حكم الأرجل في الوضوء
السيد علي الميلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
كلمة المؤلف:
هذا بحث كتبته حول (حكم الأرجل في الوضوء) تبيينا لمذهب الشيعة الإمامية
الاثني عشرية في هذه المسألة، بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة شيخ مشايخها أبي عبد الله
المفيد البغدادي، رحمة الله تعالى عليه.
ولقد كان (حكم الأرجل في الوضوء) موضع بحث بين فقهاء المسلمين منذ
صدر الإسلام... فذهبت الشيعة الاثنا عشرية تبعا لعلي وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)
إلى وجوب المسح، حتى كان القول بذلك شعارا لهم ورمزا لمذهبهم.
واختلف الآخرون... بين قائل بالمسح كذلك، وقائل بالجمع بين المسح
والغسل، وقائل بالتخيير بينهما، وقائل بالغسل على التعيين... وقد ظل هذا الخلاف
قائما بينهم، حتى استقر مذهب الجمهور من أهل السنة على القول بالغسل، وذلك في
القرن الرابع، أي بعد الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310، ولعل
المتتبع يعثر على من يقول بغير الغسل من علمائهم بعد ذلك أيضا، وخاصة في أتباع
الطبري، إذ كان له مذهب مستقل يقلده كثير من العلماء وسائر الناس.
ولقد كان السبب في اختلاف القوم في المسألة اختلاف الأحاديث المروية
عندهم... حتى الأخبار المستدل بها للغسل متعارضة كما ستعرف في الكتاب... بل لو
3
راجعت كتبهم وجدت رواياتهم تنادي بوجود الاختلاف بين الصحابة، في زمن عمر،
وعثمان، وعلي... ففي خبر أخرجه مسلم أن عثمان توضأ ثم قال: " إن ناسا يتحدثون عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث لا أدري ما هي " (1).
وفي آخر - أخرجه أبو داود - أنه توضأ ثم قال: " أين السائلون عن الوضوء؟
هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ " (2).
وفي ثالث: أنه توضأ ثم " استشهد ناسا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم قال:
الحمد لله الذي وافقتموني على هذا " (3).
بل جاء في خبر: " عن أبي مالك الدمشقي قال: حدثت أن عثمان بن عفان
اختلف في خلافته في الوضوء... " (4)
وأخرجوا عن ابن عباس قال: " دخل علي علي بيتي، فدعا بوضوء فقال: يا ابن
عباس، ألا أتوضأ لك وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قلت: بلى... " (5).
وفي حديث آخر: أنه توضأ بالكوفة ثم قال: " من أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا طهوره " (6).
ومن هنا جاء في المنار: " إن القول بكل من الغسل والمسح مروي عن السلف من
الصحابة والتابعين، ولكن العمل بالغسل أعم وأكثر، وهو الذي غلب واستمر " (7).
إلا أن غير واحد من أعلام القوم حاول إنكار القول بالمسح أو بغير الغسل من
أحد منهم، وجعلوا القول بالمسح بدعة وضلالة:
قال ابن كثير: " ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل
وأضل، وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا. ومن نقل عن أبي جعفر
ابن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية فلم يحقق مذهبه " (8).
(1) كنز العمال 9 / 423.
(2) نفس المصدر 9 / 440.
(3) نفس المصدر 9 / 441.
(4) نفس المصدر 9 / 443.
(5) نفس المصدر 9 / 459.
(6) نفس المصدر 9 / 460.
(7) المنار 6 / 234.
(8) تفسير القرآن العظيم 2 / 25.
4
وقال الشهاب الخفاجي: " ومن أهل البدع من جوز المسح على الأرجل بدون
الخف، مستدلا بظاهر الآية، وللشريف المرتضى كلام في تأييده تركناه لإجماع أهل السنة
على خلافه. " (1).
وقال الآلوسي: " لا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما
زلت فيه أقدام، وما ذكره الإمام - رحمه الله تعالى - يدل على أنه راجل في هذا الميدان،
وضالع لا يطيق العروج إلى شأوى ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط
الكلام في تحقيق ذلك، رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك " (2).
قال: " وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -
وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم... ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية
وعكرمة والشعبي زور وبهتان أيضا. وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير
بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري
صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير. وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب
المختلفة ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق
ولا سند، واتسع الخرق على الراقع " (3).
فانظر، كيف يتحاملون على الشيعة؟ فذاك يضلل! والآخر يبدع! وهذا يشتم!
أما الآلوسي... فقد أفرط في التهجم على الشيعة، حتى انتقده المتأخرون عنه
منهم كصاحب المنار (4). وتهجم على كبار علماء طائفته الذين نصوا على ذهاب كبار
الصحابة المرجوع إليهم في القرآن والفقه كعلي أمير المؤمنين وعبد الله بن العباس... وكذا
مشاهير التابعين الذين عليهم الاعتماد في التفسير والقراءات كعكرمة وقتادة والشعبي
والحسن البصري... وغيرهم... إلى دلالة الكتاب على المسح.
وقد خص منهم بالذكر إمامهم الفخر الرازي، لتبيينه الوجه في دلالة الآية
المباركة على المسح، واقتفى أثره غير واحد من أئمة الفقه والتفسير والحديث منهم...
(1) حاشية الشهاب على البيضاوي 3 / 221.
(2) روح المعاني 6 / 74.
(3) المصدر نفسه: 6 / 77.
(4) المنار 6 / 229.
5
ثم اضطرب القوم... في الطبري ورأيه... لأنه من القائلين بالمسح:
فأبو حيان أخرجه من أهل السنة وجعله من علماء الإمامية! (2).
والسليماني لم ينكر كونه من أهل السنة وإنما قال: " كان يضع للروافض " (2).
والذهبي نزهه عما قيل فيه، وذكر أنه لم ير القول بالمسح في كتبه، وهذه عبارته:
" وكان ابن جرير من رجال الكمال، وشنع عليه بيسير تشيع، وما رأينا إلا الخير،
وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء، ولم نر ذلك في كتبه " (3).
والرازي وجماعة ينسبون إليه التخيير (4).
وآخرون ينسبون إليه الجمع (5).
والزين العراقي وابن حجر العسقلاني ذكرا بعد هذا الطبري: محمد بن جرير بن
رستم الطبري وقالا: " رافضي " وزاد الأول " خبيث " ثم قالا: " لعل ما حكي عن محمد
ابن جرير الطبري من الاكتفاء في الوضوء بمسح الرجلين إنما هو هذا الرافضي، فإنه
مذهبهم " (6).
أقول: كل هذا... لأن المسح مذهب الإمامية، ولأن الذي استقر عليه مذهب
السنة هو الغسل...!!
فلننظر في الكتاب والسنة... على ضوء كلمات أئمة التفسير والفقه والحديث...
وبالله التوفيق.
(1) لسان الميزان 5 / 100.
(2) ميزان الاعتدال 3 / 499.
(3) سير أعلام النبلاء 14 / 277.
(4) تفسير الرازي 11 / 161.
(5) منهم صاحب المنار 6 / 228.
(6) ذيل ميزان الاعتدال / 304، لسان الميزان 5 / 103.
6
الكتاب
قال الله عز وجل:
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين...) (1).
والكلام في حكم الأرجل:
قد اختلف علماء الإسلام في نوع طهارة الأرجل في الوضوء:
فالذي عليه الإمامية الاثنا عشرية وهم شيعة أهل البيت هو المسح فرضا معينا
من غير خلاف بينهم، حتى أصبح من جملة شعائر مذهبهم التي بها يعرفون وعن
غيرهم يتميزون. وإليه ذهب جماعة من غيرهم، ففي كلام السرخسي: " ومن الناس من
قال: وظيفة الطهارة في الرجل المسح " (2).
وابن رشد: " اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع
طهارتهما، فقال قوم: الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل
طهارتهما تجوز بالنوعين " (3).
وابن كثير: " وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح " (4).
فمن علماء أهل السنة من يقول بالمسح تبعا لجماعة من الصحابة والتابعين كما
ستعرف.
والذي عليه أئمة المذاهب الأربعة من أهل السنة، بل جمهور فقهائهم هو الغسل
فرضا على التعيين.
وذهب داود بن علي من الظاهرية، والناصر للحق من الزيدية إلى الجمع بين
(1) المائدة / 6.
(2) المبسوط في فقه الحنفية 1 / 8.
(3) بداية المجتهد 1 / 15.
(4) تفسير القرآن العظيم 2 / 24.
7
الغسل والمسح.
كما ذهب الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري إلى غير الغسل وإن اختلفوا
في رأيهما على التعيين.
الاستدلال بالكتاب للمسح:
واستدل للقول الأول بالكتاب، وذلك لأن في قوله: (وأرجلكم) قراءتين
مشهورتين، وأخرى غير مشهورة.
أما الثالثة فهي القراءة بالرفع، قال القرطبي: " وروى الوليد بن مسلم عن نافع
أنه قرأ: (وأرجلكم) بالرفع. وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان " (1).
وكذا قال ابن العربي المالكي (2).
لكن الآلوسي قال: " أما الشاذة فالرفع، وهي قراءة الحسن " فلم ينسبها إلا إلى
الحسن البصري، وذكر نافعا فيمن قرأ بالنصب (3) وكذلك غيره من المفسرين (4) إلا أن
الشوكاني ذكر الحسن والأعمش فيمن قرأ بالنصب كنافع (5).
والوجه في الرفع جعله مبتدأ، قال أبو البقاء: " ويقرأ في الشذوذ بالرفع على
الابتداء، أي: وأرجلكم مغسولة. أو كذلك " (6).
قلت: ما المعين لأن يكون الخبر " مغسولة "؟ لم لا يكون " ممسوحة "؟ بل هذا
أقرب لقرب القرينة (7). ولذا لم يرتض غير واحد من القائلين بالغسل التقدير الذي
ذكره أبو البقاء، فجوز الزمخشري تقدير مغسولة أو ممسوحة (8) وقال أبو حيان: " وقرأ
الحسن (وأرجلكم) بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر، أي اغسلوها إلى الكعبين على
(1) تفسير القرطبي 6 / 94.
(2) أحكام القرآن 2 / 72.
(3) روح المعاني 6 / 76.
(4) البحر المحيط 3 / 438.
(5) فتح القدير 2 / 16.
(6) إملاء ما من به الرحمن 1 / 210.
(7) كنز العرفان 1 / 15.
(8) الكشاف 1 / 611.
8
تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح " (1). وأصرح منهما
كلام الآلوسي: " وأما قراءة الرفع فلا تصلح للاستدلال للفريقين، إذ لكل أن يقدر ما
شاء " (2)، لكن في كلامه نظر، إذ كيف يجوز أن يقدر كل ما شاء في كلام الله؟ بل
المتعين في هذا المقام تقدير ما تقتضيه القراءتان المشهورتان، وسنرى أنه المسح دون
الغسل.
وعلى كل حال فالقراءة شاذة، فهي خارجة عن البحث... والمهم هو النظر على
ضوء القراءتين المشهورتين، وهما الجر والنصب.
فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمر، وعاصم - في رواية أبي بكر عنه - بالجر.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم - في رواية حفص عنه - بالنصب (3).
اعتراف القائلين بالغسل بدلالة الكتاب على المسح:
فاستدل القائلون بالمسح بناء على كلتا القراءتين:
أما الجر فلأن (وأرجلكم) معطوفة على لفظ (برؤوسكم) وهو واضح جدا.
وأما النصب فلأن (وأرجلكم) معطوفة على محل (برؤوسكم) وهو منصوب،
والعطف من هذا القبيل مذهب مشهور النحاة.
وحيث إن الحكم في الرأس هو المسح فالحكم في الرجل مثله.
فالقراءتان المشهورتان - أو المتواترتان - ظاهرتان في المسح، من دون حاجة إلى
تكلف، أو تقدير، أو مخالفة لقواعد العربية.
وقد ذكر هذا الاستدلال - مع الاعتراف بظهور الكتاب في المسح - في غير واحد
من كتب القائلين بالغسل، من تفسير وفقه وحديث:
(1) البحر المحيط 3 / 438.
(2) روح المعاني 6 / 77.
(3) هذا مذكور في جميع التفاسير وكتب الفقه والحديث وإعراب القرآن.
9
* قال السرخسي: " وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزل القرآن بغسلين
ومسحين. يريد به القراءة بالكسر في قوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين) فإنه
معطوف على الرأس. وكذلك القراءة بالنصب عطف على الرأس من حيث المحل، فإن
الرأس محله من الإعراب النصب، وإنما صار مخفوضا بدخول حرف الجر، وهو كقول
القائل:
معاوي إننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
(ولنا): أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واظب على غسل الرجلين " (1).
* وقال ابن الهمام - بشرح قول الماتن: " ووجهه: إن قراءة نصب الرجل عطف
على المغسول، وقراءة جرها كذلك، والجر للمجاورة " -: " وعليه أن يقال: بل هو عطف
على المجرور، وقراءة النصب عطف على محل الرؤوس، وهو محل يظهر في الفصيح. وهذا
أولى لتخريج القراءتين به على المطرد، بخلاف تخريج الجر على الجوار " (قال): " إطباق
رواة وضوئه (صلى الله عليه وآله وسلم) على حكاية الغسل ليس غيره. فكانت السنة قرينة منفصلة " (2).
* وقال ابن قدامة: " وروي عن علي أنه مسح... وحكي عن ابن عباس...
وروي عن أنس بن مالك... وحكي عن الشعبي... ولم يعلم من فقهاء المسلمين من
يقول بالمسح على الرجلين غير من ذكرنا، إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخير
بين المسح والغسل. والحتج بظاهر الآية، وبما روي عن ابن عباس.
(ولنا): إن عبد الله بن زيد وعثمان حكيا وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... " (3).
* وقال الفخر الرازي: " حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين
المشهورتين في قوله: (وأرجلكم) " ثم بين وجه الاحتجاج في كلام له مفصل
سنذكره، ثم قال: " واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين:
الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل... " (4).
(1) المبسوط في الفقه الحنفي 1 / 8.
(2) شرح فتح القدير 1 / 11.
(3) المغني 1 / 151.
(4) تفسير الرازي 11 / 161.
