم كل الانحراف الذي تعرض
(1) كتاب الخصال: 33 باب الاثنين - منشورات جماعة المدرسين - قم.
14
له المسلمون على امتداد تأريخهم الطويل لم ينعدم في فترة من هذا
التأريخ اتجاه ثوري قوي في إعادة الإسلام إلى مجاري الحياة والقضاء
على الظلم والاستغلال واستعادة حقوق الإنسان المسلم وكرامته) (1).
كما حررت العقيدة الاسلامية الإنسان من عادة " تأليه البشر "، كعبادة
الملوك والأسر الحاكمة، وهي عادة كانت سائدة عند بعض الأمم القديمة
كالمصريين القدماء، وقد أبطل الإسلام نظريات التمييز بين إنسان وآخر،
سواء على أساس الجنس أو اللغة أو اللون أو المال أو القوة، ومقياس
التفاضل ينحصر في أمور معنوية هي التقوى والفضيلة، قال تعالى:
* (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) * (2).
إن الإسلام يحتل الأسبقية بإعلان مبدأ الحرية قبل الثورة الفرنسية بأكثر
من عشرة قرون.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبة له: (أيها الناس إن آدم لم يلد
عبدا ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار..) (3).
إلا أن الإسلام لم يجعل هذه الحرية الممنوحة للإنسان مطلقة، بحيث
يطلق العنان للإنسان ليفعل ما يشاء، بل جعل للحرية ضوابط وكوابح
حتى لا تؤدي إلى فوضى.
ومن هنا يبرز الفرق الشاسع بين العقيدة الإسلامية التي تربط الحرية
(1) دور الدين في حياة الإنسان، للشيخ الآصفي: 50 - دار التعارف ط 2.
(2) الحجرات 49: 13.
(3) فروع الكافي 8: 69 - دار صعب ط 3.
15
الإنسانية بالعبودية لله تعالى والخضوع الواعي والطوعي لسلطته، وبين
القوانين الوضعية التي تلقي بالإنسان في تيه لا يتفق مع قدرته ولا مع
طبيعته.
ومن هنا لا بد من توازن بين الحرية والعبودية، وليس هناك توازن في
هذا السبيل يطلق قدرات الإنسان، ويحافظ على طبيعته في آن واحد، إلا
بما نجده في الإسلام، عبودية لله، وحرية من سائر العبوديات، فلا
تكتمل حرية العبد إلا بعبوديته لله.. ولا تكتمل عبوديته لله إلا بتحرره من
عبادة سواه، فهنا توازن واتساق واضح بين الجانب الاجتماعي والجانب
الإيماني في شخصية المسلم عن طريق الحرية كما يراها الإسلام (1).
وعلى ضوء ما تقدم، فالعقيدة تقرر حقيقة أساسية هي أن جوهر
الحرية الحقيقية، هو العبودية لله، لأنها تعني التحرر من جميع السلطات
الجائرة، وليس في العبودية لله أي امتهان لكرامة الإنسان، بل هي على
العكس من ذلك تعزز شخصيته وتحافظ على مكانته،
فقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتشرف بكونه عبدا لله، ويحب أن يطلقوا
عليه صفة " العبودية " ويرفض الغلو الذي قد يؤدي إلى التأليه الباطل، كما
حصل لأهل الكتاب على الرغم من التحذير الإلهي لهم من الغلو في
أشخاص رسلهم، قال تعالى: * (يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا
على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم
(1) معالم شخصية المسلم، للدكتور يحيى فرغل: 79 - 80، منشورات المكتبة العصرية - طبعة عام
1399 ه.
16
وروح منه..) * (1).
إن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تحارب فكرة تأليه البشر من خلال التركيز
على صفة العبودية أحيانا.. قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (أنا عبد الله وأخو
رسوله) (2). وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (بالعبودية لله أفتخر) (3). على أن
فكرة تأليه البشر كانت سائدة في الأمم الأخرى، وتسربت إلى أتباع
الأديان السماوية فخالطت عقائد بعضهم، فالمسيحية - على سبيل
المثال - تدعي إلوهية المسيح، واليهودية تزعم أن عزيرا ابن الله!
ومن هنا تبرز حكمة وبعد نظر الإمام علي (عليه السلام) في تركيزه على صفة
العبودية ووقوفه بالمرصاد لكل دعوات الغلو التي نسبته إلى الربوبية،
جاء في الحديث: (أنه أتى قوم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فقالوا:
السلام عليك يا ربنا! فاستتابهم، فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة، وأوقد فيها
نارا وحفر حفيرة إلى جانبها أخرى، وأفضى بينهما، فلما لم يتوبوا،
ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الأخرى حتى ماتوا) (4).
وفي هذا الصدد قال (عليه السلام): (هلك في رجلان: محب غال، ومبغض
قال) (5).
ثانيا: حررت العقيدة الإسلامية الإنسان المسلم من شهوات نفسه
(1) النساء 4: 171.
(2) كنز العمال 13: ح 36410.
(3) بحار الأنوار 49: 129.
(4) وسائل الشيعة 18: 552. دار إحياء التراث العربي ط 5.
(5) نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح، 558 / حكم 469.
17
بعدما ربطت قلبه بالله والدار الآخرة، ولم تربطه بأهوائه ونزواته، لقد
زودت العقيدة عقل المسلم وإرادته بالحصانة الواقية من الانحراف أو إيثار
العاجل الفاني على الآجل الباقي، والنفس - في توجهات آل البيت (عليهم السلام) -
هي منطقة الخطر، لذلك تصدرت أولى اهتماماتهم.
ومن هنا نجد أن حديث النفس وضرورة السيطرة عليها يحتل مساحة
كبيرة من أقوال وحكم ومواعظ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلم يترك مناسبة إلا
واغتنمها في الحديث عن النفس لكونها قطب الرحى في عملية بناء
الإنسان.
لقد أخبرنا الذكر الحكيم: * (.. بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم) * (1) ولذلك فإن ما يلفت نظر الباحث أن الإمام
عليا (عليه السلام) - أيام حكومته العادلة - كان يوصي عماله على الأقاليم وكبار قادته
بالسيطرة على النفس، على الرغم من انتقائه الدقيق لهم، وكون أكثرهم
من ذوي الفضائل العالية والسجايا الحميدة، فمن كتاب له (عليه السلام) للأشتر لما
ولاه مصر: (هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك بن
الحارث الأشتر... أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته... وأمره أن يكسر نفسه
من الشهوات... فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله... فاملك
هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف
منها فيما أحبت أو كرهت وأشعر قلبك الرحمة للرعية) (2).
ومن وصية له لشريح بن هانئ أحد قادته العسكريين، لما جعله على
(1) الأنفال 8: 53.
(2) نهج البلاغة، لصبحي الصالح: 427.
18
مقدمة جيشه إلى الشام: (... واعلم أنك إن لم تردع نفسك عن كثير مما
تحب، مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك
مانعا رادعا...) (1).
ومن كتاب له (عليه السلام) كان قد وجهه إلى معاوية، كشف له فيه عن سر تمرده
على القيادة الشرعية، المتمثل في انحرافاته النفسية، فقال له: (فإن
نفسك قد أولجتك شرا، وأقحمتك غيا، وأوردتك المهالك، وأوعرت
عليك المسالك) (2).
فالانحراف النفسي له عواقب جسيمة، وخاصة من الذين يتصدون
لدفة القيادة بدون شرعية وجدارة.
وكان أهل البيت (عليهم السلام) مع عصمتهم المعروفة يطلبون من الله تعالى
العون على أنفسهم، تعليما وتهذيبا لغيرهم، ومما جاء من دعاء الإمام
زين العابدين (عليه السلام): (... وأوهن قوتنا عما يسخطك علينا، ولا تخل في
ذلك بين نفوسنا واختيارها، فإنها مختارة للباطل إلا ما وفقت، أمارة بالسوء
إلا ما رحمت) (3).
ونستنتج من كل ذلك، أنه لا يتم بناء الإنسان إلا بالسيطرة على النفس
وهو ما سيأتي الحديث عنه.
ثالثا: إن العقيدة الإسلامية حررت الإنسان من عبادة الطبيعة ومن
تقديس ظواهرها، ومن الخوف منها، يقول تعالى: * (ومن آياته الليل
(1) نهج البلاغة: 447.
(2) نهج البلاغة: 390.
(3) في ظلال الصحيفة السجادية، للشيخ مغنية: 100 - دار التعارف للمطبوعات ط 2.
19
والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر...) * (1).
لقد مر الإنسان بمرحلة الحيرة والتساؤل والقلق من مظاهر الطبيعة من
حوله، فهو لا يعرف شيئا من أسرارها وأسباب تقلب أحوالها، فأخذ
يقدسها ويقدم لها القرابين بسخاء، متصورا أنه سوف يأمن بذلك من
ثورات براكينها الملتهبة وزلازلها المدمرة وسيولها الجارفة وصواعقها
المحرقة، فعملت العقيدة على تنقية العقول من غواشيها، وفتحت
الطريق أمامها واسعا لاستثمار الطبيعة والتسالم معها، عندما رفعت ما كان
من حجب كثيفة بين الإنسان والطبيعة، وانكشف له بأن الطبيعة ومظاهرها
وما فيها من مخلوقات وحوادث كلها صادرة عن الله تعالى، وهي
مخلوقات مسخرة لخدمته، وما عليه إلا أن ينتفع بها ويتفكر فيها وبأصلها
حتى يصل عن طريقها إلى الخالق: * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت *
وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف
سطحت) * (2).
ولا بد من الإشارة إلى أن منهج العقيدة في بناء الإنسان " منهج
شمولي " ينظم علاقة الإنسان بنفسه وبربه وبالطبيعة من حوله، وكل توثيق
أو تطور في العلاقة بين الإنسان وربه فسوف ينعكس إيجابيا على علاقته
مع الطبيعة المسخرة بيد الله تعالى، فتجود على الإنسان المؤمن بالخير
والعطاء، لذلك طلب النبي " هود " (عليه السلام) من قومه - الذين ابتعدوا عن منهج
السماء فحبس عنهم المطر ثلاث سنين وكادوا يهلكون - أن يستغفروا
(1) فصلت 41: 37.
(2) الغاشية 88: 17 - 20.
20
ربهم عما سلف من ذنوبهم، وأن يتوبوا إليه بتصحيح مسيرتهم وتنظيم
علاقاتهم مع الله تعالى، وحينئذ سوف تنتظم علاقتهم مع الطبيعة فتجود
بالمطر والخير، قال لهم: * (يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء
عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) * (1).
وعليه فالعبادة الحقة، يجب أن تكون لله وحده، والخوف يجب أن
يكون من الذنوب، التي تثير سخط الله وتجلب انتقامه، فيستخدم الطبيعة
أداة للعقوبة، كما أغرق الله فرعون بأليم، وأرسل الريح العقيم التي
أهلكت قوم عاد، وهكذا نجد أن أكثر العقوبات التي حلت بالكافرين قد
نفذت بواسطة قوى الطبيعة، مما يكشف لنا العلاقة الترابطية بين الإنسان
والطبيعة، وفي هذا الصدد يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (وجدنا في كتاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. إذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع
والثمار والمعادن كلها) (2). ويقول ولده الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا فشا
الزنا ظهرت الزلازل، وإذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار
الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء..) (3).
وجملة القول أن الخوف الإنساني يجب أن يتركز على الذنوب
والخطايا التي تسبب تدمير المجتمعات ورفع البركات، أما الخوف من
الطبيعة والاعتقاد بأن بعض ظواهرها شرور لا تجتمع مع النظام السائد
على العالم أولا وحكمته وعدله ثانيا، فإنما هو ناشئ من نظراتهم الضيقة
(1) هود 11: 52.
(2) أصول الكافي 2: 374 / 2 كتاب الإيمان والكفر - دار صعب ط 4.
(3) الخصال، للشيخ الصدوق 1 - 2: 242 / باب الأربعة - منشورات جماعة المدرسين عام 1403 ه
.
21
المحدودة إلى هذه الأمور، ولو نظروا إلى هذه الحوادث في إطار النظام
الكوني العام لأذعنوا بأنها خير برمتها، فللوهلة الأولى تتجلى تلك
الحوادث شرا وبلية، ولكن المتعمق بها يرى أنها مدعاة إلى الخير
والصلاح، وأنها تكتسي لباس الحكمة والعدل والنظم، وتفصيل فلسفة
البلايا والشرور في العالم موكول إلى علم الكلام، ولكن فيما يتعلق ببحثنا
نعود ونؤكد بأن العقيدة الإسلامية أعادت صياغة عقل الإنسان تجاه
الطبيعة المحيطة به، بشكل يجعله أكثر حرية وتفاعلا وتسالما معها.
رابعا: تحرير الإنسان من الأساطير ومن الخرافة في الاعتقاد أو
السلوك، من أجل رفع الحواجز الوهمية التي تحول دون استخدام طاقة
العقل على نحو سليم، وكان الإنسان الجاهلي على سبيل المثال يتفاءل
ويتشائم بحركات الطير، فينطلق نحو العمل إذا اتجه الطير يمينا،
ويتراجع عن العمل إذا اتجه الطير شمالا، وكانت طبقة الكهان والمنجمين
تحتل موقع الصدارة في السلم الاجتماعي وتخدع الناس بادعائها علم
الغيب، وكان التطير يقيد الناس بحبال الوهم عن السعي والسفر، وكذا كان
الاستقسام بالأزلام، إذ يأخذ من قصد عملا - ثلاثة سهام -، يكتب على
أحدها: " إفعل " وعلى الآخر: " لا تفعل " ويترك الثالث هملا، ويمد يده
ليأخذ أحدها، فإن خرج الأول أقبل على عمله، وإن أصاب الثاني
توقف، وإن خرج الثالث أعاد الكرة! وكان السحر متفشيا بين الناس ينذر
بشر مستطير، فعملت العقيدة على محاربة هذه المظاهر، وكانت سببا
لتفتح العقول والسمو بالنفوس، وإخراج الناس من ظلمات الوهم
والخرافة إلى نور العلم والحقيقة..
قال الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس منا من تطير ولا من تطير له، أو تكهن
22
أو تكهن له، أو سحر أو سحر له) (1)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: (من ردته الطيرة
عن حاجته فقد أشرك) (2).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها
تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئا لم يكن شيئا) (3).
من جانب آخر حررت العقيدة عقل المسلم من استنتاجات المنجم،
فاعتبرت المنجم كالكاهن، كلاهما يسعيان إلى تقييد حركة الإنسان في
الحياة والتلبيس على عقله..
عن عبد الملك بن أعين، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني قد ابتليت
بهذا العلم - ويقصد التنجيم - فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت طالع الشر
جلست ولم أذهب، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة؟ فقال لي:
(تقضى؟ قلت: نعم. قال (عليه السلام): أحرق كتبك) (4).
ولا بد من التنويه إلى أن مدرسة آل البيت (عليهم السلام) الإلهية لا تعيب على
النجوم كعلم طبيعي يتطلع الإنسان من خلاله على معالم السماء التي تظله
ليصل من خلال ذلك إلى عظمة الخالق، ولكن تعيب على البعض ادعاءه
التوصل من خلالها إلى علم الغيب.
ومن الشواهد ذات الدلالة لسعي آل البيت (عليهم السلام) على تحرير الإنسان
المسلم من عادة التنجيم المستحكمة التي امتدت إلى عصور متأخرة،
(1) كنز العمال 10: 113.
(2) كنز العمال 10: 113.
(3) وسائل الشيعة 8: 262.
(4) وسائل الشيعة 8: 268.
23
ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى
الخوارج، وقد قيل له: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت، خشيت
ألا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم.
فقال (عليه السلام): (أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه
السوء؟ وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر؟ فمن صدقك
بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع
المكروه.. ثم أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم
إلا ما يهتدى به في بر أو بحر - إلى أن قال لهم - سيروا على اسم الله) (1).
(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 105.
24
المبحث الثاني: بناء فكر الإنسان.
للعقل مكانة كبيرة في الدين الإسلامي، فهو أصل في التوصل إلى
الاعتقاد الصحيح، وهو دليل من أدلة الاجتهاد، قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):
(.. ولكل شئ دعامة، ودعامة الدين العقل) (1).
ومن جانب آخر يشكل العقل دعامة الإنسان المؤمن، قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
(من كان له عقل كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة) (2).