10
* وقال الشيخ إبراهيم الحلبي: " والصحيح أن الأرجل معطوفة على الرؤوس في
القراءتين، ونصبها على المحل، وجرها على اللفظ " (1).
* وقال السندي: " وإنما كان المسح هو ظاهر الكتاب، لأن قراءة الجر ظاهرة
فيه، حمل قراءة النصب عليها بجعل النصب على المحل أقرب من حمل قراءة الجر على
قراءة النصب كما صرح به النحاة " (2).
* وقال القاسمي: " وأما من قال: الواجب هو المسح فتمسك بقراءة الجر وهو
مذهب الإمامية، وأجابوا عن قراءة النصب بأنها مقتضية للمسح أيضا، وقد وقفت على
كتاب شرح المقنعة من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب
للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل الذي هو المسح عليه " فنقل
الكلام، ولم يجب عنه إلا بأن قال: " فتأمل جدلهم "! (3) هذا مع أنه قد نص على دلالة
الآية على المسح كما قال ابن عباس وغيره.
وسيأتي نص عبارته في محلها. بل ستعرف أن القول بالنسخ أو الحمل والتأويل
كما عليه أكثرهم إنما هو لكون الآية بكلا القراءتين ظاهرة في المسح، فلا مانع من نسبة
القول بظهورها في ذلك إلى القوم إلا من شذ منهم.
في هذه الكلمات:
هذه طائفة من كلمات أعلام القائلين بوجوب الغسل، وهي كما تراها صريحة في:
1 - إن الكتاب ظاهر على كلتا القراءتين في وجوب المسح.
2 - إن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم كانوا يقولون بالمسح، وستعرف
ذلك أيضا.
3 - إن الدليل على قولهم بالغسل هو السنة.
(1) غنية المتملي / 16.
(2) الحاشية على ابن ماجة 1 / 88.
(3) تفسير القاسمي 6 / 1894.
11
إلا أن رفع اليد عن ظاهر الكتاب لا يكون جزافا، بل الأصل فيما خالف الكتاب
هو أن يضرب به الجدار، إلا إذا كان الكتاب ظاهرا في العموم أو الإطلاق فكانت السنة
مقيدة أو مخصصة له، أو كان ظاهرا في حكم وثبت نسخه بالسنة، أو لم يكن له ظهور في
شئ فجاءت السنة مفسرة ومبينة...
ثم إن السنة في المسألة متعارضة... ومتى تعارضت السنة وجب العرض على
الكتاب ثم الأخذ بما وافق ظاهره وطرح ما خالفه!
وهذه قواعد وأصول اتفق العلماء عليها وبحثوا في سائر المسائل على أساسها.
مناقشات في دلالة الكتاب:
لكن القائلين بالغسل حاولوا رفع اليد عن هذا الظهور بشكل من الأشكال،
ومن لاحظ كلماتهم وتدبر أقوالهم وجدها مضطربة أشد الاضطراب ومشوشة غاية
التشويش... فماذا يفعلون وهم يريدون رفع اليد عن الكتاب المبين، الظاهر في وجوب
المسح على التعيين!!
1 - دعوى ظهور قراءة النصب في الغسل:
فمنهم من أنكر أن تكون النصب ظاهرة في المسح، بل هي بقرينة الأخبار
ظاهرة في الغسل عطفا على (وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) وراجحة على قراءة الجر
الظاهرة في المسح.
* قال ابن رشد: " اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في
نوع طهارتهما فقال قوم: طهارتهما الغسل وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح...
وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء... وذلك أن قراءة النصب ظاهرة
في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح... وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت
عنه عليه الصلاة والسلام، إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء: (ويل
للأعقاب من النار)... " (1).
(1) بداية المجتهد: 15 - 16.
12
* قال ابن العربي - بعد أن ذكر القراءتين والقولين -: " وجملة القول في ذلك: إن
الله سبحانه عطف الرجلين على الرأس، فقد ينصب على خلاف إعراب الرأس أو
يخفض مثله، والقرآن نزل بلغة العرب، وأصحابه رؤوسهم وعلماؤهم لغة وشرعا، وقد
اختلفوا في ذلك، فدل على أن المسألة محتملة لغة محتملة شرعا. لكن تعضد حالة
النصب على حالة الخفض بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غسل وما مسح قط، وبأنه رأى قوما تلوح
أعقابهم فقال: (ويل للأعقاب من النار) و (ويل للعراقيب من النار). فتوعد بالنار
على ترك إيعاب غسل الرجلين، فدل ذلك على الوجوب بلا خلاف، وتبين أن من قال
من الصحابة أن الرجلين ممسوحتان لم يعلم بوعيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ترك إيعابهما.
وطريق النظر البديع: أن القراءتين محتملتان، وأن اللغة تقضي بأنهما جائزتان،
فردهما الصحابة إلى الرأس مسحا، فلما قطع بنا حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووقف في وجوهنا
وعيده، قلنا: جاءت السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه واليدين " (1).
قلت:
أولا: في كلامه إقرار بأن الصحابة قالوا بالمسح وردوا القراءتين إلى الرأس.
وثانيا: في كلامه دعوى أن الصحابة لم يبلغهم وعيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ترك إيعاب
الرجلين، وهذه الدعوى غير مسموعة. إذ كيف لم يبلغ عليا الذي كان معه ليلا ونهارا،
وأنسا الذي كان يخدمه، وابن عباس وسائر المسلمين هذا الحكم العام المحتاج إليه في
كل يوم؟
وثالثا: إن أخبار " ويل... " على فرض تمامية سندها أدل على جواز المسح منه
على منعه، وهذا ما نص عليه ابن رشد وأشار إليه ابن حجر... كما سيجئ في فصل
الأهبار، فكان الصحيح أن ينسب إلى الصحابة أنهم فهموا منها المسح فعملوا به، لا
أنهم لم يعلموا بالوعيد!!
ورابعا: إن العطف على الوجه واليدين غير جائز، قال أبو حيان: " فيه الفصل
بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض بل هي منشئة حكما... قال الأستاذ أبو الحسن
ابن عصفور وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه قال: وأقبح ما يكون ذلك
(1) أحكام القرآن 2 / 72.
13
بالجمل. فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج " (1).
وقال العيني: " والنصب يحتمل العطف على الأول على بعد، فإن أبا علي قال: قد
أجاز قوم النصب على وجوهكم، وإنما يجوز شبهه في الكلام المعقد وفي ضرورة
الشعر... " (2).
وقال الحلبي: " لامتناع العطف على وجوهكم، للفصل بين العاطف والمعطوف
عليه بجملة أجنبية هي (وامسحوا برؤوسكم) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد
فضلا عن الجملة. ولم نسمع في الفصيح: ضربت زيدا ومررت ببكر وعمرا بعطف
عمرا على زيد " (3).
ولعله لذا اضطر بعضهم أن يجعل الناصب فعلا مقدرا وهو اغسلوا لا
بالعطف على وجوهكم. وهو واضح الضعف، لأن الأصل عدم التقدير.
وعلى فرض التسليم بجواز أن يكون عامل النصب اغسلوا فمن الجائز أن يكون
هو امسحوا، لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى كما
قال الفخر الرازي (4).
* ومنهم من رأى أن الأخبار وحدها لا تكفي لتقدم قراءة النصب على قراءة
الجر، بل لا بد قبل ذلك من إخراج قراءة الجر عن الظهور في المسح، بدعوى اشتراك
لفظ " المسح ".
قال القرطبي: " قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أن المسح والغسل واجبان
جميعا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض، والغسل واجب على قراءة من قرأ
بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن
المسح في الرجلين هو الغسل.
قلت: وهو الصحيح، فإن لفظ المسح مشترك، يطلق بمعنى المسح ويطلق
بمعنى الغسل. قال الهروي: أخبرنا الأزهري، أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد
الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلا
(1) البحر المحيط 3 / 438.
(2) عمدة القاري 2 / 238.
(3) غنية المتملي: 16.
(4) تفسير الرازي 11 / 161.
14
ويكون مسحا، ومنه يقال: الرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح. ويقال: مسح الله
ما بك، إذا غسلك وطهرك من الذنوب.
فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل، فترجح قول من
قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل، بقراءة النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة
الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى
كثرة " (1).
قلت: وهذا الذي ذكره بعنوان " أحسن ما قيل " رد في الحقيقة على " النظر
البديع " الذي ذكره ابن العربي واستحسنه بعضهم... وسنتكلم عليه إن شاء الله.
2 - دعوى عدم ظهور قراءة الجر في المسح:
وقراءة الجر اتفقوا على ظهورها في المسح، حتى القائلون بظهور قراءة النصب في
الغسل لم ينكروا ذلك، كالنووي (2) وابن كثير (3) وقال ابن حجر: " تمسك من اكتفى
بالمسح بقوله تعالى: (وأرجلكم) عطفا على (وامسحوا برؤوسكم) فذهب إلى
ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين... " (4).
لكن ذهابهم إلى القول بالغسل حمل بعضهم على تأولات هي في الحقيقة تطبيق
للقرآن على ما ذهبوا إليه، ومن هنا لم يتعرض لها أو صرح بسقوطها أكثرهم، وهي أربعة
وجوه:
أحدها:
إن هذا كسر على الجوار، وليس عطفا على (برؤوسكم) ليكون دالا على المسح.
وهذا ما ارتضاه قليل منهم كالعيني في شرح البخاري (5) وأبي البقاء وأطنب في
توجيهه (6) والآلوسي في تفسيره (7)، ورده جماعة:
(1) تفسير القرطبي 6 / 94.
(2) المجموع في شرح المهذب 1 / 418.
(3) تفسير القرآن العظيم 2 / 24.
(4) فتح الباري 1 / 215.
(5) عمدة القاري 2 / 239.
(6) إملاء ما من بن الرحمن 1 / 210.
(7) روح المعاني 6 / 78.
15
* قال أبو حيان: " ومن أوجب الغسل تأول أن الجر هو خفض على الجوار. وهو
تأويل ضعيف جدا، ولم يرد إلا في النعت حيث لا يلبس، على خلاف فيه قد قرر في
علم العربية " (1).
* وقال السندي: " وإنما كان المسح هو ظاهر الكتاب لأن قراءة الجر ظاهرة فيه،
وحمل قراءة النصب عليها بجعل العطف على المحل أقرب من حمل قراءة الجر على قراءة
النصب كما صرح به النحاة، لشذوذ الجوار واطراد العطف على المحل " (2).
* وقال الحلبي: " وأما الجر على الجوار فإنما يكون - على قلة - في النعت، كقول
بعضهم: هذا جحر ضب خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر:
يا صاح بلغ ذوي الحاجات كلهم * أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر كلهم على ما حكاه الفراء.
وأما في عطف النسق فلا يكون، لأن العاطف يمنع المجاورة " (3).
* وقال الشيخ سليمان جمل: " إنه ضعيف لضعف الجوار " (4).
* وقال الشوكاني: " لا شك في أنه قليل نادر مخالف للظاهر، لا يجوز حمل الآية
المتنازع فيها عليه " (5).
* وقال الخازن: " وأما قراءة الكسر فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها " فذكر
الوجوه التي سنوردها ثم قال: " وأما من جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ
دون الحكم، واستدل بقولهم: جحر ضب خرب، وقال: الخرب نعت للجحر لا
للضب، وإنما أخذ إعراب الضب للمجاورة، فليس بجيد، لأن الكسر على المجاورة
إنما يحمل لأجل الضرورة في الشعر. أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، لأن
الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر. ولأن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف
العطف، أما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب " (6).
(1) البحر المحيط 3 / 438.
(2) الحاشية على ابن ماجة 1 / 88.
(3) غنية المتملي: 16.
(4) الحاشية على البيضاوي 1 / 467.
(5) نيل الأوطار 1 / 163.
(6) تفسير الخازن = لباب التأويل 2 / 441.
16
* وقال النيسابوري: " ولا يمكن أن يقال: إنه كسر على الجوار... " فذكر
خلاصة ما ذكره الرازي (1).
* وقال الفخر الرازي: " أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على
الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك الأرجل.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذا كسر على الجوار، كما في قوله: جحر ضب
خرب، وقوله: كبير أناس في بجاد مزمل؟
قلنا: هذا باطل من وجوه: الأول: أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي
قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله يجب تنزيهه عنه. وثانيها: أن الكسر إنما
يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في قوله: جحر ضب خرب، فإن من
المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من
الالتباس غير حاصل. وثالثها: أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما
مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب " (2).
* وقال القرطبي - بعد أن نقله -: " ورده النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم،
لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه وإنما هو غلط ونظيره الإقواء " (3).
* وقال الأخفش: " ويجوز الجر على الاتباع، وهو في المعنى الغسل، نحو هذا
جحر ضب خرب. والنصب أسلم وأجود من هذا الاضطرار " (4).
على أن فيه إشكالا أورده الخفاجي وهو: أنه في هذه الحالة حيث يراد العطف
على الرؤوس يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، إذ المسح في الرؤوس حقيقة وفي الأرجل
مجاز، لأن المفروض كون المراد هو الغسل الشبيه بالمسح في قلة استعمال الماء. قال: إنه
إشكال قوي لا محيص عنه (5).
(1) تفسير النيسابوري 6 / 53.
(2) تفسير الرازي 11 / 161.
(3) تفسير القرطبي 6 / 94.
(4) معاني القرآن 1 / 255.
(5) الشهاب على البيضاوي 3 / 221.
17
الثاني:
إن الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء، أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل. ثم حذف الفعل وحرف الجر. ذكره أبو البقاء (1).
ولا يخفى أنه تكلف بلا وجه وتقدير بلا دليل، والأصل عدمه.
ولذا قال أبو حيان بعد أن ذكره: " وهذا تأويل في غاية الضعف " (2) وكذا قال
الشهاب الخفاجي (3) ولهذا أيضا لم يذكره سائر العلماء.
الثالث:
ما ذكره الزمخشري من الفلسفة غير المستندة إلى دليل شرعي، قال:
" قرأ جماعة (وأرجلكم) بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة. فإن قلت: فما
تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة
المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم عنه، فعطفت على
الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.