وقد بلغت النصوص التي تتناول التنبيه إلى دور العقل المئات، ومن
خلال نظرة عامة إلى هذه النصوص نكتشف أن مشروع الإسلام في إعطاء
العقل دوره الحقيقي قد جاء على مرحلتين، فهو يبتدئ بتحرير العقل،
ثم ينتقل إلى توجيه طاقاته.
تحرير العقل:
هذه الخطوة الأولى من خطوات المشروع الإسلامي المذكور نكتشفها
في النصوص التي توجهت إلى نبذ القيود التي تقيد العقل وتمد من نشاطه
الحقيقي، وتقوده إلى أخطاء خطيرة بسبب ذلك.. وهذا ما نجده في
نموذجين بارزين:
الأول: نبذ التقليد الأعمى: وأمثلته في القرآن الكريم كثيرة جدا،
نقرؤها في سور متعددة ومشاهد متعددة:
(1) المحجة البيضاء، المحقق الكاشاني 1: 172 كتاب العلم مؤسسة الأعلمي ط 2.
(2) أصول الكافي 1: 11 كتاب العقل والجهل.
25
فبينما كان يؤكد افتقارهم إلى أدنى حجة ذات قيمة في ما يعتقدون من
عبادة الأوثان والعقائد الزائفة، ركز على أن كل ما يمتلكونه من حجة هو
أنهم وجدوا آباءهم على ذلك، فتمسكوا به.. * (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا
على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) * (1).
ثم يؤكد أن هذا هو ديدن هذا الصنف من الناس الذي أغلق على ذهنه
المنافذ.. * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا
وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * (2). وهكذا يسوق مقولتهم
هذه مرتين في آيتين متتابعتين ليجسد ما تنطوي عليه هذه المقولة من
تهافت، وما يغيب فيه هؤلاء من جهل متجذر موروث لا يصغي لدعوة
حق ولا لبرهان ساطع بل ليس لديهم أكثر من ترديد مقولتهم تلك * (أجئتنا
لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) * (3)؟! حتى لو جاءهم متحديا لما وجدوا
عليه آباءهم مبينا فساده.. * (قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه
آباءكم) *؟ حتى مع مثل هذه الاستثارة لا يبحثون عن برهان، ولا يفتحون
نافذة للنظرة، بل وقفوا دائما بتحجرهم الأول، و * (قالوا إنا بما أرسلتم به
كافرون) * (4)، و * (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) * (5)!! ويكرر القرآن
النكير على هؤلاء في مواضع آخر، لأنه إنما يواجه في مشروعه المعرفي
نظريات استحكمت وترسخت لدى أمم متتابعة، لا يستبعد أن يكون لها
(1) الزخرف 43: 22.
(2) الزخرف 43: 23.
(3) يونس 10: 78.
(4) الزخرف 43: 24.
(5) المائدة 5: 104.
26
امتداد في مستقبل الأمم أيضا.. فلقد تجاوزت هذه النظرية حدود
المعارف والمعتقدات إلى السلوك والمعاملات.. * (وإذا فعلوا فاحشة قالوا
وجدنا عليها آباءنا) * (1). و * (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) * (2)!!
بعد هذا يبين القرآن الكريم الجزاء الذي ينتظر قوما مضوا على هذا
النهج، مثيرا الأذهان إلى ضرورة الحذر من نهج كهذا.. * (فانتقمنا منهم
فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) * (3).
توجيه طاقة العقل
بعد أن حررت العقيدة الإسلامية العقل من القيود التي تأسره، أطلقته
إلى أمام وهي توجه طاقاته من خلال الالفات والتدبر في الكون والحياة،
من أجل بناء متكامل دينا ودنيا.. ويمكننا أن نشير إلى مجموعات من
آيات الذكر الحكيم توجه العقل إلى آفاق رحيبة متعددة، منها:
أولا: التدبر في آيات الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس:
قال تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا
عذاب النار) * (4).
(1) الأعراف 7: 28.
(2) الشعراء 26: 74.
(3) الزخرف 43: 25.
(4) آل عمران 3: 190 - 191.
27
* (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون) * (1).
* (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض..) * (2).
* (فلينظر الإنسان مم خلق) * (3).
* (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * (4).
* (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى
الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت * فذكر إنما أنت مذكر) * (5).
ومما يلفت النظر عناية القرآن بذكر مشاهد الكون عناية كبيرة من
خلال تكرار عرضها في أكثر من سورة، عرضا متنوعا، ودعوته الإنسان
بإلحاح إلى النظر والتأمل فيها، والتفكر في مجرى حوادثها، والأهم من
ذلك كله جعل هذا الكون منطلقا للوصول إلى الله تعالى خالقه ومبدعه.
وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يقرأ: * (إن في خلق السماوات
والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله
قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا
ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) * (6)، ويقول: (ويل لمن
قرأها ولم يتفكر فيها) وفي رواية أخرى: (ويل لمن لاكها بين فكيه
(1) الذاريات 51: 21 - 22.
(2) يونس 10: 101.
(3) الطارق 86: 5 - 6.
(4) عبس 80: 24.
(5) الغاشية 88: 17 - 21.
(6) آل عمران 3: 190 - 191.
28
ولم يتأملها).
وعن الإمام علي (عليه السلام): (أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام من الليل يتسوك
ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف
الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا
سبحانك فقنا عذاب النار) * (1).
وقد سلك الأئمة الأطهار (عليهم السلام) طريق الاستدلال على وجود الله تعالى
من خلال التأمل العقلي في الكون وما فيه من نظم دقيق وتناسق بديع،
وهو الدليل الذي أطلق عليه المتكلمون " دليل النظم ".
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (ولو فكروا في عظيم القدرة، وجسيم
النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة،
والبصائر مدخولة، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق، كيف أحكم خلقه،
وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر!
انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ
البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها وضنت على رزقها...
ولو فكرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلها، وما في الجوف من
شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبا،
ولقيت من وصفها تعبا...
فانظر إلى الشمس والقمر،... وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال،
(1) راجع الكشاف، للزمخشري 1: 453.
29
وطول هذه القلال، وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات..
فالويل لمن أنكر المقدر، وجحد المدبر، زعموا أنهم كالنبات ما لهم
زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، ولم يلجؤوا إلى حجة فيما ادعوا،
ولا تحقيق لما أوعوا..
وهل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان!) (1).
ومن ناحية أخرى يثير القرآن الكريم في الأذهان دواعي التفكر الجاد
والمثمر في ما يعرضه من معارف، فمرة بصيغة الاستفهام الاستنكاري،
كقوله تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (2).
ومرة بصيغة النفي للتصورات الساذجة، كقوله تعالى: * (وما خلقنا
السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم
لا يعلمون) * (3).
والمعروف أن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تجعل التفكر في ملكوت
السماوات والأرض عبادة، بل أفضل عبادة، يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
(أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته) (4).
وكان أتباع هذه المدرسة العالية وتلامذتها يكثرون من هذه العبادة
الفكرية التي تسهم بصورة فعالة في بناء الإنسان وإيصاله إلى مراتب
عرفانية عالية. فعلى سبيل المثال، كانت أكثر عبادة أبي ذر (رحمه الله) التفكر
(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 270 - 271.
(2) المؤمنون 23: 115.
(3) الدخان 44: 38 - 39.
(4) أصول الكافي 2: 55 / 3 كتاب الإيمان والكفر.
30
والاعتبار وقد سئلت أم أبي ذر عن عبادة أبي ذر فقالت: " كان نهاره أجمع
يتفكر في ناحية من الناس " (1).
وينبغي معرفة أن النظرة العامة إلى الوجود التي يرشد إليها الثقلان
- القرآن والعترة - هي الأصل الذي تنبثق منه جميع نظرات الإنسان
الفكرية واتجاهاته السلوكية، وهي الأساس في اختلاف الحضارات
والثقافات.
ثانيا: النظر في سنن التاريخ: حيث دعتنا العقيدة إلى تأمل أحداث
التاريخ بنظر ثاقب، وفكر فاحص، وصولا إلى العوامل التي كانت سببا في
تدهور المجتمعات، وسقوط الحضارات، أو نموها، قال تعالى: * (قد
خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * (2).
وقال تعالى: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنهم في الأرض ما لم
نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهر تجري من تحتهم
فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) * (3).
وقال تعالى: * (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم
بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين) * (4).
إنها دعوة تلح على الناس أن يحركوا عجلة عقولهم، وينظروا في تاريخ
من قبلهم، حتى لا يكونوا كالقطيع التائه يسير بلا راع نحو المجهول، وهي
(1) تنبيه الخواطر، الأمير ورام بن أبي فراس 1: 250 باب التفكر - دار صعب.
(2) آل عمران 3: 137.
(3) الأنعام 6: 6.
(4) يونس 10: 13.
31
دعوة ذات منهج مرسوم من أجل الاستفادة من تجارب الحضارات
السابقة ودراسة أسباب سقوطها، لا سيما وأن التاريخ يعيد نفسه قال
تعالى: * (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) * (1).
ولا بد من التنويه على " أن دور الدين ومسؤوليته في حياة الإنسان هو
إيجاد جو من الملائمة والانسجام بين سلوك وتفكير الإنسان وبين سنن
الله تعالى في الحياة، وتحويل مجرى حياة الإنسان إلى تيار هذه السنن
الإلهية التي جعلها الله نظاما لخلقه وتكوينه في هذا الكون " (2).
فالدين يوجه فكر الإنسان إلى النظرة العميقة والهادفة، وبطبيعة الحال
هناك فرق كبير بين النظرة السطحية الساذجة للحياة والتاريخ، وبين النظرة
العميقة والمتفحصة التي لا تقتصر على ملاحظة الشئ أو الحدث، وإنما
تنفذ إلى أعماقه، وترصد لوازمه ودلالاته بغية استنباط السنة التاريخية
التي تنطبق عليه، فعلى سبيل المثال يمر السائح على أهرامات مصر،
فينبهر لروعة بنائها، وشدة ارتفاعها، ويتمتع بمنظرها وينتهي كل شئ.
أما المفكر الواعي المتسلح بالعقيدة، فعندما يمر عليها، ترتسم في ذهنه
عدة تساؤلات: عن قدرات الإنسان، وعن الظلم الذي كان سائدا آنذاك
من خلال تسخير الفراعنة لأعداد كبيرة من الناس للعمل في بناء هذه
الأهرامات، وما لا قوه من العناء والتعب وصنوف التعذيب، كما يستنتج
ما تنطوي عليه فكرة الفراعنة الخاطئة عن الموت والبعث، بل يتزود
المؤمن الوعي بعد تلك المعارف بالعبرة النافعة وهو يشاهد خرائبها
فيتسائل في نفسه، أين ساكنيها وما مصيرهم؟!
(1) الأحزاب 33: 62.
(2) دور الدين في حياة الإنسان، للشيخ الآصفي: 121 - 122 - دار التعارف ط 2.
32
من أجل ذلك يرشد آل البيت (عليهم السلام) إلى أهمية الملاحظة الواعية والنظرة
العميقة التي لا تقتصر على ظواهر الأمور، بل تنفذ إلى الأعماق،
وما تنطوي عليه من أبعاد، ودلالات تضمنية أو التزامية. فعن الحسن
الصيقل، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تفكر ساعة خير من قيام ليلة؟
قال (عليه السلام): (نعم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تفكر ساعة خير من قيام ليلة) (1).
ولما مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بخرائب المدائن، أعطى لأصحابه درسا
حول العبرة من التأريخ، قال (عليه السلام): (إن هؤلاء القوم كانوا وارثين،
فأصبحوا مورثين، وإن هؤلاء القوم استحلوا الحرم فحلت فيهم النقم،
فلا تستحلوا الحرم فتحل بكم النقم) (2).
وقال (عليه السلام): (فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس
الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته..) (3).
وذهب الإمام علي (عليه السلام) إلى أبعد من ذلك، عندما أشار إلى أن السنة
التأريخية تنطبق على الجميع، في كل مكان وزمان، ولا تقتصر على تدمير
الكافرين والمستكبرين، بل تطال المؤمنين أيضا، إذا لم يلتزموا - عمليا -
بالمنهج الإلهي في الحياة، وإذا حادوا عن جادة الصواب وذلك حين
تختلف الكلمة وتسود الفرقة، وفي هذا الصدد يقول (عليه السلام): (وتدبروا
أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص
والبلاء.. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة والأهواء مؤتلفة..
(1) بحار الأنوار 71: 325، عن المحاسن: 26.
(2) كنز العمال 16: 205.
(3) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 290.
33
فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة، وتشتتت
الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين،
قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص
أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين) (1).
وكان من جملة وصيته الذهبية لابنه الحسن (عليه السلام) يحثه على التفكر في
أحوال الأمم الماضية، وهو ما يسمى اليوم ب " فلسفة التأريخ ": (أي بني
إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم،
وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني
بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم..) (2).
ثالثا: النظر في حكمة التشريع: والغرض من ذلك ترسيخ قناعة
المسلم بتشريعه وصوابيته وبيان صلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان،
من أجل أن تنقشع عن فكر المسلم غيوم الشبهات التي يثيرها أعداء
العقيدة من حوله. وإذا كانت بعض أحكام الدين الإسلامي توقيفية، تدعو
المسلم نحو التسليم بها، ولا يجدي معها إعمال العقل، كالأمور العبادية،
إلا أن هناك تشريعات في الإسلام ذات أبعاد اجتماعية كشف القرآن لنا
عن الحكمة الكامنة من وراء تشريعها لمصالح تعود إلى الفرد والمجتمع،
من قبيل قوله تعالى: * (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم
تتقون) * (3).
(1) نهج البلاغة: 296 - 297.
(2) نهج البلاغة: 393 - 394.
(3) البقرة 2: 179.
34
وقوله تعالى: * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم
وليتم نعمته عليكم) * (1).
كما كشفت لنا السنة عن جوانب كثيرة من حكمة التشريع، وعلى
سبيل المثال: كتب الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى محمد بن سنان
فيما كتب من جواب مسائله: (حرم الله قتل النفس لعلة فساد الخلق في
تحليله لو أحل وفنائهم وفساد التدبير.. وحرم الله تعالى الزنا لما فيه من
الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال وفساد
المواريث وما أشبه ذلك من وجوه الفساد..) (2).
رابعا: توجيه العقل إلى النظر، والتثبت في الرأي، واستقلالية التفكير
والقرار:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس
أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن
تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا) (3).
قال تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * (4).
نداء بليغ إلى النظر وإعمال الفكر، من خلال الاستنكار على
السطحيين والمغفلين المعاندين، أولا، ثم من خلال التقريع العنيف لهذه
الأصناف من الناس، ثانيا.
(1) المائدة 5: 6.
(2) من لا يحضره الفقيه 3: 369.
(3) ميزان الحكمة 8: 254، عن الترغيب والترهيب 3: 341.
(4) محمد 47: 24.
35
وقال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * (1).
فلا قيمة لدعوى لا تستند إلى برهان صحيح، وإذا كان الزمخشري قد
رأى أن هذا النص هو " أهدم شئ لمذهب المقلدين " (2). فإن فيه ما يفيد
أكثر من ذلك، إذ قد ينصرف لفظ المقلدين إلى من غلب عليهم التقليد،
لكن هذا النص حاكم على دائرة الفكر البشري بكامل أجزائها ونواحيها،
فقد يقع المفكرون - وكثيرا ما وقعوا - بأغلاط كبيرة نتيجة اعتمادهم بعض
الكليات العامة التي استقر في أذهانهم أنها بديهيات لا تحتاج إلى برهان،
بينما لم تكن هذه الكليات في حقيقة أمرها إلا تصورات صادرة عن أوهام
أو قصور في العقل. وهذا كثير في أغلاط أهل الجدل، بل قد يقع أحيانا
حتى في العلوم التطبيقية، حين ينظر إلى بعض الاستنتاجات على أنها
قوانين علمية ثابتة، في حين أنها استنتاجات قائمة على ملاحظات
ناقصة، وهكذا نلمس مدى أكبر لدعوة القرآن الكريم إلى تقديم البرهان
التام على كل مقولة ودعوى وسواء كانت في العلوم العقلية، أو في العلوم
التطبيقية.