وقيل: (إلى الكعبين) فجئ بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم
تضرب له غاية في الشريعة.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه أشرف على فتية من قريش، فرأى في وضوئهم تجوزا
فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلا ويدلكونها دلكا.
وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح، فقال:
ويل للأعقاب من النار... " (4).
والزمخشري لم يذكر إلا هذا الوجه، وهذا في الحقيقة رد على الوجوه الأخرى
وإبطال لها، كما أن ظاهر كلامه التجاؤه إليه لدلالة الأخبار على الغسل.
وقد نقل العيني عنه هذا الوجه وارتضاه كما هو ظاهر عبارته (5) بل اعتمده
النسفي من غير أن ينسبه إلى الزمخشري (6).
(1) إملاء ما من به الرحمن 1 / 210.
(2) البحر المحيط 3 / 438.
(3) الشهاب على البيضاوي 3 / 221.
(4) الكشاف 1 / 611.
(5) عمدة القاري 2 / 239.
(6) تفسير النسفي - هامش الخازن - 2 / 441.
18
إلا أنه - كما ترى - تفسير للقرآن بالرأي، محاولة لصرف الآية عن ظهورها في
حكم المسح، ولذا قال أبو حيان بعد إيراده: " وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في
الأحكام " (1).
3 - دعوى أن المراد بالمسح هو الغسل:
وجاء آخرون... واعترفوا بأن الآية المباركة تدل على المسح، فكأن الطرق التي
سلكها القوم بالحذف والتقدير، والحمل والتأويل، لم تقنعهم... فتصرفوا في " المسح "
المقابل للغسل وحملوه على " الغسل الخفيف ".
* قال أبو حيان: " وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا
ويقولون: تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي " (2).
* وحكى الخازن عن أبي حاتم وابن الأنباري وأبي علي أن الأرجل معطوفة على
الممسوح، " غير أن المراد في الأرجل الغسل " (3).
* قال القرطبي: " وهو الصحيح، فإن لفظ المسح مشترك " (4).
* وقال ابن كثير: " ومنهم من قال: هي دالة على مسح الرجلين ولكن المراد
بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنة... ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح
يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال: أخبرنا أبو علي
الروزبادي، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمد
القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة: سمعت النزال بن
سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه: صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة
الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح
بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته وهو قائم. ثم قال: إنا ناسا
يكرهون الشرب قائما وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صنع كما صنعت، وقال: هذا وضوء من لم
(1) البحر المحيط 3 / 438.
(2) البحر المحيط 3 / 438.
(3) تفسير الخازن 2 / 441.
(4) تفسير القرطبي 6 / 92.
19
يحدث " (1).
أقول:
لكن قال العيني في وجوه الجواب عن قراءة الجر: " الجواب الرابع: إن المسح
يستعمل بمعنى الغسل الخفيف، يقال: مسح على أطرافه إذا توضأ. قاله أبو زيد وابن
قتيبة وأبو علي الفارسي.
وفيه نظر " (2).
* وقال الصاوي - بعد أن ذكره -: " وهو بعيد " (3).
* وقال صاحب المنار: " وهو تكلف ظاهر " (4).
هذا كلام هؤلاء ولم يزيدوا على ما قالوا... ووجه النظر والبعد والتكلف أمور:
الأول: إن غاية ما ذكره أبو زيد وجود هذا الاستعمال بين العرب في مقابل
الاستعمال الشائع الذائع للمسح في مقابل الغسل، وهل يجوز تنزيل لفظ القرآن
الكريم على غير الاستعمال الشائع مع جوازه جعله بالمعنى الشائع؟
الثاني: سلمنا كون لفظ " المسح " مشتركا بين " المسح " و " الغسل " فهل يجوز حمل
اللفظ على المعنى المشترك مع إمكان أخذه بالمعنى الظاهر منه؟
الثالث: إنه بناء على الاشتراك فلا بد من القرينة، ولا قرينة على جعل المسح هنا
بمعنى الغسل إلا الأحاديث، وهي - لو سلمنا تمامية أسانيدها وظهورها في الغسل -
معارضة بما هو صريح في المسح المقابل للغسل.
والرابع: إن استدلال ابن كثير بالحديث الذي ذكره - وجعله من أحسن ما
يستدل به للمدعى - عجيب للغاية، فإنه دال على خلاف المدعى، ومن هنا قال
الآلوسي - وهو أشد القوم إصرارا على الدعاوي - وهو يريد الرد على القائلين
بالمسح: " ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أمير المؤمنين علي - كرم الله تعالى
(1) تفسير القرآن العظيم 2 / 25.
(2) عمدة القاري 2 / 239.
(3) الصاوي على البيضاوي 1 / 270.
(4) المنار 6 / 233.
20
وجهه - " إنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما وقال:
إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز، وقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صنع مثل ما
صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث.
لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدل على
ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا " (1).
4 - دعوى أن المراد بالمسح هو المسح على الخفين:
ومن القوم من لم يمكنه رد ظهور القرائتين أو قراءة الجر في المسح، ولا الجزم
بشئ من التأويلات والتوجيهات، ولا الموافقة على حمل المسح على الغسل... لكنه
حملها على الخفين! لأن السنة دالة على الغسل.
* قال ابن كثير: " ومنهم من قال: هي محمولة على مسح القدمين إذا كان
عليهما الخفان. قاله أبو عبد الله الشافعي " (2).
* وقال ابن العربي: " السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه
واليدين، ودخل بيهما مسح الرأس، وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهما، لأنه مفعول قبل
الرجلين لا بعدهما، فذكر لبيان الترتيب لا ليشتركا في صفة التطهير، وجاء الخفض
ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل وهما الخفان، بخلاف سائر
الأعضاء، فعطف بالنصب مغسولا على مغسول، وعطف بالخفض ممسوحا على ممسوح،
وصح المعنى فيه " (3).
* وقد استحسن ابن حجر هذا الجمع حيث قال: " وحجة الجمهور الأحاديث
الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه بيان للمراد.
وأجابوا عن الآية بأجوبة، منها: أنه قرئ (وأرجلكم) بالنصب عطفا على
(1) روح المعاني 6 / 78.
(2) تفسير القرآن العظيم 2 / 25.
(3) أحكام القرآن 2 / 72.
21
(أيديكم) وقيل: معطوف على محل (برؤوسكم) كقوله: (يا جبال أوبي معه والطير)
يالنصب. وقيل المسح في الآية محمول لمشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة الجر
على مسح الخفين وقراءة النصب على غسل الرجلين، وقرر ذلك أبو بكر ابن العربي
تقريرا حسنا، فقال ما ملخصه:
بين القراءتين تعارض ظاهر، والحكم فيها ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل
بهما وجب، وإلا عمل بالقدر الممكن، ولا يتأتى الجمع بين الغسل والمسح في عضو
واحد في حالة واحدة، لأنه يؤدي إلى تكرار المسح، لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر
المطلق لا يقتضي التكرار، فبقي أن يعمل بهما في حالين، توفيقا بين القراءتين وعملا
بالقدر المكن " (1).
* وقد جنح إلى هذا الوجه جلال الدين السيوطي كما ستعرف، وغير واحد من
المتأخرين كالمراغي (2).
أقول:
لكن هذا الحمل يتوقف على ثلاثة أمور:
أحدها: أن تكون قراءة النصب ظاهرة في الغسل بالعطف على الوجه واليدين.
وقد عرفت أنه غير جائز في مثل هذا المقام، أو بتقدير " اغسلوا "، ومن الواضح بطلانه
لعدم الاضطرار لي تقديره والأصل عدمه.
والثاني: أن تكون السنة قاضية بوجوب الغسل. وستعرف أنها متعارضة.
والثالث: أن يكون المسح على الخفين في حال الاختيار جائزا، وهذا أول الكلام،
فقد أنكر المسح على الخفين جماعة من كبار الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين
- عليه السلام -، وتبعهم بعض الأئمة. ثم إن أحاديث المسح على الخفين متعارضة كذلك،
ولذا اختلف فقهاء القوم فيه على أقوال، فراجع كتبهم الفقهية.
وقد التفت إلى ضعف هذا الوجه غير واحد من علمائهم:
(1) فتح الباري 1 / 215.
(2) تفسير المراغي 6 / 63.
22
* قال الشهاب الخفاجي:
" ومنهم من حمل النصب على حالة ظهور الرجل، والجر على حال استتارها
بالخف، حملا للقراءتين على الحالتين. قيل: وفيه نظر، لأن الماسح على الخف ليس
ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما... " (1).
* قال الآلوسي: " وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق، وهو
أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف، وقراءة النصب على حال دونه. واعترض بأن
الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما... " قال: " هذا الوجه لا
يخلو عن بعد، والقلب لا يميل إليه، وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في
الآية " (2).
تتمة:
قال أحمد بن المنير الإسكندري في (الانتصاف من الكشاف): " لم يوجه الجر بما
يشفي الغليل " (3).
قلت:
وهذا يظهر من جماعة من القائلين بالغسل، فإنهم بعد ما أطنبوا في توجيه الآية
المباركة، لا سيما على قراءة الجر، التجأوا وكأنهم يذعنون بأن ما ذكروه غير مقنع إلى
الإحالة على رسالة منفردة في المسألة، كما قال ابن العربي المالكي وأبو البقاء، أو إلى
كتاب آخر كما ذكر الآلوسي في المقام كتاب (النفحات القدسية في رد الإمامية).
(1) حاشية الشهاب على البيضاوي 3 / 221.
(2) روح المعاني 6 / 76.
(3) لاحظ هامش الكشاف 1 / 610.
23
السنة
فرغنا من البحث حول الآية المباركة، وظهر أنها بكلتا القراءتين دالة على وجوب
مسح الرجلين... وتعرضنا للاختلافات والتناقضات الموجودة في كلمات القائلين
بوجوب غير المسح لصرف الآية عن دلالتها على ذلك... وقد كانت تلك المحاولات - كما
هو صريح كلماتهم - بسبب أن السنة قاضية بوجوب الغسل...
لكن التحقيق أن السنة غير قاضية بوجوب الغسل... فالأخبار الواردة في كتبهم
منها ما يدل على المسح ومنها ما يدل على الغسل، مضافا إلى أن الدال منها على الغسل
أخبار آحاد وغير سليمة الأسناد...
أخبار المسح في كتب الإمامية:
أما الشيعة الإمامية فأخبارهم الدالة على المسح وفاقا للكتاب الشريف كثيرة
عددا معتبرة سندا، ولذا لم يكن خلاف بين علمائهم في وجوب المسح فرضا على
التعيين، بل كان المسح عندهم ضروريا من ضروريات الدين.
وهذه نصوص تلك الأخبار:
1 - قال زرارة: " قلت لأبي جعفر - عليه السلام -: ألا تخبرني من علمت وقلت:
إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ونزل به الكتاب من الله عز وجل، لأن الله عز وجل قال: (فاغسلوا وجوهكم) فعرفنا
أن الوجه كله ينبغي أن يغسل. ثم قال: (وأيديكم إلى المرافق) فوصل اليدين إلى
المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال:
(وامسحوا برؤوسكم) فعرفنا حين قال: (برؤوسكم) أن المسح ببعض الرأس لمكان
الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: (وأرجلكم إلى
الكعبين) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما. ثم فسر ذلك رسول الله
24
(صلى الله عليه وآله وسلم) للناس فضيعوه " (1).
2 - قال محمد بن مروان: " قال أبو عبد الله - عليه السلام -: إنه يأتي على الرجل ستون
وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة. قلت: كيف ذاك؟ قال: لأنه يغسل ما أمر الله
بمسحه " (2).
3 - قال سالم وغالب بن هذيل: " سألت أبا جعفر - عليه السلام - عن المسح على
الرجلين. فقال: هو الذي نزل به جبريل " (3).
4 - قال غالب بن هذيل: " سألت أبا جعفر - عليه السلام - عن قول الله عز وجل:
(وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) على الخفض هي أم على النصب؟ قال:
بل هي على الخفض " (4) أي: هذه قراءة أهل البيت - عليهم السلام - وإن كانت قراءة
النصب أيضا دالة على المسح.
5 - قال جعفر بن سليمان: " سألت أبا الحسن موسى - عليه السلام - قلت: جعلت
فداك يكون خف الرجل مخرقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدميه أيجزيه ذلك؟ قال:
نعم " (5).
6 - قال الصدوق: " قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: لولا أني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يمسح ظاهر قدميه لظننت أن باطنهما أولى بالمسح من ظاهرهما " (6).
* قال الشيخ يوسف البحراني: " ما يدل على وجوب المسح ونفي الغسل من
أخبارنا مستفيض، بل الظاهر أنه من ضروريات مذهبنا " (7).
(1) وسائل الشيعة 1 / 290 - 291.
(2) المصدر نفسه 1 / 295.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه 1 / 291.
(6) المصدر نفسه 1 / 292.
(7) الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة 2 / 290.
25
وقال السيد الطباطبائي الحكيم: " الرابع مسح الرجلين. إجماعا محققا عندنا،
ولعل النصوص به متواترة، بل عن الانتصار: أنها أكثر من عدد الرمل والحصى. ويدل
عليه أيضا قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) سواء قرئ بجر
(وأرجلكم) كما عن ابن كثير وأبي عمر، وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر. أم بالنصب
كما عن نافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية حفص... " (1).
أخبار المسح في كتب السنة:
أما في كتب السنة... فالأخبار المروية في أسانيدهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآثار
المنقولة عن كبار الصحابة... كثيرة جدا، وقد أخرجت في الكتب المعتبرة، كما قد نص
على صحتها كبار علمائهم. ولنذكر طائفة منها:
1 - قال الطحاوي: " حدثنا أبو أمية قال: ثنا محمد بن الأصبهاني قال: أنا
شريك، عن السدي، عن عبد خير، عن علي - رضي الله عنه - توضأ فمسح على ظهر
القدم وقال: لولا أني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعله لكان باطن القدم أحق من
ظاهره " (2).
2 - وقال المتقي: " عن علي قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ ثلاثا ثلاثا إلا المسح مرة
مرة (ش) " (3).