ولا شك أن مساحة النظر والتدبر واسعة، سعة المعارف والمواقف،
وسنشير هنا إلى أثرين مهمين:
أحدهما عام عموم النص القرآني المذكور، وإن استهدف في ظاهره
العقل المقلد والمتابع، شأن طوائف الناس الذين يغلب عليهم التقليد في
عقائدهم ومواقفهم.
(1) البقرة 2: 111، النمل 27: 64.
(2) الكشاف 1: 178.
36
والأثر الثاني، مما جاء في لون خاص من ألوان المتابعة والتقليد، وهو
التقليد الأعمى لأشخاص استقر لهم في النفوس موقع كبير، تلاشى إلى
جنبه دور العقل وأثره في النظر والتفكير والنقد، وكأن هؤلاء الأشخاص
قد أصبحوا في أنفسهم ميزانا للحق، فلا يصح أن توزن أقوالهم وأعمالهم
أو تعرض للنقد والنظر، هذا النوع من التقليد الذي كان ولا يزال مصدرا
للكثير من الأخطار في العقائد والمواقف.. وقف إزاءه أمير المؤمنين (عليه السلام)
موقف الكاشف عن سر الخطأ فيه والمعلم للطريق الصحيح في التماس
المعارف، ذلك حين جاءه بعض من ذهله وقوف طلحة والزبير وعائشة
في صف واحد إزاء أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستنكر أن يجتمع هؤلاء على
خطأ، وذكر ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام) فأجابه (عليه السلام) مبتدءا جوابه بالتنبيه إلى
مصدر الوهم، منتقلا بعد ذلك إلى إعطائه المنهج السليم في المعرفة،
فقال له (عليه السلام): (إنك ملبوس عليك، إن دين الله لا يعرف بالرجال، بل
بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله) (1).
خامسا: توجيه الإنسان إلى كسب العلم والمعرفة:
من المسلمات التي لا تحتمل جدلا، أن الدين الإسلامي يحث بقوة
على كسب العلم والمعرفة، ومن يتأمل سور القرآن الكريم يجد ذلك
يتكرر كثيرا تصريحا أو تلميحا:
* (.. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا
الألباب) * (2).
(1) أمالي الطوسي: 625 / 1292 مؤسسة البعثة. بحار الأنوار 39: 239 / 28.
(2) الزمر 39: 9.
37
* (.. يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما
تعملون خبير) * (1).
* (وقل رب زدني علما) * (2).
* (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (3).
ولأهمية العلم فقد أخذ الله تعالى الميثاق على أهل الكتاب من أجل
تبيينه، وعدم احتكاره: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
للناس ولا تكتمونه..) * (4).
وبعد آيات القرآن تأتي أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار (عليهم السلام)
حيث تصب في هذا الاتجاه، وتقر بأن العلم يشكل عماد الدين وفيه حياة
الإسلام، وتحث على طلبه، وتكشف عن فضيلته، فمداد العلماء - في
نظر الإسلام - أفضل من دماء الشهداء، وفضل العالم على العابد كفضل
القمر على سائر النجوم، وفي هذا الصدد: يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (طلب
العلم أفضل عند الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله) (5)
ويكفي الاستشهاد بكلمة الإمام علي (عليه السلام) العميقة المغزى: (قيمة كل أمرء
ما يحسنه) (6). في الدلالة على حث أهل البيت (عليهم السلام) على كسب العلم
(1) المجادلة 58: 11.
(2) طه 20: 114.
(3) فاطر 35: 28.
(4) آل عمران 3: 187.
(5) كنز العمال 10: 131 / 28655.
(6) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 482 / حكم 81.
38
والمعرفة.
إمعن النظر في هذه المقارنة البديعة التي يعقدها الإمام علي (عليه السلام)
لكميل بن زياد النخعي حول تفضيل العلم على المال، قال (عليه السلام): (يا كميل
العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه
النفقة والعلم يزكو على الانفاق، وصنيع المال يزول بزواله.
يا كميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة
في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم، والمال محكوم
عليه.
يا كميل، هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر،
أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة) (1).
ونتيجة لهذا الزاد المعرفي الغني، انطلق الإنسان المسلم من أسر
الجهل والتخلف إلى آفاق العلم الواسعة، فأخذ يتأمل الظواهر الكونية،
ويكتشف أسرار الطبيعة، من خلال المنهج التجريبي الذي وجهته عقيدته
إليه، وهو المنهج الذي قام عليه العلم الحديث.
يقول: (جب) في كتابه: الاتجاهات الحديثة في الإسلام: " أعتقد أنه
من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون
المسلمون، قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية
ملموسة، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى
(1) نهج البلاغة: 496 / حكم 147.
39
أوروبا في العصور الوسطى " (1).
وللإنسان أن يقف مبهورا أمام عظمة العقيدة الإسلامية، التي أحدثت
ذلك الانقلاب الحضاري في نفوس أبناء الصحراء حتى صاروا طليعة
العالم كله في العلم والمعرفة وسائر جوانب الحضارة والمدنية.
العلم والإيمان:
وتجدر الإشارة إلى أن العقيدة تربط العلم بالإيمان، فالعلم بدون إيمان
كغرس بلا ثمر، العلم يدعو إلى الإيمان، والإيمان بدوره يحث على
العلم، والفصل بينهما يؤدي إلى عواقب لا تحمد عقباها.. يقول الشهيد
مرتضى المطهري: " قد أثبتت التجارب التأريخية، أن فصل العلم عن
الإيمان قد أدى إلى أضرار لا يمكن تعويضها، يجب معرفة الإيمان على
ضوء العلم، والإيمان يبتعد عن الخرافات في نور العلم، وبفصل العلم
عن الإيمان يتحول الإيمان إلى الجمود والتعصب الأعمى والدوران بشدة
حول نفسه، وعدم الوصول إلى مكان، والمكان الفارغ من العلم والمعرفة
ينقلب فيه المؤمنون الجهلة إلى آلة بيد كبار المنافقين، والذي رأينا ونرى
نماذج منهم في خوارج صدر الإسلام، والأدوار التي تلت بصور مختلفة..
والعلم بلا إيمان سراج في منتصف الليل بيد لص لسرقة أفضل البضائع،
ولهذا فإن الإنسان العالم بلا إيمان اليوم، لا يختلف عن الجاهل بلا إيمان
في الأمس أقل الاختلاف، من حيث طبيعة الأساليب والأفعال
وماهيتها " (2).
(1) راجع كتاب منهج التربية الاسلامية، محمد قطب: 119 - دار دمشق ط 2.
(2) الإنسان والإيمان، للشهيد المطهري 1: 15 طبع وزارة الارشاد الاسلامي.
40
وعليه فالعلم بحاجة إلى الإيمان كحاجة الجسد إلى روح، لأن العلم
لوحده عاجز بطبيعته عن بناء الإنسان الكامل، فالتربية العلمية الخالصة
تبني نصف إنسان لا إنسانا كاملا، وتصنع إنسانا قد يكون قويا وقادرا
ولكنه ليس فاضلا بالضرورة، هي تصنع إنسانا ذا بعد واحد، هو البعد
المادي، أما الإيمان فإنه يصوغ الشخصية في مختلف الأبعاد.
ولقد بلغ اغترار الأوربيين بالعلم حدا وصل إلى حد التأليه والعبادة،
وإن لم يقيموا شعائره العبادية في كنائسهم، ولما كان الدين يرتكز على
قواعد غيبية، خارج نطاق المادة، اعتبروه ظاهرة غير علمية.
وعلى هذا الأساس ظهر بينهم داء الفصل بين الدين والعلم، وهو
توجه غريب عن منهج الإسلام، " وليس أدل على هذا التماسك بين
الإيمان والعلم من هذه الدعوة الملحة، في الدين إلى طلب العلم
والاستزادة منه في كل مراحل العمر، وفي كل الحالات.. ومن هذه القيمة
الكبيرة التي يعطيها الدين للعلم والعلماء.
وإذا كان هناك صراع بين العلم والدين في بعض فترات التأريخ، كما
حدث ذلك في تأريخ المسيحية، فإن ذلك لا علاقة له بالدين، وإنما هو
لون من ألوان الانحراف عن الدين، ولا يكون الدين مسؤولا عما يرتكب
الناس بحقه من انحراف " (1).
ومما يؤسف له، أن بعض الأصوات ترتفع هنا وهناك تنادي بالفصل
بين العلم والدين، بدعوى أن أوربا تنكرت للدين فتقدمت علميا
وحضاريا، ونحن تمسكنا بالدين فتخلفنا، إن عقول هؤلاء إما قاصرة عن
(1) دور الدين في حياة الإنسان، للشيخ الآصفي: 69 - دار التعارف ط 2.
41
إدراك وظيفة العلم الذي هو أداة لكشف الحقائق الموضوعية، وتفسير
الواقع تفسيرا محايدا بأعلى درجة من الدقة والعمق. أو أن هذه العقول
جاهلة بمنهج الإسلام الذي ما انفك يدعو إلى العلم، وأغلب الظن أنها
عقول مأجورة تردد مزاعم الأعداء والحاقدين على الإسلام، وتغض
الطرف عن العواقب الروحية الجسيمة، التي حصلت من جراء فصل
العلم عن الدين: " وأوضح الأمثلة على ذلك، هذا العصر الذي نعيش فيه،
العصر الذي وصل فيه التقدم العلمي والمادي ذروته، ووصلت الإنسانية
إلى حضيضها من التقاتل الوحشي والتخاصم الذي يقطع أواصر
الإنسانية، ويجعلها تعيش في رعب دائم وخوف من الدمار، كما وصلت
إلى الحضيض في تصورها لأهداف الحياة وغاية الوجود الإنساني
وحصرها في اللذة والمتاع، وانحطاطها - تبعا لهذا التصور - إلى أحط
دركات الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية التي يعف عنها الحيوان " (1).
وعليه فإن العقيدة الإسلامية لها فضل كبير على مناهج التربية التي
تسعى لبناء الإنسان، لتأكيدها على دور الإيمان والعلم معا في بناء
شخصية الإنسان، وبفصل العلم عن الإيمان يغدو الإنسان كإبرة
مغناطيس تتأرجح بين الشمال والجنوب، وعليه فهو بحاجة ماسة إلى قوة
تتمكن من إيجاد ثورة في ضميره، وتمنحه اتجاها أخلاقيا يحقق
انسانيته، وهذا عمل لا يتمكن منه العلم بمعزل عن الدين.
(1) منهج التربية الاسلامية، محمد قطب: 115.
42
الفصل الثاني
البناء الاجتماعي والتربوي
قامت العقيدة بدور تغييري كبير على صعيد البناء الاجتماعي
والتربوي، يمكن الإشارة إليه من خلال النقاط التالية:
أولا: إثارة الشعور الاجتماعي
لقد كان إنسان ما قبل الإسلام يتمحور في سلوكه الاجتماعي حول
ذاته، وينطلق في تعامله مع الآخرين من منظار مصالحه وأهوائه، وينساق
بعيدا مع أنانيته. ولقد هبط في القاع الاجتماعي إلى درجة " الوأد " لأبنائه،
خشية الفقر والمجاعة، الأمر الذي استدعى التدخل الإلهي، لإنقاذ
النفوس البريئة من هذه العادة الاجتماعية القبيحة، قال تعالى: * (ولا تقتلوا
أولادكم خشية إملاق) * (1).
على أن أشد ما يسترعي الانتباه، أن ذلك الإنسان الجاهلي، الدائر
حول ذاته ومنافعها، قد غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة، يضحي بالنفس
والنفيس في سبيل دينه ومجتمعه، وبلغت آفاق التحول في نفسه إلى
المستوى الذي يؤثر فيه مصالح أبناء جنسه على منافع نفسه.
(1) الإسراء 17: 31.
43
وليس بخفي على أحد مستوى الإيثار الذي أبداه الأنصار مع
المهاجرين، إذ شاطروهم في كل ما يملكون، وحتى في بيوتهم
وأمتعتهم، ولم ينحصر هذا المستوى من الايثار بأفراد، بل شكل ظاهرة
اجتماعية عامة لم يشهد لها تاريخ الإنسانية نظيرا - وفي هذه الظاهرة نزل
قرآن كريم يبارك هذه الروح، ويخلد ذكر مجتمع تحلى بها، كنموذج من
نماذج التلاحم الاجتماعي والمؤاخاة.. قال تعالى: * (للفقراء المهاجرين
الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون
الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم
يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) * (1).
وينقض الإسلام أسسا في البناء الاجتماعي الجاهلي قوامها تعزيز
التقسيم الطبقي والقبلي للمجتمع، الذي كان يتشكل من طبقتين
أساسيتين، طبقة الأشراف، وطبقة العبيد، ولا بد لأبناء طبقة الأشراف
أن يبقوا هكذا، تجتمع لديهم الثروات ويحتكرون الشأن والوجاهة،
ولا بد لأبناء طبقة العبيد أن يبقوا هكذا يدورون في فلك الأسياد.. فقوض
الإسلام هذه الأسس وأقام محلها أسسا جديدة تساوي بين الناس في حق
الحياة وحق الكرامة، قال تعالى: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (2)، فتحرر أبناء
طبقة العبيد ومارسوا حقهم في الحياة، وارتفع عمار وسلمان وبلال عاليا
فوق طبقة أشراف قريش التي ما زالت تتخبط في ضلالات الجاهلية،
(1) الحشر 59: 8 - 9.
(2) الحجرات 49: 13.
44
كالوليد بن المغيرة وهشام بن الحكم وأبي سفيان وأمثالهم..
وحتى الأموال لم تعد حكرا على الأغنياء ليزدادوا ثراء، قال تعالى:
* (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * (1).
أساليب تنمية الشعور الاجتماعي:
لقد نمت العقيدة الشعور الاجتماعي لدى الفرد بوسائل عديدة، منها:
أ - إيقاظ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين:
من خلال تأكيد القرآن الكريم على مسؤولية الإنسان تجاه نفسه
وغيره، كقوله تعالى: * (وقفوهم إنهم مسؤولون) * (2)، وقوله تعالى:
* (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا..) * (3).
وقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإني مسؤول وإنكم مسؤولون) (4).
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير
الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته
وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة
(1) الحشر 59: 7.
(2) الصافات 37: 24.
(3) التحريم 66: 6.
(4) كنز العمال 5: 289.
45
عنهم..) (1).
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون
حتى عن البقاع والبهائم..) (2).
وكنظرة مقارنة، نجد أن المذاهب الاجتماعية الوضعية، بنيت على
أساس المسؤولية الفردية في هذه الحياة فحسب، وتأييدها بمؤيدات
قانونية كحجز الحرية، أو التعذيب، أو التغريم المالي أو العزل عن الوظيفة،
أو التسريح عن العمل، أو المكافأة بالمال أو الترقية في الوظيفة.. وما إلى
ذلك، وبمؤيدات اجتماعية كالثقة أو حجبها والتقدير أو التحقير.
أما المذهب الإسلامي، فلا يقتصر على مسؤولية الفرد أمام المجتمع
الذي يعيش بين ظهرانيه في هذه الحياة، وإنما ينمي في الفرد المسؤولية
العظمى أمام الخالق العظيم في حياة أخرى، وحينئذ يدفعه إلى التحديد
الذاتي أو الطوعي لرغباته، والشعور الاجتماعي نحو غيره، بغض النظر
عن القانون أو العرف أو الضمير، لأن الضمير قد يعجز عن مواجهة الغرائز
عند فقدان العقيدة الدينية، كما أنه ليس من الميسور توفير الرقابة
الاجتماعية في كل مكان، وبصورة دائمة، وعليه فإن هذه الرقابة الداخلية
لا توجد في غير العقيدة الدينية.
ب - تنمية روح التضحية والإيثار:
لقد حث القرآن الكريم على الايثار، وأشاد بروح التضحية التي اتصف
(1) صحيح مسلم 3: 1459 كتاب الإمارة - دار إحياء التراث ط 1.
(2) نهج البلاغة، خطبة 167.
46
بها المسلمون، فلما بات علي بن أبي طالب (عليه السلام) على فراش الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
يفديه بنفسه، فيؤثره بالحياة، أشاد الله تعالى بهذا الموقف التضحوي
الفريد، فأنزل: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف
بالعباد) * (1).
يقول الفخر الرازي: "... نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بات على
فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنه لما نام على
فراشه قام جبريل (عليه السلام) عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي:
بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، ونزلت الآية " (2).