3 - وقال عن مسند علي: " بينما نحن جلوس مع علي في المسجد جاء رجل إلى
علي وقال: أرني وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدعا قنبر فقال: ائتني بكوز من ماء، فغسل يديه
ووجهه ثلاثا، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثا، وغسل ذراعيه ثلاثا، ومسح
رأسه واحدة - ثم قال يعني الأذنين خارجهما وباطنهما من الوجه - ورجليه إلى
الكعبين، ولحيته تهطل على صدره، ثم حسا حسوة بعد الوضوء ثم قال: أين السائل عن
(1) مستمسك العروة الوثقى 2 / 372.
(2) شرح معاني الآثار 1 / 35، وهو في المسند في مواضع عديدة وبأسانيد مختلفة فراجع الجزء الأول
منه في الصفحات / 95، 114، 124.
(3) كنز العمال 9 / 444، رقم 26893.
26
وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ كذا كان وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). عبد بن حميد " (1).
4 - قال: " أيضا عن عبد الرحمان قال: رأيت عليا توضأ فغسل وجهه
ثلاثا وغسل ذراعيه ومسح برأسه واحدة ثم قال: هكذا توضأ رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم). د، ص " (2).
وهذا كسابقه إلا أن الراوي حذف مسح الرجل.
5 - قال: " عن علي قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح
من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسح على ظاهرهما، عب، ش، د " (3).
6 - روى الجصاص عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة: " إن
عليا صلى الظهر ثم قعد في الرحبة، فلما حضرت صلاة العصر دعا بكوز من ماء
فغسل يديه ووجهه وذراعيه، ومسح برأسه ورجليه، وقال: هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فعل " (4).
7 - قال السيوطي: " أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجة عن ابن عباس
قال: أبى الناس إلا الغسل ولا أجد في كتاب الله، إلا المسح " (5).
وأخرجه ابن ماجة في حديث أنه قال ذلك منكرا على الربيع، عندما ادعت أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ عندها فغسل رجليه (6).
8 - قال العيني: " حديث عمر - رضي الله عنه - أخرجه ابن شاهين في كتاب
الناسخ والمنسوخ " (7).
(1) كنز العمال 9 / 448 رقم 26908.
(2) المصدر نفسه 9 / 448 رقم 26906.
(3) المصدر نفسه 9 / 605 رقم 27609.
(4) أحكام القرآن 1 / 347.
(5) الدر المنثور 2 / 262.
(6) سنن ابن ماجة 1 / 156.
(7) عمدة القاري 2 / 240.
27
9 - قال: " حديث جابر بن عبد الله، أخرجه الطبراني في الأوسط " (1).
10 - قال ابن ماجة: " حدثنا محمد بن يحيى، ثنا حجاج، ثنا همام، ثنا إسحاق بن
عبد الله بن أبي طلحة، حدثني علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن
رافع: أنه كان جالسا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنها لا تتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء
كما أمره الله تعالى: يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى
الكعبين " (2).
وقال الطحاوي: " حدثنا محمد بن خزيمة: ثنا حجاج بن المنهال قال: ثنا همام
ابن يحيى قال: أنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: ثنا علي بن يحيى بن خلاد،
عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع أنه كان جالسا... " (3).
وقال السيوطي: " أخرج البيهقي في سننه عن رفاعة بن رافع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال للمسئ صلاته: إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، يغسل
وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين " (4).
وحديث رفاعة من الأحاديث المشهورة المعتبرة، فقد أخرجه بالإضافة إلى من
ذكرنا - كل من أبي داود 1 / 86 والنسائي 1 / 161 والحاكم 1 / 241، وقد نص الحاكم
على أنه صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال العيني: " حسنه
أبو علي الطوسي وأبو عيسى الترمذي وأبو بكر البزار، وصححه الحافظ ابن حبان وابن
حزم " (5).
11 - قال الطحاوي: " ثنا ابن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن الحسين اللهبي قال:
ثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ ونعلاه
في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ويقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع هكذا " (6).
(1) عمدة القاري 2 / 240.
(2) سنن ابن ماجة 1 / 156.
(3) شرح معاني الآثار 1 / 35.
(4) الدر المنثور 2 / 262.
(5) عمدة القاري 2 / 240.
(6) شرح معاني الآثار 1 / 35.
28
12 - وقال المتقي: " حدثنا هشيم: أنا يعلى بن عطاء عن أبيه قال: أخبرني أوس
ابن أبي أوس الثقفي أنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى كظامة قوم بالطائف، فتوضأ ومسح على
قدميه " (1).
13 - وقال الطحاوي: " حدثنا روح بن الفرج قال: ثنا عمرو بن خالد قال: ثنا
ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عباد بن تميم، عن عمه: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ ومسح على
القدمين. وأن عروة كان يفعل ذلك " (2).
وهذا الحديث قد نص ابن عبد البر على صحته (3).
14 - وقال ابن حجر: " روى البخاري في تاريخه، وأحمد، وابن أبي شيبة، وابن أبي
عمر، والبغوي، والبارودي وغيرهم: كلهم من طريق أبي الأسود عن عباد بن تميم المازني
عن أبيه قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ ويمسح الماء على رجليه.
رجاله ثقات " (4).
وقال ابن الأثير: أخبرنا يحيى بن محمود بن سعد الثقفي إجازة بإسناده إلى ابن
أبي عاصم، أخبرنا ابن أبي شيبة وأبو بشر بكر بن خلف قالا: حدثنا عبد الله بن زيد،
أخبرنا سعيد بن أبي أيوب، أخبرنا أبو الأسود، أخبرنا عباد بن تميم، عن أبيه قال: رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ ومسح بالماء على رجليه " (5).
15 - وقال المتقي: " عن حمران قال: رأيت عثمان دعا بماء فغسل كفيه ثلاثا
ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم
ضحك، فقال: ألا تسألوني ما أضحكني؟ قلنا: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال:
أضحكني أن العبد إذا غسل وجهه حط الله عنه بكل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل
ذراعيه كان كذلك، وإذا مسح رأسه كان كذلك، وإذا طهر قدميه كان كذلك. حم
(1) كنز العمال 9 / 476.
(2) شرح معاني الآثار 1 / 35.
(3) الإستيعاب في معرفة الأصحاب - ترجمة تميم بن زيد 1 / 195.
(4) الإصابة في معرفة الصحابة 1 / 185.
(5) أسد الغابة 1 / 217.
29
والبزار حل ع وصحح " (1).
16 - قال: " من مسند عبد الله بن زيد المازني: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ فغسل وجهه
ثلاثا ويديه مرتين ومسح رأسه ورجليه مرتين. ش " (2).
والاستدلال بأنه مسح رجليه، وقوله: " مرتين " مؤول أو غلط، ورواه العيني عن
ابن أبي شيبة أيضا بإسناده عن عبد الله بن زيد ولفظه: " إن النبي توضأ ومسح بالماء على
رجليه " قال: " ورواه ابن خزيمة في صحيحه " (3).
17 - وقال ابن الأثير بترجمة أبي جبير الحضرمي: " روى حديثه عبد الرحمن بن
جبير بن نفير عن أبيه: أن أبا جبير قدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ابنته التي كان تزوجها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدعا رسول الله بوضوء فغسل يديه فأنقاهما ثم مضمض فاه واستنشق بماء، ثم
غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح رأسه ورجليه " (4).
18 - قال العيني: " حديث رجل من قريش، رواه مسلم الكجي في سننه عن
حجاج، حدثنا حماد عن أبي جعفر الخطمي عمير بن يزيد، عن عمارة بن خزيمة بن
ثابت عن رجل من قريش، ثال: تبعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدح فيه ماء، فلما قضى حاجته
توضأ وضوءه للصلاة قال فيه: ثم مسح على قدمه اليمنى ثم قبض أخرى فمسح قدمه
اليسرى " (5).
قال ابن كثير: " وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح " قال:
19 - قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن قيس الخراساني، عن ابن
جريح، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان
ومسحتان.
(1) كنز العمال 9 / 442 رقم 26886.
(2) المصدر نفسه 9 / 451 رقم 26922.
(3) عمدة القاري 2 / 240.
(4) أسد الغابة 5 / 156.
(5) عمدة القاري 2 / 240.
30
كذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
20 - وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المنقري، حدثنا عبد
الوهاب، حدثنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: (وامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) قال: هو المسح. ثم قال:
وروي عن ابن عمر، وعلقمة، وأبي جعفر محمد بن علي، والحسن - في إحدى
الروايات - وجابر بن زيد، ومجاهد - في إحدى الروايات - نحوه.
21 - وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب، قال:
رأيت عكرمة يمسح على رجليه. قال: وكان يقوله.
22 - وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي
هند، عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. ثم قال الشعبي: ألا ترى أن التيمم أن
يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا.
وحدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد: أخبرنا إسماعيل: قلت لعامر: إن ناسا يقولون:
إن جبريل نزل بغسل الرجلين. فقال: نزل جبريل بالمسح.
23 - فقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا حميد،
قال: قال موسى بن أنس - ونحن عنده -: يا أبا حمزة، إن الحجاج خطبنا بالأهواز
ونحن معه، فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم واسمحوا برؤوسكم
وأرجلكم، وإنه ليس شئ من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما
وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: كذب الحجاج. قال الله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم
وأرجلكم) قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما.
إسناد صحيح إليه (1).
أقول:
فهذه أخبار وآثار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته في وجوب مسح الرجلين في الوضوء.
(1) تفسير القرآن العظيم 2 / 25، ولاحظ الدر المنثور 2 / 262 حيث أورد الآثار عن ابن عباس
وعكرمة والشعبي وغيرهم برواية جماعة من الأئمة وابن جرير الطبري واحد منهم.
31
وقد ذهب إلى المسح - استنادا إلى الآية الكريمة والأحاديث الحاكية لوضوء النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وجماعة من الصحابة - غير واحد من التابعين والأئمة المشهورين.
وقد اعترف ابن العربي وابن حجر وابن كثير بذهاب جماعة من الصحابة
والتابعين والسلف إلى المسح (1). وقال ابن رشد: ذهب إليه قوم (2).
وقد نسب هذا القوم في غير واحد من الكتب إلى: علي، وابن عباس، وأنس بن
مالك من الصحابة، وإلى عكرمة، والشعبي، وقتادة.
ونسبه الشيخ أبو جعفر الطوسي إلى أبي العالية أيضا (3).
ونسب القول برد وجوب الغسل على التعيين إلى محمد بن جرير الطبري، أحد
أئمة أهل السنة المشهورين... في عدة من الكتب في العلوم المختلفة، أمثال (أحكام
القرآن) و (المجموع شرح المهذب للنووي) و (المغني) وتفاسير: (الشوكاني)
و (القرطبي) و (ابن كثير) و (الرازي) و (البغوي).
تنبيه:
ويمكن الاستدلال للمسح بالأخبار التي رووها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصحابة -
بناء على صحتها كما قالوا - في المسح على الخفين، على اختلاف ألفاظها، ففي بعضها:
مسح على خفيه، وفي آخر: على نعليه، وفي ثالث: على قدميه ونعليه... ويؤيد ذلك ما في
بعض أخبار الإمامية من جواز المسح على الرجلين وهما في النعلين إذا كانت مخرقة، بل
هذا ظاهر الحديث المتقدم عن نافع عن ابن عمر، فلاحظ. بل من الجائز حمل جميع هذه
الأخبار على تلك الصورة.
وقد صرح بجواز هذا الاستدلال بعض المفسرين... كما ستعرف.
(1) أحكام القرآن 2 / 72، فتح الباري 1 / 215، تفسير ابن كثير 2 / 25.
(2) بداية المجتهد 1 / 15.
(3) الخلاف 1 / 15.
32
اضطراب القائلين بالغسل تجاه هذه الأخبار:
هذه طائفة من أخبار المسح، وقد اضطربت كلمات القوم واختلفت مواقفهم،
فمنهم من كذبها وكذب نسبة القول بالمسح إلى أولئك الصحابة والتابعين
كالآلوسي (1)، ومنهم من أقر بذهابهم إلى المسح ثم ادعى عدولهم عنه كابن حجر (2)
ومنهم من ضعف أسانيدها، كالآلوسي الذي نص على ضعف ما روي عن عباد بن
تميم مع تنصيص غيره على صحته (3)... ثم التجأوا إلى التحريف...
فحديث أوس الذي رواه المتقي عن جماعة رووه بلفظ: " قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة " (4).
وحديث عبد خير عن علي - عليه السلام - الذي أخرجه أحمد والطحاوي وغيرهما من
الأئمة... رووه صريحا في الغسل، قال المتقي: " عن عبد خير قال: توضأ علي فمضمض
ثلاثا من كف واحدة، وغسل وجهه، ثلاثا، ثم أدخل يده في الركوة، فمسح رأسه
وغسل رجليه ثم قال: هذا وضوء نبيكم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). عب ش " (5).
وحديث النزال بن سبرة أخرجه أحمد بنفس السند دالا على الغسل فقال: "...
عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: " صلينا مع علي - رضي الله عنه -
الظهر، فانطلق إلى مجلس له يجلسه في الرحبة، فقعد وعقدنا حوله، ثم حضرت العصر،
فأتي بإناء فأخذ منه كفا، فتمضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ومسح برأسه
ومسح برجليه ثم قال:... إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل كما فعلت " (6).
(1) روح المعاني 6 / 78.
(2) فتح الباري 1 / 213.
(3) روح المعاني 6 / 78.
(4) كنز العمال 9 / 476.
(5) المصدر نفسه 9 / 444.
(6) مسند أحمد 1 / 159.
33
وحديث حمران عن عثمان الصريح في المسح رووه في الغسل... فأحمد كما روى
ذاك كذلك روى بإسناده: " عن حمران بن أبان قال: رأيت عثمان بن عفان - رضي الله
عنه - توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا،
ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل
قدمه اليمنى ثلاثا، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ نحوا من
وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه،
غفر له ما تقدم من ذنبه " (1)
أخبار الغسل في كتب السنة:
وإن المتتبع لكتب القائلين بالغسل يجد أن أهم ما يستدلون به لما ذهبوا إليه هو:
1 - الأحاديث المشتملة على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ويل للأعقاب من النار " أو: " ويل
للعراقيب من النار ".