وقدمت السيرة المطهرة القدوة الحسنة في هذا المقام، فقد روي عن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شاء
لشبع، ولكنه كان يؤثر على نفسه (3).
وهذا السلوك النبوي، ظهرت بصماته واضحة في سلوك أهل
بيته (عليهم السلام)، الذين يسيرون على نهجه، ويترسمون خطاه، ويترجمون
أقواله إلى واقع عملي ملموس: ".. عن محمد بن كعب القرظي، قال:
سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: (لقد رأيتني وإني لأربط الحجر
على بطني من الجوع، وإن صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار) (4)، كل
ذلك لأنه كان يؤثر على نفسه، ويفضل مصلحة غيره على مصلحته.
(1) تفسير مجمع البيان 1: 174. والآية من سورة البقرة 2: 207.
(2) التفسير الكبير، للفخر الرازي 5: 223.
(3) تنبيه الخواطر، للأمير ورام 1: 172 باب الايثار.
(4) أسد الغابة، لابن الأثير 4: 102 / 3783 - دار إحياء التراث العربي.
47
قال أبو النوار - بياع الكرابيس -: أتاني علي بن أبي طالب (عليه السلام): ومعه
غلام له، فاشترى مني قميصي كرابيس، فقال لغلامه: (اختر أيهما
شئت)، فأخذ أحدهما، وأخذ علي الآخر فلبسه (1).
ومن الشواهد التأريخية، التي تدل على ذلك التحول الاجتماعي
الكبير الذي أحدثته العقيدة، في فترة وجيزة، أنه أهدي لرجل من
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا أحوج إلى هذا
منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة
أهل أبيات حتى رجعت إلى الأول (2).
هكذا تربي العقيدة الإنسان المسلم على الشعور الاجتماعي، شعور
الفرد نحو غيره، فيتجاوز دائرة الذات إلى دائرة أرحب هي دائرة العائلة،
ثم تتسع اهتماماته لتشمل دائرة الجوار، ثم أبناء بلدته، وبعدها أبناء
أمته، وفي نهاية المطاف تتسع لدائرة أكبر فتشمل الإنسانية جمعاء.
ج - تنمية الشعور الجماعي:
وفي هذا الصدد، نجد فيض من الأحاديث التي تحث الفرد على
الانضمام للجماعة والانسجام معها، والانصباب في قالبها، بعد أن ثبت
عند العقلاء بأن في الاجتماع قوة ومنعة، وبعد أن أكد النقل على أن الله
تعالى قد جعل فيه الخير والبركة، يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (يد الله مع
(1) أسد الغابة، لابن الأثير 4: 103.
(2) أسباب النزول، لأبي الحسن النيسابوري: 281 - انتشارات الرضي. وفي طبعة عالم الكتب:
235.
48
الجماعة، والشيطان مع من خالف الجماعة يركض) (1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام
من عنقه) (2).
وفي كل ذلك دليل قاطع على أن الإسلام دين اجتماعي، يحاول ربط
الفرد بالجماعة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهنا لا بد من التنبيه على أن الحكام الظلمة، قد استغلوا مفهوم
" الجماعة " أبشع استغلال لتثبيت سلطانهم والمحافظة على عروشهم،
فأخذوا يصبون جام غضبهم على كل من يجهر بكلمة الحق ويقوم
بمعارضة تسلطهم اللامشروع، ويفضح أساليبهم غير الإسلامية، وكان
الأمويون - الذين اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا - يقتلون كل من خرج
عليهم بحجة أنه مفارق للجماعة، وكذلك سار العباسيون على ذلك
النهج، بل وتفوقوا على الأمويين في ابتكار أساليب القتل والتعذيب.
ومن يتصفح كتب التأريخ، يجد أنه ينقل صورا بشعة لأساليب التنكيل
والقتل التي مارسها الأمويون والعباسيون ضد العلويين بحجة واهية هي
الخروج عن الاجماع والجماعة.
على أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أوضح بجلاء مفهوم الجماعة الذي لا يعني
- بالضرورة - الكثرة، كما يتصوره السطحيون وكما يحرفه السلطويون، بل
يعني جماعة أهل الحق وإن قلوا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من فارق جماعة
(1) كنز العمال 1: 206.
(2) كنز العمال 1: 206 / 1035.
49
المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه قيل: يا رسول الله ما جماعة
المسلمين؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): جماعة أهل الحق وإن قلوا) (1).
وعودة إلى أصل المطلب، فقد تبين لنا بأن العقيدة تدعو الإنسان
المسلم إلى الانضمام إلى الجماعة، وهنا ثمة تساؤل يفرض نفسه، وهو
وجود أحاديث كثيرة في مصادرنا، تدعو الإنسان المسلم إلى إيثار العزلة،
وبالتالي الابتعاد عن الناس، يجيب مؤلف جامع السعادات، الشيخ
النراقي عن ذلك بقوله: (نظر الأولون إلى إطلاق ما ورد في مدح العزلة،
وإلى فوائدها وما ورد في مدحها، كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله يحب العبد
التقي الخفي)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في
سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب).
وقول الإمام الصادق (عليه السلام): (فسد الزمان، وتغير الإخوان، وصار
الانفراد أسكن للفؤاد)، وقوله (عليه السلام): (أقلل معارفك، وأنكر من تعرف
منهم).
إلى أن قال: فالصحيح أن يقال: إن الأفضلية منهما - أي المخالطة
والعزلة - تختلف بالنظر إلى الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة،
فينبغي أن ينظر إلى كل شخص وحاله.. أن الأفضل لبعض الخلق العزلة
التامة، ولبعضهم المخالطة، ولبعضهم الاعتدال في العزلة والمخالطة) (2).
ويمكننا التوفيق بين الطائفتين بالقول: إن الاتجاه الداعي إلى العزلة،
يمكن حمله على عدة وجوه، منها: أن التوجه للعبادة يتطلب - عادة -
(1) روضة الواعضين، للفتال النيسابوري: 334 - منشورات الرضي - قم.
(2) جامع السعادات، للنراقي 3: 195 - 197 - مطبعة النجف الأشرف 1383 ه ط 3.
50
الابتعاد عن الناس آنا ما، بغية الانقطاع إلى الله تعالى.
وهذا الأمر - بطبيعة الحال - لا ينطبق على جميع العبادات، فالحج
الذي هو عبادة ذات صبغة اجتماعية، يجتمع خلاله الناس من كل حدب
وصوب في مكان واحد، وزمان محدد، لأداء شعائر واحدة.
من جانب آخر يمكن حمل العزلة على تجنب مخالطة الأشرار، فقد
ورد في وصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر الغفاري (رضي الله عنه): (... يا أبا ذر، الجليس
الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء..) (1).
أما الاختلاط بالأخيار، فهو أمر مرغوب فيه، والإسلام - كما أسلفنا -
يحث عليه، وعلى العموم فهناك حالات استثنائية تستدعي العزلة عن
الناس، أما القاعدة العامة في الإسلام، فتؤكد على مخالطة الناس، والصبر
على أذاهم.
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على
أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) (2).
والإسلام يبغض العزلة التامة عن الناس مهما كانت مبرراتها، عبادية أو
غيرها، فلا رهبانية في الإسلام كما هو معروف، ومن الشواهد النقلية على
ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد رجلا، فسأل عنه فجاء، فقال: يا رسول الله
إني أردت أن آتي هذا الجبل فأخلو فيه فأتعبد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(لصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من
(1) مكارم الأخلاق، للطبرسي: 466 - مؤسسة الأعلمي - ط 6.
(2) كنز العمال 1: 154 / 769.
51
عبادته خاليا أربعين سنة) (1).
وعلى ضوء ذلك فهناك مواطن تتطلب من الفرد أن ينظم إلى الجماعة
وأن ينصهر بها، كمواطن الجهاد، وحضور الجماعة في المساجد،
والدراسة في مراكز التعليم المختلفة وغيرها.
ثانيا: تغيير نظم الروابط الاجتماعية
كان المجتمع الجاهلي يعتبر رابطة الدم والرحم أساس الروابط
الاجتماعية، فيضع مبدأ القرابة فوق مبادئ الحق والعدالة في حال
التعارض بينهما، والقرآن الكريم قد ذم هذه الحمية الجاهلية صراحة:
* (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية..) * (2).
وقد عملت العقيدة على إزالة غيوم العصبية عن القلوب، ولم تقر
بالتفاضل بين الناس القائم على القرابة والقومية أو اللون والمال والجنس،
وبدلا من ذلك أقامت روابط جديدة على أسس معنوية هي التقوى
والفضيلة.
وعليه فالعقيدة تنبذ كل أشكال العصبية، إذ لا يمكن التوفيق بين
الإيمان والتعصب.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم): من تعصب أو تعصب
له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه) (3).
(1) كنز العمال 4: 454 / 11354.
(2) الفتح 48: 26.
(3) أصول الكافي 2: 308 / 2 باب العصبية.
52
وقال (عليه السلام) أيضا: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل
[على] عصبية، وليس منا من مات على عصبية) (1).
وفي هذا المجال، يقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) رؤيته العلاجية لمرض
العصبية البغيض، ففي خطبته المعروفة بالقاصعة يقول (عليه السلام): (ولقد
نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ من الأشياء إلا عن علة
تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم
تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة، أما إبليس فتعصب على آدم
لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني، وأما الأغنياء
من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: * (نحن أكثر أموالا
وأولادا وما نحن بمعذبين) * فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم
لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور... فتعصبوا لخلال
الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر،
والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق،
والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض) (2).
ضمن هذا السياق قام حفيده علي بن الحسين (عليه السلام) بإيضاح مفهوم
العصبية، وما هو المذموم منها، عندما سئل عنها، فقال (عليه السلام): (العصبية
التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم
آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن
يعين قومه على الظلم) (3).
(1) سنن أبي داود 2: 332 / 4 باب في العصبية.
(2) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 13: 166 - دار إحياء التراث العربي ط 2.
(3) أصول الكافي 2: 308 / 7 باب العصبية كتاب الإيمان والكفر.
53
وهكذا نجد أن العقيدة قد عملت على قشع غيوم العصبية السوداء من
القلوب، وقامت بتشكيل هوية اجتماعية جديدة للناس تقوم على الإيمان
بالله ورسوله، وإشاعة مشاعر الحب والرحمة بدلا من مشاعر التعصب
والكراهية، فالعصبية التي تعني: " مناصرة المرء قومه، أو أسرته، أو وطنه،
فيما يخالف الشرع، وينافي الحق والعدل. وهي: من أخطر النزعات
وأفتكها في تسيب المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف طاقاتهم،
الروحية والمادية، وقد حاربها الإسلام، وحذر المسلمين من شرورها " (1).
ولعل من أبرز مظاهر التغيير الاجتماعي، الذي صنعته العقيدة أن
هناك أفرادا كانوا في أسفل السلم الاجتماعي في فترة ما قبل الإسلام،
فإذا هم بعد إشراق شمس الإسلام، يتصدرون قمة الهرم الاجتماعي،
فبلال الحبشي (رضي الله عنه) يصبح مؤذن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلمان الفارسي (رضي الله عنه) هو
رجل من بلاد فارس، تنقل من رق إلى رق، أصبح في عصر الإسلام
صحابيا جليلا، وحاكما عاما على بلاد كبيرة، وفوق كل ذلك غدا من أهل
البيت (عليهم السلام)، سأل رجل عليا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين أخبرني عن سلمان
الفارسي قال (عليه السلام): (بخ بخ سلمان منا أهل البيت، ومن لكم بمثل لقمان
الحكيم..) (2).
وكان زيد بن حارثة وابنه أسامة ممن ينبغي - وفق التقسيم الجاهلي -
أن يكونا في طبقة العبيد، فإذا بهما يقودان جيوش المسلمين في اثنتين
من أكبر الحملات الإسلامية عدة وعددا.
(1) أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، للسيد مهدي الصدر: 70.
(2) الاحتجاج، للطبرسي 1: 260.
54
ولم يكن من اليسير أن يتم هذا التحول الكبير في أفكار الناس
وعلاقاتهم، في هذه الفترة القصيرة من عمر الرسالة، لولا الدور التغييري
الكبير الذي اضطلعت به العقيدة الإسلامية.
ثالثا: الحث على التعاون والتعارف
نقلت العقيدة أفراد المجتمع من حالة التنافس والصراع إلى حالة
التعارف والتعاون.
والقرآن مصدر العقيدة الأول، يحث الناس على الاجتماع والتعارف،
يقول تعالى: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم...) * (1).
كما حث الناس على التعاون: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا
على الإثم والعدوان..) * (2).
وقد أثبتت تجارب البشرية أن في التعاون قوة، وأنه يؤدي إلى التقدم،
وكان المجتمع الجاهلي متخلفا، يعيش حالة الصراع بدافع العصبية
القبلية، أو طغيان الأهواء والمصالح الشخصية، أو بسبب احتكار البعض
لمصادر الكلأ والماء، فانتقل ذلك المجتمع - بفضل الإسلام - إلى مدار
جديد بعد أن تكرست فيه قيم التعاون والتكافل الاجتماعي.
وفي سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - الذي كان مصدرا لحضارة، وباعثا لنهضة -
نجد شواهد عديدة على حبه للتعاون والتكافل وحثه المتواصل عليهما،
منها: -
(1) الحجرات 49: 13.
(2) المائدة 5: 2.
55
أنه أمر أصحابه بذبح شاة في سفر، فقال رجل من القوم: علي ذبحها،
وقال الآخر: علي سلخها، وقال آخر: علي قطعها، وقال آخر: علي
طبخها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (علي أن ألقط لكم الحطب). فقالوا:
يا رسول الله، لا تتعبن - بآبائنا وأمهاتنا - أنت، نحن نكفيك؟!.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (عرفت أنكم تكفوني، ولكن الله عز وجل يكره من عبده إذا
كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم) فقام يلقط الحطب لهم (1).
وكما كره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الموقف السابق أن ينفرد الإنسان عن سربه
الاجتماعي، ويكتفي بموقف المتفرج لا يقوم بشئ من المشاركة معهم،
كذلك كره أن يصبح الإنسان كلا على جماعته، يعتمد على غيره في
عيشه وشؤونه، بدون مبرر معقول: ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل.. قالوا:
يا رسول الله، خرج معنا حاجا، فإذا نزلنا لم يزل يهلل الله حتى نرتحل،
فإذا ارتحلنا لم يزل يذكر الله حتى ننزل.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (فمن كان يكفيه علف دابته، ويصنع طعامه؟
قالوا: كلنا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كلكم خير منه) (2).
وأسهمت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في ترسيخ مبدأ التعاون والتكافل في
أذهان الناس وسلوكهم، فعلى سبيل الاستشهاد، كان علي بن الحسين (عليه السلام)
إذا جنه الليل، وهدأت العيون، قام إلى منزله، فجمع ما تبقى من قوت
أهله، وجعله في جراب، ورمى به على عاتقه، وخرج إلى دور الفقراء،
وهو متلثم، حتى يفرقه عليهم، وكثيرا ما كانوا قياما على أبوابهم
(1) مكارم الأخلاق، للشيخ الطبرسي: 251 - 252، مؤسسة الأعلمي ط 6.
(2) بحار الأنوار 76: 274 عن كتاب المحاسن.
56
ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا جاء صاحب الجراب (1).
وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) يتفقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل إليهم
الزبيل فيه العين والورق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون
من أي جهة هو.. وكان إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير،
وكانت صراره مثلا (2).
وقد حث الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم خاصة على تحقيق درجة أعلى من
المشاركة والتعاون فيما بينهم، قد تصل إلى حدود المثالية، فعن سعيد بن
الحسن، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (أيجيئ أحدكم إلى أخيه فيدخل يده
في كيسه، فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا، فقال (عليه السلام):
فلا شئ إذا، قلت: فالهلاك إذا، فقال (عليه السلام): إن القوم لم يعطوا أحلامهم
بعد) (3).
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) قدوة في مد يد العون إلى الآخرين، فعن
الفضل بن قرة، قال كان أبو عبد الله (عليه السلام) يبسط رداءه وفيه صرر الدنانير،
فيقول للرسول: (إذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته، وقل لهم: هذه
بعث إليكم بها من العراق، قال: فيذهب بها الرسول إليهم فيقول ما قال،
فيقولون: أما أنت فجزاك الله خيرا بصلتك قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما
جعفر فحكم الله بيننا وبينه، قال: فيخر أبو عبد الله ساجدا ويقول: اللهم
أذل رقبتي لولد أبي) (4).
(1) في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، للسيد محسن الأمين 2: 202 دار التعارف.
(2) المصدر السابق 4: 84 - دار صعب.
(3) أصول الكافي 2: 173 - 174 / 13 باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه.
(4) تنبيه الخواطر، للأمير ورام 2: 266 - دار صعب.
57
وقد حدد الإمام الصادق (عليه السلام) بدقة الملامح العبادية والاجتماعية
للشيعة، عندما خاطب أحد أصحابه بقوله: (يا جابر، أيكتفي من ينتحل
التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه،
ما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله،
والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، والتعهد للخيرات من الفقراء وأهل
المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف
الألسن عن الناس إلا من خير...) (1).
وعن محمد بن عجلان، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل رجل
فسلم، فسأله (عليه السلام): (كيف من خلفت من إخوانك؟ قال: فأحسن الثناء
وزكى وأطرى، فقال له: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال: قليلة،
قال (عليه السلام): وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة، قال: فكيف صلة
أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك لتذكر أخلاقا قل ما هي
فيمن عندنا، قال: فقال (عليه السلام): فكيف تزعم هؤلاء أنهم شيعة؟!) (2).
وهكذا نجد أن مسألة التعاون والتضامن، تتصدر سلم الأولوية في
اهتمامات الأئمة (عليهم السلام) الاجتماعية، لكونها الضمان الوحيد والطريق الأمثل
لإقامة بناء اجتماعي متماسك تغيب فيه عوامل الصراع والتناحر، وتسود
فيه عوامل الود والألفة.
والذي يثير الدهشة ويبعث على الاعجاب أن المجتمع العربي
الجاهلي الذي كان ممزقا، ولا تقيم له الأمم وزنا، غدا بفضل الرسالة
الإسلامية موحدا، مهاب الجانب، ذا عزة ومنعة، يقول الإمام علي (عليه السلام):
(1) مجموعة ورام 2: 185 دار صعب.
(2) أصول الكافي 2: 173 / 10 كتاب الإيمان والكفر.
58
(.. والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون
بالاجتماع..) (1).
رابعا: تغيير العادات والتقاليد الجاهلية
كان للعقيدة الأثر البالغ في تغيير الكثير من العادات والتقاليد، التي
تمتهن فيها كرامة الإنسان، وينتج عنها العنت والمشقة، وقد قام
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار بدور حضاري هام، في هذا المقام،
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم بعضهم لبعض، ولا بأس بأن
يتخلل عن مكانه) (2).
وسعى (صلى الله عليه وآله وسلم) لإشاعة وترسيخ عادات تربوية جديدة، روي عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل منزلا قعد في أدنى
المجلس حين يدخل..) وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إذا أتى أحدكم
مجلسا فليجلس حيث انتهى مجلسه) (3).
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل على تغيير العادات في مختلف مجالات الحياة، في
القيام والجلوس، وفي المطعم والمشرب والملبس وغير ذلك.
ولقد سار الإمام علي (عليه السلام) وفق السنة النبوية، فجاهد لتغيير ما بقي من
عادات جاهلية، لا تنسجم مع سماحة دين الإسلام، ودعوته إلى نبذ
التكلف والمظاهر الفارغة التي تشق على الناس، وتضع الحواجز
المصطنعة التي تحول دون التواصل فيما بينهم، بين العالم والجاهل،
(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 203 / خطبة 146.
(2) مكارم الأخلاق، للطبرسي: 26.
(3) المصدر السابق.
59
وبين الغني والفقير، وبين الحاكم والمحكوم، ويكفينا الاستشهاد على
ذلك، أن الإمام علي (عليه السلام)، لما لقيه الدهاقون - في الأنبار عند مسيره إلى
الشام - فترجلوا له، واشتدوا بين يديه، قال (عليه السلام): (ما هذا الذي صنعتموه؟
فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال (عليه السلام): والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم!
وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به في آخرتكم،
وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار) (1).
وله (عليه السلام) توصيات قيمة تسهم في بناء الإنسان، وتغرس في سلوكه
العادات الحسنة، منها قوله (عليه السلام): (أيها الناس، تولوا من أنفسكم تأديبها،
واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها) (2).
كل ذلك من أجل إجراء التغيير الاجتماعي المنشود، ولا يخفى بأن
البناء الاجتماعي بدون إجراء التغيير الداخلي في نفوس وعادات الأفراد،
يصبح عبثيا كالبناء بدون قاعدة قال تعالى: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم) * (3).
يقول العلامة السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره): " إن الدافع الذاتي هو
مثار المشكلة الاجتماعية، وأن هذا الدافع أصيل في الإنسان، لأنه ينبع
من حبه لذاته، وهنا يجئ دور الدين، بوضع الحل الوحيد للمشكلة،
فالحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية
العامة " (4).
(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 475 / حكم 37.
(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 538 / حكم 359.
(3) الرعد 13: 11.
(4) اقتصادنا، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر: 324 ط 11 - دار التعارف للمطبوعات.
60
الفصل الثالث
البناء النفسي
إن لكل عقيدة أثرا في نفس صاحبها، يدفعه إلى نوع من الأعمال
والتصرفات، ولقد كانت لعقيدة الإيمان بالله في المسلمين آثار في النفس
عميقة، كان لها نتائجها العملية في الحياة العامة، يمكن الإشارة إليها
- إجمالا - في النقاط التالية: -
أولا: طمأنينة النفس:
إن الإنسان المتدين يجد في العقيدة اطمئنانا على الرغم من عواصف
الأحداث من حوله، فهي تدفع عنه القلق والتوتر، وتخلق له أجواء نفسية
مفعمة بالطمأنينة والأمل، حتى ولو كان يعيش في بيئة غير مستقرة أو خطرة.
وتاريخ الإسلام يحدثنا بما لا يحصى من مصاديق ذلك، فعلى الرغم
من أن المسلمين الأوائل كانوا يعيشون ظروفا صعبة، حيث الحروب
المتوالية التي أثارتها قريش وحلفاؤها، وما صاحبها من مقاطعة اقتصادية
وعزلة اجتماعية وضغوط نفسية، إلا أنهم كانوا يتمتعون بمعنوية عالية،
ويندفعون للقتال بنفس مطمئنة إلى ثواب الله ورحمته.
عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم بدر: (قوموا إلى جنة عرضها
السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة
61
عرضها السماوات والأرض؟! قال: نعم، قال: بخ بخ! لا والله يا رسول
الله، لا بد أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها)، فأخرج تميرات من
قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها
حياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل (1).
فالبيئة التي يتواجد فيها هذا المجاهد كانت خطرة، فهو يعيش أجواء
حرب بدر، ولكن بيئته النفسية كانت سعيدة، حيث يأمل العيش في جنة
عرضها السماوات والأرض فالمسلم بفضل عقيدة الإيمان بالله تعالى
يشعر بالرضا والاطمئنان بما يقع في محيطه من أحداث، ويوطن نفسه
على قضاء الله وقدره، فالمصيبة التي تصيبه في حاضره، قد تتحول إلى
بركة، والقرآن الكريم ينمي هذا الاحساس في نفس المؤمن قال تعالى:
* (.. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * (2).
وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تعمق هذا الشعور في نفوس المسلمين،
فقد بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) كتابا إلى ابن عباس، وكان ابن عباس يقول:
ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانتفاعي بهذا الكلام: (أما
بعد، فإن المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن
ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك
منها) (3).
(1) السيرة النبوية، لأبي الفداء 2: 420 - دار الرائد العربي ط 3.
(2) البقرة 2: 216.
(3) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 378 - كتاب 22.
62
صحيح أن الإنسان العادي بطبعه يمتلكه اليأس والقنوط عند
المصائب، كما أشار القرآن صراحة لذلك بقوله: * (... وإن مسه الشر
فيئوس قنوط) * (1).. * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه
ليئوس كفور) * (2)، ولكن الإنسان المؤمن المتسلح بالعقيدة وقور عند
الشدائد، صبور عند النوازل، لا يتسرب الشك إلى نفسه: * (.. لا ييئس من
روح الله إلا القوم الكافرون) * (3).
يصف مولى الموحدين (عليه السلام) أولياء الله فيقول: (.. وإن صبت عليهم
المصائب لجؤوا إلى الاستجارة بك، علما بأن أزمة الأمور بيدك،
ومصادرها عن قضائك) (4).
والملاحظ أنه في الوقت الذي يركز فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) في توصياته
على عدم اليأس من روح الله، فإنه يؤكد في تعاليمه التربوية العالية على
اليأس عما في أيدي الناس، لكي يكون الإنسان متكلا على ربه،
ولا يكون كلا على غيره، يقول (عليه السلام): (الغنى الأكبر اليأس عما في أيدي
الناس) (5).
أساليب العقيدة في مواجهة المصائب:
ضمن هذا السياق، تخفف العقيدة في نفوس معتنقيها من الضغوط
(1) فصلت 41: 49.
(2) هود 11: 9.
(3) يوسف 12: 87.
(4) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 349.
(5) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 534.
63
والأزمات النفسية التي يتعرضون لها، فتصبح ضعيفة الأثر والأهمية،
ضمن أساليب عديدة، منها:
أ - بيان طبيعة الحياة الدنيا التي يعيش فيها الإنسان: وهذه المعرفة
سوف تظهر بصماتها واضحة في وعيه وسلوكه، فالعقيدة من خلال
مصادرها المعرفية تبين طبيعة الدنيا وتدعوا إلى الزهد فيها.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (أيها الناس، انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين
فيها، الصادفين عنها، فإنها عما قليل تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف
الآمن.. سرورها مشوب بالحزن..) (1).
وقال أيضا: (... وأحذركم الدنيا، فإنها دار شخوص، ومحلة تنغيص،
ساكنها ضاعن، وقاطنها بائن، تميد بأهلها ميدان السفينة..) (2).
وكان من الطبيعي والحال هذه أن تحذر العقيدة من التعلق بأسباب
الدنيا الفانية الذي ينتج آثارا سلبية تنعكس على نفس المسلم، فعن
علقمة، عن عبد الله، قال: نام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حصير فقام وقد أثر
في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما لي
وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) (3).
ويقول وصيه الإمام علي (عليه السلام): (وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة،
وليست بدار نجعة، قد تزينت بغرورها، وغرت بزينتها، دارها هانت على
ربها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها وحياتها بموتها، وحلوها
(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 148 خطبة / 103.
(2) نهج البلاغة: 310.
(3) سنن الترمذي 4: 508 / 2377 باب 44 - دار الفكر ط 1408 ه.
64
بمرها لم يصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضن بها على أعدائه، خيرها زهيد
وشرها عتيد. وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خير دار
تنقض نقض البناء، وعمر يفنى فيها فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع
السير..) (1).
يقول الشيخ الديلمي: ما عبر أحد عن الدنيا كما عبر أمير المؤمنين (عليه السلام)
بقوله: (دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا تسلم
نزالها، أحوالها مختلفة، وتارات متصرفة، والعيش فيها مذموم، والأمان
فيها معدوم، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، وتفنيهم
بحمامها...) (2).
وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الادراك العميق للدنيا إلى حذر شديد
منها، ويكفينا الاستدلال على ذلك: سأل معاوية ضرار بن ضمرة الشيباني
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى
الليل سدوله، وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ
السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: (يا دنيا! يا دنيا!! إليك عني، أبي
تعرضت؟! أم إلي تشوقت؟! لا حان حينك، هيهات غري غيري، لا حاجة
لي فيك، قد طلقتك ثلاثا، لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير،
وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم
المورد) (3).
(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 167 / خطبة 113.
(2) إرشاد القلوب، للديلمي 1: 30 - منشورات الرضي - قم.
(3) تنبيه الخواطر، الأمير ورام 1: 79 / باب العتاب.
65
ومن جملة تلك الشواهد، نجد أن العقيدة تكشف طبيعة الدنيا وعاقبة
من ينخدع بها أو يركن إليها، وتبين قصور رؤية من ينشد الراحة التامة
فيها، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال لأصحابه: (لا تتمنوا المستحيل، قالوا:
ومن يتمنى المستحيل؟! فقال (عليه السلام): أنتم، ألستم تمنون الراحة في الدنيا؟
قالوا: بلى، فقال (عليه السلام): الراحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة) (1).
ب - إن المصائب تستتبع أجرا وثوابا: الأمر الذي يخفف من وقع
المصائب على الإنسان، فيواجهها بقلب صامد، ونفس مطمئنة إلى ثواب الله
ورحمته، فلا تترك في نفسه أثرا أكثر مما تتركه فقاعة على سطح الماء.
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (المصائب مفاتيح الأجر) (2).
وكتب رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) يشكو إليه مصابه بولده، فكتب
إليه (عليه السلام): (أما علمت أن الله يختار من مال المؤمن ومن ولده ونفسه ليأجره
على ذلك) (3).
ج - إلفات نظر المسلم إلى المصيبة العظمى: وهي مصيبته في دينه،
مما يهون ويصغر في نفسه المصائب الدنيوية الصغيرة، وهي حالة
امتصاص بارعة للضغوط النفسية تقوم بها العقيدة، ويحتل هذا التوجه
مركز الصدارة في سيرة أهل البيت التربوية، روي أنه رأى الصادق (عليه السلام)
رجلا قد اشتد جزعه على ولده، فقال (عليه السلام): (يا هذا جزعت للمصيبة
الصغرى، وغفلت عن المصيبة الكبرى، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعدا
(1) أعلام الدين، للديلمي: 278.
(2) بحار الأنوار 82: 122 - عن مسكن الفؤاد.
(3) بحار الأنوار 82: 123 - عن مشكاة الأنوار: 280.
66
لما اشتد عليه جزعك، فمصابك بتركك الاستعداد له، أعظم من مصابك
بولدك) (1).
وكان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول عند المصيبة: (الحمد لله الذي لم يجعل
مصيبتي في ديني، والحمد لله الذي لو شاء أن يجعل مصيبتي أعظم مما
كانت، والحمد لله على الأمر الذي شاء أن يكون فكان) (2).
من جميع ما تقدم، نخلص إلى أن العقيدة تصوغ نفوسا قوية مطمئنة،
تواجه عواصف الأحداث بقلب صامد ومطمئن إلى قضاء الله وقدره،
وترسم العقيدة للإنسان خط سيره التكاملي، وعليه فالإنسان بلا عقيدة
كالسفينة بلا بوصلة، سرعان ما تصطدم بصخور الشاطئ فتتحطم.
ثانيا: تحرير النفس من المخاوف:
مما لا شك فيه، أن الخوف يبدد نشاط الفرد، ويشل طاقته الفكرية
والجسمية، وكان الإنسان الجاهلي في خوف دائم من أخيه الإنسان
ودسائسه، ومن الطبيعة المحيطة به وكوارثها، ومن الموت الذي لا سبيل
له إلى دفعه، ومن الفقر والجدب، ومن المرض وما يرافقه من آلام،
وتخفف العقيدة من وطأة الاحساس بتلك المخاوف التي تشل طاقة
الإنسان عن الحركة والانتاج، وتجعله غرضا للهموم والهواجس.
الموت تحفة!
ينبه القرآن الكريم إلى حقيقة أزلية، على الإنسان أن يوطن نفسه
(1) روضة الواعظين، للفتال النيسابوري: 489 - منشورات الرضي - قم.
(2) الكافي، للكليني 3: 262 / 42 باب النوادر.
67
عليها، وهي: * (كل نفس ذائقة الموت) * (1).
وعليه فلا بد مما ليس منه بد، والموت لا بد أن يدرك الحي يوما ما،
كما أدرك من قبله، وهو شئ لا عاصم منه.. قال تعالى: * (أينما تكونوا
يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة..) * (2). وقال: * (قل لن ينفعكم الفرار
إن فررتم من الموت..) * (3).
فالقرآن - إذن - يؤكد أن الموت لا بد منه، ثم أنه أمر منوط بإذن الله
تعالى وليس بيد غيره، وهذه حقيقة لها انعكاسات إيحائية على نفس
الإنسان، بأن أي قوة أرضية أو سماوية لا تستطيع - مهما أوتيت من قوة -
أن تسلب الحياة عن الإنسان قال تعالى: * (ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن
الله كتابا مؤجلا..) * (4).