2 - الأحاديث الحاكية لوضوئه (صلى الله عليه وآله وسلم):
* ففي كتاب (أحكام القرآن) بعد ذكر القراءتين: " لكن تعضد حالة النصب
على حالة الخفض بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غسل وما مسح قط، وبأنه رأى قوما تلوح أعقابهم
فقال: (ويل للأعقاب من النار) و (ويل للعراقيب من النار) فتوعد بالنار على ترك
إيعابه غسل الرجلين، فدل ذلك على الوجوب بلا خلاف، وتبين أن من قال من
الصحابة: إن الرجلين ممسوحتان، لم يعلم بوعيد النبي على ترك إيعابهما " (2).
* وفي (فتح الباري) بشرحه: " قال ابن خزيمة: لو كان الماسح مؤديا للفرض لما
توعد بالنار " قال ابن حجر: " أشار بذلك إلى ما في كتب الخلاف عن الشيعة أن الواجب
المسح أخذا بظاهر قراءة (وأرجلكم) بالخفض " (3).
(1) مسند أحمد 1 / 59.
(2) أحكام القرآن 2 / 72.
(3) فتح الباري 1 / 213.
34
* وفي (تفسير القرطبي) بعد الكلام على القراءتين: " قلت: والقاطع في الباب
- من أن فرض الرجلين الغسل - ما قدمناه وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: ويل
للأعقاب وبطون الأقدام من النار، فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل.
ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه
الاستيعاب، ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على
بطونهما. فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح، إذ لا مدخل لمسح بطونهما
عندهم، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح " (1).
* وفي (المبسوط) بعد ذكر الاستدلال بالآية على المسح: " ولنا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
واظب على غسل الرجلين، وبأمر من علمه الوضوء، ورأى رجلا يلوح عقبه فقال:
ويل... " (2).
* وفي (معالم التنزيل) بعد الكلام على الآية: " والدليل على وجوب غسل
الرجلين ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي الخطيب، أنا أبو عبد
الله الحافظ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، أنا يحيى بن محمد بن يحيى، أنا الحجي
ومسدد قالا: أخبرنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن
عمرو قال: تخلف عنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر سافرناه، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة
العصر ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادانا بأعلى صوته: ويل للأعقاب
من النار " (3).
* وفي (الكواكب الدراري) بعد حديث: " ويل... " قال: " فإن قلت: ظاهر
القرآن (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) بالخفض يدل على وجوب المسح عليهما.
قلت: قراءة الجر تعارض قراءة النصب فلا بد من تأويل، وتأويل الجر بأنه على المجاورة
كقولهم: جحر ضب خرب، أولى من تأويل النصب بأنه محمول على محل الجار
والمجرور، لأنه موافق للسنة الثابتة الشائعة، فيجب المصير إليه. وأخصر الاستدلالات
(1) تفسير القرطبي 6 / 94 - 95.
(2) المبسوط في الفقه الحنفي 1 / 8.
(3) معالم التنزيل 2 / 217.
35
عليه: إن جميع من وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواطن متعددة متفقون على غسل
الرجلين " انتهى كلامه (1) وفيه مواقع للنظر تظهر بالنظر فيما تقدم وما يأتي.
وإذ ظهر أن أهم ما يستدلون به ما هو؟ فلنذكره بالتفصيل ونتكلم عليه.
1 - أحاديث ويل للأعقاب من النار:
ولنقدم حديث وعيده بالنار على من ترك الغسل كما يقولون، والعمدة في الباب
ما يروونه عن عبد الله بن عمرو، فلنقدمه على غيره... وهذا لفظه عند البخاري:
الحديث عن عبد الله عمرو:
" حدثنا موسى قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن
عبد الله بن عمرو قال: تخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنا في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا
العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار.
مرتين أو ثلاثا " (2).
وأخرجه مسلم أيضا حيث قال:
" حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير. ح وحدثنا إسحاق، أخبرنا جرير، عن
منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال: رجعنا مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر
فتوضأوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوج، لم يمسها الماء، فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء " (3).
أقول:
فهذا عمدة أدلتهم كما عرفت من كلماتهم. والكلام في سندا ودلالة:
(1) الكواكب الدراي 2 / 8.
(2) صحيح البخاري - شرح ابن حجر - 1 / 213.
(3) صحيح مسلم - بشرح النووي - 2 / 128.
36
الكلام في سنده:
أما من ناحية السند، فهو من أحاديث كتابي البخاري ومسلم المشهورين
بالصحيحين، ولكن ليس كل حديث فيهما بصحيح، فقد تكلم في كثير من أحادثهما.
وهذا الحديث لا يخلو سنده من نظر:
أما عند البخاري فهو عن " موسى " أي: موسى بن إسماعيل التبوذكي - كما قال
ابن حجر والقسطلاني وغيرهما - وقد ذكره ابن حجر في مقدمة فتح الباري فيمن تكلم
فيه من رجال البخاري، ونقل عن ابن خراش قوله: " تكلم الناس فيه " (1) ومن هنا
أورده الذهبي في ميزان الاعتدال (2).
وأما عند مسلم، فمداره على " جرير " وهو ابن عبد الحميد الضبي، وهذا أيضا قد
أورده ابن حجر فيمن تكلم من رجال البخاري، فذكر عن بعض العلماء أنه كان
يدلس، وعن أحمد أنه لم يكن بالذكي، وعن البيهقي: نسب في آخر عمره إلى سوء
الحفظ (3).
وذكر هذه الكلمات بترجمته في تهذيب التهذيب وأضاف عن بعضهم عن أبي
حاتم أنه تغير قبل موته بسنة. ثم قال ابن حجر: إنه اشتباه (4).
وأورده الذهبي في ميزانه وذكر كلمة أحمد فقال: " قال أحمد بن حنبل: لم يكن
بالذكي في الحديث، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحوال، حتى قدم عليه بهز
فعرفه " وذكر كلام أبي حاتم ثم أيده بكلام البيهقي المذكور (5).
(1) مقدمة فتح الباري / 446.
(2) ميزان الاعتدال في نقد الرجال.
(3) مقدمة فتح الباري / 392.
(4) تهذيب التهذيب 2 / 66.
(5) ميزان الاعتدال 1 / 394.
37
الكلام في متنه ومدلوله:
وأما دلالة الحديث، ففي لفظ مسلم ما يبين الإجمال الموجود في لفظ البخاري،
ففي البخاري: " فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته... " فليس فيه
ذكر للأعقاب، لكنه عند مسلم: " فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويل للأعقاب من النار ".
ومن الواضح أن لفظ مسلم هو الصحيح، إذ لا بد من أن يكون هناك شئ
متعلق بالأعقاب حتى يقول: ويل للأعقاب من النار. وحينئذ يكون لفظ مسلم قرينة
على المراد من لفظه عند البخاري، إن لم نقل بتعمد البخاري وتصرفه في اللفظ كما صنع
غيره كما ستعرف...
بل في (فتح الباري): " وفي أفراد مسلم: فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم
يمسها الماء " (1)... وهذا اللفظ يزيد الحديث تفسيرا ووضوحا.
وحينئذ يكون حديث: " ويل للأعقاب من النار " أو " ويل للعراقيب من النار "
دالا على المسح لا الغسل، ولذا تمسك به من يقول بإجزاء المسح. قال ابن حجر:
" فتمسك بهذا الحديث من يقول بإجزاء المسح " (2).
وقال القسطلاني بشرحه:
" استنبط من هذا الحديث الرد على الشيعة القائلين بأن الواجب المسح أخذا
بظاهر قراءة (وأرجلكم) بالخفض، إذ لو كان الفرض المسح لما توعد عليه بالنار. لا
يقال: إن ظاهر رواية مسلم أن الإنكار عليهم إنما هو بسبب الاقتصار على غسل بعض
الرجل حيث قال: فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء. لأن هذه الرواية
من أفراد مسلم... " (3).
وقال ابن رشد بعد أن ادعى أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل:
(1) فتح الباري 1 / 213.
(2) المصدر نفسه.
(3) إرشاد الساري 1 / 248.
38
" وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام، إذ قال في
قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء: ويل للأعقاب من النار. قالوا: فهذا يدل على
أن الغسل هو الفرض، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب.
وهذا ليس فيه حجة، لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل،
ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم، كما أن من شرع المسح
ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين.
وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرجه مسلم أنه قال: فجعلنا نمسح
على أرجلنا فنادى: ويل للأعقاب من النار.
وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل
على جوازه منه على منعه، لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل
سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازها.
وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين " (1).
وقال محمد رشيد رضا - بعد أن قال: بأن أصح الأحاديث هذا الحديث -: " وقد
يتجاذب الاستدلال بهذا الحديث الطرفان، فللقائلين بالمسح أن يقولوا إن الصحابة
كانوا يمسحون، فهذا دليل على أن المسح كان هو المعروف عندهم، وإنما أنكر النبي
عليهم عدم مسح أعقابهم " (2).
وإذا عرفت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال هذا الكلام، أعني قوله: ويل للأعقاب من
النار، أو: ويل للعراقيب من النار، في هذه القضية التي توضأ القوم فمسحوا على
أرجلهم ولم يمس الماء موضعا من مواضع المسح، ظهر لك سقوط الاستدلال لوجوب
الغسل بالأخبار المروية عن غير (عبد الله بن عمرو) المشتملة على واحدة من الجملتين.
كالأخبار الأربعة التي رواها مسلم بأسانيده عن (مولى شداد بن الهاد المهري)
عن عائشة، أنها قالت لأخيها عبد الرحمان بن أبي بكر: أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول
(1) بداية المجتهد 1 / 16.
(2) المنار 6 / 228.
39
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ويل للأعقاب من النار " (1).
لا سيما وأن في رواية أحمد أنها إنما قالت له ذلك " لأنه أساء الوضوء " مع أن
الراوي أجمل الكلام فلم يصرح بالخصوصية التي أساء فيها الوضوء، وهي عدم المسح
الكامل على الرجلين!
وحينئذ لا تبقى حاجة للنظر في أسانيد روايات مسلم هذه عن عائشة...
تصرفات القوم في هذا الحديث:
ولما ذكرنا من ظهور هذه الرواية في المسح دون الغسل، نرى القوم يتصرفون في
لفظها ويحرفون متنها، لصرفها عن الدلالة المذكورة، كي لا يتم للقائلين بالمسح
التمسك بها بعد أن كانت أصح ما في الباب! ولا بأس بذكر بعض ذلك، ليكون ذلك
من شواهد دلالة الحديث على المسح:
* فقد أخرج أبو داود الحديث بنفس السند في باب إسباغ الوضوء قائلا:
" حدثنا مسدد، ثنا يحيى عن سفيان، حدثني منصور، عن هلال بن يساف، عن
أبي يحيى، عن عبد الله بن عمر (2) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى قوما وأعقابهم تلوح فقال: ويل
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2 / 128.
(2) كذا في رواية أبي داود ورواية ابن ماجة الآتية، فهو " عبد الله بن عمر " لا " عبد الله بن عمرو " وكذا في
المتنقى - متن نيل الأوطار - وفي بعض كتب المتأخرين وفي الكشاف 1 / 611 رواه عن عبد الله بن
عمر بن الخطاب، قال: وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح
فقال: ويل للأعقاب من النار "
فقال ابن حجر في (تخريجه): " تنبيه: لم أره من حديث ابن عمر وكأنه تحرف على صاحب
الكتاب أو بعض من أخذه عنه "
قلت: قد رأيت أنه في غير واحد من كتب الحديث - ومنها بعض السنن - ولا أظن أن الأمر
كما ذكر ابن حجر، فإن ذلك لا يليق بمثل أبي داود وابن ماجة وأمثالهما من الأئمة، بل لعل هؤلاء
قد فطنوا إلى إشكال في نسبة الحديث إلى " ابن عمرو بن العاص " لم يتفطن إليه البخاري ومسلم،
فنسبوه إلى " ابن عمر بن الخطاب " وعليك بمزيد التأمل في المقام!!
40
للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء " (1).
فحذف من القصة، وأنهم مسحوا على أرجلهم، والسبب في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم (ذلك!
* وكذا صنع الترمذي حيث عنون هذه الجملة وعقد لها بابا فقال: " باب ما
جاء: ويل للأعقاب من النار " وما أورد سوى هذا الحديث:
" حدثنا قتيبة قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن
أبيه عن أبي هريرة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ويل لأعقاب من النار " (2).
ومع ذلك ففي سنده نظر:
أما " عبد العزيز بن محمد " وهو الدراوردي فعن أبي زرعة: " سيئ الحفظ فربما
حدث من حفظه الشئ فيخطئ " وعن النسائي: " ليس بالقوي " وعن أبي حاتم: " لا
يحتج به " (3). ولذا أورده ابن حجر فيمن تكلم فيه من رجال البخاري وذكر أن
البخاري روى له حديثين مقرونا بغيره (4) ولهذه الكلمات وغيرها أورده الذهبي في
ميزانه (5).
وأما " سهيل بن أبي صالح " فكذلك، فقد أورده ابن حجر في الباب المذكور
ونص على أن له حديثا واحدا فقط في البخاري مقرونا بغيره (6). وقال بترجمته:
ذكر البخاري في تاريخه قال: كان لسهل أخ فمات فوجد عليه فنسي كثيرا من
الحديث، وذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه عن يحيى قال: لم يزل أهل الحديث يتقون
حديثه. وذكر العقيلي عن يحيى أنه قال: هو صويلح وفيه لين. وذكره الحاكم في باب
من عيب على مسلم إخراج حديثه (7) وذكره الذهبي في ميزانه فذكر كلمات أخرى في
(1) سنن أبي داود 1 / 15.
(2) صحيح الترمذي 1 / 58.
(3) تهذيب التهذيب 6 / 315.
(4) مقدمة فتح الباري / 419 /
(5) ميزان الاعتدال 2 / 633.
(6) مقدمة فتح الباري / 406.
(7) تهذيب التهذيب 4 / 231.