ولقد بين القرآن الكريم زيف مزاعم اليهود الذين كانوا مع حرصهم
الشديد على الحياة يتصورون أنهم أولياء الله دون غيرهم، فكشف عن
زيف مزاعمهم بهذا التحدي الذي يخاطب دفائن النفوس، ذلك أن
المؤمن بالله حقا لا يخشى الموت إذا حل بساحته، فالموت هو انتقال من
دار فانية إلى دار باقية، واليهود بما يمتازون به من نزعة مادية طاغية،
يخشون الموت ويتشبثون بالحياة، ومن هنا واجههم القرآن الكريم بهذا
التحدي البليغ قال تعالى: * (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله
(1) آل عمران 3: 185.
(2) النساء 4: 78.
(3) الأحزاب 33: 16.
(4) آل عمران 3: 145.
68
من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت
أيديهم والله عليم بالظالمين) * (1).
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (... فما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى
البقاء من أحبه) (2). والمثير في الأمر أن العقيدة في الوقت الذي تخفف
من خوف الإنسان من الموت، تصور الموت للمؤمن كأنه تحفة! ينبغي
الإقدام عليه، وفي ذلك يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (تحفة المؤمن
الموت) وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن، إذ لا يزال فيها في عناء
من رياضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشيطان، فالموت إطلاق له من
العذاب، والإطلاق تحفة في حقه لما يصل إليه من النعيم الدائم (3).
وقال الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) لأصحابه يوم عاشوراء: (صبرا
يا كرام! فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان
الواسعة والنعيم الدائم، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟..) (4).
من جانب آخر، تدعو مدرسة آل البيت (عليهم السلام) إلى ضرورة معرفة الموت،
فإن معرفة الشئ قد تبدد المخاوف منه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إذا
هبت أمرا فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه) (5)، وقد روي
عن الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) أنه قال لمريض من أصحابه، عندما
دخل عليه فوجده يبكي جزعا من الموت: (يا عبد الله، تخاف من
(1) الجمعة 62: 6 - 7.
(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 81 / خطبة 38.
(3) تنبيه الخواطر، الأمير ورام 1 - 2: 268 باب ذكر الموت.
(4) معاني الأخبار، للصدوق: 288 - منشورات جماعة المدرسين - ط 1379 ه.
(5) نهج البلاغة: قصار الحكم / 175.
69
الموت لأنك لا تعرفه، أرأيتك إذا اتسخت وتقذرت، وتأذيت من كثرة
القذر والوسخ عليك، وأصابك قروح وجرب، وعلمت أن الغسل في
حمام يزيل ذلك كله، أما تريد أن تدخله، فتغسل ذلك عنك أو تكره أن
تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال: بلى يا ابن رسول الله، قال (عليه السلام): فذاك
الموت هو ذلك الحمام، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك،
وتنقيتك من سيئاتك، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته، فقد نجوت من كل
غم وهم وأذى، ووصلت إلى كل سرور وفرح)، فسكن الرجل واستسلم
ونشط، وغمض عين نفسه، ومضى لسبيله (1).
ضمن هذا الإطار، قيل للإمام الصادق (عليه السلام): صف لنا الموت، قال (عليه السلام):
(للمؤمن كأطيب ريح يشمه، فينعس لطيبه، وينقطع التعب والألم كله
عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد..) (2).
هكذا تقدم العقيدة إشعاعا من الأمن يخفف من وطأة الموت، فإنه
للمؤمن تحفة وراحة. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (شيئان يكرهما ابن آدم: يكره
الموت فالموت راحة للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل
للحساب) (3).
والأئمة (عليهم السلام) يؤكدون على الاكثار من ذكر الموت، لما فيه من آثار
تربوية قيمة، فهو يميت الشهوات في النفس، ويهون مصائب الدنيا التي
تعصف بالإنسان مثل ريح السموم، يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (أكثروا
(1) معاني الأخبار، للصدوق: 290.
(2) عيون أخبار الرضا، لابن بابويه 2: 248 - مؤسسة الأعلمي ط 1.
(3) روضة الواعظين، للفتال النيسابوري: 486 في ذكر الموت.
70
من ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب، ويزهد في الدنيا) (1).
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (أكثروا ذكر الموت، ويوم خروجكم من
القبور، وقيامكم بين يدي الله عز وجل تهون عليكم المصائب) (2).
ومن وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن (عليهما السلام): (يا بني أكثر من ذكر
الموت، وذكر ما تهجم عليه، وتفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد
أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك) (3).
وقال (عليه السلام) أيضا: (من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير) (4).
ونعود لنقول إن العقيدة تحرر النفوس من شبح الخوف من الموت من
خلال التأكيد على أنه حقيقة لا بد منها، يجب التسليم بها، والتسالم معها عبر
معرفة حقيقة الموت، وأنه للمؤمن راحة، وبدلا من نسيانه أو تناسيه، يجب
أن نديم ذكره لما في ذلك من معطيات إيجابية قد أشرنا إليها فيما سبق.
الرزق مضمون لطالبه:
هناك خوف ينتاب الإنسان، وينغص عليه حياته، وهو الخوف من
الفقر، لكن العقيدة تبدد هذا الخوف من خلال التأكيد على حقيقة واضحة
كالشمس في رابعة النهار، وهي أن مقادير الرزق بيد الله تعالى، وقد
ضمنها لعباده، وعليه فلا مبرر لهذه المخاوف، ومن يقرأ القرآن يجد
آيات كثيرة، تحث على إزالة أسباب الخوف من الفقر التي أدت بالجاهلي
(1) تنبيه الخواطر 1: 269.
(2) الخصال، للصدوق 2: 616 حديث الأربعمائة.
(3) نهج البلاغة: 400 كتاب 31.
(4) روضة الواعظين: 490.
71
إلى قتل أبنائه قال تعالى: * (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) * (1). وقال
تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم) * (2).
وجاءت أحاديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الأطهار (عليهم السلام) على هذا
المنوال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أبواب الجنة مفتحة على الفقراء
والمساكين، والرحمة نازلة على الرحماء، والله راض عن الأسخياء) (3).
ويقول وصيه الإمام علي (عليه السلام): (.. عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم،
وقدر أقواتهم..) (4).
من جهة أخرى، قاموا بتصحيح مفهوم الناس عن الرزق، صحيح أن
الله تعالى قد ضمن أرزاق عباده، ولكن لا يعني ذلك أنه يشجعهم على
التواكل والكسل، والقعود والابتعاد عن العمل، وإنما ربط تعالى تحصيل
الرزق بشرط السعي والطلب، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (اطلبوا الرزق
فإنه مضمون لطالبه) (5).
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضرب بالمر - أي المسحاة - ويستخرج
الأرضين، وأنه أعتق ألف مملوك من كد يده (6).
وكان (عليه السلام) يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى كلت يده،
(1) الذاريات 51: 58.
(2) الإسراء 17: 31.
(3) روضة الواعظين، للفتال النيسابوري 2: 454.
(4) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 124 / خطبة 91.
(5) الارشاد، للشيخ المفيد: 160 - منشورات مكتبة بصيرتي - قم.
(6) الكافي 5: 74 / 2.
72
ويتصدق بالأجر، ويشد على بطنه حجرا (1).
فلم يكن من عمله الشاق هذا، حريصا على جمع المال لذاته، فالإمام
علي (عليه السلام) لا تغره بيضاء ولا صفراء، بل كان يطلب الرزق الحلال من حله
وينفقه في محله.
" ولما كانت النفوس مشغوفة بالمال، مولعة بجمعه واكتنازه، فحري
بالمؤمن الواعي المستنير، أن لا ينخدع ببريقه، ويغتر بمفاتنه، وأن يتعظ
بحرمان المغرورين به، والحريصين عليه، من كسب المثوبة في الآخرة،
وإفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم وكفافهم في الدنيا، فإنهم خزان أمناء،
يكدحون ويشقون في ادخاره ثم يخلفونه طعمة سائغة للوارثين، فيكون
عليهم الوزر ولأبنائهم المهنى والاغتباط " (2).
هكذا تستأصل العقيدة من النفوس جذور الخوف من الفقر، وتجعله
يسعى بكل اطمئنان لضمان متطلبات عيشه الكريم.
المرض يمحو الذنب.. ويستدعي الثواب!
من جانب آخر لطفت العقيدة من مخاوف الإنسان الدائمة من المرض
من خلال التأكيد على حقيقة بديهية، هي إن كل جسم معرض للسقم،
يقول الإمام علي (عليه السلام): (لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى.
بينما تراه معافى إذ سقم، وبينما تراه غنيا إذ افتقر) (3).
(1) شرح النهج 1: 7.
(2) أخلاق أهل البيت، للسيد مهدي الصدر: 143 - دار الكتاب الاسلامي.
(3) نهج البلاغة: 551 حكم 426.
73
كما أكدت على أن المرض يسقط الذنب، يقول الإمام السجاد (عليه السلام):
(إن المؤمن إذا حم حمى واحدة، تناثرت الذنوب منه كورق الشجر..) (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (صداع ليلة يحط كل خطيئة إلا الكبائر) (2).
وإضافة لذلك فإن فيه الثواب الجزيل ما يخفف من وطأته على
النفوس، يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (عجبت من المؤمن وجزعه من السقم،
ولو يعلم ما له في السقم من الثواب، لأحب أن لا يزال سقيما حتى يلقى
ربه عز وجل) (3).
ويحدد الإمام الرضا (عليه السلام) فلسفة المرض بقوله: (المرض للمؤمن تطهير
ورحمة، وللكافر تعذيب ولعنة، وإن المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا
يكون عليه ذنب) (4).
ونعود لنقول بأن الله لم يجعل المرض عبثا، بل جعله وسيلة لامتحان
الإنسان ومعرفة صبره على النوازل، لذلك امتحن به أنبياءه والصالحين من
عباده، فأيوب (عليه السلام) - كما هو معروف - كان ابتلاؤه في جسده: (ولم يبق منه
عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك كله
صابر محتسب، ذاكر لله في ليله ونهاره وصباحه ومسائه، وطال مرضه
حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده، وانقطع عنه
الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته التي كانت ترعى له حقه
(1) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، للشيخ الصدوق: 228 - مكتبة الصدوق - طهران.
(2) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، للشيخ الصدوق: 230.
(3) كتاب التوحيد، للصدوق: 400 - مؤسسة النشر الإسلامي - قم.
(4) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، للصدوق: 229 باب ثواب المرض.
74
وتعرف قديم إحسانه إليها.. ولم يزد هذا كله أيوب (عليه السلام) إلا صبرا واحتسابا
وحمدا وشكرا، حتى إن المثل ليضرب بصبره) (1). فكان نتيجة هذا
الصبر والاحتساب أن رد الله تعالى إليه كل ما أخذ منه كرما وإحسانا.
والعقيدة في الوقت الذي تأمر المسلم بالتزام الصبر، تنصحه بعدم
الشكوى من المرض، فالشكوى تعني ضمن ما تعنيه، اتهام الله تعالى في
قضائه، كما أنها تحط من قدر الإنسان في نظر الناس، وتبعث على
الشماتة به أو التهكم عليه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (كان لي فيما مضى
أخ في الله، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه.. وكان لا يشكو وجعا
إلا عند برئه..) (2).
ولا بد من الإشارة إلى أن العقيدة في الوقت الذي تبدد غيوم المخاوف
في نفس الإنسان، تنمي فيه شعور الخوف من الله تعالى وحده باعتباره
السبيل للتحرز من جميع المخاوف، وتحذر من عصيانه، وتلوح بشدة
انتقامه، والقرآن الكريم في آيات كثيرة يعمق من شعور النفس بالخوف
من الله تعالى، منها: * (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * (3).
وقال تعالى: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة
هي المأوى) * (4).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما سلط الله على ابن آدم إلا من خافه ابن آدم،
(1) البداية والنهاية، لابن الأثير الدمشقي 1: 254 / 1 - دار إحياء التراث العربي 1408 ط 1.
(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 526.
(3) الأنعام 6: 15.
(4) النازعات 79: 40 - 41.
75
ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله ما سلط الله عليه غيره..) (1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: (طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف الناس) (2).
وبطبيعة الحال إن لهذا النوع من الخوف آثارا تربوية مهمة تعود لصالح
الفرد، وفي هذا الصدد، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من عرف الله خاف
الله، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا) (3).
وتترتب عليه آثار اجتماعية أيضا حيث إنه يدفع الفرد إلى مد يد العون
إلى الآخرين، قال تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما
وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف
من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * (4).
وصفوة القول، لقد غيرت العقيدة النفوس، وفتحت لها آفاقا واسعة
بتحريرها من مخاوفها، كما أوصلت حبلها بخالقها، وأشعرتها بنعمائه،
وخوفتها من أليم عقابه.
ثالثا: معرفة النفس
من معطيات العقيدة، أنها تدفع الإنسان المسلم إلى معرفة نفسه،
فلا يمكن السمو بالنفس دون معرفة طبيعتها، وهذه المعرفة هي خطوة
أولية للسيطرة عليها وكبح جماحها، يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (.. لا معرفة
(1) كنز العمال 3: 148 / 5909.
(2) تحف العقول، لابن شعبة الحراني: 28 - مؤسسة الأعلمي ط 5.
(3) أصول الكافي 2: 68 / 4 باب الخوف والرجاء.
(4) الإنسان 76: 8 - 10.
76
كمعرفتك بنفسك..) (1).
ثم إن هناك علاقة ترابطية وثيقة بين معرفة الله ومعرفة النفس، فمن
خلال معرفة الإنسان لنفسه وطبيعتها وقواها، يستطيع التعرف على
خالقها ويقدر عظمته، ففي الحديث الشريف: (من عرف نفسه فقد عرف
ربه) وبالمقابل فإن نسيان الله تعالى يؤول إلى نسيان النفس:
* (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم..) * (2).
دور العقيدة في تعريف الإنسان بنفسه:
مما لا شك فيه أن العقيدة - عبر مصادرها المعرفية ورموزها - قامت
بدور كبير في الكشف عن طبيعة النفس، وشخصت بدقة متناهية أمراضها
والآثار الناجمة عنها.
فالقرآن الكريم يقر صراحة بأن النفس أمارة بالسوء: * (وما أبرئ نفسي
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي..) * (3).
كما يقر القرآن أيضا، بأن النفس شحيحة قال تعالى: * (.. وأحضرت
الأنفس الشح..) * (4)، وقال: * (.. من يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون) * (5).
وهناك طائفة من الأحاديث تسلط الضوء على طبيعة النفس، وتقدم
(1) تحف العقول: 208 من وصية الإمام الباقر (عليه السلام) لجابر الجعفي.
(2) الحشر 59: 19.
(3) يوسف 12: 53.
(4) النساء 4: 128.
(5) الحشر 59: 9.
77
الرؤية العلاجية لأمراضها، منها: ما كتبه الإمام علي (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي
لما ولاه مصر، وجاء فيه: (.. وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها
عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله..) (1).
ومن خطبة له (عليه السلام) ضمنها مواعظ للناس، جاء فيها: (.. نستعينه من هذه
النفوس البطاء عما أمرت به، السراع إلى ما نهيت عنه..) (2).
ويقول (عليه السلام) أيضا: (النفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور
بملازمة حسن الأدب، والنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد
يجهد بردها عن سوء المطالبة، فمتى أطلق عنانها فهو شريك في فسادها،
ومن أعان نفسه في هوى نفسه فقد أشرك نفسه في قتل نفسه) (3).
على هذا الصعيد لا بد من الإشارة إلى أن الأمراض النفسية إذا لم
تعالج، فإنها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، فعلى سبيل الاستشهاد نجد
أن الفتنة الكبرى التي حصلت للمسلمين في السقيفة، عندما أقصيت
القيادة الشرعية عن مركز القرار، كانت جذورها نفسية، ويكفينا
الاستدلال على ذلك بكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض أصحابه وقد سأله:
كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال (عليه السلام): (... أما
الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا، والأشدون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
نوطا، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس
آخرين، والحكم الله) (4).
(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 427 كتاب 53.
(2) نهج البلاغة: 169 / خطبة 114.
(3) ميزان الحكمة 1: 16 عن مشكاة الأنوار.
(4) نهج البلاغة: 231.
78
فالشح الكامن في نفوس البعض كان السبب الأساس في أول وأعظم
انحراف شهدته المسيرة الإسلامية بعد ساعات قليلة من رحيل
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). لذلك كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع عصمتهم المحققة،
يلجؤون إلى الله تعالى بالدعاء لكي يقيهم هذا المرض النفسي الخطير،
فعن الفضل بن أبي قرة قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يطوف من أول الليل إلى
الصباح وهو يقول: (اللهم قني شح نفسي، فقلت: جعلت فداك
ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء؟ قال (عليه السلام): وأي شئ أشد من شح
النفس، إن الله يقول: * (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *) (1).
رابعا: السيطرة على النفس
منهج العقيدة في تربية النفس، أنها تدعو إلى عدم كبت رغباتها لأن
الكبت يقتل حيويتها، ويبدد طاقتها، فلا تعمل ولا تنتج، وفي الوقت ذاته
لا تشجع العقيدة على إطلاق رغباتها بلا ضوابط، بل تحث على اتباع
سياسة حكيمة معها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (سياسة النفس أفضل
سياسة) (2).
وعملية السيطرة على النفس تتحقق من خلال ضبط رغباتها وتوجيه
نزواتها نحو الاعتدال، وتتحقق أيضا من خلال محاسبتها، قال الإمام
موسى بن جعفر (عليه السلام): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل
حسنة استزاد الله تعالى، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب
إليه) (3).
(1) ميزان الحكمة 5: 33 عن نور الثقلين 5: 291.
(2) ميزان الحكمة 10: 134 عن غرر الحكم.
(3) أخلاق أهل البيت، للسيد مهدي الصدر: 351. والحديث في الوافي 3: 62 عن الكافي.
79
ولا بد من الإشارة إلى أن العقيدة لا تحبذ اتباع الوسائل الملتوية من
أجل السيطرة على النفس، فعن طلحة قال: انطلق رجل ذات يوم فنزع
ثيابه وتمرغ في الرمضاء، وكان يقول لنفسه: ذوقي، وعذاب جهنم أشد
حرا، أجيفة بالليل بطالة بالنهار؟!
قال: فبينا هو كذلك إذ أبصره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظل شجرة فأتاه، فقال:
غلبتني نفسي، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألم يكن لك بد من الذي
صنعته؟) (1).
من هذا التوجه النبوي، نجد أنه في الوقت الذي تشجع فيه العقيدة كل
محاولة صادقة من الإنسان للسيطرة على نفسه، نجد أيضا أنها لا تحبذ
اتباع الأساليب غير العقلانية للسيطرة على النفس، فالنفس تحتاج إلى
صبر وسياسة طويلة ورياضة خاصة لتقلع عن ضراوة عاداتها، كتلك
الرياضة التي أقسم أمير المؤمنين (عليه السلام) على اتباعها مع نفسه: (... وأيم الله
- يمينا أستثني فيها بمشئية الله - لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى
القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما...) (2).
وإن الإنسان ليقف مبهورا أمام قدرة الإمام (عليه السلام) في السيطرة على نفسه،
رغم أن الأموال كانت تجبى إليه من مختلف بلدان الخلافة الإسلامية أيام
خلافته، ولقد أبر بقسمه الذي قطعه على نفسه، عن حبة العرني قال: أتي
أمير المؤمنين (عليه السلام) بخوان فالوذج فوضع بين يديه ونظر إلى صفائه وحسنه
فوجى بإصبعه فيه حتى بلغ أسفله ثم سلها ولم يأخذ منه شيئا، وتلمظ
إصبعه وقال: (إن الحلال طيب، وما هو بحرام، ولكني أكره أن أعود
(1) المحجة البيضاء، للمحقق الكاشاني 8: 68 - مؤسسة الأعلمي ط 2.
(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 419.
80
نفسي ما لم أعودها، ارفعوه عني) فرفعوه (1).
وكان (عليه السلام) يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه، فقيل له في
ذلك، فقال (عليه السلام): (أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو
سمن) (2).
الخوف والرجاء:
مما يمكن التأكيد عليه أن في النفس خطان متقابلان هما الخوف
والرجاء، والعقيدة تعمد إلى كلا الخطين، فتبدد عن النفس كل خوف
باطل وكل رجاء منحرف، وبدلا من ذلك تنمي الخوف من الله من
جانب، ورجاء ثوابه من جانب آخر قال تعالى: * (... يحذر الآخرة ويرجو
رحمة ربه...) * (3)، فليست نظرتها أحادية الجانب كأن تركز على جانب
الخوف فتؤيس الإنسان من رحمة الله، أو تركز - بالمقابل - على الرجاء
فتضعف في نفسه الخشية من الله.
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم عليها
وما عملتم إلا قليلا، ولو تعلمون قدر غضب الله لظننتم بأن لا تنجوا) (4).
ويقول وصيه الإمام علي (عليه السلام): (إن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله
وأن يحسن ظنكم به، فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه
على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا لله) (5).
(1) وسائل الشيعة 16: 508 - دار إحياء التراث العربي.
(2) وسائل الشيعة 16: 509.
(3) الزمر 39: 9.
(4) كنز العمال 3: 144 / 5894.
(5) نهج البلاغة: 384.
81
وتجدر الإشارة إلى أن الناس " يختلفون في طباعهم وسلوكهم اختلافا
كبيرا، فمن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم، رعاية ما هو الأجدر
بإصلاحهم من الترجي والتخويف فمنهم من يصلحه الرجاء، وهم العصاة
النادمون على ما فرطوا في الآثام، فحاولوا التوبة إلى الله، بيد أنهم قنطوا
من عفو الله وغفرانه، لفداحة جرائمهم، وكثرة سيئاتهم، فيعالج والحالة
هذه قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف الله، وسعة رحمته وغفرانه.
أما الذين يصلحهم الخوف: فهم المردة العصاة، المنغمسون في
الآثام، والمغترون بالرجاء، فعلاجهم بالتخويف والزجر العنيف، بما
يهددهم من العقاب الأليم، والعذاب المهين " (1).
وكان لأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الذين سكن خوف الله تعالى في
نفوسهم وانعكس على جوارحهم، وزرع رجاؤه في قلوبهم، أروع الأمثلة
في هذا المجال، فروي عن أبي ذر (رحمه الله) أنه بكى من خشية الله حتى اشتكى
بصره، فقيل له لو دعوت الله يشفي بصرك؟!، فقال: إني عن ذلك
مشغول، وما هو أكبر همي. قالوا: وما شغلك عنه؟! قال: العظيمتان:
الجنة والنار (2).
من جانب آخر ينمي رواد هذه المدرسة الإلهية شعور الرجاء في
النفوس، فمن وصايا أمير المؤمنين لابنه الإمام الحسن (عليهما السلام): (أي بني، لا
تؤيس مذنبا، فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير، وكم من مقبل على
عمل مفسد من آخر عمره، صائر إلى النار، نعوذ بالله منها) (3).
(1) أخلاق أهل البيت، للسيد مهدي الصدر: 129 - دار الكتاب الاسلامي.
(2) روضة الواعظين: 285 في فضائل أبي ذر (رضي الله عنه).
(3) تحف العقول: 66 - مؤسسة الأعلمي ط 5.
82
الفصل الرابع
البناء الأخلاقي
العقيدة تشكل مرتكزا متينا للأخلاق، لأنها تخلق الواعز النفسي عند
الإنسان للتمسك بالقيم الأخلاقية السامية، على العكس من العقائد الوضعية
التي تساير شهوات الإنسان، وتنمي بذور الأنانية المغروسة في نفسه.
والأخلاق تحظى بأهمية استثنائية في العقيدة الإسلامية، قال الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (1). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا:
(الخلق الحسن نصف الدين، وقيل له: ما أفضل ما أعطى المرئ
المسلم؟ قال: الخلق الحسن) (2).
الإسلام يربط بين الدين الحق والأخلاق، مثل هذه الرؤية تتوضح
خطوطها في أن الدين يحث على الأخلاق الحسنة ويقوم بتهذيب الطباع
ويجعل ذلك تكليفا في عنق الفرد يستتبع الثواب أو العقاب، وعليه فلم
يقدم الدين توجهاته الأخلاقية المثالية بصورة مجردة عن المسؤولية،
وإنما جعل الأخلاق نصف الدين، لأن الدين اعتقاد وسلوك. والأخلاق
تمثل الجانب السلوكي للفرد.
(1) كنز العمال 11: 240 / 31969.
(2) روضة الواعظين، للفتال النيسابوري: 376 - منشورات الرضي - قم.
83
قال الإمام الباقر (عليه السلام): (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) (1).
جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدين؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسن الخلق. ثم أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): حسن الخلق. ثم أتاه عن يمينه فقال: ما الدين؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
حسن الخلق، ثم أتاه من ورائه فقال: ما الدين؟ فالتفت إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:
أما تفقه الدين؟ هو أن لا تغضب) (2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه) (3).
يقول العلامة الطباطبائي: " إن الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع
ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد، وهو
الإيمان بأن للعالم - ومنه الإنسان - إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه
شئ، ولا يغلب في قدرته، خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه
إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب
المسئ بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.
ومن المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق
للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، وكانت التقوى رادعا داخليا
له عن ارتكاب الجرم، ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة
- عقيدة التوحيد - لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع
(1) أصول الكافي 2: 99 / 1 كتاب الإيمان والكفر.
(2) المحجة البيضاء 5: 89.
(3) تحف العقول: 200.
84
الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية " (1).
إن العقائد الالحادية بإزالتها من النفوس البشرية شعور التعلق بالخالق
الكامل، والمثل الأعلى المطلق، والشعور برقابته وحسابه والمسؤولية
اتجاهه، أزالت الركيزة الأساسية للأخلاق، ولم تستطع أن تعوض عنها
بركيزة أخرى في مثل قوتها.
الأخلاق ضرورة اجتماعية، فهي بمثابة صمام أمان أمام نزعة الشر
الكامنة في الإنسان، والتي تدفعه لمد خيوط الأذى لأبناء جنسه، وعليه
فالبناء الاجتماعي بدون منظومة الأخلاق كالبناء على كثيب من الرمال،
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لو كنا لا نرجو جنة، ولا نخشى نارا، ولا ثوابا
ولا عقابا، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها مما تدل على
سبيل النجاح) (2).
أساليب العقيدة في بناء الإنسان أخلاقيا:
لما كانت قضية الأخلاق تحظى بأهمية استثنائية في توجهات العقيدة
الإسلامية، نجد أنها اتبعت أساليب وطرق عدة متضافرة كبناء يتصل بعضه
ببعض، تشكل بمجموعها السور الوقائي الذي يحمي الإنسان من الانحدار
والسقوط الأخلاقي، ويمكن إجمال هذه الأساليب، بالنقاط الآتية: -
أولا: تحديد العقيدة للمعطيات الأخروية للأخلاق:
فمن اتصف بالأخلاق الحسنة وعدته بالثواب الجزيل والدرجات
(1) الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي 11: 157 - مؤسسة الأعلمي ط 2.
(2) مستدرك الوسائل 2: 283.
85
الرفيعة، ومن ساء خلقه وأطلق العنان لنفسه وعدته بالعقاب الأليم.
قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة
وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة) (1).
وقال أيضا: (إن حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم) (2).
وقال موصيا: (يا بني عبد المطلب، أفشوا السلام وصلوا الأرحام،
وأطعموا الطعام، وطيبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام) (3).
وقال أيضا: (إن الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس
الجليد..) (4).
وفي هذا السياق، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى
ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله
يغدو عليه ويروح) (5).
ثم إن هناك تلازما بين قبول الأعمال عموما والعبادية منها على وجه
الخصوص وبين الأخلاق، فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع امرأة تسب
جارتها وهي صائمة، فدعا بطعام فقال لها: (كلي! فقالت إني صائمة!
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف تكونين صائمة وقد سببت جارتك..؟!) (6).
(1) المحجة البيضاء 5: 93.
(2) إرشاد القلوب 1 - 2: 133 - منشورات الرضي - قم.
(3) إرشاد القلوب 1 - 2: 133.
(4) أصول الكافي 2: 100 / 7 كتاب الإيمان والكفر.
(5) أصول الكافي 2: 101 / 12 كتاب الإيمان والكفر.
(6) الأخلاق، للسيد عبد الله شبر: 70 - منشورات مكتبة بصيرتي - قم.
86
ثانيا: بيان العقيدة للمعطيات الدنيوية للأخلاق:
فمن يتصف بالأخلاق الحسنة، يستطيع التكيف والمواءمة مع أبناء
جنسه، ويعيش قرير العين، مطمئن النفس، هادئ البال، أما من ينفلت
من عقال القيم والمبادئ الأخلاقية، فسوف يتخبط في الظلام، ويعيش
القلق والحيرة فيعذب نفسه ويكون ممقوتا من قبل أبناء جنسه، ويدخل
في متاهات لا تحمد عقباها.
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسن الخلق يثبت المودة) (1). وقال
وصيه الإمام علي (عليه السلام): (.. وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق) (2). وقال
الإمام الصادق (عليه السلام) موصيا: (وإن شئت أن تكرم فلن، وإن شئت أن تهان
فاخشن) (3)، وقال أيضا (عليه السلام): (البر وحسن الخلق يعمران الديار،
ويزيدان في الأعمار) (4).
وبالمقابل فإن للأخلاق السيئة معطيات سلبية يجد الإنسان آثارها في
دار الدنيا، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من ساء خلقه عذب نفسه) (5)،
وقال (عليه السلام) لسفيان الثوري الذي طلب منه أن يوصيه: (لا مروءة لكذوب،
ولا راحة لحسود، ولا إخاء لملول، ولا خلة لمختال، ولا سؤدد لسئ
الخلق) (6).
(1) تحف العقول: 38.
(2) تحف العقول: 98.
(3) تحف العقول: 356.
(4) أصول الكافي 2: 100 / 8 كتاب الإيمان والكفر.
(5) أصول الكافي 2: 321 / 4 كتاب الإيمان والكفر.
(6) في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، للسيد محسن الأمين 4: 69 عن تحف العقول.
87
مما تقدم اتضح أن العقيدة ترغب الإنسان بالتحلي بالأخلاق الحميدة
من خلال إبرازها للمعطيات الإيجابية - الأخروية والدنيوية - التي
سيحصل عليها إذا سار في طريق التزكية، وبالمقابل تردعه عن الأخلاق
السيئة من خلال بيان الآثار السلبية - الأخروية والدنيوية - المترتبة عليها.
ثالثا: تقديم التوصيات والنصائح:
تقدم العقيدة - من خلال مصادرها المعرفية - التوصيات القيمة في هذا
الصدد، التي تزرع في الإنسان براعم الأخلاق الحسنة، وتستأصل ما في
نفسه من قيم وأخلاق فاسدة.
من كتاب النبوة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أنا أديب الله،
وعلي أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبر، ونهاني عن البخل والجفاء،
وما من شئ أبغض إلى الله عز وجل من البخل وسوء الخلق، وإنه ليفسد
العمل كما يفسد الخل العسل) (1).
وقال وصيه الإمام علي (عليه السلام): (.. روضوا أنفسكم على الأخلاق
الحسنة، فإن العبد المسلم يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (2).
وقال أيضا موصيا: (.. عود نفسك السماح وتخير لها من كل خلق
أحسنه، فإن الخير عادة) (3).
وقال (عليه السلام): (.. وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق
(1) مكارم الأخلاق، للطبرسي: 17.
(2) الخصال، للصدوق 2: 621 حديث الأربعمائة.
(3) بحار الأنوار 77: 213 عن كشف المحجة لثمرة المهجة: 157 الفصل 154 - طبع النجف الأشرف.
88
الدنية فإنها تضع الشريف وتهدم المجد) (1).
من هذه الشواهد المنتخبة، نستطيع القول بأن العقيدة تقدم نصائحها
وتوصياتها القيمة مدعمة بالمعطيات والدلائل المقنعة، لتشكل جدارا
من المنعة يحول دون جنوح الإنسان المسلم إلى هاوية الأخلاق السيئة.