41
جرحه (1) لا حاجة إلى إيرادها إذ فيما ذكرناه كفاية.
* وكذا صنع النسائي، حيث أورد الحديث في باب إسباغ الوضوء بنفس سند
مسلم، فحذف منه الجملة وأبقى الأمر بإسباغ الوضوء، وهذا نصه:
" أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف عن أبي يحيى
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أسبغوا الوضوء " (2).
* وأخرجه ابن ماجة بنفس السند فقال:
" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن
منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمر، قال: رأى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) قوما يتوضأون وأعقابهم تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء " (3).
فتراه حذف القصة، وقوله: أنهم مسحوا على أرجلهم، وأنه ترك بعضهم الأعقاب
لم يمسها الماء.
وفي سنده نظر، لكون " وكيع " - وهو ابن الجراح - مقدوحا عند غير واحد منهم،
وقد ذكروا أنه كان يشرب المسكر (4).
* وحرف النسفي الحديث حتى جاء ظاهرا في الوعيد على المسح فقال:
" وقد صح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى قوما يمسحون على أرجلهم فقال: ويل للأعقاب
من النار "!! (5).
وأفرط الزمخشري في التحريف فجعل " الوضوء " بدل " المسح " قال:
" وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال:
ويل للأعقاب من النار " (6).
(1) ميزان الاعتدال 2 / 243.
(2) سنن النسائي 1 / 89.
(3) سنن ابن ماجة 1 / 154.
(4) ميزان الاعتدال 4 / 335.
(5) تفسير النسفي - هامش الخازن - 2 / 441.
(6) الكشاف 1 / 611.
42
حديث عبد الله في المسند مع تحريفات:
وأخرج أحمد في مسنده حديث عبد الله بن عمرو بنفس سند مسلم بتحريف
واضح، وهذه عبارته:
" حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا وكيع، حدثنا سفيان، وعبد الرحمان عن سفيان،
عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال:
رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوما يتوضأون وأعقابهم تلوح. فقال: ويل للأعقاب من
النار، أسبغوا الوضوء " (1).
وأخرجه بنفس السند مرة أخرى بلفظ محرف بنقيصة كسابقه، مع زيادة غير
موجودة في لفظ من ألفاظه المذكورة!:
" حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور، عن
هلال بن يساف - عن أبي يحيى الأعرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الرجل قاعدا.
فقال: على النصف من صلاته قائما.
قال: وأبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوما يتوضأون لم يتموا الوضوء. فقال: أسبغوا - يعني
الوضوء - ويل للعراقيب من النار أو للأعقاب من النار " (2).
فبالمقارنة بين لفظه ولفظ مسلم يظهر أنه في لفظ الحديث الأول أسقط جملة
المسح على الأرجل... وفي لفظ الثاني أسقطه ووضع بدله جملة " لم يتموا الوضوء " التي
تصلح لأن يكون الواقع منهم المسح أو الغسل، فلا تكون أي دلالة للحديث... مع
أنه قد تقدم عن ابن حجر التصريح بأن القائلين بالمسح قد تمسكوا بحديث عبد الله
ابن عمرو بن العاص... وتقدم عن ابن رشد التصريح بأنه على المسح أدل منه على
الغسل.
هذا كله مع أن السند في هذين اللفظين واحد، وهو متحد مع سند مسلم...!!
(1) مسند أحمد 2 / 193.
المصدر نفسه 2 / 201.
43
الحديث عن غير عبد الله بن عمرو:
ورووا عن جماعة من الصحابة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ويل للأعقاب من النار " أو
" ويل للعراقيب من النار " لكن بلا ذكر للقضية... وإذ قد عرفنا الأصل لكلامه (صلى الله عليه وآله وسلم)
هذا - على فرض صدوره - لم يكن حاجة إلى ذكر الأحاديث، والتكلم عليها...
* فمن ذلك الحديث عن عائشة، حيث إنها خاطبت أخاها عبد الرحمان بما قاله
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...
وقد أخرجه مسلم غير مرة كما ذكرنا من قبل.
وجميع أسانيد القصة ترجع إلى رجل من الموالي لكن بأسماء مختلفة:
فمسلم ذكره تارة باسم " سالم مولى شداد " وأخرى باسم " أبو عبد الله مولى شداد
ابن الهاد " وثالثة باسم " سالم مولى المهري " ورابعة باسم " سالم مولى شداد بن الهاد ".
وأحمد ذكره باسم " سالم سبلان ":
وابن ماجة أسقطه من السند:
قال أحمد:
" ثنا حسين قال: أنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم سبلان قال:
خرجنا مع عائشة على مكة. قال: وكانت تخرج بأبي يحيى التيمي يصلي بها. قال:
فأدركنا عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق، فأساء عبد الرحمان الوضوء، فقالت عائشة: يا
عبد الرحمان أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ويل للأعقاب يوم
القيامة من النار " (1).
وفي سنده:
" عمران بن بشير " وهو كما قال ابن حجر بترجمة " سالم سبلان ": " عمران بن بشير
ابن محرز ". وهذا الرجل ليس من رجال الكتب الستة، وإنما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح
والتعديل بلا جرح ولا تعديل، قال:
" عمران بن بشير بن محرز. روى عن أبيه. روى عنه ابن أبي ذئب. سمعت أبي
(1) مسند أحمد 6 / 112، 258.
44
يقول ذلك " (1).
ثم ما معنى أنه أساء الوضوء؟
إن كان قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - على فرض ثبوته - دالا على وجوب غسل الرجلين، فهذا
الحديث يفيد أن عبد الرحمان كان يمسح رجليه في الوضوء ولا يغسلهما! وإن كان دالا
على وجوب المسح فقد عمل عبد الرحمان بقول النبي وعمل بظاهر الآية المباركة، لكن
عائشة من الناس الذين " أبو إلا الغسل " كما قال ابن عباس!
وأخرجه ابن ماجة فقال:
" حدثنا محمد بن الصباح، ثنا عبد الله بن رجاء المكي، عن ابن عجلان ح،
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن سعيد وأبو خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان،
عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة قال:
رأت عائشة عبد الرحمان - وهو يتوضأ - فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ويل للعراقيب من النار " (2).
وفي سنده:
أولا: إنه مرسل، فإن " أبا سملة " هذا هو: " أبو سلمة بن عبد الرحمان " وهو
الراوي للحديث - في إحدى روايات مسلم (3) - عن سالم مولى المهري ". فإن كان
المروي عنه هنا هو " سالم " كذلك، فلماذا أسقطه ابن ماجة؟ وإن كان غيره فمن هو؟
وثانيا: مدار هذا الحديث على " محمد بن عجلان " وهو ممن أخرج له مسلم في
المتابعات ولم يحتج به (4). ولم يخرج عنه البخاري إلا في المعلقات وقد تكلم في ذلك. قال
ابن حجر فيمن تكلم فيه: " فيه مقال من قبل حفظه " (5).
(1) الجرح والتعديل 6 / 294.
(2) سنن ابن ماجة 1 / 154.
(3) صحيح مسلم - بشرح النووي - 2 / 128.
(4) تهذيب التهذيب 9 / 304.
(5) مقدمة فتح الباري / 459.
45
قلت: لا من قبل ذلك فحسب، فقد أورده الذهبي في ميزانه (1) وذكر بعض
الكلام فيه، حتى نقل عن مالك: أنه قيل له: إن ناسا من أهل العلم يحدثون. قال: من
هم؟ فقيل له: ابن عجلان. فقال: لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء، ولم يكن
عالما.
وذكر الذهبي أن البخاري أورده في الضعفاء.
وذكر أنه: مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطنها لما ماتت، فأخرج وقد
نبتت أسنانه!!
* ومن ذلك الحديث عن جابر بن عبد الله، قال ابن ماجة:
" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي
كريب، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ويل للعراقيب من
النار " (2).
وفي سنده:
" أبو إسحاق " وهو السبيعي، قالوا: " كان يدلس "، و " اختلط بآخره " كما
سيجئ أيضا.
* ومن ذلك الحديث عن أبي هريرة. قال ابن ماجة:
" حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا
سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ويل للأعقاب من النار " (3).
وقد عرفت " سهيلا " عند الكلام على سند الترمذي.
وقد كان الراوي عنه هناك: " عبد العزيز بن محمد " وقد عرفته كذلك لكنه هنا
" عبد العزيز بن المختار " وقد ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه من رجال الصحيح
(1) ميزان الاعتدال 3 / 644.
(2) سنن ابن ماجة 1 / 155.
(3) المصدر نفسه 1 / 154.
46
البخاري! (1)، وكذا الذهبي في ميزانه، فنقل عن يحيى بن معين فيه قوله " ليس
بشئ " وقال: " ما عرفت سببه! " (2).
* ومن ذلك الحديث عن معيقيب، قال أحمد:
" ثنا خلف بن الوليد، ثنا أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة،
عن معيقيب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويل للأعقاب من النار " (3).
وفي سنده:
" أيوب بن عتبة ":
عن أحمد: ضعيف. وعنه: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير (4) وعن
ابن معين: قال أبو كامل: ليس بشئ. وعنه أيضا: ليس بالقوي، ومرة: ليس بشئ.
وعن غير واحد عن يحيى: ضعيف. وقال ابن المديني والجوزجاني وابن عمار وعمرو بن
علي ومسلم: ضعيف. زاد عمرو: وكان سئ الحفظ. وعن البخاري هو عندهم لين.
وعن أبي زرعة: حديثه عن أهل العراق ضعيف. وعن النسائي: مضطرب الحديث. وفي
موضع آخر: ضعيف. والدارقطني: يترك. وعن أحمد: مضطرب الحديث عن يحيى (5)
وفي غير يحيى. وقال أبو زرعة الدمشقي: رأيت أحمد يضعف حديثه عن يحيى (6) وقال
الآجري عن أبي داود: منكر الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال
ابن خراش: ضعيف الحديث جدا. وقال الترمذي عن البخاري: ضعيف جدا لا
أحدث عنه (7).
* ومن ذلك الحديث عن عبد الله بن الحرث الزبيدي. قال أحمد:
" ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا حياة بن شريح، عقبة بن مسلم قال: سمعت
(1) مقدمة فتح الباري / 419.
(2) ميزان الاعتدال 2 / 634.
(3) مسند أحمد 3 / 426.
(4)، (5)، (6) - وهذا منه!
(7) تهذيب التهذيب 1 / 357.
47
عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ويل للأعقاب
وبطون الأقدام من النار " (1).
وفي سنده:
" ابن لهيعة " وهو عبد الله بن لهيعة:
قال البخاري عن الحميدي: كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئا. وقال ابن المديني
عن ابن مهدي: لا أحمل عنه قليلا ولا كثيرا. وقال يعقوب بن سفيان عن سعيد بن أبي
مريم: كان حياة بن شريح أوصى بكتبه إلى وصي لا يتقي الله (2) وقال عبد الكريم بن
عبد الرحمان النسائي عن أبيه: ليس بثقة. وقال ابن معين: كان ضعيفا لا يحتج بحديثه.
وقال الجوزجاني: لا يوقف على حديثه، ولا ينبغي أن يحتج به ولا يغتر بروايته. وقال ابن
سعد: كان ضعيفا. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: سبرت
أخباره فرأيته يدلس عن أقوام ثقات.
إلى غير ذلك من كلماتهم (3).
2 - أحاديث صفة وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
واستدلوا بالأحاديث الحاكية لوضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رأيت في كلماتهم سابقا...
ومن سبر أخبارهم في صفة وضوئه وجدها متعارضة متهافتة جدا،... وحتى عن
الراوي الواحد...، رووا المسح والغسل معا...
وإذا لاحظت كتب الاستدلال بدقة وجدت العمدة حديث عثمان بن عفان،
وحديث عبد الله بن زيد الأنصاري... ونحن نقدمهما في البحث على غيرهما...
(1) مسند أحمد 4 / 191.
(2) وهذا الحديث عن حياة بن شريح.
(3) تهذيب التهذيب 5 / 327 وغيره.
48
الحديث عن عثمان:
والمشهور بروايته عن هو مولاه " حمران ". قال البخاري:
" حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن
شهاب: أن عطاء بن يزيد أخبره أن حمران مولى عثمان أخبره: أنه رأى عثمان بن عفان
دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما: ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض
واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم
غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين. ثم قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث
فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه... " (1).
وأخرجه مسلم بنفس السند مع اختلاف في اللفظ، إذ فيه التصريح بكون ما فعله
هو وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس في لفظ البخاري تصريح بذلك. قال مسلم:
" حدثني أبو طاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح، وحرملة بن
يحيى التجيبي قالا: أخبرنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب: أن عطاء بن يزيد
الليثي أخبره: أن حمران مولى عثمان أخبره: أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - دعا
بوضوء، فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات... ثم قال:
رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ نحو وضوئي هذا... ".
قال مسلم:
" وحدثني زهير بن حرب، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن شهاب
عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حمران... ".
قال مسلم:
" حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن عبدة الضبي قالا: حدثنا عبد العزيز - وهو
الدراوردي - عن زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان، قال: أتيت عثمان بن عفان
(1) صحيح البخاري بشرح ابن حجر 1 / 208.
49
بوضوء فتوضأ ثم قال: إن ناسا يتحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث لا أدري ما هي!
ألا إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ مثل وضوئي، ثم قال: من توضأ هكذا غفر
له... " (1).
النظر في سند الحديث:
أما سند البخاري ففيه:
" عبد العزيز بن عبد الله " وقد ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه (2). وأخرجه
الذهبي في المغني في الضعفاء. وفي ميزانه. قال في الميزان: " وثقه أبو داود وروى عن
رجل عنه. ثم وجدت أني أخرجته في المغني وقلت: قال أبو داود: ضعيف. ثم وجدت
في سؤالات أبي عبيد الله الآجري لأبي داود: عبد العزيز الأويسي ضعيف " (3).
وفيه: " إبراهيم بن سعد ". وقد ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه كذلك (4) وذكره
ابن عدي في الكامل في الضعفاء وحكى عن عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: ذكر
عند يحيى بن سعيد: عقيل وإبراهيم بن سعد، فجعل كأنه يضعفهما " وذكر ابن حجر
عن الخطيب: أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالعود. وقال ابن حجر: قال صالح جزرة:
حديثه عن الزهري ليس بذاك (5) لأنه كان صغيرا حين سمع من الزهري (6).
وفيه: " ابن شهاب " وهو الزهري. وكان من أشهر المنحرفين عن علي أمير
المؤمنين - عليه السلام -، مما لا حاجة إلى شرحه.
وفيه: " حمران " مولى عثمان. وقد قلنا: إن جميع أسانيد الحديث تنتهي إليه...
وهذا الرجل ذكر ابن حجر بترجمته عن ابن سعد كان كثير الحديث ولم أرهم يحتجون
بحديثه. وحكى قتادة: أنه كان يصلي مع عثمان فإذا أخطأ فتح عليه. وحكى الليث
(1) صحيح مسلم - بشرح النووي - 2 / 105، 113.
(2) مقدمة فتح الباري / 419.
(3) ميزان الاعتدال 2 / 630.
(4) مقدمة فتح الباري / 385.
(5) وهذا من ذاك!
(6) تهذيب التهذيب 1 / 105، ميزان الاعتدال 1 / 33.
50
ابن سعد: أن عثمان أسر إليه سرا فأخبر به عبد الرحمان بن عوف فاستأمن له عبد
الرحمان عثمان، وأخبره بما أخبر به، فغضب عليه عثمان ونفاه " (1). وقال الذهبي: " ذكره
ابن سعد في الطبقات فقال: لم أرهم يحتجون به. وقد أورده البخاري في الضعفاء. لكن
ما قال: ما بليته قط " (2) قلت: فالحديث ضعيف عند البخاري نفسه!
هذا بالنسبة إلى سند الحديث عند البخاري.
وأما مسلم فأسانيده كلها تنتهي إلى " حمران " وفي طريقين منها " ابن شهاب
الزهري ". وفي الثالث: " الدراوردي " وقد عرفته. " عن زيد بن أسلم " وهو مولى عمر.
فمولى عمر يروي عن مولى عثمان! وهذا الرجل أورده الذهبي في ميزانه قال: " تناكد ابن
عدي بذكره في الكامل - فإنه ثقة حجة - فروى حماد بن زيد قال: قدمت المدينة
وهم يتكلمون في زيد بن أسلم فقال لي عبيد الله بن عمر: ما نعلم به بأسا إلا أنه يفسر
القرآن برأيه " (3).
قلت: إذا كان يفسر القرآن برأيه فهو ممن يتبوأ مقعده من النار كما في الأحاديث
المتفق عليها، فكيف لا يكون به بأس؟ وكيف يكون ثقة حجة؟ وكيف يقال لمن ضعفه
أنه تناكد؟!
هذا، وقد ذكر ابن حجر عن ابن عبد البر أنه كان يدلس (4).
هذا كله بالنسبة إلى السند. ولو تنزلنا فإن أحاديث وضوء عثمان متعارضة، كما
سنشير فيما بعد.
الحديث عن عبد الله بن زيد:
وأخرج مسلم حديث غسل الرجلين عن عبد الله بن زيد بن عاصم قائلا:
" حدثني محمد بن الصباح، حدثنا خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى بن
عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري - وكانت له صحبة - قال:
(1) تهذيب التهذيب 3 / 21.
(2) ميزان الاعتدال 1 / 604.
(3) المصدر نفسه 2 / 98.
(4) تهذيب التهذيب 3 / 342.
51
قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثا...
ثم غسل رجليه إلى الكعبين. ثم قال: هكذا وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وحدثني القاسم بن زكريا، حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان - هو ابن بلال -
عن عمرو بن يحيى. بهذا الإسناد نحوه. ولم يذكر الكعبين ".
قال: " حدثنا هارون بن معروف. ح وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر،
قالوا: حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن حبان بن واسع حدثه أن أباه
حدثه أنه سمع عبد الله بن زيد بن عاصم المازني يذكر أنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
توضأ... " (1).
النظر في سند الحديث:
أقول: لا شئ من هذه الأسانيد بصحيح:
فإن " عمرو بن يحيى بن عمارة " قال ابن معين: ليس بالقوي (2) وذكره ابن حجر
فيمن تكلم فيه (3). وأورده الذهبي في ميزانه لأجل كلام ابن معين (4).
و " خالد بن عبد الله " ضعفه ابن عبد البر (5).
و " عمرو بن الحارث " قال أبو داود عن أحمد - وهو يتكلم عن المصريين -:
" ليس فيهم مثل الليث، لا عمرو ولا غيره، وقد كان عمرو عندي... (6) ثم رأيت له
مناكير. وقال في موضع آخر: يروي عن قتادة أشياء يضطرب فيها ويخطئ " (7) وذكره
الذهبي وأضاف: " وقال الأثرم أيضا عن أبي عبد الله: إنه حمل على عمرو بن الحارث
حملا شديدا " (8).
(1) صحيح مسلم - بشرح النووي - 2 / 121.
(2) تهذيب التهذيب 8 / 105.
(3) مقدمة فتح الباري / 432.
(4) ميزان الاعتدال 3 / 293.
(5) تهذيب التهذيب 3 / 87.
(6) هكذا نقاط في تهذيب التهذيب! وكذلك في ميزان الاعتدال 3 / 252.
(7) تهذيب التهذيب 8 / 14.
(8) ميزان الاعتدال 3 / 252.
52
و " خالد بن مخلد " ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه (1). وعن أحمد: له أحاديث
مناكير، وعن ابن سعد: كان متشيعا منكر الحديث، وعن أبي أحمد: لا يحتج به، وذكره
الساجي والعقيلي في الضعفاء، وعن أبي حاتم: له أحاديث مناكير، وقال الجوزجاني:
كان شتاما معلنا لسوء مذهبه (2).
وقد أورده الذهبي في ميزانه وذكر هذه الكلمات وغيرها، ثم نقل حديثا أخرجه
البخاري عن طريقه فقال: " فهذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح
لعدوه في منكرات خالد بن مخلد... " (3).
ثم إن لفظ الحديث أخيرا: " أنه سمع عبد الله بن زيد بن عاصم... " ببناء
" سمع " للمفعول، فمن السامع؟
هذا، ولا يخفى أن حديث عبد الله بن زيد ينتهي - في غالب طرقه إلى: " عمرو
ابن يحيى عن أبيه " بل إن الأحاديث التي أخرجها البخاري في الباب 135 والباب
136 من أبواب الوضوء هي كلها كذلك، فراجعه إن شئت.
ثم إن أباه - وهو: يحيى بن عمارة بن أبي حسن (4) - يروي الحديث عند البخاري
تارة عن " عبد الله بن زيد " بلا واسطة، كما في الحديث رقم 158، 191، وأخرى
بواسطة، فتارة الواسطة " رجل " فيقول "... عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد - وهو
جد عمرو بن يحيى -... " كما في الحديث رقم 180 وأخرى يقول: "... عن أبيه: شهدت
عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن... " وثالثة يقول: "... عن أبيه قال: كان
عمي يكثر من الوضوء، قال لعبد الله بن زيد... " كما في الحديث 193.
وهذا ربما يورث الشك في أصل الحديث، ولذا فقد وقع الشراح والرجاليون في
اختلاف واضطراب شديدين. فلاحظ.
هذا كله بالنسبة إلى سند الحديث. ولو تنزلنا فإن حديث عبد الله بن زيد
معارض، كما تقدم وسنشير فيما بعد.
(1) مقدمة فتح الباري / 398.
(2) تهذيب التهذيب 3 / 101.
(3) ميزان الاعتدال 1 / 640.
(4) تهذيب التهذيب 8 / 104.
53
الحديث عن غير عثمان وعبد الله بن زيد:
ورووا حديث كيفية وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه غسل رجليه عن جماعة من الصحابة
أيضا، نشير إلى بعض تلك الروايات إتماما للفائدة:
* فمن ذلك الحديث عن علي - عليه السلام -! قال ابن ماجة:
" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي حية
قال: رأيت عليا توضأ فغسل قدميه إلى الكعبين، ثم قال: أردت أن أريكم طهور نبيكم
(صلى الله عليه وآله وسلم) " (1).
وهذا هو الحديث الذي تبجح به شارحه السندي فقال:
" رد بليغ على الشيعة القائلين بالمسح على الرجلين، حيث الغسل من رواية علي،
ولذلك ذكره المصنف من رواية علي وبدأ به الباب ".
لكنه ساقط سندا، فإن في سنده - بعد الغض عن " أبي الأحوص " الذي أورده
الذهبي في ميزانه (2)، وعن " أبي إسحاق " وهو السبيعي، الذي أورده الذهبي كذلك،
ذكر أنه شاخ ونسي، ونقل عن بعضهم أنه ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي
إسحاق، وأنه قد تركوه لاختلاطه (3) - " أبا حية " وهو الراوي للحديث، المتفرد به كما
نص عليه الذهبي، ونص على أنه " لا يعرف " وعن ابن المديني وأبي الوليد " مجهول "
وعن أبي زرعة " لا يسمى " (4).
هذا ولو تنزلنا فإن الأحاديث المروية عن علي - عليه السلام - متعارضة.
* ومن ذلك الحديث عن أبي هريرة. قال مسلم:
" حدثني أبو كريب محمد بن العلاء والقاسم بن زكريا بن دينار وعبد الله بن
(1) سنن ابن ماجة 1 / 155.
(2) ميزان الاعتدال 2 / 176.
(3) المصدر نفسه 3 / 270.
(4) المصدر نفسه 4 / 519.
54
حميد، قالوا: حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، حدثني عمارة بن غزية
الأنصاري، عن نعيم بن عبد الله المجمر قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ... ثم غسل رجله
اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال:
هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ... " (1).
وفي سنده:
" خالد بن مخلد " وقد عرفته.
و " عمارة بن غزية " ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه (2) وقال بترجمته: ذكره العقيلي
في الضعفاء. وقال ابن حزم: ضعيف. وقال عبد الحق: ضعفه المتأخرون (3).
وأخرجه بسند له آخر عن نعيم عن أبي هريرة فقال:
" حدثني هارون بن سعيد الأيلي، حدثني ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث،
عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم بن عبد الله، إنه رأى أنا هريرة يتوضأ فغسل وجهه
ويديه، حتى كان يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء، فمن
استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " (4).
وهذا الحديث ليس فيه ما يشهد بكون ما فعله أبو هريرة وصفا لوضوء رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى تقدير ذلك ففي سنده:
" عمرو بن حارث " وقد عرفته.
و " سعيد بن هلال " ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه (5). وفيه وفي ترجمته: ذكره
الساجي في الضعفاء، وعن أحمد بن حنبل: ما أدري أي شئ حديثه، يخلط في
(1) صحيح مسلم - بشرح النووي - 2 / 134.
(2) مقدمة فتح الباري / 458.
(3) تهذيب التهذيب 7 / 370.
(4) صحيح مسلم - بشرح النووي - 2 / 135.
(5) مقدمة فتح الباري / 404.
55
الأحاديث، وضعفه ابن حزم (1).
* ومن ذلك حديث المقدام بن معديكرب، قائلا:
" حدثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حريز بن عثمان، عن عبد الرحمان
ابن ميسرة، عن المقدام بن معديكرب: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ فغسل رجليه ثلاثا
ثلاثا " (2).
وهو حديث ساقط سندا:
أما هشام بن عمار " فهو ممن تكلم فيه (3). وذكر بترجمته عن غير واحد أنه كان
كلما ألقن تلقن، وعن أبي داود: كنت أخشى أن يفتق في الإسلام فتقا، وعن ابن وارة:
عزمت أن أمسك عن حديث هشام لأنه كان يبيع الحديث، وعن أحمد بن حنبل:
طياش خفيف، وعن مسلمة: تكلم فيه (4).
وأما " الوليد بن مسلم " فقد ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه كذلك، ونص على
أنه قد عابوا عليه كثرة التدليس والتسوية (5). وذكر بترجمته عن أحمد: كان رفاعا. وعنه
أيضا: كثير الخطأ، وعن ابن معين: سمعت أبا مسهر يقول: كان الوليد ممن يأخذ عن
أبي السفر حديث الأوزاعي، وكان أبو السفر كذابا. وقال مؤمل بن أهاب عن أبي
مسهر: كان الوليد بن مسلم يحدث حديث الأوزاعي عن الكذابين ثم يدلسها عنهم.
وقال صالح بن محمد: سمعت الهيثم بن خارجة يقول للوليد: قد أفسدت حديث
الأوزاعي (6).
وأما " حريز بن عثمان " فهو المشهور بالنصب والعداء لأمير المؤمنين - عليه السلام -
(1) تهذيب التهذيب 4 / 84.
(2) سنن ابن ماجة 1 / 156.
(3) مقدمة فتح الباري / 448.
(4) تهذيب التهذيب 11 / 47.
(5) مقدمة فتح الباري / 450.
(6) تهذيب التهذيب 11 / 133 وانظر ميزان الاعتدال 4 / 347.
56
حتى نقلوا عنه أنه كان يسبه ويلعنه!! ذكره ابن حجر فيمن تكلم فيه فذكر قداح ابن
عدي وابن حبان فيه لأجل كونه ناصبيا داعيا إلى مذهبه (1). وقال بترجمته: حكى الأزدي
في الضعفاء إن حريز بن عثمان روى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد أن يركب بغلته جاء علي بن
أبي طالب، فحل حزام البغلة ليقع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الأزدي: من كانت هذه حاله لا يروى
عنه.
قال ابن حجر: وقال ابن عدي: قال يحيى بن صالح الوحاظي: أملى علي حريز
ابن عثمان عن عبد الرحمان بن ميسرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثا في تنقيص علي بن أبي طالب
لا يصلح ذكره، حديث مفتعل منكر جدا، لا يروي مثله من يتقي الله. قال الوحاظي:
فلما حدثني بذلك قمت عنه وتركته.
قال ابن حجر: وقال غنجار: قيل ليحيى بن صالح: لم لم تكتب عن حريز؟
قال: كيف أكتب عن رجل صليت معه الفجر سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد
حتى يلعن عليا سبعين مرة (2).