رابعا: أسلوب الأسوة الحسنة:
وهو أحد الأساليب التربوية للعقيدة، تربط الأفراد المنتسبين إليها
برموزها، لكونهم التجسيد المثالي أو الكامل لتوجهاتها، وهم المنارة التي
تبعث أنوارها، وعليه فهي تحث الأفراد على الاقتداء بهم بغية التأثر
بأخلاقهم والتزود من علومهم.
قال تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة..) * (2). لأن سيرة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي التجسيد الواقعي الكامل للرسالة، ولما كان
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما وصفه القرآن الكريم - يمثل قمة في مكارم الأخلاق:
* (وإنك لعلى خلق عظيم) * (3) توجب على المسلمين أن يدرسوا أخلاقه
ويهتدوا بسنته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمد خلقه من الله تعالى ومن كتابه الكريم، قال
تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * (4).
وروي أنه لما نزلت هذه الآية الجامعة لمكارم الأخلاق، سأل
(1) بحار الأنوار 78: 53 عن الغرر والدرر، للآمدي.
(2) الأحزاب 33: 21.
(3) القلم 68: 4.
(4) الأعراف 7: 199.
89
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرئيل (عليه السلام) عن ذلك فقال: (لا أدري حتى أسأل العالم ثم
أتاه فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك
وتصل من قطعك) (1).
لقد دعا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التحلي بمكارم الأخلاق كالتواضع والجود
والأمانة والحياء والوفاء... وما إلى ذلك، كما نهى عن مساوئ الأخلاق
كالبخل والحرص والغدر والخيانة والغرور والكذب والحسد والغيبة.
وهكذا جهد لتقويم كل خلق شائن، والشواهد كثيرة، لا يسع المجال لها،
قال الإمام علي (عليه السلام): (ولقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة
العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه) (2).
فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الرمز الأكبر للعقيدة الإسلامية، يحرص أشد
الحرص على هداية الناس إلى سواء السبيل، لأن عملية البناء الحضاري
للإنسان تصبح عبثا لا طائل تحته من دون عملية التوجيه والهداية. وأهل
البيت (عليهم السلام) هم نجوم الهداية الأبدية لهذه الأمة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
(.. ألا إن مثل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع
نجم..) (3).
والهداية - بلا شك ولا شبهة تستلزم النجاة - هي الغاية المنشودة
للإنسان المسلم، ومن هنا يكمن المعنى العميق، والتشبيه البليغ، في
حديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح
من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب
(1) مجمع البيان، للطبرسي 3: 89 - منشورات مكتبة الحياة عام 1980 م.
(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 228 / خطبة 160.
(3) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 7: 84.
90
حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له) (1).
وصفوة القول، إن لأهل البيت (عليهم السلام) دورا كبيرا في بناء الإنسان المسلم،
وإنقاذه من شتى أنواع الانحدار والضلال وليصل به إلى شاطئ النجاة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (انظروا أهل بيت نبيكم، فالزموا سمتهم،
واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى..) (2)،
وقال (عليه السلام) أيضا: (نحن النمرقة الوسطى بها يلحق التالي وإليها يرجع
الغالي) (3).
ولقد سار الأئمة الأطهار (عليهم السلام) على نهج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنته، فقاموا بدور
حضاري مشهود في إشاعة وترسيخ الأخلاق الفاضلة، والردع عن
الأخلاق الذميمة، وكانوا يركزون على الجوهر بدلا من المظهر، ويعتبرون
تحلية الجوانح بالأخلاق الفاضلة أفضل وأولى من تحلية الجوارح
بالملابس الفاخرة، فأصبح سلوكهم لنا أسوة ومواقفهم قدوة، فعن الإمام
الصادق (عليه السلام): (خطب علي (عليه السلام) الناس وعليه إزار كرباس غليظ، مرقوع
بصوف، فقيل له في ذلك، فقال: يخشع القلب، ويقتدي به المؤمن) (4).
والباحث يجد أن قضية الأخلاق قد احتلت مساحة كبيرة من آثار أهل
البيت (عليهم السلام) كنهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرهما لما لهذه القضية
الجوهرية من دور مهم في البناء التربوي للإنسان المسلم، عن جراح
(1) المراجعات، للسيد عبد الحسين شرف الدين: 23 المراجعة الثامنة، وفي هامش (37) أخرجه
الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد.
(2) شرح النهج، لابن أبي الحديد 7: 76.
(3) شرح النهج 18: 273.
(4) مكارم الأخلاق، للطبرسي: 113.
91
المدائني أنه قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (ألا أحدثك بمكارم الأخلاق؟
الصفح عن الناس، ومواساة الرجل أخاه في ماله، وذكر الله كثيرا) (1).
وفي الوقت الذي يردع فيه آل البيت (عليهم السلام) كل انحراف أخلاقي، فإنهم
يسترون على الناس معائبهم، ولا يستغلون ذلك ذريعة للتشهير بهم
والنيل منهم، فمن كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر لما ولاه مصر: (وليكن
أبعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس
عيوبا، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما
عليك تطهير ما ظهر لك.. فاستر العورة ما استطعت..) (2).
وكانوا يتبعون أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، فعن الحسين بن
علي (عليهما السلام) أنه قال لرجل اغتاب رجلا: (يا هذا كف عن الغيبة فإنها أدام
كلاب النار) (3).
وقال رجل للإمام علي بن الحسين (عليهما السلام): إن فلانا ينسبك إلى أنك ضال
مبتدع، فقال له الإمام (عليهما السلام): (ما رعيت حق مجالسة الرجل، حيث نقلت
إلينا حديثه، ولا أديت حقي حيث أبلغتني من أخي ما لست أعلمه!.. واعلم
أن من أكثر عيوب الناس شهد عليه الإكثار، أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه) (4).
وكان من دعائه (عليه السلام): (اللهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص وسورة
الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلة القناعة وشكاسة الخلق..) (5).
(1) معاني الأخبار، للصدوق: 191.
(2) نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح: 429 كتاب 53.
(3) تحف العقول: 176 - مؤسسة الأعلمي ط 5.
(4) الاحتجاج، للطبرسي 1 - 2: 315 - مؤسسة الأعلمي ط 1401 ه.
(5) الصحيفة السجادية الجامعة: 69 - مؤسسة الإمام المهدي (عج) - قم ط 1.
92
وهذا الموقف التربوي العجيب:
ليس الاقتداء وقفا على ميدان الخلق الفردي والاجتماعي، بل له أفق
واسع سعة آفاق الحياة، فكم سيتعلم الحكاء والساسة من دروس صانعي
التاريخ ومهندسي الفكر! لننظر في هذا الحدث - الذي قد يبدو صغيرا -
في تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، متطلعين إلى ما يعكسه من صورة القائد
القدوة والإمام الأسوة، وإلى ما يمكن أن نستلهم منه في جوانب حياتنا،
فردية كانت، أو اجتماعية:
قام أعرابي يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين
أتقول أن الله واحد؟
قال: فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين
من تقسم القلب؟!
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي
نريده من القوم!)
ثم قال (عليه السلام): (يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام،
فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان منها يثبتان فيه. فأما
اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد، يقصد به باب الاعداد، فهذا
ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من
قال: إنه ثالث ثلاثة، وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من
الجنس، فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه، وجل ربنا وتعالى عن ذلك. وأما
الوجهان الذي يثبتان فيه: فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه
كذلك ربنا. وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى يعني به أنه لا ينقسم
93
في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل) (1).
وكنظرة مقارنة، كم يكون البون شاسعا بين ما فعله الإمام علي (عليه السلام) مع
الأعرابي، مع ما فيه (عليه السلام) من تقسم القلب، كما وصفه أصحابه، نتيجة
للفتنة التي عصفت بالمسلمين في الجمل، وبين ما فعله عمر بن الخطاب
مع الأصبغ بن عسل حين سأله عن متشابه القرآن، مع أن عمر كان يعيش
مطمئنا في المدينة، نقل ابن حجر، أنه قدم المدينة على عهد عمر بن
الخطاب رجل يدعى الأصبغ بن عسل، سأله عن متشابه القرآن، فأرسل
إليه عمر وضربه بدرته حتى أدمى رأسه، وأسقط عطاءه، ونهى عن
مجالسته - ثم - قرر نفيه إلى البصرة، وكتب إلى عامله عليها، أبو موسى
الأشعري: (أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما كفي وضيع ما ولي، فإذا جاء
كتابي فلا تبايعوه، وإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهده) (2).
أهل البيت (عليهم السلام) الأسوة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
أهل البيت (عليهم السلام) هم أحد الثقلين الذين أوصى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أبناء أمته
بالتمسك بهما، والسير على خطاهما: (إني قد تركت فيكم الثقلين، ما إن
تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله حبل متين ممدود من السماء
إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض) (3).
(1) كتاب الخصال، للشيخ الصدوق: 2 / باب الواحد طبع جماعة المدرسين - قم. ومعاني الأخبار: 5
/ باب معنى الواحد.
(2) الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني 2: 198 - دار إحياء التراث العربي ط 1 عام
1328 ه.
(3) بحار الأنوار 23: 106. كنز العمال 1: 172 (وللحديث طرق مختلفة عن الفريقين).
94
الخلاصة
إن العقيدة الإسلامية هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي
تصوغ للإنسان المسلم نظرته التوحيدية للكون والحياة، وتنتج له مفاهيم
صالحة تعكس وجهة نظر الإسلام في شتى المجالات، كما تنتج له
عواطف وأحاسيس خيرة.
فالعقيدة تمثل عنصر القوة، وهي التي صنعت المعجزات وحققت
الانتصارات الكبرى في صدر الإسلام.
ولأجل النهوض بالإنسان المسلم لا بد من تذكيره بالمعطيات
الحضارية التي منحتها العقيدة لمن سبقه، وترسيخ قناعته بصوابيتها
وصلاحيتها لجميع العصور.
ويمكننا إيجاز الدور الهام الذي قامت به العقيدة من أجل بناء الإنسان
على جميع الأصعدة بما يلي:
1 - على الصعيد الفكري: اعتبرت الإنسان موجودا مكرما، أما
الخطيئة التي قد يقع فيها فهي أمر طارئ يمكن معالجته بالتوبة، وبذلك
أشعرت الإنسان بقدرته على الارتقاء، ولم تؤيسه من رحمة الله وعفوه،
ثم أن العقيدة حررت الإنسان من الاستبداد السياسي للحكام الوضعيين
الظالمين، كما حررته من عادة تأليه البشر، وأطلقت حريته، ولكن
ضبطتها بقيود الشرع حتى لا تؤدي إلى الفوضى، كما ربطت الحرية
95
الإنسانية بالعبودية لله وحده، والخضوع الواعي والطوعي لسلطته.
كما حررت الإنسان من شهوات نفسه ومن عبادة مظاهر الطبيعة من
حوله، ومن الأساطير والخرافات في الاعتقاد والسلوك.
ومن خلال عملية تحرير الفكر، قامت بعملية البناء، فأعطت مكانة
كبيرة للعقل واعترفت بدوره وفتحت أمامه آفاقا معرفية واسعة، كما
فتحت أمامه نافذة الغيب، وأطلقته من أسر دائرة الحس الضيقة،
ووجهت طاقته الخلاقة للتأمل والاعتبار في آيات الله الآفاقية والأنفسية،
وجعلت من تفكره هذا عبادة هي من أفضل العبادات.
ولم تقتصر على ذلك بل وجهت طاقة العقل لاكتشاف السنن التاريخية
الحاكمة على الأمم والشعوب، كما وجهت العقل للنظر في حكمة
التشريع لترصين قناعة المسلم بشريعته وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
من جهة أخرى دفعت العقيدة الإنسان إلى كسب العلم والمعرفة،
وربطت بين العلم والإيمان، فكل تفكيك بينهما سوف يؤدي إلى عواقب
وخيمة، كما وجهت العقل للنظر المستقل والملاحظة الواعية واستنباط
النتائج من مقدمات يقينية، ودعته إلى عدم التقليد في أصول الدين.
2 - على الصعيد الاجتماعي: قامت العقيدة بدور تغييري كبير، فبينما
كان فكر الإنسان الجاهلي منصبا حول ذاته ومصالحها، غدا بتفاعله مع إكسير
العقيدة يضحي بالغالي والنفيس في سبيل مبادئ دينه ومصالح مجتمعه.
وأزالت العقيدة التناقض القائم بين الدوافع الذاتية المتمثلة بحرص
الإنسان على مصالحه وبين مصالح الجماعة من خلال إثارتها للشعور
الاجتماعي للفرد نحو الآخرين.
96
وقد نمت العقيدة هذا الشعور بأساليب عدة منها: إيقاظ حس الشعور
بالمسؤولية تجاه الآخرين، وتنمية روح التضحية والإيثار لدى الفرد
المسلم، ودفعه للانصباب في قالب الجماعة.
من جهة أخرى، قامت العقيدة بتغيير الروابط الاجتماعية بين الأفراد،
من روابط تقوم على أساس العصبية للقرابة، أو على أساس اللون أو المال
أو الجنس، إلى روابط أسمى تقوم على أسس معنوية هي التقوى
والفضيلة والأخاء الإنساني.
ونقلت العقيدة الأفراد من حالة التناقض والصراع إلى حالة التعارف
والتعاون، فشكلوا أمة واحدة مرهوبة الجانب بعد أن كانوا قبائل
وجماعات متفرقة ومتناحرة، لا تقيم لهم الأمم وزنا.
أضف إلى ذلك أن العقيدة الإسلامية قد قامت بتغيير العادات
والتقاليد الجاهلية التي تسئ لكرامة الإنسان وتسبب له العنت والمشقة.
3 - على الصعيد النفسي: أسهمت العقيدة في خلق طمأنينة وأمان
للإنسان، مهما كانت عواصف الأحداث من حوله.
وقد اتبعت وسائل عديدة لتخفيف المصائب التي تواجه الإنسان على
حين غرة، ومن تلك الوسائل: بيان طبيعة الدنيا، وأنها دار محن واختبار،
مليئة بتيارات المصائب التي تهب على الإنسان كريح السموم، وعليه فمن
المستحيل على الإنسان أن يطلب الراحة والسكينة فيها. وعليه أن يضع
نصب عينه النجاح في هذا الامتحان الإلهي في الدنيا التي هي دار تكليف.
ولقد خففت العقيدة من وطأة المصائب عبر التأكيد على أنها تستتبع أجرا
وثوابا، كما وجهت نظر الإنسان للمصيبة العظمى وهي المصيبة في الدين،
الأمر الذي يخفف من وقع المصائب الدنيوية الصغيرة.
97
من جانب آخر، حررت العقيدة النفوس من المخاوف التي تشل نشاط
الإنسان وتكبت طاقته وتجعله نهبا لعوامل القلق والحيرة كما شجعت
العقيدة الإنسان إلى معرفة نفسه، فبدون هذه المعرفة للنفس يصبح من
الصعوبة بمكان السيطرة عليها وكبح جماحها، ثم بدون معرفة النفس لا
يمكن معرفة الله تعالى حق معرفته.
ومن خلال البحث استنتجنا بأن الأمراض النفسية الخطيرة كالعصبية
والشح والأثرة إذا لم تعالج فإنها ستؤدي إلى عواقب اجتماعية وسياسية
خطيرة، كتلك الفتنة التي عصفت بالمسلمين في السقيفة، التي بين الإمام
علي (عليه السلام) جذورها النفسية.
4 - على الصعيد الأخلاقي: قامت العقيدة بدور خلاق في بناء منظومة
الأخلاق للفرد المسلم، وفق أسس دينية تستتبع ثوابا أو عقابا، وليس مجرد
توصيات إرشادية لا تتضمن المسؤولية، على العكس من القوانين الوضعية،
التي أزالت شعور رقابة الله والمسؤولية أمامه من نفس الفرد، وبذلك نسخت
ركيزة الأخلاق، فالأخلاق بدون الإيمان تفقد ضمانات الالتزام بها.
والملاحظ أن العقيدة اتبعت أساليب عدة لدفع الأفراد للتحلي
بالأخلاق الحسنة وتجنب الأخلاق السيئة منها:
إبراز المعطيات الأخروية وأيضا الدنيوية المترتبة على الأخلاق
الحسنة أو السيئة.
كما اتبعت أسلوب " الأسوة الحسنة " لتربط الأفراد برموز العقيدة
ومرشديها بغية التأثر بمحاسن أخلاقهم والتأسي بسيرتهم.
98