وأما " عبد الرحمان بن ميسرة " فقد عرفته بترجمة حريز. وهذا كاف.
نتيجة البحث:
لقد ذكرنا أهم أخبار وجوب الغسل، ونظرنا في أسانيدها، ووجدناها - بعد غض
النظر عن عدم دلالة بعضها على الغسل -:
أنها غير معتبرة سندا.
وأنها - على فرض الاعتبار - أخبار آحاد، فإن أصحها عندهم حديث عبد الله بن
عمرو - أو ابن عمر - وهو خبر واحد قطعا وهو أصح ما اشتمل على الوعيد بقوله:
" ويل... ". وأصح ما جاء في صفة وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما يرويه عمرو بن يحيى عن أبيه
عن جده عن عبد الله بن زيد المازني، وما يرويه: حمران عن عثمان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
وكلاهما خبر واحد كما لا يخفى.
(1) مقدمة فتح الباري / 393.
(2) تهذيب التهذيب 2 / 207.
57
سقوط دعوى النسخ لحكم المسح:
فدعوى تواتر هذه الأخبار - كما في كلمات بعضهم - مردودة، ولذا اعترف غير
واحد منهم بكونها آحادا (1) وحينئذ لا تصلح هذه الأخبار لنسخ الكتاب، إذ الكتاب لا
ينسخ بخبر الواحد كما تقرر في علم الأصول (2) وبذلك يسقط ما عن الطحاوي وابن
حزم من أن المسح منسوخ (3).
ولا يخفى أن دعوى النسخ تنحل إلى أمرين أحدهما: الإقرار بأن الآية المباركة
ظاهرة في المسح، وأن المسلمين كانوا يمسحون عملا بالآية وبما علمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا
قال الطحاوي بعد ذكر روايات الغسل: " فدل ذلك أن حكم المسح الذي كانوا
يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرنا ". والأمر الثاني: دعوى أن أخبار الغسل ناسخة
لحكم المسح، وقد عرفت بطلانها، لكونها غير صحيحة سندا، ولأنها - لو كانت
صحيحة - آحاد... ولعله لذا قال ابن حجر: " وقد ادعى الطحاوي وابن حزم... " إذ
تعبيره ب " ادعى " مشعر بوهنه، بل صرح بالوهن الآلوسي - بعد نقله عن السيوطي -
فقال: " لا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت " (4).
هذا كله مضافا إلى تنصيص العلماء على أن لا منسوخ في سورة المائدة.
تعارض الأخبار ووجوب المسح:
وعلى فرض الصحة فإنها معارضة بالأخبار والآثار الصحيحة الصريحة في
وجوب المسح:
فخبر عبد الله بن زيد معارض بما رووه عنه صريحا في المسح!
(1) الفخر الرازي 11 / 161، النيسابوري 6 / 53.
(2) راجع: الموافقات للشاطبي 3 / 6، إحكام الأحكام للآمدي 3 / 213.
(3) فتح الباري 1 / 213، شرح معاني الآثار 1 / 39.
(4) روح المعاني 6 / 78.
58
وكذا حمران عن عثمان! والخبر عن علي - عليه السلام - تعارضه الأخبار الكثيرة المتفق
عليها الصريحة في وجوب المسح، ولذا نسب إليه القول بالمسح في غير واحد من
الكتب الفقهية - كالمغني لابن قدامة والمجموع للنووي - وغيرها.
ومقتضى القاعدة المقررة في علم الأصول هو عرض الأخبار من الطرفين على
الكتاب، وقد عرفت أنه ظاهر في المسح كما نص عليه كبار العلماء المتقدمين والمتأخرين
من أهل السنة.
الإجماع
لقد نسب القول بالغسل إلى الجمهور... وحكي القول بالمسح عن جماعة من
الصحابة والتابعين وكبار الأئمة... في غير ما كتاب من الكتب المتعرضة لهذه المسألة
في التفسير والفقه والحديث...
ومع ذلك كله... فربما نجد في كلمات بعضهم دعوى الإجماع على الغسل...
بعد إنكار مخالفة من خالف، وإخراج الإمامية عن الإسلام!!
يقول ابن العربي: " اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك
سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة
الخفض ".
وقد أورد غير واحد منهم هذا الكلام مرتضيا له (1).
وقال الخفاجي: " ومن أهل البدع من جوز المسح على الرجل دون الخف،
مستدلا بظاهر الآية. وللشريف المرتضى كلام في تأييده تركناه لإجماع أهل السنة على
خلافه " (2).
ولا يخفى ما في هذا الكلام! فالشيعة أهل البدع! وللشريف المرتضى كلام في
(1) منهم القرطبي 6 / 91. والشوكاني في فتح القدير 2 / 18.
(2) حاشية البيضاوي 3 / 220.
59
تأييد البدعة! وهو - كما هو معلوم - من أعلام الشيعة!
وأين الإجماع مع مخالفة علي وأئمة أهل البيت، ومنهم الباقر الذي روى الطبري
قوله، وابن، وأنس، وعكرمة، والشعبي، والحسن البصري، والأعمش، وقتادة،
ومجاهد... وغيرهم ممن ذكر الطبري (1) وغيره، ممن تقدم ويأتي؟...
فعلماء المسلمين متفقون على الغسل!!
والشيعة الإمامية ليسوا بمسلمين!
لكنهم لم يجدوا بدا من الاعتراف برد الطبري من فقهاء المسلمين القول بالغسل
وحاولوا أن يحصروا الخلاف فيه... إذن لم يبق إلا الطبري... ثم اختلفوا في تحديد
رأيه...!!
ثم جاء بعد قرون... من اكتشف أن الطبري الراد لتعين الغسل - ليس الطبري
المعروف من فقهاء المسلمين... وإنما هو الطبري من غيرهم... أي من الشيعة الإمامية
... يقول الآلوسي:
" لا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه الأقدام،
وما ذكره الإمام (الرازي) يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى
شأوى ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان. فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما
لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل " حالك " يقول:
" ما يزعمه الإمامية - من نسب المسح إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وأنس
ابن مالك وغيرهما - كذب مفترى عليهم... ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة
والشعبي، زور وبهتان أيضا. وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما
إلى الحسن البصري عليه الرحمة. ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب
التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها
بعض أهل السنة، ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار، بلا تحقق ولا سند، واتسع
الخوق على الراقع. ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم
(1) تفسير الطبري 6 / 128.
60
الشيعي صاحب المسترشد في الإمامة، لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري
الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا
المسح ولا الجمع، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه " (1).
أقول:
هذا إن دل على شئ، فإنما يدل على ضيق الخناق، ويكشف عن عدم قناعة
القوم باستدلالاتهم من الكتاب والسنة... وإلا فما الداعي لتكذيب كبار علماء طائفته،
ورميهم بعدم التمييز بين الصحيح والسقيم، ورمي الشيعة بالكذب والاختلاق...
لقد أفرط الرجل في التحامل، وتفوه بما لا يجوز، فالله حسيبه...
وقد أنصف صاحب المنار إذ قال بعد نقل كلامه: " إن في كلامه - عفا الله عنه -
تحاملا على الشيعة، وتكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنة كما تقدم،
والظاهر أنه لم يطلع على تفسير ابن جرير الطبري... " (2).
إنه لا يهمنا التحقيق في رأي الطبري السني وأنه الجمع كما قال جماعة أو التخيير
كما قال آخرون... وإنما المهم التأكيد على ظهور الآية المباركة - لا سيما على قراءة الجر -
في المسح. وإذا كان الظهور فلا إجمال لتتقدم عليها السنة تقدم المبين على المجمل، لو
فرض اعتبار السنة سندا ودلالة، فكيف والاعتبار غير ثابت، وعلى فرضه فهي ساقطة
بالتعارض؟
ولهذه الأمور نرى الطبري وغيره ممن ذكروا رأيه ومن لم يذكروا لا يقول بإجزاء
الغسل وحده، فيذهب إلى الجمع أو التخيير، عملا بكلا الطرفين.
بل لقد وجدت جماعة من الأئمة الأعلام كأحمد والأوزاعي يقولون بجواز مسح
القدمين... قال القاري في مسألة مسح الرأس والأذنين:
" قال ابن حجر: والأولى غسلهما مع الوجه ومسحهما مع الرأس، خروجا من
الخلاف.
(1) روح المعاني 6 / 77 - 78.
(2) المنار 6 / 229.
61
وفيه: أنه لم يعرف في الشرع جمع عضو واحد بالغسل والمسح. وأيضا: وجود
المسح بعد الغسل عبث ظاهر.
نعم، صح المسح والغسل في الرجلين على ما قاله بعض الظاهرية، فله وجه
وجيه، إن قدم المسح على الغسل، فإن الغسل بعده يقع تكميلا له مع الخروج عن
الخلاف.
ولم أرد خلاف الشيعة، وإنما أريد ما روي عن ابن عباس من أن الفرض هو
المسح، وما حكي عن أحمد والأوزاعي والثوري وابن جبير من جواز مسح جميع
القدمين، فإن الإنسان مخير عندهم بين الغسل والمسح " (1).
فهذه العبارة صريحة في ذهاب هؤلاء الأئمة إلى جواز المسح، كما نسب الشوكاني
إليهم القول بالتخيير (2). فهؤلاء إذن رادون للقول بتعين الغسل، وكذلك الشافعي،
فإن عبارته صريحة في التخيير قال: " غسل الرجلين كمال والمسح رخصة وكمال، وأيهما
شاء فعل " (3).
الاحتياط
ولهذه الأمور نرى بعضهم يقول بأن مقتضى الاحتياط هو الغسل، مستدلا بأنه
مشتمل على المسح دون العكس (4).
فلو كانت الآية غير ظاهرة في المسح وكانت دلالة السنة على الغسل تامة... لم
يكن للقول بالاحتياط وجه...
لكن مقتضى الاحتياط في المسألة - لو اضطر للقول به - هو الجمع لا الغسل
وحده، لأن ماهية المسح غير ماهية الغسل لغة وعرفا... كما هو واضح.
(1) مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح 1 / 315.
(2) نيل الأوطار 1 / 163.
(3) أحكام القرآن 1 / 50.
(4) الفخر الرازي 11 / 161، والجصاص 2 / 421 والآلوسي 6 / 78.
62
الاستحسان
ولهذه الأمور أيضا التجأ بعضهم إلى الاستحسان.
* فابن رشد ينص على ظهور الآية في المسح، وينص على أن حديث " ويل... "
في المسح أظهر منه في الغسل... فيقول بالغسل استحسانا، وهذه عبارته:
" فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من
الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل، وينقى دنس الرأس
بالغسل، ولذلك أيضا غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات
المفروضة، حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معنى مصلحيا، وعمين عباديا. وأعني
بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس " (1).
* والنسفي يقول: " وإنما أمر بغسل هذه الأعضاء لتطهرها من الأوساخ التي
تتصل بها، لأنها تبدو كثيرا، والصلاة خدمة الله تعالى والقيام بين يديه متطهرا من
الأوساخ أقرب إلى التعظيم، فكان أكمل في الخدمة... " (2).
* ومحمد رشيد رضا يقول: " إن القول بكل من الغسل والمسح مروي عن
السلف من الصحابة والتابعين، ولكن العمل بالغسل أعم وأكثر، وهو الذي غلب
واستمر " ويقول: " لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبللة بالماء حكمة بل هو
خلاف حكمة الوضوء، لأن طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه الوسخ يزيد
وساخته، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة " (3).
أقول:
إن كان المراد وجوب تطهير الأرجل من الدنس - أي النجاسة - بالغسل، فهذا
مما لا كلام ولا خلاف، وله نصوص خاصة معتبرة متفق عليها. وإن كان المراد وجوب
تطهيرها من الغبار والأوساخ فهذا مما لا دليل عليه، إذ لا يفتي أحد ببطلان صلاة من
كانت رجله وسخة سواء قلنا بوجوب المسح أو الغسل، ولذا لم يقيد الغسل في كلمات
(1) بداية المجتهد 1 / 16.
(2) تفسير النسفي - هامش الخازن - 2 / 441.
(3) المنار 6 / 234.
63
القائلين بوجوب الغسل بكونه مزيلا للأوساخ، على أن عمومات الحث على النظافة،
وكذا العمومات الواردة في كون المصلي متجملا نظيفا في بدنه ولباسه وافية بالغرض،
ولذا نرى عوام الشيعة يغسلون أرجلهم ثم يتوضأون ويمسحون عليها كما أمرهم الله
ورسوله...
ثم إن من القائلين بالغسل من قال في توجيه قراءة الجر بأن فائدة ذلك التنبيه
على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح (1) وكيف
يحصل الغرض وهو النقاء والنظافة بالغسل القريب من المسح؟
لكن الحامل للقوم على هذا الاستحسان - كأولئك الذين قالوا بالغسل من جهة
الاحتياط أو غير ذلك - قصور الأمور المستدل بها للغسل عن الدلالة على وجوبه، بل
لقد أذعن الكبار من علمائهم السابقين واللاحقين كالفخر الرازي، والنيسابوري،
والحلبي، والسندي... وغيرهم بأن الأدلة - وخاصة الآية المباركة - صريحة في المسح...
ومن المتأخرين المصرحين بذلك: العلامة القاسمي: فإنه قال في آخر كلامه:
" ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح كما قاله ابن عباس وغيره،
وإيثار غسلهما في المأثور عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو للمزيد في الفرض والتوسع فيه، حسب
عادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه سن في كل فرض سننا تدعمه وتقويه، في الصلاة والزكاة والصوم
والحج، وكذا في الطهارات، كما لا يخفى.
ومما يدل على أن واجبهما المسح تشريع المسح على الخفين والجوربين، ولا سند له
إلا هذه الآية، لأن كل سنة أصلها في كتاب الله منطوقا أو مفهوما. فاعرف ذلك واحتفظ
به " (2).
أقول:
قد اعترف بالحق، ثم ادعى أن المأثور عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الغسل، وقد عرفت بطلان
هذه الدعوى.
* وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين *
(1) تفسير البيضاوي - بحاشية الشهاب - 2 / 221.
(2) تفسير القاسمي 6 / 1894.
64